كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة

نضع بين يدي قرائنا الكرام كتاب الأزمنة والأمكنة فهو كتاب جامع شامل الموضوعات لها من الأهمية شأن كبير في معرفة علوم زاد الاهتمام بها في الماضي كثيرا وما يزال الاهتمام بها في العصر الحاضر يأخذ مجالا واسعا لكونها تبحث في الطبيعة وفي حركة الكواكب وتسمياتها وقوانينها وهي قاعدة انطلاق أساسية في العصر الحاضر للتعرف على الفضاء وعلى معرفة جوانب منه ما زالت غامضة وتشغل الكثير من العلماء في العصر الحاضر ويعتبر الكشف عنها أو البحث فيها يخدم الإنسانية فهي مترابطة إلى حد بعيد مع بعضها فالعلوم جميعا تكمل بعضها البعض فإثبات صحة تجربة علمية أحيانا وللتأكد من نجاحها يتطلب إجراء اختبارات لها في الفضاء لهذا فإن أجدادنا العرب في الماضي اهتموا كثيرا بالعلوم التي كان لها علاقة مباشرة بحياتهم في حلّهم وترحالهم ومن أهم هذه العلوم علم الفلك الذي كان له دور كبير ومرتبطا ارتباطا وثيقا بهم لمعرفة أحوال الجو وللاهتداء بالنجوم والكواكب في السير ولمعرفة الزمن وأقسامه ، وأدركوا مدى الارتباط بين الزمان والمكان وأهمية هذا الترابط الوثيق بينهما لدرجة أنه لا يمكن لأحدهما أن يكون بدون الآخر.

وقد قسّم الكتاب إلى أبواب وفصول اشتملت على مضمون الكتاب حسب تسلسل الحروف الأبجدية وقد بدأها في ذكر الآي المنهية من القرآن على نعم الله تعالى على خلقه في آناء الليل والنهار وفي ذكر أسماء الزمان والمكان ومتى تسمى ظروفا ومعنى قول النحويين الزمان ظرف الأفعال. المهم أن العناوين تجسدت فيها روح النصوص ولم تنفصل عن بعضها البعض فكلها أعطت للكتاب أهمية خاصة في جعله وحدة متكاملة مثل أسماء الشمس وأسماء القمر وختمها في ذكر مشاهير الكواكب التي تسمى الثابتة وغيرها المتحركة.

أما المؤلف فقد كان له باع طويل في رفد العلم بمؤلفاته الفريدة في فنون العلوم فقد

٣

ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء ج ١٧ / ٤٧٥ فقال إمام النحو أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي وذكره ياقوت الحموي في معجم الأدباء ٥ / ٣٤ ، ٣٥ كما ذكره صاحب كتاب انباه الرواة وغيره وقد عاش أبو علي وعمر طويلا فقد قارب التسعين عاما وتوفي في ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وأربع مائة وكان له أكبر الأثر في إتحاف المكتبة العربية بمؤلفاته العلمية والأدبية.

٤

الجزء الأول

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي لا تحصى آلاؤه بتحديد ، ولا تعد نعماؤه بتعديد ، خالق الظّلم والأنوار بعجائب صنعته ، ومالك المدد والأقدار بغرائب حكمته ، فله في كلّ ما أنشأ وابتدع ، وفي جميع ما أوجب واخترع ، عند تناسخ الأزمنة في أهاليها وتعاقب الملل والدّول بين مترفيها ، آماد ورتب وآيات وعبر لا يجمع جملها إلّا إدراكه وعلمه ، ولا ينوّع تفاصيلها إلّا إحصاؤه وحفظه ، وإن كان كثير منها يحصله العيان ويصوّره الأذهان من الأفلاك وبروجها ، ومنازل النّيرين فيها واستمرار مسيرها في حدي الاستقامة والرّجعة والبطر ، والسّرعة ، وتكوير اللّيل على النّهار ، وتكوير النّهار على اللّيل وتبدّل رطوبتها وبردها وحرها ويبسها ولينها ، وتغيّر أدوار النّجوم في طلوعها وأفولها ، قال الله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [سورة التكوير : الآيات ١٥ ـ ١٨] وفي الاختفاء عن بعض الأمصار وظهورها وتساوي الجميع في الدّلالة على حكم الآثار ، وله الخلق والأمر ، وإليه المرجع والمستقر ، تبارك الله أحسن الخالقين وصلاته على من اختاره للنّذارة ، وتبليغ الرّسالة ، فصدع بأمره وأدّى حقّ نعمته في خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين.

أما بعد : فإنّ الإنسان وإن كان ذا لدد وخصام ، وجدال فيما يهوى وجذاب بتيقن الحوادث بوجه الثّبت ، ويتسبّب إلى الازدياد ، بحب التّوسع فيرى جلائل الأقدار كأنّها تواريه أو تلاعبه ، ويحسب غوائل الأخطار كأنّها تساوفه أو تسابقه ، ترشح بما رشح له عناصره عند الاختبار ، وتجليه لما هيئ له مكاسره لدى الاعتبار ، فهم فيما يتردّدون فيه طلعة خباءة ، وعن صفايا غنائمهم غفلة نومه لا يردون مستنكرا ، ولا يجدون عند الزّلة مستمسكا ، نجدهم على تفاوت من أجسامهم ، وأقدارهم ، ومناشئهم ، ومدارجهم ، وأسماحهم ، وإيابهم ، ومآخذهم في استقراء مآربهم ، وفي أداتهم ، ولغاتهم ، وصورهم وهيآتهم واقتراحاتهم وشهواتهم وأقواتهم ، ومطاعمهم وحرفهم ومكاسبهم ، وتباين ألسنتهم وألوانهم ، وعلى تنافس بينهم شديد ، وتحاسد في خلال أحوالهم عجيب ، وتضاغن يلوح من مستكن سرائرهم ، وتباغض يبوح به تداني جوارهم.

