البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

أعداء الله ، فأمر به فقال تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) والظاهر أن المقاتلة في سبيل الله هي الجهاد في الكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته ، وأكثر علماء التفسير على أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال ، أمر فيها بقتال من قاتل ، والكف عن من كف ، فهي ناسخة لآيات الموادعة.

وروي عن أبي بكر أن أول آية نزلت في القتال (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) (١) قال الراغب : أمر أولا بالرفق والاقتصار على الوعظ والمجادلة الحسنة ، ثم أذن له في القتال ، ثم أمر بقتال من يأبى الحق بالحرب ، وذلك كان أمرا بعد أمر على حسب مقتضى السياسة. انتهى.

وقيل : إن هذه الآية منسوخة بالأمر بقتال المشركين ، وقيل : هي محكمة ، وفي (ريّ الظمآن) هي منسوخة بقوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (٢) وضعف نسخها بقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لانه من باب التخصيص لا من باب النسخ ، ونسخ : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ) بقوله : (وَقاتِلُوهُمْ) بأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكم لم ينسخ ، بل هو باق ، وبأنه يبعد أن يجمع بين آيات متوالية يكون كل واحدة منها ناسخة للاخرى ، وأبعد من ذهب إلى أن قوله : وقاتلوا ، ليس أمرا بقتال ، وإنما أراد بالمقاتلة المخاصمة والمجادلة والتشدّد في الدين ، وجعل ذلك قتالا ، لأنه يؤول إلى القتال غالبا ، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. والآية على هذا محكمة.

هذا القول خلاف الظاهر ، والعدول عن الظاهر لغير مانع لا يناسب : في سبيل الله ، السبيل هو الطريق ، واستعير لدين الله وشرائعه ، فإن المتبع ذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية ، فشبه بالطريق الموصل الإنسان إلى ما يقصده ، وهذا من استعارة الإجرام للمعاني ، ويتعلق : في سبيل الله ، بقوله : وقاتلوا ، وهو ظرف مجازي ، لأنه لما وقع القتال بسبب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : في نصرة دين الله ، ويحتمل أن يكون من باب التضمين كأنه قيل : وبالغوا بالقتال في نصرة سبيل الله ، فضمن : قاتلوا ، معنى المبالغة في القتال.

(الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ظاهره : من يناجزكم القتال ابتداء ، أو دفعا عن الحق ، وقيل : من له أهلية القتال سوى من جنح للسلم فيخرج من هذا : النسوان ، والصبيان ، والرهبان ـ

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٣٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩٣ ، وسورة الأنفال : ٨ / ٣٩.

٢٤١

وقيل : من له قدرة على القتال ، وتسمية من له الأهلية والقدرة مقاتلا مجاز ، وأبعد منه مجازا من ذهب إلى أن المعنى : الذين يخالفونكم ، فجعل المخالفة قتالا ، لأنه يؤول إلى القتال ، فيكون أمرا بقتال من خالف ، سواء قاتل أم لم يقاتل ، وقدّم المجرور على المفعول الصريح لأنه الأهم ، وهو أن يكون القتال بسبب إظهار شريعة الإسلام ، ألا ترى الاقتصار عليه في نحو قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١) (وَلا تَعْتَدُوا) نهي عام في جميع مجاوزة كل حدّ ، حدّه الله تعالى ، فدخل فيه الاعتداء في القتال بما لا يجوز ، وقيل : المعنى : ولا تعتدوا في قتل النساء ، والصبيان ، والرهبان ، والأطفال ، ومن يجري مجراهم. قاله ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد. ورجحه جماعة من المفسرين : كالنحاس وغيره ، لأن المفاعلة غالبا لا تكون إلّا من اثنين ، والقتال لا يكون من هؤلاء. ولأن النهي ورد في ذلك نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل النساء ، والصبيان ، وعن المثلة ، وفي وصاية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان النهي عن قتل هؤلاء ، والشيخ الفاني ، وعن تخريب العامر ، وذبح البقرة والشاة لغير مأكل ، وإفساد شجرة مثمرة بحرق أو غيره.

وقيل : ولا تعتدوا في قتال من بذل الجزية. قاله ابن بحر ، وقيل : في ترك القتال ، وقيل : بالبداءة والمفاجأة قبل بلوغ الدعوة. وقيل : بالمثلة ، وقيل : بابتدائهم في الحرم في الشهر الحرام ، وقيل : في القتال لغير وجه الله ، كالحمية وكسب الذكر.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). هذا كالتعليل لما قبله كقوله : أكرم زيدا إن عمرا يكرمه. وحقيقة المحبة : وهي ميل النفس إلى ما تؤثره مستحيلة في حق الله تعالى ، ولا واسطة بين المحبة والبغضاء بالنسبة إلى الله تعالى ، لأنهما مجازان عن إرادة ثوابه ، وإرادة عقابه ، أو عن متعلق الإرادة من الثواب والعقاب. وذلك بخلاف محبة الإنسان وبغضه ، فإن بينهما واسطة ، وهي عدمهما ، فلذلك لا يرد على نفي محبة الله تعالى أن يقال : لا يلزم من نفي المحبة وجود البغض ، بل ذلك لازم لما بيناه من عدم الواسطة بينهما في حقه تعالى.

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ضمير المفعول عائد على : الذين يقاتلونكم ، وهذا أمر بقتلهم ، و : حيث ثقفتموهم ، عام في كل مكان حل أو حرم ، ويلزم منه عموم الأزمان ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٤.

٢٤٢

في شهر الحرام وفي غيره ، وفي (المنتخب) أمر في الآية : الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على المقاتلة ، وفي هذه الآية زاد في التكليف. فأمر بالجهاد معهم سوآء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام. انتهى. وليس كما قال : إنه زاد في التكليف فأمر بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، لأن الضمير عائد على : الذين يقاتلونكم ، فالوصف باق إذ المعنى : واقتلوا الذين يقاتلونكم حيث ثقفتموهم ، فليس أمرا بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا.

قال ابن إسحاق : نزلت هذه الآية في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله وافد بن عبد الله التميمي ، وذلك في سرية عبد الله بن جحش.

