كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

على أن تكون نجوم اللّيل مفعول تبكي ، يقال : باكيته فبكيته ، أبكيه ويكون من أفعال المبالغة ، كأنّ الشّمس تغالب في البكاء النّجوم والقمر فتغلبها وأفعال المبالغة تجيء في الماضي على فاعلته أفعله بضم العين ، يقول : طاولته فطلته أطوله ، إلّا ما كان من بنات الياء ، فإنّه يحامي على الياء منه لئلا يختلط بنات الياء ببنات الواو. هذا الباب المعتمد فيه على السّماع فاعلمه. وقال الطّرمّاح شعرا :

فإني وإيّاكم وموعد بيننا

كيوم لبيد يوم فارق أربدا

يريد : أنّ يومنا ويومكم ويوم ميعاد بيننا كيوم لبيد ، والأجود في تفسير البين أن يكون المصدر لا الظرف. وقوله : يوم فارق العامل فيه معنى الفعل الذي دلّ عليه قوله : يوم لبيد لأنّه يريد به الشّدة والصّعوبة. وأخبره أنّ السّبيل ثنية صعودا ينادي كلّ كهل وأمردا ، صعود فمن يعمل يلمع به اليوم بأنها ، ومن لا يلهي بالضّحاء فأوردا. أربد أخو لبيد مات فقال :

وأرى أربد قد فارقني

ومن الأرزاء رزء ذو جلل

والمعنى ؛ فجعت بكم وأنا أتبعكم فما الخلق فيما كتب من آجالهم إلّا سابق ولا حق ، على ذلك نحن ومن تقدّمنا في تواعدنا ، والسّبيل يريد به سبيل الموت وأنّ الاقدام تتساوى فيه فمن دعي أجاب ، وقوله : فمن يلمع به الصّعود يأتها ، يريد إذا أشارت إليه أولا ، وهذا كما قال أوس : أشاربهم لمع الأصم. وقوله : ثنية صعود يريد أنّها عقبة شاقة. وقوله : ومن لا يلهى بالضّحاء ، وضع الماضي موضع المستقبل أراد ومن لا يلمع به في أوّل النّهار يلمع به من بعد ، والضّحاء للإبل وهو وقت الغذاء للناس ، يريد به قرب ما بين الأحياء والأموات في الموت ومثل قوله : ومن لا يلهى به في حذف الشّرط منه قول الآخر :

والّا يقيموا صاغرين الرّؤسا. لأنّ المعنى : الّا تقيموا تقيموا كما أنّ التقدير في هذا لا يلمع به يلهى. وقوله : فأوردا. في موضع الجزم لأنّه معطوف على من لا يلهى. والمعنى من لم يتله فيورد وفيه وجه آخر. قال زهير :

إنّ الرّزية لا رزية مثلها

ما يبتغي غطفان يوم أضلّت

(لا رزية) : مثلها في موضع الصّفة للرّزية وما ينبغي في موضع الخبر.

شعر :

إنّ الرّكاب ليبتغي ذا مرّة

بجنوب نخل إذا الشّهور أحلّت

يعني : إذا انقضت الأشهر الحرم. وقال آخر :

وباد الشّباب ولذّاته

وما كان للدّهر الأخلّا

٥٠١

أي أكلها أكل الحشيش وفي طريقته قوله : فلست خلاة لمن أوعدن. قال حميد بن ثور :

أتنسى عدوّ إسار نحوك لم يزل

ثمانين عاما قبض نفسك تطلب

وتذكر سرداحا من الوصل باقيا

طويل القرى أنضبته وهو أحدب

تقعّدته عصرا طويلا أروضه

يلين وينبو تارة حين أركب

أراد بالعدو الدّهر ، والسّرداح الطّويل من الإبل ، ضربه مثلا للعيش الذي قضاه قوله : يلين وينبو أي : يأتي مرة بالبؤس ومرة بالنّعم. قال آخر :

وصاحب المقدار والرّديف

أفنى ألوفا بعده ألوف

يعني بالرّديف النّجوم التي تتعاقب ، يقول : يعاقبها على مرّ الدّهور لا يبقي أحدا. أنشد أبو العبّاس :

أجدّك لن ترى بثعيلبات

ولا بيداء ناجية ذمولا

ولا متدارك والشّمس طفل

ببعض جوانب الوادي حمولا

قال لك : إن تقول ما زيد قائما ولا قاعدا ، ولا قائم ولا قاعد. من رفع توهّم أنّ الأول مرفوع. وكذلك الخفض ، ولو خفض الأوّل جاز في المنسوق عليه ثلاثة أوجه. وكذلك لو كانت صفة قلت ما زيد خلفك ولا محسن ولا محسنا ولا محسن ، يتوهّم أنّ المقدّم فعل ويجوز ما زيد بقائم ولا بقاعد ، وأنشد : بطعنه لا غس ولا بمعمر. وأنشد الكسائي : أما ترى حيث سهيل طالعا.

قال : رفع حيث وأضافها وخفض بها ، وإذا خفض بها فينبغي أن ينصب ووجه الكلام عبد الله حيث زيد نصبت حيث ، وأضفتها. وأنشد للنابغة شعرا :

تبدو كواكبها والشّمس طالعة

لا النور نور ولا الإظلام إظلام

قيل : أراد شدّة الأمر بقوله : تبدو كواكبه كما قال : ويريه النّجم يجري بالظّهر. وكما يقال : لأرينك الكواكب ، وقيل بل أراد لمعان السّيوف وبريق البيض ذهبا بظلمة الغبار. وإنّ الغبار غطّى الشّعاع السّاطع منهما ، فلذلك حال كلّ عن المعهود. وأنشد أبو الحسن عن يونس :

إذا أنا لم أو من عليك ولم يكن

كلامك إلا من وراء وراء

وراء من أسماء الزّمان. قال الشّعر مرفوع. وقد جوّز فيه غير وجه منها الضّم فيها ويكون الثّاني بدلا من الأوّل ، وقد جعل غايته وجوّز إلّا من وراء وراء يريد ورأى فحذف ياء

