البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

ويكون جواب الشرط الثاني محذوفا يدل عليه جواب الشرط الأول المحذوف ، فيكون المحذوف دل على محذوف ، والشرط الثاني شرط في الأول ، فلذلك يقتضي أن يكون متقدّما في الوجود ، وإن كان متأخرا لفظا. واجتماع الشرطين غير مجعول الثاني جوابا للأول بالفاء من أصعب المسائل النحوية ، وقد أوضحنا الكلام على ذلك واستوفيناه فيه في (كتاب التكميل) من تأليفنا ، فيؤخذ منه.

وقيل : جواب الشرطين محذوف ويقدر من معنى كتب عليكم الوصية ويتجوز بلفظ : كتب ، عن لفظ : يتوجه إيجاب الوصية عليكم. حتى يكون مستقبلا فيفسر الجواب ، لأن مستقبل ، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون إذا ظرفا محضا لا شرطا ، فيكون إذ ذاك العامل فيها : كتب ، على هذا التقدير ، ويكون جواب : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) محذوفا يدل عليه : كتب ، على هذا التقدير ، ولا يجوز عند جمهور النحاة أن يكون إذا معمولا للوصية لأنها مصدر وموصول ، ولا يتقدّم معمول الموصول عليه ، وأجاز ذلك أبو الحسن لأنه يجوز عنده أن يتقدّم المعمول إذا كان ظرفا على العامل فيه إذا لم يكن موصولا محضا ، وهو عنده المصدر ، والألف واللام في نحو : الضارب والمضروب ، وهذا الشرط موجود هنا ، وإلى هذا ذهب في قوله.

أبعلي هذا بالرحى المتقاعس

فعلق : بالرحى ، بلفظ : المتقاعس.

وقال أبو محمد بن عطية : ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون : كتب ، هو العامل في : إذا ، والمعنى : توجه إيجاب الله عليكم مقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجيه الإيجاب : بكتب ، ليتنظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، والوصية مفعول لم يسم فاعله بكتب ، وجواب الشرطين : إذا وإن ، مقدر يدل عليه ما تقدّم من قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) كما تقول : شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا. انتهى كلامه. وفيه تناقض لأنه قال : العامل في إذا : كتب ، وإذا كان العامل فيها كتب تمحضت للظرفية ولم تكن شرطا ، ثم قال : وجواب الشرطين : إذا وإن مقدّر يدل عليه ما تقدّم إلى آخر كلامه ، وإذا كانت إذا شرطا فالعامل فيها إما الجواب ، وإما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها ، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلّا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه ، ويفرع على أن الجواب هو العامل في : إذا.

١٦١

ولا يجوز تأويل كلام ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال : وجواب الشرطين : إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم ، وما كان مقدرا يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم ، وهذا الإعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب.

والزمخشري يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلا وهذا اصطلاحه ، قال في تفسيره : والوصية فاعل كتب ، وذكر فعلها للفاصل ، ولأنها بمعنى : أن يوصي ، ولذلك ذكر الراجع في قوله ، (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ). اه.

ونبهت على اصطلاحه في ذلك لئلا يتوهم أن تسمية هذا المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلا سهو من الناسخ ، وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء ، على تقدير الفاء ، والخبر إمّا محذوف ، أي : فعليه الوصية. وإمّا منطوق به ، وهو قوله : (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي : فالوصية للوالدين والأقربين ، وتكون هذه الجملة الابتدائية جوابا لما تقدم ، والمفعول الذي لم يسم فاعله : يكتب ، مضمر. أي : الإيصاء يفسره ما بعده.

قال أبو محمد بن عطية في هذا الوجه : ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد ، هو العامل في إذا ، وترتفع الوصية بالابتداء ، وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه رحمه‌الله :

من يفعل الحسنات الله يحفظه

ويكون رفعها بالابتداء بتقدير. فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال : فالوصية للوالدين. اه. كلامه. وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر ، ثم قال : إن الوصية فيه جواب الشرطين ، وقد تقدّم إبداء تناقض ذلك ، لأن إذا من حيث هي معمولة للإيصاء لا تكون شرطا ، ومن حيث إن الوصية فيه جواب إذا يكون شرطا فتناقضا ، لأن الشيء الواحد لا يكون شرطا وغير شرط في حالة واحدة ، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملا في إذا أيضا لأنك إما أن تقدر هذا العامل في : إذا ، لفظ الإيصاء بحذف ، أو ضمير الإيصاء : لا ، جائز أن يقدره لفظ الإيصاء حذف ، لأن المفعول لم يسم فاعله لا يجوز حذفه ، وابن عطية قدر لفظ : الإيصاء ، ولا جائز أن يقدره ضمير الإيصاء ، لأنه لو صرح بضمير المصدر لم

١٦٢

يجز له أن يعمل ، لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهرا ، وإذا كان لا يجوز إعمال لفظ مضمر المصدر فمنويه أحرى أن لا يعمل ، وأما قوله : وفيه جواب الشرطين ، فليس بصحيح ، فإنا قد قررنا أن كل شرط يقتضي جوابا على حذفه ، والشيء الواحد لا يكون جوابا لشرطين ، وأما قوله على نحو ما أيد سيبويه.

من يفعل الحسنات الله يحفظه

وهو تحريف على سيبويه ، وإنما سيبويه أيده في كتابه :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشر بالشر عند الله مثلان

وأما قوله : بتقدير فعليه لوصية ، أو بتقدير الفاء فقط ، كأنه قال : فالوصية للوالدين ، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه ، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلّا في ضرورة الشعر ، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.

