كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

الباب الثالث والثّلاثون

في قوس قزح ، وفي الدّائرة حول القمر ، وفي البرد في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [سورة النّور ، الآية : ٤٣] الآية وهو ثلاثة فصول :

فصل

قال الخليل : قوس قزح طريقة مستوسقة تبدو في السّماء أيّام الرّبيع. وفي الحديث عن ابن عباس أنّه قال : «لا تقولوا قوس قزح ، فإنّ قزح من أسماء الشّياطين ولكن قولوا : قوس الله عزوجل» وقال أبو الرّقيش : القزح الطّرائق التي فيها والواحدة قزحة والتّقزيح إذا اتّسع رأس الشّجرة أو النّبت شعبا مثل برثن الكلب. وفي الحديث : «نهى عن الصّلاة خلف الشّجرة المقزحة» فأمّا قول الأعشى شعرا :

جالسا في نفر قد يئسوا

في محلّ القدّ من صحب قزح

فقزح لقب رجل.

وأمّا الهالة : فهي الدّارة حول القمر ، وقد مرّ القول فيه في باب القمر ومن كلام الأوائل فيها : أنّ رؤيتها دالة على مجيء المطر ، وكينونته ، واضمحلالها وتحلّلها يدلّ على حدوث الصّحو لكونه دالا على يبس الهواء ، وكما يدلّ على المطر يدل على هبوب الرّياح ، لأنّ المحلّل لتلك الرّطوبة إنمّا هو البخار الحار اليابس الذي هو مادّة الرّيح ، والنّدأة تكون في أيّام الغيوث وهي عندهم وعند بعض العجم من أمارات المطر ، ومما يصفون به صدق مخيلة السّحاب أن يروا القواري تكثير الطّيران في الدّجن. قال الجعدي شعرا :

فلا زال يسقيها ويسقي بلادها

من المزن رخّاف يسوق القواريا

وكذلك المرع : ضرب من الطيّر يظهر في المطر ، وهي طويلة العنق مشرّبة صفرة ،

٣٤١

قال أبو زياد : النّاس يستبشرون برؤية القواري.

ومن أسماء القوس : الدّاح ومن أمثالهم : لا يعرف الماح من الدّاح. فالماح : صفرة البيض. والدّاح : الذي يسمى قوس قزح. وهذه الدّائرة أكثر ما ترى باللّيل ، وقد ترى بالنّهار أحيانا ، وأكثر ذلك نصف النّهار وبالعشي. فإمّا عند طلوع الشّمس وعند غروبها ، فقلّما ترى. وعلّة هذه الدّارات كلّها واحدة وذلك أنّ البخار الرّطب إذا كثر في الجو وأشرقت الشّمس أو القمر والكواكب المنيرة فيها سطع نورها في الهواء. ثم عطف ذلك النّور راجعا من الهواء على البخار الرّطب فترى تلك الدّارة كذلك.

وقالوا في قوس قزح : إنّها لا ترى دائمة ، وأكثر ما ترى بالغداة والعشي فأما نصف النّهار فلا ترى ، وأكثر ما ترى في الخريف. فأمّا في الصّيف فلا ترى وربما رؤيت قوسين ، فأما علّة كونها فهي من شعاع الشّمس الرّاجع إلى البخار الرّطب كمثل ما يشرق في الماء.

ثم يرجع إلى الحائط وربّما يرى قوس قزح باللّيل من ضوء القمر ، وقلّما يرى ذلك ، وإنما يرى إذا رأيت في مثله ليلة البدر إذا كمل ضوء القمر.

فأمّا كدورة قوس قزح وصفاؤها فعلى ما تغلب عليها الرّطوبة كان اللّون إلى الصّفا ، والبياض ، لأنّ صفاء الهواء وكدورته من قبل هاتين العلّتين الرّطوبة واليبس ، وقياس ذلك النّار فإنّها إذا كانت في حطب رطب كان لون النّار أحمر كدرا ، وإذا كانت في حطب يابس كان لون النّار أصفر صافيا ، فكذلك لون قوس قزح أيضا.

أمّا الحمرة التي ترى أحيانا في أيّام الصّحو في الهواء : فمن قولهم فيها : إنّ الهواء إذا تكاثفت أجزاؤه وغلظ ثم سطع ضوء الشّمس أو الكواكب في موضع من الأرض ، رجع ذلك الضّوء إلى الهواء كالضّوء الذي يرجع من الماء إلى الحائط ، فكذلك الهواء إذا رجع إليه الضّوء من الأرض ، أو من المياه قبله على قدر مشاكلته ، لقبوله فيرى لون الهواء أحمر أحيانا ، وعلى الهواء القابل لذلك.

والقول في الآية بدأ الله تبارك وتعالى يذكّر بنعمه على خلقه ، حالا بعد حال ووقتا بعد وقت ، وبكمال تدبيره ، مجملا ومفصّلا ، ومقدّما ومؤخّرا وكيف سبّب الأسباب ورتّب الأقدار فيما هيّأ من درور رزق ودرج من نزول غيث فقال : انظروا كيف جمع فرق السّحاب بعد إنشائها ، وكيف ألّف سياقها على تباينها ، وفي أيّ حال كشفها عقب رقّتها وتخلخلها ، حتى صار مع تراكمها يؤدي ما أودع وينخرق بما ضمّن ، فيخرج من خلاله الماء ، مرافقا للنّار ، جامدا وذائبا ، ومتخلخلا ومتماسكا.

٣٤٢

ثم يقسمه سحابة بين منتظريه وطالبي الانتفاع به ، كما يشاء فيعطي كما يحرم ويهب كما يمنع ، مقلّبا اللّيل والنّهار ، ومبدّلا الظّلم والأنوار ، واعتبروا ففي ذلك عبرة لأولي الأبصار.

قوله : يزجي يعيد سوفا على رفق ، لذلك قال عدي : ويزجي بعد الهذين جهة شمال كما يزجي الكسير. لأنّ الكسير يرفق به. والرّكام : الغليظ المتلبّد المتطارف ، والودق : الماء والفعل منه ودق.

وقوله : (مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [سورة النّور ، الآية : ٤٣] فكلّ مستحجر صلب غليظ يوصف بأنّه جبل وجبال. ومنه قوله تعالى : (وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) [سورة الشّعراء ، الآية : ١٨٤] وقوله تعالى : (مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [سورة النّور ، الآية : ٤٣] أراد من جبال برد فيها ، وهذا على التّكثّر كما يقال : عند فلان جبال من المال. والمراد أنّ ما ينزله من الغيث يكون ذائبا وجامدا فيقسمه بين الخلق على ما يرى من مصالحهم وإنّما قال تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) [سورة النّور ، الآية : ٤٣] لأنّ الضّوء الباهر إذا أديم النّظر إليه أضرّ بالعين ، وكذلك الشيء الأبيض كالثّلج وما أشبهه.

