البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

وانتصاب : بينكم ، بالفعل المنهي عنه و : بين ، مشعر بالتخلل والتعارف ، كقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (١) فهو أبلغ من أن يأتي النهي عن شيء لا يكون بينهم ، لأن الفعل المنهي عنه لو وقع لكان ذلك مشتهرا بينهم ، قد تواطأوا عليه وعلموا به ، لأن ما تخلل أقواما يكون معروفا عندهم.

(إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ختم هذه الآية بهذه الصفة الدالة على المبصرات ، لأن ما تقدمه من العفو من المطلقات والمطلقين ، وهو أن يدفع شطر ما قبضن أو يكملون لهنّ الصداق ، هو مشاهد مرئي ، فناسب ذلك المجيء بالصفة المتعلقة بالمبصرات.

ولما كان آخر قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الآية قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) مما يدرك بلطف وخفاء ، ختم ذلك بقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وفي ختم هذه الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وعد جميل للمحسن وحرمان لغير المحسن.

وقد تضمنت هذه الآية الكريمة والتي قبلها أنواعا من الفصاحة ، وضروبا من علم البيان والبلاغة.

الكناية في : أن تمسوهنّ ، والتجنيس المغاير ، في : فرضتم لهنّ فريضة ، والطباق في : الموسع والمقتر ، والتأكيد بالمصدرين في : متاعا وحقا ، والاختصاص : في : حقا على المحسنين ، ويمكن أن يكون من : التتميم ، لما قال : حقا ، أفهم الإيجاب ، فلما قال : على المحسنين ، تمم المعنى ، وبيّن أنه من باب التفضل والإحسان لا من باب الإيجاب ، فلما قال : على المحسنين تمم التعميم ، وبين أنه من باب التفضل والإحسان ، لا من باب الإيجاب ؛ والالتفات : في : وأن تعفوا ، ولا تنسوا ؛ والعدول عن الحقيقة إلى المجاز في : الذي بيده عقدة النكاح ، عبر عن الإيجاب والقبول بالعقدة التي تعقد حقيقة ، لما في ذلك القول من الارتباط لكل واحد من الزوجين بالآخر.

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) قالوا : هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها ، والمطلقات ، وهي متقدّمة عليهنّ في النزول ، متأخرة في التلاوة ورسم المصحف ، وشبهوها بقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (٢) وبقوله : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) (٣) قالوا :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٦٧.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٧٢.

٥٤١

فيجوز أن تكون مسوقة على الآيات التي ذكر فيها القتال ، لأنه بين فيها أحوال الصلاة في حال الخوف ، قالوا : وجاء ما هو متعلق بأبعد من هذا ، زعموا أن قوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) (١) ردا لقوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٢) قالوا : وأبعد منه : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) (٣) راجع إلى قوله : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (٤) الآية قالوا : أو يجوز أن يكون حدث خوف قبل إنزال إتمام أحكام المطلقات ، فبين تعالى أحكام صلاة الخوف عند مسيس الحاجة إلى بيانه ، ثم أنزل إتمام أحكام المطلقات.

قالوا : ويجوز أن تكون متقدمة في التلاوة ورسم المصحف ، متأخرة في النزول قبل هذه الآيات ، على قوله بعد هذه الآية : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (٥) وهذه كلها أقوال كما ترى.

والذي يظهر في المناسبة أنه تعالى ، لما ذكر تعالى جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات ، وأحكامهم في النكاح والوطء ، والإيلاء والطلاق ، والرجعة ، والإرضاع والنفقة والكسوة ، والعدد والخطبة ، والمتعة والصداق والتشطر ، وغير ذلك ، كانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل ، بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال ، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت ، ويبلغ منه الجهد ، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق ، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلّا لمن وفقه الله تعالى ، أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة بين الله وبين عبده ، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين ، فلأن يؤمر بأداء حقوق الله أولى وأحق ، ولذلك جاء : «فدين الله أحق أن يقضى» فكأنه قيل : لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهنّ عن أداء ما فرض الله عليكم ، فمع تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة ، حتى في حالة الخوف ، فلا بد من أدائها رجالا وركبانا ، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة الاشتغال بالنساء ، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جدا لا بد معها من الصلاة ، فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٢٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١١١.

(٣) سورة المعارج : ٧ / ١.

(٤) سورة الأنفال : ٨ / ٣٢.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ١٩٠ و ٢٤٤.

٥٤٢

وقيل : مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فيكون ذلك عونا لهم على امتثالها ، وصونا لهم عن مخالفتها ، وقيل : وجه ارتباطها بما قبلها وبما بعدها ، أنه لما أمر تعالى بالمحافظة على حقوق الخلق بقوله : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ناسب أن يأمر بالمحافظة على حقوق الحق ، ثم لما كانت حقوق الآدميين منها ما يتعلق بالحياة ، وقد ذكره ، ومنها ما يتعلق بالممات ، ذكره بعده ، في قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً) (١) الآية.

والخطاب : يحافظوا لجميع المؤمنين ، وهل يعم الكافرين؟ فيه خلاف. و : حافظوا ، من باب : طارقت النعل ، ولما ضمن المعنى التكرار والمواظبة عدى بعلى ، وقد رام بعضهم أن يبقى فاعل على معناها الأكثر فيها من الاشتراك بين اثنين ، فجعل المحافظة بين العبد وبين الرب ، كأنه قيل : احفظ هذه الصلاة يحفظك الله الذي أمر بها ، ومعنى المحافظة هنا : دوام ذكرها ، أو الدوام على تعجيلها في أول أوقاتها ، أو : إكمال فروضها وسننها ، أو جميع ما تقدّم. أقوال أربعة.

والألف واللام فيها للعهد ، وهي : الصلوات الخمس. قالوا : وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة ، فالمراد بها الصلوات الخمس.

(وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) الوسطى فعلى مؤنثة الأوسط ، كما قال أعرابي يمدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

يا أوسط الناس طرّا في مفاخرهم

وأكرم الناس أمّا برّة وأبا

وهو خيار الشيء وأعدله ، كما يقال : فلان من واسطة قومه ، أي : من أعيانهم ، وهل سميت : الوسطى ، لكونها بين شيئين من : وسط فلان يسط ، إذا كان وسطا بين شيئين؟ أو : من وسط قومه إذا فضلهم؟ فيه قولان ، والذي تقتضيه العربية أن تكون الوسطى مؤنث الأوسط ، بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل ، كالبيت الذي أنشدناه : يا أوسط الناس ، وذكر أن أفعل التفضيل لا يبنى إلّا مما يقبل الزيادة والنقص ، وكذلك فعل التعجب ، فكل ما لا يقبل الزيادة والنقص لا يبنيان منه ألا ترى أنك لا تقول زيد أموت الناس؟ ولا : ما أموت زيدا؟ لأن الموت شيء لا يقبل الزيادة ولا النقص ، وإذا تقرر هذا فكون الشيء وسطا بين شيئين

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٠.

٥٤٣

لا يقبل الزيادة ولا النقص ، فلا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل ، لأنه لا تفاضل فيه ، فتعين أن تكون الوسطى بمعنى الأخير والأعدل ، لأن ذلك معنى يقبل التفاوت ، وخصت الصلاة الوسطى بالذكر ، وان كانت قد اندرجت في عموم الصلوات قبلها ، تنبيها على فضلها على غيرها من الصلوات ، كما نبه على فضل جبريل وميكال في تجريدهما بالذكر في قوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (١) وعلى فضل من ذكر وجرد من الأنبياء بعد قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) (٢) الآية ، وعلى فضل النخل والرمان في قوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) (٣) وقد تكلمنا على هذا النوع من الذكر في قوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (٤).

وكثر اختلاف العلماء ، من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم ، في المراد بالصلاة الوسطى ، ولهذا قال سعيد بن المسيب : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبك بين أصابعه.

والذي تلخص فيه أقوال :

أحدها : أنها العصر ، قاله عليّ ، وابن مسعود ، وأبو أيوب ، وابن عمر في رواية ، وسمرة بن جندب ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية عطية ، وأبو سعيد الخدري ، وعائشة في رواية ، وحفصة ، والحسن بن المسيب ، وابن جبير ، وعطاء في رواية ، وطاووس ، والضحاك ، والنخعي ، وعبيد بن حميد ، وذر بن حبيش ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، والشافعي في قول ، وعبد الملك بن حبيب ، من أصحاب مالك ، وهو اختيار الحافظ أبي بكر بن العربي في كتابه المسمى (بالقبس في شرح موطأ مالك بن أنس) واختيار أبي محمد بن عطية في تفسيره ، وقد استفاض من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يوم الأحزاب : «شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا». وقال عليّ : كنا نراها الصبح حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فعرفنا أنها العصر.

وروى أبو مالك الاشعري ، وسمرة بن جندب : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر ، وفي مصحف عائشة ، وإملاء حفصة : والصلاة الوسطى وهي العصر ، ومن روى : وصلاة العصر ، أول على أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى.

__________________

(١ ـ ٤) سورة البقرة : ٢ / ٩٨.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٧.

(٣) سورة الرحمن : ٥٥ / ٦٨.

٥٤٤

وقرأ أبيّ ، وابن عباس ، وعبيد بن عمير : والصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، على البدل.

الثاني : أنها الفجر ، روي ذلك عن عمر ، وعلي في رواية ، وأبي موسى ومعاذ ، وجابر ، وأبي أمامة ، وابن عمر. في رواية مجاهد ، وأنس ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، وعكرمة ، وطاووس في رواية ابنه ، ومجاهد ، وعبد الله بن شدّاد ، ومالك ، والشافعي في قول : وقد قال أبو العالية : صليت مع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغداة ، فقلت لهم : أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا : التي صليت قبل. ورووا عن أبي رجاء العطاردي قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الغداة ، فقنت فيها قبل الركوع ، ورفع يديه ، فلما فرع قال : هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا بها أن نقوم فيها قانتين.

الثالث : أنها الظهر ، روي ذلك عن ابن عمر ، وزيد ، وأسامة ، وأبي سعيد ، وعائشة. وفي رواية قالوا : وروى زيد بن ثابت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي الهاجرة والناس في هاجرتهم ، فلم يجتمع إليه أحد فتكلم في ذلك. فانزل الله تعالى : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) يريد الظهر ، وقد روي أنه لا يكون وراءه إلّا الصف والصفان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد هممت أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم» فنزلت هذه الآية : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى).

الرابع : أنها المغرب ، روي ذلك عن ابن عباس ، وقبيصة بن ذؤيب.

الخامس : أنها العشاء الآخرة ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في تفسيره ، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن فرقة.

السادس : أنها الصلوات الخمس ، قاله معاذ بن جبل.

السابع : أنها احدى الصلوات الخمس ، لا بعينها. وبه قال : سعيد بن المسيب ، وأبو بكر الوراق ، وأخفاها ليحافظ على الصلوات كلها ، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان ، واسم الله الأعظم في سائر الأسماء ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، وقد رواه نافع عن ابن عمر ، وقاله الربيع بن خيثم ، وقد روي أنه نزلت : والصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ثم نسخت فنزلت : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فيلزم من هذا نسخ تعيينها ، وأبهمت بعد أن عينت. قال القرطبي المفسر : وهو الصحيح إن شاء الله لتعارض الأدلة وعدم الترجيح ، فلم يبق إلّا المحافظة على جميعها وأدائها.

٥٤٥

الثامن : أنها الجمعة ، وفي سائر الأيام الظهر. روي ذلك عن علي ، ذكره ابن حبيب.

التاسع : أنها العتمة والصبح ، قاله عمر وعثمان.

العاشر : أنها الصبح والعصر معا ، قاله أبو بكر الأبهري من فقهاء المالكية.

