كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

منعه الصّرف فإنه يجعله معدولا عمّا فيه الألف واللّام كأنّه لا يأتي بهما ، وهو يريد معناهما في الاسم كما أنّ قولك : سحر كذلك وقد مضى القول فيه ، فإن نكّرته وجعلته شائعا صرفته به وصرفته ، فقلت : مضى أمس وكذلك إن أضفته أو أدخلت عليه ألفا ولاما ، لأنّه يصير موقتا محدودا تقول : مضى أمسك ، وكان أمسا أطيب من يومنا ، ومضى الأمس.

فإن قال : ما بال غد لا يكون مبنيا قلت : أمس معرفة مشاهد معلوم ، وغد ليس بمعلوم ولا مشاهد ، لأنّه لم يأت قبيلهما سبيل قط المشدّدة وأبدا ، لأنّ قطّ للقائل من لدن قوله أي ابتداء كونه فهو معلوم ، يقول : ما رأيته قطّ ، تحركت الطّاء الأخيرة لأنه لا يلتقي ساكنان ويضمها كما يضم آخر الغايات ، وسنبين القول فيها كلّها ، وإذا قلت : لا أكلمه أبدا ، فالأبد مذ لدن تكلّمت إلى آخر عمرك ، فهو غير معلوم ، وجار على أصله الذي له وصار مصروفا منصرفا لم يعرض فيه ما يوجب تنيرا.

قال قطرب : وأظنه حكى عن الخليل أنّهم أرادوا بأمس حين حفظوا رأيته بالأمس ، فحذفوا الباء والألف واللّام كما قالوا خير عافاك الله في جواب : كيف أصبحت؟ يريدون بخير ، وكما قالوا : لاه أبوك الله أبوك. وقال ذو الأصبع شعرا :

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

دوني ولا أنت ديّاني فتجزوني

فحذف لام الإضافة ولام التّعريف وهذا تقوية لقول الخليل ، ومثله قول الآخر :

طال النّواء وليس حين تقاطع

لاه ابن عمّك والنّوى لعدوّ

انتهى كلامه. قال الشّيخ : هذا الذي حكاه لا يكون بناء بل يكون الحركة في أمس إعرابا كما أنّها في حين وفي لاه أبوك شاذ ، فلا يجعل أصلا لغيره. قال قطرب : فإذا دخلت الألف واللّام في أمس ، فبعض العرب ينصبه ، ويقول : رأيته الأمس وبعضهم يخفضه كحاله قبل الألف واللّام ، ويقول : رأيته بالأمس وقال نصيب شعرا :

وإني حبست اليوم والأمس قبله

ببابك حتّى كادت الشّمس تغرب

انتهى كلامه.

قال الشيخ : الوجه في إدخال الألف واللام أن ينكّر أولا ثم يعرّف بهما ، فأمّا من نصب بعد إدخال الألف واللّام فهو القياس ، لأنّ الألف واللّام والتّنكير يرددان اللفظ إلى ما كان يجب عليه في الأصل.

وأما ما حكاه عن يونس أنّه سمع الكسر مع دخول الألف واللّام ، فالمتكلّم بذلك يجب أن لا يكون قد اعتدّ بالألف واللّام ، ولم ينكّر قبل دخولهما ، وبقي الكسر إيذانا بفعله ذلك ، ويكون هذا كقوله شعرا :

١٨١

ولقد جنيتك أكمؤا وعاقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

فأدخل الألف واللّام على الأوبر وهو معرفة ، لأنه لم يعتد بهما ، أو يكون أجراه مجرى الخازباز وخمسة عشر وأخواته في العدد ، لأنّ الألف واللّام لا يزيلان بناءهما ولا يردانهما إلى أصلهما ، والأول أجود وأكثر نظيرا في الوجود. قال قطرب : وإذا جمعت أمس في القياس قلت : ثلاثة آماس ، لأنه مثل فرخ وأفراخ ، وفلس وأفلاس ، وقال الرّاجز شعرا :

مرّت بنا أوّل من أموس

تميس فيه مشية العروس

فجمعه على فعول مثل فروخ وفلوس ، وقال بعض الأعراب :

مرّت بنا أول من أمسيه

تجرّ في محفلها الرّجليه

فبنى أمس انتهت الحكاية. قال الشّيخ : الياء في أمسيه لبيان الحركة ، وكذلك في الرّجليه ، وكأنه أراد أوّل من أوّل من أمس فثنى أمس بدلا من تكرير أول ، وهذا كما قال أبو العباس فيما حكى عن الحجاج أنه كان يقول : يا حرسي اضربا عنقه. والمراد : اضرب اضرب فأتى بدل التّكرير بلفظ التثنية ، فأما أوّل من قولك أول من أمس فهو صفة كان المراد به يوما أوّل من أمس ، وقالوا : بعد غد ، ولم يقولوا : قبل أمس ، فكان أول بدل قبل ، وبعد غد في موضع الصّفة أيضا.

قال قطرب : فإن أضفته فإنّ بعضهم يجرّه كحاله قبل أن تضيف ، كما كأن ذلك في الألف واللّام. قال الشيخ : الوجه في أمس إذا أضيف أن يعرب ويصرف كما قلناه في الألف واللّام ، فأما من بناه مع الإضافة فإنّه شبهه بخازباز وخمسة عشر وأخواته ، لأنها بنيت ، وإن أضيفت ، ورجوع أمس في التّنكير إلى أصله هو الّذي يدل على مخالفته لباب خازباز وخمسة عشر وأخواته. وقد قال قطرب في أمس : إذا جعلته نكرة فإنه يجري فيه الإعراب وكل ما يرده التنكير إلى أصله تردّه الإضافة والألف واللّام إلى أصله ، وخمسة عشر وأخواته بنيت نكرات ، وإن كان كذلك كان الضّعف والبعد في بناء أمس عند الإضافة ومع الألف واللام ظاهرين فاعلمه ، وتقول : آتيك غدا أو شيّعه ، وآتيك الجمعة أو شيّعه والمراد اليوم الذي يليه. قال عمر بن أبي ربيعة شعرا :

قال الحبيب غدا يفرّقنا

أو شيعه أفلا تودّعنا؟!

فكان هذا من الاتباع ، وفي الحديث : شاعه أبو بكر أي اتّبعه ، فيقال على هذا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وشيّعه ، أي مصدّقه وصاحبه ومن هذا الشّيعة.

وقال ابن الأعرابي : يقع الشيعة على كل من أحبّ وصدّق وحضّ على الاتباع أو حرّض تأخر عن المتبوع أو تقدم عليه. ألا ترى قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) [سورة الصّافات ، الآية : ٨٣] يعني من شيعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأما قوله :

١٨٢

كأن أمسيا به من أمس

يصفرّ ليس اصفرار الورس

فإنّه يعني عرق الإبل ، وهو يصفّر إذا يبس ومعنى أمسيا به : يريد عرقا ظهر منذ ثلاثة أيام ، ومعنى من أمس : منذ ، كما قال : أقوين من حجج ومن دهر وعرق الخيل إذا يبس ابيضّ. قال بشر :

تراها من يبس الماء شهبا

مخالط درّه فيها اقورار

والحول : السّنة بأسرها ، وجمعه أحوال ، وقد حال الحول يحول حولا وحؤلا واحتال الشيء وأحول : أتى عليه حوال أو أحوال ، وأحال بالمكان : أقام فيه حولا ، وقال الخليل : أرض مستحالة تركت أعواما من الزّراعة.

