كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

فصل

في تبيين ما ذكر من كلام الأوائل في ذلك

قالوا : إنّ الشّمس إذا مرّت على الأرض رفعت منها بخارين : بخارا رطبا وبخارا يابسا ، وكلّ واحد من البخارين قد يخالط البخار الآخر ، إلا أنّه يسمّى بالأغلب عليه منهما.

فأمّا البخار الرّطب : فهو مادة الأمطار والأنداء كلّها.

وأمّا البخار اليابس فهو مادة الرّياح كلّها ، وإنّما يختلف هذان البخاران لاختلاف مواضعهما التي ثارا منها. وأقلّ ما يكون هيج الرّيح بعد المطر وذلك أنّ الأرض تبتل بالمطر ، فلا يثور منها البخار اليابس الذي هو مادة الرّيح وكذلك يكون سكون الرّياح عند المطر وعند انقضائه.

فأمّا حرارة ريح الجنوب : فمن قبل أنها تأتي من ناحية ممر الشّمس من بلاد حارة فتسخن قبل أن تبلغ إلينا.

وأمّا برودة ريح الشّمال فلأنّها تأتي من بلاد الشّمس عنها غائبة فهي تبرد من قبل أن تبلغ إلينا ، وتمر أيضا بثلوج كثيرة.

وأمّا كثرة ريح الجنوب فلتحلّل البخارات من ناحية الجنوب. والبخار مادّة الريح.

وأمّا كثرة ريح الشّمال في الصّيف ، وقلّة ريح الجنوب ، فلأنّ الشّمس يكون مرورها في الصّيف بناحية الشّمال ، فتذيب الثّلوج الكثيرة ، وتهيج البخارات من ناحية الشّمال.

وأمّا احتباس الرّيح وقلتها فلعلّتين. إحداهما : كثرة البرودة فإنّ البرودة تجفف الأرض وتصلبها فلا يخرج منها بخار. والثّانية : كثرة الحر ، فإنّ الحر يجفف الأرض وييبسها ويحرقها فينقطع لذلك الريح ، وربما تتابع ذلك سنين فيكون القحط منه فإذا كثر ذلك وصلب وجه الأرض اجتمعت البخارات في جوف الأرض ، فلم تقدر على الخروج وأحدثت الزّلازل. فإذا كثرت تلك البخارات وقويت وظهرت ذهب القحط وعاد الخصيب.

وأمّا كثرة ريح الشّمال في الرّبيع : فلأنّ النّهار يمتد بعد القصر وتدنو الشّمس من النّاحية الشّمالية فتذيب الثّلوج هناك ، فتحدث هذه البخارات التي منها يكون الغيوم والرّياح الشّمالية.

وأمّا كثرة هبوبها آخر الصّيف فلأنّ النّهار يقصر ويبرد الهواء فيحتقن البخارات في جوف الأرض.

فإذا كثرت قويت فظهرت رياح الشّمال ، وإنما تقوى البخارات على الظّهور لأنّ البرد

٣٢١

ضعيف في تلك الأيام ، فلا يقوى على منع البخارات من الخروج.

وأمّا كثرة ريح الشّمال والجنوب وقلة ريح الصّبا والدّبور : فلأنّ الشّمس لبثها في هاتين الجهتين أكثر من لبثها في خط الاستواء.

وإذا كثر لبثها في مكان عملت عملا قويا فأثارت بخارات كثيرة. وإذا قلّ لبثها في مكان عملت عملا ضعيفا ، ومع ذلك أيضا فإنّ الشّمس تصادف في هاتين الجهتين مياها وثلوجا لبعد ما بين الجهتين عن طريقة خط الاستواء ، ولست أعني بالشّمال والجنوب اللّذين بالإضافة فإنّ كلّ قوم يسمّون ما يلي أيمانهم إذا كانوا متوجّهين إلى المشرق جنوبا ، وما يلي شمائلهم شمالا ، ولكنّي أعني بالشّمال والجنوب اللّذين عن جانبي خط الاستواء الذي هو مدار رأس الحمل والميزان.

٣٢٢

الباب الثّلاثون

في أسماء المطر (١) وصفاته وأجناسه وهو فصلان

فصل

قال أبو زيد سعيد بن أوس : قال القبسيّون : أوّل المطر الوسمي ـ وأنواؤه العرقوتان المؤخّرتان ـ ثم الدّلو ـ ثم الشّرط ـ ثم الثّريا ـ وبين كل نجمين نحو من خمس عشرة ليلة.

ثم الشّتوي بعد الوسمي ، وأنواؤه ـ الجوزاء ثم الذّراعان ونثرتهما ـ ثم الجبهة وهي آخر الشّتوي وأول الدّفئي ـ ثم الدّفئي وأنواؤه آخر الجبهة ـ والعوّاء.

ثم الصّرفة وهي فصل بين الدفئي والصّيف وأنواؤه : السّماكان الأول الأعزل ـ والآخر الرّقيب. وما بين السّماكين صيف ، وهو نحو من أربعين ليلة ـ ثم الحميم وهو نحو من عشرين ليلة ، وسمّي حميما لكون مائه حارا ويختار أن يكون رعدها غير قاصف ، وبرقها غير خاطف ، لذلك قال الشاعر :

إذا حرّكته الرّيح أرأم جانب

بلا هزق منه وأومض جانب

كما أومضت بالعين ثم تبسّمت

خريع بدا منها جبين وحاجب

وحكي عن أبي الوجيه أنه قال : أحب السّحاب إليّ الخرساء ، والحميم نحو من عشرين ليلة إلى خمس عشرة ليلة عند طلوع الدّبران ، وهو بين الصّيف والخريف ليس له نوء. ثم الخريف وأنواؤه النّسران ـ ثم الأخضر ـ ثم عرقوتا الدّلو الأوليان ـ وكل مطر من الوسمي إلى الدفيء ربيع ، وإنّما هذه الأنواء في غيوبه. وغيوب هذه النّجوم أوّل القيظ عند طلوع الثّريا وآخره طلوع سهيل.

__________________

(١) قال في كنز المدفون أسماء المطر أوّلها الوبل ـ الغيث ـ الدّيمة ـ الوكف ـ الهطل ـ الصّيب ـ الرّباب ـ المزن ـ الصّوب ـ القطر ـ الرّزق ـ الماء ـ الثّلة ـ الودق ـ الحياء ـ العهد ـ والله أعلم ـ القاضي محمد شريف الدّين المصحح عفا عنه.

