كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

هي أعظم النّجوم خطرا وقدرا. وهل الدّليل في وضح النّهار إلا هي مع ما استعان به الإنسان من هبوب ريح ، وكلّ ذلك في الدّلالة دونها فإذا تقدّم المرء فأحكم علم ما وصفت ، ثم كان ثبتا في النّظر ، فطنا في العبر ، أدرك علم الهداية.

وذكر جبار بن مالك عامر بن الطّفيل فقال : كان لا يضلّ حتى يضلّ النّجم ولا يعطش حتى يعطش البعير ، ولا يهاب حتى يهاب السّيل ، كان والله خير ما كان يكون ، حتى لا تظنّ نفس بنفس خيرا. والعرب تقول للدّليل إذا كان هاديا إنّه لدليل ختع وخوتع ، وإنّه لبرت وإنّه لخريت ، وإنّه لدليل مخشف.

وذكر اللّغويون : أنّه إنّما سمّي خرّيتا لأنه كان يهتدي بمثل خرت الإبرة وقال الشاعر في البرت :

ومهمه طعنت في مغبرة

تله عين البرت من ذي شره

(تله) : من الوله وهو ذباب العقل ، وقال رؤبة يصف أرضا مجهلا. ينبو بإصغاء الدّليل البرت. يعني إذا توجّس ، وقال ذو الرّمة في الختع فجاء به على فوعل ووصف فلاة :

يهماء لا يحنا بها المغرّر

بها يضلّ الخوتع المشهّر

يريد (بالمشهّر) المعروف المشار إليه بالهداية وقال الخطفي :

حتّى إذا ما طرد النّيف السّفا

قرين بزلا ودليلا مخشفا

قال أبو عبيدة : وللعرب في حسن الاهتداء في المعامي المضال ، والمجاهل الاغفال أحاديث عجيبة في جاهليتها وإسلامها ، كان الرّجل منهم يعدو على الإبل ببلاد لخم وجذام وهي واغلة في الشّام أو بسماوة كلب فيقطعها ثم يطردها متنكرا بها أوطان الانس متتبعا بها بلاد الوحش ، حتّى يلقى بها الأسواق إما بصعدة من اليمن ، أو بحجر من اليمامة ، فيتبعهنّ ويفعل مثل ذلك باليمن. ثم يرد سوق بصرى أو اذرعات ونحوهما من أسواق الشّام ، وكان الواحد من الرّابيل وهم الذين يغزون فرادى ، وذو السّرية وهو الذي يغزو في شيعته فيمضي في تلك المعامي وفي مناقع المياه فيأخذ بيض النّعام فينقعها ويملؤها ماء ويدفنها ، فإذا بلغ غاية مراده وجاء الوقت الذي ينتظره ، ولعلّ ذلك يكون في مدة شهر في مسيره ، حتى إذا نضبت المياه ، وانقطع الغزو وأمن النّاس اعتمد مغزاه فلا يخطئ السّمت ولا يضلّ عن تلك الدّفائن ، فيمضي معتسفا على غير هدى ، مستثيرا ذلك البيض ، ومعتمدا عليه في شراء به. ثم يرجع عوده على بدئه لا يستدلّ إلّا بالشّمس أو الكوكب.

قال : وممّن فعل ذلك وعلة الجرمي في الجاهلية ، وله قصة ، وكان السّليك بن السلكة السّعدي ، ثم أحد بني مقاعس ممن يفعل ذلك ، وكان أوّل النّاس بالأرض ومن هداتهم

٤٢١

المشهورين في الجاهلية ، وله قصة دعميص الرّمل العبدي يزعمون أنّه ورد الدّيار التي يزعمون أنّ بها إرم ذات العماد ، ولم يردها أحد قط غيره وخبره مشهور. وسمّي دعميص الرّمل تشبيها بدعموص الماء.

وقال الأصمعي : يقال للدّخال الخراج ، حيث لا يرام دعموص ، قال الشّاعر يصف رجلا:

دعموص أبواب الملو

ك وجائب للخرق فاتح

يعني أنّه يلج أبواب الملوك ولا يحجب عنهم. وقال الأصمعي : حدثني شيخ من غطفان قال : أرسل زياد بن سيارة أخاه من أرض بني عامر فقال : إني أسير عشرا ولا أدله ، أي لا علم لي بالهداية ، قال : ادخل تحت هذا الكوكب حتى تبلغ.

وحكى ابن الأعرابي قال : يقال : دلّ يدل من الدّلالة أي صار دليلا ، ودلّ غيره يدله دلالة ودلالة ، ودلت المرأة تدل دلالا ، وأدلّ يدلّ من الإدلال.

وممن شهر بالهداية : عبد الله بن أريقط دليل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر رضي‌الله‌عنه ، حيث هاجر وهما مطلوبان فتخلّل الطّرق حتى أوردهما المدينة.

ومن المشتهرين منهم في الإسلام بالهداية : رافع بن عميرة الطّائي دليل خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه حين توجّه من العراق يريد الشّام ، فخادعن جيش الرّوم وهم على طريقه ببلاد الجزيرة ، فامتد رافع مفوزا به من قراقر إلى سوى وبينهما فلاة مجهل فقال فيه الشاعر :

لله عينا رافع أنّى اهتدى

فوّز من قراقر إلى سوى

خمسا إذا ما ساره الجيش بكى

ما سارها من قبله إنس يرى

وممن شهر منهم أيضا بصدق الأم : عبد الجبار بن يزيد الكلبي دليل بني المهلّب حين فرّوا من يد الحجّاج إلى سليمان بن عبد الملك ، وكانوا محتبسين بلعلع فهربوا ولحقوا بالشّام ، فتنكّب بهم عبد الجبار جواد الطرق وتتبّع معامي الأرض فتحيّر يوما وهم بالسّماوة ، وارتبك ، فاتّهمه يزيد وأراد قتله ، فقال له عبد الجبار : أنت على قتلي إذا شئت قادر ، ولكن دعني أنم نومة فنام ثم انتبه ، وقد تجلّت حيرته فسمت بهم السّمت المصيب حتى نفد فقال شعرا :

ورهط من أبناء الملوك هديتهم

بلا علم باد ولا ضوء كوكب

ولا قمر إلّا ضئيل كأنّه

سوار جلاه صانع السّور مذهب

على كل خرجوج كأنّ ضلوعها

إذا حلّ عنها الكور أعواد مشجب

٤٢٢

قوله : (ولا ضوء كوكب) : يعني أنّ الكواكب غمّت في القتام فهداهم بالقمر ثم أخبر أنّ (القمر أيضا ضئيل) لما دونه من القتام ، فكأنّه في تلك الحالة (سوار مذهب).

