كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

مسعود جمالة ، وقرئ جمالات وهو أكثر في القراءة وأقوى ولا تمنع في قراءة ابن مسعود أنّها الطائفة منها ، ويراد بالجمالات الطّوائف ، وهذا كما يقال : جمال ، وجمالان ، قال : عند التفرق في الهيجاء جمالان ، ويكون جمالات ، وجمال كحبال ، وحبالات ، وبيوت ، وبيوتات للطّوائف ، وقد قيل : رجال ورجالة كرجالات في كلامهم يريدون ما فسرت وبينت لأنّ رجال نهاية الجمع ورجالة إذا جعلتها للطّائفة فهي دونه ، ومعنى صفر سود قال : هي صفر ألوانها كالزّغب.

وقد قيل : جعلها صفرا لأنّ لون النّار إلى الصّفرة قوله تعالى : (بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) [سورة المرسلات ، الآية : ٣٢] قيل فيه : واحد القصور والتّشبيه بها لعظمها ، وقيل : القصر بسكون الصاد جمع قصرة ، وهي الغليظ من الشّجر وقرئ كالقصر بفتح الصاد وهي أعناق الإبل. فأما تكرير التّشبيه وجعلها أولا كالقصر وفي الثاني كالجمالات فكأنه أراد بالقصر الجنس فتحصل الموافقة لأنّ الجنس كالجمع في الدلالة على الكثرة ؛ أو أراد تشبيه الشّررة الواحدة بالقصر ، فإذا توالت شررا كثيرا فهي كالجمالات ، فعلى هذا حصل التّشبيه للواحد وللجمع والله أعلم.

وقوله تعالى : (لا ظَلِيلٍ) فهو كقولهم : داهية دهياء ، ونهار أنهر ، وليل أليل ، وليلة ليلاء يتبعون الشيء بصفة مبنية منه. والمراد المبالغة والتأكيد. وقال : (ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) [سورة المراسلات ، الآية : ٣٠] لأنها محيطة بأهلها من جميع الجوانب إلّا القفاء لأنها لا تقفى نفسها وعلى هذا كل ذي ظل إذا تأملته ويشهد للإحاطة قوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [سورة الزمر ، الآية : ١٦]. وقال تعالى : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٥٥] ، وقال بعض أصحاب المعاني : في (ثلاث شعب) المراد أنه غير ظليل ، وأنه لا يغني من اللهب وأنّها ترمي بالشّرر كالقصر ، وتحصيل هذا ذي ثلاث صفات.

ومنه قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [سورة الواقعة ، الآية : ٧٥] إلى (الْعالَمِينَ) قوله : (فَلا أُقْسِمُ) يجوز أن يكون قوله : (فَلا) نفيا لشيء قد تقدّم ، وتكون الفاء عاطفة عليه وابتداء اليمين من قوله : (أُقْسِمُ) ويجوز أن تكون لا دخلت مؤكّدة نافية كما جاء في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [سورة الحديد ، الآية : ٢٩] ، والمعنى لأن يعلم ، وقال بعضهم : لا دخلت لنفي الأقسام ، وقال لأنّ الإيمان يتكلّفها المتكلم تأكيدا للإخبار ، وإزالة لما يعترض فيها من التّجوز والتّسمح ؛ وإذا كان الأمر على هذا فقوله : (فَلا أُقْسِمُ) يجوز أن يراد به أنّ المحلوف له في الظّهور وخلوصه من الشّك أبين وأوضح من أن

٤١

يتكلّف إثباته بالإيمان. وعلى هذا يكون قوله : وإنّه لقسم يراد به أنّ الحلف بمواقع النّجوم عظيم ممّن أقسم بها ، وقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) بعث على الفكر في المحلوف فيه وبما يتضمّنه مما يعظم موقعه في الصّدور عند تأمّل الأحوال المبهجة للاستدلال ؛ وقيل : أراد بالنّجوم الأنواء وما يتعلق بها من حاجات النّفوس ومن المآرب والهموم على اختلاف المعتقدات فيها. وقيل : بل المراد بها فرق القرآن لأنّ الله تعالى أنزله نجوما لما عرفه من مصالح المكلّفين والمدعوّين إلى الدّين ، ويكون الشّاهد لهذا الوجه قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) [سورة الواقعة ، الآية : ٧٧] ، ويكون الطّريق فيمن جعلها الأنواء التّنبيه على وجوه النّعم في الأنداء والغيوث ، وما به قوام الخلق في متصرفاته. قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) جواب اليمين عند من أثبته يمينا و (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) [سورة الواقعة ، الآية : ٧٨] يجوز أن يريد به اللّوح المحفوظ لأنه أودع التّنزيل اللّوح ، ثم فرّق منه نجوما ويشهد لهذا قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) [سورة الزخرف ، الآية : ٤] وذكر الأم كما قيل في المجرّة أم النّجوم ، وكما قيل مكة أمّ القرى ، ومعنى كريم أنّه خلص من جميع الأدناس ، وطهّر من الشّوائب ، يشهد لهذا قوله تعالى في صفة المؤمنين : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [سورة الفرقان ، الآية : ٧٢]. وهذا كما يقال : في صفة الشيء العظيم الخطير هو مكرم علي أي يجلّ موقعه ، والمراد بقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [سورة الواقعة ، الآية : ٧٩] الملائكة إذا جعلت الكتاب اللّوح المحفوظ ، والمعنى لا يصل إليه ولا يقرّبه غيرهم وذلك على حسب ما يصرفون فيه عند تنزيله ، وإن جعلت الكتاب المكنون ما حكم الله به من قضاياه وتعبّد به عباده من أصناف العبادات ، وشاهد هذا قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [سورة الحجر ، الآية : ٩] وإنّ حفظ الشيء وصيانته وكنه واحد ، والشّاهد في أنّ الكتاب المكنون هو الحكم المفروض. قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٦٦] ، وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٣] ، فحينئذ يكون معنى لا يمسّه لا يطلبه كما قال :

مسسنا من الإباء شيئا وكلّنا

إلى حسب في قومه غير واضح

وقد حكي أنّ اللمس والالتماس والمس متفقات ، والحجة في أنّ اللمس مثل الالتماس قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) [سورة الجن ، الآية : ٨]. وقول الشاعر :

ألام على تبكّيه

وألمسه فلا أجده

فقوله : لا أجده يشهد بأنّ المراد بالمس الطّلب لا غير ، وقد أحكمت القول في هذا: في (شرح الحماسة) ، وقال بعض النّظار : قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [سورة الواقعة ، الآية : ٧٩] ، لفظه لفظ الخبر ، والمراد به النهي ، والمعنى لا يتناولن المصاحف إلّا

٤٢

المطهّرون ، فليس يجوز للجنب والحائض مسّ المصاحف ، تعظيما لها وإجلالا. قوله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة الواقعة ، الآية : ٨٠] تصديق للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع ما دعا إليه من الإيمان بالله تعالى أو في إبطاله دعاويهم وشهاداتهم في القرآن وسائر العبادات ، وارتفع (تَنْزِيلٌ) على أنّه صفة لقوله : (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ، أو على أنّه خبر مبتدأ محذوف.