٥٠٢

الإضافة ، وترك الكسرة عليها ، وتكون الثانية بدلا أو تكريرا ويكون من وراء وراء على أن يجعل وراء معرفة فلا يصرفها للتأنيث والتّعريف ، وتكون الثانية تكريرا وروى ابن حبيب عن أبي توبة إلا وراء وراء أضاف وراء إلى وراء فجرّه للإضافة ووراء المضاف إليه بني على الضّم مثل تحت ودون ويجوز إلّا من وراء وراء تضيف وراء الأول إلى الثّاني. وقد جعلته لا ينصرف للتأنيث والتّعريف ، ووراء الأوّل التّقدير فيه الإفراد كما يقدّر في سائر ما يضاف. قال زهير شعرا :

لعب الرّياح بها وغيّرها

بعدي سوافي المور والقطر

القطر : لا يسفي. فقال الأخفش : هذا الباب يشير إلى مثل قوله :

متقلد أسفا ورمحا

وعلفتها تبنا وماء باردا

وقول جرير شعرا :

تبيّن في أنف الفرزدق لؤمه

يقبّح ذاك الأنف أنفا ومشفرا

كلّه إنما جاز بإضمار فعل آخر كأنه قال : وحاملا رمحا وسوافي المور ، وصوب القطر وقال:

ما كان مثلك يستخفّ لنظرة

يوم المطيّ لغربة مر حول

وهذا مثل أتيتك زمن الحجّاج أمير. وقال حميد الأرقط :

فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم

وليس كلّ النّوى يلقى المساكين

قال سيبويه : أضمر القصّة أو الأمر وقدم مفعول الخبر ، وهذا لا يجوز لو لم يكن فيه إضمار كأنّه قال : وليس الأمر كلّ النّوى يلقى المساكين ، لأنّه لا يلي ليس ولا كان ما يعمل فيه فعل آخر ، لا يجوز أن يقول : كانت زيدا الحمى تأخذ فيفرق بين كان واسمها بمفعول غيرها ، ولو كان مفعولها لجاز كقولك : كان زيد قائما لأنّ قائما مفعول كان. وأنشد سيبويه لعمر بن أبي ربيعة شعرا :

معاوي إنّنا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

وقال : هذا مما يجري على الموضع لا على الاسم الذي قبله لأنّ المعنى فلسنا جبالا ولا حديدا. وقيل : إن سيبويه دسّ هذا البيت لأنّ القصيدة مجرورة ، وفي هذا كلام. وقال آخر :

فأوّه لذكراها إذا ما ذكرتها

ومن بعد أرض بيننا وسماء

٥٠٣

من قولك : أوّه وأراد من بعد أرض ، ومن بعد سماء ، فجعله للصّفتين ونحوه قول القطامي:

ألم يحزنك أنّ جبال قيس

وتغلب قد تباينت انقطاعا

يريد : وجبال تغلب. وقال النّابغة الجعدي شعرا :

غدا فتيا دهر وراحا عليهم

نهار وليل يكثران التّواليا

وإنمّا يغدو واحد ويروح آخر ، ويجوز على هذا أن يقول : غلامان قد طبخا خبزا وأحدهما طبخ والآخر خبر. وقال آخر :

تعلمنّ والله ما أبالي

تعود عند آخر اللّيالي

أراد أن يقول : أخرى اللّيالي ، وهو وجه الكلام. وقال جرير شعرا :

مطاعيم الشّتاء إذا استحنّت

وفي عرواء كلّ صبا عقيم

قال ابن الأعرابي : استحنّت بفتح التاء بمعنى حنّت يعني الشّمال ، وقال عمارة : بضم التاء ، وقال : أراد استحنّ الشّتاء الشّمال أي هيّجها ، والشّمال : مستحنّة فلذلك روى استحنّت.

سبقنا العالمين بكلّ نجم

وبالمستمطرات من النّجوم

وقوله : وليست يعني النّجوم وأضمر لأنّ في الكلام دليلا عليه. وقال جرير شعرا :

يأوي إليك فلا منّ ولا جحد

من ساقت الضّيع الحصا والذّئب

فاعل يأوي من ساقت ، وأراد بالضّيع الحصا السّنة الجدبة لا نبت فيها ، قوله : والذّئب يريد أنّ الذئب تطمع في الناس لضعفهم. وروي أنّه سئل السّنة : أي الجدب ما عوانك ، فقال : الحرب والذّئب. وقال الفرزدق شعرا :

يداك يد ربيع النّاس فيها

وفي الأخرى الشّهور من الحرام

أراد في إحدى يديك ربيع النّاس ، يعني إنّه يغنيهم ، والأخرى كالأشهر الحرم يعني عقد جوارح ، فأخرج الكلام كما ترى. وأنشد ثعلب :

ولعلّ خيرا منك قرما ماجدا

ضحّاك ساعات النّجوم سميدع

٥٠٤

يعني طلاقة وجهه في الجدب إذا خوت النّجوم ، واللّفظ على ما يشاهد وفي طريقته قال شعرا :

قفار إذ العام المسمّى تزعزعت

بشيفائه هوج الرّياح العقائم

قوله : المسمّى. يعني المشتهر بصفاته. وأنشد للعجّاج أو رؤبة :

كأنّه لو لم يكن حمارا

بهنّ تالي النّجم حيث غارا

يجوز أن يكون المراد بقوله : بهنّ بطردهنّ فحذف المضاف ، ويجوز أن يريد كأنّه باجتماعه معهنّ ، ويكون في الباء تقديران : أحدهما : أن يكون العامل فيه ما في كان من معنى الفعل ، أي يشبه العير تطرده الأتن تالي النّجم ، والآخر : أن تعلقه بكان أي لو لم يكن حمارا بطردهنّ أو بالاجتماع معهنّ ، والمعنى أنّ كونه حمارا يمنعه أن يكون كتالي النّجم على الحقيقة ، وإن كان كونه خلفها ، يطردها ككون الدّبران خلف الثّريا وقال : مرّت على آثارها دبرانها. يشبه هذا ما أنشده أبو زيد. كوني بالمكارم ذكّريني. قولهم زيدا ضربه ، وزيد ليقم ، فبالمكارم متعلّق بذكّريني فكأنّه قال : أنت ذكرتني فرفع أنت بالابتداء ثم دخل الفعل عليه ، ويشبهه قول الجميح : إن الرّياضة لا ينصبك للشّيث. فإن قلت : بيت الجميح أحسن في القياس أو ما أنشده أبو زيد ، قيل : جهة قياسهما في الارتفاع بالابتداء واحد. وقوله : لا ينصبك أحسن من كوني بالمكارم ذكريني لأنّ قوله ذكرتني يدل على كوني ، ونظيره قولهم : كان زيد قام ، وقد أجازه النّحويون إجازة حسنة وزعموا أنّ أخوات كان ليس في ذلك لكان والله أعلم.

