كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

وإذا تتابع بلمعتين لمعتين شبّه بلمع اليدين. قال امرؤ القيس شعرا :

أصاح ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين في حبيّ مكلّل

الحبي : السّحاب المشرف ، مكلّل بعضه على بعض.

ويقال : مكلّل بالبرق وإذا كان خفوا كان دليلا على الغيث. وقال حميد بن ثور شعرا :

خفا كاقتذاء الطّير وهنا كأنّه

سراج إذا ما يكشف اللّيل أظلما

واقتذاء الطّير : تغميضها أعينها وفتحها إيّاها ، كأنّها تلقي القذى منها ، وكلّهم يجعل البرق يمانيا ولا يجعله أحد شاميا ، لأنّ الشّامي أكثره خلّب عندهم ، وهذا يدلّ على أنّ المطر للجنوب لأنّها يمانية. وقال آخر شعرا :

ألا حبّذا البرق وحبّذا

جنوب أتانا بالعشيّ نسيمها

ويقال : أوسم البرق إذا بدا وألاح إذا أضاء ما حوله. وأنشد لأبي ذؤيب شعرا :

رأيت وأهلي بوادي الرّجيع

من آل قيلة برقا مليحا

ويقال : أوسمت المرأة ؛ إذا بدا ثديها ينوء. قال أبو عبد الله وقال العقيلي : إذا رأيت السّماء قد اصحامت فكأنها بطن أتان قمراء. ورأيت السّحاب متدليا كأنه اللّحم الثنت ، مستمسك منه ومنهرت ، فحينئذ الغياث. وقال أبو صالح الفزاري : كنا نقول : إذا رأيت البرق في أعلى السّحابة أو في جوانبها فهي بإذن الله ماطرة غير مخلفة ، وإذا رأيت البرق في أسافلها فقد أخلفت.

٥٤١

الباب الثّاني والستون

في الكواكب الخنّس وفي هلال شهر رمضان

قال الله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) [سورة التكوير ، الآية : ١٥ ـ ١٦] وقد تقدّم القول في أنّها خمسة : زحل ـ والمشتري ـ والمريخ ـ والزهرة ـ وعطارد. وأنّها سيّارة كالشّمس ـ والقمر. وقد يسمّى بعضها بغير هذه الأسماء المريخ بهرام. ويسمّى المشتري البرجيس ـ ويسمّى الزّهرة أناهيد ـ ويسمّى زحل كيوان ـ ويسمّى القمر ماه ـ وتسمّى الشمس مهر ـ ويسمى عطارد نير ـ وقال رؤبة :

أسقيه نضّاح الصّبا بجيسا

كافح بعد النّثرة البرجيسا

البجيس : المتفجّر ، وفي القرآن : (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٠].

ويقال : هذه أرض تنبجس عيونا ، وكافح : واجه. والنّثرة : من ذوات الأنواء ، والبرجيس : هو المشتري ، ولا حظّ له في المطر عندهم ، وظن رؤبة أنه من ذوات الأنواء ، وهذا كما أنّ الكميت قال وهو يصف ثورا بشدّة العدو شعرا :

ثم استمر وللأشباه تذكرة

كأنّه الكواكب المريخ أو زحل

أراد أن يشبّهه بكوكب منقض ، فظنّ أنّ المريخ وزحل ينقضّان ، وقيل في عذر رؤبة : إنه كان سمع البرجيس وإنه اسم كوكب ، وخفي عليه أنه اسم المشتري في لسان غيرهم. وقيل في عذر الكميت : إنّ انقضاض الكوكب إسلامي رجم به مسترقة السمع ، ولم يعرف قبل الإسلام فلذلك خفي عليه أنّ المريخ وزحل ليسا من الرّجوم. وإنما سمّيت هذه الكواكب خنّسا لأنها تسير في الفلك ثم ترجع ، بينا أحدها في آخر البروج كرّ راجعا إلى أوّله ، ولذلك لا ترى الزّهرة في وسط السّماء أبدا ، وإنّما تراها بين يدي الشّمس أو خلفها.