قال سيبويه : وسألته ، يعنى الخليل ، عن قوله : إن تأتني أنا كريم ، قال : لا يكون هذا إلّا أن يضطر شاعر من قبل : إن أنا كريم ، يكون كلاما مبتدأ ، والفاء وإذا لا يكونان إلّا معلقتين بما قبلها ، فكرهوا أن يكون هذا جوابا حيث لم يشبه الفاء ، وقد قاله الشاعر مضطرا ، وأنشد البيت السابق.

من يفعل الحسنات ...

وذكر عن الأخفش : أن ذلك على إضمار الفاء ، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلّا في اضطرار ، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجارّ والمجرور الذي هو : عليكم ، وهو قول لا بأس به على ما نقرره ، فنقول : لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيرا تشوّف السامع لذكر المكتوب ما هو ، فتكون الوصية مبتدأ ، أو خبرا لمبتدأ على هذا التقدير ، ويكون جوابا لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيرا؟ فقيل : الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة ، أو : المكتوب الوصية للوالدين والأقربين ، ونظيره : ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد ، فيكون هذا جواب بالسؤال مقدر ، كأنه قال : من المضروب؟ وهذا الوجه أحسن ، وأقل تكلفا من الوجه الذي قبله ، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم

١٦٣

فاعله الإيصاء ، وضمير الإيصاء ، والوالدان معروفان ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (١).

(وَالْأَقْرَبِينَ) جمع الأقرب ، وظاهره أنه أفعل تفضيل ، فكل من كان أقرب إلى الميت دخل في هذا اللفظ ، وأقرب ما إليه الوالدان ، فصار ذلك تعميما بعد تخصيص ، فكأنهما ذكرا مرتين : توكيدا وتخصيصا على اتصال الخير إليهما ، هذا مدلول ظاهر هذا اللفظ ، وعند المفسرين : الأقربون الأولاد ، أو من عدا الأولاد ، أو جميع القرابات ، أو من لا يرث من الأقارب. أقوال.

(بِالْمَعْرُوفِ) أي : لا يوصى بأزيد من الثلث ، ولا للغنيّ دون الفقير ، وقال ابن مسعود : الأخل فالأخل ، أي : الأحوج فالأحوج ، وقيل : الذي لا حيف فيه ، وقيل : كان هذا موكولا إلى اجتهاد الموصي ، ثم بين ذلك وقدر : «بالثلث والثلث كثير». وقيل : بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ، فإنهم كانوا قد يوصون بالمال كله ، وقيل : بالمعروف من ماله غير المجهول.

وهذا الأقوال ترجع إلى قدر ما يوصي به ، وإلى تمييز من يوصى له ، وقد لخص ذلك الزمخشري وفسره بالعدل ، وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ، ولا يتجاوز الثلث ، وتعلق بالمعروف بقوله : الوصية ، أو بمحذوف ، أي : كائنة بالمعروف ، فيكون بالمعروف حالا من الوصية.

(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) انتصب : حقا ، على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، أي : حق ذلك حقا ، قاله ابن عطية ، والزمخشري. وهذا تأباه القواعد النحوية لأن ظاهر قوله : (عَلَى الْمُتَّقِينَ) إذن يتعلق على ب : حقا ، أو يكون في موضع الصفة له ، وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد ، أما تعلقه به فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري ، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل وذلك مطرد في الأمر والاستفهام ، على خلاف في هذا الأخير على ما تقرر في علم النحو ، وأما جعله صفة : لحقا أي : حقا كائنا على المتقين ، فذلك يخرجه عن التأكيد ، لأنه إذ ذاك يتخصص بالصفة ، وجوز المعربون أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، إمّا لمصدر من : كتب عليكم ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٣ ، وسورة النساء : ٤ / ٣٦ ، وسورة الأنعام : ٦ / ١٥١ وسورة الإسراء : ١٧ / ٢٣ والآية المقصودة هنا هي الأولى.

١٦٤

أي : كتبا حقا ، وإما لمصدر من الوصية أي إيصاء حقا ، وأبعد من ذهب إلى أنه منصوب : بالمتقين ، وأن التقدير : على المتقين حقا ، كقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) (١) لأنه غير المتبادر إلى الذهن ، ولتقدمه على عامله الموصول ، والأولى عندي أن يكون مصدرا من معنى : كتب ، لأن معنى : كتبت الوصية ، أي : وجبت وحقت ، فانتصابه على أنه مصدر على غير الصدر ، كقولهم : قعدت جلوسا ، وظاهر قوله : كتب وحقا ، الوجوب ، إذ معنى ذلك الإلزام على المتقين ، قيل : معناه : من اتقى في أمور الورثة أن لا يسرف ، وفي الأقربين أن يقدّم الأحوج فالأحوج ، وقيل : من اتبع شرائع الإيمان العاملين بالتقوى قولا وفعلا ، وخصهم بالذكر تشريفا لهم وتنبيها على علو منزلة المتقين عنده ، وقيل : من اتقى الكفر ومخالفة الأمر.

وقال بعضهم : قوله (عَلَى الْمُتَّقِينَ) يدل على ندب الوصية لا على وجوبها ، إذ لو كانت واجبة لقال : على المسلمين ، ولا دلالة على ما قال لأنه يراد بالمتقين : المؤمنون ، وهم الذين اتقوا الكفر ، فيحتمل أن يراد ذلك هنا ..

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) : الظاهر أن الضمير يعود على الوصية بمعنى الإيصاء ، أي : فمن بدّل الإيصاء عن وجهه إن كان موافقا للشرع من الأوصياء والشهود بعد ما سمعه سماع تحقق وتثبت ، وعوده على الإيصاء أولى من عوده على الوصية ، لأن تأنيث الوصية غير حقيقي ، لأن ذلك لا يراعى في الضمائر المتأخرة عن المؤنث المجازي ، بل يستوي المؤنث الحقيقي والمجازي في ذلك تقول : هند خرجت. والشمس طلعت ، ولا يجوز طلع إلّا في الشعر ، والتذكير على مراعاة المعنى وارد في لسانهم ، ومنه :

كخرعوبة البانة المنفطر

ذهب إلى المعنى : القضيب ، كأنه قال : كقضيب البانة ، ومنه في العكس : جاءته كتابي ، فاحتقرها على معنى الصحيفة.

