البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

التخيير ، وصوم رمضان واجب على التعيين ، فكان غيره ، وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام : شهر رمضان ، لأن قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) يحتمل يوما ويومين وأكثر ، ثم بينه بقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ) وإذا أمكن حمله على رمضان فلا وجه لحمله على غيره ، وإثبات النسخ ؛ وأما الخبر فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة ، أو يكون ناسخا لصيام وجب لهذه الامة ، وأما ما ذكر من التكرار فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض في رمضان في الحكم ، بخلاف التخيير في المقيم ، فإنه يجب عليهما القضاء ، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم ، كان من الجائز أن نظن أن حكم الصوم ، لما انتقل إلى التخيير عن التضييق ، يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم من حيث تغير الحكم في الصوم ، لما بين أن حال المريض والمسافر في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولا ، فهذه فائدة الإعادة ، وهذا هو الجواب عن الثالث ، وهو قولهم : لأن قوله تعالى : (فِدْيَةٌ) يدل على التخيير إلى آخره ، لأن صوم رمضان كان واجبا مخيرا ، ثم صار معينا. وعلى كلا القولين لا بد من النسخ في الآية ، أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجبا مخيرا ، والآية التي بعد تدل على التضييق ، فكانت ناسخة لها ، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول. انتهى كلامه.

وانتصاب قوله : (أَيَّاماً) على إضمار فعل يدل عليه ما قبله ، وتقديره : صوموا أياما معدودات ، وجوزوا أن يكون منصوبا بقوله : الصيام ، وهو اختيار الزمخشري ، إذ لم يذكره غيره ، قال : وانتصاب أياما بالصيام كقولك : نويت الخروج يوم الجمعة ـ انتهى كلامه ـ وهو خطأ ، لأن معمول المصدر من صلته ، وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله : (كَما كُتِبَ) فكما كتب ليس لمعمول المصدر ، وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتا لمصدر محذوف ، أو في موضع الحال ، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير : أن تعريف الصيام جنس ، فيوصف بالنكرة ، لم يجز أيضا ، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز إعماله ، فإن قدّرت الكاف نعتا لمصدر من الصيام ، كما قد قال به بعضهم ، وضعّفناه قبل ، فيكون التقدير : صوما كما كتب ، جاز أن يعمل في : أياما ، الصيام ، لأنه إذ ذاك العامل في : صوما ، هو المصدر ، فلا يقع الفصل بينهما بما ليس لمعمول للمصدر ، وأجازوا أيضا انتصاب : أياما ، على الظرف ، والعامل فيه كتب ، وأن يكون مفعولا على السعة ثانيا ، والعامل فيه كتب ، وإلى هذا ذهب الفراء ، والحوفي ، وكلا القولين خطأ.

١٨١

أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل ، والكتابة ليست واقعة في الأيام ، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام ، فلو قال الإنسان لوالده وكان ولد يوم الجمعة : سرني ولادتك يوم الجمعة ، لم يكن أن يكون يوم الجمعة معمولا لسرني ، لأن ، السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة ، إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه ، وأما النصب على المفعول اتساعا فإن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفا لكتب ، وقد بينا أن ذلك خطأ.

والصوم : نفل وواجب ، والواجب معين الزمان ، وهو : صوم رمضان والنذر المعين ، وما هو في الذمة ، وهو : قضاء رمضان ، والنذر غير المعين ، وصوم الكفارة. وأجمعوا على اشتراط النية في الصوم ، واختلفوا في زمانها.

فمذهب أبي حنيفة : أن رمضان ، والنذر المعين ، والنفل يصح بنية من الليل ، وبنية إلى الزوال ، وقضاء رمضان ، وصوم الكفارة ، ولا يصح إلّا بنية من الليل خاصة.

ومذهب مالك على المشهور : أن الفرض والنفل لا يصح إلّا بنية من الليل.

ومذهب الشافعي : أنه لا يصح واجب إلّا بنية من الليل.

ومذهب مالك : أن نية واحدة تكفي عن شهر رمضان.

وروي عن زفر أنه إذا كان صحيحا مقيما فأمسك فهو صائم ، وإن لم ينو.

ومن صام رمضان بمطلق نية الصوم أو بنية واجب آخر ، فقال أبو حنيفة : ما تعين زمانه يصح بمطلق النية ، وقال مالك ، والشافعي : لا يصح إلّا بنية الفرض ، والمسافر إذا نوى واجبا آخر وقع عما نوى ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : يقع عن رمضان ، فلو نوى هو أو المريض التطوع فعن أبي حنيفة : يقع عن الفرض ، وعنه أيضا : يقع التطوع ، وإذا صام المسافر بنية قبل الزوال جاز ، قال زفر : لا يجوز النفل بنية بعد الزوال ، وقال الشافعي : يجوز ولو أوجب صوم وقت معين فصام عن التطوع ، فقال أبو يوسف : يقع على المنذور ، ولو صام عن واجب آخر في وقت الصوم الذي أوجبه وقع عن ما نوى ، ولو نوى التطوع وقضاء رمضان ، فقال أبو يوسف : يقع عن القضاء ، ومحمد قال : عن التطوع ، ولو نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار كان على القضاء في قول أبي يوسف ، وقال محمد : يقع على النفل ، ولو نوى الصائم الفطر فصومه تام ، وقال الشافعي : يبطل صومه.

ودلائل هذه المسائل تذكر في كتب الفقه.

١٨٢

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ظاهر اللفظ اعتبار مطلق المرض بحيث يصدق عليه الاسم ، وإلى ذلك ذهب ابن سيرين ، وعطاء ، والبخاري. وقال الجمهور : هو الذي يؤلم ، ويؤذي ، ويخاف تماديه ، وتزيده ؛ وسمع من لفظ مالك : أنه المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به التلف إذا صام ، وقال مرة : شدة المرض والزيادة فيه ؛ وقال الحسن ، والنخعي : إذا لم يقدر من المرض على الصيام أفطر. وقال الشافعي : لا يفطر إلّا من دعته ضرورة المرض إليه ، ومتى احتمل الصوم مع المرض لم يفطر. وقال أبو حنيفة : إن خاف أن تزداد عينه وجعا أو حمى شديدة أفطر.

وظاهر اللفظ اعتبار مطلق السفر زمانا وقصدا.

