البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

القول في موضع خفض بالظرف ، ولم يذكر النحويون في مثل هذا الباب : لو جاء قتلت زيدا ، ولا : متى جاء قتلت زيدا ، ولا : إذا جاء ضربت خالدا. ولذلك حكى النحويون أن العرب لا تقول : أكرمت أهنت زيدا.

وقد ناقض الزمخشري في قوله : فإنه قال : وفاعل تبين مضمر ، ثم قدره ، فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أعلم ... إلى آخره ، قال : فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، كما في قولهم : ضربني وضربت زيدا ، والحذف ينافي الإضمار للفاعل ، وهذا عند البصريين إضمار يفسره ما بعده ، ولا يجيز البصريون في مثل هذا الباب حذف الفاعل أصلا ، فإن كان أراد بالإضمار الحذف فقد خرج إلى قول الكسائي من أن الفاعل في هذا الباب لا يضمر ، لأنه يؤدي إلى الإضمار قبل الذكر ، بل يحذف عنده الفاعل ، والسماع يرد عليه. قال الشاعر :

هويتني وهويت الخرد العربا

أزمان كنت منوطا بي هوى وصبا

وأما على قراءة ابن عباس فالجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأما في قراءة ابن السميفع فهو مضمر : أي : بين له هو ، أي : كيفية الإحياء.

وقرأ الجمهور : قال ، مبنيا للفاعل ، على قراءة جمهور السبعة : أعلم ، مضارعا ضميره يعود على المارّ ، وقال ذلك على سبيل الاعتبار ، كما أن الإنسان إذا رأى شيئا غريبا قال : لا إله إلا الله.

وقال أبو علي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته ، يعني يعلم عيانا ما كان يعلمه غيبا. وأما على قراءة أبي رجاء ، وحمزة ، والكسائي اعلم ، فعل أمر من علم ، فالفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، أو على الملك القائل له عن الله ، ويناسب هذا الوجه الأوامر السابقة من قوله : وانظر ، فقال له : اعلم ، ويؤيده قراءة عبد الله والأعمش : قيل ، اعلم ، فبنى : قيل ، لما لم يسم فاعله ، والمفعول الذي لم يسم فاعله ضمير القول لا الجملة ، وقد تقدّم الكلام على ذلك أول هذه السورة مشبعا فأغنى عن إعادته هنا.

وجوّزوا أن يكون الفاعل ضمير المار ، ويكون نزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي ، كأنه قال لنفسه : اعلم ، ومنه : ودّع هريرة ، وألم تغتمض عيناك ، وتطاول ليلك ، وإنما يخاطب نفسه ، نزلها منزلة الأجنبي.

وروى الجعبي عن أبي بكر قال : أعلم ، أمرا من أعلم ، فالفاعل بقال يظهر أنه ضمير

٦٤١

يعود على الله ، أمره أن يعلم غيره بما شاهد من قدرة الله ، وعلى ما جوّزوا في : اعلم الأمر ، من علم يجوز أن يكون الفاعل ضمير المار.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) مناسبة هذة الآية لما قبلها في غاية الظهور ، إذ كلاهما أتى بها دلالة على البعث المنسوب إلى الله تعالى ، في قول إبراهيم لنمروذ (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) لكن المار على القرية أراه الله ذلك في نفسه وفي حماره ، وإبراهيم أراه ذلك في غيره ، وقدّمت آية المار على آية إبراهيم ، وإن كان إبراهيم مقدّما في الزمان على المار ، لأنه تعجب من الإحياء بعد الموت ، وإن كان تعجب اعتبار فأشبه الإنكار ، وإن لم يكن إنكارا فكان أقرب إلى قصة النمروذ وإبراهيم ، وأما إن كان المار كافرا فظهرت المناسبة أقوى ظهور. وأما قصة إبراهيم فهي سؤال لكيفية إراءة الإحياء ، ليشاهد عيانا ما كان يعلمه بالقلب ، وأخبر به نمروذ.

والعامل في : إذ ، على ما قالوا محذوف ، تقديره : واذكر إذ قال ، وقيل : العامل مذكور وهو : ألم تر ، المعنى : ألم تر إذ قال ، وهو مفعول : بتر. والذي يظهر أن العامل في : إذ ، قوله (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) كما قررنا ذلك في قوله (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) (١) وفي افتتاح السؤال بقوله : رب ، حسن استلطاف واستعطاف للسؤال ، وليناسب قوله لنمروذ (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) لأن الرب هو الناظر في حاله ، والمصلح لأمره ، وحذفت ياء الإضافة اجتزاء بالكسرة ، وهي اللغة الفصحى في نداء المضاف لياء المتكلم ، وحذف حرف النداء للدّلالة عليه. و : أرني ، سؤال رغبة ، وهو معمول : لقال ، والرؤية هنا بصيرية ، دخلت على رأى همزة النقل ، فتعدّت لاثنين : أحدهما ياء المتكلم ، والآخر الجملة الاستفهامية. فقوله : (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) في موضع نصب ، وتعلق العرب رأى البصرية من كلامهم ، أما ترى ، أيّ برق هاهنا. كما علقت : نظر ، البصرية. وقد تقرر.

وعلم أن الأنبياء ، عليهم‌السلام ، معصومون من الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة إجماعا ، قاله ابن عطية ، والذي اخترناه أنهم معصومون من الكبائر والصغائر على الإطلاق ، وإذا كان كذلك ، فقد تكلم بعض المفسرين هنا في حق من سأل الرؤية هنا بكلام ضربنا عن ذكره صفحا ، ونقول : ألفاظ الآية لا تدل على عروض شيء يشين المعتقد ، لأن ذلك سؤال أن يريه عيانا كيفية إحياء الموتى ، لأنه لما علم ذلك بقلبه وتيقنه ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

٦٤٢

واستدل به على نمروذ في قوله (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) طلب من الله تعالى رؤية ذلك ، لما في معاينة ذلك من رؤية اجتماع الأجزاء المتلاشية ، والأعضاء المتبدّدة ، والصور المضمحلة ، واستعظام باهر قدرته تعالى. والسؤال عن الكيفية يقتضي تيقن ما سأل عنه : وهو الإحياء ، وتقرره ، والإيمان به ، وأنه مما انطوى الضمير على اعتقاده. وأما ما ذكره الماوردي عن بعض أهل المعاني : أن إبراهيم سأل من ربه كيف يحيي القلوب ، فتأويل ليس بشيء قالوا وفي سبب سؤاله أقوال أحدها : أنه رأى دابة قد توزعتها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر ، قاله ابن زيد. أو : الفكر في الحقيقة والمجاز لما قاله نمروذ : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) قاله ابن إسحاق ، أو : التجربة للخلة من الله إذ بشر بها ، لأن الخليل يدل بما لا يدل غيره ، قاله ابن جبير.

(قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) الضمير في : قال ، عائد على الرب ، والهمزة للتقرير ، كقوله :

ألستم خير من ركب المطايا؟

وقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) المعنى : أنتم خير ، وقد شرحنا لك صدرك ، وكذلك هذا معناه : قد آمنت بالإحياء. قال ابن عطية. إيمانا مطلقا دخل فيه فعل إحياء الموتى ، والواو : واو حال ، دخلت عليها ألف التقرير. انتهى كلامه. وكون الواو هنا للحال غير واضح ، لأنها إذا كانت للحال فلابد أن يكون في موضع نصب ، وإذ ذاك لا بد لها من عامل ، فلا تكون الهمزة للتقرير دخلت على هذه الجملة الحالية ، إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها وعلى ذي الحال ، ويصير التقدير : أسألت ولم تؤمن؟ أي : أسألت في هذه الحال؟.

والذي يظهر أن التقرير إنما هو منسحب على الجملة المنفية ، وأن : الواو ، للعطف ، كما قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) (٢) ونحوه. واعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدّمت. وقد تقدّم لنا الكلام في هذا ، ولذلك كان الجواب : ببلى ، في قوله (قالَ : بَلى) وقد تقرر في علم النحو أن جواب التقرير المثبت ، وإن كان بصورة النفي ، تجريه العرب مجرى جواب النفي المحض ، فتجيبه على صورة النفي ، ولا يلتفت إلى معنى الإثبات ، وهذا مما قررناه ، أن في كلام العرب ما يلحظ في اللفظ دون المعنى ، ولذلك علة ذكرت في علم النحو ، وعلى ما قاله ابن عطية من أن : الواو ، للحال لا يتأتى أن يجاب العامل في الحال

__________________

(١) سورة الشرح : ٩٤ / ١.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٦٧.

٦٤٣

بقوله : بلى ، لأن ذلك الفعل مثبت مستفهم عنه ، فالجواب إنما يكون في التصديق : بنعم ، وفي غير التصديق : بلا ، أما أن يجاب : ببلى ، فلا يجوز ، وهذا على ما تقرر في علم النحو.

(قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قال : أو لم تؤمن ، وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا؟.

قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين ، و : بلى ، إيجاب لما بعد النفي ، معناه : بلى آمنت ، ولكن ليطمئن قلبي ، ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامّة علم الضرورة علم الاستدلال. وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب ، وأزيد للبصيرة واليقين ، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك ، بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. انتهى كلامه. وليس علم الاستدلال يجوز معه التشكيك كما قال ، بل منه ما يجوز معه التشكيك. أما إذا كان عن مقدمات صحيحة فلا يجوز معه التشكيك ، كعلمنا بحدوث العالم ، وبوحدانية الموجد ، فمثل هذا لا يجوز معه التشكيك.

وقال ابن عطية : ليطمئن ، معناه : ليسكن عن فكره في الشيء المعتقد ، والفكر في صورة الإحياء غير محظور ، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، بل هي فكر فيها عبر ، إذ حركه إلى ذلك ، أما أمر الدابة المأكولة ، وأما قول النمروذ (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). انتهى كلامه. وهو حسن.

واللام في قوله : ليطمئن ، متعلقة بمحذوف بعد لكن ، التقدير : ولكن سألت مشاهدة الكيفية لإحياء الموتى ليطمئن قلبي ، فيقتضي تقدير هذا المحذوف تقدير محذوف آخر قبل لكن حتى يصح الاستدراك ، التقدير : قال : بلى أي آمنت ، وما سألت عن غير إيمان ، ولكن سألت ليطمئن قلبي.

وروي عن : ابن جبير ، وإبراهيم ، وقتادة : ليزداد يقينا ، وعن بعضهم : لأزداد إيمانا مع إيماني. قال ابن عطية : ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلّا السكون عن الفكر ، وإلّا فاليقين لا يتبعض. انتهى.

وقال النصرآباذي : حنّ الخليل إلى صنع خليله ولم يتهمه في أمره ، فكأنه قوّله الشوق : أرني ، كما قال موسى عليه‌السلام ، ثم تعلل برؤية الصنع له تأدبا. وحكى القشيري أنه قيل : استجلب خطابا بهذه المقالة ، حتى قال له الحق : أو لم تؤمن؟ قال : بلى

٦٤٤

آمنت ، ولكن اشتقت إلى قولك : أو لم تؤمن؟ فإني بقولك : أو لم تؤمن؟ يطمئن قلبي والمحب أبدا يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه.

(قالَ : فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) لما سأل رؤية كيفية إحياء الموتى أجابه تعالى لذلك ، وعلمه كيف يصنع أولا ، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير ، ولم يذكر الله تعالى تعيين الأربعة من أي جنس هي من الطير ، فيحتمل أن يكون المأمور به معينا ، وما ذكر تعيينه ، ويحتمل أن يكون أمر بأخذ أربعة ، أي أربعة كانت من غير تعيين ، إذ لا كبير علم فى ذكر التعيين.

وقد اختلفوا فيما أخذ ، فقال ابن عباس : أخذ طاووسا ونسرا وديكا وغرابا. وقال مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وابن جريج ، وابن زيد : كذلك ، إلّا أنهم جعلوا حمامة بدل النسر. وقال ابن عباس أيضا ، فيما روى عبد الرحمن بن هبيرة عنه : أخذ حمامة وكركيا وديكا وطاووسا. وقال في رواية الضحاك : أخذ طاووسا وديكا ودجاجة سندية وأوزة. وقال في رواية أخرى عن الضحاك : أنه مكان الدجاجة السندية : الرأل ، وهو فرخ النعام. وقال مجاهد فيما روى ليث : ديك وحمامة وبطة وطاووس. وقال : ديك وحمامة وبطة وغراب.

وزاد عطاء الخراساني وصفا في هذه الأربعة فقال : ديك أحمر ، وحمامة بيضاء ، وبطة خضراء ، وغراب أسود.