والضمير في (سَمِعَهُ) عائد على الإيصاء كما شرحناه ، وقيل : يعود على أمر الله تعالى في هذه الآية.

وقيل : الهاء ، في : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) عائدة إلى الفرض ، والحكم ، والتقدير : فمن بدل الأمر المقدم ذكره ، ومن : الظاهر أنها شرطية ، والجواب : (فَإِنَّما إِثْمُهُ) وتكون : من ، عامة في كل مبدل : من رضي بغير الوصية في كتابة ، أو قسمة حقوق ، أو شاهد بغير

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٤.

١٦٥

شهادة ، أو يكتمها ، أو غيرهما ممن يمنع حصول المال ووصوله إلى مستحقه ، وقيل : المراد بمن : متولي الإيصاء دون الموصي والموصى له ، فإنه هو الذي بيده العدل والجنف والتبديل والإمضاء ، وقيل : المراد : بمن : هو الموصي ، نهي عن تغيير وصيته عن المواضع التي نهى الله عن الوصية إليها ، لأنهم كانوا يصرفونها إلى الأجانب ، فأمروا بصرفها إلى الأقربين.

ويتعين على هذا القول أن يكون الضمير في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) وفي قوله : (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) عائدا على أمر الله تعالى في الآية ، وفي قوله : (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) دليل على أن الإثم لا يترتب إلّا بشرط أن يكون المبدل قد علم بذلك ، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله. (فَإِنَّما إِثْمُهُ) : الضمير عائد على الإيصاء المبدل ، أو على المصدر المفهوم من بدله ، أي : فإنما إثم التبديل على المبدل ، وفي هذا دليل على أن من اقترف ذنبا ، فإنما وباله عليه خاصة ، فإن قصر الوصي في شيء مما أوصى به الميت ، لم يلحق الميت من ذلك شيء ، وراعي المعنى في قوله : (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول لكان : فإنما إثمه ، أو فإنما إثمه عليه على الذي يبدله ، وأتى في جملة الجواب بالظاهر مكان المضمر ليشعر بعلية الإثم الحاصل ، وهو التبديل ، وأتى بصلة : الذين ، مستقبلة جريا على الأصل ، إذ هو مستقبل.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) في هاتين الصفتين تهديد ووعيد للمبدلين ، فلا يخفى عليه تعالى شيء ، فهو يجازيهم على تبديلهم شر الجزاء ، وقيل : سميع لقول الموصي ، عليم بفعل الموصي ، وقيل : سميع لوصاياه ، عليم بنياته. والظاهر القول الأول لمجيئه في أثر ذكر التبديل وما يترتب عليه من الإثم.

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) الظاهر أن الخوف هو الخشية هنا ، جريا على أصل اللغة في الخوف ، فيكون المعنى : بتوقع الجنف أو الإثم من الموصي.

قال مجاهد : المعنى : من خشي أن يجنف الموصي ، ويقطع ميراث طائفة ، ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد ، وذلك هو الجنف دون إثم ، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم ، فوعظه في ذلك ورده ، فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته ، فلا إثم عليه.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية

١٦٦

(رَحِيمٌ) به. وقيل : يراد بالخوف هنا : العلم ، أي : فمن علم ، وخرّج عليه قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) (١).

وقول أبي محجن.

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

والعلقة بين الخوف والعلم حتى أطلق على العلم الخوف ، وأن الإنسان لا يخاف شيئا حتى يعلم أنه مما يخاف منه ، فهو من باب التعبير بالمسبب عن السبب ، وقال في (المنتخب) : الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم ، وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظنّ مخصوص ، وبين الظنّ والعلم مشابهة في أمور كثيرة ، فلذلك صح إطلاق كل واحد منهما على الأخر. انتهى كلامه.

وعلى الخوف بمعنى العلم ، قال ابن عباس ، رضي‌الله‌عنهما ، وقتادة ، والربيع ، معنى الآية : من خاف ، أي علم بعد موت الموصي أن الموصي حاف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته ، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق ، فلا إثم عليه ، أي : لا يلحقه إثم التبديل المذكور قبل ، وإن كان في فعله تبديلها ، ولكنه تبديل لمصلحة ، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى.

وقال عطاء : المعنى : فمن خاف من موص جنفا أو إثما في عطيته لورثته عند حضور أجله ، فأعطى بعضا دون بعض ، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك.

وقال طاووس : المعنى : فمن خاف من موص جنفا أو إثما في وصيته لغير ورثته بما يرجع بعضه على ورثته ، فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه.

وقال الحسن : هو أن يوصي للأجانب ويترك الأقارب ، فيرّد إلى الأقارب ، قال : وهذا هو الإصلاح.

وقال السدي : المعنى : فمن خاف من موص بآبائه وأقربائه جنفا على بعضهم لبعض ، فأصلح بين الآباء والأقرباء ، فلا إثم عليه.

وقال علي بن عيسى : هو مشتمل على أمر ماض واقع ، وأمر غير واقع ، فإن كانت

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٩.

١٦٧

الوصية باقية أمر الموصي بإصلاحه ، ورد من الجنف إلى النّصف ، وإن كانت ماضية أصلحها الموصى إليه بعد موته.

وقيل : هو أن يوصي لولد ابنته ، يقصد بها نفع ابنته ، وهذا راجع إلى قول طاووس المتقدم.

