البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٧٢

وفسر ابن عطية هنا ، الرزق ، بأنه الطعام الكافي ، فجعله اسما للمرزوق. كالطحن والرعي. وقال الزمخشري : فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن ، فشرح الرزق : بأن والفعل اللذين ينسبك منهما المصدر ، ويحتمل الرزق الوجهين من إرادة المرزوق ، وإرادة المصدر.

وقد ذكرنا أن : رزقا بكسر الراء ، حكي مصدرا ، كرزق بفتحها فيما تقدم ، وقد جعله مصدرا أبو علي الفارسي في قوله : (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) (١) وقد رد ذلك عليه ابن الطراوة ، وسيأتي ذلك في مكانه إن شاء الله تعالى.

ومعنى : بالمعروف ، ما جرى به العرف من نفقة وكسوة لمثلها ، بحيث لا يكون إكثار ولا إقلال ، قاله الضحاك وقال ابن عطية : بالمعروف ، يجمع جنس القدر في الطعام ، وجودة الاقتضاء له ، وحسن الاقتضاء من المرأة. انتهى كلامه.

ولا يدل على حسن الاقتضاء من المرأة ، لأن الآية إنما هي فيما يجب على المولود له من الرزق والكسوة ، فبالمعروف ، يتعلق برزقهن أو بكسوتهن على الإعمال ، إما للأول وإما للثاني إن كانا مصدرين ، وإن عنى بهما المرزوق ، والشأن ، فلا بد من حذف مضاف. التقدير : إيصال أو دفع ، أو ما أشبه ذلك مما يصح به المعنى ، ويكون : بالمعروف ، في موضع الحال منهما ، فيتعلق بمحذوف. وقيل : العامل فيه معنى الاستقرار في : على.

وقرأ طلحة : وكسوتهن ، بضم الكاف ، وهما لغتان يقال : كسوة وكسوة ، بضم الكاف وكسرها.

(لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) التكليف إلزام ما يؤثر في الكلفة ، من : كلف الوجه ، وكلف العشق ، لتأثيرهما وسعها طاقتها وهو ما يحتمله وقد بين تعالى ذلك في قوله لينفق ذو سعة من سعته الآية وظاهر قوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) العموم في سائر التكاليف ، قيل : والمراد من الآية : أن والد الصبي لا يكلف من الإنفاق عليه وعلى أمه ، إلّا بما تتسع به قدرته ، وقيل : المعنى لا تكلف المرأة الصبر على التقصير في الأجرة ، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف ، بل يراعى القصد.

وقراءة الجمهور : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ) مبني للمفعول ، والفاعل هو الله تعالى ، وحذف للعلم به. وقرأ أبو رجاء : لا تكلف ، بفتح التاء ، أي : لا تتكلف ، وارتفع نفس على

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٧٣.

٥٠١

الفاعلية ، وحذفت إحدى التاءين على الخلاف الذي بيننا وبين بعض الكوفيين ، و : تكلف تفعل ، مطاوع فعل نحو : كسرته فتكسر ، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها تفعل.

وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أنه قرأ : لا نكلف نفسا بالنون ، مسندا الفعل إلى ضمير الله تعالى ، و : نفسا ، بالنصب مفعول.

(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وأبان ، عن عاصم : لا تضارّ ، بالرفع أي : برفع الراء المشددة ، وهذه القراءة مناسبة لما قبلها من قوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) لاشتراك الجملتين في الرفع ، وإن اختلف معناهما ، لأن الأولى خبرية لفظا ومعنى ، وهذه خبرية لفظا نهيية في المعنى. وقرأ باقي السبعة : لا تضار ، بفتح الراء ، جعلوه نهيا ، فسكنت الراء الأخيرة للجزم ، وسكنت الراء الأولى للإدغام ، فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح لموافقة الألف التي قبل الراء ، لتجانس الألف والفتحة ، ألا تراهم حين رخموا : أسحارّا ، وهم اسم نبات ، إذا سمي به حذفوا الراء الأخيرة ، وفتحوا الراء الساكنة التي كانت مدغمة في الراء المحذوفة ، لأجل الألف قبلها ، ولم يكسروها على أصل التقاء الساكنين ، فراعوا الألف وفتحوا ، وعدلوا عن الكسر وإن كان الأصل؟ وقرأ : لا يضارّ بكسر الراء المشددة على النهي وقرأ أبو جعفر الصفار : لا تضار ، بالسكون مع التشديد ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، وروي عنه : لا تضار ، بإسكان الراء وتخفيفها ، وهي قراءة الأعرج من ضار يضير ، وهو مرفوع أجري الوصل فيه مجرى الوقف. وقال الزمخشري : اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا. انتهى. وهذا على عادته في تغليط القراء وتوهيمهم ، ولا نذهب إلى ذلك.

ووجّه هذه القراءة بعضهم بأن قال : حذف الراء الثانية فرارا من التشديد في الحرف المكرر ، وهو الراء ، وجاز أن يجمع بين الساكنين : إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، ولأن مدة الألف تجري مجرى الحركة. انتهى.

وروي عن ابن عباس : لا تضارر ، بفك الإدغام وكسر الراء الأول وسكون الثانية. وقرأ ابن مسعود : لا تضارر ، بفك الإدغام أيضا وفتح الراء الأولى وسكون الثانية ، قيل : ورواها أبان عن عاصم.

والإظهار في نحو هذين المثلين لغة الحجاز ، فأما من قرأ بتشديد الراء ، مرفوعة أو مفتوحة أو مكسورة ، فيحتمل أن يكون الفعل مبنيا للفاعل ، ويحتمل أن يكون مبنيا للمفعول

٥٠٢

كما جاء في قراءة ابن عباس ، وفي قراءة ابن مسعود ؛ ويكون ارتفاع : والدة ومولود ، على الفاعلية إن قدر الفعل مبنيا للفاعل ، وعلى المفعولية إن قدر الفعل مبنيا للمفعول ، فإذا قدرناه مبنيا للفاعل ، فالمفعول محذوف تقديره : لا تضارر والدة زوجها بأن تطالبه بما لا يقدر عليه من رزق وكسوة وغير ذلك من وجوه الضرر ، ولا يضارر مولود له زوجته بمنعها ما وجب لها من رزق وكسوة ، وأخذ ولدها مع إيثارها إرضاعه ، وغير ذلك من وجوه الضرر.

والباء في : بولدها ، وفي : بولده ، باء السبب.