٣٢٣

وأوّل الصّفرية طلوع سهيل ، وآخره طلوع السّماك. وفيء الصّفرية أربعون ليلة يختلف حرّها وبردها وتسمّى المعتدلات.

ثم أوّل الشّتاء طلوع السّماك وآخره وقوع الجبهة فهو أوّل الدفيء وآخره الصّرفة.

وأول الصّيف السّماك الأعزل وهو الأوّل ـ وآخر الصّيف السّماك الآخر الذي يقال له : الرّقيب ـ وبينهما نحو من أربعين ليلة.

وأوّل أسماء المطر القطقط وهو أصغر المطر والرّذاذ : فوق القطقط. ويقال : قططت السّماء وأرذت. ومنه الطّش وهو فوق القطقط والرّذاذ والفعل طشت.

ومنه البغش وهو فوق الطّش ، والفعل : بغشت والغبية فوق البغشة. وكذلك الحلبة والشّجذة. ويقال : أغبت السّماء فهي مغبية وحلبت حلبا وشجذت شجذا وهو فوق البغشة.

ومنه : الحفشة وهو مثل الغبية ويقال : خفشت خفشا. والحشكة مثلها. ويقال : حشكت.

ومن المطر : الدّيمة وهي الدائم لا رعد فيه ولا برق ، أقلّها ثلث النّهار وثلث اللّيل ، وأكثرها ما بلغت من العدة.

والتّهتان : نحو الدّيمة قال :

يا حبّذا تضحك بالمشافر

كأنّه تهتان يوم ماطر

ومن الدّيمة الهضب والهطل ، هضبت هضبا ، وهطلت هطلا وهطلانا قال الشّاعر :

ندى الرّضم من ذات المزاهر إذ جنت

عليها هضاب الصّيف تهضبها هضبا

ويقال : سحابة داجنة ومدجنة وقد دجنت دجنا والدّجنة من السّحاب المطبق الرّيان الذي ليس به مطر. ويقال : يوم دجن ويوم دجنة. وكذلك اللّيلة توصف بهذا أو تضاف كاليوم ، والدّاجنة الماطرة المطبقة نحو الدّيمة. والدّجن : المطر الكثير.

ومن الدّيمة : الرّهمة وهي أشدّ وقعا من الدّيمة وأسرع ذهابا ، يقال : أرهمت السّماء إرهاما وجماعتها الرّهم والرّهام.

ومنها : الهفاء واحدها هفأة وهي نحو الرّهمة ، وقال الغبري : أفا وإفاءة.

ومنها : الدثة وهي المطرة الخفيفة. والهدمة مثلها ، وجماعتها الهدم والهدام والدثّ والدّثاث. ويقال : أرض مدثوثة ومهدومة.

٣٢٤

والوطفا : الدّائمة السّح ، الحثيثة طال مطرها أو قصر.

ومنها القطر : وهو في كلّ مطر ضعيفه وقويّه.

ومنها : الذّهاب وهو اسم للمطر كلّه ضعيفه وشديده ، والرّش المطر القليل الخفيف. والملبد تلبيدا نحو الرّش ، وارشّت السّماء وجمع الرش الرّشاش وأرض مجوبة ومقوبة إذا أصاب المطر بعضها ولم يصب بعضها ، وكحلت السّنة اشتدّت تكحل كحلا ، وسنة كحل ، وأرض ميتة وميتة وسنة خداعة وقشر.

ومنها الوابل : وهو أغزر المطر وأعظمه قطرا ، ويقال : وبلت الأرض وبلا ووبلت توبل وبلا.

والجود من المطر الكثير العام وهو في كلّ زمان. قال شعرا :

أنا الجواد بن الجواد بن سبل

إن ديّموا جادوا وإن جادوا وبل (١)

والمدرار والدّرة التي يتبع بعضها بعضا وجمع الدّرة الدّرر.

والرّك من المطر الضّعيف الذي لا ينفع إلا أن يكون له تبعة ـ والتّبعة ـ المطر بعد المطر. ويقال : أرض مرككة وجمع الرّك الرّكاك.

ويقال : وابل ساجية وهو المطر الذي يسجى ما يقع عليه فيسيل به.

ويقال : أرض مشجورة ، وهي التي يأخذها المطر الجود فلا يزال بها حتى تقلب نباتها وتقلعه من أصوله ، ويقلب ظهر الأرض لبطنها ، وقد شجرت الأرض شجرا. ويقال للمطر الذي لا يدع شيئا إلا أساله : جار الضّبع ، وذاك أنّه يكثر سيله حتى يخرج الضّبع من جحره والمحتفل : الذي يتدارك حثيثا ، والسّح : مثله غير أن السّح ربّما لم يتبيّن قطره. والمنهمر : مثل السّح والوبل والقطر والضّرب : المطر الضعيف.

والدّهان مثل ذلك ، والواحد دهن ، ويقال : دهنها أولى فهي المدهونة.

والمروية التي تروي الأرض. والمبلد : الذي يندي وجه الأرض ويسكن التّراب.

والجلباب المطر الكثير والسّاجية السّاكنة والأهاضيب : جمع أهضوبة وهي مثل الهضاب ، واحدها هضب ، وهي جلباب القطر. والهلل : أوّل المطر. والمتفخّر والمسحنفر : السّيل الكثير. والولي : المطر بعد المطر في كلّ حين. والعهد : المطر الأوّل

__________________

(١) الوابل : المطر الشديد الضخم القطر. (القاموس).

٣٢٥

وجمعه عهاد وأرض معهودة ، وقيل العهدي الذي يجيء وعهد ما قبله جديد لم يدرس ، ويقال : أرض معهدة للّتي يصيبها النّفضة.

والنّفضة المطر يصيب القطعة من الأرض ويخطئ القطعة ، ويقال : أرض منفضة.

والخطيطة : الأرض لم يصبها مطر ، وكذلك الفوائد والخوبة.

ويقال للخطيطة : أرض خط ، وأرض مجروزة ، وأرض جرز وجرز وأجرزت الأرض.

ويقال أيضا : أجرزت النّاقة إذا هزلت.

والشّؤبوب : المطر يصيب المكان ويخطئ الآخر وجمعه شآبيب.

ومثله النّجو والجمع النّجاء والأرض المنضوحة وهي المجودة نضحت نضحا.

والغيث : اسم للمطر كلّه وأرض مغيثة ومغيوثة.

ويقال : استهلّت السّماء وذلك في أوّل المطر والاسم الهلل.