فصل

من كلام الأوائل في البرد والطّلّ والدّمق

قالوا : إنّ البرد إنّما يكون في البخار الحار إذا أصابه برد الهواء وذلك لتنافر الحرارة والبرودة. فإذا أصاب البرد السّحاب انقبض الماء في داخل السّحاب من كثرة حرارة ذلك البخار ، فيجمد في جوف السّحاب ، وذلك لمضادة الحرّ للبرد ولذلك إنّما يكون البرد في الأيام الحارة لمضادة الحرّ البرد.

فأمّا في الأزمنة الباردة والبلاد الشّديدة البرد وإن كان البرد منتشرا في جميع الأماكن ، فليس يقع هناك مضادة الحر للبرد فلا يكون بردا. فأمّا اختلاف خلقها فمن قبل بعده وقربه من الأرض : فإن كان بعيدا من الأرض كان صغير الحب وذلك لأنّه يذوب فيما بين مخرجه وبلوغه إلى الأرض ، فيصغر قدره ويستدير.

فأمّا ما كان قريبا من الأرض فإنّه ينزل سريعا فلا يستدير لكن يبقى كثيرا مختلف الشّكل ، وإن كان الصّغر والكبر فيه تبع قدر الماء ، وكونه مضغوطا في السّحاب ، وربما كان علّة كبر القطر من قبل قوّة الرّيح فيضغط أشدّ ضغط فهذا ما في البرد.

٣٤٣

فصل

في أسباب الطل

فأمّا أسباب الطّل : فيكون إذا كان في الموضع السّفلي واجتمع أو تصاعدت بخارات فغلظت من البرودة ينزل الشيء الذي يغلظ لما فيه من الثّقل ، لأنّه ليس تحته من الهواء كثير فيمنعه من النّزول كما يمنع الهواء فوق لكثرة الغمام من النزول والقطع الصّغار. والدّمق : يكون إذا جمد الطّل بالبرودة ، قالوا : والسبب في بياض الدّمق ما تداخله من الهواء لأنّ الشّيء الذي هو فوق ثلج ، هو أسفل دمق والشّيء الذي هو فوق مطر هو أسفل طل ، ومن أجل ذلك قيل : إنّ الدّمق يكون من جمود البخار قبل أن يجتمع فيصير ماء.

٣٤٤

الباب الرّابع والثلاثون

في ذكر المياه ، والنّبات ممّا يحسن وقوعه في هذا الباب

وهو ثلاثة فصول

فصل

الأصمعيّ يقال : وقع الغيث بمكان كذا إذا مطر ، ولا يقال : سقط. قال الشّاعر :

وقع الرّبيع وقد يقارب خطوه

ورأى بعقوته أزلّ نسولا

يعني بالأزل الذّئب. وقال آخر :

حتّى إذا وقع السّماك وعشرت

عين فمنبعه وأخرى مقرب

يريد وقع غيث السّماك ، ولو أراد السّماك نفسه لقال سقط ولم يقل وقع ، إنّما الوقع للغيث ، والسّقوط للنّجم ، قال السّاجع : إذا النّجم هبط ، وإذا النّسر سقط ، وإذا وقع الغيث قيل : نصرت الأرض فهي منصورة ، وإذا وقع الغيث فابتلّ التراب فهو ثرى والأرض ثرية ما دامت رطبة ، فإذا جفّ قيل : بلح ومصح. قال يصف إبلا :

وبلح الرّب لها بلوحا

وأصغر في الأرض الثّرى مصوحا

وإذا اشتدّ ندى الثّرى حتى يلزم بعضه بعضا : فهو الثّرى الجعد ، فإذا زاد فهو كباب ، فإذا ارتفع عنه فهو عمد.

قال الغنويّ : فإذا أصاب المطر وكان ثراه في الأرض إلى الرّبيع فهو المرسغ وهو ربيع ، وخير ما يكون من المرسغ إذا كان في شحاح الأرض ، وهو ما صلب منها ، والرّسغ موصل الكف في الذّراع. وعن غيره إذا كان الثّرى في الأرض مقدار الراحة فهو المرحى ، قال أبو حنيفة : هكذا روي بتقديم الحاء يريد أنّه يجيء من الرّاحة مروح. قال الغنويّ : وإذا كان الثّرى إلى مستحلّ الذّراع ، ومستحلّها ما غلظ منها مما يلي المرفق فهو الرّسغ المنبت

٣٤٥

النّافع. وإذا كان إلى المرفق فهو المطر الجود وهو يجزي الأرض شهرا من المطر. فإذا بلغ الثرى نصف العضدين قيل : حيا. فإذا بلغ المنكب فهو حيا عند جميع النّاس لما بعده. فإذا حفر الحافر الثّرى فذهبت يده حتى يمس الأرض باذنه وهو يحتفر. والثّرى جعد. فقد اعتقدت الأرض حيا سنتها. ويقال : غيث جدا ، لا يحفره أحد ولا سكفه ، أي لا يعلم أحد أين أقصاه.

وقال الأصمعي : إذا التقى الثّريان فهو الجود يعني أن يتّصل النّدى الظّاهر بالنّدى الباطن المستكنّ في جوف الأرض. وحكى الأصمعيّ عن رؤبة : شهر ثرى وعشر ثرى ـ وشهر مرعى ـ وشهر استوى. وقال ابن الأعرابي : قيل لابنة الخنسي : كم يعقد المطر في الأرض ولا يخرج؟ فقالت : عشر ثرى وعشر ثرى وعشر مرعى (١). أرادت أنّ الماشية تشبع في ثلاثين. فهذان القولان متّفقان ، ومعنى استوى : اكتهل في الشّهر الرّابع ثم يشبع المعزى.

واعلم أنّ البلاد تختلف في ذلك : فإنّ منها الأنبت الممراح فلا يبطئ نباته ، ومنه المصلاد النكد الجحد الإنبات. ويختلف أيضا من قبل الزّمان ، فإنّ الأرض إذا جيدت والزّمان لين كزمان الصّفوى والدفيء والخريف لم تلبث الأرض أن تعشب. وإذا جيدت والزّمان قسيء بارد منعها البرد من الإعشاب فأبطأت به.