وذكر ابن الأعرابي وهو يعد أدلّاء العرب في الإسلام ، فقال : هم ثلاثة فذكر رافعا وعبد الجبار وزاد في شعره :

تفرّ فرار الشّمس ممّن وراءنا

ونمسي بجلباب من اللّيل غيهب

فإلا تصبح بعد خمس ركابنا

سليمان من أهل الملاء تناوب

قوله : (نفرّ فرار الشّمس) يريد أنا نتوجه إلى المغرب كما تغرب الشّمس.

وجعل الثالث منهم خالد بن دثار الفزاري دليل ابن فزارة على بنات قين حين قتلت كليبا. وقال أبو ذؤيب : يشبّه النّجوم بالوحش وهو يذكر امرأة :

بأطيب منها إذا ما النّجوم

تعانقن مثل توالي البقر

وقال آخر :

وردت وأرادف النّجوم كأنّها

مهاة علت من رمل يبرين رائبا

وقال ذو الرّمة يشبّه الوحش بالكوكب شعرا :

كأنّ بلادهنّ سماء ليل

تكشّف عن كواكبها الغيوم

وقال آخر :

وردت وآفاق السّماء كأنّها

بها بقر أقناؤه وهراقبه

الهراقب : المسان شبه الكبار بالهراقب ، والصّغار بالأقناء. وقال ابن كناسة وفي الاهتداء بالنّجوم يقول الشاعر :

نؤمّ بآفاق السّماء وترتمي

مغانيها ـ أرجاء دواية قفر

وقال أبو حنيفة قول الشاعر :

رأت غلامي سفر بعيد

يدرعان اللّيل ذا السّدود

إما بكل كوكب جريد إنّما اختص الفرد الحريد لأنّ الجماعة يتغيّر حالها في المطالع والمغارب والمجاري فتلتبس ، وضبط السّير بالحريد أسهل ، ومن لم يكن مدرّبا بمعرفة أعيان الكواكب التبس عليه الحريد أيضا إذا تغيّر مكانه.

٤٢٣

وروي عن شيخ من العرب أنّه سرى برفيق له فتعب ، فقال لرفيقه : هذا الجدي جداه كثيرة فلم أدر أيّها هو ، ولذلك قال الآخر شعرا :

بصباصة الخمس في زوراء مهلكة

يهدي الأدلّاء فيها كوكب وحد

وقال الفرزدق يهجو عاصما العبدي ، وكان أدلّ العرب وأعرفهم بالنّجم وأقدمهم على هول اللّيل باللّيل ، وأراد أن يضلّ الفرزدق ويقتله غشّا وذاك أنّه استصحبه إلى المدينة ليلقى سعيد بن العاص ، ورغبه في جعله ، فلما ركب الفلاة أراد أن يغتال الفرزدق ليحظى به عند زياد ويحبوه ويعطيه ، فلما كانا في اللّيل وأمعنا في السّير انتبه الفرزدق فإذا النّجم على غير الطريق ، فصاح بالعنبري إنّك على غير الطريق ، فانتبه فقال : أنت على الطريق ، ناولني إداوتك فإنّي عطشان وخبّأ اداوته ، فقال الفرزدق : والذي أحلف به لتموتنّ قبلي ، وشهر السّيف عليه فأقامه على الطّريق ، وعرض لهما الأسد على الطّريق ، فقال العنبري هذا الأسد على الطّريق ، فأناخ الفرزدق ناقته وأخذ سيفه وجحفته وأقبل إلى الأسد وهو يقول :

فلأنت أهون من زياد شوكة

اذهب إليك محزّم الشّغار

فتنحّى الأسد عن الطريق ومضيا ، فقلب الفرزدق هذا المعنى كله ونسب العنبري إلى الجبن وأنه ليس بالخرّيت راع لا يصلح إلّا لرعي الغنم وطعن في نسبه. فقال شعرا :

ما نحن إن جارت صدور ركابنا

بأوّل من عزّت هداية عاصم

أراد طريق العنصلين فياسرت

به العيس في ناي الصّوى متشايم

(العنصلين) على طريق مكة ، (وياسرت) : أخذت يسارا و (المتشايم) الآخذ إلى الشام ، قال : وسمعت فصيحا يقول : توصّلوا أتوا الموصل فأسقط الميم.

فكيف يضلّ العنبريّ ببلدة

بها قطعت عنه سيور التمائم

أي لو كان عنبريا لعرف بلاده.

فإنّ امرؤ ضلّ البلاد التي بها

تغبّر ثديي أمّه غير حازم

(تغبّر) : أي أتم رضاعه ، والغبر بقية اللّبن.

بلاد بها ذلّت يديه ورأسه

ورجليه من جار استها المتضاجم

يعني (بالجار) الفرج وأصل (الضّجم) العوج في شفتي الرّجل.

شعر :

ولو كان في غير الفلاة خنوعا

خنوعا بأعناق الجداء التّوائم

٤٢٤

أي لو كان في رعي الجداء لأحسن رعيها وأخذها بأعناقها ففصلها عن أمهاتها.

شعر :

وكنت إذا كلّفت صاحب ثلة

سرى اللّيل دنا أم فروج المخارم

(الثّلة) : القطيع من الشّاء و (الثّلة) الجماعة من الناس و (دنا) قصر و (الفروج) الطّرق.

