كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

وأما قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ) فإن القوم لما تقرر الكلام عليهم واستمرارهم في لزوم الجحد ومباينتهم لنهج الحق جعل الله ابتداء الكلام خطبة على عادة العرب في مقاماتهم وعند تصرّفهم في منافراتهم لأنهم يبدءون في مقارضاتهم بحمد الله ، والثّناء عليه والصّلاة على رسوله يأخذون في مآربهم ويستقرّون في وجه القول مدارجهم لتكون طرق البيان بها أوسع ، وبراهين الموجبات فيها أثبت فقوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي ابتدأ بالثناء على الله فيما آتاك من فضله واختصك به من كرامته ، ثم اتبعه بالتّسليم على إخوانك من الأنبياء الذين اصطفاهم الله كما اصطفاك ، وحمّلهم من أعباء الرسالة مثل ما حمّلك ، ثم سل هؤلاء الذين ينازعونك الأمر ، ويرادونك فيما تدعو إليه القول ، وقل الله خير أم ما تجعلونه شركاءه.

ومثل هذا من الكلام يستعمل مع من حقت عليه الشّماتة ولزمت الحجة وتبرأت منه المعذرة فيقرع لسوء اختياره به ويرى بعد ما بين أمريه فيه ، ثم أخذ تعالى في إحصاء نعم الله التي تفرد بإنشائها يقرّرهم على ما يضطرون إلى تسليمها ونقص يد المنازعة فيها من خلق السّماء والأرض وإنزال الغيث الذي تنبت به الحدائق ، ويحيي به الموات ، ويعيش منه الناس والأنعام كما قال تعالى في موضع آخر : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [سورة الزمر ، الآية : ٢١] الآية. يقول : انظر كيف أنزل الغيث ، وكيف أحيي به الأرض؟ ثم جعله فيها ينابيع إلى أن أخرج به المرعى فجعله غثاء أحوى.

ووجه التّقرير بهذا تأنيسهم بما كانوا لا ينكرونه لأنهم كانوا معترفين بأنّ ما يدعونه من الشّركاء لم ينبتوا شجرها ، فكيف ما عداها ، وأنّ مثل الشّركاء في العجز عنها مثلهم في أنفسهم لا تباين ولا تمايز لتساوي أحوالهم وتقارب آماد قواهم ، فقال ذات بهجة ، ولم يقل ذوات لأنه لمّا كانت الجموع مؤنثة اكتفى بالتأنيث عن الجمع ومثله القرون الأولى ، والأسماء الحسنى قوله تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٠] أم فيه لتحوّل الكلام ، عن حال إلى أخرى فهي أم المنقطعة لا المعادلة ، وفي قوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) هي المعادلة والمفسرة بأي ، وفي كلّ منهما تبكيت شديد وتعنيف بليغ وإن اختلف طريقاهما لأنّ قوله تعالى : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) [سورة النمل ، الآية : ٦٠] ممتزج بوعيد وتعجيب. وقوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ) [سورة النمل ، الآية : ٥٩] ممتزج بتسخير ولو قيل إلها بإضمار فعل جاز. ومثله:

أعبدا حلّ في شعبي غريبا

ألؤما لا أبا لك واغترابا

وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٠] حكم بأنّ الكلمة حقّت عليهم لعبادتهم ألا ترى أنه تابع بين البراهين السّاطعة والإلزامات الدّامغة ، فأخذ يسألهم عن

٦١

الأرض ومصيرها قرارا للخلق وما في خلالها من الأنهار ، وما ثبت بها من الجبال ، وعن البحرين والحاجز بينهما ، وعن إجابة المضطر ، وإغاثة الملهوف من يقيمها فيقول : من أنشأها وجعلها كذلك تكرّر التفريع ، ومثل هذا من القول مع المصر الجاحد أبلغ من كل وعيد ، وأوعظ من كلّ نكير. قوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٢] يجري مجرى الالتفات في كلام البلغاء لأنه تعالى بعد تعداد آلائه عليهم وعلى جميع الخلق معهم ، وبعد إظهار الآيات البيّنة وذهابهم عن المناهج المستقيمة وأنّهم لا يرجون بالنّذر ولا يرعون للعبر.

قال : بلغت المقال في نكوصهم إليهم ويقبح فيما يؤثرونه من صوابهم لديهم : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ، وهو لا يثبت بالقليل شيئا وإنما هو نفي خالص فكأنه قال : لا تذكرون شيئا ، ويجوز أن يكون انتصاب قليلا على الظّرف وعلى أن يكون صفة لمصدر محذوف قوله تعالى : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [سورة النمل ، الآية : ٦٣] يريد من يسيّركم ويرشدكم إلى القصد والسّمت في تلك الحال ، (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [سورة النمل ، الآية : ٦٣] أي أمام الغيث ناشرة ، أو مبشرة ، فقد قرئ نشرا بالنّون ، وبشرا بالباء ، ومعنى النّشر ضد الطي أي تفتح الأرض ، وتعرج أطباقها للمطر والنّبات كما قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢٢] ، وختم الكلام بإعادة التّبكيت لأنّ هذه المسائل لا أجوبة لها تعالى الله عما يشركون ، ثم قال تعالى : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [سورة النمل ، الآية : ٦٤] جعل الخطاب في هذا الفصل ، وفي فصلين قبله وهما : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) [سورة النمل ، الآية : ٦٢] و (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بلفظ المستقبل بعد أن ساق في أول الفصول الكلام على بناء الماضي فقال : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٠] و (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) [سورة النمل ، الآية : ٦١] لأنّ بعض أفعاله تعدم وحصل محصل المستكمل المفروغ منه ، وفعل ما يساء في خلقه حالا بعد حال ، فهو كالمتّصل الدائم لذلك خالف الآخر الأول ، وقال بعد المسائل التي رتّبها معجزاتها : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) [سورة النمل ، الآية : ٦٤] على مقالتكم ، واستأنف تعليم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يورده عليهم في إنكارهم البعث واستعجالهم من النّشور بعد الموت لما قالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) [سورة النمل ، الآية : ٦٧](وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٧](لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٨] فقال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [سورة النمل ، الآية : ٦٥] فما غاب عنكم كيف تحكمون عليه بالبطلان والامتناع ، وقد استوى المخلوقون في استبهام أمر الساعة عليهم فلا يشعرون متى يبعثون ألا تسمع قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٧] وإذا

٦٢

كان القيامة من الغيب الذي استأثر الله بعلمه لما تعلق بخفائه من مصالح المكلفين ، فالمتكلم فيه أمّن الكفار واقف من مطلوبه موقف الخزي والخيبة ، والرّاجع من مرتاد القيامة يفوت السّلامة.

قوله تعالى : بل أدرك علمهم في الآخرة استهزاء بهم جعل علمهم كالثّمر المنتظر ينعه وتكامله ، فإذا تم بلوغه قيل أدرك ، وقرئ بل إدارك علمهم ، والمعنى تدارك ، وهو أبلغ في المعنى لأنّ تفاعل بناء لما يحصل شيئا بعد شيء على هذا قولهم : تداعى البناء وتلاحق القوم وما أشبهه ، ثم قال مرزيا بهم ومبطلا لظاهر ما أعطاهم : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٦٦] فانظر كيف ارتجع منهم ما بذله وعلى أي ترتيب رتّبه لأنه قال : بل أدرك علمهم بلسان التّهكم والهزء ، ثم حطّهم عن تلك الرّتبة فقال : بل هم في شك منها فضعف علمهم وإدراكهم بالشّبهة العارضة لهم إذ كان الشّك لا يحصل إلا لعارض شبهة ، ثم قال : يجهلهم ويردّهم إلى أسوأ منازل الباحث ، فقال : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ، وقال بعض أصحاب المعاني : بلغني عن ابن عبّاس أنه قرأ : بلى إدارك يستفهم ، ويشدّد الدال ، وهو وجه جيد لأنه أشبهه بالاستهزاء بأهل الجحد كقولك للرّجل بكذبه والعمى المذكور بإنما هو من الرّي دون البصر ، وهذا بيّن والحمد لله.