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون يضار بمعنى : تضر ، وأن تكون الباء من صلته لا تضر والدة بولدها ، فلا تسيء غذاءه وتعهده ، ولا تفرط فيما ينبغي له ، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما آلفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينزعه من يدها ، أو يقصر في حقها ، فتقصر هي في حق الولد. انتهى كلامه.

ويعني بقوله : أن تكون الباء من صلته ، يعنى متعلقة بتضار ، ويكون ضار بمعنى أضر ، فاعل بمعنى أفعل ، نحو : باعدته وأبعدته ، وضاعفته وأضعفته ، وكون فاعل بمعنى أفعل هو من المعاني التي وضع لها فاعل ، تقول : أضرّ بفلان الجوع ، فالجار والمجرور هو المفعول به من حيث المعنى ، فلا يكون المفعول محذوفا ، بخلاف التوجيه الأول ، وهو أن تكون الباء للسبب ، فيكون المفعول محذوفا كما قدرناه.

قيل : ويجوز أن يكون الضرار راجعا إلى الصبي ، أي : لا يضار كل واحد منهما الصبي ، فلا يترك رضاعه حتى يموت ، ولا ينفق عليه الأب أو ينزعه من أمه حتى يضر بالصبي ، وتكون الباء زائدة معناه : لا تضار والدة ولدها ولا مولود له ولده انتهى. فيكون : ضار ، بمعنى : ضر ، فيكون مما وافق فيه فاعل الفعل المجرد الذي هو : ضر ، نحو قولهم : جاوزت الشيء وجزته ، وواعدته ووعدته ، وهو أحد المعاني التي جاء لها فاعل.

والظاهر أن الباء للسبب ، ويبين ذلك قراءة من قرأ لا تضارر ، براءين ، الأولى مفتوحة ، وهي قراءة عمر بن الخطاب.

وتأويل من تأول في الإدغام أن الفعل مبني للمفعول ، فإذا كان الفعل مبنيا للمفعول تعين كون الباء للسبب ، وامتنع توجيه الزمخشري أن : ضار به في معنى : أضرّ به ، والتوجيه الآخر أن : ضار به بمعنى : ضره ، وتكون الباء زائدة ، ولا تنقاس زيادتها في المفعول ، مع

٥٠٣

أن في التوجيهين إخراج فاعل عن المعنى الكثير فيه ، وهو كون الاسمين شريكين في الفاعلية والمفعولية من حيث المعنى ، وإن كان كل واحد منهما مرفوعا والآخر منصوبا.

وفي هذه الجمل الأربع من بلاغة المعنى ونصاعة اللفظ ما لا يخفى على من تعاطى علم البيان.

فالجملة الأولى : أبرزت في صورة المبتدأ والخبر وجعل الخبر فعلا لأن الإرضاع مما يتجدد دائما ، ثم أضيف الأولاد إلى الوالدات تنبيها على شفقتهن على الأولاد ، وهزا لهن وحثا على الإرضاع ، وقيد الإرضاع بمدة ، وجعل ذلك لمن أراد الإتمام. وجاء الوالدات بلفظ العموم ، وأضيف الأولاد لضمير العام ليعم ، وجمع القلة إذا دخلته الألف واللام ، أو أضيف إلى عام ، عم. وقد تكلمنا على شيء من هذا في كتابنا المسمى (بالتكميل في شرح التسهيل).

والجملة الثانية : أبرزت أيضا في صورة المبتدأ والخبر ، وجعل الخبر جارا ومجرورا بلفظ : على ، الدالة على الاستعلاء المجازي والوجوب. فأكد بذلك مضمون الجملة ، لأن من عادة المرء منع ما في يده من المال ، وإهمال ما يجب عليه من الحقوق ، فأكد ذلك. وقدم الخبر على سبيل الاعتناء به ، وجاء الرزق مقدما على الكسوة ، لأنه الأهم في بقاء الحياة ، والمتكرر في كل يوم.

والجملة الثالثة : أبرزت في صورة الفعل ومرفوعه ، وأتى بمرفوعه نكرة لأنه في سياق النفي ، فيعم ، ويتناول أولا ما سيق لأجله : وهو حكم الوالدات في الإرضاع ، وحكم المولود له في الرزق والكسوة اللذين للوالدات.

والجملة الرابعة : كالثالثة ، لأنها في سياق النفي ، فتعم أيضا ، وهي كالشرح للجملة قبلها ، لأن النفس إذا لم تكلف إلّا طاقتها لا يقع ضرر لا للوالدة ولا للمولود له ، ولذلك جاءت غير معطوفة على الجملة قبلها ، فلا يناسب العطف بخلاف الجملتين الأوليين ، فإن كل جملة منهما مغايرة للأخرى ، ومخصصة بحكم ليس في الأخرى ، ولما كان تكليف النفس فوق الطاقة ، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت ، أتى بالجملتين فعليتين ، أدخل عليهما حرف النفي الذي هو : لا ، الموضوع للاستقبال غالبا ، وفي قراءة من جزم : لا تضار ، أدخل حرف النهي المخلص المضارع للاستقبال ، ونبه على محل الشفقة بقوله : بولدها ، فأضاف الولد إليها ، وبقوله. بولده ، فأضاف الولد إليه ، وذلك

٥٠٤

لطلب الاستعطاف والإشفاق. وقدم ذكر عدم مضارة الوالدة على عدم مضارة الوالد مراعاة للجملتين الأوليين ، إذ بدىء فيهما بحكم الوالدات ، وثنى بحكم الوالد في قوله : لا تضار ، دلالة على أنه إذا اجتمع مؤنث ومذكر معطوفان ، فالحكم في الفعل السابق عليهما للسابق منهما ، تقول : قام زيد وهند وقامت هند وزيد ، ويقوم زيد وهند ، وتقوم هند وزيد ، إلّا إن كان المؤنث مجازيا بغير علامة تأنيث فيه فيحسن عدم إلحاق العلامة ، كقوله تعالى : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (١).

(وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) هذا معطوف على قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) والجملتان قبل هذا كالتفسير لقوله : بالمعروف ، اعتراض بهما بين المتعاطفين.

وقرأ يحيى بن يعمر : وعلى الورثة مثل ذلك ، بالجمع.

والظاهر في الوارث أنه وارث المولود له لعطفه عليه ، ولأن المولود له وهو الأب هو المحدث عنه في جملة المعطوف عليه ، والمعنى : أنه إذا مات المولود له وجب على وارثه ما وجب عليه من رزق الوالدات ، وكسوتهن بالمعروف ، وتجنب الضرار. وروي هذا عن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : وخصه بعضهم بمن يرث من الرجال يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي. لو كان حيا ، وقاله مجاهد ، وعطاء. وقال سفيان : الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما ، ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث ، كما قال : «واجعله الوارث منا».

