كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

الباب الثاني

ومتى تسمّى ظروفا ، ومعنى قول النّحويين الزّمان ظرف للأفعال ، والرّد على من قال في بيانهما بغير الحق من الأوائل والأواخر. وهذا الباب يشتمل على ما ذكر ماهية الزّمان والمكان وحكاية أقوال الأوائل فيهما ، محقّهم ومبطلهم وإبطال الفاسد منها وما يتعلق بذلك وفصوله أربعة:

فصل

اعلم أن أسماء الزّمان والمكان إنما تسمّى ظروفا إذا كانت محتوية لما هي ظروف لها فإن لم تكن محتوية فليست بظروف ، بل هي أسماء تبيّن ما وقعت عليه من غيره كسائر الأسماء ، كقولك: مكانكم طيب ، وخلفك واسع ، وأمامك الصحراء ، ويوم الجمعة مبارك ، وشهر رمضان شهر طاعة وإنابة ، فإنما هذا كقولك : عبد الله كريم ، وزيد مبارك ، وموضع كونها ظروفا أن تقول : سرت يوم الجمعة وضربت زيدا يوم السبت ، فاليوم مفعول فيه. وسنذكر قطعة واسعة من الأزمنة تأتيا بأسمائها إلى أن نتمكن من شرح جملها وتفاصيلها ، ونأتي على حقها وحقيقتها ويندس في أثنائها الكثير من مبهمات الأمكنة لأنها هي التي تكون ظروفا دون محدوداتها ، واتّسع باب الأزمان ، لأنّ الأحداث انقسمت بانقسامها فهي تتضمنها دون الجثث والأشخاص ، ولذلك قال سيبويه: المكان أشبه بالأناسى فلها صور تثبت عليها وحدود تنتهي إليها وتتباين بها.

فمن أسماء الزّمان : اليوم واللّيلة والبارحة الأولى وأمس وأول من أمس ، وأول من أول من أمس ، وإذ مضافة إلى جملة كالفعل والفاعل والابتداء والخبر وقط وعصر وزمان ودهر ووقت في الزّمان والمكان ، وأسبوع وشهر وعام وسنة فيما مضى وحقب ، وغد وأبد في المستقبل ، وإذ مضافة إلى فعل وفاعل ، وذات مرة ، وذات المرار ، ولا يستعملان إلا ظرفا ، وذات العويم وإبّان وإفان وقبل وبعد ، ولا يرفعان ، وبعيدات بين ، وكذلك ، وليس قبل وبعد ولا بعيد من أسماء الزّمان ، ولا بعيدات بين ، ولا من أسماء ساعاته.

١٠١

وكذلك ذات مرّة لأن قبل وبعد يفيدان التقدّم والتأخر ، وبعيدات جمع بعد مصغرا ، ولذلك ضعفن ، وذو صباح ، وذو مساء وحرى دهر وابنا سمير والملوان والجديدان والأجدان ، وملء من الدّهر ، والمرّة ، كقولك : ضربه وما كان اسما في الدهر للظمإ والرّعي وغير ذلك مما يعتاد كالوجبة والغب والرفة والثّلث والرّبع والخمس والسّدس ما كان ممرا في اليوم ، واللّيلة نحو سحر وبكر وغدوة وهو علم ، وبكرة وهو مجهول على عدد ، وغداة وضحوة وضحى والضحاء ممدود ، ونصف النهار وسواء النهار والهجير والهاجرة والظّهير والظّهيرة ودلوك الشمس ، وغسق الليل ، والعصر وقصر العشي والأصيل ، واستعمالهم إيّاه مصغرا تقريبا للوقت ، نحو أصيل وأصيلال وأصيلان ، وكذلك المغرب في قولك مغيربان ومغيربانات والعتمة والغداة ومقصر وظلام ووهن وهدا وهداة وهدو وصباح ومساء وصباح مساء مبنيين ، وسير عليه ذا صباح وشطر الليل ويومئذ وهذا مما حذف منه وصار التّنوين بدلا من المحذوف فيه وحينئذ وساعتئذ ويوم وحين مضافة إلى متمكن وإلى غيره ، والسدف والسدفة وأي حين ، ومذ ومنذ ومتى وأيان ، ودخول كم على متى للعدد ، ودخول حتّى وإلى للمنتهى على أسماء الزمن وقولك ربّما للتقليل ، وربما بما في ذلك من اللغات ، وقد التي بمعنى ربما ، والساعات وألقاب أيام الأسبوع وتسمية العرب لها وذلك قولهم للأحد أول وللاثنين أهون ، وللثلاثاء جبار للأربعاء دبار ، وللخميس المونس وللجمعة العروبة ، وللسبت شيار وقولهم الوهن والموهن ، وتسميتهم سير اللّيل لا تعريس فيه إلا ساد ، وسير النهار لا تعريج فيه التّأويب.

وقولهم : لا أكلمك السّمر والقمر ، واختلاف الأزمنة كالصّيف والخريف والشّتاء والرّبيع وما ينسب إليها من نتاج أو عشب ، وتسميتهم بالحر شهري ناجر ، والشّهرين الموصوفين بالبرد شهري قماح وقماح ، وما نفع من المصادحينا نحو : مقدم الحاج ، وخفوق النّجم ، وخلافة فلان ، ووقعة فلان ، والتواريخ ، وتقديمهم اللّيلة على اليوم ، وقولهم بعد فنك من اللّيل ، وهزيع والأناء وما واحدها ، وأيام الأسبوع والفصل بينها والأوان والآن.

وصفات الزّمان : كقولهم حول كريت وقميط ومجرم وفعله قليلا وكثيرا وطويلا وقصيرا ، وقولهم النسيء في الأزمنة والنسيئة (١) في الدّين واليمين والشّمال وأعلى وأسفل وخلف وقدّام وأيام العجوز ، وهذه تجري مجرى المقدمات وسيأتي التّفسير عليها منوعة.

__________________

(١) التأخير في دفع الثمن.

١٠٢

فصل في ماهية الزّمان

ذكر بعض القدماء أن الزمان هو دوران الفلك ، وقال أفلاطون : هو صورة العالم متحركة بعد صورة الفلك. وقال آخر : هو مسير الشّمس في البروج حكى جميع ذلك النّوبختي ، ووجوه هذه الأقوال تتناسب. وحكى أبو القاسم عن أبي الهذيل أنّ للزمان مدى ما بين الأفعال ، وأنّ اللّيل والنّهار هما الأوقات لا غيره. وزعم قوم أنه شيء غير اللّيل والنّهار ، وغير دوران الفلك ، وليس بجسم ولا عرض ، ثم قالوا : لا يجوز أن يخلق الله شيئا إلّا في وقت ، ولا يفنى الوقت فيقع أفعال لا في أوقات ، لأنه لو فني الوقت لم يصح تقدم بعضها على بعض ، ولا تأخّر بعضها عن بعض ، ولم يبين ذلك فيها وهذا محال.

وقال بعض المتكلّمين : الزّمان تقدير الحوادث بعضها ببعض ، ويجب أن يكون الوقت والموقت جميعا حادثين ، لأن معتبرهما بالحدوث لا غير ، ولذلك لم يصح التّوقيت بالقديم تعالى ثم مثل ، فقال : ألا ترى أنك تقول : غرد الديك وقت طلوع الفجر ، وتقول : طلع الفجر وقت تغريد الدّيك ، فيصير كلّ واحد من طلوع الفجر وتغريد الدّيك وقتا للآخر ومبينا به للمخاطب حدوثه وهذا على حسب معرفته بأحدهما وجهله بالآخر ، لأنّ ذلك في التوقيت لا بدّ منه. وقال المحصّل من النّحويين الزمان ظرف الأفعال وإنما قيل ذلك لأن شيئا من أفعالنا لا يقع إلا في مكان وإلا في زمان وهما الميقات.