وقد اختلفوا في المسافة التي تبيح الفطر ، فقال ابن عمر ، وابن عباس ، والثوري وأبو حنيفة : ثلاثة أيام. وروى البخاري أن ابن عمر ، وابن عباس كانا يفطران ويقصران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخا ، وقد روي عن ابن أبي حنيفة : يومان وأكثر ثلاث ، والمعتبر السير الوسط لا غيره من الإسراع والإبطاء.

وقال مالك : مسافة الفطر مسافة القصر ، وهي يوم وليلة ، ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلا ، وقال مرة : اثنان وأربعون ، ومرة ستة وأربعون ؛ وفي المذهب : ثلاثون ميلا ، وفي غير المذهب ثلاثة أميال.

وأجمعوا على أن سفر الطاعة من جهاد وحج وصلة رحم وطلب معاش ضروري مبيح.

فأما سفر التجارة والمباح ففيه خلاف ، وقال ابن عطية : والقول بالإجازة أظهر ، وكذلك سفر المعاصي مختلف فيه أيضا ، والقول بالمنع أرجح. انتهى كلامه.

واتفقوا على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر ، قالوا : ولا خلاف أنه لا يجوز لمؤمل السفر أن يفطر قبل أن يخرج ، فان أفطر فقال أشهب : لا يلزمه شيء سافر ، أو لم يسافر. وقال سحنون : عليه الكفارة سافر ، أو لم يسافر ، وقال عيسى ، عن ابن القاسم : لا يلزمه إلّا قضاء يومه ، وروي عن أنس أنه أفطر وقد أراد السفر ، ولبس ثياب السفر ، ورجل دابته ، فأكل ثم ركب. وقال الحسن يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج ، وقال أحمد : إذا برز عن البيوت ، وقال إسحاق : لا بل حتى يضع رجله في الرحل.

ومن أصبح صحيحا ثم اعتل أفطر بقية يومه ، ولو أصبح في الحضر ثم سافر فله أن

١٨٣

يفطر ، وهو قول ابن عمر ، والشعبي ، وأحمد ، وإسحاق ، وقيل : لا يفطر يومه ذلك ، وإن نهض في سفره وهو قول الزهري ، ويحيى الأنصاري ، ومالك ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي.

واختلفوا إن أفطر ، فكل هؤلاء قال : يقضي ولا يكفر. وقال ابن كنانة : يقضي ويكفر ، وحكاه الباجي عن الشافعي ، وقال به ابن العربي واختاره ، وقال أبو عمر بن عبد البر : ليس بشيء ، لأن الله أباح له الفطر في الكتاب والسنة ، ومن أوجب الكفارة فقد أوجب ما لم يوجبه الله.

وظاهر قوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) إباحة الفطر للمسافر ، ولو كان بيت نية الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر ، ولا كفارة عليه ، قاله الثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي وسائر فقهاء الكوفة.

وقال مالك : عليه القضاء والكفارة ، وروي عنه أيضا أنه : لا كفارة عليه ، وهو قول أكثر أصحابه.

وموضع (أَوْ عَلى سَفَرٍ) ، نصب لأنه معطوف على خبر : كان ، ومعنى : أو ، هنا التنويع ، وعدل عن اسم الفاعل وهو : أو مسافر إلى ، أو على سفر ، إشعارا بالاستيلاء على السفر لما فيه من الاختيار للمسافر ، بخلاف المرض ، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار ، فهو قهري ، بخلاف السفر ؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلي عليه ، ولذلك يقال : فلان على طريق ، وراكب طريق إشعارا بالاختيار ، وأن الإنسان مستول على السفر مختار لركوب الطريق فيه.

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قراءة الجمهور برفع عدة على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، وقدر : قبل ، أي : فعليه عدة وبعد أي : أمثل له ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب ، أو : فالحكم عدة.

وقرىء : فعدة ، بالنصب على إضمار فعل ، أي : فليصم عدة ، وعدة هنا بمعنى معدود ، كالرعي والطحن ، وهو على حذف مضاف ، أي : فصوم عدة ما أفطر ، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام ، التقدير : فافطر فعدة ، ونظير في الحذف : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (١) أي : فضرب فانفلق. ونكر (فَعِدَّةٌ) ولم يقل : فعدتها ، أي : فعدة

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٦٣.

١٨٤

الأيام التي أفطرت اجتزاء ، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه ، والعدة هي المعدود ، فكان التنكير أخصر و (مِنْ أَيَّامٍ) في موضع الصفة لقوله فعدة ، وأخر : صفة لأيام ، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة. فمن الأول : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (١) ومن الثاني : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) (٢) فمعدودات : جمع لمعدودة. وأنت لا تقول : يوم معدودة ، إنما تقول : معدود ، لأنه مذكر ، لكن جاز ذلك في جمعه ، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث ، فكان ، يكون : من أيام أخرى ، وإن كان جائزا فصيحا كالوصف بأخر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله (فَعِدَّةٌ) ، فلا يدرى أهو وصف لعدة ، أم لأيام ، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصورا ، بخلاف : (أُخَرَ) فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب فعدة ، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو ، وهي جمع أخرى مقابله أخر؟ وآخر مقابل أخريين؟ لا جمع أخرى لمعنى أخرة ، مقابلة الآخر المقابل للأول ، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة. وقد اختلفا حكما ومدلولا. أما اختلاف الحكم فلأن تلك غير مصروفة ، وأما اختلاف المدلول : فلأن مدلول أخرى ، التي جمعها أخر التي لا تتصرف ، مدلول : غير ، ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول : متأخرة ، وهي قابلة الأولى. قال تعالى : (قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) (٣) فهي بمعنى : الآخرة ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) (٤) وأخر الذي مؤنثه : أخرى مفردة آخر التي لا تتصرف بمعنى : غير ، لا يجوز أن يكون ما اتصل به إلّا من جنس ما قبله ، تقول : مررت بك وبرجل آخر ، ولا يجوز : اشتريت هذا الفرس وحمارا آخر ، لأن الحمار ليس من جنس الفرس ، فأما قوله :

صلى على عزة الرحمان وابنتها

ليلى ، وصلى على جاراتها الأخر

فإنه جعل : ابنتها جارة لها ، ولو لا ذلك لم يجز ، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابنا (التكميل).