(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي : من المكان الذي أخرجوكم منه ، يعني مكة ، وهو أمر بالإخراج أمر تمكين ، فكأنه وعد من الله بفتح مكة ، وقد أنجز ما وعد ، وقد فعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة بمن لم يسلم معهم ، و : من حيث ، متعلق بقوله : وأخرجوهم ، وقد تصرف في : حيث ، بدخول حرف الجر عليها : كمن ، والباء ، وفي ، وبإضافة لدى إليها.

وضمير النصب في : أخرجوكم ، عائد على المأمورين بالقتل ، والإخراج ، وهو في الحقيقة عائد على بعضهم ، جعل إخراج بعضهم ، وهو أجلهم قدرا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرون ، إخراجا لكلهم.

(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في الفتنة هنا أقوال.

أحدها : الرجوع إلى الكفر أشدّ من أن يقتل المؤمن ، قاله مجاهد. وكانوا قد عذبوا نفرا من المؤمنين ليرجعوا إلى الكفر ، فعصمهم الله. والكفر بالله يقتضي العذاب دائما ، والقتل ليس كذلك ، وكان بعض الصحابة قتل في الشهر الحرام ، فاستعظم المسلمون ذلك.

الثاني : الشرك ، أيّ : شركهم بالله أشدّ حرما من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي.

الثالث : هتك حرمات الله منهم أشدّ من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم.

٢٤٣

الرابع : عذاب الآخرة لهم أشدّ من قتلهم المسلمين في الحرم ومنه : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) (١) (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (٢) أي : عذبوهم.

الخامس : الإخراج من الوطن لما فيه من مفارقة المألوف والأحباب ، وتنغيص العيش دائما ، ومنه قول الشاعر :

لموت بحدّ السيف أهون موقعا

على النفس من قتل بحدّ فراق

السادس : أن يراد فتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام ، أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم ، إن قتلوكم ، فلا تبالوا بقتالهم ، قاله الزمخشري ، وهو راجع لمعنى القول الثالث.

السابع : تعذيبهم المسلمين ليرتدوا ، قاله الكسائي.

وأصل الفتنة عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ، ثم صار يستعمل في الامتحان ، وإطلاقه على ما فسر به في هذه الأقوال شائع ، والفتنة والقتل مصدران لم يذكر فاعلهما ، ولا مفعولهما ، وإنما أقرّ أن ماهية الفتنة أشدّ من ماهية القتل ، فكل مكان تتحقق فيه هذه النسبة كان داخلا في عموم هذه الأخبار سوآء كان المصدر فاعله أو مفعوله : المؤمنون أم الكافرون ، وتعيين نوع ما من أفراد العموم يحتاج إلى دليل.

(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) هو أن يبدأهم بالقتال في هذا الموطن حتى يقع ذلك منهم فيه ، قال مجاهد : وهذه الآية محكمة لا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلّا بعد أن يقاتل. وبه قال طاووس ، وأبو حنيفة ؛ وقال الربيع : منسوخة بقوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (٣) وقال قتادة بقوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (٤) والنسخ قول الجمهور ، وقد تقدم طرف من الكلام في هذا النسخ ، في هذه الآية. وقرأ حمزة ، والكسائي والأعمش : ولا تقتلوهم ، وكذلك حتى يقتلوكم فإن قتلوكم ، من القتل ، فيحتمل المجاز في الفعل ، أي : ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قتلكم ، ويحتمل المجاز في المفعول ، أي : ولا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم ، فإن قتلوا بعضكم ، يقال : قتلنا بنو فلان ، يريد قتل بعضنا وقال :

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ١٤.

(٢) سورة البروج : ٨٥ / ١٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٩٣ ؛ وسورة الأنفال : ٨ / ٣٩.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ٥.

٢٤٤

فإن تقتلونا نقتلكم

وان تقصدوا الذم نقصد

ونظيره : قتل (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) (١) فأوهنوا أي : قتل معهم أناس من الربيين ، فاوهن الباقون ، والعامل في عند : ولا تقاتلوهم ، و : حتى ، هنا للغاية ، وفيه متعلق بيقاتلوكم ، والضمير عائد على عند ، تعدى الفعل إلى ضمير الظرف فاحتيج في الوصول إليه إلى : في ، هذا ، ولم يتسع فتعدى الفعل إلى ضمير الظرف تعديته للمفعول به الصريح ، لا يقال : إن الظرف إذا كان غير متصرف لا يجوز أن يتعدى الفعل إلى ضميره بالاتساع ، لان ظاهره لا يجوز فيه ذلك ، بل الاتساع جائز إذ ذاك. ألا ترى أنه يخالفه في جره بغي وإن كان الظاهر لا يجوز فيه ذلك؟ فكذلك يخالفه في الاتساع. فحكم الضمير إذ ذاك ليس كحكم الظاهر.

(فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) هذا تصريح بمفهوم الغاية ، وفيه محذوف. أي : فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه ، ودل على إرادته سياق الكلام. ولم يختلف في قوله : فاقتلوهم ، أنه أمر بقتلهم على ذلك التقدير ، وفيه بشارة عظيمة بالغلبة عليهم ، أي : هم من الخذلان وعدم النصرة بحيث أمرتم بقتلهم لا بقتالهم ، فأنتم متمكنون منهم بحيث لا يحتاجون إلّا إلى إيقاع القتل بهم ، إذا ناشبوكم القتال لا إلى قتالهم.

(كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) الكاف في موضع رفع لأنها خبر عن المبتدأ الذي هو خبر الكافرين.

المعنى : جزاء الكافرين مثل ذلك الجزاء ، وهو القتل ، أي : من كفر بالله تعالى فجزاؤه القتل ، وفي إضافة الجزاء إلى الكافرين إشعار بعلية القتل.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : عن الكفر ، ودخلوا في الإسلام ، ولذلك علق عليه الغفران والرحمة وهما لا يكونان مع الكفر (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) (٢) وتقدم ما يدل عليه من اللفظ وهو جزاء الكافرين ، وسياق الكلام إنما هو مع الكفار ، وقيل : فإن انتهوا عن المقاتلة والشرك ، لتقدمهما في الكلام ، وهو حسن ، وقيل : عن القتال دون الكفر ، وليس الغفران لهم على هذا القول ، بل المعنى : فإن الله غفور لكم رحيم بكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم ، وقيل : الجواب محذوف ، أي : فاغفروا لهم فإن الله غفور رحيم لكم ، وعلى قول : إن الانتهاء عن القتال فقط ، تكون الآية

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٦.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ٣٨.