وذلك أنّها أسرع من الشّمس ، فتستقيم في سيرها حتى تجاوز الشّمس فتصير من ورائها ، فإذا تباعدت عنها ظهرت بالعشاء في المغرب ، فترى كذلك حينا ثم تكرّ راجعة نحو

٥٤٢

الشّمس حتى تجاورها ، فتصير بين يديها فتظهر حينئذ في المشرق بالغداة ، هكذا هي أبدا ، فمتى ظهرت في المغرب فهي مستقيمة ومتى ظهرت في المشرق فهي راجعة ، وكل شيء استمرّ ثم انقبض فقد خنس ، ومنه سمّي الشّيطان خناسا لأنه يوسوس في القلب ، فإذا ذكر الله خنس ، وسمّيت كنّسا بالاستسرار كما تكنس الظّباء. وصفات الخنّس الزّهرة أعظمها في المنظر ، وأشدّها بياضا ثم المشتري في مثل هيئتها. وفي زحل كمودة. وفي المرّيخ حمرة وفي عطارد صفرة. وقد تقدّم القول في استسرار القمر ، وأنّه يقطع المنازل في استسراره كما يقطع في ظهوره. وأنهم يسمّون آخر ليلة في الشهر البراء لتبرّؤ القمر من الشّهر فيه. وأما قول الشّاعر شعرا :

يا عين بكّي عامرا وعبسا

يوما إذا كان البراء بخسا

فالمراد إذا لم يكن فيه مطر ، لأنّ المطر يستحبّ في سرار القمر.

فأمّا هلال شهر رمضان فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا غمّ عليكم فاكملوا العدة». وهذه رواية ابن عباس رضي‌الله‌عنهما.

وفي حديث آخر : «إذا غمّ عليكم فاقدروا له» رواية ابن عمر رضي‌الله‌عنهما. ومعنى أقدروا له : قدّروا له المسير والمنازل.

يقال : قدرت الشيء وقدرته بمعنى ، والتّقدير له يكون إذا غمّ على النّاس ليلة ثلاثين في آخر شعبان لليلة ويعلم أنّه يمكث ستة أسباع ساعة من أوّلها ثم يغيب وذلك في أدنى مفارقته للشّمس ، ولا يزال يزيد في كلّ ليلة على مكثه في اللّيلة قبلها ستة أسباع ساعة ، فإذا كان في اللّيلة السّابعة غاب في نصف اللّيل ، وإذا كان في ليلة أربع عشرة طلع مع غروب الشّمس ، وغرب مع طلوعها ثم يتأخّر طلوعه عن أول ليلة خمس عشرة ستة أسباع ، ولا يزال يتأخر طلوعه ليلة ثمان وعشرين مع الغداة فإن لم ير صبح ثمان وعشرين ، علم أن الشّهر ناقص وعدته تسعة وعشرون يوما.

وإن رؤي علم أن الشّهر تام وعدّته ثلاثون ، وقد يعرف أيضا بمكث الهلال في ليالي النّصف الأوّل من الشّهر ومغيبه ، وأوقات طلوعه ليالي النّصف الآخر من الشّهر ، وتأخّره عن أوّل اللّيل ، ويتعرّف من المنازل بأنّ الهلال إذا طلع في أوّل ليلة من شعبان في الشّرطين ، وكان شعبان تاما طلع في أول ليلة من شهر رمضان في الثّريا ، وإن كان شعبان ناقصا طلع في البطين ، وهذا أمر يضيق ويصعب على الناس ، ويكثر فيه التّنازع والاختلاف ، فنسخه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إذا غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين» ولا يمكن أن يرى الهلال بالغداة في المشرق بين يدي الشّمس وبالعشي في المغرب خلف الشّمس في يوم واحد ، ولكن يمكن ذلك في يومين فهو حين يستسر ليلة واحدة ، وإذا كان في ثلاثة فهو حين يستسر ليلتين.