وإذا فسرنا الخوف بالخشية ، فالخوف إنما يصح في أمر مرتبط والوصية قد وقعت ، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟ والجواب : أن المصلح إذا شاهد الموصي يوصي ، فظهرت منه إمارات الجنف أو التعدي بزيادة غير مستحق ، أو نقص مستحق ، أو عدل عن مستحق ، فأصلح عند ظهور الأمارات لأنه لم يقطع بالجنف والإثم ، فناسب أن يعلق بالخوف ، لأن الوصية لم تمض بعد ولم تقع ، أو علق بالخوف وإن كانت قد وقعت لأنه له أن ينسخها أو يغيرها بزيادة أو نقصان ، فلم يصر الجنف أو الإثم معلومين ، لأن تجويز الرجوع يمنع من القطع أو علق بالخوف. وإن كانت الوصية استقرت ومات الموصي ، يجوز أن يقع بين الورثة والموصى لهم مصالحة على وجه يزول به الميل والخطأ ، فلم يكن الجنف ولا الإثم مستقرا ، فعلق بالخوف. والجواب الأول أقوى ، ومن : شرطية ، والجواب : فلا إثم عليه : و (مِنْ مُوصٍ) متعلق ، بخاف ، أو بمحذوف تقديره : كائنا من موص ، وتكون حالا ، إذ لو تأخر لكان صفة ، كقوله : (جَنَفاً أَوْ إِثْماً) فلما تقدم صار حالا ، ويكون الخائف في هذين التقديرين ، ليس الموصي ، ويجوز أن يكون : من ، لتبيين جنس الخائف ، فيكون الخائف بعض الموصين على حد ، من جاءك من رجل فأكرمه ، أي : من جاءك من الرجال فالجائي رجل ، والخائف هنا موص.

والمعنى : فمن خاف من الموصي جنفا أو إثما من ورثته ومن يوصى له ، فأصلح بينهم فلا إثم على الموصي المصلح ، وهذا معنى لم يذكره المفسرون ، إنما ذكروا أن الموصي مخوف منه لا خائف ، وأن الجنف أو الإثم من الموصي لا من ورثته ، ولا من يوصى له.

وأمال حمزة (خافَ) وقرأ هو والكسائي وأبو بكر : موص ، من ، وصا والباقون : موص ، من : أوصى ، وتقدم أنهما لغتان.

وقرأ الجمهور : جنفا ، بالجيم والنون ، وقرأ علي : حيفا ، بالحاء والياء.

وقال أبو العالية : الجنف الجهالة بموضع الوصية ، والإثم : العدول عن موضعها ،

١٦٨

وقال عطاء ، وابن زيد : الجنف : الميل ، والإثم أن يكون قد أثم في إيثاره بعض الورثة على بعض ، وقال السدي : الجنف : الخطأ ، والإثم العمد.

وأما الحيف فمعناه : البخس ، وذلك بأن يريد أن يعطي بعض الورثة دون بعض قال الفراء : تحيف : مال أي : نقصه من حافاته ، وروي : من حاف في وصيته ألقي في ألوى ، وألوى واد في جهنم.

(فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) : الضمير عائد على الموصي والورثة ، أو على الموصى لهما وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت ، والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدل على ذلك لفظ : الموصي ، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له ، كما قيل في قوله : (وَأَداءٌ إِلَيْهِ) (١) أي : إلى العافي ، لدلالة من عفى له ، ومنه ما أنشده الفراء رحمه‌الله تعالى :

وما أدري إذا يممت أرضا

أريد الخير أيهما يليني

فقال : أيهما ، فأعاد الضمير على الخير والشر ، وإن لم يتقدم ذكر الشر ، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر.

والظاهر أن هذا المصلح هو الوصي ، والمشاهد ومن يتولى بعد موته ذلك من وال ، أو ولي ، أو من يأمر بالمعروف فكل هؤلاء يدخل تحت قوله : (فَمَنْ خافَ) إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم ، ولا وجه لتخصيص الخائف بالوصي ، وأما كيفية هذا الإصلاح فبالزيادة أو النقصان ، أو كف للعدوان (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني : في تبديل الوصية إذا فعل ذلك لقصد الإصلاح ، والضمير : عليه ، عائد على من عاد عليه ضمير : فأصلح ، وضمير : خاف ، وهو : من ، وهو : الخائف المصلح.

وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، لما ذكر المبدل في أول الآية : وكان هذا من التبديل بين مخالفته للأول ، وأنه لا إثم عليه ، لأنه رد الوصية إلى العدد ، ولما كان المصلح ينقص الوصايا ، وذلك يصعب على الموصى له ، أزال الشبهة بقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي ، وصرف ماله عن من أحب إلى من يكره. انتهى. وهذا يرجع معناه إلى قوله الأول. وقال أيضا : إن الإصلاح يحتاج إلى الإكثار من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٨.

١٦٩

القول ، وقد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل ، فبين أن ذلك لا إثم فيه إذا كان لقصد الإصلاح ، ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع. انتهى كلامه.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قيل : غفور لما كان من الخائف ، وقيل : للمصلح رحيم حيث رخص ، وقيل : غفور للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والعهد والإثم إذ رجع إلى الحق ، رحيم للمصلح.

وقال الراغب : أي متجاوز عن ما عسى أن يسقط من المصلح ما لم يجر.

وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة ، أن البر ليس هو تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب ، بل البر هو الإتيان بما كلفه الإنسان من تكاليف الشرع ، اعتقادا وفعلا وقولا. فمن الاعتقاد : الإيمان بالله ، وملائكته الذين هم وسائط بينه وبين أنبيائه ، وكتبه التي نزلت على أيدي الملائكة ، وأنبيائه المتقين. تلك الكتب من ملائكته. ثم ذكر ما جاءت به الأنبياء عن الله في تلك الكتب ، من : إيتاء المال ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيفاء بالعهد ، والصبر في الشدائد. ثم أخبر أن من استوفى ذلك فهو الصابر المتقي ، ولما كان تعالى قد ذكر قبل ما حلل وما حرم ، ثم أتبع ذلك بمن أخذ مالا من غير حله ، وعده بالنار ، وأشار بذلك إلى جميع المحرمات من الأموال ، ثم ذكر من اتصف بالبر التام وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها ، أخذ تعالى يذكر ما حرم من الدماء ، ويستدعي صونها ، وكان تقديم ذكر المأكول لعموم البلوى بالأكل ، فشرع القصاص ، ولم يخرج من وقع منه القتل واقتص منه عن الإيمان ، ألا تراه قد ناداه باسم الإيمان وفصل شيئا من المكافأة فقال : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) (١) ثم أخبر ذلك أنه إذا وقع عفو من الولي على دية فليتبع الولي بالمعروف ، وليؤدي الجاني بالإحسان ليزرع بذلك الود بين القاتل والولي ، ويزيل الإحن ، لأن مشروعية العفو تستدعي على التآلف والتحاب وصفاء البواطن.

ثم ذكر أن ذلك تخفيف منه تعالى ، إذ فيه صون نفس القاتل بشيء من عرض الدنيا ، ثم توعد من اعتدى بعد ذلك ، ثم أخبر أن في مشروعية القصاص حياة ، إذ من علم أنه مقتول بمن قتل ، وكان عاقلا ، منعه ذلك من الإقدام على القتل ، إذ في ذلك إتلاف نفس

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٨.

١٧٠

المقتول وإتلاف نفس قاتله ، فيصير بمعرفته بالقصاص متحرزا من أن يقتل فيقتل ، فيحيي بذلك من أراد قتله وهو ، فكان ذلك سببا لحياتيهما.

ثم ذكر تعالى مشروعية الوصية لمن حضره الموت ، وذكر أن الوصية للوالدين والأقربين ، وتوعد من بدل الوصية بعد ما علمها ، ثم ذكر انه لا إثم على من أصلح بين الموصى إليهم إذا كان جنفا أو إثما من الموصى ، وأن ذلك لا يعد من التبديل الذي يترتب عليه الإثم ، فجاءت هذه الآيات حاوية لما يطلب من المكلف من بدء حاله وهو : الإيمان بالله ، وختم حاله وهو : الوصية عند مفارقة هذا الوجود ، وما تخلل بينهما مما يعرض من مبارّ الطاعات ، وهنات المعاصي ، من غير استيعاب لأفراد ذلك ، بل تنبيها على أفضل الأعمال بعد الإيمان ، وهو : إقامة الصلاة وما بعدها وعلى أكبر الكبائر بعد الشرك ، وهو : قتل النفس ، فتعالى من كلامه فصل ، وحكمه عدل.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ

١٧١

الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)

الصيام والصوم : مصدران لصام ، والعرب تسمي كل ممسك صائما ، ومنه الصوم في الكلام (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) (١) أي سكوتا في الكلام ، وصامت الريح : أمسكت عن الهبوب ، والدابة : أمسكت عن الأكل والجري ، وقال النابغة الذبياني :

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

أي : ممسكة عن الجري. وتسمى الدابة التي لا تدور : الصائمة ، قال الراجز.

والبكرات شرهن الصائمة

وقالوا : صام النهار : ثبت حره في وقت الظهيرة واشتد ، وقال.

ذمول إذا صام النهار وهجرا

وقال :

حتى إذا صام النهار واعتدل

ومال للشمس لعاب فنزل

ومصام النجوم ، إمساكها عن اليسر ومنه.

كأن الثريا علقت في مصامها

فهذا مدلول الصوم من اللغة. وأما الحقيقة الشرعية فهو : إمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص ويبين في الفقه.

الطاقة ، والطوق : القدرة والاستطاعة ، ويقال : طاق وأطاق كذا ، أي : استطاعه وقدر عليه ، قال أبو ذنب :

فقلت له احمل فوق طوقك إنها

مطبعة من يأتها لا يضيرها

الشهر مصدر : شهر الشيء يشهره ، أظهره ومنه الشهرة ، وبه سمي الشهر ، وهو :

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٢٦.

١٧٢

المدة الزمانية التي يكون مبدؤ الهلال فيها خافيا إلى أن يستسر ، ثم يطلع خافيا. سمي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في المعاملات وغيرها من أمورهم وقال الزجاج : الشهر الهلال. قال.

والشهر مثل قلامة الظفر

سمي بذلك لبيانه ، وقيل : سمي الشهر شهرا باسم الهلال إذا أهل سمي شهرا ، وتقول العرب : رأيت الشهر أي : هلاله. قال ذو الرمة (شعر).

ترى الشهر قبل الناس وهو نحيل

ويقال : أشهرنا ، أي : أتى علينا شهر ، وقال الفراء : لم أسمع منه فعلا إلّا هذا ، وقال الثعلبي : يقال شهر الهلال إذا طلع ، ويجمع الشهر قلة على : أفعل ، وكثرة على : فعول ، وهما مقيسان فيه.

رمضان علم على شهر الصوم ، وهو علم جنس ، ويجمع على : رمضانات وأرمضة ، وعلقة هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمضى ، وهو : شدة الحرة ، كما سمي الشهر ربيعا من مدّة الربيع ، وجمادى من مدّة الجمود ، ويقال : رمض الصائم يرمض : احترق جوفه من شدة العطش ، ورمضت الفصال : أحرق الرمضاء أخفافها فبركت من شدّة الحر ، وانزوت إلى ظلّ أمهاتها ، ويقال : أرمضته الرمضاء : أحرقته ، وأرمضني الأمر.