ومنه قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٢] ، كما يقولون إلى (حَلِيماً غَفُوراً) ذكر الله تعالى فيما وعظ من قبل قوله : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ) [سورة الإسراء ، الآية : ٣٩] ثم أتبعه بقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) [سورة الإسراء ، الآية : ٤١] ، والإنذار بالتّبكيت الشّديد والوعيد الممض إلزاما للحجّة ، وإظهارا للعناد منهم ، وأنه هداهم فلم يهتدوا ، وذكّرهم فلم يعبئوا إعجابا برأيهم ، وذهابا عند التّدبّر ، والنّظر ليومهم وغدهم ودنياهم وآخرتهم ، ثم أخذ عزوجل يحاجهم على لسان نبيّهم فقال : قل لهؤلاء الذين ضلّوا عن الرّشاد ، وعموا عن الصّواب ، إنّ الله تعالى لو شركه في ملكه غيره كما تدّعون لفسدت الأحوال ، وتقطّعت الوصل والأسباب. ولعلا بعضهم على بعض وكان يطلب كلّ الاقتسار ، وتسليم الأمر له ، كما قال هو : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٢]. وكان لا ينفع الاستثناء فيما بينهم وترك الخلاف وإظهار الرّضاء ، لأنّ الاستبداد ، أو طلبه وإن لم يظهر فعلا من واحد منهم فلا مهرب من تجويزه عليهم ؛ وجوازه لن يحصل إلّا عن تقدير استضعاف ، ومن قدر فيه ضعف فإنه لا يكون إلها وهذا بيّن. قوله تعالى : (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٢] ، أي لطلبوا إلى أخصّهم بالملك ، وأولاهم بالأمر منازعته ومجاذبته ومساواته ومسامته ؛ قوله : (ذِي الْعَرْشِ) يجوز أن يريد به ذا السلطان والعزّ ، ويجوز أن يريد به ذا السّرير الذي حمله في السّماء والملائكة يطوفون حوله. كما أنّ البيت المعمور في السّماء الرابعة. وقال بعضهم : أي العرش ، وأنشد قول الشّماخ : (فأدمج دمج ذي شطن بعيد). قال : يريد أدمج شطن ، فزاد ذي ، فكذلك قوله : إلى ذي العرش ، يريد إلى العرش ، والمعنى لطلبوا إلى الاستيلاء على العرش ، والاستواء عليه طريقا ، قال ومثله لفظ حي أنشد أبو زيد :

يا قرّ إنّ أباك حيّ خويلد

قد كنت خائفه على الإحماق

يريد أنّ أباك خويلد ، فزاد قوله : حي ، وقوله تعالى : (عَمَّا يَقُولُونَ) الظّالمون بمعنى علا ، والمعنى جلّ ، وارتفع عما يقول المشركون أكده بقوله : (عُلُوًّا) ، ووصف العلو بالكبر مبالغة في التّبعيد. قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤]. يريد ما من شيء إلّا وبما فيه من أثر الصّنعة يدلّ على قدرة الله تعالى ويشهد

٤٣

بإلهيته ، ويدعو إلى عبادته وينفي عنه مشابهة لخلقه ، وجميع ما لا يليق بحكمته. ومعنى يسبّح بحمده أي ينزهه ، إما إعرابا باللّسان ، أو دلالة بواضح البرهان ، وفائدة قوله : (يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي فيما يظهر من حكمته في خلق ما خلق. والأنعام على من أنعم حمدا له إذا لم يكن إعداد الشّكر في مقابلة النّعم أكثر من إضافة النّعم إلى المنعم ، فإذا كان الحمد تولية النعمة ربّها وإشادة ذكره ونسبتها إليه ، فآثار النعم حامدة شاكرة لمسديها. ألا ترى إلى قول القائل : (ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب). فنسبة الثناء إلى الحقائب كنسبة التّسبيح بالحمد لله إلى الدّال عليه والمقيم له. وهذا حسن بالغ. قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة الإسراء ، الآية : ٢٢] أي تجحدونه ، أو تعرضون عنه فعل من لا يفهم وهذا كقوله تعالى يصفهم : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩] ، ثم قال : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩]. قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٤] ، يريد هو حليم حين لم يعاجلهم فيما ادّعوه بالعقوبة ولكن تركهم إمهالا ورفقا ، وهو غفور لمن أناب وإن ارتكب كلّ منكر قبيح رحمة منه لعباده وحسن تفضّل.

ومنه قوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) [سورة الحديد ، الآية : ٢] إلى (عَلِيمٌ) ، أثبت الله لنفسه أنه القادر الغالب ، فهو يملك وجميع ما تدركه الأبصار والأوهام من أصناف العالم جليلها ودقيقها ، خيرها وشرّها ، يتصرّف فيها كما شاء ؛ واختار تصرّف الملاك ، فهو ملك مالك يبدئ ، ويعيد ، ويحيي ويميت ، وقد أقرّت له الصعاب. وتذلّلت له الرّقاب. لا يمتنع عليه مراد وإن عزّ وشقّ. ولا يوجد عنه ذهاب فيما ثقل أو خفّ. إليه آماد الأعمار ، والأرزاق ، ومصارف البقاء والفناء فهو القادر الحكيم ، والعالم الغني ، لا يخفى عليه معلوم وإن دقّ ، ولا يعزب عن الظّهور له مطلوب وإن رقّ ، الأول في الوجود لقدمه لا عن ابتداء مدة ، والآخر بعد فناء كل شيء خلقه في الدّنيا لبقائه لا إلى غاية ، لم يزل ولا يزال على ما هو عليه من ديموميته ، وحكمته ، وصواب فعله وقدرته ، يحيي الأموات إذا شاء ، ويميت الأحياء إذا شاء ، ويفني المخلوقات إذا شاء ، ويعيدها إذا شاء. الظّاهر بما له من آياته التي لا تخفى ، وعبره التي لا تفنى ، والباطن لأنه لا تدركه الأبصار ولا تحصله الحواس ، وهذا وجه في الآية. وقيل : أراد بالظّاهر أنّه غالب على كل شيء ، بما دلّ به على نفسه ، من أصناف صنعه كما قال تعالى : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [سورة الصف ، الآية : ١٤] ، أي عالين غالبين ، ويقال : ظهرت على الجلي الواضح الذي هو كالجمر. وقيل في الباطن التي هي في خفائها كالسّر فهو بما تجلّى منها ظاهر ، وبما خفي منها باطن ، وهذه آية لها جوانب تقتضي الكلام عليها وأنا إن شاء الله أبلغ الغاية بمقدار فهمي.

٤٤

اعلم أنّ الله تعالى قال في موضع من كتابه : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٦ ، ٢٧] ما قال على الموت لأنّ الموت إنّما نعدم به الحياة ، والله تعالى قال : كلّ من عليها ، ولم يقل حياة من عليها ، وقال بعده : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ، والميت جيفة تبقى ، وإذا كان كذلك فلا فضيلة في البقاء مع الشركة فيه ، وإذا سقطت الفضيلة فلا تمدّح لرب العالمين ، وقال تعالى في موضع آخر : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٨٨]. وذكر في صفات نفسه هو الأول ، والآخر ، والظّاهر ، والباطن. وكلّ هذه الآي دالّة على أنّه تعالى يصير منفردا بالوجود ، كما كان منفردا به من قبل أن يخلق الخلق وأنه تعالى يفني كل ما خلقه إفناء لا يبقى له أثر ولا رسم حتى يصير بالفناء في حكم ما لم يخلق ولم يوجد ، وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [سورة الروم ، الآية : ٢٧] وفي آخر : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [سورة الأعراف ، الآية : ٢٩]، والمعاد هو وجود على صفة لا زيادة عليها ، وهو أن يتقدّم الوجود للشيء فيبطل ، ثم يعاد إلى الذي كان عليه من الوجود ، وإذا كان السمع قد أثبت معادا ، وحقيقة المعاد ما ذكرناه من أنّ ما سميّناه في الأول إحداثا ومحدثا سمّيناه ، وقد بطل واستجد الجادة في الثاني معادا ، ومستجدا فقد وضح معنى قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) والآي التي معها.