ورجح كل قول من الأقوال التي عينت فيها : أن الوسطى هي كذا ، بأحاديث وردت في فضل تلك الصلاة ، ورجح بعضها بأنها وسط بين كذا وكذا ، ولا حجة في شيء من ذلك ، لأن ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنها التي أراد الله بقوله : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ولأن كونها وسطا بين كذا وكذا لا يصلح أن يبنى منه أفعل التفضيل ، كما بيناه قبل.

وقد صنف شيخنا الإمام المحدّث ، أوحد زمانه وحافظ أوانه ، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن العفيف شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي كتابا في هذا المعنى سماه (كتاب كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى) قرأناه عليه ، ورجح فيه أنها صلاة العصر ، وأن ذلك مروي نصا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روى ذلك عنه : عليّ بن أبي طالب ، واستفاض ذلك عنه ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب ، وعبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة. وذكر فيه بقية الأقاويل العشرة التي سردناها ، وزاد سبعة أقاويل :

أحدها : أنها الجمعة خاصة. الثاني : أنها الجماعة في جميع الصلوات. الثالث : أنها صلاة الخوف. الرابع : أنها الوتر ، واختاره أبو الحسن عليّ بن محمد السخاوي النحوي المقري. الخامس : أنها صلاة عيد الأضحى. السادس : أنها صلاة العيد يوم الفطر. السابع : أنها صلاة الضحى ، حكاه بعضهم وتردد فيه.

فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولا ، والذي ينبغي أن نعوّل عليه منها هو. قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو : أنها صلاة العصر ، وبه قال شيخنا الحافظ أبو محمد ، رحمه‌الله ، أخبرنا المسند أبو بكر محمد بن أبي الطاهر إسماعيل بن عبد المحسن الدمشقي ، بقراءتي عليه بالقاهرة من ديار مصر ، حرسها الله ، عن أبي الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي المقري ، قال : أخبرنا فقيه الحرم : أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي ، قال : أخبرنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد بن عبد الغفار الفارسي (ح).

٥٤٦

وأخبرنا أستادنا العلامة أبو جعفر ، أحمد بن ابراهيم بن الزبير الثقفي ، بقراءتي عليه بغرناطة ، من جزيرة الأندلس ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى الفارقي ، قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن زغيبة المشاور ، قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث (ح).

وأخبرنا القاضي أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص ، مناولة عن أبي القاسم أحمد بن عمر بن أحمد الخزرجي ، وهو آخر من حدّث عنه ، ولم يحدّثنا عنه من شيوخنا غيره ، عن أبي الحسن علي بن عبد الله بن موهب الجذامي ، وهو آخر من حدّث عنه عن أبي العباس بن دلهات ، قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن مندار بمكة قالا ، أعني عبد الغفار ، وابن مندار : أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ، قال : أخبرنا أبو إسحاق ابراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه ، أخبرنا الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ، قال : وحدّثنا عون بن سلام الكوفي ، حدّثنا محمد بن طلحة اليامي ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : حبس المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرّت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا» ، أو : «حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا» ..

وقرأ عبد الله ، وعلي : (الصَّلاةِ الْوُسْطى) باعادة الجار على سبيل التوكيد ، وقرأت عائشة : والصلاة ، بالنصب ، ووجه الزمخشري على أنه نصب على المدح والاختصاص ، ويحتمل أن يراعى موضع : على الصلاة ، لأنه نصب كما تقول : مررت بزيد وعمرا ، وروي عن قالون أنه قرأ : الوسطى ، بالصاد أبدلت السين صادا لمجاورة الطاء ، وقد تقدّم الكلام على هذا في قوله : الصراط.

(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي : مطيعين قاله الشعبي ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، وابن جبير ، والضحاك ، والحسن. أو : خاشعين ، قاله مجاهد ، أو : مطيلين القيام ، قاله ابن عمر ، والربيع. أو : داعين ، قاله ابن عباس ، أو : ساكتين ، قاله السدّي ، أو : عابدين ، أو : مصلين ، أو : قارئين ، روي هذا عن ابن عمر ، أو : ذاكرين الله في القيام ، قاله الزمخشري أو : راكدين كافي الأيدي والأبصار ، قاله مجاهد ، وهو الذي عبر عنه قبل بالخشوع.

٥٤٧

والأظهر حمله على السكوت ، إذ صح أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، حتى نزلت : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمروا بالسكوت. والمعنى : وقوموا في الصلاة.

وروي أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره ، أو يلتفت ، أو يقلب الحصا ، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا ، وإذا كان القنوت في الآية هو السكوت على ما جاء في الحديث ، فأجمعوا على أنه : لو تكلم عامدا وهو يعلم أنه في الصلاة ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته ، فسدت صلاته إلّا ما روي عن الأوزاعي : أن الكلام لإحياء نفس ، أو مثل ذلك من الأمور الجسام ، لا يفسد الصلاة.

أو : ساهيا ، فقال مالك والشافعي : لا تفسد ، وعن مالك في بعض صور الكلام خلاف بينه وبين أصحابه ، وقال أبو حنيفة ، والثوري : تفسد كالعمد ، لإصلاح صلاة كان أو لغيره ، وهو قول النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان.

واختلف قول أحمد فنقل الخرقي كقول أبي حنيفة ، ونقل الأثرم عنه : إن تكلم لإصلاحها لم تفسد ، أو لغيره فسدت ، وهذا قول مالك.

وفي قوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) دليل على مطلوبية القيام ، وأجمعوا على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه ، كان منفردا أو إماما؟ واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي خلف إمام مريض قاعدا لا يستطيع القيام ، فأجاز ذلك جمهور العلماء : جابر بن زيد ، والأوزاعي ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو أيوب ، وسليمان بن داود الهاشمي ، وأبو خيثمة ، وابن أبي شيبة ، ومحمد بن إسماعيل ، ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل : محمد بن نصر ، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة : فيصلي وراءه جالسا على مذهب هؤلاء ، وأفتى به من الصحابة : جابر ، وأبو هريرة ، وأسيد بن حضير ، وقيس بن فهر. وروى هذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنس ، وعائشة ، وأبو هريرة ، وجابر ، وابن عمر ، وأبو أمامة الباهلي.