وقيل : سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة ، وقيل : لأن القلوب تحترمنّ الموعظة فيه والفكرة في أمر الآخرة ، وقيل : من رمضت النصل : رققته بين حجرين ليرق ، ومنه : نصل رميض ومرموض ، عن ابن السكيت. وكانوا يرمضون أسلحتهم في هذا الشهر ليحاربوا بها في شوّال قبل دخول الأشهر الحرام ، وكان هذا الشهر في الجاهلية يسمى : ناتقا أنشد المفضل.

وفي ناتق أحلت لدى حرمة الوغى

وولت على الأدبار فرسان خثعما

وقال الزمخشري : الرمضان ، مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء. انتهى. ويحتاج في تحقيق أنه مصدر إلى صحة نقل لأن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم ، بل إن جاء فيه ذلك كان شاذا ، والأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا.

وقيل : هو مشتق من الرمض ، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر الأرض من الغبار.

١٧٣

القرآن : مصدر قرأ قرآنا. قال حسان ، رضي‌الله‌عنه.

محوا باسمك عنوان السجود به

يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا

أي : وقراءة وأطلق على ما بين الدفتين من كلام الله عزوجل ، وصار علما على ذلك ، وهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول في الأصل ، ومعنى : قرآن ، بالهمز : الجمع لأنه يجمع السور ، كما قيل في القرء ، وهو : إجماع الدّم في الرحم أولا ، لأن القارئ يلقيه عند القراءة من قول العرب : ما قرأن هذه الناقة سلاقط : أي : ما رمت به ، ومن لم يهمز فالأظهر أن يكون ذلك من باب النقل والحذف ، أو تكون النون أصلية من : قرنت الشيء إلى الشيء : ضممته ، لأن ما فيه من السور والآيات والحروف مقترن بعضها إلى بعض. أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع كذلك ، أو ما فيه من الدلائل ومن القرائن ، لأن آياته يصدّق بعضها بعضا ، ومن زعم من : قريت الماء في الحوض ، أي : جمعته ، فقوله فاسد لاختلاف المادتين.

السفر : مأخوذ من قولهم : سفرت المرأة إذا ألقت خمارها ، والمصدر السفور. قال الشاعر.

وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت

فقد رابني منها الغداة سفورها

وتقول : سفر الرجل ألقى عمامته ، وأسفر الوجه ، والصبح أضاء. الأزهري سمي مسافرا لكشف قناع الكنّ عن وجهه ، وبروزه للأرض الفضاء ، والسفر ، بسكون الفاء : المسافرون ، وهو اسم جمع : كالصحب والركب ، والسفر من الكتب : واحد الأسفار لأنه يكشف عما تضمنة.

اليسر : السهولة ، يسّر : سهّل ، ويسر : سهل ، وأيسر : استغنى ، ويسر ، من الميسر ، وهو : قمار ، معروف. وقال علقمة :

لا ييسرون بخيل قد يسرت بها

وكل ما يسر الأقوام مغروم

وسميت اليد اليسرى تفاؤلا ، أو لأنه يسهل بها الأمر لمعاونتها اليمنى.

العسر : الصعوبة والضيق ، ومنه أعسر اعسارا ، وذو عسرة ، أي : ضيق.

الإكمال : الإتمام.

والإجابة : قد يراد بها السماع ، وفي الحديث أن أعرابيا قال : يا محمد. قال : قد

١٧٤

أجبتك. وقالوا : دعا من لا يجيب ، أي : من لا يسمع ، كما أن السماع قد يراد به الإجابة ، ومنه : سمع الله من حمده. وأنشد ابن الاعرابي حيث قال :

دعوت الله حتى خفت أن لا

يكون الله يسمع ما أقول

وجهة المجاز بينهما ظاهرة لأن الإجابة مترتبة على السماع ، والإجابة حقيقة إبلاغ السائل ما دعا به ، وأجاب واستجاب بمعنى ، وألفه منقلبة عن واو ، يقال : جاب يجوب : قطع ، فكأن المجيب اقتطع للسائل ما سأل أن يعطاه ، ويقال : أجابت السماء بالمطر ، وأجابت الأرض بالنبات ، كأن كلّا منهما سأل صاحبه فأجابه بما سأل.

قال زهير.

وغيث من الوسمي حلو بلاغه

أجابت روابيه النجا وهواطل

الرشد : ضد الغي ، يقال : رشد بالفتح ، رشدا ، ورشد بالكسر رشدا ، وأرشدت فلانا : هديته ، وطريق أرشد ، أي : قاصد ، والمراشد : مقاصد الطريق ، وهو لرشدة ، أي : هو لحلال ، وهو خلاف هو لزنية ، وأم راشد : المفازة ، وبنو رشدان : بطن من العرب ، وبنو راشد قبيلة كبيرة من البربر.

الرفث : مصدر رفث ، ويقال : أرفث : تكلم بالفحش. قال العجاج :

وربّ أسراب حجيج كظم

عن اللغا ورفث التكلم

وقال ابن عباس ، والزجاج ، وغيرهما : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وأنشد ابن عباس :

وهنّ يمشين بنا هميسا

إن تصدق الطير ننك لميسا

فقيل له : أترفث وأنت محرم ، فقال : إنما الرفث عند النساء ، وفي الحديث : «من حج هذا البنية فلم يرفث ولم يفسق خرج منها كيوم ولدته أمه».

وقيل : الرفث : الجماع ، واستدل على ذلك بقول الشاعر :

ويرين من أنس الحديث زوانيا

ولهنّ عن رفث الرجال نفار

وبقول الآخر.

فيأتوا يرفثون وبات منّا

رجال في سلاحهم ركوبا

١٧٥

وبقول الآخر :

فظلنا هناك في نعمة

وكل اللذاذة غير الرفث

ولا دلالة في ذلك ، إذ يحتمل أن يكون أراد المقدمات : كالقبلة والنظرة والملاعبة.