ومنه قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة النور ، الآية : ٣٥] إلى (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة النور ، الآية : ٣٥] أراد بقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أنّ الآيات الباهرة الدالة عليه وعلى أنه لا نظير له ولا شبيه ، وأنّ العبادة لا تحق إلا له مبينة مضيقة لعذر من شبه بخلقه ظاهرة ظهور المصباح لذي وصفه في المشكاة التي بين أمرها إذا كان الله تعالى خالق الظلم والأنوار ، ثم جعل المصباح في زجاجة صافية تشرق إشراق الكوكب المضيء الوقّاد ، وقد استصبح ذلك السّراج بزيت من شجرة زيتون قد بورك فيها ثابتة على خط استواء لا شرقية ، فيكون خطها منها العشيات فقط بل تستوفي قسطها مما ينمّيها ويربّيها كل وقت حتى إنّ عصيرها إذا اعتصر يقرب من أن يشرق وإن لم تمسه نار ، ثم قال : (نُورٌ عَلى نُور) [سورة النور ، الآية : ٣٥] يعني نور المصباح ، ونور الزّجاجة ، ونور الزّيت يدل على أنّ أسبابه متعاونة في الإضاءة فكلّ موادها نور مفرد لو اكتفى به في الإشراق لأغنى عن غيره ، فيقول : إنّ هذه الأنوار المجتمعة المترادفة مثل لآيات الله في وضوحها ، والدّلالة على وحدانيته ، فلا شبهة تعرض لناظر ولا مرية يتسلط على خاطر فكلّ من ضل عمّا دعي إليه فإنما أتى من قبل نفسه وسوء تأنّيه ، أو من هو يجذبها إلى الضّلال فيرديه. فإن قيل : هل تعرف في نظوم كلامهم مثل هذا التركيب ، والتّلفيق؟ أو هل تعرف في الأمثال المضروبة لتأكيد القصص والأخبار ما أسس هذا التأسيس؟

٦٣

قلت : هم يقولون مثل هذا إذا قصدوا التّنبيه على تناهي الشيء وبلوغه أقصى مأخذه حتى يستغرق أكثر أوصافه على ذلك قول الأعشى ، وهو يهول أمره ويعظمه فيما قاساه في الغزل حتى بلي فيه بما لا مزيد على شأنه فقال :

علقتها عرضا وعلقت رجلا

غيري وعلق أخرى غيرها الرّجل

وعلقته فتاة ما يخاف لها

من قومها ميت يهذي بها وهل

وعلقتني فتاة ما تلا يمني

فاجتمع الحبّ حبا كلّه تبل

فكلّنا هائم يهذي بصاحبه

فآب ودان مخبول ومختبل

فهذا من الباب الذي نحن فيه ، وقد فعل الله مثل ذلك فيما ضربه من المثل للكفر والضّلال فقال تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) الآية ، فكما ضرب للهدى المثل بالنّور على ذلك الحدّ من التأكيد ضرب للكفر مثله وعلى حده.

فأما قوله : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [سورة النور ، الآية : ٣٥] فإنه يحتمل وجهين : (أحدهما) أن يكون مثل قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [سورة الزمر ، الآية : ٢٢] وقوّى بصيرته ونوّر منهاجه وقصده ، ويجوز أن يريد بالنّور الذي يهديه له ما يفعل الله بالمؤمنين من إرشادهم إلى طريق الجنة ، كما قال في صفتهم : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [سورة التحريم ، الآية : ٨] ، ومثل قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قوله تعالى في صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً) [سورة الفتح ، الآية : ٨] الآية ، وهذا واضح بيّن.

قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) إلى (شِهاباً رَصَداً) [سورة الجن ، الآية : ٨] يقال لمس والتمس بمعنى طلب وحمل عليهما المس أيضا ، فالحجة في الأول قوله الام على تبكيه فلا أجده يكشف ذلك قوله : فلا أجده ، وفعل ، وافتعل يتصاحبان كثيرا ، وأما المس وخروجه إلى معنى اللمس فقد استشهد له بقوله :

مسسنا من الآباء شيئا وكلّنا

إلى حسب في قومه غير واضع

فقيل المعنى طلبنا في نسب آبائنا هل فيه ما يقتضي ما أنكرناه من أخلاقهم لأنّ المس بالجارحة لا يتأتى في الأنساب ، والأحساب ، ثم حمل قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [سورة الواقعة ، الآية : ٧٩] ، وقيل معناه لا يطلب النّظر في أدلة الله المنصوبة في كتابه العزيز للاقتباس من آدابه وحكمه ، والاعتبار بأمثاله ، وحججه إلا المطهرون من دنس الشرك ودغل الكفر ، ويكون على هذا التأويل الكلام خبرا.

٦٤

وقيل فيه أيضا : إنّ المس هو التّناول باليد ، ويكون على هذا اللّفظ لفظ الخبر ، والمعنى معنى النّهي كأنه نهى الحائض والجنب ، ومن جرى مجراهما من تناول المصاحف تنزيها لها ، وتعظيما لشأنها ، والوجهان قريبان ، فأما الآية فهي إخبار عن الجن المسترقة للسّمع وأنهم كانوا قبل الإسلام يقعدون من السّماء مقاعد تقرب الاستماع إلى الملائكة وتسهله في السّماء الدّنيا ، فكانوا يلتقطون من تجاورهم وتذاكرهم بما يوحى إليهم امتحانا لهم ما يلقونه على ألسن الكهنة حتى يتصوروا للنّاس بصورة من يعلم الغيب ، فيؤمنوا بهم وذلك من الإضلال ، وفساد الأدلة ما لا خفاء فيه ، فقالوا : قد كان هذا فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعنا من ذلك بما أرصد لنا من ثواقب النّجوم.

وقد اعتقد قوم أنّ انقضاض الكواكب ظهر في الإسلام لأنها جعلت رجوما للشياطين فيه ، وقد جاء في الشعر القديم تشبيه المسرع من الخيل وغيرها بمنقضّ الكواكب ، فالأقرب في هذا أنه كثر في الإسلام ، ومن قبل كان يتفق نادرا ، أو يكون جعلها رجوما إسلاميا وفيما تقدم من الزّمان لم يكن لذلك من الشأن فإنه تعالى قال : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [سورة الملك ، الآية : ٥] وقوله تعالى لا يبدل ولا يدخل التسمح بل هو الوحي المحقق والخبر المصدق.

فإن قيل : من أين لك أنّ الملائكة كان يرد عليهم الوحي فيتدارسونه بينهم ويجاذبونه حتى توصّلت الشّياطين منه إلى الاستماع. قلت : يدل على مثل ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [سورة البقرة ، الآية : ٣٠] الآية ، فتبيّن أنّه قدّم إلى الملائكة خبر ما أراده من آدم عليه‌السلام وما كان من ذريته في الأرض امتحانا لهم. قوله تعالى : (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً) [سورة الجن ، الآية : ٨] يعني الملائكة فدعاهم حرسا لما كان منهم من منع الشّياطين من السّمع. والحرس جمع حارس ، ومثله غائب ، وغيب. والشهب جمع شهاب ، وهو النّار ولو لا فعل الله تعالى ذلك لكان الوحي إلى النّبي يتخلّله الفساد ، بما يكون من الجن فله الحمد والشكر على نعمه في كل حال وسيجيء من الكلام من بعد فيه ما تزداد به هذه الجملة انشراحا إن شاء الله تعالى.