فإن قيل الذي يعرفه أهل اللغة من معنى الفناء هو نفاد المركب قليلا قليلا كنفاد الزّاد والاضمحلال والهزال هو تحلّل الأجزاء ؛ والاستحالة هو تغيّر مزاج الشيء. قلت : الفناء بطلان الشيء دفعة واحدة ، وهو ضد الإنشاء والاختراع فإذا تجاوزت هذا الموضع فاستعماله على ضرب من التّشبيه به فقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٦] ، يريد أنّ جميع ما خلقه قبل الوقت الموعود للثّواب والعقاب يبطله بمعنى يخزعه ، إذا حصل فنى به الأجسام ، والأعراض كلّها. فناء الضّد بالضّد ، وليس ذلك المعنى بمقدور للعباد. والبقاء لا يجوز عليه ، فإذا أفناهم بعزته الغالبة بذلك المعنى أعادهم بقدرته الواسعة كما كانوا قبل الفناء ، ولا يصح ما أجمع عليه المسلمون من أمر المعاد والفناء إلّا على ما ذكرناه ، وهو اللغة والشّرع ، والنّاظر فيما ذكرناه بيّن له معرفة الفناء مثل ما بين له من معرفة المعاد. وحكمة وضع اللّغة لأنّ الذي ينقطع وجوده بالموت كالحي منّا ظاهر التميز عما لا ينقطع وجوده بالفناء ، وما أشبهه من الأعراض. وإذا كان كذلك فإنّا نثبته بالسّمع كما ثبت جواز كونه وخلق الله له بالعقل ولكلّ معرفة حقيقة إلى الله تعالى ، كما قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٥]. ويكون من جملة ما استأثر بعلمه ، وإذا أعادهم حشرهم النّظر في أعمالهم في مواقف مختلفة ، كما قال تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [سورة الغاشية ، الآية : ٢٥ ، ٢٦]. وكما قال تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٤٧] ، وكما قال تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ

٤٥

مِيقاتاً) [سورة النبأ ، الآية : ١٧] إلى (سَراباً) فإن سأل سائل عن معنى قوله : (فَكانَتْ أَبْواباً) [سورة النبأ ، الآية : ١٩]. وعن وجه التشبيه بالسّراب قلت : معنى قوله : أبوابا يريد كانت ذات أبواب مفتّحة ، وليس المعنى صارت كلّها أبوابا ، كما أنّ قوله: كانت فراخا بيوضها صارت كلّها فراخا ، لأنها إذا صارت كلّها أبوابا عادت فضاء ، وخرجت من أن تكون أبوابا.

وأما التّشبيه بالسّراب ، فالمراد به بيان إلماعها ، وتخلخلها في نفسها ، والسّراب هو الذي يتخيّل للنّاظر نصف النّهار كأنه ماء يطرد ، ويقال : سرب الماء يسرب ، إذا سال ، والمراد ما يتداخل النّفس من تغير المعهود ، وقد أخرج الله تعالى صفة القيامة في معارض مختلفة لاختلاف أحوال المسوفين ، وكرر ذكرها ، وحذّر منها ، ونبّه من أمرها على كثير مما يكون فيها ليبين فظاعتها فقال تعالى : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) [سورة المرسلات ، الآية : ٨] إلى (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) ، وقال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) [سورة الحجر ، الآية : ٤٨] الآية ، فتبديل الأرضين والسّماوات وإطفاء الضّوء وتفريج السّماء وتحليل عقدها حتى تصير أبوابا وطمس نجومها ؛ وانتشار كواكبها ، ونسف جبالها كلّ ذلك ، أو أكثرها مما تؤكد حال الفناء ، وإزالة معاقد الأرض والسّماء. وقد درج تعالى في هذه الصفات لأنه تعالى ردّدها متفننة في أوقاتها بين أوائلها ، ووسائطها ، وأواخرها فمن ذلك قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) [سورة النازعات ، الآية : ٦] إلى (بِالسَّاهِرَةِ). وقال تعالى : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) أي الوعد به صدق ، أو يراد به أنه يوم حق لا باطل معه إذا قام الأوّلون والآخرون ، ويجتمع متفرّق الأسباب ، ومتمزّق الأجلاد ، ويعود غائب الأرواح ، ويحشر الأفواج. وقد قال تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) [سورة النازعات ، الآية: ٣٤] والطّامة هي العالية على ما قبلها.

وقال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [سورة الانفطار ، الآية : ١] إلى (وَأَخَّرَتْ) ، وقال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [سورة الانشقاق ، الآية : ١] إلى (وَتَخَلَّتْ) و (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [سورة التكوير ، الآية : ١] و (إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) ، و (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [سورة الزلزلة ، الآية : ١] ، وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٧] إلى آخر السورة. وهذا السؤال ، والجواب مثل سؤالهم عن الرّوح فقوله : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) [سورة النازعات ، الآية : ٤٤] مثل قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وقال تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [سورة البروج ، الآية : ١٢] والإبداء إبداعه الخلق كلّه لا من شيء والإعادة ما وعد به من الإحياء بعد الإماتة ، والبعث ، والحشر ، وإعداد الثّواب والعقاب.

وحكي عن الأصمعي أنه قال : إذا قال الرجل : أول امرأة أتزوّجها فهي طالق لم يعلم هذا من قوله حتى يحدث بعدها أخرى ، فإن ماتت لم تكن أول لكنه لا تشركها أخرى.

٤٦

قال أبو العباس المبرّد : وهذا خطأ لأنّ قوله : أول هو موقع لما بعده وذلك أن تأتي بعده بما شئت ، ولا يكون آخر إلّا لشيء قبله غيره ، وإنّما هو مأخوذ من آخره. وقيل : لما كان لا أول له. قال المبرد : ولا يجوز هذا إلّا في صفة القديم تعالى ، فهو الأوّل والآخر والظّاهر والباطن. وقال الفقهاء : إذا قال الرجل : أوّل عبد أملكه فهو حر ، فملك عبدين جميعا معا لم يعتق واحد منهما ، وإن ملك بعد ذلك عبدا آخر لم يعتق أيضا لأنه ليس بأول ، ولو قال : أوّل عبد أملكه فهو حر ، فملك عبدا ونصف عبد عتق العبد ولم يعتق النّصف لأنّ هذا أول عبد ملكه ، والنّصف لا يسمّى عبدا واحدا ، ولو قال آخر : امرأة أتزوّجها من النّساء فهي طالق ، فتزوّج امرأة ، ثم تزوّج أخرى ، ثم طلّق الأولى ، ثم تزوّجها ، ثم مات فإنّ الطّلاق يقع على الثانية التي تزوّجها وما يقع على التي تزوّجها أول مرة وليست بآخر ، والتزوج بها ثانيا لا يخرجها من كونها أول امرأة.

ألا ترى أنه لو نظر إلى امرأتين ، فقال : آخر امرأة أتزوّجها منكما فهي طالق ، فتزوّج إحداهما ، ثم تزوّج الأخرى طلقت الثانية حين يتزوجها لأنها آخر امرأة تزوّجها منهما ولو تزوّج الأولى بعد الثانية لم تطلق ، وكان المبرد إنما قال : لا يجوز هذا إلّا في صفة القديم لمكان الآخر لأنه لم يزل ولا يزال ، أولا وآخرا ، والواحد منّا ليس كذلك فاعلمه.

ومنه قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [سورة طه ، الآية : ١٤] وفي موضع آخر (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٨] إلى (مَقاماً مَحْمُوداً) ، وقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) يريد أدمها واثبت عليها فلان لا يقوم لكذا ، وهذا يقوم علي بكذا ، فله تصرّف في الأمر واسع. قوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) يحتمل وجهين : أحدهما أقم الصّلاة لتذكرني بها أي الصّلاة ذكرى لقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥] وقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) أي إذا ذكرتني ، فأقم الصّلاة كأنه يرجع النّسيان كالذّكر في الوجه الأول تسبيح الله وتمجيده بصفاته الكريمة ، وفي الوجه الثاني الرّجوع إليه بعد ذهول يسبق ونسيان يلحق ، واللّام من قوله : لذكري أي عند ذكري ، وكذلك قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي عنده ولام الإضافة يدخل في الكلام لوجوه.

أـ التمليك : كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [سورة النجم ، الآية : ٣١] وكقوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [سورة الجن ، الآية : ١٨].

ب ـ أن يكون الشيء سببا لغيره ، وعلّة له مثل قوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [سورة الإنسان ، الآية : ٩].

ج ـ أن يكون دخوله لمعنى الإرادة كقولك : قمت لأضرب زيدا أي قمت إرادة

٤٧

لضربه ، ولكي أضربه أي قمت من أجل هذه الإرادة ، وقد يحذف اللام من هذا وأشباهه.

د ـ أن يكون بمعنى في كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) [سورة الحشر ، الآية : ٢] أي في أول الحشر.

