البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

واحتمل أن يكون مبنيا للمفعول ، فنهى أن يضارّهما أحد بأن يعنتا ، ويشق عليهما في ترك أشغالهما ، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة قال معناه أيضا ابن عباس ، ومجاهد ، وطاووس ، والضحاك ، والسدي.

ويقوي هذا الاحتمال قراءة عمر : ولا يضارر ، بالفك وفتح الراء الأولى. رواها الضحاك عن ابن مسعود ، وابن كثير عن مجاهد ، واختاره الطبري لأن الخطاب من أول الآيات إنما هو للمكتوب له ، وللمشهود له ، وليس للشاهد والكاتب خطاب تقدّم ، إنما رده على أهل الكتابة والشهادة ، فالنهي لهم أبين أن لا يضار الكاتب والشهيد فيشغلونهما عن شغلهما ، وهم يجدون غيرهما. ورجح هذا القول بأنه لو كان خطابا للكاتب والشهيد لقيل : وإن تفعلا فإنه فسوق بكما ، وإذا كان خطابا للمداينين فالمنهيون عن الضرار هم ، وحكى أبو عمرو عن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق : أن الراء الأولى مكسورة ، وحكى عنهم أيضا فتحها ، وفك الفعل. والفك لغة الحجاز ، والإدغام لغة تميم.

وقرأ ابن القعقاع ، وعمرو بن عبيد : ولا يضار ، بجزم الراء ، وهو ضعيف لأنه في التقدير جمع بين ثلاث سواكن ، لكن الألف لمدّها يجري مجرى المتحرك ، فكأنه بقي ساكنان ، والوقف عليه ممكن. ثم أجريا الوصل مجرى الوقف.

وقرأ عكرمة : ولا يضارر ، بكسر الراء الأولى والفك ، كاتبا ولا شهيدا بالنصب أي : لا يبدأهما صاحب الحق بضرر.

ووجوه المضارة لا تنحصر ، وروى مقسم عن عكرمة أنه قرأ : ولا يضارّ ، بالإدغام وكسر الراء لالتقاء الساكنين.

وقرأ ابن محيصن : ولا يضارّ ، برفع الراء المشدّدة ، وهي نفي معناه النهي. وقد تقدّم تحسين مجيء النهي بصورة النفي ، وذلك أن النهي إنما يكون عن ما يمكن وقوعه ، فإذا برز في صورة النفي كان أبلغ ، لأنه صار مما لا يقع ، ولا ينبغي أن يقع.

(وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) ظاهره أن مفعول : تفعلوا ، المحذوف راجع إلى المصدر المفهوم من قوله : ولا يضار ، وإن تفعلوا لمضارة أو الضرار فإنه ، أي الضرار ، فسوق بكم أي : ملتبس بكم ، أو تكون الباء ظرفية ، أي : فيكم ، وهذا أبلغ ، إذ جعلوا محلا للفسق.

والخطاب في : تفعلوا ، عائد على الكاتب والشاهد ، إذ كان قوله : ولا يضار ، قد قدر

٧٤١

مبنيا للفاعل ، وأما إذا قدر مبنيا للمفعول فالخطاب للمشهود لهم. وقيل : هو راجع إلى ما وقع النهي عنه ، والمعنى وإن تفعلوا شيئا مما نهيتكم عنه ، أو تتركوا شيئا مما أمرتكم به ، فهو عام في جميع التكاليف ، فإنه فسوق بكم ، أي : خروج عن أمر الله وطاعته.

(وَاتَّقُوا اللهَ) أي : في ترك الضرار ، أو : في جميع أوامره ونواهيه. ولما كان قوله (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) خطابا على سبيل الوعيد ، أمر بتقوى الله حتى لا يقع في الفسق.

(وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) هذه جملة تذكر بنعم الله التي أشرفها : التعليم للعلوم ، وهي جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع نصب على الحال من الفاعل في : واتقوا ، تقديره : واتقوا الله مضمونا لكم التعليم والهداية. وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون حالا مقدرة. انتهى. وهذا القول ، أعني : الحال ، ضعيف جدا ، لأن المضارع الواقع حالا ، لا يدخل عليه واو الحال إلّا فيما شذ من نحو : قمت وأصك عينه. ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ.

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إشارة إلى احاطته تعالى بالمعلومات ، فلا يشذ عنه منها شيء. وفيها إشعار بالمجازاة للفاسق والمتقي ، وأعيد لفظ الله في هذه الجمل الثلاث على طريق تعظيم الأمر ، جعلت كل جملة منها مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى ربط بالضمير ، بل اكتفي فيها بربط حرف العطف ، وليست في معنى واحد ، فالأولى : حث على التقوى ، والثانية : تذكر بالنعم ، والثالثة : تتضمن الوعد والوعيد. وقيل : معنى الآية الوعد ، فإن من اتقى علمه الله ، وكثيرا ما يتمثل بهذه بعض المتطوعة من الصوفية الذين يتجافون عن الاشتغال بعلوم الشريعة ، من الفقه وغيره ، إذا ذكر له العلم ، والاشتغال به ، قالوا : قال الله : واتقوا الله ويعلمكم الله ، ومن أين تعرف التقوى؟ وهل تعرف إلّا بالعلم؟.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ). مفهوم الشرط يقتضي امتناع الاستيثاق بالرهن ، وأخذه في الحضر ، وعند وجدان الكاتب ، لأنه تعالى علق جواز ذلك على وجود السفر وفقدان الكاتب ، وقد ذهب مجاهد ، والضحاك : إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر ، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك ، ونقل عنهما أنهما لا يجوّزان الارتهان إلّا في حال السفر ، وجمهور العلماء على جواز الرهن في الحضر ، ومع وجود الكاتب ، وأن الله تعالى ذكر السفر على سبيل التمثيل للإعذار ، لأنه مظنة فقدان

٧٤٢

الكاتب ، وإعواز الإشهاد ، فأقام التوثق بالرهن مقام الكتابة والشهادة ، ونبه بالسفر على كل عذر ، وقد يتعذر الكاتب في الحضر ؛ كأوقات الاشتغال والليل وقد صح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رهن درعه في الحضر ، فدل ذلك على أن الشرط لا يراد مفهومه.