ومنه قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٦] الآية ، نبّه الله تعالى على عدد الشّهور العربية ، وهي التي تسمّى شهور القمر. وميزان السنة اثنا عشر شهرا لأنّ القمر يجتمع مع الشّمس في مدة هذه الأيام اثنتي عشرة مرة ، ألا ترى قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [سورة يونس ، الآية : ٥] وكذلك فعلت الفرس بقسمة أيام السنة باثني عشر قسما ، وجعلوا أيام كل شهر ثلاثين يوما ، وزادوا في آخر (ماه ابان) خمسة أيام سموها اللّواحق ، والمسرقة ،

٦٥

وسمّوها الكبيسة وإنما زادوا ذلك لتتم سنة الشّمس.

وكذلك زادت الرّوم في أيام شهورهم ونقصت ، وكبست ليكون أيام سنتهم موافقة لأيام سنة الشّمس ، وهي ثلاث مائة وخمسة وستون يوما وربع يوم ، وذكر بعضهم أنّ العرب كانت تعمل الكبيسة أيضا لئلا تتغير أحوال فصول سنتهم ، وكان شتاؤهم أبدا في جمادي الأولى ، وجمادي الآخرة ، ويجمد الماء في هذين الشّهرين ولذلك سموهما بهذا الاسم ، ويكون صيفهم في شهر رمضان ، وشوال ، وسموا رمضان بهذا الاسم لشدّة الحر فيه ، ووجدوا أيام السّنة القمرية ثلاث مائة وأربعة وخمسين يوما ، وتنقص عن أيام السّنة الشّمسية نحو أحد عشر يوما ، وأحبوا أن تكون فصول سنتهم على حال واحدة لا تتغيّر ، وكانوا يكبسون في كل ثلاث سنين شهرا ، ويجعلون سنتهم ثلاثة عشر شهرا ويسمّونها النّسي إلى أن بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنزل الله تعالى هذه الآية : (إِنَّمَا النَّسِيءُ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٧] الآية فلم يكبس بعد ذلك ، فصار شهر رمضان يتقدم في كلّ سنة نحو أحد عشر يوما ، ويدور على جميع فصول السنّة في نحو ثلاثين سنة ، ولا يلزم نظاما واحدا ، وهذا الذي حكاه هذا الإنسان يبطله ما ذكره الله تعالى ، ورواته نقلة الأخبار ، وسأبيّنه من بعد.

فقوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٦] فالكتاب هاهنا هو الحكم والإيجاب ألا ترى قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٦] و (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢] ، والمعنى إنّ الواجب عند الله أنّ عدد الشهور على منازل القمر وأنّ أعياد المسلمين وحجّهم وصلواتهم في أعيادهم وغير ذلك تدور وأنه أجراها على هذا المنهاج : (يَوْمَخَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، [سورة التوبة ، الآية : ٣٦] ثم قال تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) يريد من الأشهر ، أي جعل لها حرمة كما جعل البلد الحرام ، والبيت الحرام (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٦] يريد دين الإسلام قوله تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٦] أي لا تدعوا مقاتلة عدوكم إذا قاتلوكم في هذه الأشهر ، فتكونوا معينين على أنفسكم وظالمين لها بكشف هذا قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٧] ، والمعنى عن قتال في الشهر (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٧] وقد تم جواب السؤال لكن الله تعالى زاد في الكلام ما انشرحت به القصة وأتى من وراء القصة ، فقال : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٧] ، فقاتلوهم فإنكم معذورون ، ومعنى قوله تعالى : (كَافَّةً) جميعا ، ومحيطين بهم ومجتمعين. وانتصابه على الحال ، ومثل كافة قولهم : قاموا معا لا يدخلها الألف واللام ، وكذلك قاموا جميعا ، وقال الزّجاج : اشتقت من كفة الشيء

٦٦

وهي حرفه وكأنها مأخوذة من كف لأنّ الشيء إذا انتهى إلى ذلك كفّ عن الزّيادة ولا يثنّى ولا يجمع لأنّها مصدر في الأصل كالعاقبة ، وقم قائما ، وكقولهم : العامّة والخاصة.

ومن هذا قولهم : لقبته كفة كفة ، والمعنى كفة ككفة ، أو كفة إلى كفة ، قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٦] ضمان منه يقال لنصرة المؤمنين قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٧] النّساء ، التأخير ، وقال : نسأ الله في أجله ، ومنه النّسيء في تأخير الدّين يقول : فالذي يفعله الكافرون في تقديم الأشهر الحرم على أوقاتها التي جعلها الله لها وتأخيرها زيادة في كفر الكافرين ، واستمرار في ضلالهم وذهاب عن الواجب عليهم وإنّما كانوا يفعلون ذلك فيحلّون الشهر من هذه الشّهور في بعض الأعوام ويحرّمونه في العام الآخر ليوافقوا بالتّحليل تحريم الله تعالى فيحلّوا الحرام ويحرّموا الحلال.

قوله تعالى : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٧] أي استحسنوا من ذلك ما هو سيئ وأتى بلفظ الخبر ، عن المفعول ولا فاعل ، ثم ومثله قولهم : أعجب بنفسه ، وعنى بكذا وهذا كان من عادتهم كما كانوا يفعلونه في البحيرة والسائبة ، والوصيلة ، والحامي حتى أبطلها الله تعالى بما أنزل فيه : (والبحيرة) كانت النّاقة إذا انتجت خمسة أبطن ، وكان آخرها ذكرا شقّوا أذنها ، وامتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولا تمنع عن ماء وكلاء ولا يركبها المعي إذا لقيها.

والسّائبة : كان الرّجل إذا نذر لقدوم من سفر ، أو برء من علّة يقول : ناقتي سائبة ، أو عبدي سائبة فلا يستعان بعد ذلك به ولا يحادث عما يريده.

والوصيلة : هي الغنم إذا وضعت أنثى كانت لهم وإن وضعت ذكرا جعل لآلهتهم ، وإن ولدت ذكرا ، وأنثى قالوا ؛ وصلت أخاها فلم يذبحوا الذّكر لآلهتهم.

والحامي : كانوا إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : حمى ظهره فلا يحملون عليه ولا يمنعونه من ماء ومرعى.

فصل في بيان النسيء

فيما قاله النّاس نقلة الأخبار والمفسرون ذكروا أنه كان قوم من بني كنانة يقال لهم بنو فقيم يتولّون ذلك إذا اضطروا إليه عند اتفاق حرب عظيمة وداعية خطب قوية يرى في الواجب عليهم الاشتغال في المحرّم به ، فكان في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب لموسمهم يقوم مناد فينادي : الآن استنسانا ، واستفرضنا إلا أن المحرم صفر ، وأنّ صفر هو المحرم

٦٧

الأكبر ، فكانوا يحلّون في المحرم ما كان فيه من قتال وسفك دم واستباحة حريم ، ويحرمون في صفر ما كان مباحا عندهم وفي مذهبهم ليواطئوا العدة ، ويبلغوا فيما رأوه من الإرادة ، والمواطاة : الموافقة.