قال الخليل : الوقت مقدار من الزّمان وكلّ شيء قدرت له حينا فهو موقت ، وكذلك ما قدرت له غاية فهو موقت ، قال تعالى : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٨] والميقات مصير الوقت قال تعالى : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٢] والآخرة ميقات الخلق ومواضع الإحرام مواقيت الحج وفي التّنزيل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٩] والإهلال ميقات الشّهر وفي القرآن : (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) [سورة المرسلات ، الآية : ١١ ـ ١٢] وإنما هي وقّتت ويقال : وقت موقوت وموقت. والزّمان قد يعلم باسمه. وقد يبين بصفاته ، فالأول كالسّبت والأحد ورمضان وشوّال ، والثّاني كقولك الخميس الأدنى ، والجمعة الآتية ، وقد يبين بقرينة تضاف إليه كقولك : عام الفيل ، ووقت ولاية فلان. وقد يقصد المتكلم بيان قدر الوقت أو صورته أو اتصاله أو انقطاعه بما يكون نكرة كقولك فعلته ليلا وثابرت عليه حولا ، وأقمت عنده شهرا.

وفي الاتصال والانقطاع يقولون : فعلته ليلا ونهارا أو غدوا وعشيا وزرته ذات مرة وبعيدات بين. فأما قول من قال : هو الفلك بعينه فقد أخطأ ، لأنّ الأفلاك كبيرة في الحال وليست الأزمنة كبيرة في الحال ، لأنّ الزّمان ماض ومستقبل وحاضر ، والفلك ليس كذلك ،

١٠٣

وهذا ظاهر ، وذلك قول من قال : حركات الفلك هي الزّمان لأن أجزاء الزّمان إذا توهّمت كانت زمانا ، وأجزاء الحركة المستديرة إذا توهّمت لم تكن حركة مستديرة ، ولأنّ الحركة في المتحرّك وفي المكان الذي يتحرّك إليه المتحرّك ، والزّمان ليس هو في المتحرّك ولا في المكان الذي يتحرك إليه المتحرّك ، بل هو في كل مكان ثم قد يكون حركة أسرع من حركة ، ألا ترى أنّ حركة الفلك الأعلى أسرع من حركة زحل والبطء والسّرعة لا يكونان في الزّمان لأنّ الحركة السّريعة هي التي تكون في زمان يسير والبطيئة هي التي تكون في زمان كثير.

وحكى حنين بن اسحاق عن الاسكندر أنه قال في حد الزمان : إنه مدة بعدها حركة الفلك بالمتقدّم والمتأخر. قال والعدد على ضربين : عدد يعدّ غيره وهو ما في النفس ، وعدد يعدّ بغيره ، والزّمان مما يعد بغيره وهو الحركة لأنّه على حسبها وهيئتها وكثرتها وثباتها ، وإنما صار عددا من أجل الأول والآخر الموجودين في الحركة ، والعدد فيه أوّل وآخر فإذا توهّمنا الحركة توهّمنا الزّمان ، وإذا توهّمنا الزّمان توهّمنا الحركة ، وإنّما صار عدد حركة الفلك دون غيرها لأنه لا حركة أسرع منها ، وإنما يعد الشيء ويذرع ويكال بما هو أصغر منه. قال : والزّمان عدد وإن كان واحدا لأنه بالتّوهم كثير فيكون أزمنة بالقوة والوهم لا بالوجود والعمل.

وهذا يقارب ما حكاه أبو القاسم عن أبي الهذيل في حدّ الزمان ، لأن قوله : مدى ما بين الأفعال ، وإن اللّيل والنّهار هما الأوقات إذا حصل يرجع إلى معنى قوله مدة بعدها حركة الفلك بالمتقدّم والمتأخّر ، وإن كان لفظ أبي الهذيل أجزل وأغرب ، ألا ترى أنّ الاسكندر قال : والبرهان على أن الزّمان ليس بذي كون ولا ابتداء ولا انتهاء والفرقة التي زعمت أن الزّمان شيء غير اللّيل والنّهار ، وغير دوران الفلك ، وليس بجسم ولا عرض إلى آخر الفصل ، فإنّا سنتكلم به على الملاحدة والخارجين من التّوحيد إلى وراء التشبيه إن شاء الله تعالى.

اعلم أن العبارة عن الوقت قد حصلت من القديم تعالى ولا فلك يدور ولا شمس في البروج تسير ، وعبر أيضا عن أوقات القيامة فمرة قال تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [سورة المعارج ، الآية : ٤] ومرّة قال تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [سورة السجدة ، الآية : ٥] وقال تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] وقال تعالى في صفة أهل الجنّة : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٦٢] ولا بكرة ثم ولا عشية ، فجميع ذلك أجري لأوقات مؤقتة لمعاني قدّرها الله تعالى على أحوال رتّبها ومراتب صورها فمنها ما هو أطول ، ومنها ما هو أقصر ، على حسب آماد الأمور المقدورة فيها ، فمثّل كلّا بما تقرّر به النفوس غايته وأمده ومقداره وموقعه ممّا

١٠٤

كنّا نعرفه ونألفه ونشاهده ونتصرّف فيه ، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا وحصل من الحكيم التّوقيت على ما بيّنا ظهر كثير من عاداتهم فيه وأنهم تخيّروا ما كان في الاستعمال أبين وفي العرف أمتن ، وعلى المراد أدل ، وفي التّمثيل أنبّه وأجل.

واعلم أنّ الحادث متى حصل فقد حصل في وقت ، والمراد أنه يصحّ أن يقال فيه : إنه سابق لما تأخر عنه ، وإنّ وقته قبل وقته ، أو متأخر عما تقدّمه وإنّ وقته بعد وقته أو مصاحب لما حدث معه ، وإنّ وقته هذا هو المراد فقط ، ولسنا نريد أنه حدث معه شيء سمّي زمانا له ، أو سبقه أو احتاج في الوجود إليه ، فلو تصورنا أوّل الحوادث وقد اخترعه الله مقدّما على المحدثات كلّها لصلح أن يقال فيه : إنه سابق لها وإنه أول لها ، وهذا توقيت ، ولو تصوّرنا أنه بقي مفردا بعد حدوثه لم يتبع بغيره لكان يصح تقدير هذا القول فيه وتوهّمه ، إذ كان الله تعالى قادرا على الإتيان بأمثاله وأغياره معه وقبله وبعده.

وهذا معنى قول النّحوي : الفعل ينقسم بانقسام الزّمان ماض ومستقبل وحاضر ، وإذا كان الأمر على هذا فقد سقط مئونة القول في أنّ الوقت حادث لا في وقت ، وأنه لو احتاج الوقت إلى وقت لأدّى إلى إثبات حوادث لا نهاية لها. وأما من قال : إنّ الزّمان تقدير الحوادث بعضها ببعض وتمثيله بأن القائل يقول : غرد الديك وقت طلوع الفجر ، وطلع الفجر وقت تغريد الديك فإنّ كل واحد من التّغريد صار وقتا للآخر ، فإنّه جاء إلى فعلين وقعا في وقت واحد ، فعرف الوقت مرة بالإضافة إلى هذا ، وجعل ذلك الآخر موقتا به ، ومرة بالإضافة إلى ذلك ، وجعل هذا مؤقتا به ، ولم يتعرّض للزّمان وكشف حده وضبطه وهذا كما يقال : حججت عام حج زيد وحج زيد عام حججت.

ومن الظاهر أن العام غير الحجين وأنهما إنما وقعا فيه ، وهذا بيّن على أن ما أتى به واشتغل بتمثيله هو من قبيل ما يكون زمانا وهو ما يصلح أن يكون واقعا في جواب متى ولم يستوفه أيضا ، وترك ما يخرج في جواب كم رأسا ، وذلك كقولهم : يصوم زيد النّهار ويقوم اللّيل ، وما فعلته قط ، ولا أفعله أبدا ، وأقمت بالبلد شهرا وهجرت زيدا يوما إلى كثير مما ستراه في أبواب هذا الكتاب وفصوله.