٥

قد جبلوا على ما إليه سيقوا ، وخلقوا لما عليه أدبروا ، متوافقين في الانجذاب إلى مدى من حب الوطن والسّكن ، والصّبر على مراري الزّمن ، والاستظهار في تخليد الذّكر باتّخاذ المصانع المؤبّدة ، والمباني المشيّدة ، كالخورنق ، والحضر ، والأبق الفرد ، وغمدان ، والمشقر ، والهرمين ، ومنف ، وهو مسكن فرعون وتدمر والشّعراء ذكروها في ذلك قوله :

اشرب هنيئا عليك التّاج مرتفعا

في رأس غمدان دار أمنك محلالا

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فما ذا بعد أبوالا

وقول الآخر : شعرا :

ما ذا أؤمّل بعد آل محرّق

تركوا منازلهم وبعد إياد

أهل الخورنق والسّدير وبارق

والقصر ذي الشّرفات من سنداد

أرض تخيّرها الطّيب مقيلها

كعب بن مامة وابن أمّ داود

وقول الآخر شعرا :

وأخو الحضر إذ بناه وإذ

دجلة نحيى إليه والخابور

شاده مرمرا وجلّله كلسا

فللطّير في ذراه وكور

وقول النابغة :

وخيّس الجنّ إنّي قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصّفائح والعمد

وكإيوان كسرى أنوشيروان ، وهي من الأبنية القديمة والتّهالك في مناصب القرون الخالية ، والأرزاء بمناصبهم وطلب التقدّم عليهم فيما حمدوا فيه وإن كان كلّ منهم يذمّ زمانه ويحمد زمان غيره حتى روي قول لبيد شعرا :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

ومن قول عائشة رضي‌الله‌عنها فيه ما روي :

وسار متى قصروا عنه ذمّوا

وإن ما هم استأنسوا فيه ملّوا

لا جرم أنهم ابترموا مما اختبر لهم فيجمعوا أيديهم عليه مؤثرين لقبوله ، ومقتنعين بحصوله كمن اطّلع على ما أبدله في القسم فاغتنمه ، وأوذن بما أعدله عند السّوم فاختصبه ، فترى ذكر الزّمان في المكان في جميع ما يندرجون فيه شقيق أرواحهم ومشرع الرّوح لأفئدتهم ومستمد لذّاتهم ، ومشتكى أحزانهم ، به يكشف البلوى ويستنزل المطر ، فليسوا

٦

بشيء من حظوظهم أقنع منهم باجتماع الوطن والمطر ، واستطلاع المستنجد من العين والأثر ، لذلك قال شاعرهم :

وكنت فيه كممطور ببلدته

فسر إن جمع الأوطان والمطرا

وقد قيل : ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم ، فلولا ما منّ الله تعالى به على طوائف الأمم وعصائب الزّمر من الألطاف في تحبيب ما حب وتأنيس من أنس ، والمنع من الاستيثار والاقتدار ، والاجتهاد بنهمة الاقتار ، لما رضيت المهج الكريمة بمجاورة البلاد والدّيار ، ولا سكنت القلاع ، في قلل الجبال والتّلاع ، ولا عمرت المهاري والأرانب في مساكن الأسود والضّباع ، ولا نبت حبال الألفة.

ونقطع نظام ما له فسبحان من جعل الاختلاف سببا للائتلاف ، وبدل التنافر فصيّره داعيا إلى التّوافق ، ولله الحمد على ما أمضى وقدر ، ونسأله التّوفيق فيما أتى وغبر ، وقل عن اشتمام الأبنية الرّفعة إلى غاية ما في نفوسهم ، بل يدّعون منه شياحين يلزمهم اسم التمام والفراغ ليس للكلام نهاية ، ولا لاختلافهم غاية ، لأنّ عددهم كثير ، والنّظر فيهم قديم وطبائعهم مختلفة ، وقواهم متفاوتة وألسنتهم مرسلة ، وخواطرهم مطلقة ، ولو كان الفاسد يشعر فساده ، والمنقوص يجد مسّ نقصه لكان الفاسد صالحا والنّاقص وافرا.

وروي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من باع دارا أو عقارا ، فلم يجعل ثمنها في مثلها كان كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف».

وذكر أحمد بن أبي طاهر أنه سمع آذرباد المؤبد يقول : إنّه وجد في حكم الفرس تربة الصّبي تغرس في القلب حرمة كما تغرس الولادة في الكبد رقة ، ومما قيل في الوطن :

عجبت لعطار أتانا يسومنا

بدسكرة القيوم دهن البنفسج

فويحك يا عطار هلّا أتيتنا

بضغث حزار أو بخوصة عرفج

وقالوا : خلق الله آدم من تراب فهمته في التّراب ، وخلق حواء من ضلع من أضلاع آدم فهمتها في الرّجال ، ومما يعرف به موقع الوطن والزّمن من ذوي البصائر السليمة والعقائد الصّحيحة قول جرير :

سقى الله البشام وكلّ أرض

من الغورين أنبتت البشاما

فيا نعمى الزّمان به علينا

ويا نعمى المقام به المقاما

فجمعهما في قول ، وأنشدني أبو أحمد العسكري ، قال أنشد الصّولي :

سقى الله دار الغاضريّة منزلا

ترفّ عليه الرّوض خضر الرّفارف

٧

وأيامنا والغاضريّون خضر

وعيشي بهم يهتز لدن المعاطف

ورأينا الله تعالى قسم مصالح خلقه ولذائذهم بين المقام والطّعن فجعل أكثر مجاري الأرزاق مع الحركة والاضطراب ، واغتنام الأرباب بعد التقادي في البلاد لذلك قال الشاعر :

فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر

وقال آخر :

سررت بجعفر والقرب منه

كما سرّ المسافر بالإياب

وقد شهد أصحاب المعاني لابن الرومي ، فقالوا : لم يبن أحد العلة في الحنين إلى الوطن إبانته حين قال :

وحبّب أوطان الرّجال إليهم

مآرب قضّاها الشّباب هنالكا

وقد قال الأسدي أيضا شعرا :

أحبّ بلاد الله ما بين منعج

إليّ ورضوى أن نصوب سحابها

بلاد بها نيطت عليّ تمائمي

وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها

وأخذه ابن ميّادة فقال :

بلاد بها نيطت عليّ تمائمي

وقطّعن عنّي حين أدركني عقلي

وقال بعض أصحاب المعاني : العلّة التي من أجلها تساوت الطّباع المختلفة في الحنين إلى الألّاف ، وحب ما مضى من الزّمان هي أنّ الذّوات فينا ومنا لما كانت لا تحصل إلّا في مكان وزمان صارت لتضمّنها لهما ولكونهما ناشئة حياتها وفاتحة شبيهتها ، وطالعة نمائها ، تشوقهما وتستنشئ على البعد أرواحهما حتى كأنّهما منها.