٥٤٣

وأما ما روي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته» فإن اللّام فيه بمعنى بعد ومثله قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [سورة الطلاق ، الآية : ١] واللّام لإضافة عدّة مواضع. وقد ذكرتها أو أكثرها في غير هذا الموضع ، وقال بعض أهل النظر : المراد صوموا لما أقبل من رؤيته.

وكذلك طلّقوهنّ لما أقبل من عدّتهن. قال وقبل كلّ شيء وجهه وأوّله ، كما أنّ دبره آخره ، وكلّما يوقّت فله أوّل وآخر ، فما دام زائدا فهو مقبل ، فإذا أخذ في النّقصان فهو مدبر مثل النّهار فهو مقبل من الفجر إلى الاستواء لأنّه في الزّيادة ثم مدبر ، لأنّه في النّقصان إلى اللّيل ، ولا يقال : هو مقبل وقد أقبل إلّا عند دخول وقته. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقبل اللّيل وأدبر النّهار فقد أفطر الصائم». ولا يجوز أن يقال : أقبل اللّيل إلّا بعد مغيب الشّمس ، لأنّ الصّائم لا يعود مفطرا إلا به لقوله : فقد أفطر الصّائم. أي انقضى صومه لذهاب وقته ودخول وقت آخر لا يكون الصّوم فيه ويؤيد هذا الّذي ذكرناه قول الرّاجز شعرا :

وقلّة الطّعم إذا الزّاد حضر

وتركي الحسناء في قبل الطّهر

لأنّ المراد أوّل طهرها لا ما قبله من الحيض ، فمراد الشّاعر فيه مثل مراد الأخطل حين قال شعرا :

قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم

دون النّساء ولو باتت بإطهار

وقد بيّن غيره بأتمّ من هذا الذي قال :

أفبعد مقتل مالك بن زهير

ترجو النّساء عواقب الأطهار

وهذا ظاهر ولو جاز أن يكون إقبال شيء في إدبار غيره الذي هو ضدّه لكان الصّائم مفطرا قبل مغيب الشّمس ، إذ اللّيل عنده يقبل في إدبار النّهار ، وقبل انقضائه كلّه وهذا لا يقوله أحد. وإذا كان الأمر على هذا فأذن الله تعالى في الطّلاق بقوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [سورة الطلاق ، الآية : ١] لا يكون واقعا إلا بعد دخول وقت العدّة التي أذن الله في الطّلاق له ، والطّهر وبعد انقضاء إدبار الوقت الذي منع من الطّلاق فيه وانتهائه وهو الحيض ، فكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته» يعني الهلال والصّوم لا يكون إلا بعده بساعات ووقت مديد ، ومن مواضع اللّام قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [سورة طه ، الآية : ١٤] لأنّ المعنى أدم الصّلاة لتسبّحني وتمجّدني ، وذلك هو الذّكر إذ كان علة له وسببا ، وهذا يخالف : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٨] لأنّ دلوك الشمس بيان وقت ، ومثله قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) [سورة الحشر ، الآية : ٢] في أنه بيان وقت ، ألا ترى أنّ الحشر لم يكن علة لإخراجهم ، بل كان علة إخراجهم كفرهم وإباؤهم الإسلام.

٥٤٤

الباب الثالث والسّتون

في ذكر مشاهير الكواكب التي تسمّى الثّابتة وهذه التّسمية على الأغلب من أمرها إذ كانت حركة مسيرها خافية غير محسوسة.