رأى اللّيل داغول عليه ولم يكن

يكلّفه المعزى عظام المجاشم

(الغول) الموت ومنه غالته غول.

أنخنا بهجر بعد ما وقد الحصى

وذاب لعاب الشّمس فوق الجماجم

ونحن بذي الأرطي يعيس ظماؤنا

لنا بالحصى شربا صحيح المقاسم

أي ليس فيه ضيم ، أي لا يفضل فيه أحد على أحد.

شعر :

فلما تضاما في الإداوة أجهشت

إلى غضون العنبري الجراضم

(تضافى غضونه) عروق حلقه وثنيه ، و (الجراضم) الشّديد الأكل ، ويروى : فلمّا تصافنا الإداوة ، و (التّصافن) : التّقاسم على الماء عند قلّته وضيقه في المفاوز.

وجاء بجلمود له مثل رأسه

ليسقي عليه الماء بين الصّرايم

تشنّع عليه بهذا لأنّ المقلة حصاة صغيرة يقسم عليها.

فضاق عن الأثفية القعب إذ رمى

بها عنبريّ مفطر غير صائم

يريد أنّ (القعب) لم يسع الجلمود لعظمه.

ولمّا رأيت العنبريّ كأنّه

على الكفل حرّان الضّباع القشاعم

أي المسان ، وقيل الضّبع لا صبر لها على العطش.

صدى الجوف يهوي مسمعاة قد التظى

عليه لظى يوم من القيظ جاحم

(جاحم) : شديد ، يهوي أي يجدد ما في رأسه من العطش.

شددت له أزري وخضخضت نطفة

لصديان يرمي رأسه بالسّمائم

أي تحيات لأوثره على نفسه خوفا من أن يموت.

٤٢٥

وقلت له ارفع جلد عينيك إنّما

حياتك بالدّهنا وحيف الرّواسم

أمر صاحبه أن يشمّر للسّير أي حياتك في قطع الطّريق.

شعر :

عشيّة خمس القوم إذ كان فيهم

بقايا الأداوي في النّفوس الكرائم

فآثرته لمّا رأيت الذي به

على القوم أخشى لاحقات الملاوم

حفاظا ولو أنّ الإداوة تشترى

غلت فوق أثمان عظام المغارم

على ساعة لو كان في القوم حاتما

على جوده ضنّت بها نفس حاتم

وكان كأصحاب ابن مامة إذ سقى

أخا النّمر العطشان يوم الضّجاعم

(الضّجاعم) : من منازل الفرزدق ، شبّه الفرزدق بنفسه بكعب بن مامة الإيادي لما آثر العنبري على نفسه ، وذلك أن كعبا نزل بموضع يقال وهب أو وهبين وقد اتّقد القيظ ، وكان صديقه ورفيقه النّمري في سفرته فعطش القوم فاقتسموا وكاد النّمري يهلك عطشا ، فقال لساقي القوم : اعط أخاك النّمري يصطبح ، فجعل له الماء صبوحا لعزّه ، وإنما يكون الصّبوح في اللّبن والنّبيذ ، ثم أعاد القوم القسم فنظر كعب إلى النّمري قد غلبه العطش ، ودارت عيناه في رأسه ، فقال لصاحب القسم : اعط أخاك النّمري يصطبح ، فآثره بشربته ، ثم ثلّث السّاقي فآثره ، وارتحل القوم ، فلما ركبوا الفلاة أناخ كعب ناقته وقال : يا قوم النّجاء ألا ماء معكم فإنّي أحسّ الموت ، فمات كعب وارتحل أصحابه ، ومعهم نجيبته وسلاحه ومتاعه فأوردوه أهله فقال أبوه وقد كتم بعض الخبر شعرا :

أمن نطف الدّهنا وقلة مائها

ذوات الرّمال لا يكلّمني كعب

فلو أنّني لاقيت كعبا مكسرا

بأنقاء وهب حيث ركبها وهب

لآسيت كعبا في الحياة التي ترى

فعشنا جميعا أو لكان لنا شرب

وقال فيه :

ما كان من أحد أسقى على ظمأ

خمرا بماء إذا ناجودها بردا

من ابن مامة كعب ثم عى به

زوء المنيّة إلا حرة وقدا

يروى وقذا فيه :

وفى على الماء كعب ثم قيل له

يا كعب إنّك ورّاد فما وردا

ويروى ورد كعب. وأما التّعاقب بها فمنه قول الفرزدق شعرا :

أقول لمغلوب أمات عظامه

تعاقب أدراج النّجوم العوائم

٤٢٦

ستدنيك من خير البريّة فاعتدل

سأقل نصّ اليعملات الرّواسم

و (تعاقب النّجوم) : أن يوقّت القوم لمقدار مسيرهم وقتا فتلك عقبتهم ، فإذا قضوها ودخلوا في غيرها من أمثالها فتلك عقبة ثانية ، فإن دام ذلك منهم فذلك تعاقب أدراج الكواكب ، ومن ذلك سمّوا الطّريق مدرجة ، ومن هذا قول الرّاجز يخاطب ناقته :

سامي سمامات النّهار واجعلي

لفلك ادراج النّجوم الأفل

ويقال للكوكب الذي يعاقب به : معقب. فقال ذو الرّمة يذكر المطايا ودوام سيرها :

إذا اعتقبت نجما وغاب تسحّرت

علالة نجم آخر اللّيل طالع

جعل السّير سحورا لها في الآخر ، كما جعلها غبوقا لها في الأوّل. وقال الرّاعي وذكر إبله :

أرى إبلي تكالأ راعياها

مخافة جارها طبق النّجوم

(تكالأ) : تحارس وقوله : (طبق النّجوم) أي اللّيل كلّه فتكالؤها طبق النّجوم وهو درج النّجوم. ومن هذا قول الآخر :

ولا العسيف الذي يشتدّ عقبة

حتى يبيت وباقي نعله قطع

وقال بعضهم :