وفسّر بعضهم قول ابن الرومي ، فقال : يريد بالمآرب المقضيّة للشبّاب ما أقامه الصبيّ من روادف الهوى ، وقد ظفر بالمرتاد ، أو كان على استقبال من العمر وقوة من الركن ، واستعلام من الأمل ، واستخبار من الأجل ، وتماسك من الجوارح وتساعد من الأعضاء الحوامل ، ورخاء من البال وأمن من عوارض الآفات.

والذي شرحه هذا المفسر الزائد فيه على مذهبهم كالواصل إليه لاجتماعهما في غواشي العشق والصّبر تحت بيان الحب رجاء الفوز بالمراد ، وأظنّ جميعه في قول امرئ القيس:

وهل ينعمن إلا خليّ مخلّد

قليل الهموم ما يبيت بأوجال

٨

وهذا في قضايا الأوقات كما اقتصّ الجاحظ من تعصّبه لمصره ، فقال : من فضلة البصرة ما خصّت به من أرض الصّدقة إنه لا يسوغ تغيّرها ولا يتهيّأ تبديلها ، ومن المد والجزر المبخر خصوصا لأهلها المجمول نوما بين قاطنها ومسافرها ، ومصعدها ، ومنحدرها على مقابلات من الأوقات ومقادير من السّاعات ، وعلى منازل القمر في زيادة النّور وامتلائه ، ونقصان ضوئه واستسراره ، فلا يعرف مصر جاهلي ، ولا إسلامي أفضل من البصرة ، ولا أرض جرى عليها الآثار أشرف من أرض الصّدقة ، ولا شجرة أفضل من النّخلة ولا بلد أقرب برا من البصرة ، فهي واسطة أبجر ، وخضراء من بداو ، وريعاء من فلاة ، وقانص وحش من صائد سمك ، وملاحا من جمال من البصرة.

فهي وسطة الأرض وفرضة البحر ومضبض الأقطار ، وقلب الدّنيا فساحله بعض المتقضية للغيث ، وبلاده بأن قال : الكرمة أفضل الأشجار ، والعنب سيّد الثمار ، ناعمة الورق كأنّها سرقة ناضرة الخضرة بديعة الشكل ، سلسة الأفنان ، رقيقة الجلد عند المذاق يسرح في البدن نورها ، وفي القلب سرورها ، مع ذكاء العرق وصحّة الجوهر إن عرشت على عمد الخشب ، وطبقات القصب تضاعف علتها ، وتكامل حسنها ودخلها ورأفة جهارتها وأنق ينعها ، وإن بسطت أغصانها على الدّار التي هي فيها أظلّت وإن مدّت على الجدران وقيدت إلى حدود الجيران سامحت قائدها وقلّ اعتياضها تغني عن الشارات والفساطيط ، وتكفّ صيد الحر في حمارة القيظ ، واحتدام الشمس أوان الحاجة إلى الرّوح وتردّ عواصف الرّياح وقواصفها ، بكثافة ورقها ، وضفاقة ظلّها في كلام يتّصل بين الفريقين ولا ينقضي.

وليس من همتي ولا سدمي إنما أردت التّنبيه على أنّ كلّ ذي أرب همّته في نظرية بلدته طبعا لا تكلفا وكل ذي سبب نهمته في تزكية ممكنة عمدا لا سهوا ، ثم حسن الشّيء وقبحه وفضله ونقصه لما عليه في نفسه لا لجوى راصد أو ألف جاذب. والحديث شجون ، والفخر بالشيء فنون ، لكنّ الله تعالى لمّا ذكر الدّيار فخبر عن موقعها من عباده حتّى سوّى بين قتل نفسهم والخروج من ديارهم في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة النساء : ٦٦] وفي موضع آخر : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) [سورة البقرة : ٢٤] جعل لهم في الأرض بيتا نسبه إلى نفسه بإزاء البيت المعمور لملائكته ، وصيّره حرما وأمنا ، ومثابة للناس ، ومطافا يلوذ به الخائف ولو كان من الوحش.

كما يأوي إليه الهارب من الأنس عظيما شأنه منيعا جاره لا يغشى أهله غضاضة الامتهان ، ولا سأمة الابتذال ، فهم على مر الأيام وكلة وحمس في أديانهم متمنعة ، وقد كان من الفيل والحبشة ما أرّخ به الزّمن كما أرّخت الحوادث والنّحل ، وكما قيدت أيام النّبوات

٩

بما يكشفها من أنباء الفترات وأحوال الأنبياء والمعجزات ، وذكر الله تعالى النعمة على قريش ، فانبأ عن رحلة الشّتاء والصّيف بعد أن دعا إبراهيم عليه‌السلام لسكان مكّة فقال : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) [سورة البقرة : ١٢٦] ، وقد كان قال :(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [سورة إبراهيم : ٣٧] فاستجاب الله دعوته فهم يصيفون (الطائف) ، ويشتون (جدّة) وأنواع الخير منهم بمرصد وفعل مثل ذلك في الزّمان فعظّم ليلة القدر وجعلها (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) بما ضمّنها من تنزّل الملائكة بقضاياه إلى رأس الحول ، ولأنّها ليلة السّلامة والأمن من كل داء وبلاء إلى مطلع الفجر.