قال أبو حنيفة : اعلم أنّ سير هذه الكواكب على خفائه مستمر على تأليف البروج الاثني عشر لا يعرض لشيء منها رجوع ، فقد ميّز قدماء العلماء كواكب السّماء على وجه الدّهر وصنّفوها فجعلوها منزلة في منازل سبعة من الأقدار فجعلوا كبارها في القدر الأول ، وهي التي يسمّيها العرب الدّراري ، والواحد دري منسوب إلى الدرّ في الصّفاء والحسن ، وفي التنزيل : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) [سورة النّور ، الآية : ٣٥] وقال الرّاجز :

أنّى على أوني وانجراري

أؤم بالمنزل والدّراري

الأون : الثقل ، والانجرار : أن يترك الإبل في مسيرها وعليها الأحمال ترى.

يقال : جرّ الإبل يجرّها جرّا ويعني بالمنزل والدّراري منازل القمر ودراري الكواكب ، وهي مشبوباتها ذوات السّطوع والتّوقّد. قال الشّماخ :

وعنس كألوان الأران لضاتها

إذا قيل للمشبوبتين هماهما

لضاتها ونساتها بمعنى أي زجرتها وهيّجتها. وقيل : أراد بالمشبوبتين الشعريين. وقيل الزّهرة والشّعرى العبور وهما أنور نجوم السّماء. فالذي أحصى العلماء من دراري النّجوم سوى الخمسة المتحيّرة خمسة عشر كوكبا ، وهي في القدر الأوّل من العظم وهي الشّعريان ـ وسهيل ـ والمحنّث ـ العيّوق ـ والسّماكان ـ واليدان ـ وقلب الأسد ـ والنّسر الواقع ـ والصّرفة ـ ومنكب الجوزاء ـ ورجلها وأضوأ كواكب الفرعين.

والذي أحصوا مما هو دون هذه وهي في القدر الثّاني من العظم خمسة وأربعون كوكبا : كالفرقدين وبنات نعش الكبرى وقلب العقرب والرّدف والنّسر الطائر ، ورأس الغول ـ والعناق ـ وقلب الحوت ـ وأشباهها مما ترك ذكر سائرها للأقدار الباقية لأنّ مواضعها غير

٥٤٥

كتابنا هذا. وقد ميّز أصحاب الأحكام من المنجّمين من هذه الكواكب الستّين ثلاثين كوكبا وجعلوا لكلّ كوكب منها خراجا من طبائع الكواكب الخمسة المتحيّرة ووضعوها أساسا للأقضية التي يحلفونها والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

فإن قيل : كيف تميّز للعلماء مواضع هذه الكواكب ومقاديرها في سيرها على خفائها وعجز الحس عن إدراكها؟ قلت : أدركوا ذلك في الأزمنة المتعاقبة والدّهور المترادفة ، فكان أحدهم يقف في عمره مع تفقّده البليغ لها على بعض أحوالها ، ثم يرسم ما يقف عليه لمن يخلف بعده ، وقد شاركه فيما مضى ثم قاس الأخلاف بعدهم قرنا بعد قرن ، فوجدوها وقد تقدّمت عن تلك الأماكن الأول ، وكذلك فعل الأخلاف للأخلاف ، وقد ضبطوا تواريخ تلك الأزمنة معتبرين فوجدها تتحرك بأسرها معا حركة واحدة ، فتقطع في كلّ مائة عام درجة واحدة ، حينئذ حكموا بما قالوا ، فهذه حال هذه الكواكب المسمّاة ثوابت ، إلّا كوكبا واحدا ، فإنّه سيّار خلاف سيرها ، وخلاف سير السّيارات كلّها وهو الكوكب الذي سمّاه المنجّمون ذا الضفيرة وذا الذّؤابة وهو الذي تسمّيه العامّة كوكب الذّنب ، وإنّما يظهر في الزّمان بعد الزّمان ولأصحاب الملاحم فيه روايات.

فعلى هذا عرف العلماء مواضع هذه الكواكب من الفلك وحكموا بما حكموا في كتبهم من شأنها.