وأجازت طائفة صلاة القائم خلف صلاة المريض قاعدا ، وإلى هذا ذهب : الشافعي ، وداود ، وزفر ، وجماعة بالمدينة ، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك وهي رواية غريبة عنه. والمشهور عن مالك أنه لا يؤم أحد جالسا ، فإن فعل بطلت صلاته وصلاتهم إلّا إن كان عليلا ، فتصح صلاته وتفسد صلاتهم ، وإلى هذا ذهب محمد بن الحسن ، قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي : وأول من أبطل صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن

٥٤٨

مقسم صاحب النخعي ، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ، ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة ، وتبعه عليه من بعده من أصحابه.

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) لما ذكر المحافظة على الصلوات ، وأمر بالقيام فيها قانتين ، كان مما يعرض للمصلين حالة يخافون فيها ، فرخص لهم في الصلاة ماشين على الأقدام ، وراكبين.

والخوف يشمل الخوف من : عدّو ، وسبع ، وسيل وغير ذلك ، فكل أمر يخاف منه فهو مبيح ما تضمنته الآية هذه.

وقال مالك : يستحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن ، وأكثر الفقهاء على تساوي الخوف.

و : رجالا ، منصوب على الحال ، والعامل محذوف ، قالوا تقديره : فصلوا رجالا ، ويحسن أن يقدر من لفظ الأول ، أي : فحافظوا عليها رجالا ، ورجالا جمع راجل ، كقائم وقيام ، قال تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) (١) وقال الشاعر :

وبنو غدانة شاخص أبصارهم

يمشون تحت بطونهنّ رجالا

والمعنى : ماشين على الأقدام ، يقال منه : رجل يرجل رجلا ، إذا عدم المركوب ، ومشى على قدميه ، فهو راجل ورجل ورجل ، على وزن رجل مقابل امرأة. وهي لغة أهل الحجاز ، يقولون : مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا ، ويقال رجلان ورجيل ورجل ، قال الشاعر :

عليّ إذا لا قيت ليلى بخلوة

أن ازدار بيت الله رجلان حافيا

قالوا : ويجمع على : رجال ورجيل ورجالي ورجالى ورجالة ورجالى ورجلان ورجلة ورجلة بفتح الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل ؛ قرأ عكرمة ، وأبو مجلز : فرجّالا ، بضم الراء وتشديد الجيم ، وروي عن عكرمة التخفيف مع ضم الراء ، وقرىء : فرجلا ، بضم الراء وفتح الجيم مشدودة بغير ألف ؛ وقرىء : فرجلا ، بفتح الراء وسكون الجيم.

وقرأ بديل بن ميسرة : فرجالا فركبانا بالفاء ، وهو جمع راكب. قال الفضل : لا يقال راكب إلّا لصاحب الجمل ، وأما صاحب الفرس فيقال له فارس ، ولراكب الحمار حمّار ، ولراكب البغل بغّال ، وقيل : الأفصح أن يقال : صاحب بغل ، وصاحب حمار.

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٢٧.

٥٤٩

وظاهر قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) حصول مطلق الخوف ، وأنه بمطلق الخوف تباح الصلاة في هاتين الحالتين.

وقالوا : هي صلاة الغداة للذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حالة المسايفة أو ما يشبهه ، وأما صلاة الخوف بالإمام ، وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية.

وقيل : فرجالا ، مشاة بالجماعة لأنهم يمشون إلى العدو في صلاة الخوف ، أو ركبانا أي : وجدانا بالإيماء.

وظاهر قوله : فرجالا ، أنهم يوقعون الصلاة وهم ماشون ، فيصلون على كل حال ، والراكب يومىء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة ، وهو قول الشافعي ؛ وقال أبو حنيفة : لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف.

ولم تتعرض الآية لعدد الركعات في هذا الخوف ، والجمهور أنها لا تقصر الصلاة عن عدد صلاة المسافر إن كانوا في سفر تقصر فيه ، وقال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما : تصلى ركعة إيماء. وقال الضحاك بن مزاحم : تصلى في المسايفة وغيرها ركعة ، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين. وقال إسحاق : فإن لم يقدر إلّا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ، ولو رأوا سوادا فظنوه عدوّا ثم تبين أنه ليس بعدو ، فقال أبو حنيفة : يعيدون.

وظاهر الآية : أنه متى عرض له الخوف فله أن يصلي على هاتين الحالتين ، فلو صلى ركعة آمنا ثم طرأ له الخوف ركب وبنى ، أو عكسه : أتم وبنى ، عند مالك ، وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال المزني.

وقال أبو حنيفة : إذا استفتح آمنا ثم خاف ، استقبل ولم يبن فإن صلى خائفا ثم أمن بنى ؛ وقال أبو يوسف : لا يبنى في شيء من هذا كله.

وتدل هذه الآية على عظيم قدر الصلاة وتأكيد طلبها إذا لم تسقط بالخوف ، فلا تسقط بغيره من مرض وشغل ونحوه ، حتى المريض إذا لم يمكنه فعلها لزمه الإشارة بالعين عند أكثر العلماء ، وبهذا تميزت عن سائر العبادات لأنها كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ) قال مجاهد أي : خرجتم من السفر إلى دار الإقامة ، ورده الطبري ، قيل : ولا ينبغي رده لأنه شرح الأمن بمحل الأمن لأن الإنسان إذا رجع من سفره وحل دار

٥٥٠

إقامته أمن ، فكان السفر مظنة الخوف ، كما أن دار الإقامة محل الأمن. وقيل : معنى فإذا أمنتم أي : زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذة الصلاة. وقيل : فإذا كنتم آمنين ، أي : متى كنتم على أمن قبل أو بعد ..

(فَاذْكُرُوا اللهَ) بالشكر والعبادة (كَما عَلَّمَكُمْ) أي : أحسن إليكم بتعليمكم ما كنتم جاهليه من أمر الشرائع ، وكيف تصلون في حال الخوف وحال الأمن.

و : ما ، مصدرية ، و : الكاف ، للتشبيه.