وقال قبيصة بن ذؤيب ، والضحاك ، وبشير بن نصر ، قاضي عمر بن عبد العزيز الوارث هو الصبي نفسه ، أي : عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه ، وقال بعضهم : الوارث الولد تجب عليه نفقة الوالدين الفقيرين ، ذكره السجاوندي عن قبيصة بن ذؤيب.

فعلى هذه الأقوال تكون : الألف واللام في قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ) كأنها نابت عن الضمير العائد على : المولود له ، كأنه قيل : وعلى وارث المولود له. وقال عطاء أيضا ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح في آخرين : الوارث وارث المولود.

__________________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ٩.

٥٠٥

واختلفوا ، فقيل : وارث المولود من الرجال والنساء ، قاله زيد بن ثابت ، وقتادة ، وغيرهما ، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه.

وقيل : وارثه من عصبته كائنا من كان ، مثل : الجد ، والأخ ، وابن الأخ ، والعم ، وابن العم. وهذا يروى عن عمر ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق ، وأحمد ، وابن أبي ليلى.

وقيل : من كان ذا رحم محرم ، فإن كان ليس بذي رحم محرم لم يلزمه شيء ، وبه قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي قال : الأجداد ثم الأمهات مثل ذلك أي : الأجرة والنفقة وترك المضارة.

وعلى هذه الأقوال تكون الألف واللام كأنها نابت عن ضمير يعود على المولود ، وكأنه قيل : وعلى وارثه أي وارث المولود.

وقيل : الوارث هنا من يرث الولاية على الرضيع ، ينفق من مال الرضيع عليه ، مثل ما كان ينفق أبوه.

فتلخص في الوارث ستة أقوال ، وفي بعضها تفصيل كما ذكرناه ، فيجيء بالتفصيل عشرة أقوال ، والإشارة بقوله : ذلك ، من قوله : مثل ذلك ، إلى ما وجب على الأب من رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، على ما شرح في الأقوال في قوله (وَعَلَى الْوارِثِ) وقاله أيضا ابن عباس ، وابراهيم ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، والشعبي ، والحسن.

وعبر بعضهم عن هذا القول بأن : مثل ذلك ، هو : أجرة المثل والنفقة ، قال : ويروى ذلك عن عمر ، وزيد ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، وابراهيم ، وقتادة ، وقبيصة والسدي.

واختاره ابن قتيبة.

وقال الشعبي أيضا ، والزهري ، والضحاك ، ومالك وأصحابه ، وغيرهم : المراد بقوله : مثل ذلك ، أن لا يضار ، وأما الرزق والكسوة فلا شيء منهما. وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث ، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة أن لا يضار الوارث. انتهى.

وأنّى يكون بالإجماع وقد رأيت أقوال العلماء في وجوب ذلك؟

٥٠٦

وقيل : مثل ذلك ، أجرة المثل والنفقة وترك المضارة ، روي ذلك عن ابن جبير ، ومجاهد ، ومقاتل ، وأبي سليمان الدمشقي ، واختاره القاضي أبو يعلى ، قالوا : ويشهد لهذا القول أنه معطوف على ما قبله ، وقد ثبت أن على : المولود له ، النفقة والكسوة ، وأن لا يضار ، فيكون مثل ذلك ، مشيرا إلى جميع ما على المولود له.

(فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) الضمير في : أرادا ، عائد على الوالدة والمولود له ، والفصال : الفطام قبل تمام الحولين. إذا ظهر استغناؤه عن اللبن ، فلا بد من تراضيهما ، فلو رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجبر ، قاله مجاهد ، وقتادة والزهري ، والسدي ، وابن زيد ، وسفيان وغيرهم.

وقيل : الفطام سواء كان في الحولين أو بعد الحولين قاله ابن عباس.

وتحرير هذا القول أنه قبل الحولين لا يكون إلّا بتراضيهما ، وأن لا يتضرر المولود ، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فله ذلك إلا أن يلحق المولود بذلك ضرر ، وعلى هذين القولين يكون ذلك توسعة بعد التحديد.

وقال أبن بحر : الفصال أن يفصل كل واحد منهما القول مع صاحبه بتسليم الولد إلى أحدهما ، وذلك بعد التراضي والتشاور لئلا يقدم أحد الوالدين على ما يضر بالولد ، فنبه تعالى على أن ما كان متهم العاقبة لا يقدم عليه إلّا بعد اجتماع الآراء.

وقرىء : فإن أراد ، ويتعلق عن تراض ، بمحذوف لأنه في موضع الصفة لقوله : فصالا ، أي : فصالا كائنا ، وقدّره الزمخشري صادرا. و : عن ، للمجاوزة مجازا ، لأن ذلك معنى من المعاني لا جرم ، وتراض وزنه تفاعل ، وعرض فيه ما عرض في أظب جمع : ظبي ، إذ أصله أظبي على : أفعل ، فتنقلب الياء واوا لضمة ما قبلها ، ثم إنه لا يوجد في لسان العرب اسم آخره واو قبلها ضمة لغير الجمع ، وأنه متى أدّى إلى ذلك التصريف قلبت الواو ياء ، وحوّلت الضمة كسرة ، وكذلك فعل في تراض. وتفاعل هنا في تراض ، وتشاور على الأكثر من معانيه من كونه واقعا من اثنين ، وأخر التشاور لأنه به يظهر صلاح الأمور والآراء وفسادها ، و : منهما ، في موضع الصفة لتراض ، فيتعلق بمحذوف ، وهو مراد بعد قوله : وتشاور ، أي : منهما ، ويحتمل في تشاور أن يكون أحدهما شاور الآخر ، أو يكون أحدهما شاور غير الآخر لتجتمع الآراء على المصلحة في ذلك. (فَلا جُناحَ

٥٠٧

عَلَيْهِما) هذا جواب الشرط ، وقبل هذا الجواب جملة محذوفة بها يصح المعنى ، التقدير : ففصلاه ، أو ففعلا ذلك ، والمعنى : فلا جناح عليهما في الفصال.

(وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الخطاب للآباء والأمهات وفيه التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وتلوين في الضمير ، لأن قبله (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) بضمير التثنية ، وكأنه رجوع إلى قوله : والوالدات ، وعلى المولود له.

و : استرضع ، فيه خلاف ، هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه ، أو إلى مفعولين الثاني بحرف جر ، قولان.