وقال ابن الأعرابي : قال أبو المجيب أعرابي من بني ربيعة : لقد رأيتنا في أرض عجفاء ، وزمان أعجف ، وشجر أعشم في قف غليظ ، وجادة مدرعة غبراء فبينا نحن كذلك ، إذ أنشأ الله من السّماء غيثا مستكفا نشوؤه ، مسبلة عزاليه ـ عظاما قطره ـ جوادا صوبه ـ زاكيا ودقه ـ أنزله الله رزقا لنا فتنعش به أموالنا ـ ووصل به طرقا فأصابنا. وأما السّوطة بعيدة بين الأرجاء فاهرمع مطرها حتّى رأيتنا وما نرى غير السّماء والماء ، وصهوات الطّلح فضرب السّيل النّجاف.

وأمّا الأودية فرعها فما لبثنا إلا عشرا حتّى رأيناها روضة تندى ، فهذا اجزأنها روضت في عشر وهو دون ما قدّمناه من قبل. والعلّة فيه الزّمان ، وإذا اتّفق الزّمان اللّين والأرض الممراح كان هذا ونحوه. وإذا وقع الغيث : فنجع ورؤي تباشير خيره قيل : رأينا أرض بني فلان غب المطر واعدة حسنة. حكاه الأصمعي ، فإذا أبصرت شيئا من النّبات فذاك الإيشام والطّرور والبقول والإيفال.

أوشمت الأرض توشم إيشاما ، وطر النّبت طرورا كما يطرّ الشّارب ، فإذا تطررت

__________________

(١) كذا في الأصل والله أعلم.

٣٤٦

الخضرة لعينك فقد خصبت الأرض تخصب خصبا وخصوبا ودست وتودست حسنا ، والتّربص مثل التّودس.

وكذلك الإبشار يقال : أبشرت الأرض ، وما أحسن بشرتها ودسّها وكنأ النّبت إذا طلع.

وإذا اتّصل قيل : وصت الأرض فهي واصية قال :

وصي لها غراد وجاد ملبس كلّ أجرعا. فإذا بلغ اتّصاله أن يغطي الأرض قيل : استحلست الأرض. قال ذو الرّمة :

حتى كسا كلّ مرتاد له خضل

مستحلس مثل عرض اللّيل يحموم

وحينئذ ترى الأرض مدهانّة.

وإذا رأيتها كذلك فذاك الوراق ، فإذا نهض البقل قليلا وهو أغض ما يكون وأنعمه ، فذلك اللّعاع والنّعاع وقد ألعت الأرض إلعاعا حسنا. ويقال : تركت المال يتلقى أي يرعى اللّعاع ، والشّعتد نحو من اللّعاع ، وإذا ارتفع عن ذلك حتى يشتد قيل : عرد يعرد عرودا.

والنّقاء : القطع المتفرقة من النّبات والواحدة نقأة. قال :

جادت سواريه وآزر نبته

نفأ من الصّفراء والزّباد

وكذلك الثّجر والواحدة ثجرة فإذا نهض حتى يملأ أفواه المال فهو جميم ، أخذ من الجمة على التّشبيه.

فإذا ارتفع عن ذلك فهو عميم. ويقال : اعتمّ النّبت. قال ساعدة :

يرتدن ساهرة كأنّ جميمها

وعميمها أسداف ليل مظلم

ويقال : جادت الأرض بالنبات وغيث جود ، وذلك إذا طال وارتفع وقد غلا يغلو غلوا واغلولب.

ويقال : استلّ وذلك حين لا يرى فرجة لطوله وانتشاره.

ويقال : أغنت الأرض : وذلك إذا سمعت لها غنّة لالتفاف النّبات وكثافته وحينئذ يقال : استأسد ، وقد يكون ذلك من أصوات الذّبان. قال شعرا :

مستأسد ذبّانه في غيطل

تعلن للدايدا عشبت أنزل

فإذا ظهرت أكمامه وهي غلف النّور فذلك البراعيم والواحدة برعومة. والكعابر والواحدة كعبرة حتى يتفتّح ثم ينشق عن النّور فتخرج زهرته وذلك التّقصيح ، والنّور حينئذ فقاح والبراعيم من قبل ذلك صمع واحدها صمعاء.

٣٤٧

ويقال حينئذ : جنّ النّبت جنونا وأخذ زخرفه وزخاريه وألفى بهجته. قال ابن مقبل :

زخارى النّبات كأنّ فيه

جياد العبقريّة والقطوع

ويقال : اقتان النّبت اقتيانا إذا تزيّن وظهر حسنه وهو مأخوذ من التّقيّن. ومنه قيل للماشطة : مقيّنة. قال :

وهنّ مناخات تحلّلن رمة

كما قتلن بالنّبت العهاد المجوّز

ويقال : أزهر النّبت إذا ظهرت زهرته وزهر وهو ألوان نوره.

ويقال : نور النّور ونواره وزهرته سواء.

وكذلك الفغو والفاغية. ويقال : أفغى النّبت إذا نور. فأما الأصمعيّ فإنّ الفغو والفاغية عنده ورد كلّ ما كان من الشّجر طيب الرائحة.

وغير الأصمعي يجعل الجنون طوله يقول جنّ إذا طال فهو مجنون. قال الرّاجز يصف نخلا : ينقص ما في السّحق المجانين. وقال ابن أحمر :

تنفقأ فوقه القلع السّواري

وجنّ الخازباز به جنونا

فإذا انتهى وبلغ فهو مكتهل ، وكل ما انتهى منتهاه فهو كهل. قال ابن مقبل :

وقوفا به تحت أطلاله

كهول الخزامى وقوف الظّعن

وهو في جميع هذا الأحوال خلا وعشب ، ويقال : أعشبت الأرض واعشوشبت وأعشبت الإبل أصابت العشب.

وكذلك أخلت الأرض إذا نبت خلاها ، فإذا جززته قلت : اختليته. قال :

سوف المعاصير خزامى المختلى. وهذا كلّه ما دام رطبا رطب وخضر. فأما الشّجر : فإنّ أوّل توريقه النّضح يقال : نضح الشّجر نضحا إذا تقطر بالورق وهو اليغط والفقح يقال : فقح الورق إذا انفتح.

فإذا اكتسى خضرة من الإبراق قيل : قد تمشّر وأمشر إمشارا وظهرت مشرته ومشرته بالتّحريك والإسكان ، والمشرّة من الشّجر كاللّعاعة من البقل. قال : وقصارها إلى مشرة لم تعتلق بالمحاجن.

ويقال : أورق الشّجر إيراقا وورق توريقا ، ولا يسمّى ورقا إلا ما عرض وتبسّط.

