البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

ثم ذكر اختلافهم وانقسامهم إلى مؤمن وكافر ، وأنه تعالى يفعل ما يريد ، ثم أمر المؤمنين بالإنفاق مما رزقهم من قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه توسل بصداقة ولا شفاعة.

ثم ذكر أن الكافرين هم المجاوزون الحد الذي حده الله تعالى ، ثم ذكر تعالى أنه هو المتوحد بالإلهية ، وذلك عقيب ذكر الكافرين. وذكر أتباع موسى عليهما‌السلام.

ثم سرد صفاته العلا وهي التي يجب أن تعتقد في الله تعالى من كونه واحدا حيا قائما بتدبير الخلق ، لا يلحقه آفة ، مالكا للسموات والأرض ، عالما بسرائر المعلومات ، لا يعلم أحد شيئا من علمه إلّا بما يشاء هو تعالى ، وذكر عظيم مخلوقاته ، وأن بعضها ، وهو الكرسي ، يسع السموات والأرض ، ولا يثقل ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض.

ثم ذكر أنه بعد وضوح صفاته العلا ف (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) إذ قد تبينت طرق الرشاد من طرق الغواية ، ثم ذكر أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله فهو مستمسك بالعروة الوثقى ، عروة الإيمان ، ووصفها بالوثقى لكونها لا تنقطع ولا تنفصم ، واستعار للإيمان عروة إجراء للمعقول مجرى المحسوس ، ثم ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين أخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وأن الكافرين أولياؤهم الأصنام والشياطين ، وهم على العكس من المؤمنين ، ثم أخبر عن الكفار أنهم أصحاب النار وأنهم مخلدون فيها والحالة هذه ، والله أعلم بالصواب.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

٦٢١

قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)

بهت : تحير ودهش ، ويكون متعديا على وزن فعّل ، ومنه : فتبهتهم ، ولازما على وزن فعل كظرف وفعل كدهش ، والأكثر في اللازم الضم وحكي عن بعض العرب : بهت بفتح الهاء لازما ، ويقال بهته وباهته واجهه بالكذب ، وفي الحديث أن اليهود قوم بهت.

الخاوي : الخالي ، خوت الدار تخوى خوى غير ممدود ، وخويا ، والأولى أفصح ، ويقال خوى البيت انهدم لأنه بتهدّمه يخلو من أهله ، والخوى : الجوع : لخلو البطن من الغذاء ، وخوت المرأة وخويت خلا جوفها عند الولادة ، وخويت لها تخوية علمت لها خوية تأكلها ، وهي طعام. والخوي على وزن فعيل : البطن السهل من الأرض ، وخوي البعير جافى بطنه عن الأرض في مبركه ، وكذلك الرجل في سجوده قال الراجز :

خوى على مستويات خمس

كركرة وثفنات ملس

العرش : سقف البيت ، وكل ما يهيأ ليظلّ أو يكنّ فهو عريش الدالية ، وقال تعالى : (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (١) وفي الحديث لما أمر ببناء المسجد قالوا : نبنيه لك بنيانا قال : «لا بل عرش كعرش أخي موسى» فوضعوا النخل على الحجارة وغشوه بالجريد وسعفه ، وقيل : العرش البنيان قال الشاعر :

إن يقتلوك فقد ثللث عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

مائة : اسم لرتبة من العدد معروفة ، ويجمع على مئات ومئين ، وهي مخففة محذوفة اللام ، ولامها ياء ، فالأصل مئية ، ويقال : أمأيت الدراهم إذا صيرتها مائة ، وأمأت هي ، أي : صارت مائة.

العام : مدّة من الزمان معروفة ، وألفه منقلبة عن واو ، لقولهم : العويم والأعوام. وقال النقاش : العام مصدر كالعوم ، سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٧.

٦٢٢

الفلك ، والعوم كالسبح ، وقال تعالى (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٢) والعام على هذا : كالقول والقال.

اللبث : المكث والإقامة.

يتسنه : إن كانت الهاء أصلية فهو من السنة على من يجعل لامها المحذوف هاء ، قالوا في التصغير : سنيهة ، وفي الجمع سنهات. وقالوا : سانهت وأسنهت عند بني فلان ، وهي لغة الحجاز وقال الشاعر :

وليست بسنهاء ولا رجبية

ولكن عرايا في السنين الجوائح

وإن كانت الهاء للسكت ، وهو اختيار المبرد ، فلام الكلمة محذوفة للجازم ، وهي ألف منقلبة عن واو على من يجعل لام سنة المحذوف واوا. لقولهم : سنية وسنوات ، واشتق منه الفعل ، فقيل : سانيت وأسنى وأسنت. أبدل من الواو تاء ، أو تكون الألف منقلبة عن ياء مبدلة من نون ، فتكون من المسنون أي : المتغير ، وأبدلت كراهة اجتماع الأمثال ، كما قالوا : تظنى ، ويتلعى الأصل تظنن ويتلعع ، قاله أبو عمر ، وخطأه الزجاج. قال : لأن المسنون : المصبوب على سنة الطريق وصوبه. وقال النقاش : هو من قوله من ماء غير آسن ورد النحاة عليه هذا القول لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن ، لأنك لو بنيت تفعل من الأكل لقلت تأكل ، ويحتمل ما قاله النقاش على اعتقاد القلب ، وجعل فاء الكلمة مكان اللام ، وعينها مكان الفاء ، فصار : تسنأ ، وأصله تأسن ، ثم أبدلت الهمزة كما قالوا في : هدأ وقرأ واستقر ، أهدا وقرا واستقرا.

الحمار : هو الحيوان المعروف ، ويجمع في القلة على : أفعلة قالوا : أحمرة ، وفي الكثرة على : فعل ، قالوا : حمر ، وعلى : فعيل ، قالوا : حمير.

أنشر : الله الموتى ، ونشرهم ، ونشر الميت حيي قال الشاعر :

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبا للميت الناشر

وأما : أنشز ، بالزاي فمن النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض ، ومعنى : أنشز الشيء جعله ناشزا ، أي : مرتفعا ، ومنه : انشزوا فانشزوا ، وامرأة ناشز ، أي : مرتفعة عن الحالة التي كانت عليها مع الزوج.

__________________

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٣. ويس : ٣٦ / ٤٠.