٢٤٥

منسوخة ، وعلى القولين قبله تكون محكمة ، ومعنى : انتهى : كف ، وهو افتعل من النهي ، ومعناه فعل الفاعل بنفسه ، وهو نحو قولهم : اضطرب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها : افتعل.

قالوا : وفي قوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) دلالة على قبول توبة قاتل العمد ، إذا كان الكفر أعظم مأثما من القتل ، وقد أخبر تعالى أنه يقبل التوبة من الكفر.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ضمير المفعول عائد على من قاتله وهم كفار مكة ، والفتنة هنا الشرك وما تابعه من أذى المسلمين ، أمروا بقتالهم حتى لا يعبد غير الله ، ولا يسنّ بهم سنة أهل الكتاب في قبول الجزية ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، والسدي. أعني : أن الفتنة هنا والشرك وما تابعه من الأذى ، وقيل : الضمير لجميع الكفار أمروا بقتالهم وقتلهم في كل مكان ، فالآية عامة تتناول كل كافر من مشرك وغيره ، ويخص منهم بالجزية من دل الدليل عليه ، وقد تقدّم قول من قال : إنها ناسخة ، لقوله : ولا تقاتلوهم.

قال في (المنتخب) : والصحيح أنه ليس كذلك ، بل هذه الصيغة عامة وما قبله خاص ، وهو : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ومذهب الشافعي تخصيص العام سواء تقدّم على المخصص أم تأخر عنه.

وقال أو مسلم : الفتنة هنا : القتال في الحرم ، قال : أمرهم الله بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدؤا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون من أنواع المضار.

و : حتى ، هنا للغاية ، أو للتعليل ، وإذا فسرت الفتنة بالكفر ، والكفر لا يلزم زواله بالقتال ، فكيف غي الأمر بالقتال بزواله؟.

والجواب : أن ذلك على حكم الغالب ، والواقع ، وذلك أن من قتل فقد انقطع كفره وزال ، ومن عاش خاف من الثبات على كفره ، فأسلم ، أو يكون المعنى : وقاتلوهم قصدا منكم إلى زوال الكفر ، لأن الواجب في قتال الكفار أن يكون القصد زوال الكفر ، ولذلك إذا ظن أنه يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه.

(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) الدين هنا : الطاعة ، أي : يكون الانقياد خالصا لله ، وقيل : الدين هنا السجود والخضوع لله وحده ، فلا يسجد لغيره ، وغي هنا الأمر بالقتال بشيئين : أحدهما : انتفاء الفتنة ، والثاني : ثبوت الدين لله ، وهو عطف مثبت على منفي ، وهما في معنى واحد ومتلازمان ، لأنه إذا انتفى الشرك بالله كان تعالى هو المعبود المطاع ، وعلى

٢٤٦

تفسير أبي مسلم في الفتنة يكون قد غي بأمرين مختلفين : أحدهما : انتفاء القتال في الحرم ، والثاني : خلوص الدين لله تعالى.

قيل وجاء في الأنفال : (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (١) ولم يجىء هنا : كله ، لأن آية الأنفال في الكفار عموما ، وهنا في مشركي مكة ، فناسب هناك التعميم ، ولم يحتج هنا إليه.

قيل : وهذا لا يتوجه إلّا على قول من جعل الضمير في : وقاتلوهم ، عائدا على أهل مكة على أحد القولين ، وراجع رجل ابن عمر في الخروج في فتنة ابن الزبير مستدلا عليه بقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (٢) فعارضه بقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) (٣) فقال : ألم يقل : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)؟ فأجابه ابن عمر بأنا فعلنا ذلك على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ كان الإسلام قليلا ، وكان الرجل يفتن عن دينه بقتله أو تعذيبه ، وكثر الإسلام فلم تكن فتنة ، وكان الدين لله ، وأنتم تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). متعلق الانتهاء محذوف ، التقدير : عن الشرك بالدخول في الإسلام ، أو عن القتال. وأذعنوا إلى أداء الجزية فيمن يشرع ذلك فيهم ، أو : عن الشرك وتعذيب المسلمين وفتنتهم ليرجعوا عن دينهم ، وذلك على الاختلاف في الضمير ، إذ هو عام في الكفار ، أو خاص بكفار مكة.

والعدوان مصدر عدا ، بمعنى : اعتدى ، وهو نفي عام ، أي : لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلّا على من ظلم ، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء. سماه عدوانا من حيث هو جزاء عدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب ، وذلك على المقابلة ، كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٤) (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (٥) وقال الشاعر :

جزينا ذوي العدوان بالأمس فرضهم

قصاصا سواء حذوك النعل بالنعل

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٣٩.

(٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ٩.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٩٣.

(٤) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٢.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ٥٤.

٢٤٧

وقال الرماني ، إنما استعمل لفظ العدوان في الجزاء من غير مزاوجة اللفظ ، لأن مزاوجة اللفظ مزاوجة المعنى ، كأنه يقول : انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلّا على الظالمين انتهى كلامه.

وهذا النفي العام يراد به النهي ، أي : فلا تعتدوا ، وذلك على سبيل المبالغة إذا أرادوا المبالغة في ترك الشيء عدلوا فيه عن النهي إلى النفي المحض العام ، وصار ألزم في المنع ، إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلا ، ولا يصح حمل ذلك على النفي الصحيح أصلا لوجود العدوان على غير الظالم. فكأنه يكون إخبارا غير مطابق ، وهو لا يجوز على الله تعالى.

وفسر الظالمون هنا بمن بدأ بالقتال ، وقيل : من بقي على كفر وفتنة ، قال عكرمة ، وقتادة : الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلّا الله.