وقال أبو عبد الله : طاووس وحمامة وديك وهدهد ، ولما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى ، وكان لفظ الموتى جمعا ، أجيب بأن يأخذ ما مدلوله جمع ، لا أن يأخذ واحدا. قيل : وخص هذا العدد بعينه إشارة إلى الأركان الأربعة التي في تركيب أبدان الحيوانات والنباتات ، وكانت من الطير ، قيل لأن الطير همته الطيران في السماء والارتفاع ، والخليل عليه‌السلام كانت همته العلوّ والوصول إلى الملكوت ، فجعلت معجزته مشاكلة لهمته ، وعلى القول الأول في تعيين الأربعة بما عين قيل : خص الطاووس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع ، والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل وطول الأمل ، والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء شهوة النكاح ، والغراب إشارة إلى شدة الحرص والطلب. وما أبدوه في تخصيص الأربعة وفي تعيينها لا تكاد تظهر حكمته فيما ذكروه ، وما أجراه الله تعالى لأنبيائه من الخوارق مختلف ، وحكمة اختصاص كل نبي بما أجرى الله له منها مغيبة عنا. ألا ترى خرق العادة لموسى في أشياء ، ولعيسى في أشياء غيرها ، ولرسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم في أشياء لا يظهر لنا سر الحكمة في ذلك؟ فكذلك كون هذه الأربعة من الطير ، لا يظهر لنا سر حكمته في ذلك.

٦٤٥

وأمره بالأخذ للطيور وهو : إمساكها بيده ليكون أثبت في المعرفة بكيفية الإحياء ، لأنه يجتمع عليه حاسة الرؤية ، وحاسة اللمس.

والطير اسم جمع لما لا يعقل ، يجوز تذكيره وتأنيثه ، وهنا أتى مذكرا لقوله تعالى (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) وجاء على الأفصح في اسم الجمع في العدد حيث فصل : بمن ، فقيل : أربعة من الطير يجوز الإضافة ، كما قال تعالى : (تِسْعَةُ رَهْطٍ) (١) ونص بعض أصحابنا على أن الإضافة لاسم الجمع في العدد نادرة لا يقاس عليها ، ونص بعضهم على أن اسم الجمع لما لا يعقل مؤنث ، وكلا القولين غير صواب.

(فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي قطعهنّ ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن إسحاق. وقال ابن عباس : هي بالنبطية. وقال أبو الأسود : هي بالسريانية ، وقال أبو عبيدة : قطعهنّ. وأنشد للخنساء :

فلو يلاقي الذي لاقيته حضن

لظلت الشم منه وهي تنصار

أي تتقطع. وقال قتادة : فصلهنّ ، وعنه : مزقهنّ وفرقهنّ. وقال عطاء بن أبي رباح : اضممهنّ إليك. وقال ابن زيد : إجمعهنّ. وقال ابن عباس أيضا ، أوثقهنّ. وقال الضحاك : شققهنّ ، بالنبطية. وقال الكسائي : أملهنّ.

وإذا كان : فصرهنّ ، بمعنى الإمالة فتتعلق إليك به ، وإذا كان بمعنى التقطيع تعلق بخذ.

وقرأ حمزة ، ويزيد ، وخلف ، ورويس ، بكسر الصاد ، وباقي السبعة بالضم. وهما لغتان ، كما تقدّم : صار يصور ويصير ، بمعنى أمال. وقرأ ابن عباس وقوم : فصرهنّ ، بتشديد الراء وضم الصاد وكسرها من صرّه يصرّه ويصرّه ، إذا جمعه ، نحو : ضره يضره ويضره ، وكونه مضاعفا متعديا جاء على يفعل بكسر العين قليل ، وعنه : فصرهنّ ، بفتح الصاد وتشديد الراء وكسرها من التصرية ، ورويت هذه القراءة عن عكرمة. وعنه أيضا : فصرهنّ إليك ، بضم الصاد وتشديد الراء.

وإذا تؤول : فصرهنّ ، بمعنى القطع فلا حذف ، أو بمعنى : الإمالة فالحذف ، وتقديره : وقطعهنّ واجعلهنّ أجزاء ، وعلى تفسير : فصرهنّ بمعنى أملهنّ وضمهنّ إلى

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٤٨.

٦٤٦

نفسك ، فإنما كان ذلك ليتأمل أشكالها وهيئاتها وحلالها لئلا يلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك.

(ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) العموم في كل جبل مخصص بوصف محذوف أي : يليك ، أو : بحضرتك ، دون مراعاة عدد. قاله مجاهد. وروي عن ابن عباس أنه أمر أن يجعل على كل ربع من أرباع الدنيا ، وهو بعيد. وخصصت الجبال بعدد الأجزاء ، فقيل : أربعة ، قاله قتادة ، والربيع ، وقيل : سبعة ، قاله السدي ، وابن جريج ، وقيل : عشرة ، قاله أبو عبد الله الوزير المغربي ، وقال عنه في رجل أوصى بجزء من ماله : إنه العشر ، إذ كانت أشلاء الطيور عشرة.

والظاهر أنه أمر أن يجعل على كل جبل ثلاثة مما يشاهده بصره ، بحيث يرى الأجزاء ، وكيف تلتئم إذا دعا الطيور.

وقرأ الجمهور جزءا بإسكان الزاي وبالهمز ، وضم أبو بكر : الزاي ، وقرأ أبو جعفر ، جزّا ، بحذف الهمزة وتشديد الزاي ، ووجهه أنه حين حذف ضعف الزاي ، كما يفعل في الوقف ، كقولك : هذا فرج ثم أجري مجرى الوقف.

و : أجعل ، هنا يحتمل أن تكون بمعنى : ألق ، فيتعدى لواحد ، ويتعلق على كل جبل. باجعل ، ويحتمل أن يكون بمعنى : صير ، فيتعدى إلى اثنين ، ويكون الثاني على كل جبل ، فيتعلق بمحذوف.

(ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) أمره بدعائهنّ وهنّ أموات ، ليكون أعظم له في الآية ، ولتكون حياتها متسببة عن دعائه ، ولذلك رتب على دعائه إياهنّ إتيانهنّ إليه ، والسعي هو : الإسراع في الشيء.