ه ـ أن يكون لمرور الوقت على الشيء كقول النابغة شعرا :

توهّمت آيات لها فعرفتها

لستّة أعوام ، وذا العام سابع

أي عرفتها وقد أتت عليها ستة أعوام ، أو توهّمتها لذلك ، ويقال أتى للصّبي سنتان عليه وكم سنة أتت لك؟

وـ أن يكون لمعنى بعد كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صوموا لرؤيته» ، وقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [سورة الطلاق ، الآية : ١] والعدة هاهنا ظرف للطّلاق وبمنزلة وقت له لا علة ولا سبب ، كما لم يكن الحشر علة لإخراج الذين كفروا إنما كان علة إخراجهم كفرهم ، والدليل على ما قلنا أنه قال : لأول الحشر جعل له أولا.

ز ـ أنه يدخل لما ذكرناه أولا ، وهو قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) و (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي لاصفرارها عند غروبها دلكت فهي دالك وقال ابن عباس : لدلوك الشّمس لزوالها الظهر ، والعصر وأنشد :

شادخة (١) الغرّة غراء الضّحك

تبلج الزّهراء في جنح الدّلك

فجعل الدّلك غيبوبة الشّمس ، وقال أبو حاتم : روي عن أبي عمرو أنّ دلوكها زوالها فعلى هذا يجوز أن يكون المفروض بالآية أربع صلوات الظّهر ـ والعصر ، والمغرب ، والعشاء ـ باللّيل. ويجوز أن يكون إلى غسق في موضع مع ، فيدل على فرض صلاتين من اللّيل والنّهار ، وثالثة يدل عليها : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٨].

ثم سائر الصّلوات يدلّ عليها بغير هذه من الآيات وقوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٨] يريد ، وأقم قرآن الفجر ، والمعنى أقم الصلاة بالقراءة ، وهذا يدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة ، فالضمير في به يرجع إلى القرآن ، ومعنى (كانَ مَشْهُوداً) أي حقّه أن يشهد أي يخرج له إلى المساجد ، ويقام مع الجماعة فيشاهد وقيل أراد تشهده الملائكة ، وقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [سورة الإسراء ، الآية : ١٧] معنى تهجد اسهر يريد استيقظ ، ومعنى به أي بالقرآن ويقال هجّد أيضا بمعنى نام.

__________________

(١) انتشرت الفرّظ من النّاصية إلى الأنف.

٤٨

قال :

هجدنا ، فقد طال السّرى

وقدرنا أنّ خنا الدّهر غفل

يريد يومنا ومثل هجد ، وتهجّد قولهم حنث وتحنّث لأنّ معنى حنث لم يبر في اليمين ، ومعنى تحنث ألقى الحنث عن نفسه.

وهذا الأمر اختص به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفضيلا له على جميع الخلق. ومعنى نافلة لك عطاء لك وتكرمة لذلك أتبعه بقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٩] أي افعل ذلك رجاء أن تثاب هذا الثواب العظيم.

وقيل في المقام المحمود إنّ المراد به الشفاعة للمذنبين ، والذي عليه الناس أنّ الدّلوك مغيب الشّمس ، ويذهب العرب لذلك إلى أنّ قول القائل :

هذا مقام قدمي رباح

غدوة حتى دلكت براح

يدل على صحة قولهم وأصله أنّ السّاقي يكتري على أن يسقي إلى غيبوبة الشّمس ، وهو في آخر النّهار يتبصّر هل غابت الشّمس. قوله : براح أي يضع كفه فوق عينه ويتبصر ، قال : ويسلم للحديث ما جاء أنّ ابن عباس قال : إنّ غسق اللّيل ظلمته الأولى للعشاء والمغرب ، فإذا زادت قليلا ، فهي السّدفة ، وقوله : (نافلة لك) ليست لأحد نافلة إلّا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه ليس من أحد إلا يخاف ذنوبه غيره فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فعمله نافلة.

ومنه قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤] إلى (الْمُحْسِنِينَ) ، وقوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة المزمل ، الآية : ٢] الآية طرفا النهار النهار الفجر والعصر وكما ثنى الطرف هنا جمع في قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٩] إلى (وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) [سورة طه ، الآية : ١٣٠] لذلك اختلف النّاس فبعضهم جعله من أوقات الصلوات المفروضة ، والقائل بهذا يكون عنده الفجر من النّهار محتجا بأنه ابتداء الصوم لقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٧] والذين يخالفونه يجعلونه من اللّيل ، ويدعون أنّ ابتداء النّهار طلوع الشمس وانتهاءه غروبها ، وإذا زالت الشّمس انتصف النّهار فأما قوله تعالى : (وَأَطْرافَ النَّهارِ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٩] فيجوز أن يجعل النهار للجنس حتى يصير له أطرافا ، ويجوز أن يجعل الجميع مستعارا للتثنية لأنّ أرباب اللغة قد توسعوا في ذلك ألا ترى قوله : يا ناحة ودخيلا ، ثم قال : طرفا فتلك لهما تنمى ، وكقوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [سورة التحريم ، الآية : ٤] وليس

٤٩

بمستنكر أن تسمى الساعات أطرافا ، كما قيل أصيلالة وعشيّات في آخر الأصيل ، والعشية.

قال أبو العباس ثعلب أطراف النّهار قيل يعني صلاة الفجر ، والظهر ، والعصر ، وهو وجه أن جعل الظهر ، والعصر من طرف النّهار الآخر ، ثم يضم الفجر إليهما فيكون أطرافا ، وقال أبو العباس المبرد : معناه أطراف ساعات النّهار أي من اللّيل سبّحه وأطعه في أطراف ساعات النّهار (الآناء) الساعات واحدها أنى ، ويكون من آنيت ـ أي أخّرت ومن قول الشّاعر :

وأنيت العشاء إلى سهيل

أو الشّعرى فطال بي الإناء

وقال العجّاج : طال الإناء ، وانتظر النّاس الغير من أمرهم على يديك ، والتور طال الإناء وزايل الحق الأشر. وفي القرآن : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) فأما قوله تعالى : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤] ، فالزّلف السّاعات ومن أبيات الكتاب :

طيّ اللّيالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتّى احقوقفا

والزّلفة واحدة الزّلف ، ويقال لفلان عندي زلفة ، وزلفى ، وهي القربة ، وفي القرآن : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٩٠] أي قرّبت ، وسميت المزدلفة لاقتراب النّاس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات ، وانتصب سماوة على المفعول من طي اللّيالي ، والمعنى أنّ اللّيالي طوت شخص الهلال ، ونقصته شيئا شيئا حتى ضمر ودقّ.

قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤] يجوز أن يريد أنّ الحسنات من أفعال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمؤمنين يبطلن سيئات الكفّار والمجرمين ، وهذا بشارة من الله للمؤمنين بأنه سيعلي كعبهم ، وينفذ كلمتهم كما قال : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [سورة الأنبياء ، الآية : ١٨] ويجوز أن يكون مثل قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٣٠] ويكون هذا مثل قوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٣] ، وقوله تعالى : (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) [سورة هود ، الآية : ١١٤] أي أخبرناك بما أخبرنا من ضمان النّصرة ، وقمع الباطل ، وإعلاء كلمة الحق لكي تتذكر به فيزداد حرصا على الإدخار والإصلاح ولأنك إذا أقررت به والتزمته فتذكرته تيسّر لك المطلوب وقد قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [سورة ق ، الآية : ٣٧] يريد أنّ المأمور بهذا ، أو الموعوظ إذا قبله حصل لك بذلك ذكر في الذّاكرين ، وهذا ترغيب لأنّ ما يبقى به الذّكر ليس كما يلغى وينسى. قال :