وأسبلت : والاسم السّبل وهو المطر بين السّحاب والأرض حين يدل يخرج من السّحاب ولم يصل إلى الأرض.

ويقال للمطر القليل : العرض وهو مثل الشّؤبوب ومثل السّبل. العثانين : وهو المطر بين السّحاب والأرض ويقال : هو الضّريب والصّقيع والجليد ولا يكون إلّا باللّيل ، والثّلج باللّيل والنّهار في الغيم وهو لا يكون إلا في الصّحو. ويقال : أرض ضربة إذا أصابها الجليد فأحرق نباتها ، وقد ضربت الأرض ضربا وأضربها الضّريب إضرابا. وصقعت صقعا إذا أحرق الصّقيع نباتها. وثلجت ثلجا وهي مثلوجة.

والطّل أثر النّدى في الأرض من كلّ ذلك. ويقال للنّدى الذي يخرجه عروق الشّجر إلى غصونها : طل.

وقيل : الضّريب والصّقيع والجليد والسّقيط يخرج من جردة السّماء جردا إذا لم يكن فيها غيم. وقد جردت السّماء والاسم الجردة.

ويقال : تصلّعت السماء إذا انقطع غيمها حتى تتجرد وحكى الأصمعي قال : قلت لأعرابي : ما أوقع الأمطار؟ قال : صوب غادية ـ عن مرى حادية ـ لا بل بادية ـ مرى حادية ، أي استخراج سحابة تحدو ما يتأخّر دونها. والبادية : السّاكنة للبدو.

ويقال : أصحت السّماء والاسم الصّحو. ويقال : أقصر المطر وأقلع وأقشع إذا انقطع.

ويقال : طلّ القوم وهم مطلولون.

٣٢٦

ويقال : من المطر الرّثاث وهي القطار المتتابعة يفصل بينهنّ أقلّ ما بينهنّ ساعة ، وأكثر ما بينهنّ يوم وليلة. ويقال : أرض مرثة ترثيثا.

ويقال : أرهجت الأرض إرهاجا وأضبت إضبابا ومن الرّهج السّيق من الغمام الذي يسوقه الرّيح.

والإغصان المطر الدّائم الذي ليس فيه فرج ، والفرج اليوم واللّيلة أو أكثر من ذلك قليلا. ومثله الإلثاث.

الفصل الثّاني

في علّة ما ذكرنا من كلام الأوائل :

قالوا : إنّ العلة في المطر ـ والثّلج ـ والجليد ـ والرّيح ـ واحدة وهي أنّ الشّمس إذا مرّت بموضع ندى أثارت بخارا بحرارة مرورها فيكون كيفيّة ذلك البخار على طبيعة الموضع الذي يثور منه البخار. فأما كميّة فعلى قدر كبر ذلك الجسم المهيأ للثوران إن كان كثيرا وكانت الشّمس قويّة عليه أثارت بخارا كثيرا من ذلك الجنس الذي هو طبيعة ذلك الموضع.

فإذا أشرقت الشّمس بدورانها على موضع ندي إذا سخن ثار منه بخار وذلك أنّ الحرارة إذا خالطت الرّطوبة لطفت أجزاؤها فصيّرتها هواء. فإذا كثر ذلك البخار وتباعدت الشّمس عن ذلك الموضع الذي ثار منه البخار استقبل ذلك البخار البرد الذي هو فوق الأرض الذي يرد الهواء فردّه إلى الأرض ، فتكاثف بالعصر فصار ماء فانحدر. فإن كان ذلك المنحدر شيئا يسيرا صغير الأجزاء سمّي ندى. ولذلك تكون الأنداء في الشّتاء أكثر لكثرة برودة الهواء وضغطها البخار الرّطب إلى الأرض ولذلك تكون الأنداء باللّيل أكثر منها بالنّهار.

وإن كان المنحدر كثيرا كثير الأجزاء سمّي مطرا ، فهذه علّة النّدى والمطر وإن كان الذي يصعد من البخار يسيرا ، وكان الّذي هجم عليه من فوق شديدا جدا ، صيّر ذلك البخار جليدا ، وإن كان ذلك البخار الصّاعد كثيرا وكان الذي هجم عليه شديدا جدا ، صار ذلك البخار ثلجا ، ففرّق بين الثّلج والجليد خلّتان ، إحداهما : كثرة البخار وقلته ، كما فرّق بين النّدى والمطر كثرة البخار وقلّته. والخصلة الأخرى : أن الجليد إنما هو بخار جمد في الهواء لا في السّحاب ، والثّلج إنّما هو بخار جمد في السّحاب.

وكذلك الفرق أيضا بين النّدى والمطر ، هذا لاختلاف أنّ النّدى إنّما هو بخار انحدر إلى الأرض من دون السّحاب ، وأنّ المطر انحدر من السّحاب ولكنّ البخار الذي يصعد من

٣٢٧

الأرض تميّز منه اللّطيف فصار هواء ، والغليظ هو الذي يكون منه النّدى والمطر.

وقال أبو زياد الكلابي : إذا احتبس المطر اشتدّ البرد. فإذا مطر الناس مطرة كان البرد بعد ذلك فرسخ ، أي سيكون من قولهم تفرسخ عنّي المرض وإنما سمّي الفرسخ فرسخا لأنّه إذا مشي صاحبه استراح عنه وجلس.

وروى الأصمعيّ عن المنتجع بن نبهان أنّ شيخا من العرب كان في غنيمة له ، فسمع صوت رعد فتحوّف المطر ، وهو ضعيف البصر ، فقال لأمة ترعى معه : كيف ترين السّماء؟

فقالت : كأنّها ظعن مقبلة ، فقال : ارعي. ثم قال : كيف ترين السّماء؟ قالت : كأنها بغال دهم تجرّ جلالها ، قال : ارعي. ثم قال : كيف ترين السّماء؟ قالت : كأنّها ثروب مغزى هزلى ، فكأنّها بطون حمير صحر. قال : انجي ولأنجأ بك ، فلجأ إلى كهف وأدخل غنمه ، وجاءت السّماء بما لا يقام ليلة ، فقال الشّيخ : هذا والله كما قال عبيد :

فمن بنجوته كمن بعقوته

والمستكنّ كمن يمشي بقرواح

٣٢٨

الباب الحادي والثلاثون

في السّحاب وأسمائه وتحلّيه بالمطر وهو فصلان

فصل

قال الله تعالى في ذكر ما عدّد من نعمه على خلقه فيما نصبه من الأدلة على وحدانيته في خلق السّماوات والأرض ، واختلاف الليل والنّهار فقال تعالى : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٤] والمراد أنّ في تعاقب الظلم والأنوار وما ينشئه تعالى جدّه من أنواع السّحاب بين السّماء والأرض وينزّله من الأمطار ويخرجه من النّبات أعظم الأدلة على حدوثها لما فيها من إحكام الصّنعة وثباتها على ما ثبت عليه من العبرة ، إذ لا تفاوت فيها ولا اضطراب ، ولا تناقض ، ولا فساد فمن تدبّرها وتأمّل الأحوال التي تعتورها من الحركة والسّكون ، والزّيادة والنّقصان ، والانكشاف والتروية والإقلاع ، أدّاه الاعتبار إلى أنّه واحد ليس كمثله شيء ، تعالى الله عما يقول الظّالمون علوا كبيرا.