فالأول : قول الزمخشري ، قال : استرضع منقول من أرضع ، يقال : أرضعت المرأة الصبي ، واسترضعها الصبي ، فتعديه إلى مفعولين ، كما تقول : أنجح الحاجة ، واستنجحته الحاجة. والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه ، كما تقول : استنجحت الحاجة ، ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول. انتهى كلامه. وهو نقل من نقل ، الأصل رضع الولد ، ثم تقول : أرضعت المرأة الولد ، ثم تقول استرضعت المرأة الولد ، واستفعل هنا للطلب أي : طلبت من المرأة إرضاع الولد ، كما تقول استسقيت زيدا الماء ، واستطعمت عمرا الخبز ، أي : طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني ، فكما أن الخبز والماء منصوبان وليسا على إسقاط الخافض ، كذلك : أولادكم ، منصوب لا على إسقاط الخافض.

والثاني : قول الجمهور ، وهو أن يتعدى إلى اثنين ، الثاني بحرف جر ، وحذف من قوله : أولادكم ، والتقدير : لأولادكم ، وقد جاء استفعل أيضا للطلب معدى بحرف الجر في الثاني ، وإن كان في : أفعل ، معدى إلى اثنين. تقول : أفهمني زيد المسألة ، واستفهمت زيدا عن المسألة ، فلم يجىء : استطعمت ، ويصير نظير : استغفرت الله من الذنب ، ويجوز حذف : من ، فتقول : الذنب ، وليس في قولهم : كان فلان مسترضعا في بني فلان دليل على أنه مفعول بنفسه ، أو بحرف جر.

(فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) هذا جواب الشرط ، وقبله جملة حذفت لفهم المعنى ، التقدير : فاسترضعتم أو فعلتم ذلك فلا جناح عليكم في الاسترضاع (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ) ، هذا

٥٠٨

خطاب للرجال خاصة ، وهو من تلوين الخطاب. وقيل : هو خطاب للرجال والنساء ، ويتضح ذلك في تفسير قوله : (ما آتَيْتُمْ).

و (إِذا سَلَّمْتُمْ) شرط ، قالوا : وجوابه ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه ، وذلك المعنى هو العامل في : إذا ، وهو متعلق بما تعلق به : عليكم. انتهى.

وظاهر هذا الكلام خطأ لأنه جعل العامل في إذا أولا المعنى الذي يدل عليه الشرط وجوابه ، ثم قال ثانيا إن إذا تتعلق بما تعلق به : عليكم ، وهذا يناقض ما قبله ، ولعلّ قوله : وهو متعلق ، سقطت منه ألف ، وكان : أو هو متعلق ، فيصح إذ ذاك المعنى ، ولا تكون إذ ذاك شرطا ، بل تتمحض للظرفية.

وقرأ ابن كثير : ما أتيتم ، بالقصر ، وقرأ باقي السبعة بالمد ؛ وتوجيه قراءة ابن كثير : أن : أتيتم ، بمعنى جئتموه وفعلتموه ، يقال : أتى جميلا أي : فعله ، وأتى إليه ، إحسانا فعله ، وقال إن وعده كان مأتيا ، أي : مفعولا ، وقال زهير :

فما يك من خير أتوه فإنما

توارثه آباء آبائهم قبل

وتوجيه المدّ أن المعنى : ما أعطيتم ، و : ما ، في الوجهين موصولة بمعنى الذي ، والعائد عليها محذوف ، وإذا كانت بمعنى أعطى احتيج إلى تقدير حذف ثان ، لأنها تتعدى لاثنين أحدهما ضمير : ما ، والآخر ، الذي هو فاعل من حيث المعنى ، والمعنى في : ما آتيتم ، أي : ما أردتم إتيانه أو إيتاءه.

ومعنى الآية ، والله أعلم جواز الاسترضاع للولد غير أمه إذا أرادوا ذلك واتفقوا عليه ، وسلموا إلى المراضع أجورهن بالمعروف ، فيكون ما سلمتم هو الأجرة على الاسترضاع ، قاله السدي ، وسفيان. وليس التسليم شرطا في جواز الاسترضاع والصحة ، بل ذلك على سبيل الندب ، لأن في ايتائها الأجرة معجلا هنيا توطين لنفسها واستعطاف منها على الولد ، فتثابر على إصلاح شأنه.

وقيل : سلمتم الأولاد إلى من رضيها الوالدان ، قاله قتادة ، والزهري ، وفيه بعد لإطلاق : ما ، الموضوعة لما لا يعقل على العاقل ، وقيل : سلمتم إلى الأمهات أجرهنّ بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع قاله مجاهد.

وقيل : سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع ، أي : سلم كل واحد من الأبوين ورضي ، وكان عن اتفاق منهما ، وقصد خير وإرادة معروف ، قاله قتادة.

٥٠٩

وأجاز أبو علي : في : ما آتيتم ، أن تكون : ما ، مصدرية أي : إذا سلمتم الإتيان ، والمعنى مع القصر ، وكون : ما ، بمعنى الذي ، أن يكون الذي ما آتيتم نقده وإعطاءه ، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه ، فكان التقدير : ما آتيتموه ، ثم حذف الضمير من الصلة ، وإذا كانت مصدرية استغنى الكلام عن هذا التقدير ، وروى شيبان عن عاصم : ما أوتيتم مبنيا للمفعول أي : ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، ونحوها ، قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (١) ويتعلق : بالمعروف ، ب : سلمتم ، أي : بالقول الجميل الذي تطيب النفس به ، ويعين على تحسين نشأة الصبي. وقيل : تتعلق : بآتيتم.

قالوا : وفي هذه الآية دليل على أن للآباء أن يستأجروا لأولادهم مراضع إذا اتفقوا مع الأمهات على ذلك ، وهذه كانت سنة جاهلية ، كانوا يتخذون المراضع لأولادهم ويفرغون الأمهات للاستمتاع بهن ، والاستصلاح لأبدانهن ، ولاستعجال الولد بحصول الحمل ، فأقرهم الشرع على ذلك لما في ذلك من المصلحة ورفع المشقة عنهم بقطع ما ألفوه ، وجعل الأجرة على الأب بقوله : (إِذا سَلَّمْتُمْ).

و (اتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لما تقدّم أمر ونهي ، خرج على تقدير أمر بتقوى الله تعالى ، ولما كان كثير من أحكام هذه الآية متعلقا بأمر الأطفال الذين لا قدرة لهم ولا منعة مما يفعله بهم ، حذر وهدّد بقوله : (وَاعْلَمُوا) وأتى بالصفة التي هي : بصير ، مبالغة في الإحاطة بما يفعلونه معهم والاطلاع عليه ، كما قال تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٢) في حق موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، إذ كان طفلا.