فإذا طال طولا شديدا مع بعض التّبسّط فهو خوص والواحدة خوصة.

فإذا طالت مع اندماج ، فلم يكن فيه تبسّط فهو الهدب ، والعبل نحو منه ، عن أبي

٣٤٨

عبيدة وأبي عمرو يقال : قد أعبل الأرطيّ إذا ورق.

وللإعبال موضع آخر : وهو أن يقال : قد أعبل الشّجر وذلك إذا تساقط ورقه في قبل الشّتاء وكأنّه من الأضداد.

فإذا نقصت غضاضة النّبات واشتدّ عوده قيل عسا يعسو عسوا.

فإذا ولت بلولته وأخذ يتهيأ للجفوف قيل : ذوى يذوي وذأى يذأى أي فهو ذا وفي كلتا اللغتين : وألوى إلواء وذلك نحو الذوي فيكون النبات حينئذ لويا.

فإذا تجاوز ذلك قيل : قد أقطر اقطرارا وإقطارا أيضا.

فإذا شعفه اليبس قيل : هاج يهيج هياجا وهيجا وهو حينئذ يبس الباء ساكنة ويبس وقفل.

قال أبو ذؤيب : فحزت كا تتابع الرّيح بالقفل وهو الحفيف والغفيف والقف قال : كشيش أفعى في يبس قف.

وقد قفت الأرض قفوفا وهو في هذه الحال حشيش ، وفي كلّ حال كلأ ولا يقال له قبل أن يجف حشيش ، فإذا تمّ فيه اليبس لوى ، فإذا تكسّر بعد اليبس فهو حطام وهشيم. وقال الكلابي: إذا يبس النّبت فما دام قائما فهو القف. فإذا تكسّر وسقط إلى الأرض فهو الحبة ، قال أبو النّجم:

في حبة جرف وحمض هيكل. فأمّا الأصمعي فالحبّة عنده : حبّة ما له حب من النّبات ، قال ويقال : الإبل في حبة ما شاءت ، فإذا ركب بعضه بعضا فهو ألثن ، قال : وأقام بعد الحدب في ثن ، فإذا اسودّ من القدم فهو الدّندن. قال :

كالسّيل يغشى أصول الدّندن البالي. والدّرين حطام جميع النّبت ، والسّفا شوك البهمي خاصة ، والسّفير ما تساقط من الورق لأنّ الرّيح تسفره أي تكنسه وإذا أخذ النّبت يجف وأصوله حيّة ثم جاء المطر عليه فعاد أخضر فذلك النّشر. قال شعرا :

وفينا وإن قيل اصطلحنا تضاغن

كماطر أوبار البعير على النّشر

وهو مطر يأخذ عنه الإبل إذا رعته السّمام ، والهرار ثم تشلح عنه فتهلك وأنشد :

كما نشأت في الجزء مزنة صيف

وضمنت الأكوار عاقبة النّشر

فأمّا ما نبت في أصول فهي الغمير.

والرّبل : ما ينبت من غير مطر ببرد اللّيل ويقال : أربلت الأرض وأربل الشّجر ، ويقال له الخلفة كأنّه يخلف ما يقدم.

٣٤٩

ويقال : راح النّبت وتروح إذا اكتسى ورقا. وحكي عن الكلابي أنّه قال : الرّبل والخلفة والرّيحة واحد ، وكل هذا نبت مع طلوع سهيل وضروب من النّبات تدوم خضرتها الصّيف فلا يهيج مع هيج النّبات.

يقال لها : الرّبب والواحدة ربة والنّبات كلّه يجمعه الشّجر والعشب. فالشّجر ما قام على ساق ، والعشب ما خالف ذلك ثم ينقسم العشب قسمين : بقلا وجنية ، فالجنية ما له أرومة فهو أقوى من البقل ، والبقل أحرار وذكور فأحراره ما رقّ وعنق ، وذكوره ما غلظ منه.

٣٥٠

الباب الخامس والثّلاثون

في ذكر المراتع المخصبة والمجدبة والمحاضر والمبادي وهو فصلان

فصل

قال الأصمعيّ : إنّ الأوطان والمراتع تختلف في هذا الباب اختلافا شديدا لأنّ منها ما يطول بقاء الرّطب ودوام الماء فيه. ومنها ما يقصر ذلك فيه.

ومن المراتع أيضا مسهفة معطشة. ومنها مرواة ، ولذلك تراهم يختلفون في ذكر هيج النّبات وفناء المياه ، فيأتي توقيت زمانه مقدّما ومؤخرا ، ويحضر قوم ويبقى قوم في النّجعة ، وربّما وجدت السّائمة متعلفا من بقايا الرّطب في مثاني الأرض ، ومحاني الأودية ، وأعماق البطون ، وأقام الحيّ يستحلف لهم من الاعداد على الزّوايا فيؤتون بالماء إلى مباديهم حتى يستنفدوا الرّطب فيكون حضورهم إذا لم يجدوا له مدفعا ، ولا يجدون إلى الأجزاء سبيلا.

واعلم أنّ المراعي تنقسم قسمين : خلّة وحمضا ، فالحمض ما كانت فيه ملوحة والخلّة ما لا ملوحة فيه. والحمض : يرخي بطون الإبل ويعنق لحومها ، ويطيل أوبارها وينفشه ، ويغلظ ويكثر عليه شربها.

والخلّة على خلاف ذلك ، والخلّة للإبل كالجز ، والحمض كالأدم ، فإذا عافيت بينهما كان ذلك أفضل ما يكون.

وإذا أخضب النّاس قيل : أحيوا الحيوان أحياء ، والحياء الخصب ، وجمع الخصب أخصاب ، وجمع الحياء أحياء ، وأنشد الأصمعيّ في جمع الخصب :

كأنّما يزينه الإخصاب بالمعر الحمر

. وهذا عام : حياء ـ وعام أوطف ـ وأعزل ـ وأقلف ـ وغيداق ـ وعام فنق ـ وكلّ ذلك معناه الخصب قال. لم ترج رسلا بعد أعوام العنق. فإذا كان عاما مشهورا بالخصب قيل له : عام المال. قال :

٣٥١

رآني تجاذيب الغداة ومن يكن

فتى قبل عام الماء فهو كبير

ويقال : ربع الرّبيع ، ونحن في ربيع رابع ، والنّاس في الرّغد ، والرّغد وقد أرغدوا وهم في رفاهة ورفاهية ورفهفية ، وبلهنية ، ورخاخ من العيش ، ورخاء ورفاغة وفي عيش دغفل ، وغدفل وأغضف وغاضف ، وهم في مثل حدقة البعير وفي مثل الحولاء.