ولما أرادوا تميّز كواكب السّماء قسّموا الفلك قسمين ، فسموا أحد القسمين جنوبيا ، والنّصف الآخر شماليا ، ولذلك سمّوا ما وقع من البروج والكواكب فيهما ، وسمّت العرب تلك الشّمالية شآمية ، والجنوبية يمانية ، ولا فرق بين المقصودين ، ولذلك جعلوا ما بين رأس الحمل إلى رأس الميزان من البروج شآمية ، وما بين رأس الميزان إلى رأس الحمل من البروج يمانية.

وكذلك جعلوا ما بين الشّرطين من المنازل إلى السّماك شآمية ، وجعلوا ما بين الغفر إلى الرّشاء يمانية ، وجميع ذلك قد تقدم القول فيه ، فأقرب مشاهير الكواكب إلى القطب بنات النّعش الصّغرى وهي شآمية سبعة كواكب في نظم بنات نعش الكبرى ، أربعة منها نعش وثلاث بنات ، والمنجّمون يسمّونها ذنب الدّب الأصغر. فمن الأربعة الفرقدان وهما المتقدّمان المضيئان ، والآخران وراءهما خفيّان. ومن البنات وهي ثلاث أوّلها : الكوكب الذي يسمّى الجدي وهو الكوكب الذي يتوخى النّاس بها القبلة ، لأنّه لا يزول وتسميه العرب جدي بنات نعش ، يكبّ على اليدين فيستدير. وقال الأخطل وذكر بني سليم شعرا :

ولا يلاقون فراضا إلى نسب

حتى يلاقي جدي الفرقد القمر

٥٤٦

نسب الجدي إلى الفرقد كما نسبه الآخر فقال يذكر المطايا :

تياسرن عن جدي الفراقد في السّرى

ويا من شيئا عن يمين المغاور

وهذا الجدي ليس من البروج ولا منازل القمر فهو لا يلقى القمر أبدا ، وكذلك بنات نعش ، لذلك قال بعضهم وهو يهجو :

أولئك معشر كبنات نعش

خوالف لا تسير مع النّجوم

خوالف : أي متخلّفة عن النّجوم ، والخالفة ما لا خير فيه فيقول : لا نفع عندهم ولا فائدة من جهتهم.

ويروى : ضواجع ومعناه : رواكد لا غناء عندهم ، كما أنّ بنات نعش لا نوء لها ولا نسب شيء إليها. وقال بشر بن أبي حازم في دورانها حول القطب :

أراقب في السّماء بنات نعش

وقد دارت كما عطف الظّؤار

يريد أنّه سهر ليلته كلّها إلى أن دارت بنات نعش وهي تنقلب في آخر اللّيل وخص بنات نعش لأنّها لا تغيب لذلك لا يجعلون الاهتداء بها وبالفرقدين. وقال الراعي شعرا :

لا يتّخذنّ إذا علونا مفازة

إلّا بياض الفرقدين دليلا

قال أبو حنيفة : فالكواكب الثّلاثة التي هي البنات وكوكبان من النّعش فيهما أحد الفرقدين ، هؤلاء الخمسة في شطر فيهما واحد كقوس ، وقد قابله شطر آخر مثله فيه كواكب خفيّة متناسقة ، أخذت من الجدي إلى الفرقدين حتى صار هذان الشّطران شبهان بخلقة السّمكة ، والنّاس يسمّونها بالفأس تشبها بفأس الرّحى التي القطب في وسطها ، يظنّون أنّ قطب الفلك في وسط هذه الصّورة. قال : وليس كذلك بل القطب بقرب الكوكب الذي يلي الجدي من هذا الشّطر الخفي الكواكب فوجدت هذه الكواكب أقرب كواكب السّماء كلّها من هذا القطب ، لم أجد بينه وبين القطب إلّا أقلّ من درجة واحدة. وليس القطب بكوكب بل هو نقطة من الفلك.