٦٢٣

الطمأنينة : مصدر اطمأنّ على غير القياس : والقياس الاطمئنان ، وهو : السكون ، وطامنته أسكنته ، وطامنته فتطامن : خفضته فانخفض ، ومذهب سيبويه في اطمأن أنه مما قدّمت فيه الميم على الهمزة ، فهو من باب المقلوب ، ومذهب الجرمي : أن الأصل في اطمأن كاطأمن ، وليس من المقلوب ، والترجيح بين المذهبين مذكور في علم التصريف.

الطير : اسم جمع : كركب وسفر ، وليس بجمع خلافا لأبي الحسن.

صار : يصور قطع. وأنصار : انقطع ، وصرته أصوره : أملته ، ويقال أيضا في القطع والإمالة : صاره يصيره ، قاله أبو علي ، وقال الفراء : الضم في الصاد يحتمل الإمالة والتقطيع ، والكسر فيها لا يحتمل إلّا القطع ، وقال أيضا : صاره مقلوب صراه عن كذا ، أي : قطعه ، وقال غيره : الكسر بمعنى القطع ، والضم بمعنى الإمالة.

الجبل : معروف ويجمع في القلة على : أجبال وأجبل ، وفي الكثرة على : جبال.

الجزء : من الشيء ، القطعة منه وجزّأ الشيء جعله قطعا.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى : لما أخبر أنه ولي الذين آمنوا ، وأخبر : أن الكفار أولياؤهم الطاغوت ، ذكر هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجه ، وانه ناظر ذلك الكافر فغلبه وقطعه ، إذ كان الله وليه ، وانقطع ذلك الكافر وبهت إذ كان وليه هو الطاغوت : ألا (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (١) (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) فصارت هذه القصة مثلا للمؤمن والكافر اللذين تقدّم ذكرهما ، وتقدّم الكلام على قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) (٣) فأغنى عن إعادته.

وقرأ علي بن أبي طالب : ألم تر ، بسكون الراء ، وهو من إجراء الوصل مجرى الوقف ، والذي حاج إبراهيم : هو نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ، ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والربيع ، والسدّي ، وابن إسحاق ، وزيد بن أسلم ، وغيرهم. وقال ابن جريج : هو أول ملك في الأرض ، ورده ابن عطية. وقال قتادة : هو أول من تجبر ، وهو صاحب الصرح ببابل. قيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته ، وقال مجاهد : ملك الأرض مؤمنان : سليمان وذو القرنين ، وكافران : نمروذ وبخت نصر. وقيل : هو نمروذ بن يحاريب بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح. وقيل : نمروذ بن

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٦.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٣.

٦٢٤

فايخ بن عابر بن سايخ بن ارفخشده بن سام بن نوح. وحكى السهيلي أنه : النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح ، وكان ملكا على السودان ، وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق ، واسمه اندراوست ابن اندرشت ، وكان ملك الأقاليم كلها ، وهو الذي قتله أفريدون ابن أهبان ، وفيه يقول أبو تمام حبيب في قصيد مدح به الأفشين ، وذكر أخذه بابك الخرّمي :

بل كان كالضحاك في فتكاته

بالعالمين ، وأنت أفريدون

وهو أول من صلب وقطع الأيدي والأرجل ، وملك نمروذ أربعمائة عام فيما ذكروا : وله ابن يسمى نمروذ الأصغر ملك عاما واحدا.

ومعنى : (حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) أي : عارض حجته بمثلها ، أو : أتى على الحجة بما يبطلها ، أو : أظهر المغالبة في الحجة. ثلاثة أقوال. واختلفوا في وقت المحاجة ، فقيل : خرجوا إلى عيد لهم ، فدخل ابراهيم على أصنامهم فكسرها ، فلما رجعوا قال : أتعبدون ما تنحتون؟ فقال له : فمن تعبد؟ قال : أعبد (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وقيل : كان نمروذ يحتكر ، فإذا احتاجوا اشتروا منه الطعام ، فإذا دخلوا عليه سجدوا له ، فلما دخل إبراهيم لم يسجد له ، فقال : مالك لم تسجد لي؟ فقال : أنا لا أسجد إلا لربي! فقال له نمروذ : من ربك؟ قال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).

وفي قوله : إنه كان كلما جاء قوم قال من ربكم وإلهكم؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم وجاء ابراهيم يمتار ، فقال له : من ربك وإلهك؟ فقال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)!.

وقيل : كانت المحاجة بعد أن خرج من النار التي ألقاه فيها النمروذ ، وذكروا أنه لما لم يمره النمروذ ، مر على رمل أعفر ، فأخذ منه وأتى أهله ونام ، فوجدوه أجود طعام ، فصنعت منه وقربته له ، فقال : من أين هذا؟ قالت من الطعام الذي جئت به! فعرف أن الله رزقه ، فحمد الله.

وقيل : مرّ على رملة حمراء ، فأخذ منها ، فوجدوها حنطة حمراء ، فكان إذا زرع منها جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا.

في : ربه ، يحتمل أن يعود الضمير على ابراهيم ، وأن يعود على النمروذ ، والظاهر الأول.