وحكى ثعلب أنّ الكناني كان يقال له : نعيم بن ثعلبة ، وكان رئيس الموسم في الجاهلية فيقوم إذا أرادوا الصّدر عن منى فيقول : أنا الذي لا أعاب ولا أخاب ، ولا يرد لي قضاء فيقولون : صدقت انسينا شهرا ، ويريدون أخّر عنّا حرمة المحرم ، واجعلها في صفر فيفعله ، ولهذا ذكره أبو عبيدة معمر بن المثنى أنّ الأشهر الحرم كانت في الجاهلية عشرون. من ذي الحجة ، ثم المحرم ، ثم صفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشر من شهر ربيع الآخر ، وفي الإسلام هي ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ثلاثة متناسقة ، وواحد منفرد ، وكانت العرب تعظم رجبا ، وتسميه منضل الأسنّة ، ومنضل الآل لأنّهم كانوا ينزعون الأسنّة من الحراب والرّماح توطينا للنّفوس على الكف عن المحظور فيه في مذهبهم ويسمّونه أيضا شهر الله الأصم لأنه كان لا يسمع فيه تداعي القبائل ولا قعقعة السلاح.

قالوا : فلما قام الدّين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل الله في النسيء ما أنزل ولتأكيد الأمر فيه ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة الوداع فقال : «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السّماوات والأرض السّنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان». ثم انتسب الناس بعد فراغه مما أراد تأكيدا للقول فيه فقال : في أي يوم يخطب؟ ومن أي شهر هو؟ حتى أجابوه فأشهد الله على ما فعل فقال : «ألا هل بلغت اللهم فاشهد».

فهذا الأمر النسيء ، ومعنى قوله عليه‌السلام : قد استدار كهيئته هو أنهم كانوا يحلون المحرم ويحرمون صفرا كما ذكرنا.

ثم كانوا يحتاجون في سنة أخرى إلى تأخير صفر إلى الشّهر الذي بعده كحاجتهم في المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع ، ثم يمكثون بذلك دعة ، ثم يحتاجون إلى مثله ، ثم كذلك ، وكان يتدافع شهرا شهرا حتى دار التّحريم على شهور السّنة كلّها. وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به وذلك بعد دهر متطاول ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد رجعة الأشهر إلى مواضعها وبطل النسىء.

وروي عن مجاهد أنه قال : كانت العرب في الجاهلية يحجّون عامين في ذي القعدة ، وعامين في ذي الحجّة ، فلمّا كانت السّنة التي حج فيها أبو بكر رضي‌الله‌عنه كان الحج في السنة الثانية من ذي القعدة ، وهي حجة قراءة براءة قرأها علي كرّم الله وجهه على النّاس ، ثم

٦٨

حج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما كانت السّنة التي حجّ فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاد الحج إلى ذي الحجة ، فذلك قوله : «إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض».

ثم قال لما فرغ من خطبته : «أيّ يوم هذا»؟ قالوا : يوم حرام ، قال : «أي شهر هذا» قالوا : شهر حرام. قال : «أي بلد هذا؟» قالوا : بلد حرام ، فقال : «ألا إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا اللهم هل بلّغت».

ومراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد ثبت الحج في ذي الحجة على ما كان عليه في أيام إبراهيم عليه‌السلام ، فهذا أيضا طريقه ، والأول أشبه وأشهر وجميع هذا ، أو أكثره حكاه أبو عبيد القاسم بن سلام أيضا. وقيل : إنما قيل رجب مضر لأنّها كانت تعظّمه ، وتحرّمه ، ولم يكن يستحلّه العرب إلّا حيّان خثعم وطيء فإنهما كانا يستحلان الشهور ، فكان الذين ينسئون الشّهور أيام الموسم يقولون حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلّا دماء المحلّين.

فصل في تأويل أخبار مروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصّحابة

وبيان ما يحمد ويذم من معتقدات العرب في الأنواء والبوارح

وهذا الفصل لائق بما قدّمناه من التّنزيل ، فلذلك جعلناه من تمامه. روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «ثلاث من أمر الجاهلية الطعن في الأنساب ، والنّياحة ، والاستسقاء بالأنواء». فالاستسقاء بها منكر ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا أنّ العرب مختلفون فيما يراعونه من قسمة الأزمان والفصول والحكم على الأحداث الواقعة في الأحوال والشّهور ، ولهم في ذلك من صدق التأمل ، واستمرار الإصابة ما ليس لسائر الأمم ، يدل على ذلك أنّ كل ما حكموا به قديما عند طلوع هذا المنازل من تحت شعاع الشّمس بالغدوات في ناحية المشرق وسقوط نظائرها في المغرب من أحوال فصول السّنة ، وأوقات الحر ، والبرد ، ومجيء الأمطار والرّياح فإنّها تجري على ما حكمت به إلى أن لا يتغير ولا يتبدل إلّا على طريق الشذوذ ، وعلى وجه لا يحصل به الاعتداد وعلى ذلك فهم مختلفون.

فمنهم من اعتقد أن تلك الحوادث من أفعال الكواكب ، وأنها هي المدبرة لها والآتية بها حتى صارت كالعلل فيها والأسباب ؛ وأنّ للأزمنة تأثيرا في أهلها كما أنّ للأمكنة تأثيرا في أهلها ولذلك أخذ قرن عن قرن النّاس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم ، قالوا : فتصاريف الأزمان تؤثّر في الخلق والأخلاق والصّور والألوان والمتاجر ، والمكاسب والهمم والمآرب والدّواعي والطّبائع واللّسن ؛ والبلاغات والحكم والآداب ، فذمّ الله تعالى طرائقهم ونعى عليهم عقائدهم ، وقال حاكيا عنهم : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [سورة الجاثية ، الآية : ٢٤] الآية ، وهذا تجهيل من الله تعالى لهم ، وذكر بعضهم أنّ

٦٩

الذي يدلّ على أنّ شأنهم كان تعظيم الرّجال والاستسلام للمنشإ والذّهاب مع العصبيّة والهوى ما نجد من اعتقاد أكثر أهل البصرة وسوادهم لتقديم عثمان ، واعتقاد أهل الكوفة لتعظيم علي ، ومن اعتقاد أكثر الشاميين لدين بني أمية وحب بني مروان حتى غلط قوم فزعموا أنّ هذا لا يكون إلّا من قبل الطالع ، أو من قبل التّربة ، كما تجد لأهل كل ماء وهواء نوعا من المنظرة والرّأي والطّبيعة واللّون واللّغة ، والنّشوء والبلدة ولو كان ذلك كما ظنّوا لما حسن الأمر والنّهي ولا كان لإرسال الرّسل معنى ، ولما جاز الثّواب والعقاب بلى لاستمالة النّاس بالتّرغيب والتّرهيب والاصطناع والتّقريب ؛ والذّهاب مع المألوف شأن عجيب.