أختان : من الخيانة ، يقال : خان خونا وخيانة ، إذا لم يف ، وذلك ضد الأمانة ، وتخونت الشيء : نقصته ، ومنه الخيانة ، وهو ينقص المؤتمن. وقال زهير :

بارزة الفقارة لم يخنها

قطاف في الركاب ولا خلاء

وتخوّنه وتخوّله : تعهده.

الخيط : معروف ، ويجمع على فعول وهو فيه مقيس ، أعني في فعل الاسم الياء العين نحو : بيت وبيوت ، وجيب وجيوب ، وغيب وغيوب ، وعين وعيون ، والخيط ، بكسر الخاء : الجماعة من النعام ، قال الشاعر :

فقال ألا هذا صوار وعانة

وخيط نعام يرتقي متفرق

البياض والسوداء : لونان معروفان ، يقال منهما : بيض وسود. فهو أبيض وأسود ، ولم يعل العين بالنقل والقلب لأنها في معنى ما يصح وهما : أبيض وأسود.

العكوف : الإقامة ، عكف بالمكان : أقام به ، قال تعالى : (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) (١) وقال الفرزدق يصف الجفان :

ترى حولهنّ المعتفين كأنهم

على صنم في الجاهلية عكّف

وقال الطرماح :

باتت بنات الليل حولي عكّفا

عكوف البواكي بينهن صريع

وفي الشرع عبارة عن عكوف مخصوف ، وقد بين في كتب الفقه.

الحد : قال الليث : حدّ الشيء : منتهاه ومنقطعه ، والمراد بحدود الله مقدّراته بمقادير مخصوصة وصفات مخصوصة.

الإدلاء : الإرسال للدلو ، اشتق منه فعل ، فقالوا : أدلى دلوه ، أي : أرسلها ليملأها ، وقيل : أدلى فلان بماله إلى الحاكم : رفعه. قال :

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٨.

١٧٦

وقد جعلت إذا ما حاجة عرضت

بباب دارك أدلوها بأقوام

ويقال : أدلى فلان بحجته : قام بها ، وتدلى من كذا أي : هبط. قال :

كتيس الظباء الأعفر انضرجت له

عقاب تدلت من شماريخ ثهلان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أخبر تعالى : أولا : بكتب القصاص وهو : إتلاف النفوس ، وهو من أشق التكاليف ، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل ، ثم أخبر ثانيا بكتب الوصية وهو : إخراج المال الذي هو عديل الروح ، ثم انتقل ثالثا إلى كتب الصيام ، وهو : منهك للبدن ، مضعف له ، مانع وقاطع ما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار ، فابتداء بالأشق ثم بالأشق بعده ، ثم بالشاق فبهذا انتقال فيما كتبه الله على عباده في هذه الآية ، وكان فيما قبل ذلك قد ذكر أركان الإسلام ثلاثة : الإيمان ، والصلاة ، والزكاة ، فأتى بهذا الركن الرابع ، وهو : الصوم.

وبناء (كُتِبَ) للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة ، وحذف الفاعل للعلم به ، إذ هو : الله تعالى ، لأنها مشاق صعبة على المكلف ، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى ، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها ، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبني الفعل للفاعل ، كما قال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (١) (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (٢) (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٣) وهذا من لطيف علم البيان.

أما بناء الفعل للفاعل في قوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٤) فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية ، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين ، ونادى المؤمنين عند إعلامهم بهذا المكتوب الثالث الذي هو الصيام لينبههم على استماع ما يلقي إليهم من هذا التكليف ، ولم يحتج إلى نداء في المكتوب الثاني لانسلاكه مع الأول في نظام واحد ، وهو : حضور الموت بقصاص أو غيره ، وتباين هذا التكليف الثالث منها ، وقدم الجار والمجرور على المفعول به الصريح وإن كان أكثر الترتيب العربي بعكس ذلك ، نحو : ضرب زيد بسوط ، لأن ما احتيج في تعدي الفعل إليه إلى واسطة دون ما تعدى إليه بغير واسطة ، لأن البداءة بذكر المكتوب عليه أكثر من ذكر

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٥٤.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢١.

(٣) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٤٥.

١٧٧

المكتوب لتعلق الكتب لمن نودي ، فتعلم نفسه أولا أن المنادى هو المكلف ، فيرتقب بعد ذلك لما كلف به.

والألف واللام في : الصيام ، للعهد إن كانت قد سبقت تعبداتهم به ، أو للجنس إن كانت لم تسبق.

وجاء هذا المصدر على فعال ، وهو أحد البنائين الكثيرين في مصدر هذا النوع من الفعل ، وهو فعل الواوي العين ، الصحيح الآخر ، والبناءان هما فعول وفعال ، وعدل عن الفعول وإن كان الأصل لاستثقال الواوين ، وقد جاء منه شيء على الأصل : كالفؤور ، ولثقل اجتماع الواوين همز بعضهم فقال : الفؤور.

(كَما كُتِبَ) الظاهر أن هذا المجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف ، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه على ما سبق ، أي : كتبا مثل ما كتب أو كتبه ، أي : الكتب منها كتب ، وتكون السببية قد وقع في مطلق الكتب وهو الإيجاب ، وإن كان متعلقه مختلفا بالعدد أو بغيره ، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل ، وعطاء ، وتكون إذ ذاك ما مصدرية.

وقيل : الكاف في موضع نصب على الحال من الصيام ، أي : مشبها ما كتب على الذين من قبلكم ، وتكون ما موصولة أي : مشبها الذي كتب عليكم ، وذو الحال هو : الصيام ، والعامل فيها العامل فيه ، وهو : كتب عليكم.