٦٢٥

(أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) الظاهر أن الضمير في : آتاه ، عائد على : الذي حاج ، وهو قول الجمهور ، و : أن آتاه ، مفعول من أجله على معنيين : أحدهما : أن الحامل له على المحاجة هو ايتاؤه الملك ، أبطره وأورثه الكبر والعتوّ ، فحاج لذلك. والثاني : أنه وضع المحاجة موضع ما وجب عليه من الشكر لله تعالى على ايتائه الملك ، كما تقول : عاداني فلان لأني أحسنت إليه ، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان. ومنه : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (١) وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير : حاج وقت أن آتاه الله الملك ، فإن عنى أن ذلك على حذف مضاف ، فيمكن ذلك على أن فيه بعدا من جهة أن المحاجة لم تقع وقت أن آتاه الله الملك. إلّا أن يجوز في الوقت ، فلا يحمل على ما يقتضيه الظاهر من أنه وقت ابتداء إيتاء الله الملك له ، ألا ترى أن إيتاء الله الملك إياه سابق على الحاجة وإن عنى أن : أن والفعل ، وقعت موقع المصدر الواقع موقع ظرف الزمان؟ كقولك : جئت خفوق النجم ، ومقدم الحاج ، وصياح الديك؟ فلا يجوز ذلك ، لأن النحويين مضوا على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه ، فلا يجوز : أجىء أن يصيح الديك ، ولا جئت أن صاح الديك. وقال المهدوي : يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم : أي آتاه ملك النبوّة. قال ابن عطية : وهذا تحامل من التأويل. انتهى. وما ذكره المهدوي احتمالا هو قول المعتزلة ، قالوا : الهاء كناية عن إبراهيم لا عن الكافر الذي حاجه ، لأن الله تعالى قال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢) والملك عهد منه ، وقال تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٣) ورد قول المعتزلة بأن إبراهيم ما عرف بالملك ، وبقول الكافر : أنا أحيي وأميت ، ولو كان إبراهيم الملك لما كان يقدر على محاجته في مثل هذه الحالة ، وبأنه لما قال : أنا أحيي وأميت ، جاء برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر ، ولو لم يكن ملكا لم يقتل بين يدي إبراهيم بغير إذنه ، إذ كان إبراهيم هو الملك ، ولا يردّ على المعتزلة بهذه الأوجه ، لأن إثبات ملك النبوّة لإبراهيم لا ينافي ملك الكافر ، لأنهما ملكان : أحدهما : بفضل الشرف في الدين كالنبوّة والإمامة. والآخر : بفضل المال والقوّة والشجاعة والقهر والغلبة والاتباع. وحصول الملك للكافر بهذا المعنى يمكن ، بل هو واقع مشاهد.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ٨٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٢٤.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٥٤.

٦٢٦

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز أن يؤتي الله الملك الكافر؟

قلت : فيه قولان : آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع ، وأما التغليب والتسليط فلا ، وقيل : ملكه امتحانا لعباده. انتهى. وفيه نزعة اعتزالية ، وهو قوله : وأما التغليب والتسليط فلا ، لأنه عندهم هو الذي تغلب وتسلط ، فالتغليب والتسليط فعله لا فعل الله عندهم.

(إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) هذا من إبراهيم عن سؤال سبق من الكافر ، وهو أن قال : من ربك؟ وقد تقدّم في قصته شيء من هذا ، وإلّا فلا يبتدأ كلام بهذا.

واختص إبراهيم من آيات الله بالإحياء والإماتة لأنهما أبدع آيات الله وأشهرها ، وأدلها على تمكن القدرة ، والعامل في إذ حاجّ ، وأجاز الزمخشري أن يكون بدلا من : أن آتاه ، إذا جعل بمعنى الوقت ، وقد ذكرنا ضعف ذلك ، وأيضا فالظرفان مختلفان إذ وقت إيتاء الملك ليس وقت قوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وفي قول إبراهيم : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) تقوية لقول من قال إن الضمير في قوله : في ربه ، عائد على إبراهيم.

و (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ، مبتدأ وخبر ، وفيه إشارة إلى أنه هو الذي أوجد الكافر ويحييه ويميته ، كأنه قال : ربي الذي يحيي ويميت هو متصرّف فيك وفي أشباهك بما لا تقدر عليه أنت ولا أشباهك من هذين الوصفين العظيمين المشاهدين للعالم اللذين لا ينفع فيهما حيل الحكماء ولا طب الأطباء ، وفيه إشارة أيضا إلى المبدأ والمعاد وفي قوله : (الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) دليل على الاختصاص لأنهم قد ذكروا أن الخبر ، إذا كان بمثل هذا ، دل على الاختصاص ، فتقول : زيد الذي يصنع كذا ، أي : المختص بالصنع.

(قالَ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) لما ذكر إبراهيم أن ربه الذي يحيي ويميت عارضه الكافر بأنه يحيي ويميت ، ولم يقل : أنا الذي يحيي ويميت ، لأنه كان يدل على الاختصاص ، وكان الحس يكذبّه إذ قد حيي ناس قبل وجوده وماتوا ، وإنما أرادا أن هذا الوصف الذي ادعيت فيه الاختصاص لربك ليس كذلك ، بل أنا مشاركه في ذلك. قيل : أحضر رجلين ، قتل أحدهما وأرسل الآخر ، وقيل : أدخل أربعة نفر بيتا حتى جاعوا ، فأطعم اثنين فحييا ، وترك اثنين فماتا ، وقيل : أحيا بالمباشرة وإلقاء النطفة ، وأمات بالقتل.

وقرأ نافع بإثبات ألف : أنا إذا كان بعدها همزة مفتوحة أو مضمرة. وروى أبو نسيط

٦٢٧

إثباتها مع الهمزة المكسورة. وقرأ الباقون بحذف الألف ، وأجمعوا على إثباتها في الوقف ، وإثبات الألف وصلا ووقفا لغة بني تميم ، ولغة غيرهم حذفها في الوصل ، ولا تثبت عند غير بني تميم وصلا إلّا في ضرورة الشعر نحو قوله :

فكيف أنا وانتحالي القوافي

بعد المشيب كفى ذاك عارا

والأحسن أن تجعل قراءة نافع على لغة بني تميم. لأنه من إجراء الوصل مجرى الوقف على ما تأوّله عليه بعضهم ، قال : وهو ضعيف جدا ، وليس هذا مما يحسن الأخذ به في القرآن. انتهى. فإذا حملنا ذلك على لغة تميم كان فصيحا.

(قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) لما خيل الكافر أنه مشارك لرب إبراهيم في الوصف الذي ذكره إبراهيم ، ورأى إبراهيم من معارضته ما يدل على ضعف فهمه أو مغالطته ، فإنه عارض اللفظ بمثله ، ولم يتدبر اختلاف الوصفين ، ذكر له ما لا يمكن أن يدعيه ، ولا يغالط فيه ، واختلف المفسرون هل ذلك انتقال من دليل إلى دليل؟ أو هو دليل واحد والانتقال فيه من مثال إلى مثال أوضح منه؟ وإلى القول الأول ذهب الزمخشري. قال : وكان الاعتراض عتيدا ، ولكنّ إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه ، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء ، وهذا دليل على جواز الانتقال من حجة إلى حجة. انتهى كلامه.