وقرأ الجمهور : كاتبا ، على الإفراد. وقرأ أبي ، ومجاهد ، وأبو العالية : كتابا على أنه مصدر ، أو جمع كاتب. كصاحب وصحاب. ونفي الكاتب يقتضي نفي الكتابة ، ونفي الكتابة يقتضي أيضا نفي الكتب.

وقرأ ابن عباس والضحاك : كتابا ، على الجمع اعتبارا بأن كل نازلة لها كاتب ، وروي عن أبي العالية : كتبا جمع كتاب ، وجمع اعتبارا بالنوازل أيضا.

وقرأ الجمهور : فرهان ، جمع رهن نحو : كعب وكعاب. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : فرهن ، بضم الراء والهاء. وروي عنهما تسكين الهاء. وقرأ بكل واحدة منهما جماعة غيرهما ، فقيل : هو جمع رهان ، ورهان جمع رهن ، قاله الكسائي ، والفراء. وجمع الجمع لا يطرد عند سيبويه ، وقيل : هو جمع رهن ، كسقف ، ومن قرأ بسكون الهاء فهو تخفيف من رهن ، وهي لغة في هذا الباب ، نحو : كتب في كتب ، واختاره أبو عمرو بن العلاء وغيره ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لا أعرف الرهان إلّا في الخيل لا غير ، وقال يونس : الرهن والرهان عربيان ، والرهن في الرهن أكثر ، والرهان في الخيل أكثر. انتهى. وجمع فعل على فعل قليل ، ومما جاء فيه : رهن ، قول الأعشى :

آليت لا يعطيه من أبنائنا

رهنا فيفسدهم كرهن أفسدا

وقال بكسر : رهن ، على أقل العدد لم أعلمه جاء ، وقياسه : أفعل ، فكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل. انتهى.

والظاهر من قوله : مقبوضة ، اشتراط القبض. وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن ، وقبض وكيله ، وأما قبض عدل يوضع الرهن على يديه ، فقال الجمهور به. وقال عطاء ، وقتادة ، والحكم ، وابن أبي ليلى : ليس بقبض ، فإن وقع الرهن بالإيجاب والقبول ، ولم يقع القبض ، فالظاهر من الآية أنه لا يصح إلّا بالقبض ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وقالت المالكية : يلزم الرهن بالعقد ، ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن ، فالقبض عند مالك شرط في كمال فائدته ، وعند أبي حنيفة والشافعي شرط في صحته ، وأجمعوا على أنه لا يتم إلّا بالقبض.

٧٤٣

واختلفوا في استمراره ، فقال مالك : إذا ردّه بعارية أو غيرها بطل. وقال أبو حنيفة : إن ردّه بعارية أو وديعة لم يبطل. وقال الشافعي : يبطل برجوعه إلى يد الراهن مطلقا.

والظاهر من اشتراط القبض أن يكون المرهون ذاتا متقومّة يصح بيعها وشراؤها ، ويتهيأ فيها القبض أو التخلية. فقال الجمهور : لا يجوز رهن ما في الذمّة. وقالت المالكية : يجوز ، وقال الجمهور : لا يصح رهن الغرر ، مثل : العبد الآبق ، والبعير الشارد ، والأجنة في بطون أمّهاتها ، والسمك في الماء ، والثمرة قبل بدو صلاحها. وقال مالك : لا بأس بذلك.

واختلفوا في رهن المشاع ، فقال مالك ، والشافعي : يصح فيما يقسم وفيما لا يقسم. وقال أبو حنيفة : لا يصح مطلقا. وقال الحسن بن صالح : يجوز فيما لا يقسم ، ولا يجوز فيما يقسم.

ومعنى : على سفر ، أي : مسافرين ، وقد تقدّم الكلام على مثله في آية الصيام.

ويحتمل قوله : ولم تجدوا ، أن يكون معطوفا على فعل الشرط ، فتكون الجملة في موضع جزم ، ويحتمل أن تكون الواو للحال ، فتكون الجملة في موضع نصب. ويحتمل أن يكون معطوفا على خبر كان ، فتكون الجملة في موضع نصب ، لأن المعطوف على الخبر خبر ، وارتفاع : فرهان ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : فالوثيقة رهان مقبوضة.

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) أي : إن وثق رب الدين بأمانة الغريم ، فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن ، فليؤدّ الغريم أمانته ، أي ما ائتمنه عليه رب المال. وقرأ أبيّ : فإن أومن ، رباعيا مبنيا للمفعول ، أي : آمنه الناس ، هكذا نقل هذه القراءة عن أبي الزمخشري ، وقال السجاوندي : وقرأ أبي : فإن ائتمن ، افتعل من الأمن ، أي : وثق بلا وثيقة صك ، ولا رهن.

والضمير في : أمانته ، يحتمل أن يعود إلى رب الدين ، ويحتمل أن يعود إلى الذي اؤتمن. والأمانة : هو مصدر أطلق على الشيء الذي في الذمّة ، ويحتمل أن يراد به نفس المصدر ، ويكون على حذف مضاف ، أي : فليؤدّ دين أمانته. واللام في : فليؤدّ ، للأمر ، وهو للوجوب. وأجمعوا على وجوب أداء الديون ، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه ، ويجوز إبدال همزة : فليؤدّ ، واوا نحو : يوجل ويوخر ويواخذ ، لضمة ما قبلها.

وروى أبو بكر عن عاصم : الذي اؤتمن ، برفع الألف ، ويشير بالضمة إلى الهمزة.

٧٤٤

قال ابن مجاهد : وهذه الترجمة غلط. وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم ، وفي الإشارة والإشمام المذكورين نظر.

وقرأ ابن محيصن ، وورش بإبدال الهمزة ياء ، كما أبدلت في بئر وذئب ، وأصل هذا الفعل : أؤتمن ، بهمزتين : الأولى همزة الوصل ، وهي مضمومة. والثاني : فاء الكلمة ، وهي ساكنة ، فتبدل هذه واوا لضمة ما قبلها ، ولاستثقال اجتماع الهمزتين ، فإذا اتصلت الكلمة بما قبلها رجعت الواو إلى أصلها من الهمزة ، لزوال ما أوجب إبدالها. وهي همزة الوصل ، فإذا كان قبلها كسرة جاز إبدالها ياء لذلك.