ومن الشآمية بنات نعش الكبرى ، وهي أيضا سبعة كواكب على عدد الصّغرى وفي شبيه تنظمها ثلاث بنات وأربعة نعش ، والعرب تسمّي الأوّل من البنات ، وهو الذي في الطّرف القائد : وتسمّي الأوسط العناق : وتسمّي الثّالث الذي يلي النّعش ، الجون : وإلى جانب الكواكب الأوسط منها كويكب صغير جدا يكاد يلزق به ويسمّى السّهى وبه جرى المثل في قولهم : أريه السّهى ويريني القمر ، ويقال له : الصّيدق ويعيش والنّاس يمتحنون به أبصارهم فمن ضعف بصره لم يره.

٥٤٧

ويروى أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يفعلون ذلك ، وتقول العرب لبنات نعش بنو نعش وآل نعش. قال :

تمزّزتها والدّيك يدعو صباحه

إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا

وإنما قال : دنوا فتصوّبوا لأنّه لما أخبر عنها كما يخبر عن العاقلين جعل ضميرها ضمير العاقلين. وقال الشّاعر :

فنيت وأفناني الزّمان وأصبحت

لداي بنو نعش وزهر الفراقد

وقال آخر :

وهل حدّثت عن أخوين داما

على الأيّام إلّا ابني شمام

وإلّا الفرقدين وآل نعش

خوالد ما تحدّث بانهدام

وقال آخر يذمّ قوما :

وأنتم كواكب مسحولة

ترى في السّماء ولا تعلم

فهذا في طريقة قوله :

أولئك معشر كبنات نعش

والمسحولة : المرذولة. وبالقرب من الفرقدين كوكبان مقترنان بينهما في رأي العين بعد القامة ، إذا اعترض الفرقدان انتصبا ، وإذا انتصب الفرقدان اعترضا ، يسمّيها العرب : الحرّين ويسمّيان أيضا : الذّنبين ، ويسمّيان أيضا : العوهقين.

وقال الرّاجز :

بحيث بارى العوهقين الفرقدا

عند مسدّ القطب حيث استوسقا

وقال أبو زيد الكلابي : الحرّان كوكبان أبيضان بين العوائذ ، والفرقدين بينهما قدر ثلاثة أذرع في رأي العين ، ويسمّيان الذّنبين ، وقدّامهما كواكب صغار تسمّى : أظفار الذّئب ، وهناك كوكبان أوسع من كوكبي الحرّين يقال لهما : كوكبا الفرق وعند الأعلى منهما كواكب صغار خفيّة مستديرة تسمّى : القدر والقرحة كوكب أسفل من كوكبي الفرق كموضع قرحة الدّابة من الأذنين. وزعموا أنّ القرحة إذا طلعت استقبلت قبلة الكوفة وفيما هنالك الهلبة : وهي كواكب ملتفة يظنّ من لم يتثبّت من تأملها أنّها الثّريا ، والعامة تسمّيها السّنبلة ومعنى الهلبة الخصلة من الشّعر. والعرب تسمّي هلبة الأسد ، وهي فيما بين البنات من بنات نعش الكبرى.

وأمّا الصرفة فهي الكوكب النّيّر المنفرد الذي على أثر الزبرة ، والعرب تقول :

٥٤٨

ضرب الأسد بذنبه فنغزت الظّبأ ، ونغزات الظبأ ثلاث : كلّ نغزة منها كوكبان متقاربان كأثر ظلفي الظّبي.

ويقال لها أيضا : النّوافز والفقرات ويسمّى أيضا القرائن وأشعيلبات ، والظّبا كواكب خفيّة مستطيلة مثل الحبل الممدود من عند الهلبة إلى العيّوق ، وأولاد الظبأ كواكب صغار فيما بين الظبأ والفقرات. وفيما هنالك الحوض وليس بمتّصل الاستدارة والعوائذ وهي كواكب أربعة مربعة غير متباعدة في وسطها كوكب كأنّه لطخة غيم يسمى الرّبع شبّههنّ بأنيق أربع ، عطفن على ربع وهي من الشآمية عن يسار النّسر الواقع فيما بينه وبين بنات نعش.