فأصبحن لا يتركن من ليلة السّرى

لذي الشّوق إلّا عقبة الدّبران

كأنهم جعلوا لمدى سراهم طلوع نجوم معلومة ، وكان الدّبران آخرها ، فقضوا عقب تلك النّجوم كلّها إلّا عقبة الدّبران ، فإنّهم قطعوا السّير حين بلغوه ، وكان المشتاق يهوى ألّا يقطعوه وقال حميد بن ثور شعرا :

قد لاحه عقب النّهار وسيره

بالفرقدين كما يلاح المسعر

٤٢٧

الباب السادس والأربعون

في صفة ظلام اللّيل واستحكامه وامتزاجه

قال النّضر : سدف اللّيل : ظلماؤه وستره ، وقد أسدف علينا اللّيل أي أظلم ، وقال غيره : السّدف والسّدفة بقيّة من سواد اللّيل في آخره مع الفجر. وقال الأصمعيّ : السّدف الظّلمة. قال العجّاج : وأقطع اللّيل إذا ما أسدفا. والسّدف : الضوء أيضا. قال أبو داود :

فلمّا أضاءت لنا سدفة

ولاح مع الصّبح خيط أنارا

وقال الدّريدي : كلّ العرب يسمّي الظّلمة سدفا إلّا هوازن فإنّها تقول : أسدفي لنا أي أسرجي لنا ، فكأن السّدفة عندهم اختلاط بياض الصّبح بباقي سواد اللّيل وذلك عند سائر العرب (الغطاط والغبش) بقية من سواد اللّيل في آخره والجميع أغباش. قال ذو الرّمة :

أغباش ليل تمام كان طارقه

تطخطخ حتّى ماله جوب

ويقال : غبش اللّيل وأغبش.

ويقال : غسا اللّيل غسوا وغسي غسّا ، وأغسى اللّيل أيضا إذا أظلم. ويقال لمن أراد السّفر اغس من اللّيل شيئا ثم ارتحل أي أقم ساعة.

ويقال للظّلمة والآمر غير الرّشيد عشوة وعشوة وعشوة وتعشّيتني أوطأتني عشوة ، وأعشينا دخلنا في الظّلمة ، والعشواء بمنزلة الظّلماء ، ويقال : هو في عشواء من أمره.

و (الغطش) السّدف وقد أغطش اللّيل وغطش أيضا.

وأغسينا : أمسينا. قال الأصمعي : أغسى اللّيل وغسى يغسى وغسا يغسو ، غسوا ، وهو مساؤه واختلاطه. وحكى أبو بكر الدّريدي عن الأصمعي قال : قلت لأبي عمرو أتقول غس اللّيل يغسي؟ فقال : سمعت أعرابيا منذ ستين سنة ينشد :

كأنّ اللّيل لا يغسى عليه

إذا زجر السّبنداة الأمونا

٤٢٨

وهذا من غسى يغسى ، وسمعت بعد ذلك لسنين منشدا ينشده شعرا :

فلمّا غسي ليلي وأيقنت أنّها

هي الأرباء جاءت بأمّ حبو كرا

فهذا من غسى يغسو. ثم سمعت رويتكم ينشد. (ومر أيام وليل مغس) فهذا من غسى يغسى.

ويقال : ليل دامس : وهو الأسود الذي ألبس كلّ شيء وقد دمست ليلتك تدمس دموسا. وأنشد :

لو كنت أمسيت طليحا ناعسا

لم يلق ذا رواية درابسا

يسقى عليها أغنما خوامسا

يحتاب موماة وليلا دامسا

وشركا من الطّريق دارسا

يحمل سوطا أو وبيلا يابسا

(الوبيل) : الهراوة وأصل (الدّمس) : التّغطية. وأنشد الفرّاء عن الكسائي شعرا :

إذا ذقت فاها قلت علق مدمس

أريد به قيل فغودر في سأب

أراد (بالعلق) الخمر و (المدمس) المغطى و (القيل) الملك و (السأب) الزّق.

ويقال : غلسنا الماء أي أتيناه قبل الصّبح بسواد من اللّيل وجنوح اللّيل إذا ذهب معارف الأرض لظلامه.

وجنون اللّيل إظلامه ، ويقال : جنّ علينا اللّيل. النّضر يقال : تطخطخ اللّيل وأظلم في غيم وغير غيم إذا لم يكن فيه قمر ، فإن كان فيه قمر فجاء غيم وذهب بضوئه فقد تطخطخ أيضا ، وليلة طخياء ، وقد طخطخ اللّيل على فلان بصره أي تركه لا يبصر من ظلمته ، وتطخطخ بصر فلان : أي عمي.

ويقال : تدحرج اللّيل أيضا : وهو اختلاطه وظلماؤه كان فيه غيم أو لم يكن وتدحرجت الظّلماء وأنشد :

حتى إذا ما ليله تدحرجا

وانجاب لون الأفق البرندجا

ويقال : ليلة غدرة ومغدرة : بيّنة الغدر إذا كانت شديدة الظّلمة ، وفي الحديث : «المشي إلى المسجد في اللّيلة المغدرة يوجب كذا وكذا».

وليلة دامجة وليل دامج وخداري قال يعقوب : الخدارية الظّلماء الشّديدة السّواد البهيم ، ويقال : ليلتك هذه خدارية قال العجّاج :

وخدر اللّيل فيجتاب الخدر

٤٢٩

ويقال : غطا اللّيل يغطو إذا ألبس كل شيء. وكل شيء ارتفع فقد غطا. وكذلك : دجا اللّيل يدجو إذا ألبس كلّ شيء ، وتدجّى أيضا وأدجى. قال يعقوب : وليس هو من الظّلمة إنّما هو من الاشتمال. وقال الأصمعي : ودجا شعر الماعزة : إذا ألبس بعضه بعضا. وأنشدني أعرابي أبى مذ دجا الإسلام لا يتجنّف. وقال : وتدجّى بعد نور ، واعتدل ، وقال غيره : ليلة داجية سوداء. وأنشد في أدجى شعرا :