فقال له هل تذكرنّ مخبرا

يدل على غنم ويقصر معملا

٥٠

أي هل تعتد بهذا الخبر فتذكره به ، فأما قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) [سورة المزمل ، الآية : ٢] أي من النّصف ، أو زد عليه ، فانتصاب اللّيل إلّا قليلا أي قبله بقليل أو بعده بقليل لأنّ بيان أو انقص منه ، أو زد عليه ذلك ، والمعنى قم نصف اللّيل ، أو انقص من نصفه حتى يرجع إلى الثلث ، أو زد على نصفه حتى يبلغ الثلثين ، وفي هذه الأشياء منها أنّه جعل نصف اللّيل قليلا منه سواء جعلته بيانا للقليل المستثنى ، أو جعلته بيانا للباقي الواجب لأنّ الكلام يقوم على الوجهين جميعا ومنها أنّ قوله : أو انقص منه قليلا بمعنى إلّا قليلا في التّحصيل ولكنّه ذكر مع الزّيادة ، وكان كالمكرّر ، وكثير من أهل النّظر يذهبون إلى أنّ القلة تقع على ما دون الثلث لقوله عليه‌السلام لسعد في الوصيّة : «والثلث كثير» ومنها أنّ هذا التّنويع يدل على أنّه تعالى لم يفرضها عليه لكنّه على سبيل التّرغيب لأنّ الفرائض التي يفرضها الله على عباده ليس يجعل الأمر فيها إليهم فينقصوا ما شاءوا ، ويزيدوا فيها ما شاءوا ، وقد قيل : إنّ الله تعالى كان فرض على رسوله وعلى المؤمنين قيام اللّيل ، ثم نسخه إذ كان شقّ عليهم فقال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [سورة المزمل ، الآية : ٢٠] أي يعلم مواقيتها ويعلم أنكم لن تحصوه أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذاك والقيام فيه ، فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسّر من القرآن ، قالوا : وهذا في صدر الإسلام ، ثم نسخ بالمكتوبات الخمس.

وقوله تعالى : (أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) يجوز أن يكون من دنا الشّيء إذا سفل ، فنزل كما قال : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أي نزل ، ومنه قوله تعالى : (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٥٩] أي يرسلن ، وقال بعضهم : معنى أدنى أدون ، لكنّه قلب فقدّم اللّام وقوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [سورة المزمل ، الآية : ٥] يجوز أن يكون المعنى قولا يثقل العمل به ، ويجوز أن يريد به قولا له وزن ، وخطر بين الكلام إذا ميّز أي ليس بالسّفّساف الدّون ، ومعنى يلقي ينزل فيتلقنه. ومنه قولهم : ألقيت على فلان مسألة كذا ، فأعييته. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) [سورة السجدة ، الآية : ٢٣] فبعضهم يجعله من هذا أي لا تلك في شك من نزول هذا الكتاب قبلك ، وكان شيخنا أبو علي ينكر أن يكون القيت من لقيت ، ويقول : إن لقي يتعدّى إلى مفعول واحد يقول : لقيت زيدا فلو كان ألقيت من لقيت لوجب أن يتعدّى إلى مفعولين. كما أنه إذا دخل على ما لا يتعدى إلى المفعول عداه إلى واحد يقول : خرج زيد وأخرجته وذهب زيد ، وأذهبته.

وتقول في المتعدي : قرأ كذا وأقرأته أنا كذا ، وسمع زيد شرا ، وأسمعته أنا خيرا. وإذا كان كذلك ، ووجدنا لقى يتعدّى إلى مفعول واحد ، وألقيت مثله يتعدّى إلى مفعول واحد

٥١

وعلمنا أنهما من أصلين فاعلمه. قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) [سورة المزمل ، الآية : ٦] يريد السّاعة منشأ الحدوث ويقال فلان ناشئ ونشأت السّحابة من قبل البحر ، ويجوز أن يكون ناشئة يراد بها الحدث لا الفاعل فيكون كاللاغية في قوله تعالى : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) [سورة الغاشية ، الآية : ١١] أي لغوا وكالكاذبة في قوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) [سورة الواقعة ، الآية : ٢] أي كذب ومثل ذلك قم قائما أي قم قياما. قوله تعالى : (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [سورة المزمل ، الآية : ٦] أي أبلغ في القيام وأبين في القراءة لما في اللّيل من السكون والقرار ، ويجوز أن يريد أنها أشد على الإنسان وأشقّ لأنّ اللّيل للتودّع والرّاحة. وقرئ وطاء بالواو والمد والمعنى أشدّ مواطاة للقلب إذا نقله السّمع.

ومنه قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) [سورة الانشقاق ، الآية : ١٦] إلى (لا يَسْجُدُونَ) أول السورة (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) والانشقاق والانفطار ، والانفتاح يتقارب في المعنى وذلك من أهوال القيامة ، وما يتغيّر فيها من الأمور ، ويتبدّل. وقيل : المراد انشقّت بالغمام كقوله تعالى في موضع آخر : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٥]. وجواب إذا محذوف لما يدل عليه ما عرف من أهوال القيامة وشدائدها وتخمر في النفوس وتقرّر. والمراد إذا انشقت السّماء كان من أشراط القيامة فيكم ما عرفتموه ، وتكرر عليكم وصفه ، وقيل جوابه في قوله تعالى : (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [سورة الانشقاق ، الآية : ٦] وقيل جواب إذا مضمر مقدم ، والمراد اذكر إذا حدثت هذه الحوادث. وقيل جوابه أذنت ، والواو زائدة. والنّحويون على اختلافهم يردّون هذا وكأنّ قائله شبهه بقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [سورة الزمر ، الآية : ٧١] لأنّ المعنى عنده فتحت والأجود عندي أن يكون جواب إذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) [سورة الانشقاق ، الآية : ٦] أي في ذلك الوقت يكون ذلك حالك ، ومعنى أذنت لربّها أطاعت ، واستمعت ، وأجابت ، وحقّت أي وجب ذلك عليها ، وكانت محقوقة بالانشقاق.

وقوله تعالى : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) [سورة الانشقاق ، الآية : ٣] كأنّه بسط مجموعها وأخرج مضمونها وموعدها حتى تخلّت. قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) [سورة الانشقاق ، الآية : ٦] عموم دخلت الكافة تحته ، وقوله تعالى : (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [سورة الانشقاق ، الآية : ٦] يشير إلى ما قاساه مدة حياته واكتسبه في متصرّفاته ونيل فيه من سعادة وشقوة وحياة وإماتة ، وما تزوّده من دنياه وأعدّه لأخراه ، أي تسعى سعيا قد أتعبك وتلاقي له كل ما قدّمته من عملك وتصير من حميته إلى ما تستحقّه بفعلك. قال :

وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وقوله : (فَمُلاقِيهِ) من قولك : لاقيت من كذا جهدا وأذى ، وقاسيت من كذا

٥٢

مكروها. والضّمير في ملاقيه إن شئت جعلته للكدح والأجود أن تجعله للرّب ، والمعنى تلاقي جزاءك منه فيكون على حذف المضاف. والشفق الحمرة تبقى من الشّمس في المغرب إلى وقت العشاء. وقال بعضهم : هو البياض الذي إذا ذهب صلّيت العشاء الآخرة لأنّ الحمرة تذهب عند الظّلام.

قال الفرّاء : سمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب مصبوغ كأنه الشّفق وكأن أحمر. قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) [سورة الانشقاق ، الآية : ١٧] أي جمع وأدرك من مقتضياته ، وهوله ويجوز أن يكون وسق بمعنى ، طرد يريد وما جاء به واحتمله ، والوسيقة الطّريدة. وقوله تعالى : (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) [سورة الانشقاق ، الآية : ١٨] يريد استتبّ ، واستوسق ل ثلاث عشرة وأربع عشرة ، ويجوز أن يريد باتّساقه استمراره في سيره وتناهيه في ازدياد ضيائه : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [سورة الانشقاق ، الآية : ١٩] كما قيل سادوك كابرا ، عن كابر ، والمعنى كبيرا عن كبير أي يتردّدون بعد أحوال مختلفة ، ويخرجون من بعضها إلى بعض من نشر وحشر وفناء وإعادة ؛ و (الطّبق) الشّدة قال : (قد طرقت ببكرها أم طبق).