فالحمد لله الذي بنوره اهتدينا وبفضله غنينا ، حين أدب الأخلاف بما درج عليه الأسلاف ، وقرن العبادة باعتبار ما أمضى عليه القرون الماضية في الدّهور الخالية فإنهم وإن مضوا سلفا فقد السّبيل عليهم ، والنّاس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم ، وقد أكثرت ، وظهر الفرض فيما أبدأت ، وأعدت ، والتّرفية عن المطبة أعون في إملاء قطع الدود أنّ من نكص عن المنهاج تاه في الفجاج ، فإنّما هذا الكلام وصلة إلى كتاب في الأزمنة والأمكنة ، وما يتعلّق بهما من أسماء اللّيل والنّهار والبوارح (١) ، والأمطار ، والمزالف ، والمآلف ، وما أخذ أخذها مما تعداده يطول وينطق به الحدود بعد هذا.

والفصول فقد قدّمت ذكرها ، وقد غبرت مدة من الزّمان ، وهذا الكتاب منّي ببال أتصفّح ورقه بأيدي فكري ، وأتصوّر مضمونه في مطارح فهمي ، فينيلني إذا صادفته جموحا ، ويوليني إذا صافحته ازورارا ، وشسوعا ، كأنه يطلب لنفسه حظا زائدا على ما أوتيه ، وسهما عاليا لما أجيله فأعطيه إلى أن تبوأ من علو الوكد ، والاهتمام في أعلى الرّبى ، ومن مرتقى التّوفر في الاعتناء في أسنى الذرى.

فحينئذ أطلع الله على ضميري نور الأستاذ النفيس أبي علي إسماعيل بن أحمد أدام الله رفعته ، وبرهان سلفه قرنا بعد قرن ، وكابرا عن كابر من كمال النبل ، وجماع الفضل والجمال الظّاهر ، والكرم الغامر ، والنّهوض بأعباء الرّئاسة ، والاستظهار في أنحاء السّياسة ، وتدبير المسالك والمهالك ، والمدائن والممالك ، والميل إلى ذوي الأخطار ، وأعلام الآداب. فهم يكرعون من جداهم في أعذب المشارع ، وأكرم الموارد.

هذا إلى ما حباه الله في خاص وعام قصده من محييات القلوب ، ومزيات القبول. فإنّ العزيز الشريف والنّبت الرّفيع إذا أشر بالدّونة المعطف ، وسهولة الملتقى ، والمختبر ترجما عن الكمال ، ووفرا ابهة الجلال. وهذا الثناء منّي ليس على طريقة المادحين فأتجوّز ، ولا

__________________

(١) البارح : الريح الحارة في الصيف ـ قاموس.

١٠

قصدي فيه قصد المجتدير فأتسّمح ، بل إملاء طول الصّحبة بلسان الخبرة ، فعليه فيه حكم الحق والمعلوم مع تواطؤ الأخبار عنه وشهادة الإثار له ، وتوارد الوسائل فأقبل بتغاير أبوابه ، وانثال عليّ وتسابق أجزائه ، وفصوله تنساق إليّ كأنه كان من رباط الشّد في عقال فأنشط ، ومن حفاظ المنع في وثاق فأهمل ، وبيد الله تعالى أمره تسهيل المراد وتعجيل الفراغ بحوله ومنه.

واعلم أنّ رؤساء الأمم أربعة بالاتفاق : العرب ، وفارس ، والهند ، والروم وهم على طبقاتهم في الذكاء والكيس ، والدّهاء ، والكيد ، والجمال ، والعناد وتملك الممالك والبلاد ، والسّياسة والإيالة ، واستنباط العلوم وإثارة الحكم في جوامع الأمور ومعلوم شأنهم معروف أمرهم ، وما في على طبقاتهم في الغباوة والعظاظة وسوء الفهم والدّراية والقسوة ، والغذامة ، والنّوك ، والجهالة مراعون لما رهنوا به وقيضوا له ، وقد صاروا إلى وجوه المعاش ، وفنون الممارسات ، والإغراب في أسرار الصناعات ، والإبداع في أنواع التّركيبات ، انفتح لهم من أبواب المعرفة ، وحسن التّوفيق في الإصابة ، ما لم ينفتح لهم في سواه وذلك ما لا يدرك غوره من غرائب حكمة الله تعالى فيما دبر ، وامضى وإن كان للعرب خاصة طبع عجيب في الأخبار ، والاستخبار ، والمباحثة ، والاستكشاف ، وسرعة إدراك ما يسفر عن الأواخر عند النّظر في الأوائل ، فحصل لهم بذلك أخلاق عادت مفاخر ، وأفعال صارت مناقب ، مع ثبات فيما يعز ، وجلد ، وبيان ولدد ، وافتنان في الخطب والشّعر والرّجز على اختلاف أنواعها وتصاريف أساليبها ، وعلى كثرة الأمثال الحكيمة ، وطرائف الآداب الكريمة.

ثم لهم الفراسة الصّحيحة ، والكهانة العجيبة ، وصدق الفأل الحسن ، والحسّ المصيب مع العلم بأثر القدم في الصّخر الأصم ، والقاع العفراء ، وقيافة الأثر مع قيافة البشر ، ليست لغير العرب لأنّهم يرون المتفاوتين في الطّول والقصر ، والمختلفين في الألوان والنّعم فيعلمون أنّ هذا الأسود ابن هذا الأبيض ، وهذا القصير ابن أخ هذا الطّويل ، مع الرّعاية لأنسابهم وأيّامهم ، ومحاسن أسلافهم ومساوئ أكفائهم ، للتّعاير بالقبيح والتّفاخر بالجميل ، وليجعلوه مبعثة على اصطناع الخير ، ومزجرة عن ادخار الشّر ، ولهم تبين أحوال النّجوم سعدها ونحسها ، والأنواء ومقتضياتها والأمطار ومواقيتها ، وبوارح الرّياح في إبّانها وحينها ، والزّجر المغني عن التّنجيم وحسن الاهتداء في المسالك المهلكة ، والمرامي غير المسلوكة.