ومعنى قول الزمخشري : وكان الاعتراض عتيدا : أي من إبراهيم ، لو أراد أن يعترض عليه بأن يقول له : أحي من أمتّ ، فكان يكون في ذلك نصرة الحجة الأولى ، وقد قيل : إنه قال له ذلك ، فانقطع به ، وأردفه إبراهيم بحجة ثانية ، فحاجه من وجهين ، وكان ذلك قصدا لقطع المحاجة ، لا عجزا عن نصرة الحجة الأولى ، وقيل : كان نمروذ يدعي الربوبية ، فلما قال له : (إِبْراهِيمَ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أي : الذي يفعل ذلك أنا لا من نسبت ذلك إليه ، فلما سمع ابراهيم افتراءه العظيم ، وادعاءه الباطل تمويها وتلبيسا ، اقترح عليه ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) فافحم وبان عجزه وظهر كذبه.

وقيل : لما قال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) قال له النمروذ : وأنت رأيت هذا؟ فلما لم يكن رآه مع علمه أن الله قادر عليه انتقل إلى ما هو واضح عنده وعند غيره ، وقيل : انتقل لأنهم كانوا يعظمون الشمس ، فأشار إلى أنها لله عزوجل مقهورة.

٦٢٨

وأما القول الثاني : وهو أنه ليس انتقالا من دليل إلى دليل ، بل الدليل واحد في الموضعين ، فهذا قول المحققين ، قالوا : وهو إنا نرى حدوث أشياء لا يقدر أحد على إحداثها ، فلا بد من قادر يتولى إحداثها وهو الله تعالى ولها أمثلة. منها : الإحياء والإماتة. ومنها : السحاب والرعد والبرق. ومنها : حركات الأفلاك والكواكب. والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل ، فكان ما فعله إبراهيم عليه‌السلام من باب ما يكون الدليل واحدا لا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر ، وليس من باب ما يقع الانتقال فيه من دليل إلى دليل آخر ، ولما كان إبراهيم في المقام الأول الذي سأله الكافر عن ربه حين ادّعى الكافر الربوبية ، (قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فلما انتقل إلى دليل أو مثال أوضح وأقطع للخصم ، عدل إلى الاسم الشائع عند العالم كلهم فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) قرر بذلك بأن ربه الذي يحيي ويميت هو الذي أوجدك وغيرك أيها الكافر ، ولم يقل : فإن ربي يأتي بالشمس ، ليبين أن آله العالم كلهم هو ربه الذي يعبدونه ، ولأن العالم يسلمون أنه لا يأتي بها من المشرق إلّا إلههم.

ومجيء الفاء في : فإن ، يدل على جملة محذوفة قبلها ، إذ لو كانت هي المحكية فقط لم تدخل الفاء وكأن التركيب قال إبراهيم : إن الله يأتي بالشمس ، وتقدير الجملة ، والله أعلم ؛ قال إبراهيم إن زعمت ذلك أو موهت بذلك ، فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، و : الباء ، في بالشمس للتعدية ، تقول : أتت الشمس ، وأتى بها الله ، أي أحياها ، و : من ، لابتداء الغاية.

(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) قراءة الجمهور مبنيا لما لم يسم فاعله ، والفاعل المحذوف إبراهيم إذ هو المناظر له ، فلما أتى بالحجة الدامغة بهته بذلك وحيره وغلبه ، ويحتمل أن يكون الفاعل المحذوف المصدر المفهوم من : قال ، أي : فحيره قول إبراهيم وبهته.

وقرأ ابن السميفع : فبهت ، بفتح الباء والهاء ، والظاهر أنه متعدّ كقراءة الجمهور فبهت مبنيا للمفعول أي فبهت إبراهيم الذي كفر وقيل : المعنى ، فبهت الكافر إبراهيم ، أي : سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة ، ويحتمل أن يكون لازما ويكون الذي كفر فاعلا ، والمعنى : : بهت أو أتى بالبهتان.

وقرأ أبو حيوة : فبهت ، بفتح الباء وضم الهاء. وقرىء فيما حكاه الأخفش : فبهت بكسر الهاء.

٦٢٩

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إخبار من الله تعالى بأن الظالم لا يهديه ، وظاهره العموم ، والمراد هداية خاصة ، أو ظالمون مخصوصون ، فما ذكر في الهداية الخاصة أنه لا يرشدهم في حجتهم ، وقيل : لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا إلى الجنة ، وقيل : لا يلطف بهم ولا يلهم ولا يوفق ، وخص الظالمون بمن يوافي ظالما أي كافرا.

والذي يظهر أن هذا إخبار من الله بأن من حكم عليه ، وقضى بأن يكون ظالما أي كافرا وقدّر أن لا يسلم ، فإنه لا يمكن أن يقع هداية من الله له (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (١).

ومناسبة هذه الآية بهذا الإخبار ظاهرة ، لأنه ذكر حال مدّع شركة الله في الإحياء والإماتة ، مموّها بما فعله أنه إحياء وإماتة ، ولا أحد أظلم ممن يدعي ذلك ، فأخبر الله تعالى : أن من كان بهذه الصفة من الظلم لا يهديه الله إلى اتباع الحق ، ومثل هذا محتوم له عدم الهداية ، مختوم له بالكفر ، لأن مثل هذه الدعوى ليست مما يلتبس على مدّعيها ، بل ذلك من باب الزندقة والفلسفة والسفسطة ، فمدّعيها إنما هو مكابر مخالف للعقل ، وقد منع الله هذا الكافر أن يدعي أنه هو الذي يأتي بالشمس من المشرق إذ من كابر في ادّعاء الإحياء والإماتة قد يكابر في ذلك ويدعيه. وهل المسألتان إلّا سواء في دعوى ما لا يمكن لبشر؟ ولكنّ الله تعالى جعله بهوتا دهشا متحيرا منقطعا إكراما لنبيه إبراهيم ، وإظهارا لدينه.

وقيل : إنما لم يدع أنه هو الذي يأتي بها من المشرق ، لظهور كذبه لأهل مملكته ، إذ يعلمون أنه محدث ، والشمس كانت تطلع من المشرق قبل حدوثه ، ولم يقل : أنا آتي بها من المغرب لعلمه بعجزه ، فلما رأى أنه لا مخلص له سكت وانقطع.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) قرأ الجمهور : أو ، ساكنة الواو ، قيل : ومعناها التفصيل ، وقيل : التخيير في التعجيب من حال من ينشأ منهما.