قالوا : وفي الآية ضروب من البيان والبديع ، منها : تلوين الخطاب ، ومعدوله في : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) فإنه خبر معناه الآمر على قول الأكثر ، والتأكيد : بكاملين ، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهنّ ، لأنهنّ سبب توصل ذلك. والإيجاز في : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) وتلوين الخطاب : في (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) فإنه خطاب للآباء والأمهات ثم قال : (إِذا سَلَّمْتُمْ) وهو خطاب للآباء خاصة ، والحذف في : (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا) التقدير : مراضع للأولاد ، وفي قوله : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) انتهى.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمر الله تعالى الأزواج إذا طلقوا نساءهم فيقاربوا

__________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٧.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٣٩.

٥١٠

انقضاء العدّة بإمساكهنّ ، وهو مراجعتهنّ بمعروف ، أو بتخلية سبيلهنّ بانقضاء العدّة ، ثم أكد الأمر بالإمساك بمعروف ، بأن نص على النهي عن إمساكهن ضرارا بهنّ ، وجاء النهي على حسب ما كان يقع منهم في الجاهلية من الرجعة ، ثم الطلاق ، ثم الرجعة ، ثم الطلاق على سبيل المضارة للنساء ، فنهوا عن هذه الفعلة القبيحة تعظيما لهذا الفعل السيء الذي هو أعظم إيذاء النساء ، ثم ذكر تعالى أن من ارتكب ما نهى الله عنه من ذلك فقد ظلم نفسه ، أي : إن إمساك النساء على سبيل المضارة ، وتطويل عدّتهنّ ، إنما وبال ذلك في الحقيقة على نفسه ، حيث ارتكب ما نهى الله عنه ، ثم نهى تعالى عن اتخاذ آيات الله هزؤا ، لأنه تعالى قد أنزل آيات في النكاح ، والحيض ، والإيلاء ، والطلاق ، والعدّة ، والرجعة ، والخلع ، وترك المضارة ، وتضمنت أحكاما بين الرجال والنساء ، وإيجاب حقوق لهم وعليهم ، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء حتى كانوا لا يورثون البنات احتقارا لهنّ ، وذكر قبل هذا أن من تعدّى حدود الله فهو ظالم ، أكدّ ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله هزؤا ، بل تؤخذ بجدّ وقبول ، وإن كان فيها ما يخالف عاداتهم ، ثم أمرهم بذكر نعمته ، تنبيها على أن من أنعم عليك فيجب أن يأخذ ما يلقي الله من الآيات بالقبول ، ليكون ذلك شكرا لنعمته السابقة ، ثم نبه تعالى على أن ما أنزل من الكتاب والحكمة فهو واعظ لكم ، فينبغي قبوله والانتهاء عنده ، ثم أمر بتقوى الله تعالى ، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء عليم ، فهو لا يخفى عنه شيء من أفعالكم ، وهو يجازيكم عليها.

ثم ذكر تعالى أن الأزواج إذا طلقوا نساءهم وانقضت عدّتهنّ لا تعضلوهنّ عن تزوج من أردن إذا وقع تراض بين المطلقة وخاطبها ، وكان من عادة العرب أن من طلق منهم امرأة وبتها يعضلها عن التزوج بغيره ، ثم أشار بقوله : ذلك إلى العضل ، وذكر أنه يوعظ به المؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر ، لأن من لم يكن مؤمنا لم يزدجر عن ما نهى الله عنه ، ونبه على الإيمان باليوم الآخر ، لأن ثمرة مخالفة النهي إنما تظهر في الدار الآخرة ، ثم أشار بقوله : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ) إلى التمكين من التزويج وعدم العضل لما في ذلك من الثواب بامتثال أمر الله تعالى ، وأطهر لما يخشى من اجتماع الخاطب والمرأة على ريبة إذا منعا من التزويج ، ثم نسب العلم إليه تعالى ونفاه عن المخاطبين ، إذ هو العالم بخفايا الأمور وبواطنها.

ثم شرع تعالى في ذكر أشياء من نتائج التزويج من إرضاع الوالدات أولادهنّ ، وذكر حد ذلك لمن أراد الإتمام ، وما يجب للمرأة على الزوج وعلى وارثه إذا مات الزوج من

٥١١

النفقة والكسوة ، وأن ذلك بالمعروف من غير إجحاف لا بالزوج ولا بالزوجة ، وذكر جواز فصله وفطامه إذا كان ذلك برضا أبيه وأمه قبل الحولين ، وجواز الاسترضاع للأولاد إذا اتفق الرجل والزوجة على ذلك ، وأشار إلى تسليم أجر الأظآر تطييبا لأنفسهنّ وإعانة لهنّ على محبة الصغير ، واشتمالهنّ عليه حتى ينشأ كأنه قد أرضعته أمّه ، فإن الإحسان جالب للمحبة ، ثم ختم هذه الآية بالأمر بتقوى الله تعالى ، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء بصير ، كما ختم تعالى الآية الأولى بالأمر بالتقوى بالعلم بأن الله بكل شيء عليم ، وذلك إشارة إلى المجازاة ، وتهديد ووعيد لمن خالف أمره تعالى.

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)

يذر : معناه يترك ، ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل منه اسم الفاعل ولا المفعول ، وجاء الماضي منه على طريق الشذوذ.

٥١٢

خبير : للمبالغة ، من خبرت الشيء علمته ، ومنه : قتل أرضا خابرها ، وخبرت زيدا اختبرته ، ولهذه المادة يرجع الخبر لأنه الشيء المعلم به ، والخبار الأرض اللينة.

التعريض : الإشارة إلى الشيء دون تصريح.

الخطبة : بكسر الخاء التماس النكاح ، يقال خطب فلان فلانة ، أي : سألها خطبه أي : حاجته ، فهو من قولهم : ما خطبك؟ أي : ما حاجتك ، وأمرك؟ قال الفراء : الخطبة مصدر بمعنى الخطب ، وهو من قولك : إنه يحسن القعدة والجلسة ، يريد : القعود والجلوس.

والخطبة بضم الخاء الكلام المشتمل على : الزجر ، والوعظ ، والإذكار ، وكلاهما راجع للخطاب الذي هو الكلام ، وكانت سجاح يقول لها الرجل : خطب ، فتقول : نكح.

أكنّ الشيء : أخفاه في نفسه ، وكنه : ستره شيء ، والهمزة في أكنّ للتفرقة بين المعنيين ، كأشرقت.