وقال :

فلو رآني أبو حسّان وانحسرت

عنيّ الأمور إلى أمر له طبق

يقال : رغب ، ورهب أنت بينهما حب الحياة ، وهول الموت والشّفق وفائدة القسم تأكيد الوعيد على المخاطبين بهذا الكلام ، وهو قوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [سورة الانشقاق ، الآية : ١٩] وقرئ لتركبنّ جعل الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد لتركبنّ طبقا من طباق السّماء.

وقوله تعالى : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الانشقاق ، الآية : ٢٠] لفظة استفهام معناه الإنكار ، والتبكيت يقول : ما الذي منعهم من الإيمان ، وقد وضحت الدلائل والسّبل ، وتكرّرت الآيات والنّذر ، وضاقت المعذرة وحقّت الكلمة. قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) [سورة الانشقاق ، الآية : ٢١] اكبارا وإعظاما وإيمانا ، وإيقانا وهو من المعجزات الباهرة والإلزامات المسكتة. وهل ذهابهم عن تدبّره واشتغالهم إلّا عناد فبشّرهم بعذاب أليم. أصل البشارة من البشرة استبشر بشيء انبسط جلده ، ونضر وجهه ، وهذا وأمثاله إذا استعملت في غيره كقوله : تحية بينهم ضرب وجيع. أي يقيمون بدل التّحية عند اللّقاء ذلك ، فأما قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [سورة القمر ، الآية : ١] فإنما معناه سينشق القمر ، ومن أثبت ذلك دليلا لا ختص به عبد الله بن مسعود ، وإنّ سائر النّاس لم يروه لأنّ الله حال بينهم وبين رؤيته بغمامة ، أو غير ذلك. ويجوز أن يكون غير عبد الله بن مسعود قد رأى ذلك ، فاقتصر في نقله على رؤية عبد الله ، وعلى ما نطق به القرآن من ذكر ،

٥٣

وكان الجاحظ ينفيه ويقول : لم يتواتر الخبر به ويقول أيضا : لو انشق حتى صار بعضه في جبل أبي قبيس لوجب أن يختلف التقويمات بالزيجات لأنه قد علم سيره في كلّ يوم وليلة فلو انشقّ لكان وقت انشقاقه لا يسير.

ومنه قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [سورة الملك ، الآية : ٣] إلى (وَهُوَ حَسِيرٌ) أوّل السورة (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [سورة الملك ، الآية : ١] وليس تفاعل هذا كتفاعل الذي يفيد التكلّف للشيء عن غير موجب له نحو تخازر ، وتعارج ، وتساموا ، وتجاهلوا لكنّه بمعنى فعل وأصل البركة البقاء والزّيادة ، وكذلك لفظة تعالى في صفة الله ، فهي بمعنى علا ومثله لعلا وتكبّر بمعنى كبر وعلا ، وهذا كما يقال : علا قرنه ، واستعلاه وقال زهير : وكان أمرين كلّ أمرهما يعلو. ومثله قرّ واستقر ، وهزأ ، واستهزأ ، ويشهد لما قلنا قول امرئ القيس : تجبر بعد الأكل فهو نميص. وإنّما يصف نبتا قد رعي ثم عاد منه شيء فتجبر بمعنى جبر من قوله : قد جبر الدّين الإله فجبر.

وقد كشف عن المراد بقوله : فهو نميص أي لقصوه كأنّه ينمص بالنّماص ، وهو المنقاش ، ومتى جعلت تجبر صار كالجبارة ، وهي النّخلة التي فاتت اليد طولا وأوقع آخر الكلام أوّله لأنّ المنموص لا يتجبّر ولا يطول. وعلى هذا قوله تعلّى الندى في متنه وتحدّرا يريد علا وحدر ، وأنشد أبو عبيدة : تخاطأت النّبل أحشاءه معناه أخطأت ، فهذا شاهد تبارك وتعالى ، ومثل هذا أجاب ، واستجاب وقوله تعالى : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [سورة الملك ، الآية : ١] أي يملك الملك الذي يمكّن عباده منه ، ويصرفهم فيه ، فالبقاء له والقدرة والتمكّن ، والقمر بأمره وحكمه ، وإضافة الفعل إلى اليد ضرب من التّوسع يقال : وفي يدي وملكي وفي قبضي ، وهو قبضي. قال تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٧] أي يحكم فيها حكما لا قصور فيه عن المراد ، ولا تجاوز إلى أكثر من المرتاد ، ففعله وفق إرادته ووفق قصده وإرادته ، فخلق الحياة لمن يريد استبقاءه ليعبده ، والموت إلى غير ما هو عليه إخبارا منه لطاعة المطيع منهم ، فيشيبه ومعصية العاصي منهم فيعاقبه ، وهو العزيز فلا يفوته الهارب ، القدير فلا يعجزه المغالب. قوله تعالى : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي بعضها فوق بعض وعلى حدة ، فيطابقه ، ويشابهه ، ولا يخالفه فيباينه وقال الشاعر شعرا :

إذا نزل الظلّ القصير بنحره

فكان طباق الخف أو قل زائدا

ويقال : طابق فلان فلانا على كذا إذا وافقه عليه. ويقال : النّاس طبقات أي بعضهم فوق بعض. ومنه قولهم : طابق البعير إذا وضع خفيّ رجليه في موضع خفّي يديه. وقد قال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [سورة فصلت ، الآية : ١٢] فقوله الدّنيا يدل على أن

٥٤

بين السّماوات تقاربا ، وتباعدا ، وأن التي هي فوق هذه ليست بالدّنيا منه ، قوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [سورة الملك ، الآية : ٣] وقرئ من تفوت أي بنى ما خلقه على حكمه فلا يفوت بعضه بعضا ولكنه يتعادل ، وفي هذا المعنى قالوا : وجه مقسم إذا كان الحسن مقسوما فيه فأعطى كل جزء نصيبه منه حتى لا استبداد فيه ، وقالوا : ما أحسن قسمة وجهه وهذا بخلاف ما ذكرناه في تفسير المتفاوت لأنّ المتفاوت ما يزيد على الاعتدال ، أو يخرج عن القدر الملائم بالانتقاص ، وذلك ضد التقدير وقوله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [سورة الملك ، الآية : ٣] المراد به أيّها الإنسان قد أعطيت من الآلات ، ورتّب في عقلك وتحصيلك من البيّنات ما تدرك به حينا ، أو تقديرا تراكيب الأشياء وسلامتها مما يشينها إذ دخولها فيما يجتذب وجوه الفساد إليها ، فتأمّل ما صنعه الله واخترعه في هذا الخلق العظيم واقتف آثاره فيها ، وردّد طرفك وعقلك في ظواهرها وبواطنها ومفرداتها ؛ ومركباتها وتأمّل بعد تقصّي وسمك واستفراغ جهدك ، ورد المجمل على المفصّل والمشاع على المقسوم ، هل تجد فيه خللا ، أو هل تتبيّن فيه عيبا؟ وقوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) [ورة الملك ، الآية : ٤] بعث على الكشف والبحث وتأكيد في المبالغة فيهما وإنّما قال هذا لما يعتقده العرب من أنّ النظرة الأولى حمقاء فينبغي أن لا يكتفى بها في المزاولات ، والتتبّع في المستكشفات حتى أنّ بعضهم قال في صفة امرأة شعرا :

لها النظرة الأولى عليهم وبسطة

وإن كرّت الأبصار كان لها العقب

يقول لهذه المرأة ، على من يستقري محاسنها النّظرة الأولى ، فإن لم يقنعهم ذلك ، فأخذوا يستنبطون في المعاودة ، ويحيلون الطّرف في العين والأثر كان لها البسطة أيضا ، فإن أبوا إلّا أن يكرروا الأبصار ، وردّدوا النّظر حالا بعد حال كان لها العقب ، وهو ما يسلم على التّعاقب من أواخر البحث فقوله تعالى : (كَرَّتَيْنِ) تأكيد على ما ذكرناه ، وحكي لي عن بعض أهل النظر أنه قال : إنّ الله تعالى أمر بكر البصر ثلاث مرات لأنه قال : ارجع البصر ، ثم (ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) ، وهذا الذي ذكره وعوّل عليه من ذكر الكرّتين لا يحصل له المراد ، بل يفسد عليه ما اعتمده لأنّه قال تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [سورة الملك ، الآية : ٣] وهذا لا يقتضي إلّا مرة واحدة ، وقال من بعد : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [سورة الملك ، الآية : ٤] ، ولو اقتصر الكلام على فارجع البصر ، ولم يأت بذكر المرّتين لكان للسامع أن يتجاوز إلى ما فوقها من الكرّات لأنّ ثم لا يقتضي الحصر ، ولا يوجب الوقوف.