أمر أن يذكروا الله تعالى ذكرا يعادل ويوازي نعمة ما علمهم ، بحيث يجتهد الذاكر في تشبيه ذكره بالنعمة في القدر والكفاءة ، وإن لم يقدر على بلوغ ذلك.

ومعنى : كما علمكم ، كما أنعم عليكم فعلمكم ، فعبر بالمسبب عن السبب ، لأن التعليم ناشىء عن إنعام الله على العبد وإحسانه له.

وقد تكون الكاف للتعليل ، أي : فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم أي : يكون الحامل لكم على ذكره وشكره وعبادته تعليمه إياكم ، لأنه لا منحة أعظم من منحة العلم.

(ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ما : مفعول ثان لعلمكم ، وفيه الامتنان بالتعليم على العبد ، وفي قوله : (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) إفهام أنكم علمتم شيئا لم تكونوا لتصلوا لإدراكه بعقولكم لو لا انه تعالى علمكموه ، أي : أنكم لو تركتم دون تعليم لم تكونوا لتعلموه أبدا.

وحكى النقاش وغيره أن معنى : (فَاذْكُرُوا اللهَ) أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها ، أي : صلاة تامة بجميع شروطها وأركانها وتكون : ما ، في : (كَما عَلَّمَكُمْ) موصولة أي : فصلوا الصلاة كالصلاة التي علمكم ، وعبر بالذكر عن الصلاة والكاف إذ ذاك للتشبيه بين هيئتي الصلاتين : الصلاة التي كانت أولا قبل الخوف ، والصلاة التي كانت بعد الخوف في حالة الأمن.

قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل : (ما لَمْ تَكُونُوا) بدل من : ما ، التي في قوله : كما ، وإلّا لم يتسق لفظ الآية. انتهى. وهو تخريج يمكن ، وأحسن منه أن يكون بدلا من الضمير المحذوف في علمكم العائد على ما ، إذ التقدير علمكموه ، أي : علمكم ما لم تكونوا تعلمون.

وقد أجاز النحويون : جاءني الذي ضربت أخاك ، أي ضربته أخاك ، على البدل من الضمير المحذوف

٥٥١

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) الجمهور على أنها منسوخة بالآية المتقدمة المنصوص فيها على عدّة الوفاة أنها أربعة أشهر وعشر ، وقال مجاهد : هي محكمة ، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا ، ثم جعل الله لهنّ وصية منه : سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت سكنت في وصيتها ، وان شاءت خرجت. حكى ذلك عنه الطبري ، وهو قوله : (غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ).

وقال ابن عطية : الألفاظ التي حكاها الطبري عن مجاهد لا تدل على أن الآية محكمة ، ولا نص مجاهد على ذلك ، وقال السدّي : كان ذلك ، ثم نسخ بنزول الفرائض ، فأخذت ربعها أو ثمنها ، ولم يكن لنا سكنى ولا نفقة ، وصارت الوصايا لمن لا يرث.

ونقل القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي ، وأبو محمد بن عطية الإجماع على نسخ الحول بالآية التي قبل هذه. وروى البخاري عن ابن الزبير ، قال : قلت لعثمان : هذه الآية في البقرة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) إلى قوله : (غَيْرَ إِخْراجٍ) قد نسخت الأخرى فلم تكتبها. قال : ندعها يا ابن أخي ، لا أغير شيئا من مكانه. انتهى. ويعني عثمان : من مكانه الذي رتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، لأن ترتيب الآية من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا من اجتهاد الصحابة.

واختلفوا هل الوصية كانت واجبة من الله بعد وفاة الزوج؟ فقال ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد : كان لها بعد وفاته السكنى والنفقة حولا في ماله ما لم تخرج برأيها ، ثم نسخت النفقة بالربع أو الثمن ، وسكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر. أم كانت على سبيل الندب؟ ندبوا بأن يوصوا للزوجات بذلك ، فيكون يتوفون على هذا يقاربون. وقاله قتادة أيضا ، والسدّي ، وعليه حمل الفارسي الآية في الحجة له.

٥٥٢

وقرأ الحرميان ، والكسائي ، وأبو بكر : وصية بالرفع ، وباقي السبعة ، بالنصب وارتفاع : والذين ، على الابتداء. ووصية بالرفع على الابتداء وهي نكرة موصوفة في المعنى ، التقدير : وصية منهم أو من الله ، على اختلاف القولين في الوصية ، أهي على الإيجاب من الله؟ أو على الندب للأزواج؟ وخبر هذا المبتدأ هو قوله : لأزواجهم ، والجملة : من وصية لأزواجهم ، في موضع الخبر عن : الذين ، وأجازوا أن يكون : وصية ، مبتدأ و : لأزواجهم ، صفة. والخبر محذوف تقديره : فعليهم وصية لأزواجهم.

وحكي عن بعض النحاة أن : وصية ، مرفوع بفعل محذوف تقديره : كتب عليهم وصية ، قيل : وكذلك هي في قراءة عبد الله ، وينبغي أن يحمل ذلك على أنه تفسير معنى لا تفسير إعراب ، إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل.

وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير : ووصية الذين يتوفون ، أو : وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم ، فيكون ذلك مبتدأ على مضاف ، وأجاز أيضا أن يكون التقدير : والذين يتوفون أهل وصية ، فجعل المحذوف من الخبر ، ولا ضرورة تدعو بنا إلى الادعاء بهذا الحذف ، وانتصاب وصية على إضمار فعل ، التقدير : والذين يتوفون ، فيكون : والذين ، مبتدأ و : يوصون المحذوف ، هو الخبر ، وقدره ابن عطية : ليوصوا ، وأجاز الزمخشري ارتفاع : والذين ، على أنه مفعول لم يسم فاعله على إضمار فعل ، وانتصاب وصية على أنه مفعول ثان ، التقدير : وألزم الذين يتوفون منكم وصية ، وهذا ضعيف ، إذ ليس من مواضع إضمار الفعل ، ومثله في الضعف من رفع : والذين ، على إضمار : وليوص ، الذين يتوفون ، وبنصب وصية على المصدر ، وفي حرف ابن مسعود : الوصية لأزواجهم ، وهو مرفوع بالإبتداء و : لأزواجهم الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف أي : عليهم الوصية.