قالوا : واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز الصوم للمسافر ، وأنه لا قضاء عليه إذا صام ، لأنهم ، كما ذكرنا ، قدروا حذفا في الآية ، والأصل :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٠.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٢٤.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ٣٩.

(٤) سورة الليل : ٩٢ / ١٣.

١٨٥

أن لا حذف ، فيكون الظاهر أن الله تعالى أوجب على المريض والمسافر عدة من أيام أخر ، فلو صاما لم يجزهما ، ويجب عليهما صوم عدة ما كانا فيه من الأيام الواجب صومها على غيرهما.

قالوا : وروي عن أبي هريرة أنه قال : من صام في السفر فعليه القضاء وتابعه عليه شواذ من الناس ، ونقل ذلك ابن عطية عن عمر ، وابنه عبد الله ، وعن ابن عباس : أن الفطر في السفر عزيمة ، ونقل غيره عن عبد الرحمن بن عوف : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، وقال به قوم من أهل الظاهر ، وفرق أبو محمد بن حزم بين المريض والمسافر فقال ، فيما لخصناه في كتابنا المسمى ب (الأنوار الأجلى في اختصار المحلى) ما نصه : ويجب على من سافر ولو عاصيا ميلا فصاعدا الفطر إذا فارق البيوت في غير رمضان ، وليفطر المريض ويقضي بعد ، ويكره صومه ويجزى ، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه. وثبت بالخبر المستفيض أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صام في السفر ، وروى ذلك عنه أبو الدرداء ، وسلمة بن المحنق ، وأبو سعيد ، وجابر ، وأنس ، وابن عباس عنه إباحة الصوم والفطر في السفر ، بقوله لحمزة بن عمرو الأسلمي وقد قال : أصوم في السفر؟ قال : «إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر» وعلى قول الجمهور : أن ثم محذوفا ، وتقديره : فأفطر ، وأنه يجوز للمسافر أن يفطر وأن يصوم.

واختلفوا في الأفضل ، فذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، ومالك ، والشافعي في بعض ما روي عنهما : إلى أن الصوم أفضل ، وبه قال من الصحابة : عثمان بن أبي العاص الثقفي ، وأنس بن مالك.

قال ابن عطية : وذهب أنس بن مالك إلى الصوم ، وقال : إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع ، وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق إلى أن الفطر أفضل ، وبه قال من الصحابة ابن عمر ، وابن عباس. ومن التابعين : ابن المسيب ، والشعبي ، وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ، وقتادة.

قال ابن عطية : وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما : أيسرهما أفضلهما.

وكره ابن حنبل الصوم في السفر ، ولو صام في السفر ثم أفطر من غير عذر فعليه القضاء فقط ، قاله الأوزاعي ، وأبو حنيفة ، وزاد الليث : والكفارة. وعن مالك القولان.

١٨٦

ولو أفطر مسافر ثم قدم من يومه ، أو حائض ثم طهرت في بعض النهار ، فقال جابر بن يزيد ، والشافعي ، ومالك فيما رواه ابن القاسم : يأكلان ولا يمسكان.

وقال أبو حنيفة ، والأوزاعي والحسن بن صالح ، وعبد الله بن الحسن : يمسكان بقية يومهما. عن ما يمسك عنه الصائم.

وقال ابن شبرمة في المسافر : يمسك ويقضي ، وفي الحائض : إن طهرت تأكل ..

والظاهر من قوله : فعدة ، أنه يلزمه عدة ما أفطر فيه ، فلو كان الشهر الذي أفطر فيه تسعة وعشرين يوما ، قضى تسعة وعشرين يوما ، وبه قال جمهور العلماء ، وذهب الحسن بن صالح إلى أنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الأيام. وروي عن مالك أنه يقضي بالأهلة ، وروي عن الثوري أنه يقضي شهرا تسعة وعشرين يوما وإن كان رمضان ثلاثين ، وهو خلاف الظاهر ، وخلاف ما أجمعوا عليه من أنه : إذا كان ما أفطر فيه بعض رمضان ، فإنه يجب القضاء بالعدد ، فكذلك يجب أن يكون قضاء جميعه باعتبار العدد.

وظاهر قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أنه لا يلزم التتابع ، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وروي عن علي ومجاهد وعروة : أنه لا يفرق ، وفي قراءة أبيّ : فعدة من أيام أخر متتابعات ، وظاهر الآية : أنه لا يتعين الزمان ، بل تستحب المبادرة إلى القضاء. وقال داود : يجب عليه القضاء ثاني شوّال ، فلو لم يصمه ثم مات أثم ، وهو محجوج بظاهر الآية ، وبما ثبت في الصحيح عن عائشة قالت : كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه ، إلّا في شعبان لشغل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وظاهر الآية أنه : من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر ، أنه لا يجب عليه إلّا القضاء فقط عن الأول ، ويصوم الثاني. وبه قال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، وداود ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : يجب عليه الفدية مع القضاء.

وقال يحيى بن أكثم القاضي روي وجوب الإطعام عن ستة من الصحابة ، ولم أجد لهم من الصحابة مخالفا. وروي عن ابن عمر أنه : لا قضاء عليه إذا فرّط في رمضان الأوّل ، ويطعم عن كل يوم منه مدّا من بر ، ويصوم رمضان الثاني.

ومن أخر قضاء رمضان حتى مات فقال مالك ، والثوري ، والشافعي : لا يصوم أحد عن أحد لا في رمضان ولا في غيره. وقال الليث ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو

١٨٧

عبيد ، وأهل الظاهر : يصام عنه ، وخصصوه بالنذر. وقال أحمد ، وإسحاق : يطعم عنه في قضاء رمضان.

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) قرأ الجمهور : يطيقونه مضارع أطاق ، وقرأ حميد يطوقونه من أطوق ، كقولهم أطول في أطال ، وهو الأصل. وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو ومن الياء ، والمسموع منه : أجود ، وأعول ، وأطول. وأغيمت السماء ، وأخيلت ، وأغيلت المرأة وأطيب ، وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس ، والتصحيح كما ذكرنا شاذ عند النحويين ، إلّا أبا زيد الأنصاري فانه يرى التصحيح في ذلك مقيسا اعتبارا بهذه الإلفاظ النزرة المسموع فيها الاعتلال والنقل على القياس.

وقرأ عبد الله بن عباس في المشهور عنه : يطوّقونه ، مبنيا للمفعول من طوّق على وزن قطع.