واعلم أنّ الزمان وإن كان حقيقة ما ذكرنا ، فإنّ الأمم على اختلافها أولعوا في التّوقيت بذي اللّيالي والأيام ، والشّهور والأعوام ، لما يتعلّق به من وجوه المعاملات والآجال المضروبة في التجارات ، ومن تقرير العدات ، وإدراك الزّراعات ، وآماد العمارات ، ومن فعل أهل الوبر في المحاضر والمزالف والمناجع والمجامع ، وإقامة الأسواق ، وتوجيه المعاش ، ومن اشتغال أرباب النّحل بما افترض عليه عندهم من تقرّب وعبادة ، ودعوا إلى الأخذ به في دينهم من فرض ونافلة ، وأمروا بالتوجه إليه من سمت وقبلة ، ولما أجرى الله

١٠٥

تعالى العادة به فيه من حدوث حر وبرد ، وجزر ومد ، وتبدّل خصب وجدب ، ورخاء عيش وبؤس ، ومن ظهور نبات وأوان لقاح ، أو ولاد وصبوب أمطار وهبوب أرواح لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلّموا من النّجوم ما تعرفون به ساعات اللّيل والنّهار ، وهداية الطّرق والسّبل» فقدّر أكثر الناس أنّ الزّمان لا يكون غيرها ولا يعدوها إلى ما سواها ، ولهذا الّذي تبينته ، أو أشرت إليه ذكر أبو الهذيل بعد تحديد الزّمان اللّيل والنّهار هما الأوقات لا غير.

واعلم أنّ الذين زعموا أن الزّمان شيء غير اللّيل والنّهار ، وغير دوران الفلك وليس بجسم ولا عرض ، ثم قالوا : لا يجوز أن يخلق الله شيئا إلّا في وقت ولا يفنى الوقت ، فيقع أفعال لا في أوقات لأنه لو فني الوقت لم يصح تقدّم بعضها على بعض ولا تأخّر بعضها عن بعض ، ولم يتبيّن ذلك فيها ، وهذا محال قولهم داخل في أقوال الذين يقولون : إن الزّمان والمكان المطلقين ، ويعرب عنهما عند التّحقيق بالدّهر والخلاء جوهران قائمان بأنفسهما ، والكلام عليهم يجيء بعد تنويع فرقهم وبيان طرقهم فنقول : بالله الحول والقوة من زعم أنّ الأزلي أكثر من واحد أربع فرق :

الأولى : الذين يقولون هما اثنان الفاعل والمادة فقط ويعني بالمادة الهيولى.

الثانية : الذين يدّعون أنّ الأزلي ثلاثة الفاعل والمادّة والخلاء.

الثّالثة : الذين يدّعون أنه الفاعل والمادة والخلاء والمدّة.

الرّابعة : الفرقة التي زعيمهم محمد بن زكريا ، المتطبب لأنه زاد عليهم النّفس الناطقة ، فبلغ عدد الأزلي خمسة بهذيانه.

وشرح مذهبهم أنه لم يزل خمسة أشياء ، اثنان منها حيّان فاعلان وهما : الباري والنفس ، وواحد منفعل غير حي وهو الهيولى الذي منه كوّنت جميع الأجسام الموجودة ، واثنان لا حيّان ولا فاعلان ولا منفعلان وهما الخلاء والمادة ، إلى خرافات لا تطيق اليد بيانها بالخط ، ولا اللّسان تحصيلها باللّفظ ، ولا القلب تمثيلها بالوهم ، فمما يزعمه أن الباري تام الحكمة لا يلحقه سهو ولا غفلة ، وتفيض منه الحياة كفيض النّور عن قرصة الشّمس ، وهو العقل التام المحض ، والنفس تفيض منه الحياة كفيض النور ، وهي مترجّحة بين الجهل والعقل كالرّجل يسهو تارة ، ويصحو أخرى ، وذلك لأنها إذا نظرت نحو الباري الذي هو عقل محض غفلت وأفقت ، وإذا نظرت نحو الهيولى التي هي جهل محض غفلت وسهت ، وأقول متعجبا لو لا الكرى لم يحلم وهذا كما قال غيري ، أليس من العجائب هذيانه في القدماء الخمسة ، وما يعتقده من وجود العالم لحدوث العلّة وما يدّعيه من وجود الجوهرين الأزليين أعني الخلاء والمدّة لا فعل لهما ولا انفعال ، فلولا خذلان الله إياه ، وإلا

١٠٦

فما ذا يعمل بجوهر لا فاعل ولا منفعل؟! ولم يضع الأرواح المقدّسة قبالة الأرواح الفاسدة ، ولم يحدث العلة من غير نقص ولا آفة ولم يذكر شيئا ليس فيه جدوى ولا ثمرة وهذا الفصل إذا أعطي مستحقّه من التّأمل ظهر منه ما يسقط به سخيف كلامهم ، وإن لم يكن مورده مورد الحجاج عليهم.

ألا ترى أنّ من لم يثبت القديم تعالى فيما لم يزل واحدا لا ثاني له ، وعالما بالأشياء قبل كونها وبعده ، وقادرا على كل ما يصح أن يكون مقدورا ، وحيا لا آفة به ، وغنيا لا حاجة به إلى غيره في شيء من إرادته ، وحكيما لا يبدو له في كل ما يأتيه ويفعله ، فننقل إلى ما هو أعلى منه ، بل لا يفعل إلا ما هو حسن وواجب في الحكمة والصّواب ، فقد جعله قاصرا ناقصا ، تعالى الله وجلّ عن صفات المخلوقين ، وهذا كما أنّ من الواجب أن يعلم أنّ القديم لو لم يبدع العالم أصلا لاستحال أن يتوقّف على وجوده ، أو يتوصل إلى إثباته ، لأن ذاته لم تكن ظاهرة للعيان ، ولا مستدركا بالحواس ، وأنّ الشيء قد يصح إثباته من طريق أفعاله كما يصح إثباته من جهة ذاته ، والأسباب وإن كانت متقدمة لمسبباتها بالوجود فلا يمتنع أن يكون في العقول أسبق إلى الوضوح.

وإذا كان كذلك فالعالم بثبات هذا العالم المحسوس موصول إليه من طريق الإدراك والمشاهدة ، والعلم بصانعه من طريق النّظر والمباحثة ، وقد تكلّم الناس في المعرفة بالله تعالى واختلفوا فزعم قوم أن المعرفة لا تجب على القادر العاقل وأنها تحدث بإلهام الله ، فكل من لم يلهمه الله المعرفة فلا حجة عليه ، ولا يجب عليه عقاب ، لأن عذر من ترك الشيء لأنه لم يعلم كعذر من ترك الشيء لأنه لا يقدر عليه ، والذي يدل على أن المعرفة لا تكون ضرورة لأنا يمكننا التشكك فيه. ألا ترى أنه كلما اعتقدنا الشيء بدليل فاعترضت شبهة في أصل الدّليل يخرج من العلم بذلك الشيء حتى تثبت حجّة بمحل تلك الشّبهة ، ولو كانت بالضّرورة لم يكن التّشكك ، وكان العقلاء كلّهم شرعا واحدا في العلم ، كما صاروا شرعا واحدا في أخبار البلدان المتواترة عليهم ، فبان بذلك أنها ليست بضرورة ، وأكثر الناس على أنها واجبة وهي من فعل الإنسان ، وإنما يقع أوّلها متولّدا عن النّظر.

قال البغداديون مستدلين : لا يخلو من أن يكون قد كلّفنا الله معرفته أو لا يكون كلّفنا وتركنا مهملين ، وتركنا سدى ، وإهمالنا لا يجوز عليه ويقال لهم في ذلك : إنّ الإهمال هو تضييع ما يلزم حفظه ، وترك مراعاة ما يجب مراعاته ، ألا ترون أنّ من لم يحفظ مال غيره لا يقال أهمله ، لما كان لا يلزمه حفظه فثبتوا أولا أن المعرفة بالله واجبة ، ثم ادّعوا الإهمال إذا لم يكلفناها. وقالوا أيضا : نحن نرى على أنفسنا آثار نعم ونعلم وجوب شكر المنعم ، فإذا يجب أن يعرف المنعم لشكره.