وهم على كلّ حال من عيشهم يخافون مأثور الحديث ويتجرّعون من غوارب البحار ، ويحبّون المادحين وتقريظهم ، ويؤثرون على أنفسهم الخيل ، وعلى عيالهم الضّيفان أصحاب حياء وأنفة ، وجود ، وفروسية ، وفخر ، وهمة لا تطل دماؤهم ولا يعجز طوائلهم ، ولا

١١

ينسيهم طول الأيام دفائن أحقادهم ، يراعون الذّمم ، ويوفون بالمواثيق ، ويوجبون الجوار باعلاق الدّلو بالدلو وشد الطّنب بالطّنب حتى قال زهير :

وجار سار معتمدا علينا

أجابته المخافة والرّجاء

فجاور مكرما حتّى إذا ما

دعاه الصّيف وانصرم الشّتاء

ضممنا ما له فغدا علينا

جميعا نقصه وله النّماء

ثم لم يرضوا لأنفسهم بالاسم الواحد ، والكنية الواحدة ، والنّعت الشّريف والذّكر الرّفيع والمنصب المفخم ، والفخر المقدّم حتى تنقلوا في أسامي وكنى كما اكتنى حمزة بن عبد المطّلب بأبي يعلى ـ وأبي عمارة ، وعبد العزى بن عبد المطلب بأبي لهب ـ وأبي عتبة ، وصخر بن حرب بأبي سفيان ـ وأبي حنظلة ، وحسان بن ثابت بأبي الوليد وأبي الحسام ، وعثمان بن عفان بأبي عبد الله وأبي عمرو ، أو أبي ليلى وعبد الله بن الزّبير بأبي بكر ، وأبي خبيب وأبي عبد الرّحمن.

والذين أسماؤهم كنى كثير في العرب يسمّي بعضهم بعضا بسمات تفيد التّفخيم والتّعظيم كقولهم : ملاعب الأسنة ، وسم الفرسان وزيد الخيل ، ومحكم الأقران وأشباه ذلك. فهذه الخصال تختصّ بهم إلى كثير ممّا إن شغلنا الكلام به خرجنا عن الغرض المنصوب ولله تعالى في خلقه أن يفعل ما شاء ، ويصطفي بفضله من شاء ، وهو الحكيم العليم ، ولو لا اهتزازي لتقديم ما يتعلق به همّة برّ أشاد النّفيس ، وسرعة إجابتي إذا أهاب لما رهبته ، وليحصل لي به الفأل الحسن والذّكر المؤبّد ، والالتذاذ بالدّخول في جملة أهل الفضل والاستنان بسننهم في إذاعة ما تكسيهم الأيام ويفيدهم الاجتهاد لبقيت في حجر الفن بما أورده لما أرى في أهل الزّمان من اطراح العلم ، واحتقار أهل الفضل ، ولا أزيد على هذا مخافة الخروج إلى ما يعد سرفا ، بل أنشد قول الأول شعرا :

إذا مجلس الأنصار حفّ من أهله

وحلّت مغانيه غفار وأسلم

فما النّاس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدّهر بالدّهر الذي كنت أعلم

واعلم أنّ قرب الشيء في الوهم ليس بموجب حصوله ، ولا بعده فيه يقتضي بطوله ، وهذا الكتاب ليس اختياري لعلمه لغلبته ، ولا اشتغالي به عن شبهه لكنّي حصنته تحصين الحزم ، وصنته صون العرض المكرم ، فهو مذخورة المتلهف ، وعقد المعتال المحتكم ، ثمره عند الينع لا يخلف ، وماؤه على الميح لا يكدر.

وقد قيل لحاضنك عليك حق اللّبن ، ولتربتك حبّ الوطن ، ولنسلك حرمة السّكن ، ولطربك خلع الرّسن ، كما أنّ لما تخلد به ذكرك من نثر أو نظم عليك شرف التّحلية ، وحسن

١٢

النّعت والتّسمية ، وجمع الفوائد الزّكية ، وهجر الهوى والعصبيّة ، وبيد الله تبليغ المراد وتوطير المرتاد.

واعلم أنّ مدار الأدب على الطّلب ، وعمدته البحث ، ومصرفه الرّغبة ، والحث وأزمة الجميع بيد القريحة فإذا سلمت القريحة من عوارض الآفات وتملست من شوائب الأقذار ، والعاهات ، وترقّت في مدارجها من دلائل الرّسوم إلى حقائق الحدود أقبلت تصنع في نيل المطلوب صنعة من طبّ لمن حبّ ، وإني وإن أنشأت هذا الكتاب فما في نفسي ادعاء الفضل على الأسلاف ؛ وكيف أستجيز ذلك ومن ذكرتهم ننفق ، وبشهاداتهم نتوثّق ، وبين المسلم والمنازع ما بينهما من برزخ التّضاد ، ولكن لمن ضمّ النّشر ، وسوّى في البناء النّضد وتأنق في الإثارة ، ثم بلغ وتناهى إلى الغاية ، فسدّد حقه من العمل. نسأل الله تعالى حسن التّوفيق فيما نأتي ونذر ، وعليه المعوّل في إيزاعنا شكر نعمته ، وإعانتنا على ما تعرب من رحمته ، ونعم المولى ونعم النصير.

هذا كتاب الأزمنة والأمكنة ، وبيان ما يختلف من أحوالها ويتّفق من أسمائها ، وصفاتها ، وأطرافها ، وإقطاعها ، ومتعلقات الكواكب منها في صعودها وهبوطها وطلوعها وغروبها ، وجميع ما يأخذ أخذها ، أو يعدّ معها ، أو لا ينفكّ في الوقوع والاستمرار منها ، أو متسبّب بضرب من ضروب التّشابه ، أو قسم من أقسام التّشارك إلى الدّخول في أثنائها موشّحة بما يصححها من أشعارهم وأمثالهم ، وأسجاعهم ومقامات وقوفهم ومنافراتهم جادّين وهازلين ، ومن كلام روّادهم وورّادهم وكتّابهم في ظعنهم وإقامتهم وتتبّعهم مساقط الغيث وبوارح الرّيح ، وعند ما يقيمون من الجدب ، والخصب والسلم والحرب ، وقري الضّيف في الشّتاء والصّيف ، وأعيادهم ، وحجهم ، ونسكهم ، ووجوه معايشهم ومكاسبهم ، وآدابهم.