وقرأ أبو سفيان بن حسين : أو كالذي ، بفتح الواو ، وهي حرف عطف دخل عليها ألف التقرير ، والتقدير : وأ رأيت مثل الذي ؛ ومن قرأ : أو ، بحرف العطف فجمهور المفسرين أنه معطوف على قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَ) على المعنى ، إذ معنى : ألم تر

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ١٩.

٦٣٠

إلى الذي؟ أرأيت كالذي حاجّ؟ فعطف قوله : أو كالذي مر ، على هذا المعنى ، والعطف على المعنى موجود في لسان العرب قال الشاعر :

تقي نقي لم يكثر غنيمة

بنهكة ذي قربى ولا بحقلّد

المعنى في قوله : لم يكثر : ليس بمكثر : ولذلك راعى هذا المعنى فعطف عليه قوله : ولا بحقلد. وقال آخر :

أجدّك لن ترى بثعيلبات

أو لا ببيداء ناجية ذمولا

ولا متدارك والليل طفل

ببعض نواشع الوادي حمولا

المعنى : أجدّك لست برآء ، ولما راعى هذا المعنى عطف عليه قوله : ولا متدارك ، والعطف على المعنى نصوا على أنه لا ينقاس.

وقال الزمخشري ، أو كالذي : معناه أو رأيت مثل الذي؟ فحذف لدلالة : ألم تر؟ عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب. انتهى. وهو تخريج حسن ، لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على مراعاة المعنى ، وقد جوّز الزمخشري الوجه الأول.

وقيل : الكاف زائدة ، فيكون : الذي ، قد عطف على : الذي ، التقدير : ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم؟ أو الذي مرّ على قرية؟ قيل : كما زيدت في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١). وفي قوله الراجز :

فصيروا مثل كعصف مأكول

ويحتمل أن لا يكون ذلك على حذف فعل ، ولا على العطف على المعنى ، ولا على زيادة الكاف ، بل تكون الكاف اسما على ما يذهب إليه أبو الحسن ، فتكون الكاف في موضع جر ، معطوفة على الذي ، التقدير : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) أو إلى مثل (كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ومجيء الكاف اسما فاعلة ، ومبتدا ومجرورة بحرف الجر ثابت في لسان العرب ، وتأويلها بعيد ، فالأولى هذا الوجه الأخير ، وإنما عرض لهم الإشكال من حيث اعتقاد حرفية الكاف ، حملا على مشهور مذهب البصريين ، والصحيح ما ذهب إليه أبو الحسن ، ألا ترى في الفاعلية لمثل في قول الشاعر :

وإنك لم يفخر عليك كفاخر

ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب؟

__________________

(١) وردت الآية في الأصل : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*) والآية من سورة الشورى ٤٢ / ١١ ، وليس فيها : (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*) ، علما أن (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*) ترد بكثرة في آيات القرآن الكريم ولكن ليس بهذا السياق التام.

٦٣١

والكلام على الكاف يذكر في علم النحو.

والذي مر على قرية هو عزير ، قاله علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك ، والسدّي ، ومقاتل ، وسليمان بن بريدة ، وناجية بن كعب ، وسالم الخوّاص.

وقيل : أرمياء ، قاله وهب ، ومجاهد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وبكر بن مضر. وقال ابن إسحاق : هو أرمياء ، وهو الخضر ، وحكاه النقاش عن وهب.

قال ابن عطية : وهذا كما نراه إلّا أن يكون اسما وافق اسما ، لأن الخضر معاصر لموسى ، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب.

قال بعض شيوخنا ، يحتمل أن يكون الخضر بعينه ويكون من المعمرين ، فيكون أدرك زمان خراب القرية ، وهو إلى الآن باق على قول أكثر العلماء. انتهى كلامه.

وقيل : على كافر مرّ على قرية وكان على حمار ومعه سلة تين ، قاله الحسن. وقيل : رجل من بني إسرائيل غير مسمى ، قاله مجاهد فيما حكاه مكي. وقيل : غلام لوط عليه‌السلام ، وقيل : شعياء.

والذي أحياها بعد خرابها : لوسك الفارسي ، حكاه السهيلي عن القتيبي.

والقرية : بيت المقدس ، قاله وهب ، وقتادة ، والضحاك ، وعكرمة ، والربيع. أو : قرية العنب ، وهي على فرسخين من بيت المقدس ، أو : الأرض المقدسة ، قاله الضحاك ، أو : المؤتفكة ، قاله قوم ، أو : القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت ، قاله ابن زيد ، أو : دير هرقل ، قاله ابن عباس. أو : شابور أباد ، قاله الكلبي ، أو : سلماياذ ، قاله السدّي.

(وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) قيل : المعنى خاوية من أهلها ثابتة على عروشها ، فالبيوت قائمة. وقال السّدي. ساقطة متهدّمة جدرانها على سقوفها بعد سقوط السقوف ، وقيل : على ، بمعنى : مع ، أي : مع أبنيتها ، والعروش على هذه الأبنية.

وهذه الجملة في موضع الحال من الفاعل الذي في : مر ، أو : من قرية ، والحال من النكرة إذا تأخرت تقل ، وقيل : الجملة في موضع الصفة للقرية ، ويبعد هذا القول الواو ، و : على ، متعلقة بمحذوف إذا كان المعنى : خاوية من أهلها ، أي : مستقرة على عروشها ، أو : بخاوية إذا كان المعنى ساقطة. وقيل : على عروشها بدل من قوله : قرية ، أي : مر على

٦٣٢

عروشها ، وقيل : في موضع الصفة لقرية ، أي : مر على قرية كائنة على عروشها وهي خاوية.

(قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) قيل : لما خرّب بخت نصر البابلي بيت المقدس ، حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث ، وقف أرمياء ، أو عزير ، على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس ، لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل ، فقال هذا الكلام.

قال الزمخشري : والمارّ كان كافرا بالبعث وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك ، ولكلمة الاستبعاد التي هي : أنّى يحيي ، وقيل : عزير ، أو : الخضر ، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم. انتهى.

وقال أبو علي : لا يجوز أن يكون نبيا لأن مثل هذا الشك لا يقع للأنبياء. والإحياء والإماتة هنا مجازان ، عبر بالإحياء عن العمارة ، وبالموت عن الخراب. وقيل : حقيقتان فيكون ثم مضاف محذوف تقديره : أنّى يحيي أهل هذه القرية ، أو يكون هذه إشارة إلى ما دل عليه المعنى من عظام أهلها البالية ، وجثثهم المتمزقة ، وأوصالهم المتفرقة ، فعلى القول بالمجاز يكون قوله : أنّى يحيي على سبيل التلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته ، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه ، وعلى القول الثاني يكون قوله : أنّى يحيي اعترافا بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء واستعظاما لقدرة المحيي ، وليس ذلك على سبيل الشك. وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه.

(فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أي أحياه وجعل له الحركة والانتقال. قيل : لما مر سبعون سنة من موته ، وقد منعه من السباع والطير ، ومنع العيون أن تراه ، أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له لوسك ، فقال له : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك ؛ فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أحسن ما كانت ، فانتدب الملك قيل ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل ، وجعلوا يعمرونها ، وأهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل وردّهم إلى بيت المقدس ونواحيه فعمروها ثلاثين سنة ، وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه.

(قالَ كَمْ لَبِثْتَ). الظاهر أن القائل هو الله تعالى لقوله : (كَيْفَ نُنْشِزُها) وقيل :

٦٣٣

هاتف من السماء ، وقيل : جبريل ، وقيل : نبي ، وقيل : رجل مؤمن شاهده حين مات وعمر إلى حين إحيائه.

وعلى اختيار الزمخشري لم يكن بعد البعث كافرا ، فلذلك ساغ أن يكلمه الله. انتهى. ولا نص في الآية على أن الله كلّمه شفاها.

و : كم ، ظرف ، أي : كم مدّة لبثت؟ أي : لبثت ميتا وهو سؤال على سبيل التقرير. (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قال ابن جريج ، وقتادة ، والربيع : أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قبل الغروب بعد مائة سنة ، فقال : قبل النظر إلى الشمس : يوما ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : أو بعض يوم ، فكان قوله : يوما على سبيل الظّن ، ثم لما تحقق أنه لم يكمل اليوم ، قال ؛ أو بعض يوم.

والأولى أن لا تكون ، أو ، هنا للترديد ، بل تكون للإضراب ، كأنه قال : بل بعض يوم ، لما لاحت له الشمس أضرب عن الإخبار الأول الذي كان على طريق الظنّ ، ثم أخبر بالثاني على طريق التيقن عنده.

وفي قوله : أو بعض يوم ، دليل على أنه يطلق لفظ بعض على أكثر الشيء.

(قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) بل ، لعطف هذه الجملة على الجملة محذوفة التقدير ، قال : ما لبثت هذه المدة بل : لبثت مائة عام.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم بإظهار التاء في : لبثت وقرأ الباقون بالإدغام ، وذلك في جميع القرآن.

وذكر تعيين المدة هنا في قوله : بل لبثت مائة عام ، ولم يذكر تعيينها في قوله : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (١) وإن اشتركوا في جواب : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) (٢) لأن المبعوث في البقرة واحد فانحصرت مدّة إماتة الله إياه ، وأولئك متفاوتو اللبث تحت الأرض نحو من مات في أول الدنيا ، ومن مات في آخرها ، فلم ينحصروا تحت عدد مخصوص ، فلذلك أدرجوا تحت قوله : إلّا قليلا ، لأن مدة الحياة الدنيا بالنسبة إلى حياة الآخرة قليلة ، والله تعالى محيط علمه بمدة لبث كل واحد واحد ، فلو ذكر مدة كل واحد واحد لاحتيج في عدة ذلك إلى أسفار كثيرة.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١١٤.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ١٩ والمؤمنون : ٢٣ / ١١٣.

٦٣٤

(فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) في قصة عزير أنه لما نجا من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة ، فطاف في القرية فلم ير فيها أحدا ، وعامة شجرها حامل ، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه ، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العنب في زق ، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال : أنى يحيي؟ على سبيل التعجب ، لا شكا في البعث ، وقيل : كان شرابه لبنا. قيل : وجد التين والعنب كما تركه جنيا ، والشراب على حاله.

وقرأ حمزة ، والكسائي بحذف الهاء في الوصل على أنها هاء السكت ، وقرأ باقي السبعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف ، والأظهر أن تكون الهاء أصلية ، ويحتمل أن يكون ذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقد تقدّم الكلام على هذه اللفظة في الكلام على المفردات ، وقرأ أبيّ : لم يسنه ، بإدغام التاء في السين ، كما قرىء : لا يسمعون ، والأصل : لا يتسمعون ، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره : لمائة سنة ، مكان : لم يتسنه. وقرأ عبد الله : وهذا شرابك لم يتسنه ، والضمير في : يتسنه مفرد ، فيحتمل أن يكون عائدا على الشراب خاصة ، ويكون قد حذف مثل هذه الجملة الحالية من الطعام لدلالة ما بعده عليه ، ويحتمل أن يكون الطعام والشراب أفرد ضميرهما لكونهما متلازمين ، فعوملا معاملة المفرد ، أو لكونهما في معنى الغذاء ، فكأنه قيل : وانظر إلى غذائك لم يتسنه وقال الشاعر في المتلازمين :

وكأن في العينين حب قرنفل

أو سنبلا كحلت به فانهلّت

والجملة من قوله : لم يتسنه ، في موضع الحال ، وهي منفية : بلم ، وزعم بعض أصحابنا أن إثبات الواو في الجملة المنفية بلم هو المختار ، كما قال الشاعر :

بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم

ولم تكثر القتلى بها حين سلّت

وزعم بعضهم أنه إذا كان منفيا فالأولى أن ينفى : بلما ، نحو : جاء زيد ولما يضحك ، قال : وقد تكون منفية : بلم وما ، نحو : قام زيد ولم يضحك ، أو : ما يضحك ، وذلك قليل جدا. انتهى كلامه. وليس إثبات : الواو ، مع : لم ، أحسن من عدمها ، بل يجوز إثباتها وحذفها فصيحا ، وقد جاء ذلك في القرآن في مواضع ، قال تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) (١) وقال تعالى : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) (٢) ومن قال :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٤.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٩٣.

٦٣٥

إن النفي بلم قليل جدّا فغير مصيب ، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في باب : الحال ، في (منهج السالك على شرح ألفية ابن مالك) من تأليفنا.

(وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) قيل : لما مضت المائة أحيا الله منه عينيه ، وسائر جسده ميت ، ثم أحيا جسده وهو ينظر. ثم نظر إلى حماره ، فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح ، فسمع صوتا من السماء : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فاجتمع بعضها على بعض ، واتصلت ، ثم نودي : إن الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا ، فكان كذلك. وروي أنه حين أحياه الله نهق ، وقيل : ردّ الله الحياة في عينيه وأخر جسده ميتا ، فنظر إلى إيلياء وما حولها وهي تعمر وتجدّد ، ثم نظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير ، نظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب أحياه الله له وهو يرى ، ونظر إلى الجبل وهو لم يتغير وقد أتى عليه ريح مائة عام ومطرها وشمسها وبردها. وقال وهب ، والضحاك : وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة.

قال الزمخشري : وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء ، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير.

(وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) قيل : الواو ، مقحمة أي : لنجعلك آية ، وقيل : تتعلق اللام بفعل محذوف مقدر تقديره أي : أريناك ذلك لتعلم قدرتنا ، ولنجعلك آية للناس. وقيل : بفعل محذوف مقدر تأخيره ، أي : ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك ، يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه. وقال الأعمش : كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات ، فوجد الحفدة والأبناء شيوخا. وقال عكرمة : جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات ، ووجد بنيه قد ينوفون على مائة سنة ، وقيل : كونه آية هو أنه جاء وقد هلك كل من يعرف ، وكان آية لمن كان حيا من قومه ، إذ كانوا موقنين بحاله سماعا ، وقيل : أتى قومه راكبا حماره ، وقال : أنا عزير ، فكذبوه ، فقال : هاتوا التوراة ، فأخذ يهذهذ عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب ، فما خرم حرفا ، فقالوا هو : ابن الله. ولم يقرأ التوراة ظاهرا أحد قبل عزير ، فذلك كونه آية. وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه أعظم آية ، وأمره كله آية للناس غابر الدهر لا يحتاج إلى تخصيص بعض دون بعض.

والألف واللام في : للناس ، للعهد إن غنى به من بقي من قومه ، أو من كان في عصره. أو للجنس إذ هو آية لمن عاصره ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة.

٦٣٦

(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) يعني ، بالعظام عظام نفسه ، قاله قتادة ، والضحاك ، والربيع ، وابن زيد. أو : عظام حماره ، أو عظامهما. زاد الزمخشري : أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ، وهذا فيه بعد ، لأنهم لم يحيوا له في الدنيا ، ولا يمكن أن يكون يقال له في الآخرة (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) وإنما هذا قيل له في الدنيا ، فلا يمكن حمله إلّا على عظامه ، أو عظام حماره ، أو عظامهما. والأظهر أن يراد عظام الحمار ، والتقدير : إلى العظام منه ، أو ، على رأى الكوفيين ، أن الألف واللام عوض من الضمير ، أي : إلى عظامه ، لأنه قد أخبر أنه بعثه ، ثم أخبر بمحاورته تعالى له في السؤال عن مقدار ما أقام ميتا ، ثم أعقب الأمر بالنظر بالفاء ، فدل على أن إحياءه تقدم على المحاورة وعلى الأمر بالنظر.

وقرأ الحرميان وأبو عمرو : ننشرها ، بضم النون والراء المهملة ، وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وأبو حيوة ، وأبان عن عاصم : بفتح النون والراء المهملة ، وهما من أنشر ونشر بمعنى : أحيا. ويحتمل نشر أن يكون ضد الطي ، كأن الموت طي العظام والأعضاء ، وكأن جمع بعضها إلى بعض نشز وقرأ باقي السبعة : ننشزها ، بضم النون والزاي المعجمة. وقرأ النخعي : بفتح النون ، وضم الشين والزاي ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقتادة ، قاله ابن عطية. وقال السجاوندي ، عن النخعي أنه قرأ بفتح الياء وضمها مع الراء والزاي.

ومعنى : ننشزها ، بالزاي : نحركها ، أو نرفع بعضها إلى بعض للتركيب للإحياء ، يقال : نشز وأنشزته. قال ابن عطية : وتعلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض ، وإنما النشوز الارتفاع قليلا ، فكأنه وقف على نبات العظام الرفاة ، وخرج ما يوجد منها عند الاختراع. وقال النقاشي : ننشزها معناه ننبتها ، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت لك ، ومن ذلك : نشز ناب البعير ، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك ، ونشزت المرأة ، كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها ، وأنشزوا فأنشزوا أي ارتفعوا شيئا فشيئا كنشوز الناب ، فبذلك تكون التوسعة ، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع. ويبعد في الاستعمال لمن ارتفع في حائط أو غرفة : نشز. انتهى كلامه.

وقرأ أبيّ : كيف ننشيها ، بالياء أي نخلقها. وقال بعضهم : العظام لا تحيى على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض ، فالزاي أولى بهذا المعنى ، إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء ، فالموصوف بالإحياء الرجل دون العظام. ولا يقال : هذا عظم حي.

٦٣٧

فالمعنى : وانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء. انتهى.

والقراءة بالراء متوترة ، فلا تكون قراءة الزاي أولى.

و : كيف ، منصوبة بننشزها نصب الأحوال ، وذو الحال مفعول ننشرها ، ولا يجوز أن يعمل فيها : انظر ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وأعربوا : كيف ننشرها ، حالا من العظام ، تقديره : وانظر إلى العظام محياة ، وهذا ليس بشيء ، لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا ، وإنما تقع حالا : كيف ، وحدها نحو : كيف ضربت زيدا؟ ولذلك تقول : قائما أم قاعدا؟ فتبدل منها الحال.