والسّنة اسم لاثني عشر شهرا ، وهو اسم منقوص والذّاهب منه في لغة كثير منهم الهاء ، كان الأصل سنة ، فحذف الهاء لمناسبتها لحروف المدّ واللّين وعلى هذه اللغة تصغر سنيهة ، ويقال منه : هو يعمل مسانهة ، كما يقال : معاومة ونخلة سنهاء : تحمل عاما وتحول عاما قال :

ليست بسنهاء ولا رجبية

ولكن عرايا في السّنين الجوائح

وفي لغة غير هؤلاء الذّاهب منه الواو ، كان الأصل سنوة ، فحذف الواو تخفيفا ثم جمعت على سنين جبرانا بالنقيصة لأنّ جمع السّلامة إذا حصل في غير النّاطقين ومن جرى مجراهم يكون للتّفخيم والتّعظيم ، أو جبرا لنقص داخل على الاسم ، والأسماء المنقوصة تجد الذّاهب منها في الأعم الأكثر الواو والياء لاستثقالهم إيّاهما ، وكما يحذفونهما حذفا يعلّونهما بالقلب والإبدال ، لأنّ كلّ ذلك يؤدّي إلى التّخفيف ، وعلى ذلك هذه اللّغة يصغّر سنيّة وتجمع سنوات ويقال : هو يعمل مساناة ، ويقال : أسنى القوم وهم مسنون : إذا أتت عليهم سنة ، وقد جعل السّنة اسما للجدب ، فيقال : أصابتهم السّنة ، وجعل الفعل منه أسنت ، فرقا بين هذا المعنى وغيره ، يقال : أسنت القوم وهم مسنتون ، وعلى هذا لغة من جعل لامه واوا دون اللّغة الأخرى ، وهم يفعلون ذلك بما فيه لغتان ويقال أيضا : رجل سنت : أي قليل الخير ، وقوم سنتون ، والتّاء من أسنت هو بدل من الواو ، وهذا كما فعلوا في بنت وأخت ، ثم جعل البدل في أسنت لازما كأنّهم أرادوا أن يختصّ بالجدب ، حتّى كأنّه وضع له ، فلا مناسبة بينه وبين ما للوقت وهذا كما جعل البدل في قولهم : عيد ، لازما ، فقيل : عييد وأعياد في تصغيره وجمعه ولم يردّوه إلى أصله ، وإن كان من عاد يعود لقصدهم إلى أن يختص بما يفيده بعد الإبدال العارض فيه كأنّه بناء آخر له وليس بمشتق.

فأمّا قولهم : العام ، فيقال منه : عاومت النّخلة إذا حملت سنة وحالت أخرى ، وعنب معوم : كثر حمله سنة وقلّ أخرى. وفي الحديث نهى عن المعاومة ، وهو : أن تبيع الزّرع

١٨٣

عامك بما يخرج من قابل ، وهو أن يزيد على الدّين ، ويؤخّر في الأجل ، ويقال : أتيته ذات عويم: أي العام ، ويقال : أعوام عوم وعام عائم على التّوكيد ، كما يقال : شعر شاعر ، وهو عامي إذا أتى عليه عام. قال العجّاج : من أن شجاك طلل عامي.

فصل

قال قطرب : العام لما أنت فيه ، وقابل للثّاني لأنّه يستقبلك ، وجمعه قوابل وقباقب للعام الثّالث ، ومقبقب للعام الرّابع. قال : وكان أبو عمرو بن العلاء يعرف مقبقبا في العام الرّابع ، وجمعه القباقب بفتح أوّله ، وهذا كما قيل : عذافر وعذافر وجوالق وجوالق ، وأنشدنا أبو علي في قابل وهو من أبيات الكتاب :

فقال : امكثي حتّى يسار لعلّنا

نحجّ معا قالت أعاما وقابله؟

ومما يسأل عنه أن يقال : من أين جاز أن يقال عاما أوّل ، ولا يوما أوّل ، ولا سنة أولى. والجواب : أنّ قولهم عاما أوّل مما عمدوا فيه إلى تخصيصه بشيء لا يكون في غيره ، اعتمادا على التّعارف ، لأنّ المعنى : عاما أوّل من عامي ، فلمّا كانت الكلمة متداولة وكانت الحاجة إلى كثرة استعمالها ماسّة حذفوا وأوجزوا معتمدين على علم المخاطب ، والنيّة الإتمام ، ومثل هذا الاختصاص قولهم : اليوم فعلت كذا ، جعلوه ليومك الذي أنت فيه ، ولا يقولون : لقيته الشّهر ، ولا السّنة ، وقد قالوا أيضا : لقيته العام وإن كان العام بمعنى السّنة قال :

يا أيّها العام الذي قد رابني

أنت الغداء لذكر عام أوّلا

فإن قيل : ولم احتجّ إلى من حتى قدرت في قولك : عاما أوّل أنّ أصله عاما أوّل من عامي. قلت : إنّما افتقر الكلام إلى من لأنّهم أرادوا أن يبيّنوا في أفعل ابتداء الزّيادة من أي شيء كان ليعرف حدّه ومبتدؤه. ألا ترى أنّ معنى قولك : زيد أفضل من عمرو أنّ ابتداء زيادة فضله من فضل عمرو ، فهو حدّه. وأوّله ، فكذلك قولهم : عاما أوّل فاعلمه.

واعلم أنّ حيث في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة ، بدلالة أنّه يقع على كل مكان ، لا جهة من الجهات السّت إلّا ولإبهامه يقع عليها ، واحتاج في الاستعمال إلى جملتين : جملة يضاف إليها ، وجملة تفيد حدثا يقع فيه ، كما أنّ حين يقع على كلّ زمان. ولذلك أضيف إلى الجمل الخبرية من الابتداء ، والخبر والفعل والفاعل والشّرط والجزاء ، كما فعل ذلك بإذ وأخواته ـ وإن كان ذلك خارجا من شروط الأمكنة ، لأنّ المكان إذا جاء بهما حكمه أن يضاف إلى مفرد يخصّصه ، فلمّا تناهى حيث في الإبهام لانتظامه جميع الجهات ، ولم يضف إلى مستحقّه من مفرد يخصّصه بل أضيف إلى جملة ، صار هو مضافا إليها في حكم المفرد

١٨٤

فأشبه الغايات من نحو : قبل وبعد وما أشبههما ، لأنّها هي مفردة تضمّنت معنى المضاف إليه وهو معرفة فبنيت جميعا لذلك ، إلّا أنّ الغايات وجب أن تبنى على حركة لأنها ممّا قد يتمكّن في غير هذا الموضع ، فصارت لها مزيّة على ما لا يتمكّن البتّة ، فبناؤها لما لها في أوّل أمرها وحيث وجب أن تبنى على سكون لعدمها تلك المزيّة ، لكنّه حرّك آخره لالتقاء السّاكنين.

وفي حيث لغات أربع : حيث وحيث وحوث وحوث ، فالضّم لدخوله في شبه الغايات مما ذكرناه والفتح لخفّته. وحكى الكسائي عن بعضهم أنّهم يكسرون حيث فيقولون : من حيث لا يعلمون كسرة إعراب ، ويمكن في هذا أن يقال فيه : إنّه شبّه باسم الزمان إذا أضيف إلى غير متمكّن ، نحو من خزي يومئذ ويومئذ وعلى حين عاتبت وحين عاتبت.

والغايات أصلها الظّروف وإعرابها في الأصل : للنّصب والجر ، وكان تمامها بما كانت تضاف إليه ، فأفردت عنه اعتمادا على علم المخاطب به وجعلت في نفسها غاية الكلام ونهايته ، حتّى كأنّه لا افتقار فيه إلى غير هذا ، وقد ضمّن معنى ما كان مضافا إليه ويصير به معرفة ، والاسم إذا تضمّن معنى حرف فحقّه أن يبنى ، وإنّما قلنا : ويصير به معرفة أنك لو نكّرته لأعرب وأجري على أصله ، تقول : جئت قبلا وبعدا كما تقول : أولا وآخرا كما أنّك لو أضفته ، فقلت : من قبل كذا ، ومن بعد كذا لأعرب ولم يبن.

وقال أبو العباس : يقول في الجملة : إنّ كلّ ما كان حقّه الإضافة فحذفت منه استغناء بعلم المخاطب فإنّه معرفة من غير جهة التّعريف وحقّه البناء ، فمن ذلك : قبل ـ وبعد ـ وأوّل ـ ومنذ ـ وليس ـ وغير ـ يدلّك على حذف المضمر ما يحذفه بعد حرف الاستثناء إذا قلت : عنده درهم ليس إلّا ، حذفت ما بعد إلّا استغناء ومنها : من عل ويا زيد ، ومنها : قطّ وهو لما مضى من الدّهر وحسب وهي للاكتفاء ومعنى قطّ فيما مضى فانقطع ، والقطّ القطع عرضا ، والقدّ القطع طولا ، فهو معرفة لا يدخله الألف واللّام ولا الإضافة.