وقرأت عائشة ، ومجاهد ، وطاووس ، وعمرو بن دينار : يطوّقونه من أطوّق ، وأصله تطوّق على وزن تفعل ، ثم أدغموا التاء في الطاء ، فاجتلبوا في الماضي والأمر همزة الوصل. قال بعض الناس : هو تفسير لا قراءة ، خلافا لمن أثبتها قراءة ، والذي قاله الناس خلاف مقالة هذا القائل ، وأوردها قراءة.

وقرأت فرقة ، منهم عكرمة : يطيقونه ، وهي مروية عن مجاهد ، وابن عباس ، وقرىء أيضا هكذا لكن بضم ياء المضارع على البناء للمفعول ، ورد بعضهم هذه القراءة ، وقال : هي باطلة لأنه مأخوذ من الطوق. قالوا : ولازمة فيه ، ولا مدخل للياء في هذا المثال.

وقال ابن عطية : تشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف. انتهى. وإنما ضعف هذا ، أو امتنع عند هؤلاء ، لأنهم بنوا على أن الفعل على وزن تفعل ، فأشكل ذلك عليهم ، وليس كما ذهبوا إليه ، بل هو على وزن : تفعيل من الطوق ، كقولهم : تدير المكان وما بها ديّار ، فأصله : تطيوقون ، اجتمعت ياء وواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء ، فقيل : تطيق يتطيق ، فهذا توجيه هذه القراءة وهو توجيه نحوي واضح.

فهذه ست قرآت يرجع معناها إلى الاستطاعة والقدرة ، فالمبني منها للفاعل ظاهر ، والمبني منها للمفعول معناه : يجعل مطيقا لذلك ، ويحتمل قراءة تشديد الواو والياء أن يكون لمعنى التكليف ، أي : يتكلفونه أو يكلفونه ، ومجازه أن يكون من الطوق بمعنى القلادة ، فكأنه قيل : مقلدون ذلك ، أي : يجعل في أعناقهم ، ويكون كناية عن التكليف ، أي : يشق

١٨٨

عليهم الصوم. وعلى هذين المعنيين حمل المفسرون قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) والضمير عائد على الصوم ، فاختلفوا ، فقال معاذ بن جبل ، وابن عمر ، وسلمة بن الأكوع ، والحسن البصري ، والشعبي ، وعكرمة ، وابن شهاب ، والضحاك : كان الصيام على المقيمين القادرين مخيرا فيه ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم ، ثم نسخ ذلك (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وهذا قول أكثر المفسرين ، وقيل : ثم محذوف معطوف تقديره : يطيقونه ، أو الصوم ، لكونهم كانوا شبابا ثم عجزوا عنه بالشيخوخة ، قاله سعيد بن المسيب والسدي.

وقيل : المعنى : وعلى الذين يطيقون الصوم ، وهو بصفة المرض الذي يستطيع معه الصوم ، فخير هذا بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي ، ثم نسخ ذلك بقوله : (فَلْيَصُمْهُ) فزالت الرخصة إلّا لمن عجز منهم ، قاله ابن عباس. وجوّز بعضهم أن تكون : لا ، محذوفة ، فيكون الفعل منفيا ، وقدره : وعلى الذين لا يطيقونه ، قال : حذف : لا ، وهي مرادة. قال ابن أحمد.

آليت أمدح مقرفا أبدا

يبقى المديح ويذهب الرفد

وقال الآخر :

فخالف ، فلا والله تهبط تلعة

من الأرض إلّا أنت للذل عارف

وقال امرؤ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

وتقدير : لا ، خطأ لأنه مكان إلباس. ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم ، هو : أن الفعل مثبت ، ولا يجوز حذف : لا ، وإرادتها إلّا في القسم ، والأبيات التي استدل بها هي من باب القسم ، وعلة ذلك مذكورة في النحو.

وقيل : (الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) المراد : الشيخ الهرم ، والعجوز ، أي : يطيقونه بتكلف شديد ، فأباح الله لهم الفطر والفدية ، والآية على هذا محكمة ، ويؤيده توجيه من وجه : يطوقونه ، على معنى : يتكلفون صومه ويتجشمونه ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وأنها نزلت في الشيخ الفاني والعجوز الهرمة وزيد عن علي : والمريض الذي لا يرجى برؤه ، والآية عند مالك إنما هي في من يدركه رمضان وعليه صوم رمضان المتقدّم ، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم ، فتركه ، فعليه الفدية.

١٨٩

وقال الأصم : يرجع ذلك إلى المريض والمسافر لأن لهما حالين : حال لا يطيقان فيه الصوم ، وقد بين الله حكمها في قوله : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). وحال يطيقان ، وهي حالة المرض والسفر الذين لا يلحق بهما جهد شديد لو صاما ، فخيّر بين أن يفطر ويفدي ، فكأنه قيل : وعلى المرضى والمسافرين الذين يطيقونه.

والظاهر من هذه الأقوال القول الأوّل ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر فرض الصيام على المؤمنين قسمهم إلى قسمين : متصف بمظنة المشقة ، وهو المريض والمسافر ، فجعل حكم هذا أنه إذا أفطر لزمه القضاء ومطيق للصوم ، فإن صام قضى ما عليه ، وإن أفطر فدى : ثم نسخ هذا الثاني ، وتقدم أن هذا كان ، ثم نسخ.

والقائلون بأن الذين يطيقونه هم الشيوخ والعجز ، تكون الآية محكمة على قولهم ، واختلفوا ، فقيل : يختص هذا الحكم بهؤلاء ، وقيل : يتناول الحامل والمرضع ، وأجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر عليه الفدية ، هكذا نقل بعضهم ، وليس هذا الإجماع بصحيح ، لأن ابن عطية نقل عن مالك أنه قال : لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة ، ويستحب لمن قوي عليها. وتقدم قول مالك ورأيه في الآية.

وقال الشافعي : على الحامل والمرضع ، إذا خافتا على ولديهما ، الفدية ، لتناول الآية لهما ، وقياسا على الشيخ الهرم ، والقضاء.

وروي في البويطي : لا إطعام عليهما. وقال أبو حنيفة : لا تجب الفدية ، وأبطل القياس على الشيخ الهرم ، لأنه لا يجب عليه القضاء ، ويجب عليهما. قال : فلو أوجبنا الفدية مع القضاء كان جمعا بين البدلين ، وهو غير جائز ، وبه قال ابن عمر ، والحسن ، وأبو يوسف ومحمد وزفر.