والذي يقتضيه النظر أن هذه الجملة في موضع البدل من العظام ، وذلك أن : انظر ، البصرية تتعدى بإلى ، ويجوز فيها التعليق ، فتقول : انظر كيف يصنع زيد ، قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) فتكون هذه الجملة في موضع نصب على المفعول : بالنظر ، لأن ما يتعدّى بحرف الجر ، إذا علق ، صار يتعدى لمفعول ، تقول : فكرت في أمر زيد ، ثم تقول : فكرت هل يجيء زيد؟ فيكون : هل يجيء زيد ، في موضع نصب على المفعول بفكرت ، فكيف ، ننشزها بدل من العظام على الموضع ، لأن موضعه نصب ، وهو على حذف مضاف أي : فانظر إلى حال العظام كيف ننشزها ، ونظير ذلك قول العرب : عرفت زيدا أبو من هو. على أحد الأوجه. فالجملة من قولك : أبو من هو في موضع البدل من قوله زيدا مفعول عرفت ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : عرفت قصة زيد أبو من. وليس الاستفهام في باب التعليق مرادا به معناه ، بل هذا من المواضع التي جرت في لسان العرب مغلبا عليها أحكام اللفظ دون المعنى ، ونظير ذلك : أيّ ، في باب الاختصاص. في نحو قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة غلب عليها أكثر أحكام النداء وليس المعنى على النداء ، وقد تقدّم من قولنا ، إن كلام العرب على ثلاثة أقسام : قسم يكون فيه اللفظ مطابقا للمعنى ، وهو أكثر كلام العرب. وقسم يغلب فيه أحكام اللفظ كهذا الاستفهام الواقع في التعليق ، والواقع في التسوية. وقسم يغلب فيه أحكام المعنى نحو : أقائم الزيدان. وقد أمعنا الكلام على مسألة الاستفهام الواقع في التعليق في كتابنا الكبير المسمى (بالتذكرة) وهي إحدى المسائل التي سألني عنها قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٢١.

٦٣٨

القشيري ، عرف بابن دقيق العيد ؛ وسألني أن أكتب له فيها ، وكان سؤاله في قوله عليه‌السلام : «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده».

(ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) الكسوة حقيقة هي ما وارى الجسد من الثياب ، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى به العظم. كقوله : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) (١) وهي استعارة في غاية الحسن ، إذ هي استعارة عين لعين ، وقد جاءت الاستعارة في المعنى للجرم. قال النابغة :

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي

حتى اكتسيت من الإسلام سربالا

وروي أنه كان يشاهد اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ : أن قول الله له كان بعد تمام بعثه ، لا أن القول كان بعد إحياء بعضه.

والتعقيب بالفاء في قوله : فانظر إلى آخره ، يدل على أن العظام لا يراد بها عظام نفسه ، وتقدّم ذكر شيء من هذا ، إلّا إن كان وضع : ننشرها ، مكان : أنشرتها ، و : نكسوها ، مكان : كسوتها ، فيحتمل. وتكرر الأمر بالنظر إلى الطعام والشراب في الثلاث الخوارق ، ولم ينسق نسق المفردات ، لأن كل واحد منها خارق عظيم ، ومعجز بالغ ، وبدأ أولا بالنظر إلى العظام والشراب حيث لم يتغيرا على طول هذه المدة ، لأن ذلك أبلغ ، إذ هما من الأشياء التي يتسارع إليها الفساد ، إذ ما قام به الحياة وهو الحمار يمكن بقاؤه الزمان الطويل ، ويمكن أن يحتش بنفسه ويأكل ويرد المياه. كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ضالة الإبل : «معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها». ولما أمر بالنظر إلى الطعام والشراب ، وبالنظر إلى الحمار ، وهذه الأشياء هي التي كانت صحبته ، وقال تعالى : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي فعلنا ذلك : ولما كان قوله : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كالمجمل ، بين له جهة النظر بالنسبة إلى الحمار ، فجاء النظر الثالث توضيحا للنظر الثاني ، من أي جهة ينظر إلى الحمار ، وهي جهة إحيائه وارتفاع عظامه شيئا فشيئا عند التركيب وكسوتها اللحم ، فليس نظرا مستقلا ، بل هو من تمام النظر الثاني ، فلذلك حسن الفصل بين النظرين بقوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ).

وليس في الكلام تقديم وتأخير كما زعم بعضهم ، وأن الأنظار منسوق بعضها على بعض ، وأن قوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) إلخ هو مقدّم في اللفظ ، مؤخر في الرتبة.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٤.

٦٣٩

وفي هذه الآية أقوى دليل على البعث إذ وقعت الإماتة والإحياء في دار الدنيا مشاهدة.

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قرأ الجمهور : تبين ، مبنيا للفاعل ، وقرأ ابن عباس : تبين له ، مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله. وقرأ ابن السميفع : بين له ، بغير تاء مبنيا لما لم يسم فاعله ، فعلى قراءة الجمهور الظاهر أن تبين فعل لازم والفاعل مضمر يدل عليه المعنى ، وقدره الزمخشري : فلما تبين له ما أشكل عليه ، يعني أمر إحياء الموتى ، وينبغي أن يحمل على أنه تفسير معنى ؛ وتفسير الإعراب أن يقدر مضمرا يعود على كيفية الإحياء التي استغربها بعد الموت. وقال الطبري : لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل إعادته. قال ابن عطية : وهذا خطأ ، لأنه ألزم ما لا يقتضيه ، وفسر على القول الشاذ ، والاحتمال الضعيف ما حكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء ، ولذلك ضرب له المثل في نفسه. انتهى.

وقال الزمخشري وبدأ به ما نصه : وفاعل تبين مضمر تقديره : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير ، قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قولهم : ضربني وضربت زيدا. انتهى كلامه. فجعل ذلك من باب الإعمال ، وهذا ليس من باب الإعمال ، لأنهم نصوا على أن العاملين في هذا الباب لا بد أن يشتركا ، وأدّى ذلك بحرف العطف حتى لا يكون الفصل معتبرا ، ويكون العامل الثاني معمولا للأول ، وذلك نحو قولك : جاءني يضحك زيد. فجعل في جاءني ضميرا أو في يضحك ، حتى لا يكون هذا الفعل فاصلا ، ولا يرد على هذا جعلهم (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (١) ولا (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (٢) ولا (تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) (٣) ولا (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (٤) من الإعمال لأن هذه العوامل مشتركة بوجه ما من وجوه الاشتراك ، ولم يحصل الاشتراك في العطف ولا العمل ، ولتقرير هذا بحث يذكر في النحو. فإذا كان على ما نصوا فليس العامل الثاني مشتركا بينه وبين : تبين ، الذي هو العامل الأول بحرف عطف ، ولا بغيره ، ولا هو معمول : لتبين ، بل هو معمول : لقال ، وقال جواب ، لما أن قلنا : إنها حرف وعاملة في ، لما أن قلنا إنها ظرف ، و : تبين ، على هذا

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٩٦.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ١٩.

(٣) سورة المنافقون : ٦٣ / ٥.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٧٦.

٦٤٠