إذا اللّيل أدجى واستقلّت نجومه

وصاح من الإفراط هام جواثم

وقال نضر : الدّجى دجى الغيم وهو أن لا ترى قمرا ولا نجما ، لأنّ السّحاب يواريه ولا يكون الدّجى إلا باللّيل ، وهذه ليلة دجى ، وما زلنا نسير في دجى حتى أتيناكم أبو زيد غمى مثل كسلى إذا كان على السّماء غمى مثل رمى ، وغمّ وهو أن يغمّ عليهم الهلال ، وليل دجوجي قال:

وليل دجوجي تعسّفت هوله

بلا صاحب إلا الحسام المذكّر

(غيره) : ليلة مدلهمة : مظلمة ، وديجور وديجوج. والطّرمساء الظّلمة. يقال : أطرمس اللّيل أي أظلم. وقال الدّريدي : الطّرمساء تراكب الظّلمة والغبار. ومنه طرمس اللّيل وطرسم. ويقال : الطّلمساء أيضا. وأنشد في ليلة طخياء طرمساء. والطّرمسة والطّلمسة ومرّ طرمساء من اللّيل : أي قطعة عظيمة. وحكى أبو حاتم طرفساء أيضا.

والغيهب نحوه ، والعلجوم الظّلمة وكل شيء أسود. قال ذو الرّمة : ظلماء علجوم : أي التي لا ترى معها من سوادها شيئا. والمسحنكك الأسود ، والملطخم مثله ، الأموي ليلة غاضية شديدة الظّلمة. يقال : ليل طيسل : مظلم ، عن أبي عمرو ليل دحمس ، قال أبو نخيلة :

وادّرعي جلباب ليل دحمس

أسود داج مثل لون السّندس

(والغردقة) : إلباس اللّيل ، يقال : غردقت سترها إذا أرسلته ، وتأطم اللّيل ظلمته. (وليلة مطلخمّة) : وقد اطلخمّت علينا الظّلمة فما يبصر منها شيئا.

يقال : ليلة بهيم لا يبصر فيها شيء ، وليال بهم. والحندس : اللّيل الشّديد الظّلمة. يقال : حندس اللّيل وليال حنادس قال شعرا :

وليلة من اللّيالي حندس

لون حواشيها كلون السّندس

ويقال : ليلة طخياء : بيّنة الطّخاء ، وذلك إذا كان السّحاب بعد قمر ، فاشتدّت الظّلمة

٤٣٠

فطخا اللّيل ، وسرنا إليكم في ليال طخى ، قال الرّاجز :

وليلة طخياء ترمعل

فيها على السّاري نديّ مخضل

ترمعل : يسير يقال أرمعل دمعه : سال.

ويقال : ظلمة ابن جمير ، وفحمة ابن جمير : للّيلة التي لا يطلع فيها القمر.

قال : نهارهم ليل بهيم ، فإن كان بدرا فحمة ابن جمير رماهم بالتلصّص والتّغيب بالنّهار ، وقال ابن زهير :

وإن أغار فلم يحلى بطائلة

في ظلمة ابن جمير ساور القطما

قوله : لم يحلى : أتى بالفعل على التمام. وذكر بعضهم أنّ ابن جمير : اللّيل المظلم لاجتماع النّاس إلى منازلهم. وابن ثمير : اللّيل المقبل ، لأنّه يثمر انبساط النّاس للحديث وغيره من التّصرف. قال : وهذا من قولهم : هذا جمير القوم أي مجتمعهم وشعر مجمر أي مضغور ومجمور ، وأجمروا على الآلاء أي أجمعوا.

وليلة معلنكسة ؛ أي مظلمة ، وليلة ظلماء ديجور ، وهي الدّياجير أي الظّلمة وليل عظلم أي مظلم. قال :

وليل عظلم عرّضت نفسي

وكنت مشيّعا رحب الذّراع

ويقال : أغضن اللّيل وأغضى وأغضف وطلخم وادلهمّ وروق.

ويقال : أرخى رواقيه وسجوفه وسدوله.

وغسق اللّيل : ظلمته ، ومنه قول عمر حين غسق اللّيل على الضّراب أي انصبّ.

وسجو اللّيل إذا غطّى اللّيل النّهار ، ويقال : هو من التّسجية ، كقولك سجية بالثّور. قال:

يؤرّق أعلى صوتها كلّ فائح

حزين إذا ليل التمام سجالها

وحكى قطرب الغبس بعد الفحمة. وقال الخليل : هو لون الذّئب ، يقال : ذئب أغبس وليل أغبس ، وغبس اللّيل وأغبس. وعسعس اللّيل إذا أظلم وإذا أدبر.

قال قطرب : هي من الأضداد ، وحقيقة ذلك أنّها طرفاه ، فهذا ما ذهب عن معظمه.

وقال ابن عبّاس : واللّيل إذا عسعس أي أدبر. وقال علقمة :

حتّى إذا الصّبح لنا تنفّسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

٤٣١

وقال آخر :

وردت بأفراس عتاق وفيّة

فوارط في أعجاز ليل معسعس

وقال آخر :

قوارب من غير دجن مسسا

مدّرعات اللّيل لمّا عسعسا

والشّميط : بياض الصّبح في سواد اللّيل وهو عندنا مشبّه بالشّيب ، وقد قيل في الثّلاث من آخر الشّهر الدّادي ، ثم جعل دادي صفة لشدّة ظلمتهن كما قيل : حنادس ثم قالوا : أسود حندس.

ويقال : إنّ عليك ليلا أغضف ، وهو الذي علا كل شيء ، وألبسه ، وقد تغضف علينا اللّيل أي ألبسنا وأظلم علينا.

ويقال : إنّ عليك ليلا مرجحنا ، وهو المجلّل والملبس وقد أرحجن اللّيل.

وليل اثجل : أي واسع وليلة ثجلاء ، ويوم اثجل.

وعكمس اللّيل : أظلم ، وهو عكامس وعكمس متراكم الظّلمة كثيفها.

وأدلمس اللّيل : وليل دلامس : مظلم.