وقال الخليل : لا يقال سعى الطائر ، يعنى على سبيل المجاز ، فيقال : وترشيحه هنا هو أنه لما دعاهنّ فأتينه تنزلن منزلة العاقل الذي يوصف بالسعي ، وكان إتيانهنّ مسرعات في المشي أبلغ في الآية ، إذ اتيانهنّ إليه من الجبال يمشين مسرعات هو على خلاف المعهود لهنّ من الطيران ، وليظهر بذلك عظم الآية ، إذ أخبره أنهنّ يأتين على خلاف عادتهنّ من الطيران ، فكان كذلك. وجعل سيرهنّ إليه سعيا ، إذ هو مشية المجد الراغب فيما يمشي إليه ، لإظهار جدها في قصد إبراهيم ، وإجابة دعوته.

٦٤٧

وانتصاب : سعيا ، على أنه مصدر في موضع الحال من ضمير الطيور ، أي : ساعيات ، وروي عن الخليل : أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعيا. فعلى هذا يكون مصدرا لفعل محذوف ، هو في موضع الحال من الكاف ، وكان المعنى : يأتينك وأنت ساع إليهنّ ، أي يكون منهنّ إتيان إليك ، ومنك سعي إليهنّ ، فتلتقي بهنّ. والوجه الأول أظهر ، وقيل : انتصب : سعيا ، على أنه مصدر مؤكد لأن السعي والإتيان متقاربان. وروي في قصص الآية أن إبراهيم أخذ هذه الطيور وذكاها وقطعها قطعا صغارا ، وجمع ذلك مع الدم والريش ، وجعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل ، ووقف هو من حيث يرى الأجزاء ، وأمسك رؤوس الطير في يده ثم قال : تعالين بإذن الله فتطايرت تلك الأجزاء وصار الدم إلى الدم ، والريش إلى الريش ، حتى التأمت كما كانت أولا ، وبقيت بلا رؤوس ، ثم كرر النداء فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رؤوسها ، وطارت بإذن الله.

وزاد النحاس : أن ابراهيم : كان إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر ، وإذا أشار إليه برأسه قرب منه حتى لقي كل طائر رأسه. وقال أبو عبد الله : ذبحهن ونحز أجزاءهنّ في المنحاز ، يعني الهاون لأرؤسهن ، وجعل ذلك المختلط عشرة أجزاء على عشرة جبال ، ثم جعل مناقيرهنّ بين أصابعه ، ثم دعاهنّ فأتين سعيا يتطاير اللحم إلى اللحم ، والريش إلى الريش ، والجلد إلى الجلد ، بقدرة الله تعالى.

وأجمع أهل التفسير أن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها وخلط بعضها ببعص مع دمائها ، وأنكر ذلك أبو مسلم ، وقال : لما طلب إبراهيم احياء الميت من الله ، أراه مثالا قرب به الأمر عليه ، والمراد : بصرهنّ إليك : أملهنّ ، ومر بهنّ على الإجابة بحيث يصرن إذا دعوتهنّ أجبنك ، فإذا صرن كذلك فاجعل على كل جبل منهنّ واحدا منها حال حياته ، ثم ادعهنّ يأتينك سعيا.

والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، وأنكر القول بالتقطيع ، قال : لأن المشهور في اللغة في : فصرهنّ ، أملهنّ. وأما التقطيع والذبح ، فليس في اللفظ ما يدل عليه ، وبأنه لو كان المعنى : قطعهنّ ، لم يقل : إليك ، وتعليقه : بخذ ، خلاف الظاهر ، وبأن الضمير في : ثم ادعهنّ ، وفي يأتينك عائد إليها لا إلى الأجزاء وعوده على الاجزاء المتفرقة خلاف الظاهر ، ولا دليل فيما ذكر ، واحتج الأول بإجماع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم على التقطيع ، وبأن ما ذكره غير مختص

٦٤٨

بإبراهيم ، فلا مزية له. وبأنه سأله أن يريه كيف يحيي الموتى ، ولا إراءة فيما ذكره أبو مسلم.

واحتج للقول الأول بإجماع المفسرين الذين كانوا قبل ذلك.

والظاهر أنه أجيب بأن ظاهر : ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزأ ، يدل على أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ ، لأن الواحد منها سمي جزءا وجعل كل واحد على جبل.

(وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) عزيز لا يمتنع عليه ما يريد ، حكيم فيما يريد ويمثل ، والعزة تتضمن القدرة ، لأن الغلبة تكون عن العزة. وقيل : عزيز منتقم ممن ينكر بعث الأموات ، حكيم في نشر العظام الرفاة.

وقد تضمنت هذه القصص الثلاث ، من فصيح المحاورة بذكر : قال ، سؤالا وجوابا ، وغير ذلك من غير عطف ، إذ لا يحتاج إلى التشريك بالحرف إلّا إذا كان الكلام بحيث لو لم يشرك لم يستقل ، فيؤتى بحرف التشريك ليدل على معناه. أما إذا كان المعنى يدل على ذلك ، فالأحسن ترك الحرف إذا كان أخذ بعضه بعنق بعض ، ومرتب بعضه من حيث المعنى على بعض ، وقد أشرنا إلى شيء من هذا في قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (١).

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

٦٤٩

كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)

الحبة : اسم جنس لكل ما يزرعه ابن آدم ويقتاته ، وأشهر ذلك البر ، وكثيرا ما يراد بالحب. ومنه قول المتلمس :

آليت حب العراق الدهر أطعمه

والحب يأكله في القرية السوس

وحبة القلب سويداؤه ، والحبة بكسر الحاء بذور البقل مما ليس بقوت ، والحبة بالضم الحب والحب الحبيب.

الإنبات : الإخراج على سبيل التولد.

السنبلة : معروفة ، ووزنها فنعلة ، فالنون زائدة بذلك على قولهم : أسبل الزرع أرسل ما فيه كما ينسبل الثوب ، وحكى بعض اللغويين سنبل الزرع. قال بعض أصحابنا النون أصلية ، ووزنه فعلل ، لأن فنعل لم يثبت فيكون مع أسبل كسبط وسبطر.

المنّ : ما يوزن به ، والمنّ قدر الشيء ووزنه ، والمنّ والمنة النعمة ، منّ عليه أنعم. ومن أسمائه تعالى : المنان ، والمنّ النقص من الحق والبخس له ، ومنه المنّ المذموم ، وهو ذكر المنة للمنعم عليه على سبيل الفخر عليه بذلك ، والاعتداد عليه بإحسانه ، وأصل المنّ القطع ، لأن المنعم يقطع قطعة من ماله لمن ينعم عليه.

الغني : فعيل للمبالغة من غني وهو الذي لا حاجة له إلى أحد كما قال الشاعر :

كلانا غني عن أخيه حياته

ويقال غني : أقام بالمكان ، والغانية : هي التي غنيت بحسنها عن التحسن.