وقال الأخفش المعنى : فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلّا على من لم ينته ، وهو الظالم.

قال الزمخشري : فلا تعتدوا على المنتهين لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فوضع قوله : إلّا على الظالمين ، موضع : على المنتهين انتهى كلامه. وهذا الذي قاله لا يصح إلّا على تفسير المعنى ، وأما على تفسير الإعراب فلا يصح ، لأن : على المنتهين ، ليس مرادفا لقوله : إلّا على الظالمين ، لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين إلّا بالمفهوم مفهوم الصفة. وفي التركيب القرآني يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور بالنفي وإلّا ، وفرق بين الدلالتين ، ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الإعراب.

ألا ترى قوله : فوضع قوله : إلّا على الظالمين ، موضع : على المنتهين؟ وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الإعراب ، وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين ، ألا ترى فرق ما بين قولك : ما أكرم الجاهل! وما أكرم إلّا العالم؟ وإلّا على الظالمين ، استثناء مفرغ من الاخبار على الظالمين في موضع رفع على أنه خبر : لا ، على مذهب الأخفش ، أو على أنه خبر للمبتدأ الذي هو مجموع : لا عدوان ، على مذهب سيبويه. وقد تقدّم التنبيه على ذلك ، وجاء : بعلى ، تنبيها على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه.

وقيل : معنى لا عدوان ، لا سبيل ، كقوله : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ

٢٤٨

عَلَيَ) (١) أي لا سبيل عليّ ، وهو مجاز عن التسليط والتعرض ، وهو راجع لمعنى جزاء الظالم الذي شرحنا به العدوان.

ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي : إلّا على الظالمين منهم ، أو بالاندراج في عموم الظالمين ، فكان الربط بالعموم.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقسم ، والسدي ، والربيع ، والضحاك ، وغيرهم : نزلت في عمرة القضاء عام الحديبية ، وكان المشركون قاتلوهم ذلك العام في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال ، وذلك في ذي القعدة : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي : هتكه بهتكه ، تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم.

وقال الحسن : سأل الكفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تقاتل في الشهر الحرام؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه ، فهموا بالهجوم عليه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يقاتل ، فنزلت.

والشهر ، مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده ، ولا يصح من حيث اللفظ أن يكون خبرا ، فلا بد من حذف التقدير : انتهاك حرمة الشهر الحرام ، كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام ؛ والألف واللام في الشهر ، في اللفظ هي للعهد ، فالشهر الأول هو ذو القعدة من سنة سبع في عمرة القضاء ، والشهر الثاني هو من سنة ست عام الحديبية (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) والالف واللام للعهد في الحرمات ، أي : حرمة الشهر وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد ، والشهر ، والقطان ، حين دخلتم. وهذا التفسير على السبب المنقول عن ابن عباس ومن معه ، وأما على السبب المنقول عن الحسن فتكون الألف واللام للعموم في النفس والمال والعرض ، أي : وكل حرمة يجري فيها القصاص ، فيدخل في ذلك تلك الحرمات السابقة وغيرها ، وقيل : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) جملة مقطوعة مما قبلها ليست في أمر الحج والعمرة ، بل هو ابتداء أمر كان في أول الإسلام ، أي : من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به ، ثم نسخ ذلك بالقتال.

وقالت طائفة : ما كان من تعدّ في مال أو جرح لم ينسخ ، وله أن يتعدى عليه من ذلك بمثل ما تعدى عليه ، ويخفي ذلك إذا أمكنه دون الحاكم ولا يأثم بذلك ، وبه قال الشافعي ، وهي رواية في مذهب مالك.

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٢٨.

٢٤٩

وقالت طائفة ، منهم مالك : القصاص وقف على الحكام فلا يستوفيه إلّا هم.

وقرأ الحسن (وَالْحُرُماتُ) بإسكان الراء على الأصل ، إذ هو جمع حرمة ، والضم في الجمع اتباع.

(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) هذا مؤكد لما قبله من قوله (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) وقد اختلف فيها : أهي منسوخة أم لا؟ على ما تقدم من مذهب الشافعي ومذهب مالك.

وقال ابن عباس : نزلت هذه الآية وما بمعناها بمكة ، والإسلام لم يعز ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعز دينه ، أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم ، وأمروا بقتال الكفار.

وقال مجاهد : بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء ، وهو من التدريج في الأمر بالقتال.

وقوله : (فَاعْتَدُوا) ليس أمرا على التحتم إذ يجوز العفو ، وسمي ذلك اعتداء على سبيل المقابلة ، والباء في : بمثل ، متعلقة بقوله : فاعتدوا عليه ، والمعنى : بعقوبة مثل جناية اعتدائه ، وقيل : الباء زائدة ، أي : مثل اعتدائه ، وهو نعت لمصدر محذوف ، أي : اعتداء مماثلا لاعتدائه.

(وَاتَّقُوا اللهَ) أمر بتقوى الله فيدخل فيه اتقاؤه بأن لا يتعدّى الإنسان في القصاص من إلى ما لا يحل له.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالنصرة والتمكين والتأييد ، وجاء بلفظ : مع ، الدالة على الصحبة والملازمة حضا على الناس بالتقوى دائما إذ من كان الله معه فهو الغالب المنتصر ، ألا ترى إلى ما جاء في الحديث «ارموا وأنا مع بني فلان» ؛ فأمسكوا ، فقال : «ارموا وأنا معكم كلكم ؛» أو : كلاما هذا معناه ، وكذلك قوله لحسان : «اهجهم وروح القدس معك» ؛ (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) هذا أمر بالإنفاق في طريق الإسلام ، فكل ما كان سبيلا لله وشرعا له كان مأمورا بالإنفاق فيه ؛ وقيل : معناه الأمر بالإنفاق في أثمان آلة الحرب ، وقيل : على المقلين من المجاهدين ، قاله ابن عباس ، قال : نزلت في أناس من الأعراب سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : بماذا نتجهز؟ فو الله ما لنا زاد وقيل : في الجهاد على نفسه وعلى غيره ، وقيل : المعنى : ابذلوا أنفسكم في المجاهدة في سبيل الله.