وذكر بعض المفسرين وهو عبد الله بن عباس في قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [سورة الواقعة ، الآية : ٨٢] أنه القول بالأنواء وقرأ علي ، وتجعلون شكركم أنكم تكذبون ، فأما قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [سورة البقرة ، الآية : ٧٨] فإنّ للالف والعادة سلطانا على النّفوس والقلوب قويا وأخذا بالبصائر ، والعيون عزيزا. وكانوا إذا استهجنوا مستكرما ، واستقبحوا مستحسنا ، وعدلوا عن مألوف إلى متروك ، وعن معمول إلى مرفوض وتنقلت بهم الأحوال وتبدّلت لهم الأبدال طلبوا المعاذير والعلل ، وصرفوا الفكر في الأسباب والدّواعي من جوانب الالف والعادة لا من نواحي النّظر والتّدبر لطلب الإصابة ، فرضوا بأن يعملوا الظّنون ، والأوهام ، وتحمّلوا تلك الأفاعيل على الأسماء فضلا عن الذّوات ثقة بما يشاهدون واغترارا بآرائهم فيما يحكمون لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبوا الدّهر فإنّ الله هو الدّهر» لأنه رآهم يقولون لذلك الاعتقاد الفاسد : أباد بني فلان الدّهر ، وأفناهم الليالي كقول بعضهم شعرا :

يا دهر قد أكثرت فجعتنا إذا

بسراتنا ووقرت في العظم

وسهلتنا ما لست تعقبنا به

يا دهر ما أنصفت في حكم

وكقول الآخر :

وإنّ أمير المؤمنين وفعله

لكالدّهر لا عار بما فعل الدّهر

ومعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسبّوا الدّهر أي لا تسبّوا الذي يفعل هذه الأشياء فإنّكم إذا سببتم فاعلها فإنّما يقع السّب على الله تعالى. ومنهم من اعتقد أنّ تلك الحوادث من فعله تعالى لكنّه أجرى العادة بأن يفعلها عند طلوع تلك النّجوم ، أو أفولها لأنّهم مختلفون في ذلك أيضا كأنهم يعدّون تلك التّغيرات أوقاتا لها ، وأمارات وسمّوها الأنواء باتّفاق منهم لأنّ النوء يكون السّقوط والطّلوع ، وهذا قريب في الدّين والعقل لا إنكار فيه ، وعلى هذا يحمل قول عمر للعبّاس حين استسقى : يا عمّ رسول الله كم بقي من نوء الثّريا. فإنّ العلماء بها يزعمون أنها تعرض في الأفق سبعا لأنّ هذا أمر عيان على مجار قائمة ومسير مركب ، وقد جعل الله

٧٠

تعالى في علم هذا وما أشبه مما ضمّنه هذا الفلك عبرا كثيرة ، وآية مبصرة ، ودلالة صادقة عم بجليله أكثر هذا الخلق ، وخصّ بلطيفه خصائص منهم مدحهم حين تبينوه وأقاموا الشّكر عليه فقال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي مضيئة : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة الإسراء ، الآية : ١٢] الآية ، وقرأ بعضهم مبصرة فيكون مثل قول عنترة : والكفر مخبثة لنفس المنعم.

وإذا وضعت مفعلة في معنى فاعل كفت من الجمع والتأنيث يقولون : الولد مجبنة ، وهذا العشب ملينة مسمنة فاعلمه.

وقال في آية أخرى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٧] الآية ، وقد علمنا أنّ خلقا كثيرا هلكوا بتفويض التّدبير إلى النّجوم ولإفراطهم في الأنواء قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبحت طائفة منهم بها كافرين يقولون مطرنا بنوء كذا فأمّا من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي وكفر بالكواكب».

وروي عنه أيضا من وجه آخر : «لو أن الله عزوجل حبس المطر عن النّاس سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفة بها كافرين يقولون مطرنا بنوء المجدح» ومما يدل على ذلك قول الشاعر شعرا :

يا سحم من نتج الذّراعين أنأقت

مسائله حتّى بلغن المناجيا

المناجاة المكان المرتفع لا يبلغه السّيل.

وقال آخر شعرا :

وأخلف نوء المرزم الأرض قرّة

لها شبم فيه شفيف وجالد

وقال آخر :

تربّع من جنبي قنا فعوارض

نتاج الثّريا نوؤها غير مخدج (١)

ولو كان مرادهم بقوله : مطرنا بنوءه كذا : أي مطرنا في نوئه على التّشبيه بقول النّاس : مطرنا في غرّة الشّهر لم يكن مكروها ، وكذلك مذهبهم في تأمّل الغيث أن لو كان على نحو توقّع النّاس أياما للأوقات المعروفة بالمطر لم يكن به بأس ، لأنّ النّاس جميعا يعلمون أنّ للحر والبرد والمطر والرّيح من السّنة وقتا جرت العادة بتقدير الله تعالى أن يكون فيه أكثر ما

__________________

(١) غير ناقص.

٧١

يكون ، وإن كان الله تعالى يأتي به إذا شاء لو لا ذلك ما عرفوا وقت حرث ولا بذر ولا ركوب بحر ولا بر ، ولا انتظر حين لمجيء شيء ولا لانصراف شيء ، ولكانوا ومن يعاملهم كذلك في أجهل الجهل فمما هو ظاهر في زوال المكروه عنه قولهم : إذا طلعت الشّعرى سفرا ولم يروا مطرا فلا تعدون أمره ولا أمرا ، لأنّهم وجدوا ذلك مستمرا في العادة ومنه قول الشّاعر شعرا :

إذا ما قارن القمر الثّريا

لخامسة فقد ذهب الشّتاء

لأنّ مقارنة الثّريا في الليلة الخامسة من مهلّه لا يكون أبدا إلّا في قبل الدجفاء وكقول الآخر شعرا :

إذا كبد النّجم السّماء بشقوة

على حين هرّ (١) الكلب والثّلج خاسف

لأنه موافاته كبد السّماء في أوّل اللّيل يكون في صبارة الشّتاء ومما يكون على العكس من هذا في موافقة المكروه قول الآخر شعرا :

هنأناهم حتّى أعان عليهم

عوافي السّماك ذي السّجال السّواجم

قال أبو حنيفة الدينوري : هذا الشّعر لجاهلي واتبع أثره بعض الإسلاميين فقال :

هنأناهم حتّى أعان عليهم

من الدّلو أو عوّا السّماك سجالها

قال وهنوء القوم أن يكفّهم مئونة وقد يجيء من كلامهم ما يغمض ، فيرد بالتّأويل إلى كل واحد من النّاس ، وللقائلين بالأحكام في النّجوم مضاهاة للقوم في إثباتهم السّعد والنحس بمقتضيات الكواكب إلا من عصمه الله تعالى ولله الأمر والحكم يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد لا رادّ لأمره ، ولا مناص من قضائه.

وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعلّم بابا من النّجوم تعلّم بابا من السّحر ومن زاد استزاد».

كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض خطبه أنه قال : «ما بال أقوام يقولون إنّ كسوف هذه الشّمس ، وخسوف هذا القمر وزوال هذه النّجوم عن مطالعها لموت رجال قد كذبوا». الزّوال ، والزّولان بمعنى وهذا يمكن حمله على قوله : إنّ من البيان لسحرا ، فيكون الكلام مدحا لهذا العلم ، وللمشتغلين به إذا تبرءوا من الحول والقوة ومما يدخلهم في الإشراك بالله والتّسليم إلى الكواكب.

وقال ابن عباس لعكرمة مولاه اخرج فانظر كم مضى من اللّيل؟ فقال : إني لا أبصر النّجوم فقال له ابن عبّاس : نحن نتحدى بك فتيان العرب وأنت لا تعرف النّجوم ، وقال :

__________________

(١) هرّ الكلب : صات دون نباح.

٧٢

وددت أني أعرف هفت ، ودوازده يريد النّجوم السّبعة السيّارة ، والبروج الاثني عشر ، وقال معاوية لدغفل بن حنظلة العلّامة وقد ضمه إلى يزيد علّمه العربية والأنساب والنّجوم : أترى هؤلاء حضّوا على الضّلالة ، ورغبوا في السّفاهة ، فتأمّل ما ذكرته فإنه واضح.

فإن قيل : إذا كان القول في قضايا النّجوم على ما ذكرته فما وجه قول إبراهيم عليه‌السلام مخاطبا لقومه وهم يعبدون الأصنام ليقربهم إلى الله زلفى : (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ٨٧ ـ ٩٠] قلت : قد تكلم النّاس في هذا فقال بعضهم النّجوم جمع نجم ، وهو ما نجم من كلامهم لما سألوه أن يخرج معهم إلى عيدهم ، ونظر نظرة معناه تفكّر ليدبّر حجّة فقال : إني سقيم يريد سقيم من كفرهم وإيمانهم بغيره ، وهذا كما يقال أنا مريض القلب من كذا وإنما تخلف عنهم لما أضمر من كيد أصنامهم لأنّ حجته عليهم في تعطيل عيدهم فلمّا غابت عيونهم جعلها جذاذا.