وقرأ عاصم في شاذه : اللذتمن ، بإدغام التاء المبدلة من الهمزة قياسا على : اتسر ، في الافتعال من اليسر. قال الزمخشري : وليس بصحيح ، لأن التاء منقلبة عن الهمزة في حكم الهمزة ، واتزر عامّي ، وكذلك ريّا في رؤيا. انتهى كلامه.

وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح ، وأن اترز عامي يعني : أنه من إحداث العامّة ، لا أصل له في اللغة ، قد ذكره غيره ، أن بعضهم أبدل وأدغم ، فقال : اتمن واتزر ، وذكر أن ذلك لغة رديئة. وأما قوله : وكذلك ريّا في رؤيا ، فهذا التشبيه إما أن يعود إلى قوله : واتزر عامي ، فيكون إدغام ريّا عاميا. وإما أن يعود إلى قوله : فليس بصحيح ، أي : وكذلك إدغام : ريا ، ليس بصحيح. وقد حكى الإدغام في ريا الكسائي.

(وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أي عذاب الله في أداء ما ائتمنه رب المال ، وجمع بين قوله : الله ربه ، تأكيدا لأمر التقوى في أداء الدين كما جمعهما في قوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) فأمر بالتقوى حين الإقرار بالحق ، وحين أداء ما لزمه من الدين ، فاكتنفه الأمر بالتقوى حين الأخذ وحين الوفاء.

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) هذا نهي تحريم ، ألا ترى إلى الوعيد لمن كتمها؟ وموضع النهي حيث يخاف الشاهد ضياع الحق. وقال ابن عباس : على الشاهد أن يشهد حيث ما استشهد ، ويخبر حيث ما استخبر. ولا تقل : أخبر بها عن الأمير ، بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي.

وقرأ السلمي : ولا يكتموا ، بالياء على الغيبة.

(وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) كتم الشهادة هو إخفاؤها بالامتناع من أدائها ، والكتم

٧٤٥

من معاصي القلب ، لأن الشهادة علم قام بالقلب ، فلذلك علق الإثم به. وهو من التعبير بالبعض عن الكل : (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ وآكد ، ألا ترى أنك تقول : أبصرته عيني؟ وسمعته أذني؟ ووعاه قلبي؟ فأسند الإثم إلى القلب إذ هو متعلق الإثم ، ومكان اقترافه ، وعنه يترجم اللسان. ولئلا يظنّ أن الكتمان من الآثام المتعلقة باللسان فقط ، وأفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها ، لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. وقراءة الجمهور : آثم ، اسم فاعل من : أثم قلبه ، و : قلبه ، مرفوع به على الفاعلية ، و : آثم ، خبر : إن ، وجوّز الزمخشري أن يكون : آثم ، خبرا مقدّما ، و : قلبه ، مبتدأ. والجملة في موضع خبر : إن ، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون.

وقال ابن عطية : ويجوز أن يكون يعني : آثم ابتداء وقلبه فاعل يسدّ مسدّ الخبر ، والجملة خبر إن. انتهى. وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين ، لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام ، نحو : أقائم الزيدان؟ وأ قائم الزيدون؟ وما قائم الزيدان؟ لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن ، إذ يجيز : قائم الزيدان؟ فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام. قال ابن عطية : ويجوز أن يكون : قلبه ، بدلا على بدل بعض من كل ، يعنى : أن يكون بدلا من الضمير المرفوع المستكن في : آثم ، والإعراب الأول هو الوجه.

وقرأ قوم : قلبه ، بالنصب ، ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة. وقال : قال مكي : هو على التفسير يعنى التمييز ، ثم ضعف من أجل أنه معرفة. والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة. وقد خرجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به ، نحو قولهم : مررت برجل حسن وجهه ، ومثله ما أنشد الكسائي رحمه‌الله تعالى :

أنعتها إني من نعاتها

مدارة الأخفاف مجمراتها

غلب الدفار وعفريناتها

كوم الذرى وادقة سراتها

وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز ، وعلى مذهب المبرد ممنوع ، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام ، ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم إن بدل بعض من كل ، ولا مبالاة بالفصل بين البدل والمبدل منه بالخبر ، لأن ذلك جائز. وقد فصلوا

٧٤٦

بالخبر بين الصفة والموصوف ، نحو : زيد منطلق العاقل ، نص عليه سيبويه ، مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد ، فأحرى في البدل ، لأن الأصح أن العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه.

ونقل الزمخشري وغيره : أن ابن أبي عبلة قرأ : أثم قلبه ، بفتح الهمزة والثاء والميم وتشديد الثاء ، جعله فعلا ماضيا. وقلبه بفتح الباء نصبا على المفعول بأثم ، أي : جعله آثما.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) بما تعملون عام في جميع الأعمال ، فيدخل فيها كتمان الشهادة وأداؤها على وجهها. وفي الجملة توعد شديد لكاتم الشهادة ، لأن علمه بها يترتب عليه المجازاة ، وإن كان لفظ العلم يعم الوعد والوعيد.

وقرأ السلمي : بما يعملون ، بالياء جريا على قراءته ، ولا يكتموا ، بالياء على الغيبة.

وقد تضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة.

التجنيس المغاير في قوله : إذا تداينتم بدين ، وفي قوله : وليكتب بينكم كاتب. وفي قوله : ولا يأب كاتب أن يكتب. وفي قوله : ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم. وفي قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم. وفي قوله : أؤتمن أمانته.

والتجنيس الممائل في قوله : ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها.

والتأكيد في قوله : تداينتم بدين ، وفي قوله : وليكتب بينكم كاتب ، إذ يفهم من قوله : تداينتم ، قوله : بدين ، ومن قوله : فليكتب ، قوله : كاتب.

والطباق في قوله : أن تضل إحداهما فتذكر ، لأن الضلال هنا بمعنى النسيان. وفي قوله : صغيرا أو كبيرا.

والتشبيه في قوله : أن يكتب كما علمه الله.

والاختصاص في قوله : كاتب بالعدل. وفي قوله : فليملل وليه بالعدل ، وفي قوله : أقسط عند الله وأقوم للشهادة. وفي قوله : تجارة حاضرة تديرونها بينكم.