وذلك إذا كانت الأرض مخصبة معشبة وفي عيش إبله وأهيغ كلّ ذلك الخصب وهذا بلد خصيب وخصيب وخصب. وإذا كان ذلك عادته فهو مخصاب.

ويقال : أرتع القوم إذا رتعوا في خصب وتحقيقه : نالوا مرتعا. وأفتق القوم إذا أعشبوا ، وأسمنوا وإذا أجدب النّاس قيل : أسنتوا وهذا عام سنة. ومما حكي : الأرض وراءنا سنة ، وأرضون سنون أي مجدبات.

وكذلك محول وأرض محل وممحلة وأمحلت ومحلت ، وبلد ممحل وما حل وأصابتهم أزبة وأزمة ـ ولأواء ولولاء ـ وشصاصاء ـ وفحمة وحجرة. ويقال : أحجر عامنا إذا قلّ مطره قال :

إذا الشّتاء أحجرت نجومه

واشتدّ في غير ثرى أزومه

ويقال : أصابتهم كلبة الزّمان ، وهلبة الزّمان ، والسّنة القاوية القليلة الأمطار وقد قوي المطر ، والعام الأبقع الذي قلّ مطره.

ويقال : سنة سنواء ، وأرض بني فلان جرز ، ومجروزة وجرزات وفل ومخرجة وبقعاء.

ويقال : لم يصبها قابة أي قطرة ، وإذا أخطأ الأرض الوسميّ كلّه وصدر الولي ففي ذلك الشتاء بكلبه وإصراده ، فذلك المحل لا شكّ فيه المجلى ، وهذا المعنى عبّر عنه الشّاعر في قوله :

إذا غرد المكاء في غير روضة

فويل لأهل الشّاء والحمرات

وذلك أنّ المكاء لا يعدن بغير الرّياض ، ولا يقيم إلا في معاشيب الأرض وفيها تبيض وتفرخ وتزقو وتغرّد. وقد بيّن الرّاعي ، فقال : يفضل الإبل على المعزى والحمر.

إنّا وجدنا العيس خير بقية

من الفقع أذنابا إذا ما اقشعرّت

ينال جبالا لم ينلها جبالها

ودويّة ظمآى إذا الشّمس ذرّت

مهاريس في ليل التّمام نهته

إذا سمعت أصواتها الجنّ فرّت

٣٥٢

يعني بالفقع أذناب المعزى ، يقول الإبل : تستطيع أن تنال من البلاد ما لا تستطيعه الغنم ، ويصبر على الظمأ وقال جندل الطّهوي يصف عيرا :

رعى جماد ثادق فالقرقره

أزواج مزه زخري الزّهرة

حتى إذا ما الهيف حتّ تمره

وأسبلت بعد الجناه الهيشرة

وودّع العشّ فراخ الحمرة

ونشر اليسروع بردي حبرة

وظهرت ذات العشاء الحشرة

ونقض الفقع فأبدى بصرة

وقام للجندب ظهرا صرصرة

شدّ على أهل الورد ميزرة

أراد بالأزواج الألوان من النّبات والمزهي : ذو الزّهو والهيشرة نبت ، ويعني ببردي حبرة جناحيه لأنّه يسلخ فيصير فراشة في آخر الرّبيع وإنمّا ظهرت الحشرة ذات العشاء لبرد اللّيل. وإنّ حرّ النّهار كان مانعها من الانتشار ، والفقع ضرب من الكماة أبيض ، فإن استبشر في أول الزّمان ، وإلّا شقّ الأرض عن نفسه ، وظهر ثم يصفر إذا تطاولت به الأيام واشتدّ الحر. لذلك قال السّاجع : إذا طلعت الهقعة أدرست الفقعة ، وتعرض النّاس للقلعة ، ورجعوا عن النّجعة ، وقال الرّاعي في ظهور الفقعة من تحت التّراب :

بأرض يبن الفقع فيها قناعه

كما أبتنّ شيخ من رفاعة أجلح

شبه الفقعة برأس الشّيخ لتجرّدها. وقال السّاجع أيضا في الظّعن عن البدو والرّجوع إلى الحضر : إذا طلع الشّرطان خضرت الأعطان ، وطلوع سهيل وقت لأوّل التّبدي وغيبوبته وقت لأول الحضور ، وهو يطلع إذا ناء سعد السّعود ويغيب قبل أن ينوء الغفر. فمدة طلوعه نحو من ثمانية عشر نوءا وذلك قريب من ثلثي السنة ، ومدة غيبوبته نحو من عشرة أنواء ، وهو قريب من ثلث السّنة. وقال ذو الرّمة يصف امرأة ويذكر وقت مبدئها ومحضرها شعرا :

غراء أنسة تبدو بمعقله

إلى سويقة حتّى يحضر الحضرا

تشتو إلى عجمة الدّهنا ومربعها

روض يناصي على ميثه العفرا

حتى إذا هزّت البهمى ذوائبها

في كلّ يوم يشهي البادي الحضرا

وزفزفت للزّباني من بوارحها

هيف أنشّت به الأصناع والخبرا

ردّوا لأحداجهم بزلا مخيسة

قد هرمل الصّيف عن أكتافها الوبرا

وواحد الأصناع صنع ، وهو محبس الماء وزفزفة الرّيح سوقه لحطام النّبت فيسمع جرسها ومعنى أنشّت أيبست ، والخبرة القاع نبت السّدر ، والجميع الخبر فهذا ابتداء ذكر المبدأ والمحضر وسنحكم القول فيه فيما بعد إنّ شاء الله تعالى.