وقال شيخنا أبو علي : قطّ اسم ينتظم أوّل وقت ، ذي الوقت إلى آخر ما بلغه منه ، فهو عبارة عن أمده ومدّته ، فوجب لذلك أن يكون مضافا إلى ذي الوقت كما أضيف إليه قبل وبعد ، فلمّا اقتطع عن الإضافة بني على الضّم كما بنيا ، ومثل قط في انتظامه أوّل الوقت إلى آخره ، منذ : إذا أريد به تعريف أمد الشّيء وذلك نحو أن تقول : لم أر زيدا ، فيقال : ما أمد ذلك ، وما مدّته ، يعني انقطاع الرّؤية فتقول : منذ عشرون يوما فابتداء الوقت وانتهاؤه هذا في انتظام الاسم الذي هو مدّة لهما ، ومن ثم بني منذ أيضا على الضّم حيث كان غاية مثل قطّ ، ويجوز في جوابه المعرفة والنكرة وأبدا يدخله الألف واللّام لأنّه نكرة ومعنى أبدا فيما اتّصل وامتدّ من الوقت ، ومنه الآبدة والأوابد. ومعنى قطّ مخفّفة مسكّنة إذا قلت : قطك ليكفك

١٨٥

واكتف ومثله قدك وحسبك ولتضمّنهما معنى الأمر في أوّل أحوالهما ، استحقّا البناء ، ومثل قطّ وقطك في أنّه يستعمل مثقلا ومخففا قولهم : بخ وبخ.

قال محمد بن زيد : يقال : بخ بخ ، ويثقل أيضا كما قال في حسب بخ وعزاقس وأنشد غيره شعرا :

بين الأشجّ وبين قيس باذخ

بخ بخ الوالدة والمولود

وقال أبو إسحاق الزيادي : الدّليل على أنّ مه ليس من قولك مهلا أنّه ليس في الدّنيا اسم انصرف وهو تام ، وامتنع من الصّرف وهو ناقص. فقال أبو عثمان المازني : بلى قطّ المخففة ، زعم سيبويه أنّها مخففة من قولك قططته قطّا ، قال : والدّليل على ذلك أنّ معنى قطّ معنى حسب ، فهو لقطع الشيء يقوّي ما ذهب إليه أبو عثمان في هذا المعنى قولهم في حسب : بخ فأعربوه مثقلا وبنوه مخففا وتقول : جئت من فوق ، ومن تحت ، ومن أمام ومن دون ، فالضّم في جميع ذلك مستعمل على الوجه الذي بيّنته.

فأما قولك : من عل فمعناه من فوق ، وفيه عدة لغات ذكرها أهل اللّغة وسبيلها سبيل ما قدّمناه من أنّ جميعها في تقدير الإضافة ، فإذا حذفت المضاف إليه لم يخل من أن يكون معرفة أو نكرة ، فإن كان المحذوف نكرة تنكّرت وأعربت وإن كان معرفة بنيت لأنّها بمنزلة اسم قد اكتفي ببعضه عن جميعه ، وبعض الاسم يبنى وهو ظاهر.

واعلم أنّ ل : إذ موضعا آخر غير ما ذكرنا ، وهو قولك : بينا زيد قائم إذ رأى عمروا. وبينما زيد قائم جاء عمرو ، فبينما عبارة عن حين ، والمعنى وقت أنا قائم جاء عمرو ، إلّا أنّ بينما متمكّنة فلها صدر الكلام بمنزلة مذ الذي يرفع الخبر. وكان الأصمعيّ يجرّبها المصدر خاصة وينشده : بينا تعتقه الكماة وروغه ، يريد حين يعتقه والنّحويون يخالفونه لأنّها مبهمة لا تضاف إلّا إلى الجمل التي بيّنتها. وقال سيبويه : إذ يكون للمفاجأة إذا قلت : بينا أنا جالس إذ حضر عمرو ، وبينا أنا أكلّم عمرو إذ طلع زيد.

وكان الأصمعيّ وكثير من النّحويين يأبون وقوع إذ في هذا الموضع ، لأنّ معنى بينا الحين ، فإذا قلت : حين زيد قائم إذ طلع عمرو ، فلا معنى له إنّما الكلام حين زيد قائم طلع عمرو ، وإذ فضلة. قال أبو العبّاس : أشعار العرب على ذلك قال :

بينا نحن نرقبه أتانا

معلق وفضة وزنا دراع

وقال امرؤ القيس :

فبينا نعاج يرتعين خميلة

كمشي العذارى في الملاء المهذّب

فكان ينادينا وعقد عذاره

وقال صحابي قد شأونك فاطلب

١٨٦

فأمّا ما قاله سيبويه فغير بعيد ، وقد أجازه قوم. وأنشد سيبويه شعرا :

بينما هنّ بالكثيب ضحى

إذ أتى راكب على جمله

وقولك : خرجت فإذا زيد قائم ، يجوز أن يقال : فإذا زيد قائم خرجت كما تقول : خرجت فإذا زيد ، لأنّ إذا ظرف مكان وسمّي الاسم به والمعنى : فحضرني زيد وإذ إذا جعل للمفاجأة كان في مثل معناه وأمّا مذ ومنذ فقد قال أبو العباس : أوّل ما يذكر من أمرهما أنّه يجوز أن يكون كلّ واحد منهما اسما وحرفا جارّا ولذلك قال سيبويه : إنّ مذ فيمن جرّ بها بمنزلة من في الأيّام ومذ ومنذ شيء واحد إلّا أنّ الأغلب على مذ أن يكون اسما وعلى منذ أن يكون حرفا لأنّ النّقصان إنما يكون في الأسماء والأفعال دون الحروف ، وذلك في نحو : دم ويد وخذ وكل.

والدّليل على أنّ مذ منقوصة من منذ أنّك لو سمّيت إنسانا أو غيره بمذ ثم صغرته لقلت منيذ ، فرددت ما ذهب فإنما هو بمنزلة لد ولدن ومن عل ومن علا وآتيك غدا وغدوّا ، فإن أردت في منذ أن يكون حرفا قلت : لم أرك منذ يومين ، ومذ يوم الجمعة ومعناه : من هذه الغاية ، وكذلك سرت من مكان كذا ، وإذا أردت أن يكون اسما قلت : لم أر ذاك مذ يومان أي أمد ذاك يومان وهذا ابتداء وخبر والرّفع في مذ أكثر. وإذا قلت : أنت عندنا مذ اللّيلة أو مذ اليوم صارت بمنزلة منذ التي غلب عليها الحرفية ، وذاك لأنّ العلّة التي يوجب منها الاسمية قد زالت لأنّك إذا قلت : لم أرك منذ يومان ، فالمعنى بيني وبينك يومان وإذا قلت : أنت عندنا مذ اللّيلة ، فليس معناه بيني وبينك اللّيلة ، إنما هو في اللّيلة فإنّما المعنى فإذا قال : رأيت زيدا مذ يومان ، فيجوز أن تكون الرّؤية متّصلة ، ويجوز أن يكون رآه في ذلك الوقت ، ثم لم يره بعده ، وإنّما هذا على قدر ما تقدم ، يقول القائل : إنّ زيدا يأتيك مذ مدة ، فأقول : أنا رأيته مذ يومان أو شهران ، وتأويل هذا إنّما حدثت هذه الرّؤية في هذا الوقت ، أو يقول القائل : زيد أيأتيك في كلّ يوم؟ فأقول : ما رأيته مذ يومان ، أي قد انقطع عنّي بعدهما ، ولو قال القائل مبتدئا : رأيت زيدا مذ يومان ، ثمّ لم يصله بكلام ، ولم يعطفه على كلام ، لم يحكم فيما بعد الوقت بشيء ويتصل بهذا أن تقول : رأيت زيدا مذ يومان ، يختلف إلى عمرو ، ورأيت زيدا مذ يومان يضرب عمرا ، فإنّما خبّرت بوقت الضّرب ولم تعرض لما بعده وتقول : رأيت زيدا يوم الجمعة أي أوّل ما فقدته أوّل يوم الجمعة ، فيقع النّفي على جميع اليوم كما كانت الرّؤية في جميعه. ويجوز أن يكون النّفي واقعا على بعض اليوم فيكون حدّ الرّؤية منه مجاوز الأول الفقدان ، وقول القائل : لا كالمشية زائر ومزورا معناه : لم أر زائرا كزائر رأيته اليوم ، قال : ولا يقولون في سائر الصّفات ، يعني الظّروف لا يقولون لا كنصف النهار ولا لا كهذه السّنة قال الشاعر شعرا :