٢٥٠

وسمي بذل النفس في سبيل الله إنفاقا مجازا واتساعا كقول الشاعر :

وأنفقت عمري في البطالة والصبي

فلم يبق لي عمر ولم يبق لي أجر

والأظهر القول الأول ، وهو : الأمر بصرف المال في وجوه البرّ من حج ، أو عمرة ، أو جهاد بالنفس ، أو بتجهيز غيره ، أو صلة رحم ، أو صدقة ، أو على عيال ، أو في زكاة ، أو كفارة ، أو عمارة سبيل ، أو غير ذلك. ولما اعتقبت هذه الآية لما قبلها مما يدل على القتال والأمر به ، تبادر إلى الذهن النفقة في الجهاد للمناسبة.

(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال عكرمة : نزلت في الأنصار ، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله ، وقال النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر الله لي ، فنزلت.

وفي حديث طويل تضمن أن رجلا من المسلمين حمل على صف الروم ، ودخل فيهم وخرج ، فقال الناس : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب الانصاري : تأوّلتم الآية على غير تأويلها ، وما أنزلت هذه الآية إلّا فينا معشر الأنصار ، لما أعز الله دينه قلنا : لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا ، فنزلت.

وفي تفسير التهلكة أقوال.

أحدها : ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال ، قاله أبو أيوب.

الثاني : ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة ، قاله حذيفة ، وإن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وابن جبير.

الثالث : التقحم في العدو بلا نكاية ، قاله أبو القاسم البلخي.

الرابع : التصدّق بالخبيث ، قاله عكرمة.

الخامس : الإسراف بإنفاق كل المال ، قال تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (١) (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (٢) قاله أبو علي.

السادس : الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته ، قاله البراء ، وعبيدة السلماني.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٧.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٩.

٢٥١

السابع : القنوط من التوبة ، قاله قوم.

الثامن : السفر للجهاد بغير زاد ، قاله زيد بن أسلم ، وقد كان فعل ذلك قوم فأدّاهم إلى الانقطاع في الطريق ، أو إلى كونهم عالة على الناس.

التاسع : إحباط الثواب إمّا بالمنّ أو الرياء والسمعة ، كقوله : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (١).

وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية. والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى ، فإن الجهاد في سبيل الله مفض إلى الهلاك ، وهو القتل ، ولم ينه عنه ، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة ، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى ، وقد ردّ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو : أن يقتل في سبيل الله ثم يحيى ، فيقاتل فيقتل ، أو كما جاء في الحديث ؛ ويقال : ألقى بيده في كذا ، أو إلى كذا ، إذا استسلم ، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، وكذا على كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : والله إن القاءنا بأيدينا للموت لعجز.

وألقى يتعدى بنفسه ، كما قال تعالى : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) (٢) وقال الشاعر :

حتى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثغور ظلامها

وجاء مستعملا بالباء لهذه الآية ، وكقول الشاعر :

وألقى بكفيه الفتى استكانة

من الجوع وهنا ما يمرّ وما يحلى

وإذا كان ألقى على هذين الاستعمالين ، فقال أبو عبيدة وقوم : الباء زائدة ، التقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة ، ويكون عبّر باليد عن النفس ، كأنه قيل : ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. وقد زيدت الباء في المفعول كقوله.

سود المحاجر لا يقرأن بالسور

أي : لا يقرأن السور ، إلّا أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس ، وقيل : مفعول ألقى محذوف ، التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، وتتعلق الباء بتلقوا ، أو تكون الباء للسبب ، كما تقول : لا تفسد حالك برأيك.

__________________

(١) سورة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : ٣٣.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٤٥.

٢٥٢

والذي تختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو : بأيديكم ، لكنه ضمن : ألقى ، معنى ما يتعدى بالباء ، فعداه بها ، كأنه قيل : ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة. كقوله : أفضيت بجنبي إلى الأرض أي : طرحت جنبي على الأرض ، ويكون إذ ذاك قد عبّر عن الأنفس بالأيدي ، لأن بها الحركة والبطش والامتناع ، فكأنه يقول : إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك ، ولا يهمل ما وضع له ، ويفضي به إلى الهلاك وتقدّمت معاني : أفعل ، في أول البقرة ، وهي أربعة وعشرون معنى ، وعرضتها على لفظ : ألقى ، فوجدت أقرب ما يقال فيه : أن : أفعل ، للجعل على ما استقرأه التصريفيون تنقسم إلى ثلاثة أقسام.

القسم الأول : أن تجعله كقولك : أخرجته ، أي : جعلته يخرج ، فتكون الهمزة في هذا النوع للتعدية.

القسم الثاني : أن تجعله على صفة ، كقوله : أطردته ، فالهمزة فيه ليست للتعدية ، لأن الفعل كان متعدّيا دونها ، وإنما المعنى : جعلته طريدا.

والقسم الثالث : أن تجعله صاحب شيء بوجه ما ، فمن ذلك : أشفيت فلانا ، جعلت له دواء يستشفى به ، وأسقيته : جعلته ذا ماء يسقى به ما يحتاج إلى السقي. ومن هذا النوع : أقبرته ، وأنعلته ، وأركبته ، وأخدمته ، وأعبدته : جعلت له قبرا ، ونعلا ، ومركوبا ، وخادما ، وعبدا.

فأما : ألقى ، فإنها من القسم الثاني ، فمعنى : ألقيت الشيء : جعلته لقى ، واللقى فعل بمعنى مفعول ، كمان أن الطريد فعيل بمعنى مفعول ، فكأنه قيل : لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى التهلكة فتهلك.

وقد حام الزمخشري نحو هذا المعنى الذي أيدناه فلم ينهض بتخليصه ، فقال : الباء في : بأيديكم ، مثلها في أعطى بيده للمنقاد ، والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم ، أي : لا تجعلوها آخذة بأيديكم ، مالكة لكم ، انتهى كلامه. وفي كلامه أن الباء مزيدة ، وقد ذكرنا أن ذلك لا ينقاس.