فلما قال : كرّتين علم أنه أكّد به ما ذكر من الرّجعتين على أنّ قوله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) ليس قبله فعل مذكور فيكون الرّجوع عن ذلك الفعل لأنه قال تعالى : (ما تَرى فِي

٥٥

خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ) [سورة الملك ، الآية : ٣] فكان المراد انظر ، فارجع ، ثم ارجع أي لا ترض بالنظرة الأولى ولكن راجع بعدها ، ثم راجع ، وإذا كان التكرار هو الرّجوع إلى الأول ، والأول هنا النّظر المضمر فقوله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) كرّر أوّل إلى النظر المستدل عليه ، وقوله : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) ، وإذا كان الأمر على هذا لم تحصل ثلاث كرّات فلذا اتّبع الكلام بقوله كرّتين وهذا جيد بالغ ، وقوله تعالى : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي من شقوق وصدوع.

وقوله تعالى : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) [سورة الملك ، الآية : ٤] المعنى إنك إن أدمت النّظر ، واتبعت البصر تطلب العيب في حكمة الله والفطور في صنعه رجعت من مطلوبك خاسر الصفقة ، صاغر الرجعة ، خائب الطلبة بعيدا من البغية ، والخاسئ من قولك خسأت الكلب إذا طردته وبعدته خسأ ولا تقل انخسأ ، والحسير الكال المعى. ويقال : إبل حسرى لأنّ حسيرا فعيل بمعنى مفعول ، فهو كجريح ، وجرحى.

ومنه قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) [سورة الرحمن ، الآية : ٣٧] الآية ، وقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٥] خضراء ملساء متّصلة الجوانب والأكناف مرتبة الوسائط ، والأطراف محفوظة من مسترقة السّمع بما أعدّ لها من الارصاد.

وتلخيص هذا يبين إذا ضمّ إلى قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) وإلى قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٠] لأنّ المعنى يأتيهم أمر الله ، والسّماء كالوردة ، وقد انفطرت بالغمام أي تنشق بها ، والملائكة تنزل منها في الغمام فكأنها تنشق ، وهم في تكاثفهم ، وتراكمهم بما معهم كظل من الغمام وهذا كما يقال : رعف الباب بفلان ـ أي جاه من قبله ، وسال الوادي ببني فلان إذا خرجوا منه ، وكقول الشاعر :

وسالت بأعناق المطيّ الأباطح

وكما قال :

ألا صرمت حبائلنا الجنوب

ففرّقنا ومال بنا قضيب

قضيب : واد باليمامة ، والمعنى أنجدنا لما افترقنا ، وانهمت هذه المرأة ويقال : نزل بقارعة الوادي ـ أي أعلاه ، وقوله : مال بها ، كقوله : سالت الأباطح بأعناق المطي قوله تعالى : (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [سورة الرحمن ، الآية : ٣٧] يريد تحوّلها عما كانت ، والورد الأحمر وليس بمشبع قال :

٥٦

فهو ورد اللّون في ازبئرار

وكميت اللّون ما لم يزبئر

وقال الفراشية : تلوّن السّماء تلون الوردة من الخيل لأنّها تكون في الرّبيع إلى الصفرة ، فإذا اشتدّ البرد كانت وردة حمراء ، فإذا كانت بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة قال عبد بني الحسحاس شعرا :

فلو كنت وردا أحمرا لعشقتني

ولكنّ ربّي شانني بسواديا

وقيل في الدّهان : إنها جلود حمر ، وقيل : هي جمع دهن ـ أي تمور كالدّهن صافية ، والشاهد لهذا قوله تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) [سورة الطور ، الآية : ٩] أي تتميع. وقال تعالى : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [سورة المعارج ، الآية : ٨] وهو الصفّر المذاب ، وكان التّشبيه وقع بالذّوب ، فيكون المور والذّوب على طريقة واحدة ، وقوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٢] ، وقوله تعالى في سورة الرّحمن : عند ذكر وعيد الكفار ، والإنذار من يوم الحشر ، والمعاد وما يجري مجراه من الاقتصاص ، والأمر بالعدل والإنصاف : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [سورة الرحمن ، الآية : ١٣]. سأل سائل : أي شيء في هذا من الآلاء حتى ذكره الله ممتنا به في جملة ما عدّده من صنوف النّعم ، ووجوه القسم في الأولى والآخرة.

والجواب إن الله تعالى منعم في كل حال ومذكّر بما يزيد المتعبد استبصارا في الأمر الأولى ونفورا ، وزهدا في الدّنيا ، وواعظ بما يكون السّامع له أقرب إلى الطّاعة فيما يعمله من الاستطاعة ، وإذا كان الأمر على هذا فنعمه على خلقه في الإنذار والإعذار مثل نعمه في التّبشير والتّحذير إذ كان الصّارف عن الشر بلطفه مثل الباعث على الخير بفضله ، وقد توعّد الله جاحدي نعمه والمهملين لآياته ونذره بالخسف والرّجف والخزي الثّابت ، والبعث المفاجئ ، والمسخ المرصد والرّيح العاصف والزّلازل ، والصّواعق بعد أن أمضى بها أو بأكثرها الحكم على من حقت عليه الكلمة فمن سعد ووعظ بغيره فأجاب حين دعي ، وأدرك لما بصر ونفعته المهلة والإملاء ، واستسعد بالإعادة ، والإبداء ونبهه ضرب الأمثال والمبالغة في الإبلاغ.

ثم عرف حال أولئك المستمرين في الضّلالة والذّاهبين عن طريق الهداية ومصائر أحوالهم ، فإنه إذا راجع نفسه درى عظم نعم الله عليه فيما وفقه ، أو يسرّ أخذه به من العدول عن سلوك مناهجهم ، وأوجب على نفسه شكرين (الأول) لاهتدائه ، (والثّاني) لما زاده الله من الاستضاءة بنور الهدى وقربه من التقوى. ، ألا ترى قوله تعالى : حاكيا عن أهل الجنة وقد استقروا في منازلهم منها : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٣] قوله تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٠] نصف

٥٧

عقبي حالهم (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة يونس ، الآية : ١٠] وقال تعالى بين أحوالهم قبل ذلك : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) [سورة مريم ، الآية : ٦٧] إلى (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٧٢] فعلى هذا الذي بنينا الكلام عليه قدر الله نعمه على الجن والإنس في دنياهم ، وأخراهم ، ثم قال : يا أيها تكذبون وكل ما تتصرفون فيه من حياة وممات ونعمة ونقمة وتيسير وتعسير ، وتقريب وتبعيد آثار إحساني فيها ناطقة وأعلام آلائي فيها سنة واضحة وهذا بمن الله ظاهر.

ومنه قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] إلى (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] الخلق هو الاحداث على تقدير من غير احتذاء مثال ولذلك لا يجوز إطلاقه إلّا في صفة الله تعالى لأنه لا أحد جميع أفعاله على ترتيب من غير احتذاء أمثال إلّا الله وإنما جمع السّماوات ، ووحّد الأرض لأنّ الأرضين لتشاكلها تشبه الجنس ، والواحد كالرّجل ، والماء الذي لا يجوز جمعه إلّا أن يراد الاختلاف ، وليس يجري السّماوات مجرى الجنس المتفق لأنه دبّر في كل سماء أمرها بالتّدبير الذي هو حقّها قوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] يجوز أن يكون من الخلاف كالسّواد والبياض لأنّ أحدهما لا يسدّ مسد الآخر في الأحوال.