وانتصب متاعا إما على إضمار فعل من لفظه أي : متعوهنّ متاعا ، أو من غير لفظه أي : جعل الله لهنّ متاعا ، أو بقوله : وصية أهو مصدر منوّن يعمل ، كقوله :

فلولا رجاء النصر منك ورهبة

عقابك قد كانوا لنا كالموارد

ويكون الأصل : بمتاع ، ثم حذف حرف الجر؟ فإن نصبت : وصية فيجوز أن ينتصب متاعا بالفعل الناصب لقوله : وصية ، ويكون انتصابه على المصدر ، لأن معنى : يوصي به يمتع بكذا ، وأجازوا أن يكون متاعا صفة لوصية ، وبدلا وحالا من الموصين ، أي : ممتعين ، أو

٥٥٣

ذوى متاع ، ويجوز أن ينتصب حالا من أزواجهم ، أي : ممتعات أو ذوات متاع ، ويكون حالا مقدّرة إن كانت الوصية من الأزواج.

وقرأ أبيّ : متاع لأزواجهم متاعا إلى الحول ، وروي عنه : فمتاع ، ودخول الفاء في خبر : والذين ، لأنه موصول ضمن معنى الشرط ، فكأنه قيل : ومن يتوف ، وينتصب : متاعا إلى الحول ، بهذا المصدر ، إذ معناه التمتيع ، كقولك : أعجبني ضرب لك زيدا ضربا شديدا.

وانتصب : غير إخراج ، صفة لمتاعا ، أو بدلا من متاع أو حالا من الأزواج أي : غير مخرجات ، أو : من الموصين أي : غير مخرجين ، أو مصدرا مؤكدا ، أي : لا إخراجا ، قاله الأخفش.

(فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) منع من له الولاية عليهنّ من إخراجهنّ ، فإن خرجن مختارات للخروج ارتفع الحرج عن الناظر في أمرهنّ ، إذ خروجهنّ مختارات جائز لهنّ ، وموضح انقطاع تعلقهنّ بحال الميت ، فليس له منعهنّ مما يفعلن في أنفسهنّ من : تزويج ، وترك إحداد ، وتزين ، وخروج ، وتعرض للخطاب ، إذا كان ذلك بالمعروف شرعا.

ويتعلق : فيما فعلن ، بما يتعلق به ، عليكم أي : فلا جناح يستقر عليكم فيما فعلن.

وما ، موصولة ، والعائد محذوف ، أي : فعلنه ، و : من معروف ، في موضع الحال من الضمير المحذوف في : فعلن ، فيتعلق بمحذوف أي فعلنه كائنا من معروف.

وجاء هنا : من معروف ، نكرة مجرورة بمن ، وفي الآية الناسخة لها على قول الجمهور ، جاء : بالمعروف ، معرفا مجرورا بالباء.

والألف واللام فيه نظيرتها في قولك : لقيت رجلا ، ثم تقول : الرجل من وصفه كذا وكذا ، وكذلك : إن الآية السابقة متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل ، وهذه بعكسها ، ونظير ذلك (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ) (١) على ظاهر ما نقل مع قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) (٢).

(وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ختم الآية بهاتين الصفتين ، فقوله : عزيز ، إظهار للغلبة والقهر

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤٤.

٥٥٤

لمن منع من إنفاذ الوصية بالتمتيع المذكور ، أو أخرجهن وهنّ لا يخترن الخروج ، ومشعر بالوعيد على ذلك. وقوله : حكيم ، إظهار أن ما شرع من ذلك فهو جار على الحكمة والإتقان ، ووضع الأشياء مواضعها.

قال ابن عطية : وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلّا ما قاله الطبري عن مجاهد وفي ذلك نظر على الطبري. انتهى كلامه.

وقد تقدّم أوّل الآية ما نقل عن مجاهد من أنها محكمة ، وهو قول ابن عطية في ذلك.

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) ظاهره العموم كما ذهب إليه أبو ثور ، وقد تقدّم في قوله : (وَمَتِّعُوهُنَ) اختلاف العلماء فيما يخصص به العموم ، فأغنى عن إعادته ، وتعلق : بالمعروف ، بما تعلق به للمطلقات ، وقيل بقوله : متاع ، وقيل : المراد بالمتاع هنا نفقة العدّة.

(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). قال ابن زيد : نزلت هذه الآية مؤكدة لأمر المتعة ، لأنه نزل قبل : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (١) فقال رجل : فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع ، فنزلت (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

وإعراب : حقا ، هنا كإعراب : حقا على المحسنين ، وظاهر : المتقين : من يتصف بالتقوى التي هي أخص من اتقاء الشرك ، وخصوا بالذكر تشريفا لهم ، أو لأنهم أكثر الناس وقوفا والله أسرعهم لامتثال أمر الله ، وقيل : على المتقين أي : متقي الشرك.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي مثل هذا التبيين الذي سبق من الأحكام ، يبين لكم في المستقبل ما بقي من الأحكام التي يكلفها العباد.

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما يراد منكم من التزام الشرائع والوقوف عندها ، لأن التبيين للأشياء مما يتضح للعقل بأول إدراك ، بخلاف الأشياء المغيبات والمجملات ، فإن العقل يرتبك فيها ، ولا يكاد يحصل منها على طائل.

قيل : وفي هذه الآيات من بدائع البديع ، وصنوف الفصاحة : النقل من صيغة :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٦.

٥٥٥

افعلوا ، إلى : فاعلوا ، للمبالغة وذلك في : حافظوا ، والاختصاص بالذكر في : والصلاة الوسطى ، والطباق المعنوي في : فإن خفتم.