٦٥٠

الرئاء : فعال مصدر من راء من الرؤية ، ويجوز إبدال همزته ياء لكسرة ما قبلها ، وهو أن يرى الناس ما يفعله من البر حتى يثنوا عليه ويعظموه بذلك لا نية له غير ذلك.

الصفوان : الحجر الكبير الأملس ، وتحريك فائه بالفتح لغة ، وقيل : هو اسم جنس واحده صفوانة. وقال الكسائي : الصفوان واحده صفي ، وأنكره المبرد ، وقال : صفي جمع صفا نحو : عصا وعصي ، وقفا وقفي. وقال الكسائي أيضا : صفوان واحد ، وجمعه صفوان بكر الصاد. وقاله النحاس : يجوز أن يكون المكسور الصاد واحدا. وما قاله الكسائي غير صحيح ، بل صفوان جمل لصفا. كورل وورلان ، وإخ وإخوان. وكرى وكروان.

التراب : معروف ويقال فيه توراب ، وترب الرجل افتقر ، واترب استغنى ، الهمزة فيه للسلب ، أي : زال عنه الترب وهو القر ، وإذا زال عنه كان غنيا.

الوابل : المطر الشديد ، وبلت السماء تبل ، والأرض موبولة. وقال النضر : أول ما يكون المطر رشا ، ثم طسا ، ثم طلّا ، ورذاذا ، ثم نضحا وهو قطرتين قطرتين ، ثم هطلا وتهتانا ثم وابلا وجودا. والوبيل : الوخيم ، والوبيل : العصي الغليظة ، والبيلة حزمة الحطب.

الصلد : الأجرد الأملس النقي من التراب الذي كان عليه ، ومنه صلد جبين الأصلع برق. يقال : صلد يصلد صلدا. بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان. وقال النقاش : الصلد الأجرد بلغة هذيل. وحكى أبان بن تغلب : أن الصلد هو اللين من الحجارة. وقال علي بن عيسى : الصلد ، الخالي من الخير من الحجارة والأرضين وغيرهما ، ومنه : قدر صلود : بطيئة الغليان.

الربوة : قال الخليل : أرض مرتفعة طيبة ، ويقال فيها : الرباوة ، وتثلث الراء في اللغتين ، ويقال : رابية. قال الشاعر :

وغيث من الوسميّ جوّ تلاعه

أجابت روابيه النجا وهواطله

وقال الأخفش : ويختار الضم في ربوة لأنه لا يكاد يسمع في الجمع إلّا الربا ، وأصله من ربا الشيء زاد وارتفع. وتفسير السدّي بأنها : ما انخفض من الأرض ليس بشيء.

الطل : المستدق من القطر الخفيف ، هذا مشهور اللغة. وقال قوم ، منهم مجاهد : الطل الندى ، وهذا تجوّز. وفي (الصحاح) : الطل أضعف المطر ، والجمع طلال ، يقال : طلت الأرض وهو مطلول. قال الشاعر :

٦٥١

ولما نزلنا منزلا طله الندى

ويقال أيضا : أطلها الندى ، والطلة الزوجة.

النخيل : اسم جمع أو جمع تكسير ، كنخل اسم الجنس ، كما قالوا كلب وكليب. قال الراغب : سمي بذلك لأنه منخول الأشجار وصفوها ، وذلك أنه أكرم ما ينبت ، لكونه مشبها للحيوان في احتياج الأنثى منه إلى الفحل في التذكير ، أي التلقيح ، وأنه إذا قطع رأسه لم يثمر.

العنب : ثمر الكرم ، وهو أسم جنس ، واحده عنبة ، وجمع على أعناب. ويقال : عنباء بالمد غير منصرف على وزن سيراء في معنى العنب.

الإعصار : ريح شديدة ترتفع فيرتفع معها غبار إلى السماء يسميها العامة الزوبعة ، قاله الزجاج ، وقيل : الريح السموم التي تقتل ، سميت بذلك لأنها تعصر السحاب ، وجمعها أعاصير.

الاحتراق : معروف وفعله لا يتعدى ، ومتعديه رباعي ، تقول : أحرقت النار الحطب والخبز ، وحرق ناب الرجل ثلاثي لازم إذا احتك بغيره غيظا ، ومتعد تقول : حرق الرجل نابه ، حكه بغيره من الغيظ. قال الشاعر :

أبى الضيم والنعمان يحرق نابه

عليه فأفضى والسيوف معاقله

قرأناه برفع الناب ونصبه.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر قصة المارّ على قرية وقصة إبراهيم ، وكانا من أدل دليل على البعث ، ذكر ما ينتفع به يوم البعث ، وما يجد جدواه هناك. وهو الإنفاق في سبيل الله ، كما أعقب قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (١) وكما أعقب قتل داود جالوت ، وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) (٢) بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) (٣) فكذلك أعقب هنا ذكر الإحياء والإماتة بذكر النفقة في سبيل الله ، لأن ثمرة النفقة في سبيل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٤.

٦٥٢

الله ، لأن ثمرة النفقة في سبيل الله إنما تظهر حقيقة يوم البعث : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) (١) واستدعاء النفقة في سبيل الله مذكر بالبعث ، وخاض على اعتقاده ، لأنه لو لم يعتقد وجوده لما كان ينفق في سبيل الله ، وفي تمثيل النفقة بالحبة المذكورة إشارة أيضا إلى البعث ، وعظيم القدرة ، إذ حبة واحدة يخرج الله منها سبعمائة حبة ، فمن كان قادرا على مثل هذا الأمر العجاب ، فهو قادر على إحياء الموات ، ويجامع ما اشتركا فيه من التغذية والنمو.

ويقال : لما ذكر المبدأ والمعاد ، ودلائل سحتها ، أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف ، فبدأ بإنفاق الأموال في سبيل الله ، وأمعن في ذلك ، ثم انتقل إلى كيفية تحصيل الأموال بالوجه الذي جوز شرعا. ولما أجمل في ذكر التضعيف في قوله : (أَضْعافاً كَثِيرَةً) (٢) وأطلق في قوله : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) (٣) فصل في هذه الآية ، وقيد بذكر المشبه به ، وما بين الآيات دلالة على قدرته على الإحياء والإماتة ، إذ لولا ذلك لم يحسن التكليف كما ذكرناه ، فهذه وجوه من المناسبة. والمثل هنا الصفة ، ولذلك قال : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) أي كصفة حبة ، وتقدير زيادة الكاف ، أو زيادة مثل. قول بعيد. وهذه الآية شبيهة في تقدير الحذف بقوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) (٤) فيحتمل أن يكون الحذف من الأول ، أي : مثل منفق الذين ، أو من الثاني : أي كمثل زارع ، حتى يصح التشبيه ، أو من الأول ومن الثاني باختلاف التقدير ، أي : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ومنفقهم. كمثل حبة وزارعها. وقد تقدم الكلام في تقرير هذا الوجه في قصة الكافر والناعق ، فيطالع هناك.