وقد صدرته بجميع آي من كتاب الله تعالى بعض حقائقه لتردد المعاني إذا شافهت الالتباس ، بين الوجوب والجواز والامتناع فيتّسع أمد القول ويمتد نفسه بحسب الحاجة وعلى قدر العناية ، ومن أنكر في طلب الحق واجبا ، أو رد جائرا ، أو جحد ممتنعا فقد صافح الخذلان. كما أنّ من قصر وكده على ما لا يرد من دينه فائتا ولا يعمر ثابتا ، فقد جانب حسن التّوفيق. وعلى الله في الأحوال كلها المعوّل والتّكلان.

وبعد الفراغ من ذلك أتبعته بالكلام في حقيقة الزّمان والمكان ، والرّد على من تكلّم بغير الحق فهما بعد تتبّع لما أصله شديد ، وبحث عنه بليغ ، وردّ للسّابق من دعاويهم على اللّاحق (١) على الوارد إذ كانا عندي كالأصل في إلحاد أكثر الملحدين من الأوائل

__________________

(١) خرم في الأصل ١٢.

١٣

والمتأخّرين ، وإذ كنت قد شيّدت من قبل فصول ما ذكرت ، ووصوله بلمع من الكلام في المحكم والمتشابه والاستدلال بالشّاهد على الغائب ، وبيان أسماء الله تعالى وصفاته ، وما يجوز إطلاقه عليه أو يمتنع لأنّ أطراف هذه الأبواب متعلقة بموارد الآي التي تكلّفت الكلام فيها ومصادرها ، ومستقية من العيون التي تحوم أطيارها حوله ، وفي جوانبها ولأنّ الاشتغال به هو الغرض المرمي في تأليف حل هذا الكتاب وترتيبه ، وتنسيقه هذا إلى غير ذلك مما خلا منه مؤلفات اللّغويين والنّحويين والباحثين عن طرائق العرب ، وما يراعونه من معتقداتهم في الأنواء وغيرها ، وإيمان من آمن منهم بالكواكب حتى عبدوها لما ألفوه من استمرار العادات بهم واطرادها على حد سالم من التبدّل والتحوّل.

ثم شرعت في الكتاب وتبويب معاطفه وتنويع أساليبه ومدارجه ، وأستعين الله تعالى على بلوغ ما يزلف عنده ، ويستحقّ به مزيد الإحسان وأصحاب التوفيق الكامل منه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٤

ذكر أبواب الأزمنة والأمكنة ، وفصولها

هي ثلاثة وستّون بابا ، ونيّف وتسعون فصلا :

أ: في ذكر الآي المنهية من القرآن على نعم الله تعالى على خلقه في آناء اللّيل والنّهار ، وبيان النّسيء ، وفي ذكر أخبار مروية ، وفي ذكر الأنواء ، وذكر معتقدات العرب فيها وفيما يجري مجراه ، وذكر فصل في جواب مسائل للمشهد من الكتاب والسّنة ، وفي بيان المحكم والمتشابه وغيرهما ، وبيان أسماء الله تعالى وصفاته ، وهو يحوي تسعة وعشرين فصلا.

ب : في ذكر أسماء الزّمان والمكان ، ومتى تسمى ظروفا ، ومعنى قول النّحويين الزّمان ظرف الأفعال ، والرّد على من قال فهما بغير الحق من الأوائل والأواخر ، ويحتوي على فصول أربعة.

ج : هو يشتمل على بيان اللّيل والنّهار ، وعلى فصول من الإعراب تتعلق بظروف الأزمنة والأمكنة ، وفصوله ثلاثة.

د : ذكر ابتداء الزّمان ، وأقسامه ، والتّنبيه على مبادئ السّنة في جميع المذاهب ، وما يشاكل من تقسيمها على البروج.

ه : في قسمة الأزمنة ودورانها واختلاف الأمم فيها.

و: في ذكر الأنواء واختلاف العرب فيها ، ومنازل القمر مقسّمة الفصول على السّنة ، وأعداد كواكبها ، وتصوير مأخذها ضارة ، ونافعة ، وفصوله أربعة.

ز : في تحديد سنيّ العرب ، والفرس ، والرّوم ، وأوقات فصول السّنة.

ح : في تقدير أوقات التّهجد التي ذكرها الله تعالى في كتابه عن نبيّه والصّحابة ، وتبيين ما يتصل بها من ذكر حلول الشّمس في البروج الاثني عشر.

ط : في ذكر البوارح ، والأمطار مقسمة على الفصول ، والبروج ، وفي ذكر المراقبة ، وهو فصلان.

١٥

ي : في ذكر الأعياد والأشهر الحرم والأيّام المعلومات والأيام المعدودات ، والصلوات الوسطى ، وهو فصلان.

يا : في ذكر سحر ، وغدوة ، وبكرة ، وما أشبهها والحين والقرن والآن وأيان ، وأوان ، والحقبة ، والكلام في إذ ، وإذا ، وهما للزّمان وإبان ، وأفان ، وهو فصلان.

يب : في لفظة أمس ، وغد ، والحول ، والسّنة ، والعام ، وما يتلو تلوه ، ولفظة حيث ، وما يتّصل به ، والغايات كقبل وبعد ، وذكر أول وحينئذ ، وقط ، وإذ ، وإذا المكانية ، ومنذ ، ومذ ، ومن ، وعلى وهو فصلان.

يج : فيما جاء مثنّى من أسماء الزّمان ، واللّيل ، والنهار ، ومن أسماء الكواكب وترتيب الأوقات وتنزيلها ، وهو أربعة فصول.

يد : في أسماء الأيام على اختلاف اللّغات وقياسات اشتقاقها وتثنيتها وجمعها.

يه : في أسماء الشّهور على اختلاف اللغات ، وذكر اشتقاقاتها ، وما يتّصل بذلك من تثنيتها وجمعها ، وهو فصلان.

يو : في أسماء الدّهر واقطاعه ، وما يتّصل بذلك ، وهو فصلان.