ويجوز أن يكون من الخلف لأنّ كل واحد منهما يخلف صاحبه على طريق المعاقبة والنّهار في اللغة يفيد الاتساع أيضا ، ويقال : انهرت العنق إذ أوسعته ، وذكر الله تعالى هذه الآيات مجموعة معظما شأنها ليصرف بكريم عطفه وحسن نظره أوهام المخاطبين بها إليها ، وإلى النظر في تراكيبها وابتداع خلقها مدرجا إلى الاستدلال بها على خالق لا يشبه الأشياء ولا يشبه من جهة أنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم الذي ليس بجسم ولا عرض ، إذ جميع ذلك محدث ولا بدّ له من محدث لاستحالة التسلسل ، فتقديم السماوات والأرضين في الذّكر لأنها المعظم في المشاهدات والأصل وما عداها تبع لها ، ولتكون الحواس إلى تمييزها أسرع ، والأذهان إلى تبحثها أميل ، والنّفوس في الكشف عن سرائرها أرغب ، والعقول عنها أفهم ، واختلاف اللّيل والنّهار يدلّ على عالم مدبر لأنه متقن في الصنع محكم في التدبّر قريب التحوّل بعيد التأخر ، فهو أبلغ أداء وأبين مأخذا ، وأفصح برهانا ، (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] لأنه فعل منعم عالم بما يكون قبل أن يكون هيأ الله لمنافع الناس ومن جرى مجراهم لكي يفكروا ، مع كثرة بلواهم بها ، ومع تعذر فعل مثلها عليهم منها وليعلموا بمواقع حاجاتهم وتيسر مرافقهم بها أنّ الله لهو الحكيم الرءوف المحدث لهم ، والمنشئ والمصرف والمسخر.

فأما الماء المنزل من السّماء ، فيدل على الرازق المنعم المبدع لما شاء لا يعجزه شيء

٥٨

مروم ، ولا يتكأده مطلوب ، لا يخطئ تدبيره ، ولا يقصر عن الحاجة تقديره آخر مراده وفق أوله لائق بآخره.

وأما إحياء الأرض بعد موتها فتمثيل للحشر والبعث ، وتنبيه على أنه تعالى تتجدد منحه حالا بعد حال ، ووقتا بعد وقت ليكون للعائشين بها أهنأ ، وفي إظهار القدرة عليها أحكم ، ويجوز أن يقال : وصفت الأرض بالحياة لينشأ النبات عنها كنشوء النتاج عن الحيوان فقيل : إذا كانت عامرة حيّة ، وإذا كانت هامدة ميتة ، ويجوز أن يقال : وصفت بذلك لأنّها تخرج ما تحيي به النّفوس من الثمار والزّروع. قوله : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] يريد من جهة السّماء ومن نحو السّماء ، وفي موضع آخر : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٨] يجوز أن يكون بدلا من الماء ، أو تبيينا له وتفسيرا ، أو يكون كالفطور وأمثاله فلا يدل على الكثرة ، وإذا جاز ذلك فيه فليس لأحد من الفقهاء أن يتعلق بظاهر الآية فيقول : إنّ طهورا فعول ، وهو صفة للماء فيجب أن يدل على الكثرة والمبالغة في الحكم الذي يجب في فعول إذا كان صفة لأنّ فعولا قد يكون كالفطور فلا يدل على الكثرة ، ولأنه قد يجوز أن لا يكون صفة للماء بل يكون بدلا وتفسيرا ، ويسقط التعلّق بظاهر الآية.

وأما قوله تعالى : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] فيستدلّ به على الاقتدار على ما لا يتأتى للعباد إن ميسرها لأوان فقرهم إليها إن شاء جعلها السّبب في إهلاكهم بها ، فهو مذكّر واعظ ومبشّر قادر ، ومعنى تصرفها تحوّلها من حال إلى حال ومن جهة إلى جهة ، وكذلك صرف الدّهر تقلبه ، وقال الحسن : الصّرف النافلة ، والعدل الفريضة.

قوله تعالى : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] أصل البث التفريق ، ثم توسع فيه فقيل بث فيه الشّراب والسّم ، ويريد بالفلك السّفن إذا أصعدوا في البحر للتجارات وما يجري مجراها ، ويقع على الواحد ، والجمع قال تعالى : (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [سورة الشعراء ، الآية : ١١٩] وإذا أنث فلأنه أريد به الجمع ، وأصله الدّوران ، ومنه تفلّكت الجارية إذا استدار ثديها ، وإنّما استوى الواحد ، والجمع فيه لأنّ فعلا وفعلا يشتركان كثيرا كمثل قولهم : العرب العرب ، والعجم ، والعجم ، والبخل ، والبخل ، فمن قال : في أسد أسد ، قال : في فلك فلك ، فجمعه على فعل ، ومثل هذا قولهم : هجان لأن فعيلا وفعالا يشتركان في الجمع ، كقولك : قضيب وقضب ، وكتاب وكتب ، فمن قال : كريم وكرام ، وطويل ، وطوال يلزمه أن يقول : هجين ، وهجان. فإن قال قائل : لم جمعت اللّيل ولم يجمع النهار؟ قلت : النّهار بمنزلة المصدر ، فهو كقولك : الضّياء والظّلام ، فوقع على القليل

٥٩

والكثير ، واللّيلة مخرجها مخرج الواحد من اللّيل على أنه قد جمع في الشذوذ على نهر قال :

لو لا الثّريد إن هلكنا بالضّمر

ثريد ليل وثريد بالنّهر

وأصل التّسخير : التّذليل ، والمراد إنّ الله يمسكه ، وتسكين الأجسام الثقال بغير دعامة ولا علاقة فعل من لا شبيه له ولا نظير ، فهو القادر الذي لا يعجزه مراد قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] يريد أنّ هذه البراهين على التّوحيد ، وبطلان التّشبيه يستدل بها العقلاء ، فيصلون إلى العلم بما يلزمهم ، ثم العمل بها ففيه مدح المفسرين المتأملين ، وذمّ لمن سلك غير طريقهم ، فأهملوا مع المهملين.

ومنه قوله تعالى في سورة النّمل : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) [سورة النّمل ، الآية : ٥٩] إلى قوله : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٦].

اعلم أنّ هذه الآي تشتمل على فوائد كثيرة ومسائل جمة عجيبة. فمنها بيان الفائدة في قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، وكيف جعل قرآنا متلوا؟ والظاهر أنه من كلام جبرائيل مخاطبا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند أداء المنزل إليه ، ومنها : كيف مورد قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ) [سورة النّمل ، الآية : ٥٩] والقصد إلى تبكيت المعاندين وإنذارهم وجمع الحجّة عليهم وقل إنكارهم بدلالة قوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٥٩] إلى غير ذلك مما سنبيّنه شيئا بعد شيء إن شاء الله تعالى ، فنقول وبالله التوفيق.

أما لفظة قل : فحيث ما جاء في التّنزيل مبتدأ كان ، أو متوسطا ، فهو أمارة كونه من كلام الله خطابا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبصيرا عند افتتاح القول ، وتهذيبا ، أو إسقاطا للسؤال ، يوجهه المعاندون نحوه امتحانا ، فكان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظر في مثل هذه الأحوال ما يلقنه من وحي فيدفع به مضرّتهم ، أو يبطل به حجّتهم ، أو يتوصّل به إلى تعجيزهم ورد كيدهم في نحورهم ، أو يستظهر به داعيا عند طلب السّلامة عليهم ظهر الابتداء المعقب بقل والله يمده بما يعلو به أمره ، ويشتد به أزره فلا يجيء لفظة قل في القرآن إلّا وهو تلقين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكموعد ينتظر إنجازه على هذا قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٥] وقوله تعالى : (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٩] ، وكقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) [سورة ص ، الآية : ٦٥] و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [سورة الكافرون ، الآية: ١] و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [سورة الإخلاص ، الآية : ١] و (قُلْ أَعُوذُ) [سورة الفلق ، الآية : ١] وما أشبهها.

٦٠