وقال علي : الفدية بلا قضاء ، وذهب ابن عمر ، وابن عباس إلى أن الحامل تفطر وتفدي ولا قضاء عليها ، وذهب الحسن ، وعطاء ، والضحاك ، والزهري ، وربيعة ، ومالك ، والليث إلى أن الحامل إذا أفطرت تقضي ، ولا فدية عليها وذهب مجاهد ، وأحمد إلى أنها تقضي وتفدي. وتقدم أن هذا مذهب الشافعي ، وأما المرضع فتقدّم قول الشافعي ، وأبي حنيفة فيها إذا أفطرت. وقال مالك في المشهور تقضي وتفدي. وقال في مختصر ابن عبد الحكم : لا إطعام على المرضع.

واختلفوا في مقدار ما يطعم من وجب عليه الإطعام ، فقال إبراهيم ، والقاسم بن

١٩٠

محمد ، ومالك والشافعي فيما حكاه عنه المزني. يطعم عن كل يوم مدا ؛ وقال الثوري : نصف صاع من بر ، وصاع من تمر أو زبيب ، وقال قوم : عشاء وسحور ، وقال قوم : قوت يوم ، وقال أبو حنيفة وجماعة ، يطعم عن كل يوم نصف صاع ، من بر ، وروي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وقيس بن الكاتب ـ الذي كان شريك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجاهلية ـ وعائشة ، وسعيد بن المسيب ، في الشيخ الكبير : أنه يطعم عنه كل يوم نصف صاع.

وظاهر الآية : أنه يجب مطلق طعام ، ويحتاج التقييد إلى دليل.

ولو جنّ في رمضان جميعه أو في شيء منه ، فقال الشافعي : لا قضاء عليه ولو أفاق قبل أن تغيب الشمس إذ مناط التكليف العقل ، وقال مالك وعبيد الله العنبري : يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة ؛ وقال أبو حنيفة ، والثوري ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر : إذا جنّ في رمضان كله فلا قضاء عليه ، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله.

وقرأ الجمهور : فدية طعام مسكين ، بتنوين الفدية ، ورفع طعام ، وإفراد مسكين ، وهشام كذلك إلا أنه قرأ : مساكين بالجمع ، وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية ، لأنها مصدر. ومن نوّن كان طعام بدلا من فدية ، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي. ومن لم ينوّن فأضاف كان في ذلك تبيين أيضا وتخصص بالإضافة ، وهي إضافة الشيء إلى جنسه ، لأن الفدية اسم للقدر الواجب ، والطعام يعم الفدية وغيرها ، وفي (المنتخب) أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة. قال : لأن الفدية لها ذات ، وصفتها أنها طعام ، وهذا ليس بجيد ، لأن طعاما ليس بصفة ، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء ، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب ، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف.

أما إذا كان مصدرا فإنه لا يوصف به إلّا عند إرادة المبالغة ، ولا معنى لها هنا ، وأما إذا أريد به المفعول فلأنه ليس جاريا على فعل ولا منقاسا ، فلا تقول : في مضروب ضراب ، ولا في مقتول قتال ، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن ، لا يوصف بشيء منها ، ولا يعمل عمل المفعول ، ألا ترى أنه لا يجوز فيها ، مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه ، فيرفع ما بعدها بها؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته ، ومن قرأ مساكين ، قابل الجمع بالجمع ، ومن أفرد فعلى مراعاة أفراد العموم أي : وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين ، ونظيره

١٩١

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) (١) أي : فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وتبين من افراد المسكين أن الحكم لكل يوم يفطر فيه مسكين ، ولا يفهم ذلك من الجمع.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي : من زاد على مقدار الفدية في الطعام للمسكين ، قاله مجاهد ، وعلى عدد من يلزمه إطعامه ، فيطعم مسكينين فصاعدا قاله ابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، والسدي. أو جمع بين الإطعام والصوم ، قاله ابن شهاب.

وانتصاب (خَيْراً) على أنه مفعول على إسقاط الحرف ، أي : بخير ، لأنه تطوّع لا يتعدى بنفسه ، ويحتمل أن يكون ضمّن : تطوّع معنى فعل متعد ، فانتصب خيرا ، على أنه مفعول به ، وتقديره ، ومن فعل متطوعا خيرا ، ويحتمل أن يكون انتصابه على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : تطوعا خيرا ، ودل وصف المصدر بالخيرية على خيرية المتطوع به ، وتقدم ذكر قراءة من قرأ يطوع ، فجعله مضارع أطوع ، وأصله تطوع فأدغم ، واجتلبت همزة الوصل. ويلزم في هذه القراءة أن تكون : من شرطية ، ويجوز ذلك في قراءة من جعله فعلا ماضيا ، والضمير في فهو ، عائد على المصدر المفهوم من تطوع ، أي : فالتطوع خير له ، نحو قوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٢) أي : العدل ، وخير : خبر : لهو ، وهو ، هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : أن الزيادة على الواجب ، إذا كان يقبل الزيادة ، خير من الاقتصار عليه ، وظاهر هذه الآية العموم في كل تطوع بخير ، وإن كانت وردت في أمر الفدية في الصوم ، وظاهر التطوع : التخيير في أمر الجواز بين الفعل والترك ، وأن الفعل أفضل. ولا خلاف في ذلك ، فلو شرع فيه ثم أفسده ، لزمه القضاء عند أبي حنيفة ، ولا قضاء عليه عند الشافعي.

(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وقرأ أبيّ : والصوم خير لكم. هكذا نقل عن ابن عطية. ونقل الزمخشري : أن قراءته : والصيام خير لكم ، والخطاب للمقيمين المطيقين الصوم ، أي : خير لكم من الفطر والفدية ، أو للمريض والمسافر ، أي : خير لكم من الفطر والقضاء ، أو : لمن أبيح له الفطر من الجميع. أقوال ثلاثة.

وأبعد من ذهب إلى أنه متعلق بأول الآية ، وهو (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٨.