والتكرار في قوله : فاكتبوه وليكتب ، وأن يكتب كما علمه الله ، فليكتب ، ولا يأب كاتب ، وفي قوله : فليملل الذي عليه الحق ، فإن كان الذي عليه الحق. كرر الحق للدّعاء

٧٤٧

إلى اتباعه ، وأتى بلفظة على للإعلام أن لصاحب الحق مقالا واستعلاء ، وفي قوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى. وفي قوله : واتقوا الله ، ويعلمكم الله ، والله.

والحذف في قوله : يا أيها الذين آمنوا ، حذف متعلق الإيمان. وفي قوله : مسمى ، أي بينكم فليكتب الكاتب ، أن يكتب الكتاب كما علمه الله الكتابة والخط ، فليكتب كتاب الذي عليه الحق ما عليه من الدين ، وليتق الله ربه في إملائه سفيها في الرأي أو ضعيفا في البينة ، أو لا يستطيع أن يمل هو لخرس أو بكم فليملل الدين وليه على الكاتب ، واستشهدوا إذا تعاملتم من رجالكم المعينين للشهادة المرضيين ، فرجل مرضي وامرأتان مرضيتان من الشهداء المرضيين فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة ، ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة أو من أدائها عند الحاكم إذا ما دعوا أي دعائهم صاحب الحق للتحمل ، أو للأداء إلى أجله المضروب بينكم ، ذلكم الكتاب أقسط وأقوم للشهادة المرضية أن لا ترتابوا في الشهادة تديرونها بينكم ، ولا تحتاجون إلى الكتب والإشهاد فيها ، وأشهدوا إذا تبايعتم شاهدين ، أو رجلا وامرأتين ، ولا يضارّ كاتب ولا شهيد أي صاحب الحق ، أو : لا يضار صاحب الحق كاتبا ولا شهيدا ، ثم حذف وبنى للمفعول ، وأن تفعلوا الضرر ، واتقوا عذاب الله ، ويعلمكم الله الصواب ، وإن كنتم على سبيل سفر ولم تجدوا كاتبا يتوثق بكتابته ، فالوثيقة رهن أمن بعضكم بعضا ، فأعطاه مالا بلا إشهاد ولا رهن أمانته من غير حيف ولا مطل ، وليتق عذاب الله ، ولا تكتموا الشهادة عن طالبها.

وتلوين الخطاب ، وهو الانتقال من الحضور إلى الغيبة ، في قوله : فاكتبوه ، وليكتب ، ومن الغيبة إلى الحضور في قوله : ولا يأب كاتب ، وأشهدوا. ثم انتقل إلى الغيبة بقوله : ولا يضار ، ثم إلى الحضور بقوله : ولا تكمتوا الشهادة ، ثم إلى الغيبة بقوله : ومن يكتمها ، ثم إلى الحضور بقوله : بما تعملون.

والعدول من فاعل إلى فعيل ، في قوله : شهيدين ، ولا يضار كاتب ولا شهيد.

والتقديم والتأخير في قوله : فليكتب ، وليملل ، أو الإملال ، بتقديم الكتابة قبل ، ومن ذلك : ممن ترضون من الشهداء ، التقدير واستشهدوا ممن ترضون ، ومنه وأشهدوا إذا تبايعتم.

انتهى ما لخصناه مما ذكر في هذه الآية من أنواع الفصاحة. وفيها من التأكيد في حفظ الأموال في المعاملات ما لا يخفى : من الأمر بالكتابة للمتداينين ، ومن الأمر للكاتب

٧٤٨

بالكتابة بالعدل ، ومن النهي عن الامتناع من الكتابة ، ومن أمره ثانيا بالكتابة ، ومن الأمر لمن عليه الحق بالإملال إن أمكن ، أو لوليه إن لم يمكنه ، ومن الأمر بالاستشهاد ، ومن الاحتياط في من يشهد وفي وصفه ، ومن النهي للشهود عن الامتناع من الشهادة إذا ما دعوا إليها ، ومن النهي عن الملل في كتابة الدين وإن كان حقيرا ، ومن الثناء على الضبط بالكتابة ، ومن الأمر بالإشهاد عند التبايع ، ومن النهي للكاتب والشاهد عن ضرار من يشهد له ويكتب ، ومن التنبيه على أن الضرار في مثل هذا هو فسوق ، ومن الأمر بالتقوى ، ومن الإذكار بنعمة التعلم ، ومن التهديد بعد ذلك ، ومن الاستيثاق في السفر وعدم الكاتب بالرهن المقبوض ، ومن الأمر بأداء أمانة من لم يستوثق بكاتب وشاهد ورهن ، ومن الأمر لمن استوثق بتقوى الله المانعة من الإخلال بالأمانة ، ومن النهي عن كتم الشهادة ، ومن التنبيه على أن كاتمها مرتكب الإثم ، ومن التهديد آخرها بقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فانظر إلى هذه المبالغة والتأكيد في حفظ الأموال وصيانتها عن الضياع ، وقد قرنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنفوس والدماء ، فقال : «من قتل دون ماله فهو شهيد». وقال : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم». ولصيانتها والمنع من إضاعتها ، ومن التبذير فيها كان حجر الإفلاس ، وحجر الجنون ، وحجر الصغر ، وحجر الرق ، وحجر المرض ، وحجر الارتداد.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قال الشعبي ، وعكرمة : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها ، ورواه مجاهد ومقسم عن ابن عباس ، قال مقاتل ، والواقدي : نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين.

ومناسبتها ظاهرة ، لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم ، ذكر ما انطوى عليه الضمير ، فكتمه أو أبداه ، فإن الله يحاسبه به ، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة ، ولما علق الإثم بالقلب ذكر هنا الأنفس ، فقال : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) وناسب ذكر هذه الآية خاتمة لهذه السورة لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع من : دلائل التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، والصلاة ، والزكاة ، والقصاص ، والصوم ، والحج ، والجهاد ، والحيض ، والطلاق ، والعدّة ، والخلع ، والإيلاء ، والرضاعة ، والربا ، والبيع ، وكيفية المداينة. فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السموات وما في الأرض ، فهو يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته.

ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس ، وما تنطوي عليه من

٧٤٩

النيات ، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة ، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة ، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير ، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين ، وغاية الوعيد للعاصين.