(وَأَحْسِنُوا) هذا أمر بالإحسان ، والأولى حمله على طلب الإحسان من غير تقييد بمفعول معين.

٢٥٣

وقال عكرمة : المعنى : وأحسنوا الظنّ بالله ، وقال زيد بن أسلم : وأحسنوا بالإنفاق في سبيل الله ، وفي الصدقات. وقيل : وأحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ، قال ذلك بعض الصحابة قيل وأحسنوا ، معناه : جاهدوا في سبيل الله ، والمجاهد محسن.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) هذا تحريض على الإحسان لأن فيه إعلاما بأن الله يحب من الإحسان صفة له ، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائما بحيث لا يخلو منه محبة الله دائما.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الإتمام كما تقدّم ضد النقص ، والمعنى : افعلوهما كاملين ولا تأتوا بهما ناقصين شيئا من شروطهما ، وأفعالهما التي تتوقف وجود ماهيتهما عليهما ، كما قال غيلان :

تمام الحج أن تقف المطايا

على خرقاء واضعة اللثام

جعل : وقوف المطايا على محبوبته ، وهي : مي ، كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلّا به. هذا ظاهر اللفظ ، وقد فسر : الإتمام ، بغير ما يقتضيه الظاهر. قال الشعبي ، وابن زيد : إتمامهما أن لا ينفسخ ، وأن تتمهما إذا بدأت بهما.

وقال علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد ، وطاووس : إتمامهما أن تحرم بهما مفردين من دويرة أهلك ، وفعله عمران بن حصين. وقال الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك ، ويؤيد هذا قوله : لله.

وقال القاسم بن محمد وقتادة : إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج ، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم ، وقالت فرقة : إتمامهما أن تفرد كل واحد من حج أو عمرة ولا تقرن ، والإفراد عند هؤلاء أفضل.

وقال قوم : إتمامهما : أن تقرن بينهما ، والقران عند هؤلاء أفضل. وقال ابن عباس ، وعلقمة ، وإبراهيم ، وغيرهم : إتمامها أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء ، وهذا يقرب من القول الأول ، وقال قوم : أن يفرد لكل واحد منهما سفرا. وقيل : أن تكون النفقة حلالا وقال مقاتل : إتمامهما أن لا تستحل فيهما ما لا يجوز ، وكانوا يشركون في إحرامهم ، يقولون : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك إلّا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. فقال : أتموهما ولا تخلطوا بهما شيئا.

٢٥٤

وقال الماتريدي : إنما قال (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) لأن الكفرة كانوا يفعلون الحج لله والعمرة للصنم ، وقال المروزي : كان الكفار يحجون للأصنام.

وقرأ علقمة : وأقيموا الحج وقرأ طلحة بن مصرف : الحج ، بالكسر هنا ، وفي آل عمران ، وبالفتح في سائر القرآن وتقدّم قراءة ابن إسحاق : الحج بالكسر في جميع القرآن ، وسيأتي ذكر الخلاف في قوله : (حِجُّ الْبَيْتِ) (١) في موضعه.

وقرأ ابن مسعود : وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله. وقرأ علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وابن عمر والشعبي ، وأبو حيوة ، والعمرة لله بالرفع على الابتداء والخبر ، فيخرج العمرة عن الأمر ، وينفرد به الحج. وروي عنه أيضا : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ، وينبغي أن يحمل هذا كله على التفسير ، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون ، و : لله ، متعلق بأتموا وهو مفعول من أجله ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، ويكون العامل محذوفا تقديره : كائنين لله ، ولا خلاف في أن الحج فرض ، وأنه أحد الأركان التي بني الإسلام عليها ، وفروضه : النية ، والإحرام ، والطواف المتصل بالسعي بين الصفا والمروة ، خلافا لأبي حنيفة ، والوقوف بعرفة ، والجمرة ، على قول ابن الماجشون ، والوقوف بمزدلفة على قول الأوزاعي.

وأما أعمال العمرة : فنية ، وإحرام ، وطواف ، وسعي. ولا يدل الأمر بإتمام الحج والعمرة على فرضية العمرة ، ولا على ، أنها سنة ، فقد يصح صوم رمضان وشيئا من شوال بجامع ما اشتركا فيه من المطلوبية ، وإن اختلفت جهتا الطلب ، ولذلك ضعف قول من استدل على أن العمرة فرض بقوله : وأتموا. وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومسروق ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وابن سيرين ، والشعبي ، وابن جبير ، وأبي بردة ، وعبد الله بن شدّاد ؛ ومن علماء الأمصار : الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وابن حميم ، من المالكيين.

وذهب جماعة من الصحابة إلى أن العمرة سنة ، منهم : ابن مسعود ، وجابر ، ومن التابعين : النخعي ، ومن علماء الأمصار : مالك ، وأبو حنيفة ، إلّا أنه إذا شرع فيها عندهما وجب إتمامها. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة القولين ، والحجج منقولة في كتب الفقه.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٩٧.

٢٥٥

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) ظاهره ثبوت هذا الحكم للأمة ، وأنه يتحلل بالإحصار. وروي عن عائشة وابن عباس : أنه لايتحلل من إحرامه إلّا بأداء نسكه ، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره. وليس لمحرم أن يتحلل بالإحصار بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كان إحرامه بعمرة لم يفت ، وإن كان بحج ففاته قضاه بالفوات بعد إحلاله منه وتقدم الكلام في الإحصار.

وثبت بنقل من نقل من أهل اللغة : أن الإحصار والحصر سواء ، وأنهما يقالان في المنع بالعدوّ ، وبالمرض ، وبغير ذلك من الموانع ، فتحمل الآية على ذلك ، ويكون سبب النزول ورد على أحد مطلقات الإحصار.

وليس في الآية تقييد ، وبهذا قال قتادة ، والحسن ، وعطاء ، والنخعي ، ومجاهد ، وأبو حنيفة ، وقال علقمة ، وعروة : الآية نزلت فيمن أحصر بالمرض لا بالعدوّ ، وقال ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومالك ، والشافعي. لا يكون الإحصار إلّا بالعدوّ فقط.