يز : في اقطاع الدّهر ، وأطراف اللّيل والنّهار ، وطوائفهما وما يتّصل بذلك من ذكر الحوادث فيها ، وهو ثلاثة فصول.

يج : في اشتقاق أسماء المنازل ، والبروج ، وصورها ، وما يأخذ مأخذها ، وهو فصلان.

يط : في اقطاع اللّيل ، وطوائفه ، وما يتّصل بذلك ويجري مجراه.

ك : في اقطاع النّهار ، وطوائفه ، وما يتّصل بذلك ويجري مجراه.

كا : في أسماء السّماء والكواكب ، والفلك والبروج ، وهو ثلاثة فصول.

كب : في برد الأزمنة ، ووصف الأيّام واللّيالي به.

كج : في حرّ الأزمنة ، ووصف الأيّام ، واللّيالي به.

كد : في شدّة الأيّام ورخائها وخصبها وجدبها ، وما يتّصل بذلك.

كه : في أسماء الشّمس وصفاتها ، وما يتعلّق بها.

كو : في أسماء القمر وصفاته ، وما يتصل بها من أحواله ، وهو فصلان.

كز : في ذكر أسماء الهلال من أول الشهر إلى آخره ، وما ورد عنهم فيها من الأسجاع ، وغيرها.

١٦

كح : في أسماء الأوقات ، والأفعال الواقعة في اللّيل والنّهار ، وأسماء الأفعال المختصة بأوقات في الفصول والأزمان.

كط : في ذكر الرّياح الأربع ، وتحديدها بها ، وما عدل عنها ، وهو فصلان.

ل : في أسماء المطر وصفاته وأجناسه ، وهو فصلان.

لا : في السّحاب ، وأسمائه وتحليه بالمطر ، وهو فصلان.

لب : في الرّعد والبرق ، والصّواعق وأسمائها وأحوالها ، وهو فصلان.

لج : في قوس قزح وفي الدائرة حول القمر ، وفي البرد من قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [سورة النور ، الآية : ٤٣] ، وهو ثلاثة فصول.

لد : في ذكر المياه والنبات ممّا يحسن وقوعه في هذا الباب ، وهو ثلاثة فصول.

له : في ذكر المراتع الخصبة والمجدبة ، والمحاضر ، والمبادي ، وهو فصلان.

لو : في ذكر أحوال البادين والحاضرين ، وبيان تنقّلهم وتصرّف الزّمان بهم.

لز : في ذكر الرّواد وحكاياتهم ، وهو فصلان.

لح : في ذكر الورّاد ومن جرى مجراهم من الوفود.

لط : في السّبر والنّعاس ، والميح ، والاستقاء ، وورود المياه.

م : في ذكر أسواق العرب.

ما : في ذكر مواقيت الضّراب والتّاج.

مب : فيما روي من أسجاع العرب عند تجدّد الأنواء والفصول ، وتفسيرها ، وهو فصلان.

مج : في ذكر الصّيام ، والقيافة ، والكهانة ، وهو ثلاثة فصول.

مد : في ذكر ما لهم من الأوقات حتى لا يبين للسّامع وما شرح منه.

مه : في الاهتداء بالنّجوم وجودة استدلال العرب بها وإصابتهم في أمهم.

مو : في صفة ظلام اللّيل واستحكامه ، وامتزاجه.

مز : في صفة طول اللّيل والنّهار وقصرهما ، وتشبيه النّجوم فيهما.

مح : في ذكر السراب ، ولوامع البروق ، ومتخيّلات المناظر ، ووصف السّحاب.

مط : في تذكر طيب الزّمان ، والتّلهف عليه والحنين إلى الألّاف ، والأوطان.

١٧

ن : في ذكر أنواع الظلّ وأسمائه ونعوته.

نا : في ذكر التّاريخ وابتدائه ، والسّبب الموجب له وما كانت العرب عليه لدى الحاجة إليه في ضبط آماد الحوادث والمواليد ، وهو فصلان.

نب : فيما هو متمم لما عند العرب ومن داناهم وأدركوه بالتفقد وطول الدّربة ، ولم يدخل في أسجاعهم.

نج : في انقلاب طبائع الأزمنة ، وثباتها ، وامتزاجها ، والاستكمال والامتحاق ، وأزمان مقاطع النّجوم في الفلك ، ومعرفة ساعات اللّيل من رؤية الهلال ، ومواقيت الزّوال على طريق الإجمال.

ند : في اشتداد الزّمان بعوارض الجدب ، وامتداده بلواحق الخصب.

نه : ويشتمل من حدّها على ذكر ما في إعرابه نظر من حديث الزّمان.

نو : في ذكر الكواكب اليمانية ، والشّمامية ، وتمييز بعضها عن بعض ، وذكر ما يجري مجراها من تفسير الألقاب.

نز : في ذكر الفجر ، والشّفق ، والزّوال ، ومعرفة الاستدلال بالكواكب وتبين القبلة.

نح : في معرفة أيّام العرب في الجاهلية ، وما كانوا يحرفونه ويتعايشون منه ، وذكر ما انتقلوا إليه في الإسلام على اختلاف طبقاتهم.

نط : في ذكر أفعال الرّياح لواقحها ، وحوائلها ، وما جاء من خواصها في هبوبها وصنوفها.

س : في ذكر الأيام المحمودة للنّوء والمطر وسائر الأفعال ، وذكر ما يتطيّر منه ، أو يستدفع الشّربة.

سا : في ذكر الاستدلال بالبرق ، والحمرة في الأفق وغيرهما على الغيث.

سب : في الكواكب الخنّس ، وفي هلال شهر رمضان.

سج : في ذكر مشاهير الكواكب التي تسمّى الثابتة ، وهذه التّسمية على الأغلب من أمرها إذ كانت حركة مسيرها خافية غير محسوسة.