وروي في الحديث : «السّحاب غربال المطر ، لو لا ذلك لتهدّم البنيان» ويقال : سحاب ، واحده سحابة ومثله الغيم والغيوم. ويقال ذلك في القليل والكثير والغمام والواحدة غمامة وهي الغراء البيضاء والجمع غر وبيض.

ويقال : المزن والواحدة مزنة. ومنها الغماء وهي السّحابة السّوداء.

ومن دلائل الغيث أن يتقدّمه هبوب المبشّرات ثم يكون النّشأ من قبل العين فيحسن خروجه والتئامه. ثم استكشافه حتى لا ترى فتقا ، وذلك التطخطخ ويسد الآفاق. ثم يكفهرّ ويرجح فيتدانى ويستأرض أركانه ويتمكّن رجاءه وتنوس هيادبه ، وتهمى أكفته ، ويتعلق ريانه ، ويتدحى عفا يده ويحمومي. ثم يصحار ويرج الرّعد رجا. ويتمّ البرق أتاما ، وهو الوكيف من البرق. ثم ينفل ولا يزدهيه الرّيح حتى يتحيّر ويلين رعده ، وبرقه يتعاون عليه

٣٢٩

الجنوب والصّبا بالإلقاح والإبساس. ثم ينتجفه الشّمال حتى يستقصى ما فيه ، وهذا نهاية ما جاءت أوصافهم وأخبارهم وأشعارهم.

ومنها السّيق وهي كل ما طردته الرّيح وافترزته من السّحاب كان فيه ماء أو لم يكن. والخلق ما يرجى أن يكون فيه مطر والواحدة خلقة. والصّبير من السّحاب الذي تراه متراكبا في بياض والجمع الصّبر. والسّد النّشأ الأسود ينشأ من أي أقطار السّماء شاء. قال :

تبصّر هل ترى ألواح برق

أوائله على الأفعاة قود (١)

قعدت له وشيّعني رجال

وقد كثر المخايل والسّدود

المخايل : واحدتها مخيلة ، ويقال سحابة مخيلة وسحابة ذات مخيلة : إذا كانت خليقة بالمطر. وفي الحديث أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر وتغيّر ، قالت عائشة : فذكرت ذلك له ، فقال : «ما يدرينا لعلّه كقوم ذكرهم الله تبارك وتعالى» (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة الأحقاف ، الآية : ٢٤].

ويقال للسّحاب أيضا : الخال ، فإذا أرادوا أنّ السّماء قد تغيّمت ، قالوا وقد أخالت فهي مخيلة بضم الميم.

ومنها الحماء وهي السواد. والعارض : السّحابة تراها في ناحية السّماء وهو مثل الجلب ، إلّا أنّ الجلب أبعد وأضيق من العارض. والعارض الأبيض والجلب أكثر ما يكون إلى السّواد. وفي السّحاب النّضد وهي مثل الصّبير وجمعه الأنضاد. والرّكام : ما تراكم بعضه على بعض ، وهو مثل النّضد. ومنه الرّباب : ولا يقال لها ربابة واحدتها ربابة : وهي السّحابة الدّقيقة السّوداء يكون دون الغيم في المطر ، ولا يقال لها ربابة إلا في مطر.

ومنها الرّيف : وهو أوّل السّحاب الممطر. والكنهور : السّحاب الضّخام البيض ، ويقال : غمامة كنهورة وغيم كنهور. ومنه الطّخاء : وهو السّحاب الرّقاق والواحدة طخاة. ومنه القزع : وهو السّحاب الصّغار والمتفرّق منه واحده قزعة. ومنه : نمرة : وهي الغيم الذي يرى في خلله نقاط ، الواحدة نقطة والجمع نمر ، ومن أمثالهم : أريتها نمرة أريكها مطرة.

ومنه الجفل : وهو كلّ سحاب ساقته الرّيح قد صبّ ماءه. والجهام : مثل الجفل واحدته جهامة. ويقال للسّحاب الذي هراق ماءه السّيقة لأنّ الرّيح تسوقه لخفته ، وهذا كما يقال لما تستلينه وتستهينه : ليّن وهيّن.

__________________

(١) اتّسع الغيث (المحيط).

٣٣٠

والصّراد واحدتها صرادة ، وهو مثل الجفل. ومثله الرّهج : من الغيم.

ومنه السّيق والجيء : وهو الغيم في عرض السماء الغريب الحسن. ومنه الحير وهو الغيم ينشأ مع المطر فتحير في السّماء.

ومنه بنات نحر ونجر وهي سحائب يخرجن في السّحر ، بين الخريف والرّبيع وهنّ سحائب غرّ طوال مشمخرّات.

ومنه الزّبرج : وهو مثل الرّهج والسّيق.

ومنه الغماء : وهو شبه الدّكان يركب رءوس الجبال. قال :

ليلة غمّاء طامس هلالها

ومنه الضّباب ، وهو شبه الدّخان والنّدى يظلّل السّماء ، واحدته ضبابة ، ويقال : أضبت السّماء فهي مضبّة.

ومنه الظلّة وهي أوّل سحابة تظلّل.