٥٠٥

الباب السّادس والخمسون

في ذكر الكواكب اليمانية والشّامية وتميز بعضها عن بعض وذكر ما يجري مجراه من تفسير الألقاب.

واعلم أنّ القوم لمّا أرادوا تميز الكواكب قسموا الفلك قسمين ، وسمّوا أحد النّصفين جنوبيّا ، وهو الذي يلي الجنوب ، وسمّوا النّصف الآخر شماليّا وهو الذي يلي الشّمال ، وسمّوا كلّ ما وقع في النّصف الجنوبي من البروج والكواكب جنوبيّة ، وسمّوا ما وقع في النّصف الشّمالي من البروج والكواكب شماليّة ، وسمّت العرب تلك الشّمالية شاميّة ، والجنوبية يمانية ، والمعنيان واحد ، لأنّ مهبّ الشّمال عندهم من جهة الشّام ، ومهبّ الجنوب من ناحية اليمن ولذلك جعلوا ما بين رأس الحمل إلى رأس الميزان من البروج شاميّة. وجعلوا ما بين رأس الميزان إلى رأس الحمل من البروج يمانية. وكذلك جعلوا ما بين الشّرطين من المنازل إلى السّماك شاميّة ، وجعلوا ما بين الغفر إلى الرّشاء يمانية. فكلّ كوكب مجراه ما بين القطب الشّمالي إلى ما بين مدار السماك الأعزل أو فويقه قليلا فهو شاميّ ، وكلّ كوكب مجراه دون الفلك إلى ما يلي القطب الجنوبي فهو يماني. والنّسران أحدهما الطّائر والآخر الواقع وهما شاميّان. فأما الواقع فهو منير ، وخلفه كوكبان منيران ، يقولون : هما جناحاه ، وقدّامه كواكب يقال لها : الأظفار. وأمّا الطّائر فهو إزاء الواقع ، وبينهما المجرّة ، ولا يستتر إلا خمس ليال. وأمّا قول ذي الرّمة شعرا :

يحبّ امرؤ القيس العلى أن ينالها

وتأبى مقاريها إذا طلع النّسر

فإنّما يذمّهم بأنهم لا يطعمون في الشّتاء ، والمقاري الجفان.

قال أبو حنيفة : وكذلك مدار الكوكب الذي تسميه العرب : الفرد وهو قريب من الفصل بين شاميّ الكواكب ويمانيّها. وقول عمر بن أبي ربيعة في سهيل بن عبد الرّحمن : وتزوّجه الثّريا العبلية من بني أميّة ، يضرب لهما كوكبي سهيل والثريّا مثلا فقال :

٥٠٦

أيّها المنكح الثّريا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان؟

هي شاميّة إذا ما استقلّت

وسهيل إذا استقلّ يمان

وقال آخر في نعت سهيل إذا طلع صباحا :

أراقب لمحا من سهيل كأنّه

إذا ما بدا من آخر اللّيل يطرف

وقيل : هو كوكب ذكر نكاح ، حريص عليه ، وربما طلع في اللّيلة الواحدة مرّتين ، ويغيب مرّتين. ويقال : غيبته بعد طلوعه لدنوّه من كوكبتيه وصاحبتيه.

وحكي عن بعض علماء العرب : النّظر إلى سهيل يشفي من البرسام ، ولذلك يقول مالك بن الرّيب :

أقول لأصحابي ارفعوني فإنّني

يقرّ بعيني أن سهيل بدا ليا

ويقال : سهيل أشفق الكواكب على الغرباء وأبناء السبيل ، وبين رؤية سهيل بالحجاز وبين رؤيته بالعراق بضع عشرة ليلة ، وقالت الهند : إذا نظر ناظر إلى سهيل عند نهيق الحمار وبه صداع عوفي. من خرافات العرب : أنّ سهيلا طلع بأرض العراق وقابل الزّهرة ، فضحكت إليه وقالت : ألست الذي يقال فيك إنّك كنت عشارا فمسخك الله شهابا ، عقوبة لك؟ فأجابها وقال : ليس كلّ ما يقوله النّاس حقا ، فقد قالوا فيك : إنّك كنت امرأة فاجرة فمسخك الله كوكبا مضيئا يحكم في خلقه.

فأمّا معرفة الشّرقيّ من الكواكب والغربي فيجب أن تعلم أنّ الكواكب إذا كانت خلف الشّمس بخمس عشرة درجة فهي شرقية في ذاتها إلى ما تباعدت. وإذا كانت قدّام الشّمس بخمس عشرة درجة فهي غربيّة في ذاتها إلى ما تباعدت. والكوكب الشّمالي إذا جاز رأس جو زهرة إلى أن يبلغ ذنبه ، والجنوبي إذا جاز ذنب جو زهرة إلى أن يبلغ إلى رأسه.