١٨

الباب الأول

اعلم أنّ الله تعالى عظّم شأن القرآن ، وفصل بيانه بالنّظم العجيب والتّأليف الرّصيف على سائر الكلام ، وإن وافقه في مبانيه ، ومعانيه ثم أودعه من صنوف الحكم ، وفنون الآداب والعذر ، وجوامع الأحكام والسير ، وطرائف الأمثال والعبر ، ما لا يقف على كنهه ذوو القرائح الصّافية ، ولا في بعد فوائده أو لو المعارف الوافية ، وإن تلاحقت آلاتهم ، وتوافقت أسباب التّفهم والافهام فيهم ، فترى المشتغل به المتأمّل له ، وقد صرف فكره إليه ، وقصر ذكره عليه ، قد يجد نفسه أحيانا فيه بصورة من لم يكن سمعه ، أو كان بعد السّماع نسيه استغرابا لمراسمه ، واستجلاء لمعالمه ، وذلك أنه تعالى لما أنزله ليفتتح بتنزيله التّحدي به إلى الأبد ، ويختتم بترتيله وآدابه البذارة إلى انقضاء السّند ، على ألسن الرّسل ، جعله من التّنبيهات الجليّة والخفيّة ، والدّلالات الظّاهرة والباطنة ما قد استوى في إدراك الكثير منها العالم بالمقلد ، والمتدبّر ، والمهمل.

وإن كان في أثنائه أغلاق لا تنفتح الأشياء بعد شيء بأفهام ثاقبة ، وفي أزمان متباينة ، ليتّصل أمد الإعجاز به إلى الأجل المضروب لسقوط التّكليف ، ولتجدّد في كل أوان بعوائده وفوائده ما يهيج له بواعث الأفكار ، ونتائج الاعتبار ، فيتبيّن ثناؤه الرّاسخ المتثبّت ، والنّاظر المتدبّر عن قصور الزّائغ المتطرّف وتقصير الملول الطّرف. لذلك اختلفت الفرق ، واستحدثت المذاهب والطّرق ، فكلّ يطلب برهانه على صحة ما يراه منه ، وإن ضلّ عن سواء السّبيل من ضلّ لسوء نظره وفساد تأنّيه ، وعدو له عن منهاج الصّحابة والتّابعين وصالحي الأسلاف ، فلما كان أمر القرآن الحكيم على ما وصفت ، وكان الله تعالى فيما شرع من دينه وحدّ عليه من عبادته ، ودعا إليه من تبيّن صنعه وتنبّه ما أقامه من أدلّته. قال: (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٤٤] مبيّنا أنه اخترعها بما يشتمل عليه حقا لا باطلا وحتما لا عبثا لتوفّر على طوائف خلقه منافعها ، ومثبتها من يصدق بالرّسل ، ويميز جوامع الكلم على بعد غورها في قضايا التّحصيل وتراجع الأفهام ، والأوهام عن تقصي مأخذها بأوائل التّكليف.

١٩

ثم كرّر ذكرها في مواضع كثيرة في جملتها ما يقتضي الكشف عن نظومها وتصاريفها لما يكشفها من الغموض ، وكان مبنى التأليف الذي هو مبني على كتب لا يتم من دون الكلام عليها بترتيبه ، بأن جعلتها مقدّمة ثم تجاوزت إلى ما سواها والله المعين على تسهيل المراد منه بمنه.

فمن ذلك قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٣] الآية ، وصف الله تعالى نفسه فيما بسط من كلامه هنا بفصول أربعة ، كلّ فصل منها عند التأمّل جملة مكتفية بنفسها عن غيرها ، ودالة على كثير من صفاته التي استبدّ بها.

فالفصل الأول قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ، والمعنى في قوله : بالحق ، أنّ الحكمة البالغة أوجبت ذلك ، ففطرها ليدلّ على نفسه بها ويظهر من آثاره العجيبة فيها ما تحقّق إلهيته وتثبت قدمه ، وربوبيته ويظهر أنّ ما سواه مدبر مخلوق ومسخّر مقهور ، وأنه الحق تمّ له ما أحدثه ، وأنشأه لا بباطل ، ووجبت له العبادة من خليقته بقول فصل لا بهزل ، فحجّته بيّنة وآياته محكمة ، لا تخفى على النّاظر ، ولا تلتبس على المتأمّل المباحث إذ كانت الأبصار لا تدركه ، والحواس لا تلحقه ، فعرّف عباده قدرته ، وألزمهم بما غمرهم من منافعه ونعمة عبادته ، فلا مانع لما منح ، ولا واهب لما ارتجع ، أو حرم تسليما لأمره ورضى بحكمه.

والفصل الثاني قوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) [سورة الأنعام ، الآية : ٧٣] قوله : ويوم نصب على الظّرف ، والعامل فيه ما يدل عليه قوله الحق ، ولا يجوز أن يكون العامل قوله : يقول لأنه قد أضيف اليوم إليه ، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وقوله : فيكون معطوف على يقول ، وما بعد القول ، وهو جملة تكون حكاية في كلامهم ، وكن في موضع المفعول ليقول ، وقد أبان الله هذا المعنى في قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة النّحل ، الآية : ٤] لأنّ معنى الحكاية ظاهر فيه ومفهوم منه ، وإذا كان الأمر على هذا فقوله : كن ، حكاية ، والمعنى فيه إيجاب خروج الشّيء المراد من العدم إلى الوجود. وقوله : فيكون بيان حسن المطاوعة من المراد وتكوّنه ، وليس ذلك على أنّه مخاطبة المعدوم ، ولكنّ الله تعالى أراد أن يبين على عادة الآمرين إذا أمروا كيف يقرّب مراده إذا أراد أمرا ، فأخرج اللّفظ على وجه يفهم منه ذلك ، إذ كان لا لفظ في تصوير الاستعجال ، وتقريب المراد أحضر من لفظة كن فاعلمه. وتلخيص الآية وإذا كان يوم البعث والنّشر والسّوق إلى الحشر يوجب وقوع المكون بقولنا : كن ، فيقع بحسب الإرادة لا تأخير فيه ولا تدافع ، لأن حكمنا فيه المحقوق الذي لا يبدّل ، ولأنّ الملك فيه للملك الذي لا يغالب ولا

٢٠