وحكى الدّريدي : طرشم اللّيل وطرمش أظلم ، وغطرش اللّيل بصره وغرطش : أظلم عليه.

والغيطل : اختلاط ظلمة اللّيل واختلاط أصوات النّاس واشتقاقه من الغطل : وهو تغطية الشيء ، يقال : غطلت السّماء يومنا وأغطلت إذا أطبق دجنها.

ويقال : أتانا حين وارى دمس دمسا وحين سد اللّيل كلّ خصاص ودارى كل جداد.

وأنشد :

واللّيل غامر جدادها دجا

حين قلت أخوك أم الذّئب

ويقال : ليل أدعج ، ويقال : التفت غياطل اللّيل ، واسحنكك عساكره وتلاحزت المسالك به ، وذلك تراكم الظّلمة ومعنى تلاحزت : تضايقت.

وشجيج لحز : أي ضيق. والفتل إظلام الأرض من النّخل والشّجر.

ويقال : غتل يغتل غتلا حكاه الدّريدي. وقال أبو مالك : السّديم الرّفيق من الضّباب.

وأنشد شعرا :

وقد حال ركن من أحيمر دونهم

كأنّ ذراه جلّلت بسديم

٤٣٢

والجنان ذكر بعضهم في أسماء اللّيل. وأنشد :

وساري جنان مقفعل بناته

رفعت بضوء ساطع فاهتدى ليا

يعني رجلا أقوى فاستنيخ فأوقد له نارا ليهتدي بها ، وقال غيره : جنان اللّيل ظلمته وأنشد:

ولو لا جنان اللّيل أدرك ركضنا

بذي الأثل والأرطي عياض بن ناشب

وحكى عمرو عن أبيه قال : سمعت أعرابيا يقول : ما زلت أتعسف الهولول حتى سطع الفرقان ، قلت : ما الهولول؟ قال : ظلمته. قلت : وما الفرقان؟ قال : الصّبح.

وحكى سلمة عن الفرّاء عن الكسائي قال : لم يسمع في الألوان فعلول إلّا هذا ، وحلكوك ، قال ثعلب : قلت : ذلك لابن الأعرابي فوافقه.

ويقال : أطم الدّجى وأقفل باب النّور بالظّلمة قال :

بدا لي كملتاح الجناحين والدّجى

مطم وباب النّور باللّيل مقفل

وقالوا : قسورة اللّيل : شدّته ، وقسوره ، وقال توبة بن الحمير : وقسورة اللّيل الذي بين نصفه وبين العشاء قد أذابت أسيرها ، وقيل في قوله تعالى : (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [سورة المدّثّر ، الآية : ٥١] إنّه الأسد ، وقيل : أريد به الرّماة وأنشد :

وقسورة أكتافهم في قسيّهم

إذا ما مشوا لا يغمزون من النّساء

ويقال : دبر اللّيل دبورا وأدبر فدبر : ذهب وأدبر ولّى ، وقيل : أدبر أخذ به في النّقص ، وكما قيل : دبر وأدبر بمعنى قبل قبل وأقبل. وقال ابن عباس : إنمّا هو واللّيل إذا دبر. فأما أدبر : فإنما يقال : أدبر : ظهر البعير وقرأه زيد إذا أدبر ، ويقال : دبرني أي جاء من خلفي.

٤٣٣

الباب السّابع والأربعون

في صفة طول اللّيل والنّهار ، وقصرهما وتشبيه النّجوم بها

ويقال : متح اللّيل وهو يمتح متحا إذا طال وكذلك النّهار.

ومنه قولهم : بيننا وبينهم كذا فرسخا متحا أي مدّا وفرس متاح مداد.

وسرنا في ليلة عكامسة وعكمسة أي طويلة ، حكاه أبو حاتم قال : ويقال : عكر عكامس أي كثير من الإبل.

ويقال : يوم اثجل أي واسع وليلة ثجلاء ، ومنه الثجل في الخاصرة وليل التّمام في الشّتاء أطول ما يكون اللّيل ، ويكون لكلّ نجم أي يطول اللّيل حتى تطلع النّجوم كلّها في ليلة واحدة. قال : وسمعت أبا عمرو يقول : إذا كان اثنتي عشرة ساعة فما زاد فهو ليل التّمام. وأنشد :

لقد طرقت دهماء والبعد دونها

وليل كأثناء اللّقاع بهيم

على عجل والصّبح تال كأنّه

بأدعج من ليل التّمام بريم

فجعل ليل التمام للطّويل من اللّيالي خاصة آخر.

كأنّ شميط الصّبح في أخرياته

ملاء تجلى عن طيالسة خضر

تخال بقاياها التي أسأر الدّجى

تمدّ وشيعا فوق أردية الفجر

ويقال : أغضب وهو انثناؤه وطوله واجتماعه وإقباله.

وحكي أنّ عليك ليلا أغضف ، قال العجّاج : فانغضفت بمرحجن أغضفا. (والمرحجن) : الطّويل الثّقيل ، وقال الدّريدي : ذكر أبو عبيدة أنّ المتلهب والمتمهل مثل المسجهر وهو امتداد اللّيل وغيره. وحكى ثعلب عن رجاله قالوا : ليل التّمام في الشّتاء أطول ما يكون لكل نجم طويل أي يطول اللّيل حتى تطلع النّجم كلّها وقال أبو عمرو

٤٣٤

الشّيباني وحده إذا كان ظلمته خالصة فهو الخيط الأسود ، وإذا خلص ضوؤه فهو الخيط الأبيض. والبريم والشّميط إذا اختلط ، وفي القرآن : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٧].

وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال : ما كان من الأجسام والمعاين من الأشياء فهو التّمام بالكسر الفصيح العالي ، ويجوز التّمام بالفتح وما كان من الكلام والأفعال وما شاكلها فهو التّمام بالفتح لا يجوز غيره ، يقال : ليل التّمام والتّمام وقمر التّمام والتّمام وولدته للتمام والتمام. فإذا جئت إلى الأفعال والكلام قلت : تمّ الكلام تماما ، وتمّ الأمر تماما ، وإذا أردت أنّ القمر تمّ في نفسه قلت : تمّ تماما وتم النّهار تماما وتمّ اللّيل تماما. وقال الأصمعيّ : لا يكسر التاء منه إلا في الحمل واللّيل وما يجري مجرى المثل طال عليّ اللّيل ولا أسب له أي لا أكن كالتّسبّي فأستطيله يدعو لنفسه أن لا يبتلي بما يطيل اللّيل عليه.

الأصمعي شهر المليساء أطول الشّهور عليهم ، وأتعبها لهم ، ويكون على أثر الصّفريّة وهو نجمان السّماك والغفر ، فهم يشتغلون في أيام المليساء بأنفسهم ومواشيهم ومسيرهم ، لأنّهم يحتاجون إلى إعداد المثاوي والبيوت ومأوى الإبل والغنم والعنز والحظائر ، والضّرب في الأرض استعدادا للشّتاء.

وحكى الدّريدي : اجرهد النّهار أو اللّيل طال ، واجرهد بالقوم السّير : إذا امتدّ بهم ظلام وشدة. وأنشد :

وليلة داجية طخياء

حالكة الإهاب والرّداء

يضرب بالذّاهب وجه الجائي ابن المعذل :

أقول وجنح الدّجى ملبّد

وللّيل في كلّ فجّ يد

ويقال : عجبت من سرع ذلك الوقت ، ومن سريحه في اللّيل والنّهار جميعا قال : فيقولون : أدرك يومك أو ليلتك بربغة أي : بجنة وحدثانة ، وهذا كما يقال : اتق النّاقة بجن ضراسها أي بحدثان نتاجها وسوء خلقها ، ويدخل في هذا الباب قول الشّاعر :

يكون بها دليل القوم نجم

كعين الكلب في هبى قباع

يعني أنّ الكوكب بالظّلام تعصّب وبالقتام انتقب ، فليس يظهر منه إلّا شفا وشبهه بعين الكلب : لدوام إغضائه واتّصال نعاسه. والهبي جمع هاب وهو الذي حال دونه الهباء. والقباع : الدّواخل في الظّلام.

ويقال : قبع القنفذ إذا أدخل رأسه في قرونه قبوعا ، وعلى هذا يقولون : تخاوصت

٤٣٥

النّجوم وتخازرت. أبو تمام :

إليك هتكنا جنح ليل كأنّه

قد اكتحلت منه البلاد بإثمد

أبو نواس :

أبن لي كيف صرت إلى حريمي

ونجم اللّيل مكتحل بغار

فأمّا تشبيه النّجوم فبابه واسع إلا أنا نذكر منه ما يستحسن من شعر القدماء أو يستغرب من ذلك قول مهلهل :

أليلتنا بذي جسم أنيري

إذا أنت انقضيت فلا تحوري

فإن يك بالذّنائب طال ليلي

فقد أبكى من اللّيل القصير

وأنقذني بياض الصّبح منها

لقد أنقذت من شرّ كبير

كأنّ كواكب الجوزاء عوذ

معطفة على ربع كسير

كأنّ بنات نعش ثانيات

وفرقدهنّ مجتنب الأسير

تتابع مشية الإبل الزّهارى

لتلحق كلّ تالية غيور

وتحنو الشّعريان إلى سهيل

يلوح كقمّة الجمل الغرير

كأنّ الغدرتين مكفّ ساع

ألحّ على تمايله ضرير

كأنّ التابع المسكين شيخ

يزجّي أعنزا خلف الوقير

كأنّ النّجم إذ ولّى سحيرا

فصال جلن في يوم مطير

كأنّ الفرقدين يدا مغيض

يكبّ على مقاسمة الجزور

كأنّ مجرة النّسرين نهج

لكل طريقة تحدى وغير

وعارضهنّ ناحية سهيل

عراض مجرّب شكس غيور

كأنّ الجدي جدي بنات نعش

يكبّ على اليدين كمستدير

كأنّ المشتري حسنا ضياء

بنيق قاهر من فوق قور

وقال مضرس بن لقيط :

وليل يقول القوم من ظلماته

سواء بصيرات العيون وعورها

كأنّ لنا منه بيوتا حصينة

مسوحا أعاليها وساجا كسورها

قال ابن هومة :

وبنات نعش يبتدرن كأنّها

بقرات رمل خلفهنّ جاذر

والفرقدان كصاحبين تعاقدا

تالله تبرح أو تزول عتائر

والجدي كالرّجل الذي ما إن له

عضد وليس له حليف ناصر

٤٣٦

وتزاور العيّوق عن مجداته

كالثّور يضرب حين عاف الباقر

وترفّع النّسران هذا باسط

يهوي لسقطته وهذا كاسر

والنّطح يلمع والبظين كأنّه

كبش يطرده لحتف ثائر

والحوت يسبح في السّماء كسبحه

في الماء وهو بكل سبح ماهر

وكواكب الجوزاء مثل عوائد

تمرى لهنّ قوادم وأواخر

وكأنّ مرزمها على آثارها

فحل على آثار شول هادر

وتعرضت هادي السّعود كأنّها

ركب تأوّب بطن تبع مائر

وبدا سهيل كالشّهاب مشبه

راع على شرف العرينة ساير

وبدت نجوم بين ذاك كأنّها

درّ تقطّع سلكه متناثر

وقال أبو الأشهب الأسدي :

ولاحت لساريها الثّريا كأنّها

لدى الأفق الغربيّ قرط مسلسل

قال الهيثم بن عدي : قال لي صالح بن حسان : أنشدني أحسن بيت قيل في الثّريا ، قال قلت : بيت عبد الله بن الزّبير الأسدي رضي‌الله‌عنهما :

وقد خرم الغرب الثّريا كأنّها

به راية بيضاء تخفق للطّعن

قال : أريد أحسن من هذا ، قلت بيت امرئ القيس :