وأمّا معنى اقتران الكوكبين فهو مسامتة أحدهما الآخر ، لأنّ أحدهما أعلى من صاحبه ، وفلكه خلاف فلك الآخر ، فيسامت أحدهما صاحبه فيحاذيان موضعا واحدا من ذلك البرج ، ويتحرّكان على سمت واحد ، فيراهما النّاظر مقترنين لبعدهما من الأرض ، وبين أحدهما وصاحبه في العلو بعد كثير فبهذه العلّة صار اقتران الكوكبين ، وهذا كما يقال : البروج المتصادفة إذا اتفقت في جميع الجهات ، كالبروج النّارية مثل الحمل ـ والأسد ـ والقوس ـ والجوزاء ـ والميزان ـ والدّلو. والبروج المتعادية : وهي المتضادة في كل وجه كالحمل ـ والسّرطان ـ لأنّ أحدهما ناري والآخر مائي. ومن هذا النوع قولهم : البروج الجامعة إذا دلّت على صلاح الحال. والبروج المبدّدة إذا دلّت على التّبديد والبروج

٥٠٧

المعطية : تدل على اليسار والإحسان. والبروج الآخذة تدل على خلافه ومما يبيّن ما ذكرناه في سهيل قوله :

إذا ما نجوم اللّيل آضت كأنّها

هجاين يطلعن الفلاة صوادر

شآمية إلّا سهيلا كأنّه

فنيق غدا عن شوله وهو جافر

ألا ترى أنّه جعل يمانيا إذ كان مداره في شق اليمن. وجعل الثّريا شآمية إذ كان مدارها في شق الشّمال. وقال آخر في سهيل :

فمنهنّ إدلاجي إلى كلّ كوكب

له من عماني النّجوم نظير

فجعله عمانيا إذ كان مجراه في ذلك الشّق ، كما جعل الأول يمانيا وفي معنى قوله : فنيق غدا عن شوله وهو جافر. يقول الآخر شعرا :

وقد لاح للسّاري سهيل كأنّه

قريع هجان يتبع الشّول جافر

شبّه في انفراده بفحل انقطع عن الضّراب فتنحّى عن الإبل وتركها. وقال آخر :

إذا سهيل لاح كالوقود

فردا كشاة البقر المطرود

فهذا يريد وبيصه وشعاعه وانفراده كما قال غيره يريد التّهيّج ، قال شعرا :

حتى إذا لاح سهيل بسحر

كعشوة القابس ترمي بالشّرر

وقال آخر يصف ثور وحش :

فبات عذوبا للسّماء كأنّه

سهيل إذا ما أفردته الكواكب

العذوب : القائم الذي لا يطعم. وقال آخر في انفراده :

من يك ذا مال يكاشر لماله

وإن كان أنأى من سهيل الكواكب

يعارض عن مجرى النّجوم وينتحي

ويسري إذا يسرين غير مصاحب

وقال آخر يصف رفقاء تجمّعوا :

وفتية غيد من التّسهيد

نبتهم من مهجع مورود

والنّجم بين الغمّ والتّعريد

إذا سهيل لاح كالوقود

فردا كشاة البقر المطرود

ولاحت الجوزاء كالعنقود

كأنّها من نظر ممدود

بالأفق انظامان من فريد

الإنظام : القلائد ينظم فيها ، والفريد : الشّذر ، وإذا نظرت إلى الجوزاء وهو على الأفق

٥٠٨

فتأملت نظمها رأيتها أشبه شيء بما وصف. وهذا من حسن التّشبيه ، وهذا كما شبّهوا الكوكبين المتدانيين اللّذين على منطقة الجوزاء بالعذبة ، والعذبة في اللغة طرف السّوط ، وما أرسل من شراك النّعل ، وكذلك عذبة العمامة والغصن ، والعذبة الطّرادة أيضا. وكما قال بعضهم : راية السّماك يعني رمحه ، ويسمى السّماك وحده حارس السّماء ، لأنّه يرى أبدا لا يغيب تحت الشّعاع فلا طلوع له ولا غروب.

٥٠٩

الباب السّابع والخمسون

في ذكر الفجر ـ والشّفق ـ والزّوال ومعرفة الاستدلال بالكواكب وتبيين القبلة

روي عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٧] قال : عمدت إلى عقالين أحدهما أبيض ، والآخر أسود ، فجعلتهما تحت وسادي ، فلما تقارب مرّ اللّيل جعلت أنظر إليهما فلم يتبيّن لي شيء ، فلمّا أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فضحك وقال : «وسادتك إذن لعريض اللّيل والنّهار ، إذن تحت وسادتك إنّما ذلك اللّيل والنّهار».

وروي عن عليّ رضي‌الله‌عنه أنّه صلّى الفجر ركعتين ثم جلس على مجلس له ثم قال : هذا حين تبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

واعلم أنّ الفجر فجران : أحدهما قبل الآخر : فالفجر الكاذب يستدقّ صاعدا في غير اعتراض ، ويسمى ذنب السّرحان لدقته ، ولا يحلّ شيئا ولا يحرّمه ، وإنّما يؤذن بقرب النهار. وقال الخليل : الفجر ضوء الصّباح وقد انفجر الصّبح ، والفجر المعروف منه. يقال : ما أكثر فجره وفي التّنزيل : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [سورة البقرة ، الآية : ٦٠] لأنّ الحجر كان يفجر منه الماء في اثني عشر موضعا عند نزولهم ، فإذا ارتحلوا غارت مياهها. والفجر الثّاني : هو الصّادق والمصدّق ، قال أبو ذؤيب يذكر الثّور والكلاب شعرا :

شغف الكلاب له الضّاريات فؤاده

فإذا يرى الصّبح المصدّق يفزع

وإنما قال : يفزع لأنّه وقت القائض الفجر الثّاني هو المستطير المنتشر الضّوء ومع طلوعه يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال أبو داود :

فلمّا أضاءت لنا سدفة

ولاح من الصّبح خيط أنارا

وقال آخر :

نميت إليها والنّجوم شوابك

تداركها قدّام صبح مصدّق

٥١٠

والصّبح ـ والصّباح ـ والإصباح واحد. وفي التّنزيل : (فالِقُ الْإِصْباحِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٦] والصّبيح : الحسن الوجه. وكذلك الصّبحان ، وقد صبح صباحة والحق الصّابح البيّن ، وقد صبح الحق يصبح صبحا. والمصباح السّراج وكما قيل : وجه صبيح قيل أيضا وجه مسرج. قال : وفاحما ومرسنا مسرجا.