٣٥٣

فصل

في ذكر ما كانت العرب تفعله وقت إمساك القطر في الجاهلية الجهلاء

قال أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي : كانوا إذا استمطروا عمدوا إلى السّلع والعشر فعقدوهما في أذناب البقر ، وأضرموا فيهما النّار ، وأصعدوها في جبل وعر وتبعوها يدعون الله عزوجل يستسقونه. قال ابن الكلبي : وكانوا يضرمون تفاؤلا للبرق قال لمية في ذلك :

سنة أزمة تخيل للنّاس

ترى للعضاة فيها صريرا

لا على كوكب ينوء ولا ري

ح جنوب ولا ترى طخرورا

ويسوقون باقر السّهل للطّو

د منها زيل خشية أن تبورا

عاقدين النّيران في تكن الأذ

ناب منها لكي يهيج البحورا

سلع ما ومثله عشر ما

عائل ما وعالت البيقورا

بيقور : جماعة بقر ، يقال : بقر وباقر وبيقور وغلط في هذا عيسى بن عمرو والأصمعي جميعا ، فأمّا الأصمعي فإنه روى وغالت البيقورا ، واحتجّ لتصحيفه بأنه ذهب إلى المرارة من أجل السّلع ، فقال : يقال : ما أبقره وأمقره. وقال عيسى : لا معنى لقوله : سلع ما. وقال ابن السّكيت : معنى قوله : وعالت البيقورا أنّ السنة الجدبة بقلت البقر ، ممّا حملت من السلع والعشر ، وأنشد أبو عثمان الجاحظ للورل الطّالي شعرا :

لا درّ درّ رجال خاب سعيهم

يستمطرون لدى الأزمات بالعشر

أجاعل أنت بيقورا مسلعة

ذريعة لك بين الله والمطر؟!

قوله مسلعة يعني ما عقد في أذنابها من السّلع. وقال أبو حنيفة : وكانوا إذا فعلوا ذلك توجّهوا بها نحو المغرب من بين الجهات قصدا إلى العين ، يعني عين السّماء. وهذا الذي ذكرناه عن العرب من الزّمن تشاركها الأمم في أمثاله كنيرنجات الفرس ، ووهم الهند ، وعقد الرّوم.

وقالت الفلاسفة : رموز النّفس تنقسم ثلاثة أقسام : قسم منها رمز فوق الطّبيعة كالرّقي والوهم ، وقد قال بعضهم : إن للنّفس كلمات روحانية من نحو ذاتها. وقسم منها رمز نحو الطّبيعة كتعليق الحرز وما أشبهها. وقسم منها دون الطّبيعة كالتّماثيل واستعمالها ، فهذا كما ترى وإن عرض فيما يعمله ما يقتضي القول في شيء من الرّموز أعدنا القول فيها إن شاء الله تعالى.

٣٥٤

الباب السّادس والثّلاثون

في ذكر أحوال البادين والحاضرين ، وبيان

تنقّلهم وتصرّف الزّمان بهم

قال الأصمعيّ : للعرب ظعنان : أحدهما ظعن للتّبدي وذلك إذا أخرفوا وميقاته ما بين طلوع سهيل إلى سقوط الفرغ المؤخّر ، فإذا أخرفوا تصدّعوا عن المحاضر ولقسمتهم المناجع ، وحجروا الأعداد ، واستبدلوا بها الأوراد ، فظعنوا عن دار المقيظ.

والظّعن الآخر : يكون عند انصرام الرّطب وهيج الأرض ونضوب الماء ، وهجوم الصّيف كما قال : (حتى إذا العود اشتهى الصّبوحا) يعني شدّة الحر ، والعود أصبر على العطش من غيره ، فإذا اشتهى الماء في أول النّهار فهو أشدّ الحر ، وقد كثر متصرّفاتهم في وصف المحلين ، والتّردّد في الرّحلتين ، ومفارقة الحضارة ، ومراجعة البداوة. وذلك أنّهم يقيمون على مياههم ما أقامت وقدات الحر ، وعزات القيظ ، فإذا سكنت نائرتها وأذنت بتولّيها ، فباخت سورتها وأمكن مدّ إظمائها ، وأقبلت الأرض تربل ، والعضاه تتروّج ابتدءوا يبدون.

وقد أخبر بعضهم عن ذلك قال :

قد تشكّى النّساء وأظلم الأمعو

ذ واخضرّ جيب أمر قسيم

أي اتّخذن الشّكاكين ، وأظلم أراد أنّ الظّباء سمنت وأشرت ، فهي تتناطح ، وأمر قسيم : إذا خرجت زهرتها من النّبات فمن متبطّئ ومتعجّل ، وذلك على حسب مساعدة الأحوال ومداورة الأزمان لأنّها كما تستنهض تستوقف ، وعلى ما تقدم قد تؤخر ، فبكاؤهم للظّاعنين وجزعهم في أثر المفارقين ، وحنينهم على الخلطاء ، والمجاورين للعارض المغير ، كما أنّ مداناة المزالف ومراجعة المؤالف والمخالف لحادث آخر مبدّل ، فتارة يبنون عرش الشّجر وهو الخيام مظللة بالثّمام وتارة يسكنون بيوت الصّوف والوبر منصبة بالعمد والحبال.

فمن ذلك قول ذي الرّمة شعرا :

٣٥٥

ألا حيّ المنازل بالسّلام

على نحل المنازل بالكلام

لمية بالغا درجت عليها

رياح الصّيف من عام فعام

سحبن ذيولهنّ بها فأضحت

مصرعة بها دعم الخيام

أقمن على بوارح كلّ نجم

وطيّرت العواصف بالتّمام

قال ذلك لأنّهم إذا ظعنوا عن المحاضر تركوا الخيام على حالها أو نزعوها ونضدوها استعدادا للعودة ، فتزعزعها الرياح إذا تقادم العهد بها. ومن ذلك قول امرئ القيس :

أمرخ خيامهم أم عشر؟

أم القلب في إثرهم منحدر؟

قصده أن يعلم بأي الماء نزلوا خيامهم من شجرها والمعنى أنجدوا أم غاروا أم اتهموا فأحدر القلب بانحدارهم ، وهذا كما قال : ففرعنا ومال بها قضيب. لأنّ قضيبا من تهامة ، وكما قال الآخر : وسالت بأعناق المطيّ الأباطح.

وقال ابن الأعرابي : الحنتمة ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام يستظل بها في الحر ، والمظلة لا يكون إلا من النّبات ، وتكون كبيرة ، ويكون لها رواق وربما كانت شقّة أو شقّتين أو ثلاثا. وربما كان لها كفا وهو مؤخّرها. قال : والخباء من شعر أو صوف ، والقبّة : تكون من أدم. وكذلك الطّراف ، وقال : المظلّة بفتح الميم لا غير. قال زهير :

تبصّر خليلي هل ترى من ظعائن

تحمّلن بالعلياء من فوق جرثم

جعلن القنان عن يمين وحزنه

وكم بالقنان من محلّ ومحرم

فلمّا وردن الماء زرقا جمامه

وضعن عصيّ الحاضر المتخيم

فهذا الظّعن للبداوة فأمّا قول طفيل شعرا :