العقدة : في الحبل ، وفي الغصن معروفة ، يقال : عقدت الحبل والعهد ، ويقال : أعقدت العسل ، وهو راجع لمعنى الاشتداد ، وتعقد الأمر عليّ اشتدّ ، ومنه العقود.

المقتر : المقل أقتر الرجل وقتر يقتر ويقتر ، والقلة معنى شامل لجميع مواقع اشتقاقه ، ومنه القتير ، وهو مسمار الدرع ، والقترة أدنى الغبار ، والناموس الصغار ، والقتار : ريح القدر. قال طرفة :

حين قال الناس في مجلسهم

أقتار ذاك؟ أم ريح قطر؟

والقتر : بيوت الصيادين على الماء ، قال الشاعر :

ربّ رام من بني ثعل

مثلج كفيه في قتره

النصف : هو الجزء من اثنين على السواء ، ويقال : بكسر النون وضمها ، ونضيف : ومنه : ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ، أي : نصفه ، كما يقال : ثمن وثمين ، وعشر وعشير ، وسدس وسديس ، ومنه قيل : النصف. المقنعة التي توضع على رأس المرأة نصيف ، وكل شيء بلغ نصف غيره فهو نصف ، يقال : نصف النهار ينصف ، ونصف الماء القدح ، والإزار الساق ، والغلام القرآن ، وحكى الفراء في جميع هذا : أنصف.

المحافظة على الشيء : المواظبة عليه ، وهو من الحفظ ، حفظ المكان حرسه ،

٥١٣

وحفظ القرآن تذكره غائبا ، وهو راجع لمعنى الحراسة ، وحفظ فلان : غضب ، وأحفظه : أغضبه ، ومصدر : حفظ ، بمعنى غضب : الحفيظة والحفظ.

الركوب : معروف ، وركبان : جمع راكب ، وهو صفة استعملت استعمال الأسماء ، فحسن أن يجمع جمع الأسماء ، ومع ذلك فهو في الأسماء محفوظ قليل ، قالوا : حاجر وحجران ، ومثل ، ركبان : صحبان ، ورعيان ، جمع صاحب وراع ، فإن لم تستعمل الصفة استعمال الأسماء لم يجىء فيها فعلان ، لم يرد مثل : ضربان وقتلان في جمع : ضارب وقاتل.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدّم ذكر عدة طلاق الحيض ، واتصلت الأحكام إلى ذكر الرضاع ، وكان في ضمنها قوله (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) (١) أي : وارث المولود له ، ذكر عدة الوفاة إذ كانت مخالفة لعدة طلاق الحيض.

وقرأ الجمهور : يتوفون ، بضم الياء مبنيا للمفعول وقرأ علي ، والمفضل ، عن عاصم : بفتح الياء مبنيا للفاعل ، ومعنى هذه القراءة أنهم : يستوفون آجالهم.

وإعراب : الذين ، مبتدأ واختلف أنه خبر أم لا؟ فذهب الكسائي والفراء إلى أنه لا خبر له ، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهن : بالذين ، لأن الحديث معهن في الاعتداد بالأشهر ، فجاء الخبر عما هو المقصود ، والمعنى : من مات عنها زوجها تربصت ، وأنشد الفراء رحمه‌الله :

لعلّي إن مالت بي الريح ميلة

على ابن أبي ذيان أن يتندّما

فقال : لعلّي ، ثم قال : أن يتندّما ، لأن المعنى : لعل ابن أبي ذيان إن مالت بي الريح ميلة أن يتندما وقال الشاعر :

بني أسد إن ابن قيس ، وقتله

بغير دم ، دار المذلة حلت

ألغى ابن قيس ، وقد ابتدأ بذكره وأخبر عن قتله أنه ذلّ ؛ وتحرير مذهب الفراء أن العرب إذا ذكرت أسماء مضافة إليها ، فيها معنى الخبر ، أنها تترك الإخبار عن الاسم الأول ويكون

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٣.

٥١٤

الخبر عن المضاف ، مثاله : إن زيدا وأخته منطلقة ، لأن المعنى : إن أخت زيد منطلقة ؛ والبيت الأول ليس من هذا الضرب ، وإنما أوردوا مما يشبه هذا الضرب قول الشاعر :

فمن يك سائلا عني فإني

وجروة لا ترود ولا تعار

والرد على الفراء ، وتأويل الأبيات والآية ، مذكور في النحو.

وذهب الجمهور إلى أن له خبرا ، واختلفوا ، فقيل : هو ملفوظ به ، وهو : يتربصن ، ولا حذف يصحح معنى الخبر ، لأنه ربط من جهة المعنى ، لأن النون في : يتربصن ، عائد ، فقيل : على الأزواج الذين يتوفون ، فلو صرح بذلك فقيل : يتربصن أزواجهم ، لم يحتج إلى حذف ، وكان إخبارا صحيحا ، فكذلك ما هو بمعناه ، وهو قول الزجاج.

وقيل : ثمّ حذف يصحح معنى الخبرية ، واختلفوا في محل الحذف ، فقيل : من المبتدأ ، والتقدير : وأزواج الذين ، ودل على المحذوف قوله : (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) وقيل : من الخبر ، وتقديره : يتربصن بعدهم ، أو : بعد موتهم ، قاله الأخفش.

وقيل : من الخبر وهو أن يكون الخبر جملة من مبتدأ محذوف وخبره يتربصن ، تقديره : أزواجهم يتربصن ، ودل عليه المظهر ، قاله المبرد.

وقيل : الخبر بجملته محذوف مقدّر قبل المبتدأ تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا.

وقوله : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) بيان للحكم المتلو ، وهي جملة لا موضع لها من الإعراب ، قالوا : وهذا قول سيبويه.

قال ابن عطية : إنما يتجه ذلك إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد ، مثل قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (١) وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظه ، فيحتاج في هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر ، وحسّن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها للرجال الذين منهم الحكام والنظار عبارة الأخفش والمبرد ما ذكرناه. انتهى كلامه.

وظاهر قوله : يتربصن ، العموم في كل امرأة توفي عنها زوجها ، فيدخل فيه الأمة والكتابية والصغيرة.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٣٨.

٥١٥

وروي عن أبي حنيفة أن عدة الكتابية ثلاث حيض إذا توفي عنها زوجها ، وروي عنه أن عليها عدّة ، فإن لم يدخل فلا عدة قولا واحدا ، ويتخرج على هذين القولين الإحداد ، وتخصيص الحامل قيل : بقوله (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ) (١) الآية ، ولم يخصص الشافعي هنا العموم في حق الحامل إلّا بالسنة لا بهذه الآية ، لأنها وردت عقيب ذكر المطلقات ، فيحتمل أن يقال : هي في المطلقة ، لا في المتوفى عنها زوجها ، ولأن كل واحدة من الآيتين أعم من الأخرى من وجه ، وأخص منها من وجه ، لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى ، والتي توفي عنها زوجها قد تكون حاملا وقد لا تكون ، فامتنع التخصيص.