وكذلك الشّفق شفقان : أحدهما قبل الآخر ، ومثالهما من أول اللّيل مثال الفجرين من آخره ، فالأول هو الأحمر وإذا غاب حلّت صلاة العشاء الآخرة. والثّاني : هو الأبيض والصلاة جائزة إلى غروبه وهو يغرب في نصف اللّيل وآخر أوقات العشاء الآخرة نصف اللّيل.

والزّوال : يشار به إلى ما دلّ الله تعالى عليه بقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٨] ودلوك الشّمس : غروبها وزوالها ، فدلّ بالدّلوك على صلاة الظّهر ، وعلى صلاة المغرب ، ودلّ بقوله : إلى غسق وهو الظّلام على صلاة العشاء الآخرة. وقال تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٨] وهي العصر ، وجعلها الوسطى لأنّها بين صلاتين في النّهار وصلاتين في اللّيل. وقال تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٨] فدلّ على صلاة الصّبح. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي الظّهر إذا دحضت الشّمس. يراد إذا زالت ، وأصل الدّحض الزّلق وذاك أنها لا تزال ترتفع حتى في جوّ السّماء فتراها تقف شيئا ثم تنحطّ ، فحينئذ تزول وتحول الظّل من جانب إلى جانب ، ويسمّى فيئا. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّني جبرائيل مرّتين فصلّى الظّهر حين مالت الشّمس قيد الشّراك ، وصلّى العصر وظلّه مثله ، وصلّى المغرب حين رفعت الشّمس وصلّى العشاء حين غاب الشّفق ، وصلى الصّبح حين طلع الفجر ، فلما كان الغد صلّى الظّهر وظلّه مثله ، وصلّى العصر وظلّه مثلاه ، وصلّى المغرب حين رفعت الشّمس ، وصلّى العشاء حين ذهب ثلث اللّيل ، وصلّى الغداة فأسفر بها وقال : الوقت ما بين هذين». ويروى أنّه قال : إنّ الصلاة فيما بينهما. فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مالت الشّمس قيد الشّراك : يريد أنّها زالت ، فصار للشخص فيء يسير قدر الشّراك ، وليس يكون هذا في كل بلد إنما يكون في البلد الذي يتنقل فيه الظّل عند الزّوال ، فلا يكون فيء أصلا.

وقال الرّاجز :

إذا زقا الحادي المطيّ اللّغبا

وانتقل الظّل فصار جوربا

وقال ابن مقبل وذكر فرسا :

يبني على حامييه ظلّ حاركه

يوم توقّده الجوزاء مسموم

٥١١

والحاميان : جانبا حافره. والحارك : فروع كتفيه وإذا قام ظلّ كل شيء تحته صار ظل الحارك على حاميي حافره ، فالحجاز وما يليه يتنقل فيه الظّل ، فأما البلد الذي تزول فيه الشّمس ، وللشّخص ظلّ فإنّه يعرف به قدر الظّل الذي زالت عليه ، فإذا زاد عليه مثل طول الشخص فذاك آخر وقت الظّهر ، وأوّل وقت العصر ، فإذا زاد عليه مثلا طول الشّخص فذلك آخر وقت العصر ، على ما روي في الحديث. فأمّا قول الشّاعر :

إني على أوني وانجراري

أؤمّ بالمنزل والدّراري

فالأون : الرّفق والانجرار : سير الإبل وعليها أحمالها وهي ترعى وأؤم : يريد أقصد بمنازل القمر وكبار الكواكب فأهتدي. وقال ذو الرّمة وذكر الإبل :

تياسرن عن جري الفراقد في السّرى

ويا منّ شيئا عن يمين المغاور

يعني : أنّهن قصدن وسطا فيما بين الفرقدين وبين المغاور ، وهي المغارب وذلك أنّ ابتداء المغارب قريب من منحدر بنات النّعش وقال لناقة :

فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلّها

يمينا ومهوى النّسر من عن شمالك

فإنما يصف سمت جهة وأجراها أنّه يريد في مسيره ما بين منحدر النّسر للمغيب وبين الفرقدين ، فإذا أردت الاهتداء بالنّجوم فاعرف البلد الذي تؤمّه وفي أي أفق هو ، فإن كان في ناحية المشرق كخراسان وما صاقبها ، استقبلت منازل الشّمس والقمر ، إن كان مسيرك ليلا والسّماء مضحية وجعلت الجدي وبنات النعش على يسارك والشّعريين وسهيلا عن يمينك ، وإن كنت في ناحية المغرب استدبرت منازل القمر وجعلت الجدي ، وبنات نعش وراءك والشّعريين وسهيلا عن يسارك. وإن كان في ناحية اليمن جعلت منازل القمر على يمينك وجعلت الجدي وبنات نعش أمامك ، وسهيلا وراءك ، فإذا أنت فعلت ذلك فأنت على سمت الوجه الذي تريد إن كنت على الطّريق غير راجع ولا جائز وإن كان مسيرك ليلا والسّماء غائمة استدللت أيضا بالمشرق والمغرب ، فإن اشتبها عليك استدللت على المشرق بنسيم الصّبا وروحها ، فإنّها تأتي من ناحيته وعلى المغرب بريح الدّبور وحرّها في الصّيف.

وأمّا القبلة فالاستدلال عليها بالجدي : وذلك أن تجعله حذاء منكبك الأيمن ، أو أخدعك ، وإن كان مسيرك نهارا ، فبالشّمس ، فإنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة المسافر.

وقال محمد بن كناسة : إذا سقط منزل من منازل القمر بالغداة عند نوئه فعدّ منها سبعة أنجم على موالاة العدد ، فالسّابع هو القبلة إلى أن يسقط العقرب. فإذا سقطت العقرب فالنّعائم قبلة. والبلدة بعد تلك السّاعة قليلا قبلة. ثم يعود الحساب فإذا سقط سعد الذّابح فالحوت قبلة وهو السّابع. ومثال ذلك أنّه إذا سقط الشّرطان كان السّابع منه الذّراع وهو

٥١٢

القبلة. وإذا سقط البطين فالنّثرة قبلة. وإذا سقطت الثّريا فالطّرف قبلة. وإذا سقطت الدّبران فالجبهة قبلة. وإذا سقطت الهقعة فالزّبرة قبلة ، وإذا سقطت النّثرة فالسّماك قبلة ، وإذا سقط الطّرف فالغفر قبلة ، وإذا سقطت الجبهة فالزّباني قبلة. وإذا سقطت الزّبرة فالإكليل قبلة ، ثم يقع الشّك في القبلة عند سقوط الصّرفة ـ والعوّاء ـ والسّماك ـ والغفر ـ والزّباني ـ والإكليل ـ والقلب ـ والشّولة ـ والنّعائم ـ والبلدة.