١٨٧

روحوا العشيّة روحة مذكورة

إن متن متن وإن حيين حيينا

إن متن متن وإن حيين فلا أرى

لا كالعشيّة إن بقين بقينا

واعلم أنّ قول القائل : ما برحت أفعل كذا براحا. أي أقمت على فعله مثل ما زلت أفعله ، وهذا في الزّمان ولا بدّ له من خبر. فإن قلت : ما برحت من مكان كذا ، فالمعنى ما زلت براحا وبروحا ، وهذا في المكان كالأوّل في الزّمان وقد مضى القول فيه ، ويمضي في غير موضع من هذا الكتاب.

وقد قيل : إنّ براح اسم للشّمس معدول عن البارحة الزّائلة مثل قطام وقولهم جبل براح يوصف به الأسد والشّجاع ، لأنّ زواله متعذّر كأنه شدّ بالجبال ، وهذا غريب فيما يشتق ، ومثله قول القائل : البارح من الظّبا والطّير هو المنحرف عن الرّامي إلى جهة لا تمكّنه من الرّمي ، والسّانح المقبل المتعرّض في جهة تمكن. قال : ولذلك يتشاءم بالبارح ، ويتيمّن بالسّانح ، قال : فأمّا من تيمّن بالبارح ، فلأنه نجا ، ومن تشاءم بالسّانح لأنه هلك. وقول ابن الأحمر :

غدوا وأعدّوا الحيّ الزّيالا

وشوقا لم يبالوا العين بالا

الغدو يحتمل أمرين : يجوز أن يكون مصدرا ، ويجوز أن يكون اسم اليوم الذي يلي يومك ، فإن جعلته مصدرا يكون مثل غدا غدوا ، ويكون مفعولا وواعدوا الزّيال المفعول الثاني ، وينعطف عليه شوقا كأنّهم لمّا وعدوا بالزّيال المهيّج للشّوق فقد وعدوا بالشّوق.

ومثله الغدوّ في القرآن : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سورة سبأ ، الآية : ١٢] فالغدوّ : مصدر بدلالة أنّه قابله بالرّواح ، والتّقدير مسيرة غدوّها مسيرة شهر ، وإن جعلته اسم اليوم فمثله قوله : بها يوم حلّوها وغدوا بلاقع. والمعنى في غدو : أعدوا الحيّ الزّيال وشوقا ، ويكون المفعول الثّاني محذوفا ، وأما قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [سورة الرعد ، الآية : ١٥] فيجوز أن يكون الغدوّ : جمع غد مثل نحو ونحو ، ويقوّي ذلك أنّه قوبل به الجمع الذي هو الآصال ، ويجوز أن يكون المصدر ، ويقويه قوله : (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٤١] وقال :

أفد الرّحيل وليته لم يأفد

فاليوم عاجله ونعذل في غد

أي اليوم عاجل البين ، ونعذل في غد أي في أخبار غد يضيف المصدر إلى المفعول به لأنّه خرج بانجراره من أن يكون ظرفا ، فهو مثل : من دعاء الخير ، وبسؤال نعجتك ، وقال : وليس عطاء اليوم مانعه غدا. أي مانعه عطاء غد فحذف المضاف.

١٨٨

الباب الثّالث عشر

فيما جاء مثنّى من أسماء الزّمان واللّيل والنّهار ، ومن أسماء الكواكب وترتيب

لأوقات وتنزيلها

يقال : اختلف عليه العصران أي اللّيل والنّهار وقد يراد بهما الغداة والعشيّ ، لأنّ العصر من أسماء العشي ، ولذلك قيل : صلاة العصر ، ثم يسمّى الغداة أيضا عصرا ، ويثنّى كما يقال : القمران في الشّمس والقمر ، وقد تصرفوا هذه اللفظة فقالوا : ألم يجيء فلان لعصر بضم العين أي لم يجيء حين مجيء.

وفي العصر لغتان : الضّم والفتح واستعمل في هذا أحدهما ، وكذلك قالوا : أما نام لعصر أي لم ينم حين نومه ، وما نام عصرا ، وكلّ ذلك بالضّم ويقال : أعصرت الجارية أي بلغت حين إدراكها. قال : قد أعصرت أو قد دنا إعصارها. وهذا كما يقال : أحصد الزّرع وأجذّ النخل ، كأنّها بلغت عصر شبابها وعصور شبابها وعصر شبابها ، فأمّا فعل كذا عصرة أي مرة ، فيجوز أن يكون من ذلك أيضا.

وحكى بعضهم أنّ العصر لما قد سلف ، ولم يجيء في شعر الفحولة إلا كذلك وقد جاء في شعر من دونهم ، وقال ابن الكلبي : هو الدّهر كلّه الماضي والمؤتنف ، ويقال : لا أكلّمك العصرين ، وما اختلف العصران ، وهما القرنان والطّفلان. قال لبيد :

وعلى الأرض غيابات الطّفل. وقال : يسعى عليها القرنين غلام ، وهما العصران والبردان والأبردان والبردتان ، ويجمع فيقال : الأبارد. ويراد بها أطراف النّهار.

وقال أبو سعيد الضّرير : العيّوق ما دام متقدّما على الثّريا ، ففي الزّمان بقية من الأبارد ، وإذا استوى العيّوق مع الثّريّا فقد بقي منها شيء قليل ، وقال ذو الرّمة :

وماج السّفا موج الحباب وقلّصت

مع النّجم عن أنف المصيف الأبارد

ويقال : اختلف عليه الملوان : أي اللّيل والنّهار. قال ابن مقبل :

١٨٩

ألا يا ديار الحيّ بالسّبعان

أمل عليها بالبلى الملوان

وهذا تثنية ملا ، وفسّر أمل عليها : طال عليها. قال الشيخ : ويجوز عندي أن يكون أمل من إملال الكتاب ، يقال : أمل الدّروس والخلوقة عليها الملوان ، ويكون الباء في قوله : بالبلى : إن شئت زائدة للتأكيد ، وإن شئت قلت : أراد بسبب البلى ويكون مفعول أملى محذوفا.

وذكر بعض النّظار أنّ قولهم : ملوان لا يكون اللّيل والنّهار بدلالة قول ابن مقبل نهار ، وليل دائم ملواهما. والشيء لا يضاف إلى نفسه ولكنّه المتّسع من الدّهر ، ولو قيل : غدوّها وعشيّهما كان أشبه. وقال ابن أحمر شعرا :

ليهنكم أنّا نزلنا ببلدة

كلا ملوة بها ميبس غير منعم

وقد تصرّفوا في هذه اللّفظة على أبينة مختلفة فقالوا : لقيت عنده ملوة من الدّهر وملوة ومليا. قال الله تعالى : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٤٦] ومضت ملاوة من الدّهر وملاؤه وملاوة. قال أبو ذؤيب شعرا :