والظاهر في : اللام ، أنها للملك ، وكان ملكا له لأنه تعالى هو المنشئ له ، الخالق. وقيل : المعنى لله تدبير ما في السموات وما في الأرض ، وخص السموات والأرض لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات ، وقدم السموات لعظمها ، وجاء بلفظ : ما ، تغليبا لما لا يعقل على من يعقل ، لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان ، لا يعقل ، وأجناس ذلك كثيرة. وأما العاقل فأجناسه قليلة إذ هي ثلاثة : إنس وجنّ وملائكة.

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ظاهر : ما ، العموم ، والمعنى : أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء ، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى ، لأن علمه ليس ناشئا عن وجود الأشياء ، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد ، وبعد الإيجاد ، وبعد الإعدام. بخلاف علم المخلوق ، فإنه لا يعلم الشيء إلّا بعد إيجاده ، فعلمه محدث. وقد خصص هذا العموم فقال ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ، واختاره ابن جرير : هو في معنى الشهادة ، أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب ، وقيل : من الاحتيال للربا ، وقال مجاهد : من الشك واليقين ، ومما يدل على أن الله تعالى يؤاخذ بما تجن القلوب ، قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) (١).

وبعد فإن المحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد. وقال القاضي عبد الجبار : بين أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في أن الوعيد يتناولها ، ويعني ما يلزم إظهاره إذا خفي ، وما يلزم كتماته إذا ظهر مما يتعلق به الحقوق ، ولم يرد بذلك ما يخطر بالقلب مما قد رفع فيه المأثم. انتهى كلامه. وإلى ما يهجس في النفس أشار ، والله أعلم ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ولم تعمل به وتكلم» وقال : «إن تظهروا العمل أو تسروه»

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٥.

٧٥٠

وقال أبو علي : يحاسب عباده على ما يخفون من أعمالهم وعلى ما يبدونه ، فيغفر للمستحق ويعذب المستحق. ودلت على أن الثواب والعقاب يستحقان بالعزم وسائر أفعال القلوب إذا كانت طاعة أو معصية.

وقال الزمخشري : من السوء وهذا حسن لأنه جاء بعد ذلك ذكر الغفران والتعذيب ، لكن ذيل ذلك الزمخشري بقوله : فيغفر لمن يشاء ، لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه ، أو أضمر. ويعذب من يشاء من استوجب العقوبة بالإصرار. انتهى. وهذه نزعة اعتزالية ، وأهل السنة يقولون : إن الغفران قد يكون من الله تعالى لمن مات مصرّا على المعصية ولم يتب ، فهو في المشيئة ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١).

ثم قال الزمخشري : ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان الوسواس ، وحديث النفس ، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد الله بن عمر ، أنه تلاها فقال : لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى حتى سمع نشجه ، فذكر لابن عباس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد ، فنزل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) انتهى كلامه.

وقال ابن عطية : في أنفسكم ، يقتضي قوّة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحب الفكر فيه ، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلّا على تجوز. انتهى.

وقال بعضهم : إن هذه الآية منسوخة بقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وينبغي أن يجعل هذا تخصيصا إذا قلنا : إن الوسوسة والهواجس مندرجة تحت : ما ، في قوله : (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) والأصح أنها محكمة ، وأنه تعالى يحاسبهم على ما عملوا وما لم يعملوا مما ثبت في نفوسهم ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، وقيل : العذاب الذي يكون جزاء للخواطر هو مصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها. وروي هذا المعنى عن عائشة.

ولما كان اللفظ مما يمكن أن يدخل فيه الخواطر ، أشفق الصحابة ، فبين الله ما أراد

__________________

(١) سورة النساء : ٢ / ٤٨ و ١١٦.

٧٥١

بها وخصصها ، ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلّا وسعها ، والخواطر ليس دفعها في الوسع ، وكان في هذا فرجهم وكشف كربهم.

والآية خبر ، والنسخ لا يدخل الأخبار ، وانجزم : يحاسبكم ، على أنه جواب الشرط ، وقيل : عبر عن العلم بالمحاسبة إذ من جملة تفاسير الحسيب : العالم ، فالمعنى : أنه يعلم ما في السرائر والضمائر ، وقيل : الجزاء مشروط بالمشيئة أو بعدم المحاسبة ، ويكون التقدير : يحاسبكم إن شاء أو يحاسبكم إن لم يسمح.

وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، ويزيد ، ويعقوب ، وسهل : فيغفر لمن يشاء ويعذب ، بالرفع فيهما على القطع ، ويجوز على وجهين : أحدهما : أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف. والآخر : أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدّم. وقرأ باقي السبعة بالجزم عطفا على الجواب. وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو حيوة بالنصب فيهما على إضمار : أن ، فينسبك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب ، تقديره : يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب ، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر :

فان يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجب الظهر ليس له سنام

يروى بجزم : ونأخذ ، ورفعه ونصبه. وقرأ الجعفي ، وخلاد ، وطلحة بن مصرف : يغفر لمن يشاء ، ويروى أنها كذلك في مصحف عبد الله. قال ابن جني : هي على البدل من : يحاسبكم ، فهي تفسير للمحاسبة. انتهى. وليس بتفسير ، بل هما مترتبان على المحاسبة ، ومثال الجزم على البدل من الجزاء قوله (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) (١).

وقال الزمخشري : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، لأن التفصيل أوضح من المفصل ، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل ، أو بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيدا رأسه. وأحب زيدا عقله ، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. انتهى كلامه. وفيه بعض مناقشة.

أولا : فلقوله : ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، وليس الغفران والعذاب

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٨.

٧٥٢

تفصيلا لجملة الحساب ، لأن الحساب إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها ، بحيث لا يشذ شيء منها ، والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة ، فليست المحاسبة تفصل الغفران والعذاب.

وأما ثانيا : فلقوله بعد ان ذكر بدل البعض والكل ، وبدل الاشتمال : هذا البدل وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. أما بدل الاشتمال فهو يمكن ، وقد جاء لأن الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها ، ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس ، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل ، إذ الفعل لا يقبل التجزي ، فلا يقال في الفعل : له كل وبعض إلّا بمجاز بعيد ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى ، إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض.

قال الزمخشري ، وقد ذكر قراءة الجزم : فإن قلت : كيف يقرأ الجازم؟.