وذلك لأنّ العقرب تسقط جميعا فلا يستقيم الحساب على سبعة أنجم ، غير أنّه إذا سقطت العقرب كلّها كانت النّعائم قبلة. ثم البلدة قبلة والقبلة قريب منها. ثم يسقط سعد الذّابح فيكون رأس الحوت قبلة. وهو مذموم بالكف الخضيب ويرجع الحساب إلى السّابع. وقال ابن كناسة في ذلك وذكر طريق مكة ، قال شعرا :

يوم النّجوم السّابعات من الّتي

تأوّب إلا أن تأوّب عقرب

فإن هي آنت فالنّعائم آبها

وبلدتها ثم السّوابع أصوب

قال : وكواكب العقرب أربعة : منازل تطلع في الأوقات التي بيّنت وتسقط كلّها في وقت واحد.

فصل

في صرف القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

ذكر الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٥] قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية فأتتهم ضبابة ، فصلّوا لغير القبلة ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يأمرهم بالإعادة ، وكانوا يصلّون نحو بيت المقدس فنزلت : فأينما ولّوا فثم وجه الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبرائيل : «وددت أنّ ربي جلّ جلاله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها» ، فقال جبرائيل : إنما أنا عبد مثلك ، فادع ربّك وسله ثم ارتفع جبرائيل وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديم النظر إلى السّماء رجاء أن يأتيه بالذي سأل ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٤] الآية. قال : فنسخت هذه الآية ما كان من الصّلاة قبلها نحو بيت المقدس ، قال : وكانوا يصلّون نحو صخرة بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، بعد أن قدم المدينة ثم حوّل إلى الكعبة إلى الميزاب قبل بدر بشهرين.

وروي عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الذين ماتوا وهم يصلّون إلى البيت المقدس فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣] وذكر سعيد بن المسيب أنّ قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٠] هم أهل القبلتين.

٥١٣

واعلم أنّ الذي لا غنى لمؤمن عنه ولا يتم إيمانه إلا به هو : العلم بأنّ الله ليس بناسخ مديحه ، ولا حسن الثناء عليه ، ولا أسماءه الحسنى ، ولا ما أضيف من الصّفات العلى إليه ، ولا ينسخ شيئا من أخباره عمّا كان أو يكون ، لأنّ نسخ المديح ذم وتقبح ونسخ الأسماء الحسنى إثبات الأسماء السوأى ، ونسخ الصّفات العلى إيجاب للصّفات السّفلى ، ونسخ الأخبار انصراف المخبر من الصّدق إلى الكذب وعن الحق إلى الهزل واللّعب. وهذا من جوّزه على الله تعالى فيما مدح به نفسه ، وأخبر به عباده الحد في أسمائه والله تعالى يقول : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٠] يقول أيضا : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١١٥] وهذا كاف ، والاقتصار عليه واجب ، لأنّ الكتاب لم يوضع لذلك فاعلمه إن شاء الله تعالى.

٥١٤

الباب الثّامن والخمسون

في معرفة أيام العرب في الجاهلية وما كانوا يحترفونه ويتعايشون منه وذكر ما انتقلوا إليه في الإسلام على اختلاف طبقاتهم.

اعلم أنّ احتراف العرب في الجاهليّة وقرب الإسلام على وجوه خمسة : قود الكتائب ـ وجرّ الغارات ـ وشنّها على القبائل حين كان الزّمان من عزيز ـ وأخذ الرؤساء منهم المرباع ـ وما يجري مجراه من الصّفية والفضول والنّشيطة ، وصنوف الاحتكام منهم. ثم الوفادات على الملوك في فكّ الأسرى ـ وحقن الدّماء وحمل الدّيات ـ وإصلاح ذات البين وغيرها ، ثم ترقيح (١) العيش من ظهور الإبل وبطونها ونتاج الخيل ، ثمّ غراس النّخل ـ لذلك روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة».

وروي أيضا : الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة» إلى كثير تركناه لشهرته ، كقوله صلى الله عليه وسلم : «ارتبطوا إناث الخيل ، فإنّ ظهورها حرز وبطونها كنز». وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخيل تعدو بأحسابها فإذا كان يوم الرّهان عدت بحدود أربابها» وكقوله : «جعل رزقي في أطراف الأسنة» يعني من الغزو ، ثم طبقة العسفاء والجمّالين وهذه حرفة يرغب عنها كرامهم وصرحاؤهم فهذه وجوه مكاسبهم ، ومعالم حرفهم عليها تدور أزمنتهم قبل الإسلام وبها شافهت ما داناه.

ثم صارت في الإسلام على أربع طبقات :

الأولى : مهاجرون يقبضون الدّواوين ويحفظ بهم البيضة فيغزون الثّغور ويقاتلون العدو. حكي عن جعفر بن محمد قال : قال علي رضي‌الله‌عنه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخير في السّيف والخير مع السّيف والخير بالسّيف».

والثانية : مقيمون يعتملون سوارح الإبل وروائحها ، ويتبعون مساقط الكلام ، ومدافع المطر ، ويكرّون عواملهم إلى الأمصار والكور ويتواردون الأرياف وجوانبه الخضر.

__________________

(١) في القاموس ترقيح المال صلاحه والقيام عليه. ١٢ محمد شريف الدين.

٥١٥

والثّالثة : طبقة مقيمة في مياهها ومحاضرها ومرابعها ومزالفها ، راضية من العيش بما يحفظ عليهم التّجمل وينفي عنهم التقشّف والتّبدل ، فيتّجرون فيما يعتنون جلبا ، وينقلون ما به يقضون أربا.