على اثر حيّ لا يرى النّجم طالعا

من اللّيل إلّا وهو قفر منازله

فإنّ من تبدّى أوان التّبدي من الخريف لم ير الثّريا طالعة أوّل اللّيل إلّا وهو نازل بالقفر لأنّ أوّل طلوع الثّريا عشاء هو لطلوع السّماك الأعزل بالغداة وسقوط الرّشاء ، وذلك في الوسمي وبعد طلوع سهيل. وأمّا قول ذي الرّمة :

إذا عارض الشعرى سهيل بجهمة

وجوزاؤها استغنين عن كلّ منهل

فهو يصف إبلا واستوثق لها ، لأنّ سهيلا إذا طلع بقية من اللّيل وهي الجهمة ، فذاك قبل الوسمي ، ودبر القيظ ، والزّمان زمان ندى ، وروح وطل وغيث. وقد قال ساجعهم : إذا طلعت الصّرفة أميز عن الماء زلفة ، لأنّها إذا طلعت ناء الفرع المقدم وهو آخر أنواء الخريف ، وفي اثره الفرع المؤخّر وهو أوّل أنواء الوسمي فلا يزالون يتبعون مواقع الغيث

٣٥٦

ويتحوّلون في معاشيب الأرض ويشربون ماء السّماء ويجتزون بالرّطب ، عن الورد وهم في سلوة من العيش ، ورغد من الخفض يرمي النّوى بهم المرامي ، فمن شعب يلتئم إلى شعب ، ومن جمع يلتئم مع جمع ومزار تقرّب بعد بعد ، ومطاف يسهل عقيب وعر ، ومواعيد بين الأحبّة أنجزت وعقود من حبال جوار ووصال أوثقت حتّى إذا تحرّك الهيف وهو أوّل الحر ومبدء البوارح ، بدّلت الأرض والدّهر ذو تبدّل ، فمن بقل ذابل وماء غائض ونهي ناضب ، وصيف صائف ، وهيج يشتد وورد يمتد ، وكبد من الماء تحر ، وصبر على بلواه ينفد ويقلّ ، حينئذ ترى ذا الرّاحة يتعب ، والمتأخّر يلحق ، متصدّعين عن مباديهم ، سعيا ومفترقين عن مقارّهم شفقا فكم قلب لفراق الأحبّة جزع ، ودمع لوداعهم همع ، وأنس لبيتهم يقطع ، ووجد ببعدهم تجدّد. وكلّ هذا أتت به الأشعار وترادفت بأمثالها الأخبار ، فمن ذلك قول جرير يذكر سائرة ضمّتها إليهم النّجعة ثم تفرّقوا فأسف لفراقهم. قال شعرا :

ألا أيّها الوادي الذي ضمّ سيله

إلينا نوى ظمياء حيّيت واديا

فقد خفت ألّا تجمع الدّار بيننا

ولا الدّهر إلا أن نجدّ الأمانيا

وقولا لواديها الّذي نزلت به

أوادي ذي القيصوم أمرعت واديا

وقال ذو الرّمة :

حتّى إذا ما استقلّ النّجم في غلس

وأحصد البقل أو ملو ومحصود

ظللت تخفق أحشائي على كبدي

كأنّني من حذار البين مورود

من ورد الحمى ، وقال الجعدي يذكر امرأة جاورتهم في مرتع شعرا :

أقامت به حدّ الرّبيع وجارها

أخو سلوة مسّى به اللّيل أملح

فلمّا انتهى في المرابيع أزمعت

حفوفا وأولاد المصانيف رشّح

وحبّ السّفا واعترّها القيظ بعد ما

طباهنّ روض من زبالة أفيح

وحاربت الهيف الشّمال وآذنت

مذانب منها اللّدن والمتصوّح

وقمن يزورن الهوادج بعد ما

مضى بين أيديها نعام مسرّح

يريد بأخي السّلوة : الندى لأنّهم في سلوة ورخاء ما أقام لهم ، وهو الأملح لبياضه. وقوله : مسى به اللّيل : لأنّ النّدى باللّيل يسقط. وقوله في المرابيع : يريد سمنها. والمرابيع : جمع المرباع وهي التي من عادتها أن تنتج في أوّل النتاج. والمصانيف : التي تنتج في آخر النّتاج. والرّشح : جمع راشح وهي التي تمسكها أمّها لئلا تسقط وهو التّرشح. ويقول الرّجل لصاحبه : لقيت فلانا يرشح ولد ناقته إذا فعل بها. وقوله : وحاربت الهيف الشّمال. لأن الشّمال والصّبا ريحا البرد. والجنوب والدّبور ريحا الحرّ. والمتصوّح : اليابس المتشقّق ، قال ذو الرّمة :

٣٥٧

وصوّح البقل ناج تجيء به

هيف يمانية في مرّها نكب

فجعلها النّكباء التي تلي الجنوب. وقال الكعبي المنقري :

تمرع إذ تسعى بها ذو إيالة

من الحرّ ما كانت مذانبه خضرا

يصف راعيا تمرع طلب مريع الكلأ. تسعى بها : تتمادى في الطّلب. ذو إيالة : حاذقا بمعالجة الإبل والقيام عليها. والمذانب : المشارب وذلك أنّ الثّريا إذا طلعت سحرا تحوّل جميع أهل المراتع إلى المحاضر ليبس الكلاء ، ونضوب الماء ، وذهاب الجز ، فلا يبقى في المراتع إلّا من يتولّى رعيه الإبل بنفسه ، ويتشيّع سرار الغيطان ، وبطون الأودية. والعلان : التي فيها بقايا الرّطب ، ولا يكون ذلك التّخلف إلّا شهرا وبعض آخر ، وهو من وقت طلوع الشّرطين ، لستّ عشرة ليلة نحو من نيسان إلى وقت طلوع الثّريا يخلو من أيار إلى طلوع الدّبران وهو لليلة من حزيران وأنشد :

أقمن شهرا بعد ما تصيّفا

حتّى إذا ما طرد الصّيف السّفا

قرين بزلا ودليلا محشفا

وبدّلت والدّهر ذو تبدّل

هيفا دبورا بالصّبا والشّمال

فلم تزل الشّمال عالية زمان العشب ووقت الحركة ، حافظة لبلولة النّبات لروحها حتى إذا انقضت أيامه ، ودخل الصّيف ذهب سلطانها وهبت الجنوب فدافعتها.

وإنّما سمّي الهيف لحرّها ويبسها ، ولذلك قيل للسّريع العطش : المهياف ورجل هاف ، وامرأة هافة ، وقد هاف الرّجل إذا عطش.