١٠٧

فإن قال قائل : فهل يجوز أن نعلم القديم تعالى من طريق الخبر؟ قلت : لا ، لأنّ الخبر على قسمين : فمنه ما يضطر السّامع إلى العلم بالمخبر به كالخبر عن البلدان والأمصار ، وقد علمنا أنه لا يجوز أن نعلم الله من هذه الجهة ، لأنا وجدنا العقلاء يشكون من أنّ لهم صانعا مع إخبار المخبرين به ، ولو كان يعلم من طريق الخبر لكان لا فرق بين خبر من زعم أنّ الصّانع واحد وبين من قال اثنان أو ثلاثة ، على أنّ الخبر إنّما يضطر إذا كان المخبر يخبر عن مشاهدة ، لأنه لا يجوز أن يكون حال المخبر يعلم ضرورة ومن الخبر ما يعلم من طريق الاستدلال ، كخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يجوز أن يعلم الله من هذه الجهة ، لأنّ القائل بهذا القول أحد رجلين ، إمّا أن يقول لا يعلم الله إلا من جهة الخبر ، فيلزمه أن يكون النبي لا يعرف الله إلّا بنبي آخر وذلك يوجب التّسلسل إلى ما لا نهاية ، وإمّا أن يقول : إنه يعلم من جهة النبي ومن جهة أخرى أيضا ، وهذا فاسد لأنه ليس في النبيّ أكثر من إظهار المعجزات والمعجزات لا تدل على حكمة فاعلها ، فكيف يكون خبر النبي طريقا إلى العلم بالله وإذ قد ذكرنا وجوب معرفة الله تعالى والطريق إليه هاهنا ، وممّا تقدّم فإنّنا ننكر الكلام على الملحدة والمتحيرين.

فصل

اعلم أنّ أنواع الضّلال ثلاثة : المعاندة والحيرة والجهالة.

فالمعاندة على الإطلاق ينبغي أن لا يحصل لأحد منّا علم حقيقي ولا معرفة تفضي إلى يقين ، وإنما هي ظنون وخواطر لا تسكن النّفس إليها ، وتسميتنا لها ولأمثالها بالعلوم توسع ومجاز. والوجه في مدافعتهم أن يقال لهم : أتقولون ما ذكرتم عن خلوص علم ، أو تسلط ظن؟ فإن ادّعوا العلم فقد ناقضوا ، وإلّا حصلوا على عناد ، وقد ذكر أبو عثمان الجاحظ في الكفار الذين قتلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّهم كانوا عارفين بالله معاندين.

واعترض عليه فقيل : إنّ العناد يجوز على العدد اليسير ، فأمّا الجماعة الكثيرة فلا يصح عليها ذلك ، ونحن نعلم من أنفسنا وقد كنا على مذاهب فتركناها لفسادها أنّا لم نكن في حال اعتقادنا معاندين ولا كاذبين لأنفسنا ، وإنّما تركنا الاستدلال ، فكذلك أولئك الكفار قد علموا فيما أظهره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها معجزات ، لكنهم تركوا الاستدلال بها على ثبوته وصدقه.

والمتحيرون هم الذين يزعمون أنّ العلم بالمحسوسات قد يصح ، ولكن ما عداها مما يحال فيه على العقل نحن شاكون فيه ومتوقفون ، والكلام عليهم طريقه أن تقلب عليهم نفس ما أوردوه فيقال : تدفعون مقتضيات العقول بالمشاهدات أو بحجج العقول ولا فلاح لهم أي الطّريقين سلكوا.

١٠٨

والجاهلون الملاحدة والخارجون من نور التّوحيد والاستقامة إلى ظلمة الشّرك فرق ، والضّلالة في عددهم في ازدياد ووفور ، وإفسادهم وجوه وفنون وقد فسّرت فقيل : ربما كانت من الحضانة والتربية وقلة الخواطر وغباوة الخليط وجهد المجاورة ، وربّما كان من تعظيم الأسلاف ، أو من وجه الآلاف ، أو من غباوة الدّاعية ونسل صاحب المقالة ، وكونه صاحب سن وسمت وإخبات وطول صمت ، ولله تعالى الحجّة البالغة عليهم ، وعلى طوائف المبتدعة من أهل الصّلاة على اختلاف أهوائهم ، وسيعلم الجافي على نفسه كيف ينقلب وقد فاته الأمر. ذكر بعضهم حاكيا عن قوم من الأوائل ، أنّ الدّهر والخلاء قائمان في فطر العقول بلا استدلال ، وذاك أنه ليس من عاقل إلا وهو يجد ويتصور في عقله وجود شيء للأجسام بمنزلة الوعاء والقراب ، ووجود شيء يعلم التقدم والتأخّر ، وأنّ وقتنا ليس هو وقتنا الذي مضى ، ولا الذي يكون من بعد بل هو شيء بينهما ، وأن هذا الشيء هو ذو بعد وامتداد. وقال : قد توهم قوم أنّ الخلاء هو المكان ، وأنّ الدّهر هو الزّمان ، وليس الأمر كذلك بإطلاق ، بل الخلاء هو البعد الذي خلا منه الجسم ، ويمكن أن يكون فيه الجسم ، وأمّا المكان فالسّطح المشترك بين الحاوي والمحوى ، وأما الزّمان فهو ما قدرته الحركة من الزّمان الذي هو المدة غير المقدرة ، فصرفوا معنى الزّمان والمكان المضافين إلى المطلقين ، وظنوا أنهما هما والبون بينهما بعيد جدا ، لأنّ المكان المضاف هو مكان هذا المتمكّن وإن لم يكن متمكنا لم يكن مكانا ، والزّمان المقدّر بالحركة يبطل أيضا ببطلان المتحرك ويوجد بوجوده ، إذ هو مقدر حركته ، فأمّا المكان بإطلاق فهو المكان الذي يكون فيه الجسم وإن لم يكن ، والزّمان المطلق هو المدة قدّرت أو لم تقدّر ، وليس الحركة فاعلة المدة بل مقدرته ، ولا المتمكّن فاعل المكان بل الحال فيه ، قال : فقد بان أنهما ليسا عرضين بل جوهرين لأنّ الخلاء ليس قائما بالجسم لأنه لو كان قائما به لبطل ببطلانه ، كما يبطل التّربيع ببطلان المربّع.

فإن قال قائل : إنّ المكان يبطل ببطلان المتمكن قيل له : أما المضاف فإنّه كذلك لأنّه إنما كان مكان هذا المتمكّن ، فأمّا المطلق فلا ، ألا ترى أنا لو توهّمنا الفلك معدوما لم يمكنا أن نتوهم المكان الذي هو فيه معدوما بعدمه ، وكذلك لو أنّ مقدرا قدّر مدة سبت كان ، ولم يقدر مدة يوم آخر ، لم يكن في ترك التقدير بطلان مدة ذلك اليوم الذي لم يقدر ، بل التّقدير نفسه ، فكذلك ليس في بطلان الفلك أو في سكونه ما يبطل الزّمان الحقيقي الذي هو المدة والدّهر ، فقد ينبغي أنهما جوهران لا عرضان ، إذ كانا ليسا بمحتاجين إلى مكان ولا إلى حامل فليسا إذا بجسم ولا عرض ، فبقي أن يكونا جوهرين.

وزاد على هذا الوجه الذي حكيناه بعضهم فقال : طبيعة الزّمان من تأكيد الوجود في

١٠٩

ذاتها وقوّة الثّبات في جوهرها ، بحيث لا يجوز عدمها رأسا ولم تكن قط معدومة أصلا ، فلا بدء لها ، ولا انتهاء ، بل هي قارة أزلية.