لأن التقدير في : حافظوا ، وهو مراعاة أوقاتها وهيآتها إذا كنتم آمنين ، والحذف في : فإن خفتم ، العدوّ ، أو ما جرى مجراه. وفي : فرجالا ، أي : فصلوا رجالا ، وفي : وصية لأزواجهم ، سواء رفع أم نصب ، وفي : غير إخراج ، أي : لهنّ من مكانهنّ الذي يعتدون فيه ، وفي : فإن خرجن من بيوتهنّ من غير رضا منهنّ ، وفي : فيما فعلن في أنفسهنّ ، أي : من ميلهنّ إلى التزويج أو الزينة بعد انقضاء المدّة وفي : بالمعروف ، أي : عادة أو شرعا وفي : عزيز ، أي : انتقامه ، وفي : حكيم ، في أحكامه. وفي قوله : حقا ، أي : حق ذلك حقا ، وفي : على المتقين ، أي عذاب الله والتشبيه : في : كما علمكم ، والتجنيس المماثل : وهو أن يكون بفعلين أو بأسمين ، وذلك في : علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، والتجنيس المغاير : في غير إخراج فان خرجهن ، والمجاز في : يوفون ، أي يقاربون الوفاة ، والتكرار : في متاعا إلى الحول ، ثم قال : وللمطلقات متاع ، فيكون للتأكيد إن كان إياه ولاختلاف المعنيين إن كان غيره.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة حكم المتوفى عنها زوجها ، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر وأنهنّ إذا انقضت عدتهنّ لا حرج على من كان متوليا أمرهنّ من ولي أو حاكم فيما فعلن من : تعرض لخطبة ، وتزين ، وترك إحداد ، وتزوّج وذلك بالمعروف شرعا ، وأعلم تعالى أنه خبير بما يصدر منا ، وأنه لا جناح على من عرّض بالخطبة أو أكنّ التزويج في نفسه ، وأفهم ذلك أن التصريح فيه الجناح ، ثم إنه تعالى عذر في التعريض بأن النفوس تتوق إلى التزوّج وذكر النساء ، ونهى تعالى عن مواعدة السر وهو النكاح ، وأباح قولا معروفا من التنبيه به على أن المرأة مرغوب فيها ، فإن في ذلك جبرا لها وبعض تأنيس منه لها بذلك. ثم نهى عن بت النكاح قبل انقضاء العدّة ، وأعلم أن ما في نفس الإنسان يعلمه الله ، وأمر بأن يحذر ، ولما كان الأمر بالحذر يستدعي مخوفا ، أعلم أنه غفور يستر الذنب ، حليم يصفح عن المسيء ، ليتعادل خوف المؤمن ورجاؤه ، ثم ذكر رفع الحرج عن من طلق المرأة قبل المسيس ، أو قبل أن يفرض لها الصداق ، إذ كان يتوهم أن الطلاق قبل الدخول بها لا يباح ، ثم أمر بالتمتيع ليكون ذلك عوضا لغير المدخول بها مما كان فاتها من الزوج ، ومن نصف الصداق الذي تشطر بالطلاق ، وجبرا لها بذلك ولغير المفروض لها ، وأن ذلك التمتيع على حسب

٥٥٦

وجد الزوج وإقتاره ، ولم يعين المقدار ، بل قال : إن ذلك بالمعروف ، وهو الذي ألف عادة وشرعا ، وأن ذلك حق على من كان محسنا. ثم ذكر أنه إذا طلق قبل المسيس وبعد الفرض فإنه ينتظر المسمى ، فيجب لها نفس الصداق إلّا إن عفت المرأة فلم تأخذ منه شيئا ، أو عفا الزوج فأدى إليها الصداق كاملا إذا كان الطلاق إنما كان من جهته ، ثم ذكر أن العفو من أي جهة كان منهما أقرب لتحصيل التقوى للعافي ، إذ هو : إما بين تارك حقه ، أو باذل فوق الحق. ثم نهى عن نسيان الفضل ، ففي هذا النهي الأمر بالفضل.

ثم ختم ذلك بأنه بصير بجميع أعمالهم ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

ولما ذكر تعالى أحكام النكاح ، وكادت تستغرق المكلف ، نبه تعالى على أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى المكلف ، وأمر بالمحافظة عليها وهي : الصلوات ، وخص الوسطى منها بالذكر تنبيها على فضلها ، ومن تسميتها بالوسطى تبين تمييزها على غيرها ، وهي بلا شك صلاة العصر ، ثم أمر بالقيام لله متلبسين بطاعته ، ثم للمبالغة في توكيد إيجاب الصلوات لم يسامح بتركها حالة الخوف ، بل أمر أن تؤدّى في تلك الحال ، سواء كان الخائف ماشيا أو راكبا ، وإن كان في ذلك بعض اختلال لشروطها ؛ ثم أمر أن تؤدّى على حالها الأول من إتمام شروطها ، وهيآتها إذا أمن الخائف ، وأن يؤديها على الحالة التي علمه الله في أدائها قبل الخوف.

وذكر أن اللواتي يتوفى عنهنّ أزواجهنّ لهن وصية بتمتيع إلى انقضاء حول من وفاة الأزواج ، وأنهنّ لا يخرجن من بيوتهنّ في ذلك الحول ، فإن اخترن الخروج فخرجن ، فلا جناح على متولي أمرها فيما فعلت في نفسها ، ثم أعلم أنه عزيز لا يغلب ويقهر ، حكيم بوضع الأشياء مواضعها.

ثم ذكر تعالى أن للمطلقات متاعا مما عرف شرعا وعادة ، واقتضى ذلك عموم كل مطلقة ، وأن ذلك المتاع حق على من اتقى.

ولما كان تعالى قد بين عدة أحكام فيما تقدّم من الآيات ، أحال على ذلك التبيين ، وشبه التبيين الذي قد يأتي لسائر الآيات بالتبيين الذي سبق. وان التبيين هو لرجائكم أن تعقلوا عن الله أحكامه فتجتنبوا ما نهى تعالى عنه ، وتمتثلوا ما به أمر تعالى.

٥٥٧

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)

الألف : عدد معروف وجمعه في القلة آلاف وفي الكثرة ألوف ، ويقال : آلفت الدراهم وآلفت هي ، وقيل : ألوف جمع آلف كشاهد وشهود.