ومنه الطّخارير ، واحدها طخرور وهو السّحاب الصّغار. والغياية : ظلّ السّحابة وقال بعضهم غياءة. قال الشّاعر :

كساع إلى ظلّ الغياية يبتغي

مقيلا فلمّا أن أتاها اضمحلّت

وقال : ولغة الكلابيين امضحلّت والمكفهر : السّحاب الضّخام الرّكام ويقال : عجاجة مكفهرة ، وطرّة الغيم : أبعد ما يرى من الغيم ، ويقال : طرة الكلأ وطرة القف وهي ناحيتها. ومنها : النّشاص : وهي الطّوال والواحدة نشاصة وهي الطّويلة البيضاء ، وأكثر ما ينشأ من قبل العين. قال :

بل البرق يبدو في ذرى من دفائه

يضيء نشاصا مكفهر الغوارب

وفي الحديث : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا نشأت السّحابة بحريّة ثم تشامت فتلك عين غديقة» يريد إذا ابتدأت من ناحية البحر ، ثم أخذت نحو الشّام فتلك عين غديقة أي : مطر جود. والغديق : الكثير الماء من قول الله تعالى : (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [سورة الجن ، الآية : ١٦].

وكذلك إذا كانت السّحابة سوداء فتلك من علامات الغيث ، وفي الحديث الذي سأل فيه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أجون هو أم غبره؟ فقالوا : جون ، فقال : جاءكم الحياء» وكذلك إذا رأى الرّباب دوين السّحاب قال :

كان الرّباب دوين السّحاب

نعام تعلّق بالأرجل

٣٣١

وأنشد :

وما لي لا أغزو للدّهر كرة

وقد نبحت نحو السّحاب كلابيا

يقول : كنت لا أغزو مخافة العطش على الخيل والأنفس ، فما عذري اليوم ، وقد كثر المطر ، واتّصل العشب وامتلأت الغدران. ولبعضهم :

أغر سماكي كأنّ نشاصه

قطار يخات أو جبال تقلّع

تلألؤ غوريا كأنّ وميضه

حريق بجزل في ضرام تشيّع

رأته عيون ممحلات تتابعت

له سنوات فهو للغيث جوع

ملثّ دنا دون السّحاب سحابة

من الأرض حتّى كاد بالرّاح يدفع

ويقولون : إذا رأيت السّماء كأنّها بطن أتان قمراء فذلك الجود. قال الهذلي :

يمدّ له جوالب مشعلات

تخلّلهن أقمر ذو انغطاط

ويقال : إنّ معقر بن حماد البارقي قال لابنته ، وقد سمع صوت رعد : أيّ شيء ترين؟ قالت : أرى سحابة عقاقة كأنّها حولاء ، ناقة ذات هيدب دان وسيروان. قال :

وابلي بي إلى جنب قفله فإنّها

لا تنبت إلّا بمنجاة من السّيل

وإذا كانت السّحاب نمرة فهي كذلك. وقال آخر في المخيلة :

دان مسف فويق الأرض هيدبه

يكاد يدفعه من قام بالرّاح

فمن بنجوته كمن بعقوته

والمستكنّ كمن يمشي بقرواح

أي طبق الأرض ، فمن كان في الارتفاع كمن هو في الاستواء ، ومن كان في ظهر الصّحراء كمن في بطنها ، وإذا كان السّحاب أصهب إلى البياض فذاك إمارة الجدب ، ويقولون : هو هف أو جلب إذا حمر الأفق. قال :

وسوّدت شمسهم إذا طلعت

بالجلب هفا كأنه الكثم

وقال الكميت :

إذا أمست الآفاق حمرا جنوبها

لشيبان (١) أو ملحان (٢)واليوم أشهب

وقال الفرزدق يذكر قوما مسافرين :

__________________

(١) شيبان : جمادى الثانية.

(٢) ملحان : جمادى الأولى.

٣٣٢

يغضّون أطراف العصيّ تلفّهم

من الشّام حمراء الضّحى والأصائل

ومن أمثالهم : ما يضرّ السّحاب نباح الكلاب ، وزعموا أنّ الكلاب تنبح السّحاب من كثرة المطر والحاجة. وفي صفة غيم المحل :

وهاج غمام مقشعر كأنّه

بنيله نعل بان منها شريحها

الفضل بن عبّاس :

كأنّ سيوف فارس في ذراه

وغرفا من قيان مسمعات

أقام على معاهدهنّ شهرا

فأقلع وهو مهتزّ النّبات

وقال حسين بن مطير يصف المطر والسّحاب ، ورواه الأصمعيّ شعرا :

كثرت لكثرة قطره أطباؤه

فإذا تحلّب فاضت الأطباء

وكجوف ضرّته التي في جوفه

جوف السّماء سجلّة جوفاء

وله رباب هيدب لرفيقه

قبل التعنّق ديمة وطفاء

وكأنّ ريعه ولمّا يحقل

ودق السّحاب عجاجة كدراء

وكأنّ بارقه حريق يلتقي

وهج عليه عرفج وألاء

مستضحك بلوامع مستعبر

بمدامع لم يمرها الأنداء

فله بلا حزن ودون مسرّة

ضحك يؤلف بينه وبكاء

حيران منبعق صباه يقوده

وجنوبه كنف له وكفاء

ودنت له نكباؤه حتّى إذا

من طول ما لعبت به النّكباء

غاب السّحاب فصار بحرا كلّه

وعلى البحور من السّحاب سجاء

ثقلت كلاه فبهرت أصلابه

وتعجبت من مائه الأحشاء

غدق يسبّح بالأباطح قد غدت

بلد السّيول وما له أفلاء

غرّ محجلة دوالح ضمّنت

حمل اللّقاح وكلّها غدراء

سجم فهنّ إذا كظمن أواجم

وإذا ضحكن فإنّهنّ وضاء

لو كان من لجج السّواحل ماؤه

لم يبق في لجج السّواحل ماء

وحكى أحمد بن يحيى قال : أخبرني ابن الأعرابي ، قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم جالس مع أصحابه إذ نشأت سحابة فقيل : يا رسول الله هذه سحابة فقال عليه‌السلام : «كيف ترون قواعدها» قالوا : ما أحسنها وأشدّ تمكّنها. قال : «وكيف ترون رحاها»؟ قالوا : ما أحسنها وأشدّ استدارتها. قال : «فكيف ترون بواسقها»؟ قالوا : ما أحسنها وأشدّ استقامتها. قال : «فكيف ترون برقها أوميضا أم خفيا أم يشق شقا»؟! فقال عليه‌السلام : «الحياء الحياء»

٣٣٣

قال : فقالوا : يا رسول الله ما رأينا أفصح منك ، فقال : «وما يمنعني وإنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين» قواعدها أسافلها ، ورحاها وسطها ، ومعظمها ، وبواسقها : أعاليها. وإذا استدار فيها البرق من طرفها إلى طرفها فهي أعاليها وهو الذي لا يشك في مطره وجوده ، وإذا كان البرق في أسافلها لم يكد يصدق. قال ابن الأعرابي : وقال رجل من العرب وقد كبر وكان في داخل بيته ، وكان بيته تحت السّماء : كيف تراها يا بني؟ قال : أراها وقد نكبت وتبهّرت ، وأرى برقها أسافلها ، قال : أحلقت يا بني. معنى نكبت : عدلت عن القصد ، وتبهرت : تقطّعت. والبهر حفر يكون في الأرض ، والومض : أن يومض إيماضة ضعيفة ثم يخفي ، ثم يومض ثم يخفي ثم يومض ، وليس في هذا يأس مطر قد يكون ولا يكون. وأما المسلسل في أعاليها فلا يكاد يخلف.