قلت : يظهر الراء ويدغم الباء ، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا ، وراويه عن أبي عمرو مخطئ مرتين ، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم ، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. انتهى كلامه. وذلك على عادته في الطعن على القراء.

وأما ما ذكر أن مدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا إلى آخره ، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون ، فذهب الخليل ، وسيبويه وأصحابه : إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها ، ولا في النون. قال أبو سعيد. ولانعلم أحدا خالفه إلّا يعقوب الحضرمي ، وإلّا ما روي عن أبي عمرو ، وأنه كان يدغم الراء في اللام متحركة متحركا ما قبلها ، نحو : (يَغْفِرُ لِمَنْ) (١) (الْعُمُرِ لِكَيْلا) (٢) (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) (٣) فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر ، نحو (الْأَنْهارُ لَهُمْ) (٤) و (النَّارُ لِيَجْزِيَ) (٥) فإن انفتحت وكان ما قبلها حرف مدولين أو غيره لم

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٤ ، وآل عمران : ٣ / ١٢٩ والمائدة : ٤ / ١٨ و ٤٠. والفتح : ٤٨ / ١٤.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٥.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٦٤.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٣١.

(٥) سورة إبراهيم : ١٤ / ٥٠ و ٥١.

٧٥٣

يدغم نحو (مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ) (١) و (الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) (٢) و (لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ) (٣) (وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) (٤) فإن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلّا ما روى أحمد بن جبير بلا خلاف عنه ، عن اليزيدي ، عنه : أنه أظهرها ، وذلك إذا قرأ بإظهار المثلين ، والمتقاربين المتحركين لا غير ، على أن المعمول في مذهبه بالوجهين جميعا على الإدغام نحو (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) انتهى. وأجاز ذلك الكسائي والفراء وحكياه سماعا ، ووافقهما على سماعه رواية وإجازة أبو جعفر الرواسي ، وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين ، وقد وافقهم أبو عمرو على الإدغام رواية وإجازة ، كما ذكرناه ، وتابعه يعقوب كما ذكرناه ، وذلك من رواية الوليد بن حسان. والإدغام وجه من القياس ، ذكرناه في كتاب (التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا ، وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الإدغام الذي منعه البصريون يكون ذلك إخفاء لا إدغاما ، وذلك لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا ، وما ضبطوا ، ولا فرقوا بين الإخفاء والإدغام ، وعقد هذا الرجل بابا قال : هذا باب يذكر فيه ما أدغمت القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه ، وهذا لا ينبغي ، فإن لسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط ، والقراآت لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه ، بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة ، وقد اتفق على نقل إدغام الراء في اللام كبير البصريين ورأسهم : أبو عمرو بن العلاء ، ويعقوب الحضرمي. وكبراء أهل الكوفة : الرواسي ، والكسائي ، والفراء ، وأجازوه ورووه عن العرب ، فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم ، إذ من علم حجة على من لم يعلم.

وأما قول الزمخشري : إن راوي ذلك عن أبي عمرو مخطئ مرتين ، فقد تبين أن ذلك صواب ، والذي روى ذلك عنه الرواة ، ومنهم : أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراآت إمام في اللغات.

قال النقاش : يغفر لمن ينزع عنه ، ويعذب من يشاء إن أقام عليه.

وقال الثوري : يغفر لمن يشاء العظيم ، ويعذب من يشاء على الصغير.

وقد تعلق قوم بهذه الآية في جواز تكليف ما لا يطاق ، وقالوا : كلفوا أمر الخواطر ، وذلك مما لا يطاق.

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢١.

(٢) سورة الإنفطار : ٨٢ / ١٣ ، والمطففين : ٨٣ / ٢٢.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٩ و ٣٠.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٨.

٧٥٤

قال ابن عطية : وهذا غير بين ، وإنما كان من الخواطر تأويلا تأوله أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يثبت تكليفا.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء ، عقب ذلك بذكر القدرة ، إذ ما ذكر جزء من متعلقات القدرة.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) سبب نزولها أنه لما نزل : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية أشفقوا منها ، ثم تقرر الأمر على أن (قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) (١) فرجعوا إلى التضرع والاستكانة ، فمدحهم الله وأثنى عليهم ، وقدّم ذلك بين يدي رفقه بهم ، وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم ، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر ، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى ، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من : ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء ، إذ (قالُوا : سَمِعْنا وَعَصَيْنا) (٢) وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله ، أعاذنا الله تعالى من نقمه. انتهى هذا ، وهو كلام ابن عطية.

وظهر بسبب النزول مناسبة هذه الآية لما قبلها ، ولما كان مفتتح هذه السورة بذكر الكتاب المنزل ، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وصفوا به من الإيمان بالغيب ، وبما أنزل إلى الرسول وإلى من قبله ، كان مختتمها أيضا موافقا لمفتتحها.

وقد تتبعت أوائل السور المطولة فوجدتها يناسبها أواخرها ، بحيث لا يكاد ينخرم منها شيء ، وسأبين ذلك إن شاء الله في آخر كل سورة سورة ، وذلك من أبدع الفصاحة ، حيث يتلاقى آخر الكلام المفرط في الطول بأوله ، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم ، يكون أحدهم آخذا في شيء ، ثم يستطرد منه إلى شيء آخر ، ثم إلى آخر ، هكذا طويلا ، ثم يعود إلى ما كان آخذا فيه أولا. ومن أمعن النظر في ذلك سهل عليه مناسبة ما يظهر ببادئ النظم أنه لا مناسبة له ، فبين تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال المروزي : (آمَنَ الرَّسُولُ) قال الحسن ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وابن عباس في رواية : أن هاتين الآيتين لم ينزل بهما جبريل ، وسمعهما صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج بلا واسطة ، والبقرة مدنية إلّا هاتين الآيتين.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٥ والنساء : ٤ / ٤٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٩٣.

٧٥٥

وقال ابن عباس في رواية أخرى ، وابن جبير ، والضحاك ، وعطاء : إن جبريل نزل عليه بهما بالمدينة ، وهي ردّ على من يقول : إن شاء الله في إيمانه ، لأن الله تعالى شهد بإيمان المؤمنين ، فالشك فيه شك في علم الله تعالى. انتهى كلامه.