١٩٢

الصِّيامُ) أي : وأن تصوموا ذلك المكتوب خير لكم ، والظاهر الأول ، وفيه حض على الصوم.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) من ذوي العلم والتمييز ، ويجوز أن يحذف اختصارا لدلالة الكلام عليه أي : ما شرعته وبينته لكم من أمر دينكم ، أو فضل أعمالكم وثوابها ، أو كنى بالعلم عن الخشية أي : تخشون الله ، لأن العلم يقتضي خشيته (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١).

(شَهْرُ رَمَضانَ) قرأ الجمهور برفع شهر ، وقرأه بالنصب مجاهد ، وشهر : دين حوشب وهارون الأعور : عن أبي عمرو ، وأبو عمارة : عن حفص عن عاصم. وإعراب شهر يتبين على المراد بقوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فإن كان المراد بها غير أيام رمضان فيكون رفع شهر على أنه مبتدأ ، وخبره قوله : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ويكون ذكر هذه الجملة تقدمة لفرضية صومه بذكر فضيلته والتنبيه على أن هذا الشهر هو الذي أنزل فيه القرآن هو الذي يفرض عليكم صومه ، وجوزوا أن يكون : الذي أنزل ، صفة. إما للشهر فيكون مرفوعا ، وإما لرمضان فيكون مجرورا.

وخبر المبتدأ والجملة بعد الصفة من قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) وتكون الفاء في : فمن ، زائدة على مذهب أبي الحسن ، ولا تكون هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان منها للشرط ، لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط ، قالوا : ويجوز أن لا تكون الفاء زائدة ، بل دخلت هنا كما دخلت في خبر الذي ، ومثله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) (٢) وهذا الذي قالوه ليس بشيء ، لأن الذي ، صفة لعلم ، أو لمضاف لعلم ، فليس يتخيل فيه شيء ما من العموم ، ولمعنى الفعل الذي هو (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) لفظا ومعنى ، فليس كقوله : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) لأن الموت هنا ليس معينا ، بل فيه عموم. وصلة الذي مستقبلة ، وهي : تفرون ، وعلى القول ، بأن الجملة من قوله (فَمَنْ شَهِدَ) هي الخبر ، يكون العائد على المبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه ، أي : فمن شهده منكم فليصمه ، فأقام لفظ المبتدأ مقام الضمير ، وحصل به الربط كما في قوله :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٨.

(٢) سورة الجمعة : ٦ / ٨.

١٩٣

وذلك لتفخيمه وتعظيمه وإن كان المراد بقوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أيام رمضان ، فجوزوا في إعراب شهر وجهين.

أحدهما : أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هو : شهر رمضان ، أي : المكتوب شهر رمضان ، قاله الأخفش ، وقدره الفراء : ذلكم شهر وهو قريب.

الثاني : أن يكون بدلا من قوله : الصيام ، أي : كتب عليكم شهر رمضان ، قاله الكسائي ، وفيه بعد لوجهين : أحدهما : كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه ، والثاني : أنه لا يكون إذ ذاك إلّا من بدل الاشتمال : لا ، وهو عكس بدل الاشتمال ، لأن بدل الاشتمال في الغالب يكون بالمصادر كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) (١) وقول الأعشى :

لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضي لبانات ويسأم سائم

وهذا الذي ذكره الكسائي بالعكس ، فلو كان هذا التركيب : كتب عليكم شهر رمضان صيامه ، لكان البدل إذ ذاك صحيحا. وعكس : ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف ، فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة تقديره : صيام شهر رمضان ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة ، وهو بعيد ، ويجوز على بعد أن يكون بدلا من أيام معدودات ، على قراءة عبد الله ، فإنه قرأ : أيام معدودات ، بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : المكتوب صومه أيام معدودات. ذكر هذه القراءة أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب (البديع) له في القرآن ؛ وانتصاب شهر رمضان على قراءة من قرأ ذلك على إضمار فعل تقديره : صوموا شهر رمضان ، وجوزوا فيه أن يكون بدلا من قوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) قاله الأخفش ، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل ، وأن يكون منصوبا على الإغراء تقديره الزموا شهر رمضان ، قاله أبو عبيدة والحوفي ، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر وإن كان منصوبا بقوله : (وَأَنْ تَصُومُوا) حكاه ابن عطية وجوزه الزمخشري قال : وقرىء بالنصب على : صوموا شهر رمضان ، أو على الإبدال من : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ، أو على أنه مفعول : وأن تصوموا. انتهى كلامه ؛ وهذا لا يجوز ، لأن تصوموا صلة لأن ، وقد فصلت

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٧.

١٩٤

بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خير ، لأن تصوموا في موضع مبتدأ ، أي : وصيامكم خير لكم ، ولو قلت : أن يضرب زيدا شديد ، وأن تضرب شديد زيدا ، لم يجز.

وأدغمت فرقة شهر رمضان. قال ابن عطية : وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه ، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين ، لأن ما قبل الراء في شهر حرف صحيح ، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم ، نحو : هذا ثوب بكر ، لأن فيه لكونه حرف علة مدّا أمّا ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين ، ولا على ما اختاروه ، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه ..

(الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) : تقدّم إعرابه ، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن ، والقرآن يعم الجميع ظاهرا ، ولم يبين محل الإنزال ، فعن ابن عباس أنه أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ليلة أربع وعشرين من رمضان ، ثم أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجما.

وقيل : الإنزال هنا هو على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون القرآن مما عبر بكله عن بعضه ، والمعنى بدىء بإنزاله فيه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك في الرابع والعشرين من رمضان.

أو تكون الألف واللام فيه لتعريف الماهية ، كما تقول : أكلت اللحم ، لا تريد استغراق الإفراد ، إنما تريد تعريف الماهية. وقيل معنى : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أن جبريل كان يعارض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان بما أنزل الله عليه ، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء قاله الشعبي ؛ فيكون الإنزال عبر به عن المعارضة.

وقيل : أنزل في فرضية صومه القرآن ، وفي شأنه القرآن ، كما تقول : أنزل في عائشة قرآن. والقرآن الذي نزل هو قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) قاله مجاهد ، والضحاك. وقال سفيان بن عيينة : في فضله ، وقيل : المعنى. (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أي أنزل من اللوح المحفوظ إلى السفرة في سماء الدنيا في ليلة القدر من عشرين شهرا ، ونزل به جبريل في عشرين سنة. قاله مقاتل.

وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان ، والتوراة لست مضين منه ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين». وفي رواية أبي ذر : «نزلت صحف إبراهيم في ثلاث مضين من رمضان ، وإنجيل عيسى في ثمانية عشر» ، والجمع بين الروايتين بأن رواية واثلة أخبر فيها عن ابتداء نزول الصحف والإنجيل ، ورواية أبي ذر أخبر فيها عن انتهاء النزول.

١٩٥

وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وذلك في جميع القرآن سواء نكر أم عرف بالألف واللام ، أو بالإضافة ، وهذا المختار من توجيه قراءته ، وقد تقدّم قول من قال : ان النون فيه مع عدم الهمز أصلية من قرنت الشيء في الشيء ضممته.

(هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ) انتصاب : هدى ، على الحال وهو مصدر وضع موضع أسم الفاعل ، أي : هاديا للناس ، فيكون : للناس ، متعلقا بلفظ : هدى ، لما وقع موقع هاد ، وذو الحال القرآن ، والعامل : أنزل ، وهي حال لازمة ، لأن كون القرآن هدى هو لازم له ، وعطف قوله : وبينات ، على : هدى ، فهو حال أيضا ، وهي لازمة ، لأن كون القرآن آيات جليات واضحات وصف ثابت له ، وهو من عطف الخاص على العام ، لأن الهدى : منه خفي ومنه جلي ، فنص بالبينات على الجلي من الهدى ، لأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، فذكر عليه أشرف أنواعه ، وهو الذي يتبين الحلال والحرام والموعظة.

(مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) هذا في موضع الصفة لقوله : هدى وبينات ، أي : أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته ، والهدى والفرقان يشمل الكتب الإلهية ، فهذا القرآن بعضها ، وعبر عن البينات بالفرقان ، ولم يأت من الهدى والبينات فيطابق العجز الصدر لأن فيه مزيد معنى لازم للبينات ، وهو كونه يفرق به بين الحق والباطل ، فمتى كان الشيء جليا واضحا حصل به الفرق ، ولأن في لفظ : الفرقان ، مؤاخاة للفاصلة قبله ، وهو قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ) ثم قال : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ، ثم قال : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) فحصل بذلك تواخي هذه الفواصل ، فصار الفرقان هنا أمكن من البينات من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، كما قررناه.

ولا يظهر هنا ما قاله بعض الناس من أن الهدى والفرقان أريد به القران ، لأن الشيء لا يكون بعض نفسه ، وفي (المنتخب) أنه يحتمل أن يحمل : هدى الأول على أصول الدين ، والثاني على فروعه.

وقال ابن عطية : اللام في الهدى للعهد ، والمراد الأول. انتهى كلامه. يعني : أنه أتى به منكرا أولا ، ثم أتى به معرفا ثانيا ، فدل على أنه الأول كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (١) فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه ، ومن ذلك قولهم : لقيت رجلا فضربت الرجل ، فالمضروب هو

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ١٥ و ١٦.

١٩٦

الملقى؟ ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان ذلك هذا الثاني ، فيصح المعنى ، لأنه لو أتى فعصاه فرعون ، أو : لقيت رجلا فضربته لكان كلاما صحيحا ، ولا يتأتى هذا الذي قاله ابن عطية هنا ، لأنه ذكر هو والمعربون : أن هدى منصوب على الحال وصف في ذي الحال ، وعطف عليه وبينات ، فلا يخلو قوله : من الهدى ، المراد به الهدى الأول من أن يكون صفة لقوله : هدى ، أو لقوله : وبينات ، أو لهما ، أو متعلق بلفظ بينات ، لا جائز أن يكون صفة لهدى ، لأنه من حيث هو وصف لزم أن يكون بعضا ، ومن حيث هو الأول لزم أن يكون هو إياه ، والشيء الواحد لا يكون بعضا. كلا بالنسبة لماهيته ، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط ، لأن وبينات معطوف على هدى ، وهدى حال ، والمعطوف على الحال حال ، والحال وصف في ذي الحال ، فمن حيث كونهما حالين تخصص بهما ذو الحال إذ هما وصفان ، ومن حيث وصفت بينات بقوله : من الهدى ، خصصها به ، فوقف تخصيص القرآن على قوله هدى وبينات معا ، ومن حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى ، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه ، وهو محال ، ولا جائز أن يتعلق بلفظ : وبينات ، لأن المتعلق تقييد للمتعلق به ، فهو كالوصف ، فيمتنع من حيث يمتنع الوصف.

وأيضا فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميرا ، فقلت : وبينات منه أي : من ذلك الهدى ، لم يصح ، فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضا منهما ..

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الألف واللام في الشهر للعهد ، ويعني به شهر رمضان ، ولذلك ينوب عنه الضمير ، ولو جاء : فمن شهد منكم فليصمه لكان صحيحا ، وإنما أبرزه ظاهرا للتنويه به والتعظيم له ، وحسن له أيضا كونه من جملة ثانية.

ومعنى شهود الشهر الحضور فيه. فانتصاب الشهر على الظرف ، والمعنى : أن المقيم في شهر رمضان إذا كان بصفة التكليف يجب عليه الصوم ، إذ الأمر يقتضي الوجوب ، وهو قوله : فليصمه ، وقالوا على انتصاب الشهر : انه مفعول به ، وهو على حذف مضاف ، أي : فمن شهد ، حذف مفعوله تقديره المصر أو البلد.

وقيل : انتصاب الشهر على أنه مفعول به ، وهو على حذف مضاف ، أي : فمن شهد منكم دخول الشهر عليه وهو مقيم لزمه الصوم ، وقالوا : يتم الصوم من دخل عليه رمضان

١٩٧

وهو مقيم ، أقام أم سافر ، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر ، وإلى هذا ذهب علي ، وابن عباس ، وعبيدة المسلماني ، والنخعي ، والسدي.

والجمهور على أن من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيما.

وقال الزمخشري : الشهر منصوب على الظرف ، وكذلك الهاء في : فليصمه ، ولا يكون مفعولا به ، كقولك : شهدت الجمعة ، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر. انتهى كلامه.

وقد تقدم أن ذلك يكون على حذف مضاف تقديره : فمن شهد منكم دخول الشهر ، أي : من حضر. وقيل : التقدير هلال الشهر ، وهذا ضعيف ، لأنك لا تقول : شهدت الهلال ، إنما تقول : شاهدت ، ولأنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال وليس كذلك.