وسئل ابن الأعرابي عن معنى قوله تعالى : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٦٠] معنى يذكرهم يعيبهم وأنشد :

لا تذكري فرسي وما أطعمته

فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

قال أبو إسحاق الزّجاج : قال ذلك لقومه ، وقد رأى نجما فقال : إني سقيم يوهمهم أنّ به الطّاعون ، فتولّوا عنه مدبرين فرارا من أن يعذبهم الطّاعون ، وإنّما قال : إني سقيم لأنّ كل أحد وإن كان معافى لا بدّ له من أن يسقم ويموت. قال تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [سورة الزمر ، الآية : ٣] أي أنك ستموت فيما تستقبل فكذلك إني سقيم أي سأسقم لا محالة. وروي في الحديث لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام قط إلا في ثلاث وإنّ هذه الثلاث وقعت فيها معارضة. وذلك قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) على معنى (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٦٣] فقد فعله كبيرهم ، وقوله في سارة : هي أختي في الإسلام. وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) [سورة الصافات ، الآية : ٨٩] على ما فسرناه ، وقال أبو مسلم : عطف بالفاء هذا الكلام على ما تقدم من أمره في مخاطبة قومه بقوله : ما ذا تعبدون ، قال : ونظرة في النّجوم هو الذي أخبر الله تعالى به عنه إذ يقول الله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ) [سورة الأنعام ، الآية: ٧٠] إلى (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٩] فكانت نظرته تلك للتبين.

فلما أراه الله الآيات في نفسه ، وفي الآفاق كما قال الله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) الآية ، قال لقومه : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) [سورة الصافات ، الآية : ٨٦] وذلك حين قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة

٧٣

الأنعام ، الآية : ٧٩] الآية ، وكان قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) قبل التّبين ، وأراد بالسّقيم أنه ليس على يقين ولا شفاء من العلم ويقول الرّجل إذا سأل عن شيء فصدّق عنه وبين له : شفاني فلان فلما كان العلم واليقين شفاء صلح تسمية الحال التي قبل كنه البيان سقما.

وقد قال الله تعالى في قوم لم يكونوا على إيمان محض : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠] ، وهذه الحال التي انتسب فيها إبراهيم عليه‌السلام إلى السّقم هي الحال التي فيها البلوغ ، ووقوع التّكليف من الله عزوجل ولزوم أمره ونهيه ، والفاء في قوله تعالى : (فَتَوَلَّوْا) فاء عطف أيضا ينعطف بها ما هي معه من الكلام على قوله : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، فلما دعاهم إلى الله تعالى ، وأنكر عليهم عبادة ما يعبدون دون الله تولوا عنه مدبرين.

وزعم قوم لا يعقلون أنّ إبراهيم عليه‌السلام كذب ثلاث كذبات هي واحدة منها ، وحاش للرّسول الذي اتّخذه الله خليلا أن يكذب ، أو يأتي بالقبائح ، والذي توجبه التلاوة وشهادة بعض القرآن لبعض ، ويحسن في أوصاف أنبياء الله وصفوته من عباده هو ما ذكرناه ، وتلخيص ما في هذه القصّة منذ ابتداء ذكر إبراهيم إلى حيث انتهينا أنّ الله تعالى أثنى على إبراهيم بأنّه وافق نوحا في الإيمان والإخلاص حتى توفّاه الله على ذلك سليم القلب لئلا يشرك به شيئا وأنه نظر فيما خلق الله من النّجوم فاستدلّ على خالقها بها وتبيّن له بالتأمل لها أنّ إلها وآلهة واحد ليس كمثله شيء وهو رب العالمين ، وخالق الخلق أجمعين ودعا قومه إلى مثل ما أراد الله ، وهداه له وزرى عليهم ، وعاب اختيارهم في عبادة الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم ولا عن أنفسها شيئا ، فتولّى القوم عنه مدبرين عند ذكره ربّه كما قال تعالى في الكافرين من قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٦] وقال تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [سورة المدثر ، الآية : ٤٩] الآية. وقال تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) [سورة الزمر ، الآية : ٤٥] الآية. وقال بعض أهل النّظر إنه عليه‌السلام رآهم يعتمدون فيما يعن لهم ويحدث وفيما يستأنفون من مبادئ الأمور ، ومفاتحها على النّظر في النّجوم وأحكامها ، فاقتدى بهم تأنيسا لهم وأخذا بعادتهم ليسكنوا إليه بعض السّكون وإن لم يركنوا كلّ الرّكون.

وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، وإن قاله متأوّلا ، ففيه استبناء ، ورجاء رفق منهم إمّا لعلة ، وإما للتّربص به حتى يأمنوا شرّه ، ويشهد لهذا قوله : (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) [سورة الصافات ، الآية : ٩٠] وهذا حسن قريب.

وقال بعضهم : قوله تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) [سورة الصافات ، الآية : ٨٨] يعني به ما ينجم من نبات الأرض كأنه كان يقلب الأدوية متخيرا منها ما يقرب الشّفاء عنده ، وقيل

٧٤

أيضا أراد نظر فيما كان ينزل عليه من نجوم الوحي كيف يتوصّل إلى ما يهم به في آلهتهم ، وبما ذا ابتدئ ومن أين مخلصه إذا أقدم ويكون قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) اختداعا منه لهم وإيذانا منه بأنه مشغول بنفسه تارك لما كان لا يؤمن من مكايد ، وهذا نهاية ما يقال. فأما قوله تعالى : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) [سورة الصافات ، الآية : ٩٣] يريد مال عليها بالضّرب ، كما تقول : التقى الفريقان فراغ أحدهما : أي عزل عن الحرب يقال دار فلان رائغة عن الطّريق أي عدله ، وقوله : باليمين قيل : بيده اليمنى ، وقيل : هي يمين كان حلف بها ، وهي قوله تعالى : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٥٧] وقيل بالقدرة كما قال :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

وقيل : راغ معناه أقبل مستخفيا كروغان الثّعلب ، وكذلك قوله : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ) أي لم يرد أن يشعروا به.

فصل آخر

وذكر أبو علي الفارسي فيما سمعته منه أنّ قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» [سورة الذاريات ، الآية : ٢٦] أنّ هذا ليس من الرؤية التي هي إدراك البصر بل هي بمعنى العلم وساغ حذف المفعول الثاني الذي تقضيه تلك لأنّ الكلام قد طال ما هو بمعنى المفعول الثاني لو أظهر ، ألا ترى أنّ قوله : كما ترون القمر ليلة البدر تأكيد ، وتشديد للتّيقن ، وتبعيد من اعتراض الشّبه على العلم به تعالى ، وإذا كان بمنزلة ما بمنزلة المفعول الثاني إذا جرى ذكره في الصّلات نحو : علمت أنّ زيدا منطلق ، وأحسب النّاس أن يتركوا فلمّا سدّ ما جرى في الصّلتين مسد المفعولين ، ومن قال : إنه يضمر في الموصولين مفعولا ثانيا كان قياس قوله : أن يضمر هنا مفعولا ثانيا كأنّه ترونه متيقنا ، ونحو ذلك وأن يقال : إنّ ما ذكر سدّ مسد المفعول الثّاني أقيس.