ويقال : خفي كأقيد الطير واقيد الطير : نظره ـ ثم إغماضه ينظر نظرة ـ ثم يغمض ـ ثم ينظر نظرة ـ ثم يغمض. قال حميد بن ثور يصف البرق :

خفيّ كأقيد الطّير واللّيل ملبس

بجسمانه والصّبح قد كاد يسطع

قال الهذلي شعرا :

فسائل سبره الشّجعيّ عنّا

غداة يخالنا نجوا خبيّا

فصل

في كلام الأوائل ، يتبيّن منه حال الأندية والأمطار

والعيون والأنهار وغيرها

قالوا : إنّ المطر إذا وقع على الأرض اجتمعت منه المياه ، فإذا صادفت مكانا إلى الانصباب ما هو جرت منه الأودية والأنهار ، لأنّ المياه من شأنها طلب الحدور ، فإن صادفت حواليها أرضين مرتفعة بقيت فلم تجر ، فإن كانت تحتها أرض رخوة غارت أبدا إلى أن ينتهي إلى أرض أو جبل فلا يقدر على النفوذ فيقف فإذا كثرت المياه أكلت ما حولها من الأرضين اللّينة حتّى ينقب موضعها ، فيخرج منه فيسمّى ذلك الموضع عينا.

وربما انتقبت من ذلك الموضع الواحد مواضع كثيرة ، فجرت أنهار كثيرة وكلّها كانت أغزرا لتلك العيون. وإن كانت المياه المستنقعة كثيرة جدا لم تنقطع تلك العيون في أوّل الصّيف ، وانقطعت في آخره على قدر القلّة والكثرة. وربّما كانت تلك العيون غزيرة سنين كثيرة ، ثم ينقص ماؤها غير نقصان المطر وذلك أن ينتقب في جهة هذه العيون ، فيخرج بعض تلك المياه إلى تلك الجهة فإن كانت تلك الجهة منفسحة المذهب دام ذلك النّقصان. وإذا كانت تلك الجهة ليست بمنفتحة بل استقبل الماء مكانا عاليا أو جبلا تراجع الماء ،

٣٣٤

ورجعت تلك العيون الأولى إلى ما كانت عليه ، وربّما جرت الأودية والأنهار من ثلوج تقع على جبال ، فإذا أصابها الحر ذابت قليلا قليلا ، فجرت منها الأودية والأنهار ، فإن كان ذلك الثّلج كثيرا لم تنقطع تلك الأودية والأنهار ، وإن كان قليلا انقطعت.

وأما الأبحار فإنما هي من مواضع عميقة في الأرض والماء من شأنه يطلب العمق ، فالمياه تنصبّ إلى تلك المواضع العميقة من الأنهار والأودية والسّيول ، يستنقع فيه فما كان من ذلك الماء عذبا فإنّه يصير فوق لخفّة العذوبة وما كان منه مرّا وملحا صار إلى أسفل لثقله ، فإذا مرّت الشّمس عليه رفعت ما كان منه عذبا لخفّته ولطافته ، وما كان منه لطيفا جدا صار هواء ، وما كان منه في اللّطافة دون ذلك صار ندى ومطرا.

فأمّا ما يقال : لم لا تستبين الزّيادة في البحار مع كثرة ما يجري فيها من الأنهار والأودية ، فذلك لكثرة سعتها وإنها لا تبقى بل ترفع الشّمس لطيغها فيصير منها الذّرى والأمطار ، وكذلك أيضا لأنّ الذي يعود إليها في الأودية والأنهار وربّما نقص بعض البحار في طول الأزمان أو زاد بعضها ، ولكنّ ذلك لا يستبين لطول الزّمان الذي يحتاج فيه إلى أن يستبين ، لأنّ ذلك لا يستبين في قدر عمر إنسان أو إنسانين.

قالوا : وإن قلنا : إنّها تزداد وتنقص ، لم يبعد من قبل أنّه ليس من الواجب أن يكون البخار الصّاعد منها سواء مثل الأودية والأنهار السّائلة فيها ، بل قد يكون أحدهما أكثر من الآخر ، فلذلك قلنا : قد تزيد البحار وتنقص.

وأما ملوحة ماء البحر ومرارته ، فلكثرة مرور الشّمس عليها فإنّ الرّطوبة إذا خالطتها الحرارة صارت مالحة ، فإن أفرطت الحرارة عليها صارت مرة ، ومثال ذلك العرق والبول ، فإنّهما مالحان جميعا لعمل الحرارة فيهما.

٣٣٥

الباب الثّاني والثلاثون

في الرّعد والبرق والصّواعق ، وأسمائها وأحوالها

وهو فصلان

فصل

قال الله عزوجل : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) [سورة الرّعد ، الآية : ١٣] الآية. وفي موضع آخر : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩] الآية. قوله : أو كصيّب تشبيه بعد تشبيه وذلك أنّ الله تعالى شبّه أعمال المنافقين واغترارهم بما اعتقدوه من مخادعة المؤمنين في إظهار موافقتهم وإبطان مخالفتهم ، وأنّ ذلك يقضي لهم بالفلاح والنّجاح فقال : مثلهم في ذلك وإن كان لا ينفعهم ولا يدفع السّوء عنهم ، بل يرجع بالوبال عليهم ، كمثل رجل أوقد نارا وهو يظنّ استبانة الطّريق بها ، فجاءت ضعيفة في إنارتها ، ولمّا أضاءت ما حولها وقدر بقاها على ما بها ، خمدت فعاد وهو أسوأ حالا وأشدّ عمّى لأنّ النّاظر في ظلمة بعد ضياء أضعف تبيّنا أو مثل قوم أصابهم صيّب استصحب رعدا وبرقا ونكدا وخوفا فخشوا رهبة من صاعقة تحرقهم ، وتنزل البلاء بهم وهذا القدر كاف هاهنا.