والرّابعة : العسفاء والأجراء ويروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الخيل العراب تراث أبيكم إسماعيل فاقتنوها واركبوها ، وكان أول من ركبها إسماعيل وبنوه ، وكانوا اثني عشر رجلا يسمّون الفوارس». قال أسد بن مدركة منتميا في شعره إلى إسماعيل عليه‌السلام.

أبونا الذي لم يركب الخيل قبله

ولم يدر شيخ قبله كيف يركب

وعوّدنا فيما مضى من ركوبها

فصرنا عليها بعده نتلقّب

لعمرك ما عمّاي شمر ويبهس

ولكنّما عمّاي بكر وتغلب

فإن يك أقوام أضاعوا آباءهم

سفاها فما ضلّت ربيعة أكلب

وروي عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ هذه الخيل كانت وحشا في الفلوات ، لها أجنحة في مواضع أكتافها» قال : وكان في دور العجم مثل خلق الخيل صورا لها كالأجنحة في مواضع أكتافها تسمّى بالفارسية درواسف وتفسيرها بالعربية ذو الأجنحة من الخيل ، فلم أعرف معناه حتى سمعت هذا الحديث ، قال ثم ذللت لاسماعيل وكانت معه في جرهم فلمّا توفّاه الله عادت وحوشا إلى مواضعها ، حتى جاء زمن داود فذلّلت له ثم ورثها سليمان ، وكان يعجب بها وهي التي ذكرها الله تعالى في قوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) [سورة ص ، الآية : ٣١] وكان أصحاب النّخل أكثر دعة وأرفع عيشا ، وأندى جنابا وأحضر نفرا من أرباب الإبل ، إذ كانت الإبل أشدّ امتهانا لأهلها وابتذالا لمتخذيها مع ما يلحقها عند سقوط الغيث ، ونبات البقل ، ودرور الألبان من الفارة والنّدود والشّرود مع الكلف اللّاحقة من لوازم الرّعاء والتّحفظ من الحزابة والسّلة ومع ما ينالها في شهب السّنين من السّواف وسائر العاهات ، وفي استقبال بارد الرّياح من الأدواء المهلكة ، وتلحقها من عدوة السّباع الضّارية ، حتى أنّ ربّها يمسي غنيا مكثرا ويصبح فقيرا مدقعا.

والخيل ثلاثة أصناف : فمنها ملوك الخيل التي لا تجارى ، وهي تسبق بعنقها وكرمها وحسبها مع حسنها وتمام خلقها واستوائها وهي الرّوابع. والصّنف الثّاني المضامير : وهي سباع الخيل المتعالية اللّحوم ، وخلقتها غير خلقة الأولى لكنها أخفّ وأرقّ منها. والصّنف الثّالث : ضباع الخيل قوّية شديدة تحمل الزّاد والمزاد في السّهل والجبل ، وهي الغلاظ الشّداد ، مع جودة الأنفس ، لأنّ الغليظ أحوج إلى شدّة النّفس من غيره.

٥١٦

وقال أبو داود الإيادي يصف الجواد من الخيل بصفة جامعة يستغنى بها عن تخصيص المفردات بما يحمد منها :

وقد أغروا بطرف هيكل ذي ميعة سكب

ذو ميعة ؛ أي جري سائل ، وكذلك السّكب ، ويقال : فرس سكب وبحر وحت.

أسيل سلجم المقبل لا شخت ولا جأب

السّلجم : الطويل والشّخت : الدّقيق ، والجأب : الغليظ يريد أنه بين وصفين.

طويل طامح الطّرف إلى مفزعة الكلب

يريد أنه يسمو بطرفه إلى حيث يفزعه الكلب من الصّيد إذا طلبه.

مسح لا يواري العير منه عصر اللهب

اللهب : شق في الجبل أي من إشراقه يراه ، وإن كان مستسرا فيه بشيء.

مكر سبط العذرة ذي عفو وذي عقب

العذرة : شعر النّاصية ، والعقب : آخر الجري.

كشخص الرّجل العريان فعم مدمج العصب

العصب : إدماج الخلقة.

له ساقا ظليم خاضب فوحى بالرّعب

الخاضب : الذي قد رعى الرّبيع.

وقصري شبح الإنسان بناح من الشّعب

الشّعب : الملتوية القرون.

ومتنان خطانان كزحلوق من الهضب

الزّحلوق : الأملس وكذلك الزّحلوف.

يهزّ العنق الأجرد في مستأمق الشّعب

الأجرد : يريد به المحكم الأمر.

من الحارك مخشوش بجنب مجفر رحب

٥١٧

أي أدخل : في الجنب. والجفر : الواسع.

ترى فاه إذا أقبل مثل السّاق الجدب

السّلق : الأرض المتجرّدة من النّبات.

نبيل سلجم اللّحيين صافي اللّون كالقلب

القلب : السّوار.

جواد الشّدّ والإحضار والتّقريب والعقب

عريض الخدّ والجبهة والصّهوة والجنب

يخد الأرض خدّ الصّمل سلط وأب

الصّهوة : مقعد الفارس ، والصّمل : الشّديد من الحوافر ، والوأب : التّعب.

صحيح النّسر والحافر مثل الغمر القعب

له بين حواميه نسور كنوى القسب

القسب : التمر الرّديء.

وأرساغ كأعناق ضباع أربع غلب

والمستفرغ : الميعة بعد النّزع. والجذب : الميعة النّشاط.