ألا ترى أنّ المتوهّم لعدم الزّمان لم يخلص له وهمه إلا إذا ثبت مدة لا زمان منها ، والمدة هي الزّمان نفسه ، فكيف يوهم عدم ما تأكّد لزوم جوهره؟ ويفني العقل الصّحيح تصور عدمه وتلاشيه؟ أو كيف يسوغ إلحاق عدمه بالممكنات؟! ووجوده من الواجبات الأزليات؟ فهذا ما حكي عن الأوائل. وابن زكريا المتطبّب يحوم في هذيانه عند حجاجه حول ما ذكرناه عنهم ولم يبين بيانهم ولا بلغ غايتهم ، فلذلك جعل تابعا لهم وإذ قد أتينا على مآلهم بأتم استقصاد ، فإنّا نشتغل بالكلام عليهم ، وإن كان فيما قدّمناه قد صورنا خطأهم تصويرا يغني عن مقايستهم ومحاجّتهم.

ذكر بعض المنطقيين أنّ الزمان في الحقيقة معدوم الذّات ، واحتج بأنّ الوجود للشيء إمّا أن يكون بعامة أجزائه كالخط والسّطح أو بجزء من أجزائه كالعدد والقول ، وليس يخفى علينا أنّ الزّمان ليس يوجد بعامة أجزائه إذ الماضي منه قد تلاشى واضمحلّ ، والغابر منه لم يتمّ حصوله بعد وليس يصح أيضا أن يكون وجوده بجزء من أجزائه إذ الآن في الحقيقة هو حدّ الزّمانين وليس بجزء من الزّمان ، وكيف يجوز أن يعد جزءا ولسنا نشك أنّ حقيقة الجزء هو أن يكون مقدارا له نسبة إلى كلّه ، كأن يكون جزءا من مائة جزء ، أو أقل أو أكثر ، فأما أن يتوهّم جزء على الإطلاق غير مناسب لكلّه فممتنع محال وليس الآن في ذاته بذي قدر مناسب لما يفوض من الزّمان الآتي والماضي ، ولو وجد له قدر ما لصلح أن يجعل قدره عيارا يمسح به الكلّ حسب جواز ذلك على كافة ما يعد جزءا من الشّيء وإذا لم يكن الآن في جوهره ذا مقدار أصلا ، والجزء من الشيء لا يجوز أن يعرى من المقدار ، فليس الآن بجزء من الزّمان ، وإذا كان الأمر على ذلك فالزّمان إذا ليس يصح وجوده لا بعامة أجزائه ولا ببعض أجزائه ، وإن شيئا يكون طباعه بحيث لا يوجد بأجزائه كلّها ولا ببعض منها فمن المحال أن يلحق بجملة الموجودات ، وإذا كان ذات الزّمان غير موجود أصلا فليس بجائز أن نعده في الكميات ، فإنّ ما لا وجود له لا آنية له ، والذي لا آنية له لا يوصف بوقوعه تحت شيء من المقولات.

وقولهم في الزّمان هو المدة التي تفهم قبل وبعد أجلها ، فإن كان المراد أنّ قول القائل : قبل وبعد يفيد أنّ تقدّم المذكور وتأخره من غير أن ثبت بهما جوهران ليسا بجسم ، ولا يفنيان ولا يجوز أن يخلق الله شيئا من دونهما فهو صحيح ، ويكون سبيلهما سبيل لفظ مع إفادتهما معنى الصّحبة إذا قلت زيد مع عمرو ، وكما تقول للأعيان أحوال ثم لا تصفها بأكثر من تميز بعضها عن بعض بها ، وإن أريد بقبل وبعد غير ذلك فقد تقدّم القول في بطلانه

١١٠

وبطلان ما قالوه في الخلاء والمكان ، على أنا نقول معيدين عليهم إن أردتم أنّ المكان يكون المتمكّن وإن لم يوجد الجسم لم يوجد المكان لأنه قائم بالجسم ، وليس بشيء ذي وجود في نفسه فهو صحيح ، وإن أردتم للمكان جوهرا يبقى إذا ارتفع المتمكن ، وأنّ الذي بطل بارتفاعه هو النّسبة إليه والإضافة ، ويبقى المكان المطلق مكانا كما كان وهو الخلاء الفارغ وليس فيه جسم فهذا إحالة على شيء لا الإدراك يثبته ولا الوهم يتصوّره. فإن قالوا : المكان حينئذ يكون مكان ما يمكن أن يكون فيه كالزّق الخالي من الشّراب ، فإنّه مكان الشّراب الذي يمكن أن يكون فيه.

قلنا : صور في وهمنا من الخلاء مثل ما نتصوّره إذا توهّمنا الزّق والشّراب وذلك مما لا يقدرون عليه ، لأنّ كلامهم فارغ لا يفضي إلى معنى محصل ، وأيضا فإنّ الأجسام لا يخلو من أن تكون ثقيلة فترسب ، أو خفيفة فتطفو ، والخلاء عندهم ليس بثقيل ولا خفيف ، فيلزمهم أن يكون النقطة هي الخلاء لأنّها ليست بثقيلة ولا خفيفة ، ويلزمهم على قولهم بأن المتحرك لا يتحرك إلا في الخلاء أن يتحرك أبدا ولا يستقر إذا لم يوجد شيء يضاده أو يسكن دائما فلا يتحرّك إذ لا سبب هناك يوجب تحركه ، أو إذا تحرّك في الخلاء أن يتحرك إلى جميع الجهات ولا يختص بجهة دون جهة لأنّ الخلاء كذلك. فإن قالوا : إن الذي تسميه خلاء هو الهواء ، أسقط قولهم بأن الهواء يقبل اللّون ويؤدي الصّوت والخلاء ليس كذلك وهذا بيّن.

وأعجب من هذا أن الباري مخترع لجميع ما خلقه وأنه لا يعجزه مطلوب ولا ينكاده معلوم ، ثم أقاموا معه في الأزل الهيولى وهو المادة ، ورتّبوا معه الصورة ليكون جميع ذلك كالنّجار والخشب والنّجارة والله تعالى يقول : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [سورة فصلت ، الآية : ٩] إلى قوله : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [سورة فصّلت ، الآية : ١٢] ولم يقل ذلك إلا وأهل العلم إذا فكّروا فيه أدركوا منه الآية البيّنة والحجّة الواضحة ، وبيّنوا أنه ليس في العالم شيء إلا وهو منتقص غير كامل ، وذلك هو الدّليل على أنه مقهور لا يستغنى به ، ولا بدّ له من قاهر لا يشبهه ولا يوصف بصفاته على حدّها ، لأن ذلك آية الخلق وآية الخلق لا تكون في الخالق.

فصل آخر يزداد النّاظر فيه والعارف به استبصارا فيما وضع الباب له

اعلم أنّ الاستدلال بالشّاهد على الغائب هو الأصل في المعرفة بالتّوحيد وحدوث الأجسام لا يعرف ببداهة العقل ولا بالمشاهدة لأنّه لو عرف ذلك لاستوى العقلاء في معرفته كما استووا فيما شاهدوه ، وإنما يتهيأ أن يعرف بما علم من تعاقب الأعراض المتضادّة عليها ، وإنّما لا تنفك منها على حدوثها إلا بمشاهدة الأجسام وإذا ثبت حدوث الأجسام فلا

١١١

بدّ لها من محدث لا يشبهها ، وإذا ثبت ذلك صح أنّ الفاعل للأجسام لا تحلّه الحوادث وأنه سابق لها غير مشبه لها والحوادث غير مشبهة له.

ثم دلّ خلقه للأجسام أنه قادر حيّ كما دلّت أفعال الأجسام في الشّاهد أنّها حيّة قادرة عالمة وأنّها لو لم تكن كذلك لم تكن فاعلة فلما لم يدلّنا على أن الأجسام حية قادرة إلا أفعالها ، إذ كانت حياتها وقدرتها لا تشاهد ، دلّتنا أفعال الله تعالى أيضا على أنه حي قادر ، ووجب أن يكون عالما لوجود أفعال محكمة ، إذ كانت أفعال الأجسام في الشّاهد إذ كانت محكمة دلّت على أنّها عالمة ولا يدل على علمها غير أفعالها ، إذ كان العلم لا يدرك ولا يشاهد.