وروي أنه سئل ابن عباس عن البرق ، فقال : مخاريق الملائكة. وأصل المخراق خشبة في رأسها سنان عريض تحته عذبة ، وكان القوم إذا انصرفوا من حرب ظافرين قدّموا بشيرا معه مخراق ، ليعلم الحال به وكان يوفي على نشز بقرب منهم ، ويلوّح بالمخراق ، فيجتمع ولدان الحي فرحين ويقولون : مخرق المخراق في رأس اليضع ، فالجيش لا شكّ كما بدا رجع ، فلا يزالون كذلك حتّى تطلع عناق الخيل ، فيستقبلونها مصفقين ، وإذا انصرف الخيل مغلوبين ، أو طلبوا مددا بعثوا رجلا وأعطوه سيفا فأوفى على النّشز وألاح بالسّيف وصوّت ، ليعلم الحيّ بالحال فاجتمع الصّبيان باكين ويقولون : رأى حتفا وألاح سيفا ، وهذا رواه أبو نصر عن الأصمعي رأى حيفا ، قال ثعلب هذا تصحيف ما يروي الرّاوون الأجنفا ، ومنه قول تأبّط شرا :

٣٣٦

يا نار شبّت فارتفعت لضوئها

كالسّيف لاح مع النّذير المقبل

وأنشد ابن الأعرابي شعرا :

إنّي إذا ما علقت علاق

وشمّرت أولادها عن ساق

شمطاء ذات مضحك براق

كريهة المنظر والمذاق

وصافحت بكفّها حلّاق

صار به يطعن للأرواق

أعمل خلق الله بالمخراق

وبالشّهاب اللّامع الخفّاق

وبيّنات جشأ دقاق

وأبسط الكفّين للعناق

وإنّما الدّولة بالأرزاق فسر المخراق منها على أنّه السّيف وعنى ببنات جشاء : النّبل ، ويقال : رعدت السّماء وبرقت ، ويقال : أرعدت وأبرقت أيضا ، وبعضهم ينكره وينشد :

أبرق وأرعد يا يز

يد فما وعيدك لي بضائر

ويقال : أرعد القوم إذا أصابهم الرّعد ، وفي الرّعد الإرزام وهو صوت للرّعد غير شديد ، ويقال : أرزم الرّعد. وفيه انهزم وهو اسم صوت الرّعد شديدة وضعيفة ، وهو الهزيم. ويقال : تهزّم الرّعد تهزّما وانهزم الرّعد انهزاما. وفيه القعقعة وهو تتابع صوت الرّعد في شدّة ، وجمعه القعاقع. وفيه الرّجس والرّجسان وهو صوت الرّعد الثقيل. يقال : رجس الرّعد والسّماء يرجس. وفيه الصّاعقة وجماعة الصّواعق ، وهي نار تسقط من السّماء في رعد شديد ، ويقال : أصعقت علينا إصعاقا ، ويقال : صاعقة أيضا. وقال :

يحكون بالمصقولة القواطع

يشقّق البرق عن الصّواعق

وذكر بعضهم البرق فقال : يلتمع الأبصار ، ويهلك الغض من الثمار ، ويكنع بعاع البقل ، وقيل : لا يكون برق لا رعد معه إلا أن يكون رزالا يعنق السّحاب أو يكون خفوا لا يشنق ، ووصف بعضهم الرّعد فقال : يرج الأرض ، ويحرق الطّير ، ويمرق بيضها ، ويصم السّمع ، ويسقط الأحبال ، ويصدع القلوب. وفيه الأريز يقال : إنّ الرّعد تأرّز تأرّزا وترززت السّماء ترززا. قال :

جارتنا من وابل الأسلمي

ترززا من وراء الأكم

رز الزّوايا بالمزاد المعصم

ويقال : جلجل الرّعد جلجلة وهو الصّوت ينقلب في جنوب السّحاب وتهزج الرّعد تهزجا وهو مثل الجلجلة ، وزمزم زمزمة وهو أحسنه صوتا وأثبته مطرا ، وأرنت السّماء إرنانا : وهو صوت الرّعد الذي لا ينقطع ، يقال : رنّ وأرنّ بمعنى واحد وجمع.

٣٣٧

البروق ويقال : برقت السّماء وبرق البرق ، وبرق برقا وأبرق القوم إبراقا إذا أصابهم البرق ، وتكشّف البرق تكشفا ، وهو إضاءته في السّماء ، واستطار استطارة مثل التكشّف. ولمع البرق يلمع لمعا ولمعانا وهي البرقة. ثم الأخرى المرّة بعد المرّة. ولمح يلمح لمحا ولمعانا مثل اللمع غير أنّ اللمح لا يكون إلا من بعيد. وتبسّم البرق تبسّما مثل التكشّف ، واستوقد البرق الذي يملأ السّماء والسّلسلة برق النّهار أو برق السّحاب ، وهي البرقة الضّعيفة قال :

تربعت والدّهر عنها غافل

آثار أحوى برقة سلاسل

ويقال : هذا برق الخلّب ، وبرق خلّب ، وهو الذي ليس فيه مطر.

ويقال : خفق البرق خفقا وخفقانا وهو تتابعه ، وخفا البرق يخفو خفوا وهو أن تراه من بعيد خفيا ، ويقال : هو أخفى ما يرى من البرق.

ويقال : أومض البرق إيماضا ، وهو الوميض وهو الضّعيف من البرق.

ويقال : سنا البرق وهو ضوؤه تراه من غير أن ترى البرق أو ترى مخرجه في موضعه ، وإنمّا يكون السّنا باللّيل دون النّهار ، وربّما كان بغير سحاب ، والسّماء مصحية وضوء البرق مثل سناه.

وتشقّق البرق تشقّقا وهو أن تبرق البرقة فتتّسع في النّشر. وتألّق البرق تألّقا مثل التّشقق. وتكلّح البرق تكلّحا : وهو دوامه وتتابعه في الغمامة البيضاء وتلألأ تلألؤا وهو السّريع الخفيف المتتابع.

ومصع البرق يمصع مصعا : ورمح يرمح رمحا وهما سواء وهو البرق السّريع الخفيف المتقارب.

وألهب إلهابا : وهو سرعة رجعته وتداركه ، وليس بين البرقين فرجة.

والعراص : الذي يلمح ولا يفتر نحو التّبسم.

وقد عرصت السماء : تعرص عرصا إذا دام برقها ورأيت السّماء عراصة.