وهذا المثل يتضمن التحريض على الإنفاق في سبيل الله جميع ما هو طاعة ، وعائد نفعه على المسلمين ، وأعظمها وأعناها الجهاد لإعلاء كلمة الله وقيل : المراد : بسبيل الله ، هنا الجهاد خاصة ، وظاهر الإنفاق في سبيل الله يقتضي الفرض والنفل ، ويقتضي الإنفاق على نفسه في الجهاد وغيره ، والإنفاق على غيره ليتقوى به على طاعة من جهاد أو غيره. وشبه الإنفاق بالزرع ، لأن الزرع لا ينقطع.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٧١.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٧١.

٦٥٣

وأظهر تاء التأنيث عند السين : الحرميان ، وعاصم ، وابن ذكوان ، وأدغم الباقون. ولتقارب السين من التاء أبدلت منها : النات ، والأكيات في : الناس ، والأكياس.

ونسب الإنبات إلى الحبة على سبيل المجاز ، إذ كانت سببا للإنبات ، كما ينسب ذلك إلى الماء والأرض ، والمنبت هو الله ، والمعنى : أن الحبة خرج منها ساق ، تشعب منها سبع شعب ، في كل شعبة سنبلة ، في كل سنبلة مائة حبة ، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر ، قالوا : والممثل به موجود ، شوهد ذلك في سنبلة الجاورس. وقال الزمخشري : هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما ، وربما فرخت ساق البرة في الأراضي القوية المغلة ، فبلغ حبها هذا المبلغ ، ولو لم يوجد لكان صحيحا في سبيل الفرض والتقدير ؛ انتهى كلامه.

وقال ابن عيسى : ذلك يتحقق في الدخن ، على أن التمثيل يصح بما يتصور ، وإن لم يعاين. كما قال الشاعر :

فما تدوم على عهد تكون به

كما تلوّن في أثوابها الغول

انتهى كلامه. وكما قال امرؤ القيس :

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وخص سبعا من العدد لأنه كما ذكر ، وأقصى ما تخرجه الحبة من الأسؤق. وقال ابن عطية : قد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة ، وأما في سائر الحبوب فأكثر ، ولكن المثال وقع بمائة ، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشرة أمثالها ، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد بسبعمائة ضعف ، ومن ذلك الحديث الصحيح. انتهى ما ذكره.

وقيل : واختص هذا العدد لأن السبع أكثر أعداد العشرة ، والسبعين أكثر أعداد المائة ، وسبع المائة أكثر أعداد الألف ، والعرب كثيرا ما تراعي هذه الأعداد. قال تعالى : (سَبْعَ سَنابِلَ) و (سَبْعَ لَيالٍ) (١) و (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) (٢) و (سَبْعَ بَقَراتٍ) (٣) و (سَبْعَ

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٧.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٤٣ و ٤٦.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٤٣ و ٤٦.

٦٥٤

سَماواتٍ) (١) و (سَبْعَ سِنِينَ) (٢) و (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) (٣) (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) (٤) وفي الحديث : «إلى سبعمائة ضعف» ، «إلى سبعة آلاف» «إلى ما لا يحصي عدده إلّا الله» وأتى التمييز هنا بالجمع الذي لا نظير له في الآحاد ، وفي سورة يوسف بالجمع بالألف والتاء في قوله : (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) (٥).

قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) على حقه من التمييز لجمع القلة ، كما قال : (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ)؟

قلت : هذا لما قدمت عند قوله : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (٦) من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها. انتهى كلامه. فجعل هذا من باب الاتساع ، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر على سبيل المجاز ، إذ كان حقه أن يميز بأقل الجمع ، لأن السبع من أقل العدد ، وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على إطلاقه ، فنقول : جمع السلامة بالواو والنون ، أو بالألف والتاء ، لا يميز به من ثلاثة إلى عشرة إلّا إذا لم يكن لذلك المفرد جمع غير هذا الجمع ، أو جاور ما أهمل فيه هذا الجمع ، وإن كان المجاور لم يهمل فيه هذا الجمع.

فمثال الأول : قوله تعالى : (سَبْعَ سَماواتٍ) فلم يجمع سماء هذه المظلة سوى هذا الجمع ، وأما قوله :

فوق سبع سمائيا

فنصوا على شذوذه ، وقوله تعالى : (سَبْعَ بَقَراتٍ) و (تِسْعَ آياتٍ) (٧) وخمس صلوات لأن البقرة والآية والصلاة ليس لها سوى هذا الجمع ، ولم يجمع على غيره.

ومثال الثاني : قوله تعالى : (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) لما عطف على : (سَبْعَ بَقَراتٍ) وجاوره حسن فيه جمعه بالألف والتاء ، ولو كان لم يعطف ولم يجاور لكان : (سَبْعَ سَنابِلَ) ، كما في هذه الآية ، ولذلك إذا عرى عن المجاور جاء على مفاعل في الأكثر ، والأولى ، وإن كان يجمع بالألف والتاء ، مثال ذلك قوله تعالى : (سَبْعَ طَرائِقَ) (٨)

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٩ وفصلت : ٤١ / ١٢ والطلاق : ٦٥ / ١٢ والملك : ٦٧ / ٣ ونوح : ٧١ / ١٥.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٤٧.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٨٠.

(٤) سورة الحاقة : ٦٩ / ٣٢.

(٥) سورة يوسف : ١٢ / ٤٣ و ٤٦.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٨.

(٧) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠١ والنمل : ٢٧ / ١٢.

(٨) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٧.