القرض : القطع بالسن ومنه سمى المقراض لأنه يقطع به ، ويقال : انقرض القوم أي ماتوا ، وانقطع خبرهم ، ومنه : أقرضت فلانا أي قطعت له ؛ قطعة من المال ، وقال الأخفش : تقول العرب : لك عندي قرض صدق وقرض سوء ، لأمر : تأتي مسرته ومساءته ؛ وقال الزجاج : القرض : البلاء الحسن والبلاء السيء ؛ وقال الليث : القرض : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، يقال : أقرض فلان فلانا ، أعطاه ما يتجازاه منه. والاسم منه : القرض ، وهو ما أعطيته لتكافىء عليه ؛ وقال ابن كيسان : القرض : أن تعطي شيئا ليرجع إليك مثله ، ويقال : تقارضا الثناء أثنى كل واحد منهما على صاحبه ، ويقال قارضه الودّ والثناء ؛ وحكى الكسائي : القرض بالكسر ، والأشهر بفتح القاف.

٥٥٨

الضعف : مثل قدرين متساويين ، ويقال مثل الشيء في المقدار ، وضعف الشيء مثله ثلاث مرات إلّا أنه إذا قيل ضعفان فقد يطلق على الإثنين المثلين في القدر من حيث إن كل واحد يضعف الآخر ، كما يقال : الزوجان لكل واحد منهما زوجا للآخر ، وفرق بعضهم بين : يضاعف ويضعف ، فقال : التضعيف : لما جعل مثلين ، والمضاعفة لما زيد عليه أكثر من ذلك.

القبض : ضم الشيء والجمع عليه والبسط ضده ، ومنه قول أبي تمام :

تعوّد بسط الكف حتى لو أنه

دعاها لقبض لم تجبه أنامله

الملأ : الأشراف من الناس ، وهو اسم جمع ، ويجمع على أملاء ، قال الشاعر :

وقال لها الأملاء من كل معشر

وخير أقاويل الرجال سديدها

وسموا بذلك لأنهم يملأون العيون هيبة ، أو المكان إذا حضروه ، أو لأنهم مليئون بما يحتاج إليه. وقال الفراء : الملأ الرجال في كل القرآن لا تكون فيهم امرأة ، وكذلك : القوم ، والنفر ، والرهط ؛ وقال الزجاج : الملأ : هم الوجوه وذوو الرأي.

طالوت : اسمه بالسريانية : سايل ، وبالعبرانية : ساول بن قيس ، من أولاد بنيامين بن يعقوب ، وسمي طالوت. قالوا : لطوله ، وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبيه ، فعلى هذا يكون وزنه : فعلوتا ، كرحموت وملكوت ، فتكون ألفه منقلبة عن واو ، إلّا أنه يعكر على هذا الاشتقاق منعه الصرف ، إلا أن يقال : إن هذا التركيب مفقود في اللسان العربي ، ولم يوجد إلّا في اللسان العجمي. وقد التقت اللغتان في مادّة الكلمة ، كما زعموا في : يعقوب ، أنه مشتق من العقب ، لكن هذا التركيب بهذا المعنى مفقود في اللسان العربي.

الجسم : معروف ، وجمع في الكثرة على : جسوم إذا كان عظيم الجسم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى متى ذكر شيئا من الأحكام التكليفية ، أعقب ذلك بشيء من القصص على سبيل الاعتبار للسامع ، فيحمله ذلك على الانقياد وترك العناد ، وكان تعالى قد ذكر أشياء من أحكام الموتى ومن خلفوا ، فأعقب ذلك بذكر هذه القصة العجيبة ، وكيف أمات الله هؤلاء الخارجين من ديارهم ، ثم أحياهم في الدنيا ، فكما كان قادرا على إحيائهم في الدنيا هو قادر على إحياء المتوفين في الآخرة ، فيجازي كلّا منهم بما عمل. ففي هذه القصة تنبيه

٥٥٩

على المعاد ، وأنه كائن لا محالة ، فيليق بكل عاقل أن يعمل لمعاده : بأن يحافظ على عبادة ربه ، وأن يوفي حقوق عباده.

وقيل : لما بين تعالى حكم النكاح ، بين حكم القتال ، لأن النكاح تحصين للدّين ، والقتال تحصين للدّين والمال والروح ، وقيل : مناسبة هذه الآية لما قبلها : هو أنه لما ذكر : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١) ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته ، وبدائع قدرته.

وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي ، فصار الكلام تقريرا ، فيمكن أن يكون المخاطب علم بهذه الصفة قبل نزول هذه الآية ، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلّا من هذه الآية ، ومعناه التنبيه والتعجب من حال هؤلاء ، والرؤية هنا علمية ، وضمنت معنى ما يتعدّى بإلى ، فلذلك لم يتعد إلى مفعولين ، وكأنه قيل : ألم ينته علمك إلى كذا.

وقال الراغب : رأيت ، يتعدّى بنفسه دون الجار ، لكن لما استعير قولهم : ألم تر المعنى : ألم تنظر ، عدّي تعديته ، وقلما يستعمل ذلك في غير التقرير ، ما يقال : رأيت إلى كذا. انتهى.

و : ألم تر ، جرى مجرى التعجب في لسانهم ، كما جاء في الحديث : «ألم تر إلى مجزز!» وذلك في رؤيته أرجل زيد وابنه أسامة ، وكان أسود ، فقال هذه الأقدام بعضها من بعض ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بعض نسائه ، فقال على سبيل التعجب : «ألم تر إلى مجزز!» الحديث.

وقد جاء هذا اللفظ في القران : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) (٢) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٣) (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (٤) وقال الشاعر :

ألم ترياني كلما جئت طارقا

وجدت بها طيبا وإن لم تطيب

ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويجوز أن يكون لكل سامع.

وقرأ السلمي : تر ، بسكون الراء ، قالوا : على توهم أن الراء آخر الكلمة ، قال الراجز :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٢.

(٢) سورة الحشر : ٥٩ / ١١.

(٣) سورة المجادلة : ٥٨ / ١٤.

(٤) سورة الفرقان : ٢٥ / ٤٥.

٥٦٠