ألا ترى أنّ ما جرى في صلة أن بعد لو في قولك : إنك لو جئتني قد سدّ مسدّ المفعول الذي يقع بعد لو حتى لم يظهر ذلك الفعل معه ، واختزل فكذلك المفعول مع الموصولين في هذا الباب ، ومثل هذا قوله : أعنده علم الغيب فهو يرى لأنّ القول في يرى أنها التي تتعدى إلى مفعولين لأنّ علم الغيب لا يوجب الحسن حتى إذا علمه أحسّ شيئا ، وإنما المعنى عنده علم الغيب مثل ما يشهده لأنّ من حصل له علم الغيب يعلم ما يغيب كما يعلم ما يشاهد.

فإن قلت : فكيف حذف المفعولين جميعا؟ قيل : المعنى أعنده علم الغيب ، فهو يرى الغيب مثل المشاهد والمبتدأ والخبر قبل دخول رأيت عليه كان الغيب فيهما مثل المشاهدة ، ثم حذفا للدّلالة عليهما وقد قال الأعشى :

٧٥

فأنبئت قيسا ولم أبله

كما زعموا خير أهل اليمن

وقال الكميت : (ترى حبّهم عارا علي وتحسب) ، فالدّلالة من الفحوى والمعنى في الآية على المفعولين المحذوفين كالدلالة عليهما في البيتين لجري ذكرهما فيهما وإنما ذكرنا ما قاله لغرابته.

فصل آخر في جواب مسائل للمشبهة من

الكتاب والسّنة مما تستدل به المشبهة

أنهم قالوا قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [سورة غافر ، الآية : ٧] وقال : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [سورة الزمر ، الآية : ٧٥] ثم قال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه ، الآية : ٥] وقال : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [سورة يونس ، الآية : ٣] كما قال : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) [سورة يونس ، الآية : ١٠٠] ولا فصل بين الكلامين وقال أيضا : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٥] والكرسي والعرش بمعنى ومما جاء في الخبر قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث حكم في بني قريظة : «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات» (وعنه) حين قال : «فأقوم على يمين العرش» ولا يكون يمين إلا لما له يسار ، قالوا فقول الله : (وَمَنْ حَوْلَهُ) و (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) فيه دلالة على أنّ العرش مطاف يطاف به ، ودوار يدار عليه وهذه المواضع وأشباهها عمدهم.

والجواب عنها أنّ للعرش مواضع عدة في كلام العرب منها الملك والعز وقوام أمر الرّجل وملاكه ويشهد له قولهم ثل عرش فلان إذا أزيل وحطّت رتبته ومنها سرير الملك ويشهد له قوله تعالى : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [سورة النمل ، الآية : ٢٣] وقوله : (أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) [سورة النمل ، الآية : ٤٢] ويجمع على العرشة والاعراش. ومنها سقف البيت وما يستظل به والعرش كذلك ، ومنه قيل عرش المكرم فهو عرش وقالوا عرش السّماك لكواكب أربعة تشبّها به لأنه على صورة النّعش. ومنها طي البير بالخشب بعد ما يطوى موضع الماء منها بالحجارة ، ويقولون عرّشوا بيركم وإذا ثبتت هذه الوجوه حقيقة وتشبّها في لفظة العرش ، فالواجب حملها حيث جاءت على الأليق بالمعنى مع قرائنه والأقرب في الاستعمال والأشبه في قضية السّمع والعقل وهذا الذي ذكرناه هو الميزان عند طلب الرّجحان حيث حصل الاشتراك في الألفاظ وغيرها.

فأما الخبر المروي وهو : «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات» فقوله من فوق ظرف لقوله حكم الله ومتعلق به فهو كما يقال حكم الله العالي المكان الرّفيع المحل

٧٦

والقدر وأنت تصف الحكم ولا يجوز أن يكون متعلقا بلفظة الله لأنه تعالى لا تحويه الأماكن ولا تحيط به الأقطار والجوانب والمعنى بحكم يشبه حكم الله الذي محلّه ومكانه من الإصابة والغلبة والعلو فوق سبع سماوات وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) [سورة غافر ، الآية : ٧] ومنهم من يطوف به وكلّهم يسبح لله بالحمد له والاعتراف بنعمه والإيمان بجميع ما تعبد الله به خلقه ويستغفرون لمن في الأرض إلى الشفاعة التي قال الله تعالى ما حالهم (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) وقوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [سورة الحاقة ، الآية : ١٧](يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [سورة الحاقة ، الآية : ١٨] يريد أن جميع من خلق الله من البشر في ذلك اليوم يعرضون بأعمالهم وأقوالهم ، وكلّ ما أعلنوه وأسرّوه أيام حياتهم فيحاسبون عليه ، وذلك كما يستعرض السلطان جنده بأسلحتهم ودوابهم وآلاتهم ، فأما العدد المذكور فهو مما استأثر الله به ومثله مما رأى الله تعالى إيهام الأمر فيه والكف عن بيانه كثير ، وذلك لتعلّق المصلحة بأن يكون حازما وسائر ما سألوا عنه إذا أجملناه.

فإنّا نقول في جوابهم الشامل لمقالهم المسقط لكلامهم لمّا أن كان أسفل الأشياء الثّرى وكان أعلى الأشياء السّماء السّابعة ثم الكرسي ثم العرش فكان الله تعالى قد جعل للأعلى في القلوب من التّعظيم والقدر والشّرف ما لم يجعل للأسفل ، كما عظّم بعض الشّهور وبعض الأيام وبعض اللّيالي وبعض السّاعات ، وبعض البقاع وبعض المحال ، وكان قد جعل للعرش ما لم يجعل للكرسي وجعل للكرسي ما لم يجعل للسّماء السّابعة ذكر العرش والكرسي والسّماء بما لم يذكر به شيئا من سائر خلقه فذكر مرة العرش والكرسي والسماء في جملة الخلق ، وأنّه عال على جميعها بالسلطان والقدرة والقوّة حيث قال تعالى : (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٦] وحيث قال تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) [سورة الكهف ، الآية : ٤٥] وقد يقول الرّجل فلان شديد الإشراف على عمّاله وليس يذهب إلى اشراف بدنه ورأسه ، قد خبّر الله أنه على كلّ شيء قدير ومقتدر وحافظ وظاهر ، وقد قال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٣] والعرش شيء هو عال عليه بالقدرة ، والظّاهر عليه بالسّلطان وإنّما خصّه بالذكر إذ كان مخصوصا عندنا بالنّباهة وأنّه فوق جميع الخلق فذكر مرة في الجملة ومرة بالإبانة قال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٥] فخبّر أنه عال عليه وحافظ له ومانع له من الزّوال وقوله (كُرْسِيُّهُ) كقوله بيته ولو كان متى ذكر أنّ له كرسيا وعرشا فقد أوجب الجلوس عليهما كان متى ذكر بيته فقد أوجب أنّه ينزله ويسكنه وليس بين بيته وعرشه وكرسيه وسمائه فرق ، ولو كنّا إذا قلنا : سماؤه فقد جعلناه فيها كنّا إذا قلنا أرضه فقد جعلناه فيها قال تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ

٧٧

وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [سورة البقرة ، الآية : ٩٨] فأدخلهما في جملة الملائكة ثم أبانهما إذ كانا بائنين من سائر الملائكة ، وكذلك سبيل القول في العرش والكرسي والسّماء والأرض والحوت ، والثّرى ، لأنّ الكرسي إذا كان مثل السّماوات والأرض والعرش أعظم منه فمتى ذكر أنّه عال على العرش وظاهر عليه فقد خبّر أنّه على كل شيء قدير ، وقد يكون العلوّ بالقدرة والاعتلاء ، فمرة يذكر العرش ، ومرة يذكر الكرسي دون العرش ، ومرة يذكر السّماء دون الكرسي ومرة يقول : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٣] بعد أن قال : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) وترك ذكر الأرض فلو كان إذا ذكر السّماء دون الأرض كان ذلك دليلا على أنه ليس في الأرض كان في ذكره أنه على العرش ، دليل على أنه ليس في السّماء وقد قال : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [سورة الملك ، الآية : ١٧] ومرة يذكر معاظم الأمور ، وجلائل الخلق ، وكبار الأجسام وأعالي الأجرام ، ومرة كلّ شخص كيف كان وحيث ما كان كقوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [سورة المجادلة ، الآية : ٧] الآية. وقد قال أيضا على هذا المعنى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وقال : (نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) [سورة الواقعة ، الآية : ٨٥].