ولما دلنا جواز الموت على الأجسام نفي الشّاهد والعجز والجهل دلّنا ذلك على أنهم إنما كانوا أحياء قادرين بحياة وقدرة ، وعالمين بعلم ، وهذه الأشياء هي غيرهم فلهذا جاز زوالها عنهم وحدوث أضدادها بدلا منها فيهم. ولما كان القديم تعالى لا يجوز شيء من ذلك عليه وجب بدلالة الشّاهد أنه حيّ بنفسه عالم ولما كان الجسم في الشّاهد بالتأليف يصير جسما ، ونعلمه جسما لم يجز أن يكون جسما فصحّ بهذا أن التّوحيد لا يعرف إلا بدلالة الشّاهد ، وكذلك طريق صدق الرّسل لأنه لا يعرف بالمشاهدة ولا ببداهة العقل ، ولو عرف بذلك لاستوى النّاس جميعا فيه ، وإذا كان كذلك فإنّما يعرف بالآيات المعجزات ، ولا يعرف ذلك إلا باعتبار أمر الشّاهد وحمل الغائب عليه فاعلمه.

واستدلّ أبو القاسم البلخي على أنّ القديم واحد بأن قال : قد ثبت أنّ المحدثات لا بدّ لها من محدث ، فمن هذا الطّريق قد بان أنّ هاهنا صانعا لا بدّ منه ولا أقل من واحد فلذلك نعلمه يقينا وأنّه واحد ، وأمّا ما عداه مشكوك فيه فلا يتخطاه إلّا بدليل وهذا قريب صحيح. انتهى الباب والله محمود على ما سهّله ووفقنا له من تحقيق ما أردنا تحقيقه من شرح فضائحهم وإثارة مقابحهم ، والرّد عليهم في أصول دعاويهم وفروعها ومسئول إيزاعنا شكر نعمته وصلة سعينا بمرضاته.

١١٢

الباب الثالث

ويشتمل على بيان اللّيل والنّهار على فصول من الأعراب يتعلّق بهما وهي ظروف

الفصل الأوّل

قال الأصمعي أتيته ليلا وقعلته نهارا. قال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) [سورة الصافات ، الآية : ١٣٧] فقوله : باللّيل خلاف الإصباح. واعلم أنّ قوله : (وَبِاللَّيْلِ) موضعه نصب على الحال كأنه قال : تمرّون عليهم مصبحين ومظلمين أي داخلين في الظّلام ، فأوقع اللّيل على الجزء الذي فيه الظّلام من اللّيل ، وإن كان في الحقيقة للجنس. واليوم بإزاء اللّيلة يقال : جئتك اليوم وأجيئك اللّيلة ويقال : أتيته ظلاما أي ليلا ومع الظّلام. وقال يعقوب : الظّلام أول اللّيل وإن كان مقمرا. وحكى بعضهم أتيته ظلاما أي عند غيبوبة الشّمس إلى صلاة المغرب وهو دخول اللّيل ، وهذا يؤيد ما حكاه يعقوب وكأنه جعله الوقت الذي من شأنه أن يظلم ، ويقولون : عم ظلاما ، كما يقولون : عم صباحا ويقال : نهار أنهر وليل أليل وليلة ليلاء وقال الفرزدق : واللّيل مختلط الغياطل أليل. وأنشد المفضل :

مروان مروان أخو اليوم اليمي

قال سيبويه : أراد اليوم فقلب وقدّم الميم وقيل : بل حذف العين تخفيفا وأطلق الميم إطلاقا.

وقال شيخنا أبو علي الفارسي : وقت قراءتي عليه هذا الموضع من الكتاب وفي حاشية نسختي : أخي اليوم اليوم ، فاستغربه وقال : يريد أنه بطل يبارز أقرانه ويقول لهم : اليوم اليوم أو هو صاحب هذا اللّفظ في ذلك الوقت وفي هذا الوجه قلب أيضا وقولهم : يوم في أبنية الأسماء غريب نادر ، لأن فاءه ياء وعينه واو ومثله في المباني يوح اسم للشّمس وباب اليون بالشام.

وقد ذكره ابن الرّقيات في قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن مروان أعني ابن ليلى عبد

١١٣

العزيز. بباب اليون تغدو جفانه ردما. وقال هميان بن قحافة : فصدقت تحسب ليلا لأيلا. فقال لأيل وإنما يصفون بما يشتق من لفظ الموصوف بيانا للمبالغة وتنبها عليها على ذلك قولهم ظلّ ظليل ، وداهية دهياء وما أشبهها. ويقال استأجرته مياومة وملايلة إذا قدر أجرته يوما يوما وليلة ليلة.

وحكى أبو عبيدة أنّ العرب لا تقول إلا مشاهرة ، فأما معاوية ومياومة وما أشبههما فليست من كلام العرب ، وإنما هي قياس على المسموع منهم ، ويقال : يوم وأيام ، والأصل أيوام لكن الواو والياء إذا اجتمعا فأيّهما سبق الآخر بالسّكون يقلب الواو ياء ويدغم الأوّل في الثاني ، إلا أن يمنع مانع على ذلك قولهم سيّد وميّت لأنّهما فيعل من ساد ومات ، والأصل سيود وميوت هذا فيما السّابق فيه ياء ومما السّابق فيه واو قالوا كويته كيا ، ولويته ليا لأن الأصل كوى ولوى وكذلك قولهم أمنية وازبية وقولي إلا أن يمنع مانع احتراز من مثل قولهم : ديوان لأن أصله دووان ، ففرّوا من التّضعيف وأبدلوا من إحدى الواوين ياء. فلو طلبوا الإدغام للواو لعادوا من التضعيف مثل ما فروا منه ، ومثله سوير وبويع ومثله لوى ورويه إذا خفف همزتاهما ، لأنّ الواو في جميعها لا يلزم ، فلم يعتدوا بها واوا.

ألا ترى أنّها سوير ، وبويع منقلبة عن الألف في سائر وبائع. وفي رويه ونوي مبدلتان من همزة وتلك الهمزة ثابتة في النّية ، وإذا كان كذلك فحكم الواو فيها حكم الألف والهمزة ، فأما ضيون وحيوة فشاذتان عن الاستعمال ومنبّهتان على أصل بالباب المرفوض على عادتهم في أمثالها والنّهار واللّيل لا يجمعان إلا أن يذهب إلى بياض كلّ يوم ، وسواد كلّ ليلة ، فتصورت بينها خلافا لأنّك حينئذ تجمع للاختلاف الدّاخل في الجنس فيقال : أليال وأليل وأنهر ونهر وعلى هذا قول الشاعر شعرا :

لو لا الثريدان هلكنا بالضّمر

ثريد (١) ليل وثريد بالنّهر

والذي يكشف لك أنّ اللّيل والنّهار لا يجمعان أنّ سيبويه قال : لا يجوز أن يقول القائل : إذا كان الليل فاتني ولا أن يقول : إذا كان النّهار فاتني لأنهما لا يكونان ظرفين إلا أن يعني بهما كلّ اللّيل والنّهار. وإذا كانا كذلك فسبيلهما سبيل الدهر فكما لا تقول : إذا كان الدّهر فاتني كذلك يمتنع في اللّيل والنّهار ويقال : رجل ليلي ورجل نهاري إذا نسبت ، ونهري أيضا وهذا كما بنوا للنّسبة فاعل وفعال مثل تاجر ولابن وبزّاز وثمّار وأنشده :

لست بليلي ولكني نهر

متى أتى الصّبح فإني منتشر

__________________

(١) أثرد الخبز : فتّته ثم بلّه بالمرق.