ومنكم ، في موضع الحال ، ومن الضمير المستكن في شهد ، فيتعلق بمحذوف تقديره كائنا منكم.

وقال أبو البقاء : منكم حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد ، فتناقض ، لأن جعلها حالا يوجب أن يكون العامل محذوفا ، وجعلها متعلقة بشهد يوجب أن لا يكون حالا ، فتناقض. ومن ، من قوله فمن شهد ، الظاهر أنها شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة ، وقد مر نظائره.

وقرأ الجمهور بسكون اللام في : فليصمه ، أجروا ذلك مجرى : فعل ، فخففوا ، وأصلها الكسر ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، والزهري ، وأبو حيوة ، وعيسى الثقفي ، وكذلك قرؤا لام الأمر في جميع القرآن نحو : (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ) (١) بالكسر ، وكسر لام الأمر ، وهو مشهور لغة العرب ، وعلة ذلك ذكرت في النحو. ونقل صاحب (التسهيل) أن فتح لام الأمر لغة ، وعن ابنه ان تلك لغة بني سليم. وقال : حكاها الفراء. وظاهر كلامهما الإطلاق في أن فتح اللام لغة ، ونقل صاحب كتاب (الإعراب) ، وهو : أبو الحكم بن عذرة الخضراوي ، عن الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها ، قال : فلا يكون على هذا الفتح أن الكسر ما بعدها أو ضم. انتهى كلامه. وذلك نحو : لينبذن ، ولتكرم زيدا ، وليكرم عمرا وخالدا ، وقوموا فلأصل لكم.

(وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) تقدّم تفسير هذه الجملة ، وذكر

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٢.

١٩٨

فائدة تكرارها على تقدير : أن شهر رمضان هو قوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) تقدّم الكلام في الإرادة في قول (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) (١) والإرادة هنا إما أن تبقى على بابها ، فتحتاج إلى حذف ، ولذلك قدره صاحب (المنتخب) : يريد الله أن يأمركم بما فيه يسر ، وإما أن يتجوز بها عن الطلب ، أي : يطلب الله منكم اليسر ، والطلب عندنا غير الإرادة ، وإنما احتيج إلى هذين التأوّيلين لأن ما أراده الله كائن لا محالة ، على مذهب أهل السنة ، وعلى ظاهر الكلام لم يكن ليقع عسر وهو واقع ، وأما على مذهب المعتزلة فتكون الآية على ظاهرها ، وأراد : يتعدّى إلى الإجرام بالباء ، وإلى المصادر بنفسه ، كالآية. ويأتي أيضا متعدّيا إلى الإجرام بنفسه وإلى المصادر بالباء. قال :

أرادت عرار بالهوان ومن يرد

عرارا ، لعمري بالهوان فقد ظلم

قالوا : يريد هنا بمعنى أراد ، فهو مضارع أريد به الماضي ، والأولى أن يراد به الحالة الدائمة هنا ، لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن لم ينقطع ، والإرادة صفة ذات لا صفة فعل ، فهي ثابتة له تعالى دائما ، وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية.

وفي الحديث. «دين الله يسر يسّر ولا تعسر». وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وفي القرآن : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (٣) فيندرج في العموم في اليسر فطر المريض والمسافر اللذين ذكر حكمهما قبل هذه الآية ، ويندرج في العموم في العسر صومهما لما في حالتي المرض والسفر من المشقة والتعسير.

وروي عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : أن اليسر الفطر في السفر ، والعسر الصوم فيه ، ويحمل تفسيرهم على التمثيل بفرد من أفراد العموم ، وناسب أن مثلوا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٧.

١٩٩

بذلك ، لأن الآية جاءت في سياق ما قبلها ، فدخل فيها ما قبلها دخولا لا يمكن أن يخرج منها ، وفي (المنتخب) (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) كاف عن قوله : (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وإنما كرر توكيدا. انتهى.

وقرأ أبو جعفر ، ويحيى بن وثاب ، وابن هرمذ ، وعيسى بن عمر : اليسر والعسر ، بضم السين فيهما ، والباقون بالإسكان.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) : قرأ أبو بكر ، وأبو عمرو بخلاف عنهما ، وروي : مشدد الميم مفتوح الكاف ، والباقون بالتخفيف وإسكان الكاف ، وفي اللام أقوال.

الأول : قال ابن عطية : هي اللام الداخلة على المفعول ، كالتي في قولك : ضربت لزيد ، المعنى ، ويريد إكمال العدة ، وهي مع الفعل مقدرة بأن ، كأن الكلام : ويريد لأن تكلموا العدة ، هذا قول البصريين ، ونحوه ، قول أبي صخر.

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تخيل لي ليلى بكل طريق

انتهى كلامه. وهو كما جوّزه الزمخشري. قال : كأنه قيل : يريد الله بكم اليسر ، ويريد لتكملوا ، لقوله : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) (١) وفي كلامه أنه معطوف على اليسر ، وملخص هذا القول : أن اللام جاءت في المفعول المؤخر عن الفعل ، وهو مما نصوا على أنه قليل ، أو ضرورة ، لكن يحسن ذلك هنا ، بعده عن الفعل بالفصل ، فكأنه لما أخذ الفعل مفعوله ، وهو : اليسر ، وفصل بينهما بجملة وهي : ولا يريد بكم العسر ، بعد الفعل عن اقتضائه ، فقوي باللام ، كحاله إذا تقدم فقلت لزيد ضربت ، لأنه بالتقدم وتأخر العامل ضعف العامل عن الوصول إليه ، فقوي باللام ، إذ أصل العامل أن يتقدم ، وأصل المعمول أن يتأخر عنه ، لكن في هذا القول إضمار إن بعد اللام الزائدة ، وفيه بعد. وفي كلام ابن عطية تتبع ، وهو في قوله : وهي ، يعني باللام مع الفعل ، يعني تكملوا مقدرة بأن ، وليس كذلك ، بل أن مضمرة بعدها واللام حرف جر ، ويبين ذلك أنه قال : كأن الكلام : ويريد لأن تكملوا العدة ، فأظهر أن بعد اللام ، فتصحيح لفظه أن تقول : وهي مع الفعل مقدران بعدها ، وقوله : هذا قول البصريين ونحوه ، قول أبي صخر :

__________________

(١) سورة الصف : ٦١ / ٨.

٢٠٠