وقال الكلابي : الهيف أوّل السّموم وقد يجعل كلّ ريح هبت بحرّ هيفا وإن كانت الشّهرة في ذلك للجنوب والدّبور. والنّكباء التي بينهما. هذه أغلب الرّياح على الهيف وقال ذو الرّمة يصف عيشا ونساء انتجعنه شعرا :

ألقى عصى النّوى عنهنّ ذو زهر

وحفّ على ألسن الرّواد محمود

حتّى إذا وجفت بهمى لوى لبن

واصفرّ بعد سواد الخضرة العود

وغادر الفرخ في المثوى تريكته

وكان من حاضر الرّجلين تصعيد

ظللت تخفق أحشائي على كبدي

كأنّني من حذار البين مورود

قوله : ذو زهر يريد بها نباتا ثم واكتهل فظهرت زهرية يريد استغنى به عن انتجاع. وقوله : وحفت : أي يبست فطيرته الرّيح ، وقوله : غادر الفرخ تريكته أي بيضته التي خرج منها ، وهذا باب واسع. فأمّا قول الآخر :

٣٥٨

ونقيم في دار الحفاظ بيوتنا

زمنا ويظعن غيرنا للأمرع

فإنما تبجّح بحسن صبره في دار المحافظة على العزّ والمنع عن الحريم ، إلّا أنه عد الظّعن عيبا يدل على ذلك قوله من بعد :

يسيل تغر لا يسرح أهله

اسقم يشار لقاؤه بالإصبع

وأنشد الأصمعيّ :

إذا الجوزاء أردفت الثّريّا

ظننت بآل فاطمة الظّنونا

وهذا يحتمل وجهين : يجوز أن يكون جمعهما المربع ، وكان ساكن النّفس لاستمتاعه بها وامتداد الوصال معها ، حتى إذا رأى الجوزاء طالعة علم أنّها تظعن وينقطع ما بينهما ، فترجع إلى بعض محاضرها ، لأنّ ذلك وقت الانصراف عن البدو ، فلذلك ظنّ الظّنون السّيئة لا سيما وقد كان أبهم عليه منصرفها.

وأما أن يكون مبدؤه كان مخالفا لمبدئها ، فهو لا يدري مقرّها ، لأنّهم ما داموا منتجعين فدارهم حيث يصادفون الكلأ والماء فلمّا طلعت الجوزاء علم أنه لا بدّ لها من الحضور ، وقد عرف لها محاضر شتّى ، فالظّنون تردّده بينهما وتخالجه فلا يتملّك متيقنا.

قال أبو ليلى : يفارق القمر الثّريا في زمن الوسمي كله ، وهو شهران ، وشهر من الدفيء ثم تأفل الثّريا أربعين ليلة شهرا من الدفيء وعشر ليال من الصّيف. ثم تطلع صلاة الغداة إلى أن تأفل ثانية من العام المقبل.

قال أبو حنيفة : وربّما اعتاد الحيان مبدأ بعينه ، فلا يزال الرّبيع يجمعهما فيه ثم يصرفهما الصّيف ولذلك قال ذو الرمة شعرا :

إذا الصّيف قد أجلى نساء من النّوى

أملت اجتماع الحيّ في عام قابل

وقال أيضا وهو يصف نساء أخرن الظّعن عن مرتعهنّ حتى تصيفن :

تصيّفن حتّى اصفرّ أقواع مطرق

وهاجت لأعداد المياه الأباعر

ولم يبق أنواء الثماني بقية

من الرّطب إلا بطن واد وحاجر

فلما رأين الصّنع أسعى وأخلقت

من العقربيات الهيوج الأواخر

جذبن الهوى من سقط حوضي بسدفه

على أمر ظعان دعته المحاضر

نسب بوارح هذا الزمان إلى سقوط رقيب الهقعة ، لذلك قال : الهيوج الأواخر وقد أكثر الشّعراء في إشراط هذه الأوقات التي حدّدناها بما ذكرنا من أوصافها وبيّنا كثيرا من أحوال الحاضرين والبادين فيها وفي القدر الذي أوردناه كفاية.

٣٥٩

الباب السّابع والثّلاثون

في ذكر الرّوّاد وحكاياتهم وهو فصلان

فصل

قال ابن الأعرابي : يقال : ماء مدرع : إذا أكل ما حوله من الكلأ وماء قاصر : إذا كان المال حوله يرعى.

وحكى الأصمعي في صفة رائد : هو شديد النّاظر سديد الخابر ، ينظر بملء عينه لنفسه وغيره. قال : وزعم أبو صالح التميمي أنّ رجلا من العرب سأل أعرابيّين ، فقال : أين مطرتما؟ قالا : مطرنا بمكان كذا وكذا. قال فما ذا أصابكما من المطر؟ قالا : حاجتنا. قال : فما سيل عليكما؟ قالا : ملنا الوادي كذا وكذا فوجدناه مكسرا ، وملنا الوادي كذا فوجدناه مشطيا. قال : فما وجدتما أرض بني فلان؟ قالا : وجدناها ممطورة ـ قد ألس غميرها ـ وأخوص شجرها ـ وأخلس نصيصها ، وأليث سخيرها ـ وأحلس حليها ـ ونببت عجلتها. قوله : مكسرا يعني سالت جرفته وشعابه ومعنانه أي جوانبه ، ومعنان لا واحد لها من لفظها ومعنى مشطيا سال شاطياه ، ومعنى نببت صارت لها أنابيب. وأحلس حليها أي قد خرج فيه خضرة والخضرة الطرّية. ويقال : قد أخلس وأليث سخيرها يعني اشتعل ورقا.

قال : وقيل لآخر : كيف كلأ أرضك؟ قال : أصابتنا ديمة بعد ديمة على عهاد غير قديمة. فالتاب يشبع قبل العظيمة. وقيل لابنة الحسن : ما أحسن شيء؟ قالت : غادية في اثر سارية في تنجاء قاوية. التنجاء : أرض مرتفعة لأنّ النبت في أرض مشرف أحسن. وقد قالوا : نفخاء رابية. قال : ليس فيها رمل ولا حجارة. والجميع نفاخى ونبت الرّابية أحسن من نبت الأودية. لأنّ السّيل يصرع الشّجر فيقذفه بالأودية فيلقي عليها الدّمن.

وقالت أيضا : أحسن شيء سارية في إثر غادية ، في روضة أنف ، أكل منها وترك.

وقيل لأعرابي : أيّ مطر أصابك؟ قال : مطيرة يسيل شعاب السّخبر. وتروي التلعة المحلة شعاب السّخبر. عرضها ضيّق وطولها قدر رمية الحجر. والتلعة المحلّة التي تحلّ

٣٦٠