فإن زعم القوم أنّه إنما ذهب إلى معنى القدرة والعلم لأنّ قربه منهم كقربه من العرش قلنا : فقد صرتم إلى المجازات وتركتم قطع الشّهادة على ما عليه ظاهر الكلام ، فكيف نعيتم ذلك علينا ، حين زعمنا أنّ تأويل قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه ، الآية : ٥] ليس على كون الملك على سريره بل هو على معنى العلو والقدرة والحفظ والإحاطة والظهور بالسلطان والقوّة وهذا بين والحمد لله.

فإن قالوا : ما تأويل استوى؟ وما فائدة على؟ قلنا : قد زعم أصحاب التفسير عن ابن عباس وهو صاحب التّأويل والنّاس عليه عيال ، أنّ تأويل قوله : استوى استولى ، وقد قال تعالى لنوح : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٢٨] ولم يرد الله تعالى أنّهم كانوا مائلين فاعتدلوا ، وإنما معناه فإذا صرتم في السّفينة فقل : كذا وكذا ، وقد يقول الرّجل : قلت كذا وكذا ثمّ استويت على ظهر الدّابة بعد أن لم أكن عليها فقلت كذا وقال تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [سورة يوسف ، الآية : ٢٢] وإنما يريد : فلما انتهى وبلغ جعلناه حكيما ، وكما يقال للغلام المقدود : هذا غلام مستو فإن قالوا : قد عرفنا هذه الوجوه ولكن ما معنى قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [سورة فصلت ، الآية : ١١] قلنا معناه : ثم عمد إلى السّماء فخلقها كما قال ابن مقبل شعرا :

أقول وقد قطعن بنا شرورى

عوامد واستوين من الضّجوع

٧٨

أي خرجن ، وقال الآخر :

استوت العير إلى مروان

مسير شهر قبله شهران

ولفظة على تختلف مواقعها ، فمنها قوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) [سورة الغاشية ، الآية : ٢٥](ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [سورة الغاشية ، الآية : ٢٦] وقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [سورة القيامة ، الآية : ١٧](فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [سورة القيامة ، الآية : ١٨ ـ ١٩] وقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) والمراد في الجميع اللّزوم والوجوب ومنها قول الفرزدق شعرا :

ولو أني ملكت يدي ونفسي

لكان عليّ للقدر الخيار

وإنّما قال هذا حين ندم على تطليق امرأته نوّار وأوّله :

ندمت ندامة الكسعيّ لمّا

غدت منّي مطلّقة نوار

والمعنى لو ملكت أمري فكان عليّ أن أختار للقدر ، ولم يكن على القدر أن يختار لي ، ومنها قوله تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٢٨] وقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [سورة هود ، الآية : ٧] وهذا كما أنّ السّماوات بعضها على بعض ، ويجوز أن يكون عليه على جهة الالتزاق. ومنها قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٣] وهذا من قولهم : على فلان نذر ، وعليه حتم وعليه يمين. ومنها قوله :

سلام الله يا مطر عليها

وليس عليك يا مطر السّلام

ومنها قول الآخر شعرا :

ولا الحيّ على الحدثان قومي

على الحدثان ما تبني السّقوف

يقول : لا ألوم قومي أن يحنوا عليّ وأن يحدثوا الأحداث. فعليّ احتمال ذلك بنى بيت السّؤدد. ومنها قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٩] فمعنى مر على قرية مر بجنباتها ، ولم يرد أنّه مر فوقها ، وقوله : هي خاوية على عروشها : يريد وهي خالية على عروشها أي هي على ما بها من السّقوف خالية كما يقال : زيد على كثرة محاسنه متواضع. وقال بعضهم : أراد بقيت حيطانها لا سقوف لها وما قلناه أشبه. وقال أبو عبيدة ، هي الخيام وبيوت الأعراب ، ومنها قولهم : عليك الجادة والطريق الأعظم في الإغراء بها وفي القرآن : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠٥] هذا ما حضر من مواضع علي.

٧٩

فصل آخر

وهو بيان قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٤] وبيان قول القائل : الله أعلم بنفسه من خلقه والفصل بينهما.

أما قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٤] فلا يجوز أن يكون انتصاب حيث على حد انتصابه إذا كان ظرفا لأنّ علمه تعالى في جميع الأماكن على حدّ واحد لا يدخله التّزايد والتّناقص ، وإذا لم يسقم حمل أفعل على زيادة علم في مكان فيجب أن يحمل على انتصابه انتصاب المفعول به ، ويكون العامل فيه فعلا مضمرا يدلّ عليه قوله: (أعلم) ويحصل الاكتفاء بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ) ثم أعلم يدل على يعلم مضمر أو التّقدير الله أعلم العالمين يعلم حيث يجعل رسالاته فيختار لأدائها من يصطفيه ومثل هذا قول الشّماخ شعرا :

وجلاهما عن ذي الأراكة عامر

أخو الحضر يرمي حيث تكوى النّواجر

فقوله : حيث مفعول لأنه هو المرمي إذ لم يجز أن يكون المعنى يرمي شيئا في ذلك المكان وهذا مثل قول الآخر :

أكروا حمى للحقيقة منهم

واضرب منّا بالسيوف القوانسا

انتصب القوانس بفعل مضمر دلّ عليه قوله واضرب منا.

وأما قول القائل : الله أعلم بنفسه من خلقه حتى قيل : لم يزل معلوما لنفسه فاعلم أنّ هذا الكلام له منصرفات بعضها يجوز ويحسن في وصفه تعالى ، وبعضها يمتنع ، فإن أردت بقولك نفسه صفة لأنه به حسن ، وجاز ويكون هذا كقوله في صفة قدرته وتدبيره وعظمته وإرادته وكرمه ورحمته: (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٩] وكذلك إن أردت أنّ علم العبد قد يعترض فيه الشّك ويتسلّط عليه النّسيان ويعتريه الآفات كالغشي والنّوم والموت فتعطله وعلم الله يدوم ويثبت على حد واحد كان صوابا وقائما وصحيحا (وإن أردت أنّ علمه بذاته متكامل فهو يسعها وعلم خلقه بها متناقص فيعزّ عن الإحاطة بها كان غير لائق به وممتنعا من تجويزه فيه ، وكذلك إن أجريت مجرى قول القائل إنّ جبرائيل أعلم بالله من الإنسان ، تريد أنّ علمه أعلق به وألزم له كما يزداد حبّا على حبّ ، ويكون تعين أثبت من تعين امتنع أيضا وذكر النّفس ليس يثبت به شيء غير الذات وكذلك الوجه في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٧] وليس ذلك على ما ينسب إلى المحدثين من الأعضاء وكذلك العين إذا قلت عين الشيء ويصح أن يقال : الله أعلم بنفسه من خلقه ويراد أنه أذكر لوجوه القدرة وصنوف ما تدل عليه الحكمة والعظمة

٨٠