قال ابن عباس : والآية نزلت فيمن أحصر بالعدوّ لا بالمرض. وقال مالك ، والشافعي : ولو أحصر بمرض فلا يحله إلّا البيت ، ويقيم حتى يفيق ، ولو أقام سنين.

وظاهر قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) استواء المكي والآفاقي في ذلك ، وقال عروة ، والزهري ، وأبو حنيفة : ليس على أهل مكة إحصار.

وظاهر لفظ : أحصرتم ، مطلق الإحصار ، وسواء علم بقاء العدوّ استيطانه لقوته وكثرته ، فيحل المحصر مكانه من ساعته على قول الجمهور ، أو رجا زواله ، وقيل : لا يباح له التحلل إلّا بعد أن يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه لو زال العدوّ لم يدرك الحج ، فيحل حينئذ ، وبه قال ابن القاسم ، وابن الماجشون.

وقيل : من حصر عن الحج بعذر حتى يوم النحر فلا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة ، ومطلق الإحصار يشمل قبل عرفة وبعدها خلافا لأبي حنيفة ، فإن من أحصر بمكة أو بعد الوقوف فلا يكون محصرا ؛ وبناء الفعل للمفعول يدل على أن المحصر بمسلم أو كافر سواء.

(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) هو شاة ، قاله علي ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير ، وقتادة ، وإبراهيم ، والضحاك ، ومغيرة. وقد سميت هديا في قوله : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (١) وقال الحسن ، وقتادة : أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأدناه شاة. وبه قال مالك ، وأبو يوسف ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٩٥.

٢٥٦

وزفر ، يكون من الثلاثة ، يكون المستيسر على حكم حال المهدي ، وعلى حكم الموجود.

وروى طاووس عن ابن عباس : أنه على قدر الميسرة ، وقال ابن عمر ، وعائشة ، والقاسم ، وعروة : هو جمل وبقرة دون بقرة ، ولا يكون الهدي إلّا من هذين ، ولا يكون الشاة من الهدي ، وبه قال أبو حنيفة.

قال ابن شبرمة : من الإبل خاصة ، وقال الأوزاعي يهدي الذكور من الإبل والبقر.

ولو عدم المحصر الهدي فهل له بدل ينتقل إليه؟ قال أبو حنيفة : تكون في ذمته أبدا ولا يحل حتى يجد هديا فيذبح عنه ، وقال أحمد : له بدل ، والقولان عن الشافعي ، فعلى القول الأول : يقيم على إحرامه أو يتحلل ، قولان. وعلى الثاني : يقوم الهدي بالدراهم ، ويشتري بها الطعام ، والكل أنه لا بدل للهدي ، والظاهر أن العمرة كالحج في حكم الإحصار ، وبه قال أكثر الفقهاء.

وقال ابن سيرين لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة.

والظاهر أنه لا يشترط سن في الهدي ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يجزى إلّا الثني فصاعدا ، وقال مالك : لا يجزي من الإبل إلّا الثني فصاعدا ، ويجوز اشتراك سبعة في بقرة أو بدنة ، وهو قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي. وقال مالك : يجوز ذلك في التطوع لا في الواجب ، والظاهر وجوب (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وقال ابن القاسم : لا يهدي شيئا إلّا إن كان معه هدي ، والجمهور على أنه يحل حيث أحصر وينجز هديه إن كان ثم هدي ، ويحلق رأسه.

وقال قتادة ، وإبراهيم : يبعث هديه إن أمكنه ، فإذا بلغ محله صار حلالا. وقال أبو حنيفة : إن كان حاجا فبالحرم متى شاء ، وقال أبو يوسف ، ومحمد في أيام النحر : وإن كان معتمرا فبالحرم في كل وقت عندهم جميعا ، ونحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هديه حيث أحصر ، وكان طرف الحديبية الربى التي أسفل مكة ، وهو من الحرم ، وعن الزهري : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحر هديه في الحرم.

وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة.

واختلفوا في الاشتراط في الحج إذا خاف أن يحصر بعدوّ أو مرض ، وصيغة الاشتراط أن يقول إذا أهل : لبيك اللهم لبيك ، ومحلي حيث حبستني. فذهب الثوري ، وأبو

٢٥٧

حنيفة ، ومالك ، وأصحابهم إلى أنه لا ينفعه الاشتراط. وقال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والشافعي : في القديم لا بأس أن يشترط ، وله شروط ، فيه حديث خرج في الصحيح : ولا قضاء عليه عند الجميع إلّا من كان لم يحج ، فعليه حجة الإسلام ، وشذ ابن الماجشون فقال : ليس عليه حجة الإسلام ، وقد قضاها حين أحصر.

وما ، من قوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ) موصولة ، وهي مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : فعليه ما استيسر ، قاله الأخفش ، أو : في موضع نصب : فليهد قاله أحمد بن يحيى ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : فالواجب له استيسر ، واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد ، أي : يسر ، بمعنى : استغنى وغني ، واستصعب وصعب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل.

ومن ، هنا تبعيضية ، وهي في موضع الحال من الضمير المستكن في استيسر العائد على ما ، فيتعلق بمحذوف التقدير : كائنا من الهدي ، ومن أجاز أن يكون : من ، لبيان الجنس ، أجاز ذلك هنا. والألف واللام في : الهدي ، للعموم.

وقرأ مجاهد ، والزهري ، وابن هرمز ، وأبو حيوة : الهدي ، بكسر الدال وتشديد الياء في الموضعين ، يعني هنا في الجر والرفع ، وروى ذلك عصمة عن عاصم.

(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) هذا نهي عن حلق الرأس مغيّا ببلوغ الهدي محله ، ومفهومه : إذا بلغ الهدي محله فاحلقوا رؤوسكم. والضمير في : تحلقوا ، يحتمل أن يعود على المخاطبين بالإتمام ، فيشمل المحصر وغيره ، ويحتمل أن يعود على المحصرين ، وكلا الاحتمالين قال به قوم ، وأن يكون خطابا للمحصرين هو قول الزمخشري ، قال : أي : لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله ، أي : مكانه الذي يجب نحره فيه ، ومحل الدين وقت وجوب قضائه ، وهو على ظاهر مذهب أبي حنيفة. انتهى كلامه.