وقيل : الآية تتناول أولا الحوامل ، ثم نسخ بقوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) (٢) وعدة الحامل وضع حملها عند الجمهور.

وروي عن علي ، وابن عباس ، وغيرهما : أن تمام عدتها آخر الأجلين ، واختاره سحنون ، وروي عن ابن عباس أنه رجع عن ذلك.

ومعنى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) أي : ينتظرن. قيل : والتربص هنا الصبر عن النكاح ، قاله الحسن ، قال : وليس الإحداد بشيء ولها أن تتزين وتتطيب ، وضعف قوله. وقيل : ترك التزوج ولزوم البيت والإحداد ، وهو أن تمتنع من الزينة ، ومن لبس المصبوغ الجميل مثل الحمرة والصفرة والخضرة ، والطيب ، وما يجري مجرى ذلك. وهذا قول الجمهور ، وليس في الآية نص على الإحداد ، بل التربص مجمل بينته السنة ، ثبت في حديث الفريعة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله». وكانت متوفى عنها زوجها ، قالت : فاعتددت أربعة أشهر وعشرا. وصح أنه قال : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج ، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا ، وتلزم المبيت في بيتها». وهذا قول الجمهور ، وقال ابن عباس ، وأبو حنيفة ، وغيرهما : تبيت حيث شاءت ، وروي ذلك عن علي ، وجابر ، وعائشة ، وبه قال عطاء ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وداود.

قال ابن عباس : قال تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) ولم يقل : يعتددن في بيوتهن ، ولتعتد حيث شاءت أربعة أشهر وعشرا ، قالوا : معناه وعشر ليال ، ولذلك حذف التاء وهي قراءة ابن عباس. والمراد عشر ليال بأيامها ، فيدخل اليوم العاشر ، قيل : وغلب حكم الليالي

__________________

(١ ـ ٢) سورة الطلاق : ٦٥ / ٤.

٥١٦

إذ الليالي أسبق من الأيام ، والأيام في ضمنها ، وعشر أخف في اللفظ ، ولا تنقضي عدّتها إلّا بانقضاء اليوم العاشر ، هذا قول الجمهور.

وقال الأوزاعي ، وأبو بكر الأحم : ليس اليوم العاشر من العدة ، بل تنقضي بتمام عشر ليال. وقال المبرد : معناه وعشر مدد كل مدة منها يوم وليلة ، تقول العرب : سرنا خمسا ، أي : بين يوم وليلة قال الشاعر :

فطافت ثلاثا بين يوم وليلة

وكان النكيرات تضيف وتجأرا

وقال الزمخشري : وقيل عشرا ذهابا إلى الليالي والأيام داخلة معها ، ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام ، تقول : صمت عشرا ، ولو ذكرت خرجت من كلامهم ، ومن البين فيه (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) (١) (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (٢) انتهى كلامه.

ولا يحتاج إلى تأويل عشر بأنها ليال لأجل حذف التاء ، ولا إلى تأويلها بمدد ، كما ذهب إليه المبرد ، بل الذي نقل أصحابنا أنه : إذا كان المعدود مذكرا وحذفته ، فلك فيه وجهان.

أحدهما ، وهو الأصل : أن يبقى العدد على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود ، فتقول : صمت خمسة. تريد : خمسة أيام ، قالوا : وهو الفصيح ، قالوا : ويجوز أن تحذف منه كله تاء التأنيث ، وحكى الكسائي عن أبي الجراح : صمنا من الشهر خمسا. ومعلوم أن الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام ، واليوم مذكر وكذلك قوله :

وإلّا فسيري مثل ما سار راكب

يتمم خمسا ليس في سيره أمم

يريد خمسة أيام ، وعلى ذلك ما جاء في الحديث ، ثم أتبعه بست من شوال ، وإذا تقرر هذا فجاء قوله : عشرا على أحد الجائزين ، وحسنه هنا أنه مقطع كلام ، فهو شبيه بالفواصل ، كما حسن قوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) (٣) كونه فاصلة ، فلذلك اختير مجيء هذا على أحد الجائزين ، فقوله : ولو ذكرت لخرجت عن كلامهم ، ليس كما ذكر ، بل لو ذكر لكان أتى على الكثير الذي نصوا عليه أنه الفصيح ، إذ حاله عندهم محذوفا كحاله مثبتا في الفصيح ، وجوزوا الذي ذكره الزمخشري على أن غيره أكثر منه ، وقوله : ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ، كما ذكر ، بل استعمال التذكير هو الكثير الفصيح فيه. كما ذكرنا. وقوله : ومن

__________________

(١ ـ ٣) سورة طه : ٢٠ / ١٠٣.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٠٤.

٥١٧

البين فيه (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) (١) قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه ، وأن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة ، وقوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (٢) فائدة ذكر الزمخشري هذا أنه على زعمه أراد الليالي ، والأيام داخلة معها ، فأتى بقوله : إلّا يوما ، للدلالة على ذلك ، وهذا عندنا يدل على أن قوله : عشرا ، إنما يريد بها الأيام ، لأنهم اختلفوا في مدة اللبث ، فقال قوم : عشر ، وقال ، أمثلهم طريقة : يوم ، فقوله : إلّا يوما ، مقابل لقولهم إلّا عشرا ، ويبين أنه أريد بالعشر الأيام ، إذ ليس من التقابل أن يقول بعضهم : عشر ليال ، ويقول بعض : يوما.

وظاهر قوله : أربعة أشهر ما يقع عليه اسم الشهر ، فلو وجبت العدّة مع رؤية الهلال لاعتدّت بالأهلة ، كان الشهر تاما أو ناقصا. وإن وجبت في بعض شهر ، فقيل : تستوفي مائة وثلاثين يوما ، وقيل : تعتدّ بما يمر عليها من الأهلة شهورا ، ثم تكمل الأيام الأول ، وكلا القولين عن أبي حنيفة.

ولما كان الغالب على من مات عنها زوجها أن تعلم ذلك ، فتعتد إثر الوفاة ، جاء الفعل مسندا : إليهن ، وأكد بقوله : بأنفسهن ، فلو مضت عليها مدة العدة من حين الوفاة ، وقامت على ذلك البينة ، ولم تكن علمت بوفاته إلى أن انقضت العدة ، فالذي عليه الجمهور أن عدتها من يوم الوفاة ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وعطاء والأسود بن يزيد ، وفقهاء الأمصار.