حتّى إذا جزرت مياه رزوبة

وبأيّ حزّ ملاؤه يتقطّع

ومن هذا قوله تعالى : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) [سورة الحج ، الآية : ٤٤] أي أخّرت النّقمة منهم يقال : أملى الله لفلان العمر : أي أخّر عنه أجله ، وقوله : بأيّ حز ملاوة ، لفظة استفهام والمعنى معنى الخبر أي : تنقطع تلك المياه في حين ، وأي حين ، والمراد في أشدّ ما كان حاجة إليها عند انتهاء الحر وذهاب الرّطب ، وانتشاف الغدران ، وهذا كما تقول : في أيّ حين ووقت زيدا حين تمكّن العدوّ منه ، وضاقت المسالك به ، ويقال : على أيّ حزة أتانا فلان؟ أي أي ساعة وحين ، وجئتنا على حزّة منكرة ، وكأنّه يعني ما حزّ من الدّهر أي قطع ، وإنّما أضاف الحزّة إلى الملاوة ، وهما اسمان للوقت ، لأنّ المراد بأيّ ساعة من الدّهر ، فالحز اسم للجزء اليسير. والملاوة : للممتد المتّصل ، وهذا كإضافة البعض إلى الكل ، ويقال : تملّيت حبيبا : أي عايشته طويلا ملاوة وحينا ، وملاك الله نعمة أي أدامها وأطال وقتها ، وقال الأسود بن يعفر :

آليت لا أشريه حتّى يملّني

وآليت لا أملاه حتّى تعارقا

قال قطرب : قوله : أملاه أتى به على مليه : بلاه وقالوا : أملاك الجديدان والأجدان والفتنان : أي اللّيل والنّهار ، وابنا سمير ، وكل ذلك اشتقاقه وطريقته ظاهر ، قال :

لم يلبث الفتنان أن عصفا بهم

ليل يكرّ عليهم ونهار

١٩٠

وقال آخر :

غدا فينا دهر وراحا عليهما

نهار وليل يكثران التّواليا

ومن هذا الباب قولهم : لا أفعله ما اختلف الصّرعان أي الغداة والعشي ، ويقال : الصّرعان : أي الغداة ، وبالفتح أيضا ويقال : أتيته صرعي النّهار أي طرفيه من طلوع الشّمس إلى الضّحى ، وبالعشيّ بعد العصر إلى اللّيل ، ثم قالوا : هما صرعان : أي مثلان ، فعلى هذا يراد باختلافهما تصرّفهما ، ويقال أيضا : هو ذو صرعين : أي لونين ويجمع على الصروع ، وما أدري على أيّ صرعى أمره وقع ، أي حاليه وتركهم صريعين : أي ينتقلون من حال إلى حال ، وهو يفعله على كل صرعة ، أي على كلّ حالة.

وحكى ابن الأعرابي : لا أكلّمك ما اختلف الصّرعان : الحينان غدوة وعشية ، ومن كلامهم : عندك ديك يلتقط الحصى صرعيه ، يقال : هذا مثلا للنّمام ، قال : وعلى هذا : يراد الاختلاف الذي هو ضد الوفاق. فأما قولهم : المصراعان في الأبواب وأبيات الشّعر فيجوز أن يكون من التماثل ، ويجوز أن يكون من قولهم : هو صرع كذا أي حذاءه. الزّيادي اختلف عليه الفتنان ، أي الغدوة والعشية من الفتون وهو الضّروب.

وقال أبو سعيد في قول الله تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [سورة طه ، الآية : ٤٠] أي فتونا في اليمّ وفي مدين وحيث قيل : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [سورة طه ، الآية : ١٢] وذكر يعقوب زرته : البردين والقرنين أي طرفي النّهار. وزرته الغربين أيضا : أي غدوة وعشية. الأصمعي اختلف إليه الرّدفين أي الغداة والعشي ـ والغداة ردف اللّيل والعشيّ ردف النّهار.

ويقال : لقيته بأعلى سحرين وبأعلى السّحرين أي وقت السّحر الأعلى وهو قبيل الصّبح. قال : غدت بأعلى سحرين تذأل. وبأعلى سحر. قال العجاج : غدا بأعلى سحر وأجرسا. رد بعضهم بيت العجّاج وقال : كان ينبغي أن يقول : بأعلى سحرين لأنّه أوّل تنفّس الصّبح ، ثم الصّبح وتقول : أسحرنا كما تقول : أصبحنا ـ وتسحّرنا أكلنا سحورا ـ وجئتك بسحر ـ وبسحرة ـ وبالسّحر ـ وسحيرا.

وقال أحمد بن يحيى : الأسحار : الأطراف وبه سمّي سحر ، وأنا أراك منذ سحر. وقال قطرب : أتيتك سحرية وسحريا وسحر ، ويقول : سحرى هذه اللّيلة أيضا. قال في ليلة لا نحسّ في سحرّيها وعشائها.

ويقال : صبح ولا جمع له ، وصباح وصبيحة وأصبوحة وإصباح ، لأنّ العرب تجعل الإصباح لنفس اللّيل ، فيقول : أصبح قال فبات يقول : أصبح ليل حتى تجلّى عن صريمة الظّلام. والصّبح صبحان ، كما أنّ السّحر سحران. ويقال : ابنا جمير اليومان اللّذان يستسر القمر

١٩١

فيهما في المحاق قبل البحيرة ، وابن حمير أيضا.

وحكى أبو العباس المبرّد أنّه يقال للشّتاء والصّيف : العصران وكذلك لكل مختلفين معناهما واحد. قال الرّبيع بن صبيع :

أصبح منّا الشّباب قد بكرا

إن بان منّا فقد ثوى عصرا

يعني سنين كثيرة ، والقارنان اللّيل والنّهار وأنشد للكميت شعرا :

يا من عذ يرى من ذواله

كم ذا يزيد على إباله

يغدو عليّ مقارنا

كالقلونين مع الغزالة

فلا جبانك مشقصا

أوسا أويس من الهباله

قوله : على إباله ، مثل يقال للرّجل إذا جاء بمكروه ثم أعقب بعده بمثله ضغث يزيد على إباله ، والإبالة الحزمة الكبيرة. قوله فلا جبانك يريد لأرمينّك بسهم حبالك. والأوس العطية ، وأويس تصغير أوس وهو الذّئب. والهبالة من الاهتبال وهو الاغتنام ، وقال بعضهم : الهبالة اسم ناقة. يقول من يعذرني منه مقارنا غدوة وعشية وقيل في القارنين هما اللّيل والنّهار. ويقال للشّمس والقمر القمران. قال : لنا قمراها والنّجوم الطّوالع. ويقال لهما السّراجان من قوله تعالى : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [سورة نوح ، الآية : ١٦] والنّيران ومما جاء مثنى من أسماء الكواكب السّماكان الرّامح ـ والأعزل ـ والنّسران : الطّائر ـ والواقع ـ والفرقدان والشّعريان ـ العبور ـ والغميصاء ـ والمرزمان وهما مرزما الشّعريين والهراران ـ قلب العقرب والنّسر الواقع والخراتان (١) في الأسد والغميصاوان والوزنان حضار ـ والوزن والمحلفان وهما حضار والوزن أيضا.

وقال ثعلب الهراران النّسران لأنّهما إذا طلعا في المشرق فهو نهاية البرد وهذا كما قيل : سهيل لأنّ الحرّ يسهل عند طلوعه ، وقيل للدّبران الحادي والدّابر والتّابع ويقال : ما رأيته منذ أجردان وجريدان وأجدان وجديدان أي يومان أو شهران. وابنا سمير اللّيل والنّهار والسّمر الدّهر وابنا سبات اللّيل والنّهار ، وقيل ابنا سبات رجلان وأنشده شعرا :

وكنّا وهم كابني سبات تعزفا

سوى ثم كانا منجدا وتهاميا

وعرقوتا الدّلو والفرغان للمقدّم والمؤخّر ، وحكى أبو العبّاس ثعلب : الأثرمان : الدّهر والموت وأنشد شعرا :

__________________

(١) والخراتان نجمان وهما زبرة الأسد والزّبرة بالضّم الكاهل وكوكب من المنازل وهما كوكبان نيّران بكاهلي الأسد ينزلهما القمر ـ قاموس.

١٩٢

ولمّا رأيتك تنسي الذّمام

ولا قدر عندك للمعدم

وتجفو الشّريف إذا ما أخلّ

وتثني الدّنيء على الدّرهم

وهبت أخاك للأعجمين

وللأثرمين ولم أظلم

أخلّ : احتاج من الخلة والأعجمان : السّيل والحريق ، وحكى أبو عمر وغلام ثعلب مرزم السّماك ومرزم الجوزاء.