والألف واللام في : الرسول ، هي للعهد ، وهو رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كثر في القرآن تسميته من الله بهذا الاسم الشريف ، وما أنزل إليه من ربه شامل لجميع ما أنزل إليه من الله تعالى : من العقائد ، وأنواع الشرائع ، وأقسام الأحكام في القرآن ، وفي غيره. آمن بأن ذلك وحي من الله وصل إليه ، وقدّم الرسول لأن إيمانه هو المتقدّم وإيمان المؤمنين متأخر عن إيمانه ، إذ هو المتبوع وهم التابعون في ذلك.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما نزلت عليه ، قال : «يحق له أن يؤمن».

والظاهر أن يكون قوله : والمؤمنون ، معطوفا على قوله : الرسول ، ويؤيده قراءة علي ، وعبد الله : وآمن المؤمنون ، فأظهر الفعل الذي أضمره غيره من القراء ، فعلى هذا يكون : كل ، لشمول الرسول والمؤمنين ، وجوزوا أن يكون الوقف تم عند قوله : من ربه ، ويكون : المؤمنون ، مبتدأ ، و : كل ، مبتدأ ثان لشمول المؤمنين خاصة. و : آمن بالله ، جملة في موضع خبر : كل ، والجملة ، من : كل وخبره ، في موضع خبر المؤمنين ، والرابط لهذه الجملة بالمبتدأ الأوّل محذوف ، وهو ضمير مجرور تقديره : كل منهم آمن ، كقولهم : السمن منوان بدرهم ، يريدون : منه بدرهم ، والإيمان بالله هو : التصديق به ، وبصفاته ، ورفض الأصنام ، وكل معبود سواه. والإيمان بملائكته هو اعتقاد وجودهم ، وأنهم عباد الله ، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم ، والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمنهم كتاب الله ، وما أخبر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك ، والإيمان برسله هو التصديق بأن الله أرسلهم لعباده.

وهذا الترتيب في غاية الفصاحة ، لأن الإيمان بالله هو المرتبة الأولى ، وهي التي يستبد بها العقل إذ وجود الصانع يقربه كل عاقل ، والإيمان بملائكته هي المرتبة الثانية ، لأنهم كالوسائط بين الله وعباده ، والإيمان بالكتب هو الوحي الذي يتلقنه الملك من الله ، يوصله إلى البشر ، هي المرتبة الثالثة ، والإيمان بالرسل الذين يقتبسون أنوار الوحي فهم متأخرون في الدرجة عن الكتب ، هي المرتبة الرابعة وقد تقدّم الكلام على شيء من هذا

٧٥٦

الترتيب في قوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ) (١) وقيل : الكلام في عرفان الحق لذاته ، وعرفان الخير للعمل به واستكمال القوة النظرية بالعلم ، والقوة العملية يفعل الخيرات ، والأولى أشرف ، فبدىء بها ، وهو : الإيمان المذكور ، والثانية هي المشار إليها بقوله (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) وقيل : للإنسان مبدأ وحال ومعاد ، فالإيمان إشارة إلى المبدأ ، و : سمعنا وأطعنا إشارة إلى الحال ، و : غفرانك ، وما بعده إشارة إلى المعاد.

وقرأ حمزة ، والكسائي : وكتابه ، على التوحيد ، وباقي السبعة : وكتبه ، على الجمع. فمن وحد أراد كل مكتوب ، سمي المفعول بالمصدر ، كقولهم : نسج اليمن أي : منسوجه. قال أبو علي : معناه أن هذا الإفراد ليس كإفراد المصادر ، وإن أريد بها الكثير ، كقوله (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (٢) ولكنه ، كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة ، نحو : كثر الدينار والدرهم ، ومجيئها بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة ، ومن الإضافة (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٣) وفي الحديث : «منعت العراق درهمها وقفيزها». يراد به : الكثير ، كما يراد بما فيه لام التعريف. انتهى ملخصا. ومعناه إن المفرد المحلى بالألف واللام يعم أكثر من المفرد المضاف.

وقال الزمخشري : وقرأ ابن عباس : وكتابه ، يريد القرآن. أو الجنس ، وعنه : الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت : كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟.

قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس ، والجنسية ، قائمة في وحدان الجنس كلها ، لم يخرج منه شيء ، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلّا ما فيه الجنسية من الجموع. انتهى كلامه. وليس كما ذكر ، لأن الجمع إذا أضيف أو دخلته الألف واللام الجنسية صار عاما ، ودلالة العام دلالة على كل فرد فرد ، فلو قال : أعتقت عبيدي ، يشمل ذلك كل عبد عبد ، ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد ، سواء كانت فيه الألف واللام أم الإضافة ، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلّا بقرينة لفظية ، كأن يستثني منه ، أو يوصف بالجمع ، نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (٤) و : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، أو قرينة معنوية نحو : نية المؤمن أبلغ من عمله ، وأقصى حاله أن يكون مثل الجمع العام إذا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٥ ، والنساء : ٤ / ٤٦.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ١٤.

(٣) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٤.

(٤) سورة العصر : ١٠٣ / ٢ و ٣.

٧٥٧

أربد به العموم ، وحمل على اللفظ في قوله : آمن ، فأفرد كقوله (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (١).

وقرأ يحيي بن يعمر : وكتبه ورسله ، بإسكان التاء والسين ، وروي ذلك عن نافع. وقرأ الحسن : ورسله ، بإسكان السين ، وهي رواية عن أبي عمرو وقرأ عبد الله : وكتابه ولقائه ورسله.

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) قرأ الجمهور بالنون ، وقدره : يقولون لا نفرق ، ويجوز أن يكون التقدير : يقول لا نفرق ، لأنه يخبر عن نفسه. وعن غيره ، فيكون : يقول ، على اللفظ ، و : يقولون ، على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، وعلى كلا التقديرين فموضع هذا المقدر نصب على الحال ، وجوّز الحوفي وغيره أن يكون خبرا بعد خبر لكل.

وقرأ ابن جبير ، وابن يعمر ، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ، ويعقوب ، ونص رواة أبي عمرو : لا يفرق ، بالياء على لفظ : كل.

قال هارون : وهي في مصحف أبيّ ، وابن مسعود : لا يفرقون ، حمل على معنى : كل بعد الحمل على اللفظ ، والمعنى : أنهم ليسوا كاليهود والنصارى يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.