١١٤

لا أدلج (١) اللّيل ولكن أبتكر

ويقال : ليلة وليال فكأنها جمعت على ليلات وإن لم يستعمل ومثله أهال في جمع أهل وإنما هو في تقدير أهلي ، وعلى هذا قالوا في التّصغير ليلة والقياس في جمع ليلة ليلاء ليال ليل والأصل لول لأنه فعل مثل حمراء وحمر ، لكنّهم حاموا على الياء لئلا يلتبس بنات الياء ببنات الواو ، ومثله قولهم بيض وعين في جمع بيضاء وعيناء وما أنشده الكسائي من قول الكميت :

ولدنك والبدر ابن عائشة التي

أضاء ابنها مستحلكات اللّيايل

فإنه أراد اللّيالي ، فقلب ، وقدم الياء فلما وليت الألف همزت كما قيل : صحايف ومثله فيما قلبوه ترقوة وترائق والأصل تراقي.

واعلم أنّهم يتوسّعون في ذكرهم اليوم ، واللّيلة ألا تراهم يقولون : فلان اليوم يعد من الرؤساء وكان في الدّهر الأول على كذا ، واليوم هو خلافه ، وإنما يعنون الزّمان وكما قال تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [سورة السجدة ، الآية : ٥] يعني القيامة ، وليس ما أشار إليه من صورة ما نعدّه في شيء وقال الشّاعر :

يومان يوم مقامات وأندية

ويوم سير إلى الأعداء تأويب

فقسم دهره يومين ، ويقال : الناس أغراض اللّيالي ويراد الأحداث ومثله من الذي يسلم على الليالي والأيام فأما قوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً) [سورة الأنفال ، الآية : ١٦] فاليوم يعم أجزاء اللّيل والنّهار ، والزّجر به حاصل في كل جزء من أجزاء الزّمان وعلى هذا قوله :

يا حبذا العرصات

يوما في ليال مقمرات

يريد وقتا وزمانا في ليال وكذلك قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٠] أي نجعل الدّول في الأزمان فتحول وتنقل بين الناس على حسب استحقاقهم أو سببا لامتحانهم. وقد سمّت العرب وقعاتها أياما فيقولون لنا : يوم كذا ويوم كذا ، وساغ ذلك لوقوعها فيها.

فصل آخر

يقال : اللّيلة لليلتك التي أنت فيها ، والبارحة لليلة يومك الذي أنت فيه ، وقد مضت

__________________

(١) أدلج : سار اللّيل كلّه أو في آخره.

١١٥

وهي من برحت أي انقضت ، ومنه ما برحت أفعل كذا ، وأصله البراح ، من المكان وقال الفراء : برحت بالفتح مضت ويقال : برح الخفاء أي زال ومنه البارحة وقال قطرب : لا يقال بارحة الأولى لأنّ الشيء لا يضاف إلى نفسه ، ولا إلى نعته والجمع البوارح.

وذكر بعض شيوخنا أنّ قوله : لا أبرح بمعنى لا أنال ولا يجوز أن يكون أصله من البراح من المكان بدلالة قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) [سورة الكهف ، الآية : ٦٠] ألا ترى أنّه محال أن يبلغ مجمع البحرين وهو لم يبرح من مكانه قال : وإذا لم يستعمل أبرح إلا على أحد هذين الوجهين وبطل أحدهما ثبت الآخر ، ويمكن أن يقال في جوابه معنى لا أبرح حتى أبلغ أي لا أتجاوز هذا الطريق ولا أعدل عن سلوكه وسمته حتى أبلغ هذا المكان ، فخذف الطريق وهذا كما يقال : لم أبرح بلد كذا حتّى فعلت كذا وإن كان ينقل في البلد لأنّ المعنى لم أتغيب ويشهد لهذا أنه لا يستعمل ما برح في الله تعالى لأنّه لا يقال : لم يبرح الله قادرا فلو كان لم يبرح بمعنى لم يزل حتى لا فرق بينهما لما امتنع مما دخله ، وإذ قد امتنع فلأنه لا يجيء إلا وأصله البراح من المكان ذكر أو لم يذكر وذلك لا يجوز على القديم تعالى.

واعلم أنّ هذه الكلمة في اللغة مدارها الأكثر على التّجاوز ، من ذلك قال الأعشى : أبرحت ربا وأبرحت جارا أي جاوزت ما عليه أمثالك في الخلال المرضية ، والبارحة الأولى التي قبل البارحة ، وجمع البارحة البوارح ، ولم يتجاوزوا ذلك. وأمّا الفائدة فما يستقبل بعد ليلتك التي أنت فيها وكأنها مأخوذة من الاستقبال ويقال : قبلت الوادي أقبله إذا استقبلته ويقال : آتيك القابلة والمقبلة كما يقال : عام قابل ومقبل وأنشد :

أقبلتها الخلّ من حوران مجتهدا

إني لأزري عليها وهي تنطلق

ويقال فعلته ليلا ونهارا أي ضياء وظلاما ، غير مخصوص بوقت معلوم ، وفعلته يوما وليلة يريد أنّ من جملة الزّمان ما تنحصر بهذا القدر وربما جعل بعض أجزاء الليلة ليلا وجعل اللّيل لليلة واحدة قال :

وودّ الليل زيد إليه ليل

ولم يخلق له أبد النّهار

ولم يرد الجنس لأنّ الجنس يستوعب الأوقات ، فلا يزاد للأمثلة وكذلك قوله : إني إذا ما اللّيل كان ليلتين ، أراد كل واحد من الشّاعرين ليلة واحدة وأنها في طولها كانت أوقاتها وساعاتها لتطاولها وامتدادها ومقاساة ما يعاني منها كليلتين. وغرض الشاعر أن يصف طول ليلته أي كأنها في طولها مضاعفة متزايدة ، وإذا جعل اللّيل جنسا فسد المعنى أيضا ؛ لأن اللّيل المستوعب لأجزاء جنس اللّيل إذا قيل فيه كان ليلتين وحصر بما يقع فيه التّنبيه من

١١٦

أجزائه عاد نقصانا لا تضعيفا وقوله تعالى : (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) [سورة الإنسان ، الآية : ٢٦] المراد به أجزاء ليلة طويلة من اللّيل لأنه لو أريد الجنس لما صحّ فيه ذكر الطّول وللزم التّسبيح ليلة طويلة دون ليلة قصيرة ، وإذا أريد الجزء من اللّيل في كلّ ليلة فهو أمر بالتّسبيح جزءا طويلا وأجزاء طوالا.

وقال بعضهم في قوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٥] أي بنعمه ، والكوفيون رووا اللّيل ليلك ، واليوم يومك ، ويراد به الوقت وقتك ، ويقال : الليل ليلك واليوم يومك ، فيجعلون الأولى ظرفا للثانية ، وجعلوا الثّاني جزءا منه لأنّ الظرف وعاء مستوعب ، فيجب أن يكون أوسع من ذي الظرف ليوعبه ويشتمل عليه كما يحوي الوعاء ما ضمنه ، وأما قوله تعالى : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) [سورة الدخان ، الآية : ٢٣] وقد علمنا أن السّرى لا يكون إلا ليلا ، فالمراد في جوف اللّيل ، ولو قال : فأسر بعبادي ، ولم يقل ليلا لكان مطلقا في أول اللّيل وآخره وما بينهما ، ألا ترى أنك تقول : جاءني فلان البارحة بليل ، فيكون المعنى في استحكام اللّيل ، وقد يجيء ما لا يحتاج فيه إلى تأكيد ، تقول : أدلجت فيكون المعنى سرت في أول الليل ، ولو قال : أدلجت في أوّل اللّيل لساغ فيكون تأكيدا كتكرير الاسم أو الفعل قال زهير شعرا :