فصل

في ترتيب الأوقات وتنزيلها

قال أبو نصر : تكوير اللّيل على النهار والنّهار على اللّيل أن يلحق أحدهما بالآخر. وإيلاج النّهار في اللّيل ، واللّيل في النّهار ، دخول أحدهما في الآخر. وقال الخليل : التكوير تغشية اللّيل النّهار والنّهار اللّيل. ومنه كارة القصار. وقال الدّريدي : الكور كور العمامة والقطعة العظيمة من الإبل ، وفي المثل : نعوذ بالله من الحور بعد الكور ، أي النّقصان بعد الزّيادة ، وكرت العمامة كورا ، وكذلك الكارة وكار الرجل ، واستكار : أسرع في مشيته يكور كورا ، وزلف اللّيل من النّهار والنّهار من اللّيل ساعات كل واحد منهما يأخذه من صاحبه ، والواحدة زلفة. قال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤] ومنه المزالف والزّلفى ومزدلفة.

وقال الخليل : مزدلفة : سميت بهذا الاسم لاقتراب النّاس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات ، قال الأصمعي : إذا طلع الفجر فأنت مفجر حتى تطلع الشّمس فإذا طلعت فأنت مشرق إلى ارتفاع النّهار ، ثم أنت مضح. وفي القرآن : (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٦٠] في وقت طلوع الشّمس ، والإشراق والتّشريق انبساطها ، والشّروق طلوعها. ثم أنت مضح حتى تزول الشّمس ، فإذا زالت فأنت مهجر ومظهر إلى أن تصلّي العصر ، ثم أنت معصر ومقصر وموصل إلى أن تحمّر الشّمس ، ثم أنت مطفل إلى أن تغيب ، فإذا غابت فأنت مغيب ومغرب وموجب ومشفق ومسدف ، فإذا غاب الشّفق فأنت مظلم ومفحم.

قال أبو العبّاس ثعلب : يقال : رجل نهر وسابح إذا كان يتصرّف في النّهار دون اللّيل ، فإذا كان باللّيل دون النّهار قيل : هو ليلي لابس ، وهذا أخذه من قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [سورة النّبأ ، الآية : ١٠ ـ ١١] وقوله تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) [سورة المزّمل ، الآية : ٧] وقد قيل : سبحا أي : عملا وتقلبا ومنه سمّي السّابح لتقلّبه بيديه ورجليه ولباسا : أي استمتاعا من قوله :

لبست أبي حتّى تملّيت عيشه

وملّيت أعمامي وملّيت خاليا

١٩٣

وذكر بعض أصحاب المعاني أنّ العيشة والعيش ليسا بالحياة ، ولكن ما يستعان به على الحياة واستدلّ بقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [سورة النبأ ، الآية : ١١] قال : وهذا كما قال في الآية الأخرى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [سورة القصص ، الآية : ٧٣] وقال في موضع آخر : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٧] أي ما ألبسهم من ظلمته فلبسوه لباسا ، والنّوم سباتا أي سكونا وأنشد لأميّة :

ما أرى من يعشّني في حياتي

غير نفسي إلّا بني إسرال

وقال : المراد بقوله : يعشني يعينني على أمر الحياة ، والسّكون إنّما هو في اللّيل والابتغاء من فضله بالنّهار ، ولكن لمّا عطف أحدهما على الآخر أخرجا مخرج الواحد الجامع للشّيئين ، ونظير هذا من الكلام : لئن لقيت زيدا وعمرا لتلقينّ منهما شجاعة وفصاحة ، على أنّ الفصاحة لأحدهما والشّجاعة للآخر ، وهذا بمنزلة ما يقع في الجمع إذا قلت : في بني فلان خير وشر ، لأنّ الدّعوة قد ضمّتهم جميعا فانطوت على الخير والشرّ ، وإن كان الخير في جماعة والشّر في آخرين ، وكذا كلّ تثنية وجمع تعلّق الخبر به على الإجمال ، لأنّه يصير كالواحد.

وقال تعالى في موضع آخر : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٧] أي : ينشرون فيه عن نومهم باللّيل ، والانتشار التّصرف. وقال في موضع آخر : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً) [سورة القصص ، الآية : ٧٢] أي دائما ، يقال : هو يسهر سهرا سرمدا إذا لم يكتحل فيه بغمض ولا يكون السّرمد ما يقع فيه فصل ، وقوله تعالى : (تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [سورة النمل ، الآية : ٤٩] أي تحالفوا ، وكلّ عمل باللّيل تبييت. ويقال : هو أمر دبّر بليل. ويقال للصّقيع : البيوت ، لوقوعه باللّيل ، وفي القرآن : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) [سورة النساء ، الآية : ١٠٨] وأنشد أبو عبيدة شعرا :

أتوني فلم أرض ما بيّتوا

وكانوا أتوني بأمر نكر

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٢] الخلفة ما خلف بعضه بعضا أي كلّ واحد يخلف صاحبه ، قال زهير :

بها العين والأرآم يمشين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم

ومعنى لمن أراد أن يذكر ، يريد لمن أراد أن يتذكّر ويستدلّ على نعم الله على خلقه وعلى أنواع لطفه فيما تعبّدهم به وتظاهر حججه وتبيانه فيما ندبهم إليه ، وهذا كما قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [سورة القمر ، الآية : ٣٢] وكقوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا

١٩٤

الْأَلْبابِ) [سورة الرعد ، الآية : ١٩] وقوله تعالى : (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٢] يريد أو يتأمل ما ينقل فيه حالا بعد حال من صنوف آلائه ، ووجوه إحسانه ، فيضم الشّكر فيه. قوله : خلفة فيما يؤدّيه من المعنى كما حكاه أبو زيد من قولهم : ولد فلان شطرة ، والمراد ذكورهم بعدد إناثهم ، فهذا من الشّطر ، كما أنّ ذاك من الخلافة. والنّشأة والنّاشئة أوّل ساعات اللّيل.

وقال ابن الأعرابي : إذا نمت من أوّل اللّيل نومة ثم قمت ، فتلك النّاشئة والنّشأة حجر يكون على الحوض. قال ومنه قوله : هرقناه في بادي النّشيئة داثر والنّشيئة الجارية. ومنه قول الشاعر شعرا :

ولو لا أن يقال صبا نصيب

لقلت بنفسي النّشأ الصّغار

قال أبو العباس المبرّد : إذا قال القائل : ما رأيته مذ مدّة من يومي علم أنّ ذلك ساعة أو ساعات. وإذا قال : مذ مدّة من عمري علم أنّ ذلك سنة أو سنون أو ما يدانيه.

ومن ظروف المكان مني فرسخين : وكان شيخنا أبو علي يقول : هذا كان يقوله الدّليل لمن يستهديه ، أي : إني أرشدك في فرسخين ، ومعنى من شأني وأمري كما قال : فإنّي لست منك ولست منّي ويجوز أن يقول : أنت منّي فرسخان ، كأنّه جعله نفس الفرسخين. والمعنى : بيننا هذه المسافة ، فأمّا قولهم : هو منّي معقد الإزار ومقعد له لقابلة ، ومناط الثّريا فإنما ساعت أن تكون ظروفا وإن كان المحدود من الأماكن لا يجعل ظروفا لأنّها أزيلت عن مواضعها ، فوضعت موضع القرب والبعد ، فدخلها بذلك الإبهام ، وتقول : اليوم الجمعة واليوم السّبت ، وجعلت الثّاني هو الأوّل ، فرفعت لكونه مبتدأ أو خبرا ، وإن نصبت فقلت : اليوم السّبت واليوم الجمعة جاز. وتجعل الثّاني كالحدث لتضمّنه معنى الفعل ، فيصير كقولك : اليوم الخروج ، وغدا الارتحال ، ولو قلت : زيد اليوم لم يجز ، لأنّ ظروف الأزمنة لا تتضمّن الأشخاص والجثث ، لأنّها لا تخلو منها على كلّ حال ، فلا يحصل في الكلام فائدة ، وكذلك إذا قلت : حضرت يوم الجمعة ، كان يوم الجمعة ظرفا لا غير ، لأنّك إن جعلته مفعولا لم يكن فيه فائدة ، لأنّه لا يغيب عنه أحد وعلى هذا قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ويقول : الصّيام عشرة أيام إلّا يوما ، فلا يجوز إلا الرّفع لأنّه يريد الوقت كلّه فهو كقوله تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سورة سبأ ، الآية : ١٢] وتقول : اليوم عشر من الشّهر والاختيار النّصب ، وكذلك إذا قلت لك : اليوم شهران أو سنتان نصبت اليوم ، وإن سقط من الشّهر شيء لأنّ الاسم يستحق منه على نقصانه ، وتقول : لا أكلّمك أخرى اللّيالي ذكر أخرى ليصلها بما قد مضى ، وكذلك غابر الدّهر : أي باقيه وقوله : رآها مكان السّوق أو هو أقربا ، مثل قوله تعالى : (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ

١٩٥

مِنْكُمْ) [سورة الأنفال ، الآية : ٤٢] أي في مكان أقرب أو أسفل ويقول : هو منّي قدر أن تناوله يدي ، وفوق أن يناوله يدي ، وبعضهم يرفعه والوجه النّصب وعلى هذا قوله شعرا :

وقد جعلتني من خريمة إصبعا

ويقول : لقيته من قبل قبل

على التّكرير ، غاية ولقيته من قبل قبل تضيف الأوّل ولا تضف الثّاني ، والنّية في الإضافة أن تكون إلى نكرة ، وإن كانت النّكرة في مثل هذا المكان تفيد فائدة المعارف ، بدلالة قوله آتيك غدا ، لأنّه نكرة كالمعرفة ، وقبل الذي لم تضفه معرفة لكونه غاية بما ضمّن ، وهو في حكم البدل من قبل الأوّل ، لأنّ إبدال المعرفة من النّكرة هو الأصل ، وإن شئت قلت لقيته من قبل قبل ، تنوي الإضافة فيهما على ما بيّنته. ومثله قولهم : من وراء وراء في الوجوه كلّها. وقد ذكر سيبويه في قولهم : من عل أنّه مضارع لقولهم : من عل لأنّهما لمّا وقعا لمعنى واحد على تقديرين مختلفين سمّاه مضارعه ، فأمّا قوله : وقد علاك مشيب حين لا حين ، فالمراد حين غير حين أي جاء المشيب في غير أوانه ، فأدخل النّفي على حدّ ما كان موجبا.

فصل

في قوله تعالى : (ما ذا قالَ آنِفاً) [سورة محمد ، الآية : ١٦] وفي أحرف سواه يكثر البلوى به.

قال أبو زيد : يقال : ائتنفت الكلام ايتنافا وابتدأته ابتداء أو هما واحد ، وأنشد :

وجدنا آل مرّة حين خفنا

جريرتنا هم الأنف الكراما

ويسرح جارهم من حيث أمسى

كأنّ عليه مؤتنفا حراما

قال السّكري : الأنف : الذين يأنفون من احتمال الضيم. قال شيخنا أبو علي : فإذا كان كذا فقد جمع فعلا على فعل ، لأن واحد أنف أنف بدلالة قوله :

وحمّال المئين إذا ألمّت

بنا الحدثان والأنف النّصور

ووجه هذا أنّه شبّه الصّفة بالاسم ، فكسّرها تكسيره ، فقالوا في جمع نمر : نمر وأنشد سيبويه : فيها عياسل أسود ونمر. وليس الأنف والأنف في البيتين ممّا في الآية في شيء ، لأنّ ما في الشّعر من الأنف ، وما في الآية في معنى الابتداء ولم يسمع أنف في معنى ابتداء وإن كان القياس يوجبه.

وقد يجيء اسم الفاعل على ما لم يستعمل من الفعل نحو : فقير جاء عن فقر والمستعمل افتقر. وكذلك شديد ، والمستعمل اشتدّ ، فكذلك قولك آنفا والمستعمل ائتنف ،

١٩٦

فأما قوله : كان عليه مؤتنفا حراما ، فالمعنى كان عليه حرمة شهر مؤتنف حرام ، فحذف المضاف وأقام الصّفة مقام الموصوف ، والتّقدير : أنّ جارهم لعزّهم ومنعتهم لا يهاج ولا يضام ، فكأنّه في حرمة شهر حرام وقوله : ويأكل جارهم أنف القصاع ، فإنه يريد أنّهم يؤثرون ضيفهم بأفضل الطّعام وخيره فيطعمونه أوّله لا البقايا ، وما أتى على نقاوته ، فهذا جمع على أنف مثل : بازل وبزل قابل وقبل. وإذا كان كذلك قرئ قراءة من قرأ : (ما ذا قالَ آنِفاً) [سورة محمد ، الآية : ١٦] وأمّا ما روي عن ابن كثير من قوله : أنفا فمجوز أن يكون توهّمه مثل حاذر وحذر ، وفاكه وفكه والوجه الرّواية الأخرى آنفا بالمدّ كما قرأ عامتهم.

وقال بعض أصحاب المعاني : لا يمتنع أن يكون الباب الذي قسمه كلّه من أصله واحدا وهو التقدّم ، وتكون الأنفة من الأنف الذي هو الجارحة ، وسمّيت به لتقدّمه في الوجه. ثم جعل ما يؤنف منه من الذّل ، كإضافة الأنف وجدعه يبيّن هذا ويشهد له قولهم : بعير أنف ومأنوف : إذا عقره في الخشاش فانقاد لما يراد منه ، وفي الحديث : «المسلم هيّن ليّن إن قيد انقاد» وقد نسب الذّل إلى الأنف في كلامهم حتّى قيل : هو يحمي أنفه من كذا وهو حمي الأنف ، والشاعر قال :

ولا نال أنفا منه بالذّل نائل

وقال أبو إسحاق في قوله تعالى : (ما ذا قالَ آنِفاً) [سورة محمد ، الآية : ١٦] أراد في أوّل وقت يقرب منّا ، وقال الخليل : أنفت فلانا أنفا ، كما تقول : الذي قبل أي قبل كأنه أراد أنفته فأنف أنفا ، والمعنى حركته من أقرب وقته فابتداء هذا بيان ما رمى به الخليل. ويجوز فيه وجه آخر : وهو أن يريد ما ذا قال فيما أنفه وأنفا ويكون أنفته وأنفا من باب قم قائما وأشباهه. ويكون اسم الفاعل نائبا عن المصدر ، قال : وائتنفت ايتنافا أوّل ما يبتدأ فيه ، والمستأنف من الكلام والأمر كذلك.

قال أحمد : وعلى ما حرّرناه من كلام المعترض وحكاية الخليل ، صحّ قراءة ابن كثير وتوجّه اختياره أنفا غير ممدود قياسا وسماعا ، ولم يكن متوهّما فاعلمه.

ومن الأحرف التي نداولها قوله تعالى : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) [سورة ق ، الآية : ٤٠] هو مصدر والمصادر تجعل ظروفا على إرادة إضافة أسماء الزّمان إليها وحذفها كقولك : جئتك مقدم الحاج ، وخفوق النّجم ، وخلافة فلان ، يريد في ذلك كلّه وقت كذا فحذفه فكأنّه قال : وقت أدبار السّجود ، إلا أنّ المضاف المحذوف في هذا الباب لا يكاد يظهر وهذا أدخل في باب الظّروف من قولك أدبار السّجود إذا فتحت وكأنه أمر بالتّسبيح بعد الفراغ من الصّلاة.

وقد قيل : أريد به الرّكعتان بعد المغرب ، وأدبار جمع دبر ودبر وقد يستعمل ظرفا نحو : جئتك في دبر الصلاة ، أي في أدبار الصّلاة ، وقال شعرا :

١٩٧

على دبر الشّهر الحرام لأرضنا

وما حولها جدت سنون تلفّع

وقوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) [سورة يوسف ، الآية : ٢٢] أي منتهى شبابه وقوّته واحدها شدّ مثل فلس أو شد مثل فلان ودي ، والقوم أودى ، أو شد مثل نعمه وأنعم ، ومعناه قال مجاهد : ثلاثا وثلاثين سنة واستوى معناه أربعين سنة ، قالوا : وأشد اليتيم ثماني عشرة سنة. قال أبو زيد : يقال : هو الأشد وهي الأشد ، وفي القرآن : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [سورة الأحقاف ، الآية : ١٥].