٦٥٥

و (سَبْعَ لَيالٍ) (١) ولم يقل : طريقات ، ولا : ليلات ، وإن كان جائزا في جمع طريقة وليلة ، وقوله تعالى : (عَشَرَةِ مَساكِينَ) (٢) ، وإن كان جائزا في جمعه أن يكون جمع سلامة. فتقول : مسكينون ومسكينين ، وقد آثروا ما لا يماثل مفاعل من جموع الكثرة على جمع التصحيح ، وإن لم يكن هناك مجاور يقصد مشاكلته لقوله تعالى : (ثَمانِيَ حِجَجٍ) وإن كان جائزا فيه أن يجمع بالألف والتاء ، لأن مفرده حجة ، فتقول : حجات ، فعلى هذا الذي تقرر إذا كان للاسم جمعان : جمع تصحيح ، وجمع تكسير ، فجمع التكسير إما أن يكون للكثرة أو للقلة ، فإن كان للكثرة ، فإما أن يكون من باب مفاعل ، أو من غير باب مفاعل ، إن كان من باب مفاعل أوثر على جمع التصحيح ، فتقول : جاءني ثلاثة أحامد ، وثلاث زيانب ، ويجوز التصحيح على قلة ، فتقول : جاءني ثلاثة أحمدين ، وثلاث زينبات ، وإن لم يكن من باب مفاعل. فإما أن يكثر فيه غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة ، فلا يجوز التصحيح ، ولا جمع الكثرة إلّا قليلا ، مثال ، ذلك : جاءني ثلاثة زيود ، وثلاث هنود ، وعندي ثلاثة أفلس ، ولا يجوز : ثلاثة زيدين ، ولا : ثلاث هندات ، ولا : ثلاثة فلوس ، إلّا قليلا.

وإن قل فيه غير التصحيح ، وغير جمع الكثرة أوثر التصحيح وجمع الكثرة ، مثال ذلك : ثلاث سعادات ، وثلاثة شسوع ، ويجوز على قلة : ثلاث سعائد ، وثلاثة أشسع.

وتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله (سَبْعَ سَنابِلَ) جاء على ما تقرر في العربية من كونه جمعا متناهيا ، وأن قوله : (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) (٣) إنما جاز لأجل مشاكلة : (سَبْعَ بَقَراتٍ) (٤) ومجاورته ، فليس استعذار الزمخشري بصحيح.

و (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ) في موضع الصفة : لسنابل ، فتكون في موضع جر ، أو : لسبع ، فيكون في موضع نصب ، وترتفع على التقديرين : مائة ، على الفاعل لأن الجار قد اعتمد بكونه صفة ، وهو أحسن من أن يرتفع على الابتداء ، و : في كل ، خبره ، والجملة صفة ، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة ، ولا بد من تقدير محذوف ، أي : في كل سنبلة منها ، أي : من السنابل.

وقرىء شاذا : مائة حبة ، بالنصب ، وقدر بأخرجت ، وقدره ابن عطية بأنبتت ، والضمير عائد على الحبة ، وجوز أن ينتصب على البدل من : (سَبْعَ سَنابِلَ) وفيه نظر ، لأنه لا يصح

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٧.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٢٧.

(٣ ـ ٤) سورة يوسف : ١٢ / ٤٣ و ٤٦.

٦٥٦

أن يكون بدل كل من كل ، لأن (مِائَةُ حَبَّةٍ) ليس نفس (سَبْعَ سَنابِلَ) ولا يصح أن يكون بدل بعض من كل ، لأنه لا ضمير في البدل يعود على المبدل منه ، وليس : (مِائَةُ حَبَّةٍ) بعضا من (سَبْعَ سَنابِلَ) لأن المظروف ليس بعضا من الظرف ، والسنبلة ظرف للحب. ألا ترى إلى قوله (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)؟ ولا يصح أن يكون بدل اشتمال لعدم عود الضمير من البدل على المبدل منه ، ولأن المشتمل على مائة حبة هو سنبلة من سبع سنابل ، إلّا إن قيل : المشتمل على المشتمل على الشيء هو مشتمل على ذلك الشيء ، والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل ، فالسبع مشتملة على حب السنبلة ، فإن قدرت في الكلام محذوفا. وهو : أنبتت حب سبع سنابل ، جاز أن يكون : (مِائَةُ حَبَّةٍ) بدل بعض من كل على حذف : حب ، وإقامة سبع مقامه.

وظاهر قوله : (مِائَةُ حَبَّةٍ) العدد المعروف ، ويحتمل أن يكون المراد به التكثير ، كأنه قيل : في كل سنبلة حب كثير ، لأن العرب تكثر بالمائة ، وتقدم لنا ذكر نحو ذلك في قوله (وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) (١).

قيل : وفي هذه الآية دلالة على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس ، ولذلك ضرب الله به المثل في قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) الآية. وفي (صحيح مسلم). «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة». وفي رواية أخرى. «وما رزىء فهو صدقة». وفي الترمذي : «التمسوا الرزق في خبايا الأرض» يعني : الزرع. وقال بعضهم ، وقد قال له رجل : دلني على عمل أعالجه ، فقال :

تتبع خبايا الأرض وادع مليكها

لعلك يوما أن تجاب وترزقا

والزراعة من فروض الكفاية ، فيجبر عليها بعض الناس إذا اتفقوا على تركها.

(وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أي هذا التضعيف إذ لا تضعيف فوق سبعمائة ، وقيل : يضاعف أكثر من هذا العدد. وروي عن ابن عباس : أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف. قال ابن عطية : وليس هذا بثابت الإسناد عنه. انتهى. وقال الضحاك : يضاعف إلى ألوف الألوف ، وخرّج أبو حاتم في صحيحه المسمى (بالتقاسيم والأنواع) عن ابن عمر

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٣.

٦٥٧

قال : لما نزلت (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رب زد أمّتي». فنزلت (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١) وفي (سنن النسائي) قريب من هذا ، إلّا أنه ذكر بين الآيتين نزول. (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) (٢).

وقوله : (لِمَنْ يَشاءُ) أي : لمن يشاء التضعيف. وفيه دلالة على حذف ، ذلك بمشيئة الله تعالى وإرادته. وقال الزمخشري : أي يضاعف تلك المضاعفة لا لكل منفق ، لتفاوت أحوال المنفقين ، أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافا لمن يستوجب ذلك. انتهى. فقوله : لمن يستوجب ذلك ، فيه دسيسة الاعتزال.

(وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي : واسع بالعطاء ، عليم بالنية. وقيل : واسع القدرة على المجازاة ، عليم بمقادير المنفقات وما يرتب عليها من الجزاء.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً). قيل : نزلت في عثمان ، وقيل : في عليّ ، وقيل : في عبد الرحمن بن عوف وعثمان ، جاء ابن عوف في غزوة تبوك بأربعة آلاف درهم وترك عنده مثلها ، وجاء عثمان بألف بعير بأقتابها وأحلاسها ، وتصدق برمة ركية كانت له تصدق بها على المسلمين. وقيل : جاء عثمان بألف دينار فصبها في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما شبه تعالى صفة المنفق في سبيل الله بزارع الحبة التي أنجبت في تكثير حسناته ككثرة ما أخرجت الحبة ، وكان ذلك على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى ، لأنهما مبطلان للصدقة ، كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا ، بل يراعى جهة الاستحقاق لا جزاء من المنفق عليه ولا شكرا له ، فيكون قصده خالصا لوجه الله تعالى ، فإذا التمس بإنفاقه الشكر والثناء كان صاحب سمعة ورياء ، وإن التمس الجزاء كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا شكرا. والمنّ من الكبائر ثبت في (صحيح مسلم) وغيره أنه أحد «الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم». وفي النسائي : «ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمانّ بما أعطى».

وفي قوله : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ) بعد قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) دلالة على أن النفقة تمضي

__________________

(١) سورة الزمر : ٢٩ / ١٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٥.

٦٥٨

في سبيل الله ، ثم يتبعها ما يبطلها ، وهو المنّ والأذى ، وقد تبين ذلك في الآية بعدها ، فهي موقوفة ، أعني : قبولها على شريطة ، وهو أن لا يتبعها منا ولا أذى.

وظاهر الآية يدل على أن المنّ والأذى يكونان من المنفق على المنفق عليه ، سواء كان ذلك الإنفاق في الجهاد على سبيل التجهيز أو الإعانة فيه ، أم كان في غير الجهاد. وسواء كان المنفق مجاهدا أم غير مجاهد.

وقال ابن زيد : هي في الذين لا يخرجون إلى الجهاد ، بل ينفقون وهم قعود. والآية قبلها في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم ، ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشرط على الأولين.

والأذى يشمل المن وغيره ، ونص على المن وقدم لكثرة وقوعه من المتصدّق ، فمن المن أن يقول : قد أحسنت إليك ونعشتك ، وشبهه. أو يتحدث بما أعطى ، فيبلغ ذلك المعطى ، فيؤذيه. ومن الأذى أن يسب المعطى ، أو يشتكي منه ، أو يقول : ما أشد إلحاحك ، و : خلصنا الله منك ، و : أنت أبدا تجيئني ، أو يكلفه الاعتراف بما أسدى إليه. وقيل : الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه. وقال زيد بن أسلم : إن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه ، تريد وجه الله ، فلا تسلم عليه. وقالت له : امرأة يا أبا اسامة؟ دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا ، فانهم إنما يخرجون الفواكه ، فإن عندي أسهما وجيعة. فقال لها : لا بارك الله في أسهمك وجيعتك ، فقد أذيتهم قبل أن تعطيهم.

(لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدّم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته.

و (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) مبتدأ والجملة من قوله : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) خبر ، ولم يضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ، فلم تدخل الفاء في الخبر ، وكان عدم التضمين هنا لأن هذه الجملة مفسرة للجملة قبلها ، والجملة التي قبلها أخرجت مخرج الشيء الثابت المفروغ منه ، وهو نسبة إنفاقهم بالحبة الموصوفة ، وهي كناية عن حصول الأجر الكثير ، فجاءت هذه الجملة ، كذلك أخرج المبتدأ والخبر فيهما مخرج الشيء الثابت المستقر الذي لا يكاد خبره يحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع ما قبله ، بخلاف ما إذا دخلت الفاء فإنها مشعرة بترتب الخبر على المبتدأ ، واستحقاقه به.

٦٥٩

وقيل : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم الذين ينفقون و (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) في موضع الحال ، وهذا ضعيف ، أعني : جعل لهم أجرهم في موضع الحال ، بل الأولى إذا أعرب : الذين ، خبر مبتدأ محذوف أن يكون : لهم أجرهم ، مستأنفا وكأنه جواب لمن قال : هل لهم أجر؟ وعند من أجرهم؟ فقيل (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وعطف : بثم ، التي تقتضي المهلة ، لأن من أنفق في سبيل الله ظاهرا لا يحصل منه غالبا المنّ والأذى ، بل إذا كانت بنية غير وجه الله تعالى ، لا يمنّ ولا يؤذي على الفور ، فذلك دخلت : ثم ، مراعاة للغالب. وإن حكم المن والأذى المتعقبين للإنفاق ، والمقارنين له حكم المتأخرين.

وقال الزمخشري : ومعنى : ثم ، إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق ، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيرا من الدخول فيه بقوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) (١) انتهى كلامه.

وقد تكرر للزمخشري ادعاء هذا المعنى لثم ، ولا أعلم له في ذلك سلفا ، وقد تكلمنا قبل هذا معه في هذا المعنى ، و : ما ، من (ما أَنْفَقُوا) موصول عائده محذوف ، أي : أنفقوه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : إنفاقهم ، وثم محذوف ، أي : منّا على المنفق عليه ، ولا أذى له ، وبعد ما قاله بعضهم من أن ولا أذى من صفة المعطي ، وهو مستأنف ، وكأنه قال : الذين ينفقون ولا يمنون ولا يتأذون بالإنفاق ، وكذلك يبعد ما قاله بعضهم من أن قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا يراد به في الآخرة ، وأن المعنى : إن حق المنفق في سبيل الله أن يطيب به نفسه ، وأن لا يعقبه المن ، وأن لا يشفق من فقر يناله من بعد ، بل يثق بكفاية الله ولا يحزن إن ناله فقر.

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) أي : ردّ جميل من المسئول ، وعفو من السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسئول من إلحاح أو سب أو تعريض بسبب ، كما يوجد في كثير من المستعطين ، وقيل : معنى و : مغفرة ، أي : نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل. وقيل : ومغفرة ، أي عفو من جهة السائل ، لأنه إذا رده ردّا جميلا عذره. وقيل : قول معروف ، هو الدعاء والتأسي والترجئة بما عند الله ، وقيل : الدعاء لأخيه بظهر الغيب ، وقيل : الأمر بالمعروف خير ثوابا عند الله من صدقة يتبعها أذى. وقيل : التسبيحات والدعاء والثناء والحمد لله والمغفرة ، أي : الستر على نفسه والكف عن إظهار ما ارتكب من

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٣٠ والأحقاف : ٤٦ / ١٣.

٦٦٠