وأجاز ابن عطية أن تكون الكاف في موضع صفة لصوم محذوف ، التقدير : صوما كما ، وهذا فيه بعد ، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح ، هذا إن كانت ما مصدرية ، وأما إن كانت موصولة ففيه أيضا بعد ، لأن تشبيه الصوم بالمصوم لا يصح إلّا على تأويل بعيد.

وأجاز بعض النحاة أن تكون الكاف في موضع رفع على أنها نعت لقوله : الصيام ، قال : إذ ليس تعريفه بمستحسن لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة ، فلذلك جاز نعته بكما ، إذ لا ينعت بها إلّا النكرات ، فهي بمنزلة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) انتهى كلامه ، وهو هدم للقاعدة النحوية من وجوب توافق النعت والمنعوت في التعريف والتنكير ، وقد ذهب بعضهم إلى نحو من هذا ، وإن الألف واللام إذا كانت جنسية جاز أن يوصف مصحوبها بالجملة ، وجعل من ذلك قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (١) ولا يقوم دليل على إثبات هدم ما ذهب إليه النحويون ، وتلخص في : ما ، من

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٧.

١٧٨

قوله : كما ، وجهان أحدهما : أن تكون مصدرية ، وهو الظاهر ، والآخر : أن تكون موصولة ، بمعنى. الذي.

(عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : ظاهره عموم الذين من قبلنا من الأنبياء وأممهم من آدم إلى زماننا. وقال عليّ : أولهم آدم ، فلم يفترضها عليكم ، يعني : أن الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم ، فلم يفترضها عليكم خاصة ، وقيل : الذين من قبلنا هم النصارى.

قال الشعبي وغيره : والمصوم معين وهو رمضان فرض على الذين من قبلنا وهم النصارى ، احتاطوا له بزيادة يوم قبله ويوم بعده قرنا بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوما ، فصعب عليهم في الحر ، فنقلوه إلى الفصل الشمسي.

قال النقاش : وفي ذلك حديث عن دغفل ، والحسن ، والسدي.

وقيل : بل مرض ملك من ملوكهم ، فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام ، ثم أخّر سبعة ، ثم آخر ثلاثة ، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.

وقيل : كان النصارى أولا يصومون ، فإذا أفطروا فلا يأكلون ولا يشربون ولا يطؤون إذا ناموا ، ثم انتبهوا في الليل ، وكان ذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ بسبب عمر ، وقيس بن صرمة. قال السدي أيضا ، والربيع وأبو العالية.

قيل : وكذا كان صوم اليهود ، فيكون المراد : بالذين من قبلنا ، اليهود والنصارى ، وقيل : الذين من قبلنا : هم اليهود خاصة ، فرض علينا كما فرض عليهم ، ثم نسخه الله بصوم رمضان.

قال الراغب : للصوم فائدتان رياضة الإنسان نفسه عن ما تدعوه إليه من الشهوات ، والاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع. انتهى. وحكمة التشبيه أن الصوم عبادة شاقة ، فإذا ذكر أنه كان مفروضا على من تقدّم من الأمم سهلت هذه العبادة.

(تَتَّقُونَ) الظاهر : تعلق ، لعل بكتب ، أي : سبب فرضية الصوم هو رجاء حصول التقوى لكم ، فقيل : المعنى تدخلون في زمرة المتقين ، لأن الصوم شعارهم ، وقيل : تجعلون بينكم وبين النار وقاية بترك المعاصي ، فإن الصوم لإضعاف الشهوة وردعها ، كما قال عليه‌السلام «فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء».

١٧٩

وقيل : تتقون الأكل والشرب والجماع في وقت وجوب الصوم ، قاله السدي.

وقيل : تتقون المعاصي ، لأن الصوم يكف عن كثير ما تشوق إليه النفس ، قاله الزجاج.

وقيل : تتقون محظورات الصوم ، وهذا راجع لقول السدي.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) إن كان ما فرض صومه هنا هو رمضان ، فيكون قوله أياما معدودات عنى به رمضان ، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين ، ووصفها بقوله : معدودات ، تسهيلا على المكلف بأن هذه الأيام يحصرها العد ليست بالكثيرة التي تفوّت العد ، ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود كناية على القلائل ، كقوله : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) (١) (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (٢) (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) (٣).

وإن كان ما فرض صومه هو ثلاثة أيام من كل شهر ، وقيل : هذه الثلاثة ويوم عاشوراء ، كما كان ذلك مفروضا على الذين من قبلنا ، فيكون قوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) عنى بها هذه الأيام ، وإلى هذا ذهب ابن عباس ، وعطاء.

قال ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة : هي الأيام البيض ، وقيل : وهي : الثاني عشر ، والثالث عشر ، والرابع عشر ، وقيل : الثالث عشر ويومان بعده ، وروي في ذلك حديث. «إن البيض هي الثالث عشر ويومان بعده» فإن صح لم يمكن خلافه.

وروى المفسرون أنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجبا ، وصوم يوم عاشوراء ، فصاموا كذلك في سبعة عشر شهرا ، ثم نسخ بصوم رمضان.

قال ابن عباس : أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة ، والصوم ، ويقال : نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام ، وقيل : كان صوم تلك الأيام تطوعا ، ثم فرض ، ثم نسخ.

قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن) : احتج من قال إنها غير رمضان بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صوم رمضان نسخ كل صوم» ، فدل على أن صوما آخر كان قبله ، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية ثم ذكر حكمها في الآية الآتية بعده ، فإن كان هذا الصوم هو صوم رمضان لكان هذا تكريرا ، ولأن قوله تعالى : (فِدْيَةٌ) يدل على

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٨٠.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٢٠.

١٨٠