قال الفرّاء : الأشد هنا هو الأربعون أقرب إليه في النّسق ، وأنت تقول : أخذت عامّة المال ، إذ كلّه لا يكون أحسن من أن يقول : أخذت أقلّ المال ، أو كلّه وأنشد المفضّل في شدّ :

عهدي به شدّ النّهار كأنّما

خضب اللّبان ورأسه بالعندم

وعند أكثر أصحابنا البصريّين أنّ الأشدّ واحد ، وأنّه شاذ لأنّه لم يجيء أفعل في الواحد.

وقوله تعالى : (أَحْسَنُ مَقِيلاً) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٤] من القائلة وهو الاستكنان في وقت انتصاف النّهار ، وجاء في التّفسير لا ينتصف النّهار يوم الجمعة حتّى يستقرّ أهل الجنّة في الجنّة وأهل النّار في النار ، فتحين القائلة ، وقد فرغ من الأمر فيقيل كل من الفريقين في مقره.

السّنون التي دعا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها على مضر وقال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها سنين كسني يوسف» يقال : كان النّاظر منهم يرى بينه وبين السّماء دخانا من شدّة الجوع ، ويقال : بل قيل للجدب دخان ، حتّى قيل في قوله تعالى : (بِدُخانٍ مُبِينٍ) [سورة الدّخان ، الآية : ١٠] أي جدب ، ليبس الأرض ، وارتفاع الغبار ، فشبّه ذلك بالدّخان ، ومن مجازهم واتّساعهم : ارتفع له دخان إلى السّماء هذا لبشر وذلك إذا علا.

١٩٨

الباب الرّابع عشر

في أسماء الأيّام على اختلاف اللّغات ومناسبات

اشتقاقها وتثنيتها وجمعها

قال قطرب : أسماء الأيام : السّبت ـ والأحد ـ والاثنان ـ والثّلاثاء ـ والأربعاء ـ والخميس ـ والجمعة. فالأحد هاهنا اسم وأصله : وحد وقد يكون صفة مثل قوله : بذي الجليل على مستأنس وحد. ومعنى الواحد الذي لا ثاني له وإنّما لم يثنّ وهو اسم لأنه متى ثنّي خرج من أن يكون واحدا ، فلذلك لم يقل : وحدان وإبدال الهمزة من الواو المفتوحة جاء في أحرف معدودة. والاثنان من ثنّيت الشيء إذا ضعّفته ثنيا ثم يسمّى المثنّى ثنيا ، ولا يقال في أحد اثن ، لأنّه إذا أفرد عما يثنّى به لم يستحقّ هذا الاسم. فأمّا الثّلاثاء والأربعاء والخميس فإنّها وإن أريد بها ما يراد من أسماء العدد إذا قلت ثلاثة وأربعة وخمسة ، فإنّ في تغيّر الأبنية لها قصد. وسيبويه قال : أحبّوا في الأوقات أن يحصوها بأبنية تلزمها من بين سائر المعدودات ، وشبّهها بقولهم : عدل وعديل ووزين ووزان في الفصل بين الأجناس. وحكى سيبويه : هذا يوم اثنين مباركا فيه. واستدلّ على تعريفه بانتصاب الحال بعده ، وفيه على هذا تعريفان.

الأوّل : باللّام تعريف الحارث والعباس.

الثّاني : تعريف العلميّة والوضع ، كما أنّ عروبة ، والعروبة للجمعة كذلك ، والسّبت سمّي به قيل : للراحة ، ومنه السّبات النّوم ، ويقال : انسبت الرّجل إذا اعترته سكتة. وقيل : أصل السّبت القطع. ومنه السّبات لأنّه يحول بين التمييز وصاحبه ، ويقطعه عن عادته وتصرّفه ، ويقال : سبتوا عنقه إذا قتلوه. والمنسبت من النّخل : ما يجري الإرطاب في جميعه ، فكأنّه انقطع من حدّ البسر ، ويقال لضرب من النّعال : السّبت ، وإنّما هي التي قد نثر شعرها. ويقال : إنّ السّبت إنّما سمّي لما أخذ على اليهود في السّبت ونهوا عنه في هذا اليوم مما هو مباح في غيره ، وانقطاع حكمه من حكم غيره ، ومن جعل السّبت إنمّا يسمّى به

١٩٩

للرّاحة ، يقول قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [سورة ق ، الآية : ٣٨] هو ردّ على اليهود في قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) آخرها يوم الجمعة واستراح في يوم السبت فردّ الله ذلك عليهم وأبطل قولهم. وسمّي السّبت : شيارا واشتقاقه من شيرت الشيء إذا أظهرته وبيّنته ، ويقال : شيراي حسن الشيارة وهي ظاهر منظره ، ومن هذا قيل : القوم يتشاورون أي يظهرون آراءهم كأنّ كلّ جماعة منهم يظهرون ما عندهم ويعرضونه. ويجوز أن يكون قولهم لخيار الإبل الشّيار من هذا الذي ذكرناه. وقيل للأحد : أوّل لأنهم جعلوه أوّل عدد الأيام. وقالوا للإثنين : أهون وأوهد فأهون من الهون وهو السّكون من قوله تعالى : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٣] وأوهد يدلّ على هذا المعنى لأنّ الوهدة الانخفاض كأنّهم جعلوا الأوّل أعلى ثم انخفضوا في العد. وقالوا للثّلاثاء الجبار أي جبر به العدد ، وأعظم به العدد وقوي ، لأنّه حصل به فرد وزوج.

وقال الخليل : سمّي به في الجاهلية الجهلاء ، وفي الخبر العجماء جبار والمعدن جبار. أي يهدر الأرش فيه ، فهو يخالف المعنى الأول. وقولهم للأربعاء : دبار لأنّه عندهم آخر العدد وقد تمّ بإجرائه العقد الأوّل. ودبر كل شيء مؤخّره ، وإنما كان كذلك لأنّ الخميس ـ والجمعة ـ والسّبت ـ سمّوها بأشياء تصنع فيها فاستغنوا بها عن عددها. وقيل للخميس : مؤنس لأنه يؤنس به لقربه من الجمعة وفي الجمعة التأهّب للاجتماع. وقيل للجمعة : العروبة لبيانها عن سائر الأيّام ، والإعراب في اللّغة الإبانة والإفصاح ، والعرب شوك البهمي والواحدة عربة ، سمّي بذلك لأنّ الورق يسقط منه فيظهر الشّوك. فالتّأويل أنّه قد بان من الورق والعرابة عسل الخزم ، سمّي به لأنّه يقال لثمرة العراب ، والواحدة عرابة ، وقد أعربت الخزم ، ويقال للمرأة الغزلة هي عربة وعروبة أيضا. ومنه قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) [سورة الواقعة ، الآية : ٣٥ ـ ٣٦] وقيل : العروبة المتحبّبة إلى زوجها ، ويقال للمتهلّل الوجه : عرابه. وبير عربة : كثيرة الماء. وقد قيل : العروبة بالألف واللّام وبغير الألف واللام كأنّه جعل علما ، وأنشد فيه شعرا :

وإذا ترى الرّواد ظلّ بأسقف

يوما كيوم عروبة المتطاول

يروى يوما كيوم ، ويوما كيوم ، قال : ولم يزل أهل كل دين يعظّمونه وجعله متطاولا للعبادة فيه ، والمعنى وإذا ترى هذا الحمار الوارد ظلّ له يوم طويل وطوله طول مكثه يميل بين الورود وتركه. وإذا نصبت اليوم : فالمعنى ظلّ الحمار يوما طويلا في هذا الموضع ، وإذا رفع فالمعنى ظلّ بأسقف يوم له ، وروي الأرواد فكأنّه جمع ورد والمعنى : أهل الأوراد أو يجعل الورد للواردين. وقال القطامي : فأتى بالألف واللّام شعرا :

٢٠٠