بكرن بكورا واستحرن بسحرة

فهن لوادي الرّسّ كاليد للفم

فقوله بسحرة بكور على وجهين : أحدهما أن يكون الإدلاج لآخر اللّيل وبكرن للسّحر وغيره ، فإذا قال بسحرة فقد بين أيّ الوقت من آخر الليل ، ويكون توكيدا محضا قال تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) [سورة هود ، الآية : ٨١] على هذا والعرب يقول : أتيتك بقطع من اللّيل ، وبعد وهن من اللّيل إذا دخلت في استحكامه ، فأمّا قول ضمرة شعرا :

بكرت تلومك بعد وهن في النّدى

سهل عليك ملامتي وعتابي

فقال : بكرت ثم قال بعد وهن ، والوهن لا يكون إلا ليلا فالمعنى أول ذلك الوقت وقولهم: بكر عليه إذا لم يسمّ الوقت فإنّما يعني جاء في أوله ليلا كان أو نهارا ، وبها سميّت الباكورة من الثمر وإن لم تذكر وقتا ، وقلت أتانا بكرة فإنّما تأويل ذلك أوّل النّهار لا غير ، هذا المستعمل بلا شرط ، وما تقدم فإن تذكر ما يدل عليه وكذلك اليوم إذا كان مطلقا إنما تعني به النّهار دون اللّيل والألف واللام يدل على يومك ، إلا أن تصله بغيره فتقول : رأيته اليوم الذي مضى.

فصل آخر

قوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٦٢] يريد على ما

١١٧

اعتادوا في الدّنيا والبكرة ما اتصل بما قبله من الليل ، والعشي ما يتصل به اللّيل ولا ليل في الجنة ولكن على ما ألفوا في الدّنيا وتعودوه من الأوقات ومثله قوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٩٧] ولا خبو لنار المعاد ولكن عند ما علم من خبو نار الدنيا وانقضاء تصرّمها يجدد لأولئك العذاب ، فأما قولهم المبكر فهو ما جاء في أوّل الوقت وليس هو من بكور الغداة. ومنه قوله عليه‌السلام : «بكروا بصلاة المغرب» والتبكير أول أوقات الصّلاة. ومنه قوله عليه‌السلام : «من بكّر وابتكر» فبكر يكون لأول ساعات النّهار ويكون لأول وقت من الزّوال وابتكر لا يكون لأوّل ساعات النهار.

قال أبو العباس ثعلب : يجوز في قوله : ابتكر أسرع إلى الخطبة حتى يكون أول دان وسامع ، كما تقول ابتكرت الخطبة والقصيدة أي اقتضبتها وارتجلتها ابتداء لم أرد فيه وقول الفرزدق : إبكار كرم تقطف فالمراد حملت أول حملها وأنشدني شيخنا أبو علي ، قال أنشدني أبو بكر السّراج لعنترة العبسي :

إن كنت أزمعت الفراق فإنما

زمت جمالكم بليل مظلم

قال يقول : إنّك ابنة ملك فلا يرحل بك إلّا ليلا فلذلك خفي. قال : ويجوز أن يكون المعنى إن كنت أظهرت رحلتك الآن فإنما وقع العزم عليه ليلا ، كما قال الحارث بن جلزة شعرا :

أجمعوا أمرهم بليل فلمّا

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

كان المراد أمرهم في الارتحال دبر بليل ولم يكن فلتة. وقول الشاعر عمرو ابن كلثوم شعرا :

وأيام لنا غرّ طوال

عصينا الملك فيها أن ندينا

أراد الأوقات لأنّ معصيتهم للملك كانت في اللّيل والنّهار ، فإن قلت : كيف تكون اللّيالي غرا إلا ما يذكر من ليالي الشّهر يقال ثلاث غرر وذلك لبياضها بدوام القمر فيها؟ قيل : لم يرد بالغر بياض الوقت ووضوحه بضياء شمس أو قمر إنما أراد إسفاره وإشراقه واشتهاره في مواطن الشّرف والمجد والسّنا والافتخار ، وحميد البلاء ، وحسن الآثار ولقاح الغرّة وامتناع الجانب على من يأتيهم وكذلك قول القائل شعرا :

وأيامنا مشهورة في عدوّنا

لها غرر معلومة وحجول

ويجوز أن يريد في الأوّل بالغر أيضا بياض المقاديم كغرّة الفرس ، فأما قولهم : أيامنا طابت ببلد كذا والمراد لياليها ، فهو من هذا ولذلك قيل : لو أن إنسانا قال : عبدي حر لوجه الله يوم يقدم علينا فلان أنه يعتق وإن قدم ليلا ، وعلى هذا قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ

١١٨

دِينَكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ٣] قيل : أراد يوما بعينه وقيل : أراد زمنا ووقتا قال الدّريدي : والعرب تقول : كيف أصبحت من نصف اللّيل الآخر إلى نصف النهار؟ وكيف أمسيت من الزّوال إلى نصف الليل؟ ويقولون : في يومك كان اللّيلة كذا إلى الزّوال ، فإذا أزالت الشّمس قالوا كان البارحة. وحدّث الجمحي قال : تقول العرب : صبّحتك الأنعمة بطيبات الأطعمة. وحدّث أبو العباس المبرّد قال : أنشدني المازني عن أبي زيد :

كيف أصبحت كيف أمسيت ممّا

يثبت الودّ في وداد الكريم

قال : المعنى وكيف أمسيت قال : ويقول العرب في مثله : ضربت زيدا عمرا لا يريدون بدل الغلط ولكن يريدون الواو. قال : ولو طال الكلام لكان أحسن مثل ضربت زيدا وأحسنت في ذاك عمر ، أو معنى البيت أن كلّ واحدة من هاتين اللفظتين والتّحيّتين تغرس الود للمحيي بهما في قلب المحيّ ، ومما استعمل من هذا الباب ظرفا ولم يستعمل اسما قولهم : إنه ليسار عليه صباح مساء معناه : صباحا ومساء وهذا عكس قولهم اللّيل إذا أرادوا به ليل ليلة ، لأنّ اللّيل أوقع فيه اسم الجنس على الواحد منه ، وهذا أوقع فيه الواحد موقع الجنس والكثرة.

١١٩

الباب الرّابع

في ذكر ابتداء الزّمان وأقسامه والتّنبيه على مبادئ

السّنة في المذاهب كلّها وما يشاكل ذلك من تقسيمها

على البروج

يقال : إن الله تعالى خلق الخلق كلّه والشّمس برأس الحمل والزّمان معتدل واللّيل والنّهار مستويان ، فأوّل الأزمنة فصل الصيف ، وهو الذي يدعوه النّاس الربيع ومنه ابتداء سنة الفرس فكلما حلّت الشّمس برأس الحمل فقد مضت للعالم سنة عندهم ، قال ابن قتيبة : ولذلك قال أبو نواس شعرا :

أما ترى الشّمس حلّت الحملا

وقام وزن الزّمان فاعتدلا

وغنّت الطير بعد عجمتها

واستوفت الخمر حولها كملا

لأن مراده استوفت الخمر حول الشّمس كملا فالهاء في قوله : حولها كناية عن الشّمس قد مضى ذكرها ، قال ثعلب : حولها تقلبها من حال إلى حال.

وقال المبرد : من ابتداء إبراق الكرم إلى استحكام العنب ستة أشهر ، ومن استحكام العنب إلى استحكام الخمر ستة أشهر ، وذلك عند حلول الشّمس برأس الحمل فلذلك حول. وقال بعضهم : حول الخمر ستة أشهر والضّمير لها فهذا ما في هذا وقد قال أبو نواس في قصيدة أخرى أوّلها شعرا :

أعطتك ريحانها العفار

وحان من ليلك السّفار

ثم قال :

تحيّرت والنّجوم وقف

لم يتمكّن لها المدار

وفي هذا البيت معنى لطيف مليح وذلك أن أصحاب النّجوم والحساب يقولون : إنّ الله تعالى حين خلق النّجوم وجعلها واقعة في برج ، ثم سيّرها من هناك ، فيريد أنّ هذه الخمرة

١٢٠