وكأنه رجح كونه للمحصرين ، لأنه أقرب مذكور ، وظاهر قول ابن عطية أنه يختار أن يكون الخطاب لجميع الأمة محصرا كان المحرم أو مخلىّ ، لأنه قدم هذا القول ، ثم حكى القول الآخر ، قال : ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة في قوله : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) مجاز في الفاعل وفي المفعول ، أما في الفاعل ففي إسناد الحلق إلى الجميع ، وإنما يحلق بعضهم رأس بعض ، وهو مجاز شائع كثير ، تقول : حلقت : رأسي ، والمعنى

٢٥٨

أن غيره حلقه له : وأما المجاز ففي المفعول ، فالتقدير : شعر رؤوسكم ، فهو على حذف مضاف ، والخطاب يخص الذكور ، والحلق للنساء مثله في الحج وغيره ، وإنما التقصير سنتهنّ في الحج.

وخرّج أبو داود ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس على النساء حلق إنما عليهنّ التقصير». وأجمع أهل العلم على القول به ، واختلفوا في مقدار ما يقصر من شعرها على تقادير كثيرة ذكرت في الفقه ، ولم تتعرّض هذه الآية للتقصير فنتعرّض نحن له هنا ، وإنما استطردنا له من قوله : (وَلا تَحْلِقُوا).

وظاهر النهي : الحظر والتحريم حتى يبلغ الهدي محله ، فلو نسي فحلق قبل النحر ، فقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون : هو كالعامد وقال ابن القاسم : لا شيء عليه. أو تعمد ، فقال أبو حنيفة ، ومالك : لا يجوز. وقال الشافعي : يجوز. قالوا : وهو مخالف لظاهر الآية.

ودلت الآية على أن من النسك في الحج حلق الرأس ، فيدل ذلك على جوازه في غير الحج ، خلافا لمن قال : إن حلق الرأس في غير الحج مثلة ، لأنه لو كان مثلة لما جاز ، لا في الحج ولا غيره.

وقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه خبر قتله بثلاثة أيام ، وكان علي يحلق ، وقال أبو عمرو بن عبد البر : أجمع العلماء على إباحة الحلق ، وظاهر عموم : ولا تحلقوا ، أو خصوصه بالمحصرين أن الحلق في حقهم نسك ، وهو قول مالك ، وأبو يوسف.

وقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا حلق على المحصر والقولان عن الشافعي.

(حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) حيث أحصر من حل أو حرم ، قاله عمر ، والمسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، أو : المحرم ، قاله علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وتفسيرهم يدل على أن المحل هنا المكان ، ولم يقرأ إلّا بكسر الحاء. فيما علمنا ، ويجوز الفتح : أعني إذا كان يراد به المكان ، وفرق الكسائي هنا ، فقال : الكسر هو الإحلال من الإحرام ، والفتح هو موضع الحلول من الإحصار ، وقد تقدّم طرف من القول في محل الهدي ، ولم تتعرّض الآية لما على المحصر في الحج إذا تحلل بالهدي ، فعن النسيء عليه حجة ، وقال الحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم ، وعلقمة ، والقاسم ، وابن مسعود فيما روى عنه مجاهد ، وابن عباس ، فيما روى عنه ابن جبير : عليه حجة وعمرة ،

٢٥٩

فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع ، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه ، فإن كان المحصر بمرض أو عدوّ ، محرما بحج تطوّع ، أو بعمرة تطوّع ، وحل بالهدي فعليه القضاء عند أبي حنيفة ، وقال مالك ، والشافعي : لا قضاء على من أحصر بعدوّ لا في حج ولا في عمرة.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) سبب النزول حديث كعب بن عجزة المشهور ، وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رآه والقمل يتناثر من رأسه ، وقيل : رآه وقد قرح رأسه ، ولما تقدّم النهي عن الحلق إلى الغاية التي هي بلوغ الهدي كان ذلك النهي شاملا ، فخص بمن ليس مريضا ولا به أذى من رأسه ، أما هذان فأبيح لهما الحلق ، وثم محذوف يصح به الكلام ، التقدير : فمن كان منكم مريضا ففعل ما بينا في المحرم من حلق أو غيره ، أو به أذى من رأسه فحلق ، وظاهر النهي العموم.

وقال بعض أهل العلم : هو مختص بالمحصر ، لأن جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله لا يجوز ، فربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر ، فأذن له في زوال ذلك بشرط الفدية ، وأكثر العلماء على أنه على العموم ، ويدل عليه قصة ابن عجرة.

ومنكم ، متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال ، لأنه قبل تقدّمه كان صفة : لمريضا ، فلما تقدّم انتصب على الحال. ومن ، هنا للتبعيض. وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقا : بمريضا ، وهو لا يكاد يعقل ، و : أو به أذى من رأسه ، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات ، فيكون معطوفا على قوله : مريضا ، ويرتفع : أذى ، على الفاعلية بالمجرور الذي هو به ، التقدير : أو كائنا به أذى من رأسه ، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد ، فتكون تلك الجملة معطوفة على قوله : مريضا ، وهي في موضع مفرد ، لأن المعطوف على المفرد مفرد ، في التقدير : إذا كان جملة ، ويرتفع ، أذى ، إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر ، فهو : في موضع رفع ، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب ، وأجازوا أن يكون معطوفا على إضمار : كان ، لدلالة : كان ، الأولى ، عليها. التقدير : أو كان به أذى من رأسه ، فاسم كان على هذا إمّا ضمير يعود على : من ؛ وبه أذى ، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان ، وإما : أذى وبه ، في موضع خبر كان ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ، أو به أذى من رأسه ، معطوفا على كان ، وأذى ، رفع بالابتداء ، وبه ، الخبر متعلق بالاستقرار ، والهاء في : به ، عائدة على : من ، وكان قد قدم أبو البقاء أن : من ، شرطية ،

٢٦٠