وقال علي ، والحسن البصري ، وخلاس بن عمرو ، وربيعة : من يوم يأتيها الخبر.

وكأنهم جعلوا في إسناد التربص إليهن تأثيرا في العدة. وروي عن سعيد بن المسيب ، والشافعي : أنهما قالا : إذا قامت البينة فالعدة من يوم يموت ، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر.

وروي عن الشافعي مثل قول الجمهور ، وأجمعوا على أن المعتدة ، لو كانت حاملا لا تعلم بوفاة الزوج حتى وضعت الحمل ، أن عدتها منقضية ، ولم تتعرض الآية في المتوفى عنها زوجها إلّا لأن تتربص تلك المدة ، فلا نفقة لها في مدة العدة من رأس المال ، ولو كانت حاملا ، قاله جابر ، وابن عباس ، وابن المسيب ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة ، وعبد الملك بن يعلى ، ويحيى الأنصاري ، وربيعة ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ، وروي عن أبي حنيفة.

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١٠٣.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٠٤.

٥١٨

وقيل : لها النفقة من جميع المال ، وروي ذلك عن علي ، وعبد الله بن عمر ، وشريح ، وابن سيرين ، والشعبي ، وأبي العالية ، والنخعي ، وخلاس بن عمرو ، وحماد بن أبي سليمان ، وأيوب السختياني ، والثوري ، وأبي عبيد.

وظاهر قوله (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أنه إذا تربصت هذه المدة ليس عليها أكثر من ذلك ، وإن كانت ممن تحيض فلم تحض فيها ، وقيل : لا تبرأ إلّا بحيضة تأتي بها في المدة ، وإلّا فهي مستريبة ، فتمكث حتى تزول ريبتها.

وأجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول ، وهذا من غرائب النسخ ، فإن الحكم الثاني ينسخ الأول ، وقيل : إن الحول لم ينسخ ، وإنما هو ليس على وجه الوجوب ، بل هو على الندب ، فأربعة أشهر وعشرا ، أقل ما تعتدّ به المتوفى عنها زوجها ، والحول هو الأكمل والأفضل.

وقال قوم : ليس في هذا نسخ ، وإنما هو نقصان من الحول : كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنتين لم يكن ذلك نسخا ، بل كان تخفيفا.

قالوا : واختص هذا العدد في عدّة المتوفى عنها زوجها استبراء للحمل فقد روى ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يكون خلق أحدكم نطفة أربعين يوما ، ثم علقة أربعين يوما ، ثم مضغة أربعين يوما ، ثم ينفخ فيه الروح ، أربعة أشهر وزاد الله العشر لأنها مظنة لظهور حركة الجنين ، أو مراعاة لنقص الشهور وكمالها ، أو استظهارا لسرعة ظهور الحركة أو بطئها في الجنين». قال أبو العالية وغيره : إنما زيدت العشر لأن نفخ الروح يكون فيها ، وظهور الحمل في الغالب. وقال الأصمعي : ولد كل حامل يركض في نصف حمله ، وقال الراغب : ذكر الأطباء أن الولد في الأكثر ، إذا كان ذكرا يتحرك بعد ثلاثة أشهر ، وإذا كان أنثى بعد أربعة أشهر ، وزيد على ذلك عشرا استظهارا.

قال : وخصت العشرة بالزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها لما تقدم في : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (١).

قال القشيري : لما كان حق الميت أعظم ، لأن فراقه لم يكن بالاختيار ، كانت مدة وفاته أطول ، وفي ابتداء الإسلام كانت عدة الوفاة سنة ، ثم ردت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٩٦.

٥١٩

لتخفيف براءة الرحم عن ماء الزوج ، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوج آخر ، إذ الموت لا يستديم موافاة إلى آخر عمر أحد. كما قيل :

وكما تبلى وجوه في الثرى

فكذا يبلى عليهنّ الحزن

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). بلوغ أجلهنّ هو انقضاء المدة المضروبة في التربص ، والمخاطبون : بعليكم ، الأولياء ، أو الأئمة والحكام والعلماء ، إذ هم الذين يرجع إليهم في الوقائع ، أو عامة المؤمنين. أقوال ، ورفع الجناح عن الرجال في بلوغ النساء أجلهنّ لأنهم هم الذين ينكرون عليهنّ ، ويأخذونهنّ بأحكام العدد ، أو لأنهم إذ ذاك يسوغ لهم نكاحهن ، إذ كان ذلك في العدّة حراما ، فزال الجناح بعد انقضاء العدة.

والذي فعلن بأنفسهن : النكاح الحلال ، قاله مجاهد ، وابن شهاب ، أو : الطيب ، والتزين ، والنقلة من مسكن إلى مسكن ، قاله أبو جعفر الطبري ، ومعنى : بالمعروف أي : بالإشهاد ، وقيل : ما أذن فيه الشرع مما يتوقف النكاح عليه ، وقال الزمخشري : (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من التعرض للخطاب ، بالمعروف : بالوجه الذي لا ينكره الشرع ، والمعنى : أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمه أن يكفوهن ، وإن فرطوا كان عليهم الجناح. انتهى كلامه. وهو حسن.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وعيد يتضمن التحذير ، وخبير للمبالغة ، وهو العلم بما لطف والتقصي له.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) نفى الله الحرج في التعريض بالخطبة ، وهو : إنك لجميلة ، وإنك لصالحة ، وإن من عزمي أن أتزوج ؛ وإني فيك لراغب ، وما أشبه ذلك ، أو : أريد النكاح ، وأحب امرأة كذا وكذا يعد أوصافها ، قاله ابن عباس. أو : إنك لنافقة ، وإن قضي شيء سيكون ، قاله الشعبي. أو : يصف لها نفسه ، وفخره ، وحسبه ، ونسبه ، كما فعل الباقر مع سكينة بنت حنظلة ، أو يقول لوليها : لا تسبقني بها ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة بنت قيس : «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك». وقد أوّل هذا على أنه منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة على سبيل الرأي فيمن يتزوجها ، لا أنه أرادها لنفسه ، ولذلك كره مجاهد أن يقول : لا تسبقيني بنفسك ، ورآه من المواعدة سرا ، أو يقول : ما عليك تأيم ، ولعل الله يسوق إليك خيرا ، أو رب رجل يرغب فيك ، أو : يهدي لها ويقوم بشغلها إذا كانت له رغبة في تزويجها.

٥٢٠