وفرى البرق يفري : وهو تلألؤه ودومه في السّماء وكانوا يسمّون البرق ، فإذا لمعت سبعون برقة انتقلوا مستغنيين عن الرّواد لاستحكام ثقتهم.

ويقال : برق وليف إذا لمع لمعتين ، وقد شبّه ذلك بلمع يدين. قال امرؤ القيس شعرا :

أصاح ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين في جبي مكلّل

٣٣٨

وقال الهذلي :

تبسّم بعد شتات النّوى

وقد بتّ أخيلت برقا وليفا

وارتعج البرق إذا تتابع لمعانه. قال أبو عبد الله : سئل بعضهم عن البرق فقال : مصعة ملك أي يضرب السّحاب ضربة فترى النّيران وأنشد :

وكان المصاع بما في الجون

ويقال : أزعج البرق وبرق مزعج قال :

سحّا أهاضيب وبرقا مزعجا

تجاوب الرّعد إذا تبوّجا

والتبوّج : مثل التكشّف ، ويقال : تبوّج تبوّجا.

ويقال : أخفى البرق كأقيد الطّير قال :

خفا كأقيد الطّير وهنا كأنّه

سراج إذا ما يكشف اللّيل أظلما

وقال عمرو بن معدي كرب : يلوح كأنّه مصباح باز. قال أصحاب المعاني : أراد مصباح رجل من بني باهلة فمصباح لا يطفأ.

فصل

في الرّعد والبرق والسّحاب من كلام الأوائل

قالوا : إذا علا البخار الرّطب وبلغ إلى الموضع البارد والجبال دفعه البرد إلى أسفل ، فاحتقن هناك ، وصارت الجبال القريبة له كالمغارات ، وتكاثفت أجزاؤه فيكون منه السّحاب والضّباب والنجدى ، على قدر اختلاف البخار الذي يصعد.

فإذا اجتمع ذلك البخار الرّطب هناك حصر ما فيه من البخار اليابس الصّاعد من الأرض معه ، وإذا كان ذلك اضطرب البخاران اليابس الحار والبارد الرّطب في جوف السّحاب ، فقرع السّحاب وصدعه فيكون من ذلك القرع صوت يسمى الرّعد ، ويكون من ذلك التّصدع تلهّب ، يقال له : البرق ، وهما يكونان في وقت واحد ، ولكنّ البصر ترى الألوان بلا زمان والسّمع لا يدرك الصوت إلا بزمان ، وذلك الزّمان على قدر بعد السّحاب من الأرض.

فإذا كان ذلك السّحاب من الأرض قريبا تبيّن رؤية البرق ، وسمع الرّعد في زمانين متقاربين. وإذا كان السّحاب بعيدا من الأرض كان بين رؤية البرق وسماع الرّعد زمان طويل. وشبّه ذلك الصّوت الذي يكون من السّحاب بالحطب الرّطب الذي تشتعل فيه النّار

٣٣٩

فيسمع له صوت وقرقعة ، فعلى قدر كيفية السّحاب وكيفية البخار الحار اليابس المختنق فيه ، يكون ذلك الصّوت الذي هو الرّعد والضوء الذي هو البرق.

فأمّا اختلاف ألوان السّحاب فعلى قدر عمل الحرارة : فإن كانت الحرارة قد عملت فيه عملا شديدا رؤي لون السّحاب أسود ، وإن كانت قد عملت فيه عملا قليلا رؤي السّحاب أبيض ، وإن كان فيما بينهما رؤي أحمر أو أصفر على قدر عمل الحرارة فيها لأنّ الحرارة تحرق الأجسام فتكون ألوانها على حسب إحراقها.

وأما صغر قطر المطر وكبره : فعلى قدر شدّة دفع الرّيح السّحاب وضعفه : فإن دفعته دفعا شديدا اجتمعت أجزاؤه ، فكان منه قطر كبار. وإن دفعته دفعا ضعيفا كان منه قطر صغار.

وأمّا اختلاف ألوان البرق فعلى قدر السّحاب الذي يتصدّع ، فإنّ البرق أيضا مختلف اللّون ، فربّما كان إلى السّواد ما هو ، وربّما كان إلى الصّفرة ما هو ، وإلى الشّقرة ، وذلك كلّه على قدر كيفية السّحاب ، فهذا ما في الرّعد والبرق والسّحاب.

فأمّا الصّاعقة في اللغة فهي الواقع الشّديد من صوت الرّعد يسقط معه قطعة من نار ، وصوت العذاب أيضا. وقد صعقتهم السّماء وأصقعتهم ، ويقال : صعق إذا أغمي عليه من صوت يسمعه ومات أيضا ، ويقال : صعق وهو صعق الصّوت أي شديده ، والمصدر الصّعق والصّعاق. قال إذا ائتلاهنّ صلصال الصّعق. وفي القرآن : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣] أي مغشيا عليه بدلالة قوله : فلما أفاق.

وقال الخليل : الصّاعقة : صوت العذاب. وقال بعضهم : نار ريحيّة وريح ناريّة وذلك أنّها إذا وقعت في الخشب أحرقته وأشعلته. وإذا وقعت على ذهب أو فضة أحمته وأذابته. وهذا الفعل من أفعال النّار. قال : فيقول : إنّها وإن كانت نارا فليست بالنّار الحرية بل هي نار لهبانيّة. وذلك أنّها إذا سقطت على الأرض لم يوجد جمرها بل يرى ذلك الموضع الذي تقع فيه الصّاعقة كثير الدّخان متصدّعا. وهذه من خواص النّار والرّيح ، والصّاعقة أيضا ألطف من جميع النّار اللهبانية التي عندنا ، وذلك أنّ النّار التي عندنا لا تنفذ في الحيطان ولا في الأرضين. والصّاعقة تنفذ في كلّ جوهر محسوس ، وهي لا تبصر لأنّها بلطافتها تفوت أبصارنا ، لكنّ أفعالها تبصر ، ولسرعة حركتها تجاوز الوقت الذي يمكن أن يكون فيه البصر. والصّاعقة تكون لعلّتين : إمّا لاكتمان النّار في الغمام وإفلاتها بغتة ، وإمّا لا كتمان الرّيح في الغمام واحتكاكها به وشدّة خروجها بغتة ، وفي مجيئها إلى الأرض تصير نارا ، كما ترى ذلك في الرّصاص إذا رمي بالمقلاع ، فإنّه يسخن بمحاكّة الهواء ويلتهب ويذوب.

٣٤٠