إذا ما الثّريا في السّماء تعرّضت

تعرّض أثناء الوشاح المفصّل

قال : أريد أحسن من هذا ، قلت بيت ذي الرّمة :

وردت اعتسافا والثّريا كأنّها

على قمة الرأس ابن ماء محلّق

قال : أريد أحسن من هذا ، قلت : بيت يزيد بن الطّثريّة

إذا ما الثّريا في السّماء كأنّها

جمان وهي من سلكه فتبدّدا

قال : أريد أحسن من هذا ، قلت : قول أبي قيس بن الأسلت :

وقد لاح في الصّبح الثّريا لمن يرى

كعنقود ملاحية حين نوّرا

وقال الفرزدق :

كليل مهلهل ليلى إذا ما

تمنّى اللّيل ذو الليل القصير

تهامى كأنّ شآميات

جنحن لجانبيه إلى الغثور

كأنّ اللّيل يعطفه علينا

ضرارا أو يكرّ إلى نذور

٤٣٧

كأنّ نجومه ليل تثنّى

لأزهر في مباركه عقير

وكيف بليلة لا نوم فيها

ولا ضوء لساريها منير

وأنشد المبرّد :

إذا ما الثّريا في السّماء تعرّضت

يراها الحديد العين سبعة أنجم

على كبد الجرباء وهي كأنّها

جبيرة درّ ركبت فوق معصم

(الجبيرة) : الدستبنج العريض وشبه ابن الرّومي الثّريا فقال : وذكر شعر امرأة :

يغشى غواشي قرونها قدما

بيضاء للنّاظرين معتذره

مثل الثّريا إذا بدت سحرا

بعد غمام وحاسر حسره

فأخذه ابن المعتز فقال :

وأرى الثّريا في السّماء كأنّها

قدم تبدّت من ثياب حداد

وقال كعب الغنوي في الجوزاء :

وقد مالت الجوزاء حتّى كأنّها

فساطيط ركب بالفلاة تزول

ولابن المعتز :

كأنّما الجوزاء في أعلى الأفق

أغصان نور أو وشاح من ورق

وله :

كأنّ نجوم اللّيل في فحمة الدّجى

رءوس مدار ركّبت في معاجر

وله :

كأنّ سماءنا لمّا تجلّت

خلال نجومها عند الصّباح

رياض بنفسج خضل نداه

تفتّح بينها ورد الأقاحي

وله :

ورنا إلي الفرقدان كما رنت

زرقاء تنظر من نقاب أسود

وله :

تظلّ الشّمس ترمقنا بلحظ

مريض مدنف من خلف ستر

٤٣٨

تحاول فتح غيم وهو يأبى

كعنّين يحاول فضّ بكر

آخر :

ما ذقت طعم النّوم لو تدري

كأنّ جنبي على جمر

في قمر مسترق نصفه

كأنّه مجرفة العطر

وآخر :

والبدر يأخذه غيم ويتركه

كأنّه سافر عن خدّ ملطوم

وقال امرؤ القيس :

نظرت إليها والنّجوم كأنّها

مصابيح ركبان تشبّ لقفّال

وقال محمد بن يزيد بن مسلمة :

لمّا تراءى رخل

ذات عشاء فمتع

وأخمس النّسرين شخص

الرّدف بالحمل الذّرع

أطار نسرا واقعا

وطائر النّسر يقع

فردا ووافى سيره

وسار هذا اقشع

وعن سعد ذابح

يتبعه سعد بلع

وسعد سعد بعده

يسعد سعد ذو تبع

دافع ذا ذاك وذا

دافع هذا فاندفع

أما مهار أم إذا

أعرق في فوق نزع

يتلو نعاما واردا

وصادرا حيث سكع

يطير ما طردن فإن

وقعن في الأرض وقع

وعقرب يقدمها

كليلها حيث دسع

لها مصابيح دجى

تحكي مصابيح البيع

يتلو الزّبانى فإذا

جد بها السّير طلع

ووارن الكفّ التي

فيها خضاب قد نصع

قال الدّليل عرّسوا

فليس في صبح طمع

هذا ظلام راكد

ما للسّرى فيه نجع

والعيس في دويّه

تعمل فيها وتدع

ممتدة أعناقها

للورد عن غبّ التّسع

فإنّها سفائن

يولج في الموج الدّفع

٤٣٩

فقلت سدّد قصدها

لا كنت من نكس ورع

أما ترى غفر الزّبا

نى ساجدا أو قد ركع

وقبل ذاك ما لحا

ضوء السّماك فخشع

وانتشرت عوّاؤه

تناثر العقد انقطع

حتّى إذا الكبش ارتعى

رغاؤه ثمّ نقع

تتابع الخيل جرت

فيها مذك وجذع

يعيد في خافاتها

هينمة ثم سطع

شعر :

كلمعة البرق اليما

ني إذا البرق لمع

أو سلّة السّيف انتضى

سلته القين الصّنع

في نقبه ينسجها

بيضاء ما فيها لمع

وانهزمت خيل الدّجى

تركض من غير فزع

والصّبح في أعراصها

يخبّ طورا ويضع

فقلت إذ طار الكرى

عن العيون وانقشع

لمّا بدا في رحله

نشوان من غير جرع

ليس المذكّي سنة

في الحرب كالغمر الضّرع

قال أبو الحسن العلوي الأصبهاني :

كأنّ سهيلا والنجوم أمامه

يعارضه راع وراع قطيع

إذ قام من ربائه قلت راهب

أطال انتصابا بعد طول ركوع

قال آخر :

فإذا كانت الشّعرى العبور كأنّها

معلق قنديل عليه الكنائس

ولاح سهيل من بعيد كأنّه

شهاب ينجيه عن الرّيح قابس

وقال آخر :

سريت على الجوزاء وهي كأنّها

شمائل رقاص تميل مناطقه

قال محمد بن عبد الملك :

كأنّ كواكب الجوزاء لمّا

سئمت تعرضت بالمنكبين

أخو حرب تقلّد قوس رام

وقلّد خصره بقلادتين

٤٤٠