والمقصود من هذا الكلام إثبات النبوّة ، وهو ظهور المعجزة على وفق الدعوى فاختصاص بعض دون بعض متناقض ، لا ما ادعاه بعضهم من أن المقصود هو عدم التفضيل بينهم ، و : أحد ، هنا هي المختصة بالنفي ، وما أشبهه؟ فهي للعموم ، فلذلك دخلت : من ، عليها كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٢) والمعنى بين آحادهم. قال الشاعر :

إذا أمور الناس ديكت دوكا

لا يرهبون أحدا رأوكا

قال بعضهم : وأحد ، قيل : إنه بمعنى جميع ، والتقدير : بين جميع رسله ، ويبعد عندي هذا التقدير ، لأنه لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل. والمقصود بالنفي هو هذا ، لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل ، بل البعض ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فثبت أن التأويل الذي ذكره باطل ، بل معنى الآية : لا يفرق أحد من رسله وبين غيره في النبوّة. انتهى. وفيه

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٤.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ٤٧.

٧٥٨

بعض تلخيص. ولا يعني من فسرها : بجميع ، أو قال : هي في معنى الجميع ، إلا أنه يريد بها العموم نحو : ما قام أحد ، أي : ما قام فرد فرد من الرجال ، مثلا ، ولا فرد فرد من النساء ، لا أنه نفى القيام عن الجميع ، فيثبت لبعض ، ويحتمل عندي أن يكون مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : لا يفرق بين أحد من رسله وبين أحد ، فيكون أحد هنا بمعنى واحد ، لا أنه اللفظ الموضوع للعموم في النفي. ومن حذف المعطوف : سرابيل تقيكم الحر أي والبرد. وقول الشاعر :

فما كان بين الخير لو جاء سالما

أبو حجر إلا ليال قلائل

أي : بين الخير وبيني ، فحذف ، وبيني ، لدلالة المعنى عليه.

(وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي : سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، ولا يراد مجرد السماع ، بل القبول والإجابة. وقدم : سمعنا ، على : وأطعنا ، لأن التكليف طريقه السمع ، والطاعة بعده ، وينبغي للمؤمن أن يكون قائلا هذا دهره.

(غُفْرانَكَ رَبَّنا) أي : من التقصير في حقك ، أو لأن عبادتنا ، وإن كانت في نهاية الكمال ، فهي بالنسبة إلى جلالك تقصير.

(وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) إقرار بالمعاد. أي : وإلى جزائك المرجع ، وانتصاب : غفرانك ، على المصدر ، وهو من المصادر التي يعمل فيها الفعل مضمرا ، التقدير عند سيبويه : اغفر لنا غفرانك ، قال السجاوندي : ونسبه ابن عطية للزجاج ، وقال الزمخشري : غفرانك منصوب بإضمار فعله ، يقال : غفرانك لا كفرانك ، أي : نستغفرك ولا نكفرك. فعلى التقدير الأول : الجملة طلبية ، وعلى الثاني : خبرية.

واضطرب قول ابن عصفور فيه ، فمرة قال : هو منصوب بفعل يجوز إظهاره ، ومرة قال : هو منصوب يلتزم إضماره. وعدّه مع : سبحان الله ، وأخواتها. وأجاز بعضهم انتصابه على المفعول به ، أي : نطلب ، أو : نسأل غفرانك. وجوّز بعضهم الرفع فيه على أن يكون مبتدأ ، أي : غفرانك بغيتنا.

والمصير : اسم مصدر من صار يصير ، وهو مبني على : مفعل ، بكسر العين ، وقد اختلف النحويون في بناء المفعل مما عينه ياء نحو : يبيت ، ويعيش ، ويحيض ، ويقيل ، ويصير ، فذهب بعضهم إلى أنه كالصحيح ، نحو : يضرب ، يكون للمصدر بالفتح ، يكون

٧٥٩

للمصدر بالفتح ، وللمكان والزمان نحو : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (١) أي : عيشا ، فيكون : المحيض بمعنى الحيض ، والمصير بمعنى الصيرورة ، على هذا شاذا. وذهب بعضهم إلى التخيير في المصدر بين أن تبنيه على مفعل بكسر العين ، أو : مفعل بفتحها ، وأما الزمان والمكان فبالكسر. ذهب إلى ذلك الزجاج ، ورده عليه أبو عليّ ، وذهب بعضهم إلى الاقتصار على السماع ، فحيث بنت العرب المصدر على مفعل أو مفعل أو مفعل اتبعناه ، وهذا المذهب أحوط.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ظاهره أنه استئناف ، خبر من الله تعالى أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلّا ما هو في وسع المكلف ، ومقتضى إدراكه وبنيته ، وانجلى بهذا أمر الخواطر الذي تأوله المسلمون في قوله : (إِنْ تُبْدُوا) الآية ، وظهر تأويل من يقول : إنه لا يصح تكليف ما لا يطاق ، وهذه الآية نظير. (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢) (وما جعل عليكم في الدّين من حرج) (٣) (فاتقوا الله ما استطعتم) (٤).

وقال الزمخشري : أي ما يكلفها إلّا ما يتسع فيه طوقها ، ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود ، وهذا اخبار عن عدله ورحمته ، لقوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢) لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة. وقيل : هذا من كلام الرسول والمؤمنين ، أي : وقالوا (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) والمعنى : أنهم لما قالوا (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) قالوا : كيف لا نسمع ذلك ، ولا نطيع؟ وهو تعالى لا يكلفنا إلّا ما في وسعنا؟ والوسع دون المجهود في المشقة ، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان.

وانتصابه على أنه مفعول ثان ليكلف. وقال ابن عطية : يكلف ، يتعدّى إلى مفعولين. أحدهما محذوف تقديره : عبادة أو شيئا. انتهى. فإن عنى أن أصله كذا ، فهو صحيح ، لأن قوله : إلّا وسعها ، استثناء مفرغ من المفعول الثاني ، وإن عنى أنه محذوف في الصناعة ، فليس كذلك. بل الثاني هو وسعها ، نحو : ما أعطيت زيدا إلّا درهما ، ونحو : ما ضربت إلّا

__________________

(١) سورة النبأ : ٧٨ / ١١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٨٥.

٧٦٠