يعني الخاضب الأخرج في ذي عمد صهب

وعير العانة القب الحماص النّحص الحقب

يزين البيت مربوطا ويشفي قرم الرّكب

فبهذه الصفات وما يشبهها يختار جياد الخيل. وقال مرار بن منقذ يفضّل النّخل على سائر ما يحترف منه إذا أخرج الحقوق منها ، قال شعرا :

كأيّن من فتى سوء تراه

يعلك هجمة حمرا وجونا

يضنّ بحقها ويذمّ فيها

ويتركها لقوم آخرينا

وإنّك لن ترى إبلا سوانا

وتصبح لا ترين لنا لبونا

فإنّ لنا حظائر ناعمات

عطاء الله ربّ العالمينا

طلبن البحر بالأذناب حتّى

شربن جمامة حتّى روينا

تطاول محزمي صددي أشتى

بوائك لا يبالين السّنينا

كأنّ فروعها في كلّ ريح

جوار بالذّوائب ينتصينا

٥١٨

بنات الدّهر لا يحفلن محلّا

إذا لم تبق سائمة يقينا

يسير الضّيف ثم يحلّ فيها

محلا مكرما حتى يبينا

فتلك لنا غنا والأجر باق

فغضّى بعض لومك يا ظعينا ب

نات بناتها وبنات أخرى

صواد ما صحين وقد روينا

ولأحيحة بن الجلّاح في مثله :

لقد لامني في اشتراء النّخيل

قومي فكلّهم يعذل

وأهل الذي باع يلحونه

كما عذل البائع الأوّل

هو الظلّ في الصّيف حقّ الظّليل

والمنظر الأحسن الأجمل

تغشى أسافلها بالجنوب

ويأتي حلوبتها من عل

وتصبح حيث تبيت الرّعاء

وإن ضيّعوها وإن أهملوا

ولا يصبحون يبغونها

خلال الملا كلّهم يسأل

فعمّ لعميكم نافع

وطفل لطفلكم يؤمل

وقال كعب بن زهير يذمّ الغنم ، وقد اتّخذ مالا ومعيشة ، شعرا :

يقول حيّان من عوف ومن جشم

يا كعب ويحك لم لا تشتري غنما

من لي منها إذا ما جلبة أزمت

ومن أويس إذا ما أنفه رذما

أخشى عليها كسوبا غير مدّخر

عاري الأشاجع لا يشوي إذا ضغما

إذا تولّى بلحم الشّاة نبّذها

أشلاء برد ولم يجعل لها وضما

إن يغد في شيعة لا يثنه نهر

وإن غدا واحدا لا يتّقي الظّلما

وإن أغار فلا يحلى بطائلة

في ليلة ابن جمير ساور العظما

إذ لا يزال فريش أو مغيبة

صيداء تنشج من دون الدّماغ دما

الكسوب : يعني به الذّئب. لا يشوي : أي لا يصيب غير المقتل وقوله : لا يثنيه نهر : أي نهار ، يقال : ليلة نهرة أي مضيئة. وقوله : في شيعة : يعني أصحابه من الرّباب ، وابن جمير : أظلم ليلة في الشّهر ، وهي التي لا يطلع القمر فيها من أولها إلى آخرها. والعظم : السّخال التي قد فطمت. يقول : جاء يطلب الكبار فلما لم يجدهنّ ساور الصّغار. والمغيبة : التي قد دنت من الموت ، وفيه بقية. والصّيداء : التي قد التوت عنقها وتنشج : أي ما لها نشج وصوت من الدّم.

قد ذكر بما اقتصّ كيف كان أصل خيل العرب ، فأمّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان له خمسة أفراس : الظّرب ـ والسّكب ـ واللّزار ـ واللّجاف ـ والمرتجز ، سمّي به لحسن صهيله.

٥١٩

ثم خيل أصحابه كان لجعفر بن أبي طالب فرس أنثى يسمّى سبحة يقال اسمها سمحة ، وكان عرقبها يوم استشهد وهو أول من عرقب الخيل في الإسلام ، كانت تحته يوم استشهد في غزوة مؤتة. ولحمزة بن عبد المطلب فرس من بنات العقال قال فيه شعرا :

ليس عندي إلّا السلاح وورد

فارح من بنات ذي العقال

أتّقي دونه المنايا بنفسي

وهو دوني تغشى صدور العوالي

وفي هذا ألمّ بقول الآخر :

أقيه بنفسي في الحروب وتقي

بها دية إنّي للخليل وصول

وكان تحت الزّبير بن العوام يوم بدر فرس يسمّى اليعسوب. وتحت المقداد بن الأسود فيه فرس يقال له : ذو العنق ، ولأبي ذر فرس يسمى الأجدل ، ولمحمد بن مسلمة فرس يسمّى ذا الجناح ، ولعبّاس بن مرداس فرس يسمّى العتيد ، ولعكاشة بن محصن فرس يقال له : أطلال كانت تحته يوم القادسيّة ، وتحدث أنّ النّاس أحجموا عن عبور نهرها أو خندقها ، وكان عرضها أربعين ذراعا ، فصاح بها فخلفته وثبا ، حتى قال أهل النظر : ذلك من معجزات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وسبّاق : خيل العرب مشاهير. كأعوج الكبير ، وأشقر مروان. والزّعفران فرس بسطام بن قيس ، وثادف واليحموم وزهدم وإنّما المراد التّنبيه على مكاسب صميم العرب وفضلائهم ، والإشارة إلى ما تنطوي عليه أيّامهم في الجاهلية وقبيل الإسلام ، وفيمن صحب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما فرسان العجم فلم يذكر لهم خيل ولا فرس سابق إلا أدهم اسفنديار ـ وشبديز كسرى ـ ورخش رستم ـ وذكروا عنها أحاديث ظريفة.

فأمّا الشجاعة والصّبر على المجاهدة فناهيك ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما حكي عن قول القائل : كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما قاله عبد الملك بن مروان في حديث عمرو بن ود. خرج عمرو يوم الخندق معجبا بخيلائه ، فبرز له أبو الحسن فضربه ضربة سطحه بها ، وكان لمثلها فعالا. وقيل لعلي : هل رأيت أحدا؟ قال : نعم الوليد بن عتبة كان حدثا ، فضربته ضربة على رأسه فبدرت منه عيناه.

وممّا يشهد لما آثرناه عن العرب من حسن تفقّدهم للخيل ، واشتغالهم بمصالحها واشتراكهم في إيثارهم إيّاها على أنفسهم ، والتّوفر على مناقبها ومذامها لما يرجونه من جميل العقبى ، منها : ما روي عن امرئ القيس وعلقمة بن عبدة العجلي. وذكر أنهما تنازعا فى الشّعر واحتكما إلى أم جندب ، امرأة امرئ القيس ، وادّعى كلّ منهما أنّه أشعر من

٥٢٠