ومن الشآمية الفكة : وهي كواكب مستديرة فيها مرجة ، والعامّة تسميها قصعة المساكين من أجل الثّلمة التي فيها. ومن كواكبها كوكب هو أنورها يقال له : منير الفكة والأوائل من المنجمين سمّوا الفكة الإكليل الشّمالي وإذا توسّطت الفكّة السّماء أو قاربت فنظرت إليها رأيت السّماك الرّامح بين يديها ، ورأيت رأية السّماك خلفه بينه وبين الفكّة وهو كوكب منتبذ عنه ، يعارضه كوكب بالقرب منه كأنه عذبة في رمح. ولذلك قيل له : الرّامح وذو السّلاح وقيل للسماك الآخر الأعزل.

والنّسقان : شطران ابتدأ أحدهما إلى قرب النّسر الواقع ، وهو النّسق الشآمي ، والآخر إلى جهة النّعام الوارد حتّى شرع في المجرّة وهو النّسق اليماني.

ويقال لما بين النّسقين الرّوضة ، وفي داخل الرّوضة كوكب أبيض منفرد يقال له الرّاعي. وبالقرب منه كواكب صغار ، ويقولون هي غنمة يرعاها في الرّوضة ، وفي أضعاف تلك الكواكب كوكب وباض صغير ، يقولون : هو كلبة ويقال للنّسق النّسيق أيضا.

ومن الشآمية النّسر الواقع ، وإليه ينتهي النّسق الشآمي وهو كوكب أزهر خلفه كوكبان منه كأنهما وإياه أثافي قدر ، وكذلك تسمّيها العامّة ، وإنّما قيل له : الواقع لأنّ الكوكبين اللّذين معه بمنزلة جناحيه قد ضمّهما إليه ، ولأنّ هناك نسرا آخر يقال له : الطائر ، وسمّى القدماء من المنجمين النّسر الواقع الاوزة.

وبإزاء النّسر الواقع مما يلي الجنوب النّسر الطائر ثلاثة كواكب مصطفة والأوسط منها هو أنورها ، وهو النّسر والآخران جناحاه ، وقد بسطهما ولذلك قيل له الطّائر ، والعامّة تسمّيه الميزان ، لاستواء كواكبه في اصطفافها واعتدال الأوسط منها بين الآخرين.

ورواء النّسر الواقع كواكب أربعة على اختلاف قد قطعت المجرّة عرضا ويسمّيه العرب الفوارس ، تشبيها بفوارس أربعة يتسايرون.

ووراءها بالقرب كوكب أزهر منفرد في وسط المجرّة تسمّيه العرب الرّدف كأنّه ردف

٥٤٩

الفوارس يتبعها ، والمنجّمون يسمّون هذا الكوكب : ذنب الدّجاجة ، وقد وضعوه في الاصطرلاب للقياس به ، ويسقط الفوارس والرّدف مع طلوع النّثرة وتطلع مع طلوع الشّولة.

وكذلك النّسران وهما من الكواكب الشآمية ، وعلى أثر النّسر الطائر كواكب أربعة مصلّبة النّظم تسمّيها العامّة الصّليب ، وتسمّيها العرب القعود ويسقط الصّليب مع طلوع سهيل ، وتطلع مع سقوط الشّعرى.

ووراء الرّدف في حومة المجرّة كفّ الثّريا الخضيب ، وهي كواكب خمسة بيض مختلفة النّظام وهي أيضا سنام النّاقة ، والنّاقة في مثل خلقة النّجيب الضّامر الدّقيق الخطم ، وخطمها في جهة الجنوب ، وعنقها كواكب تتابعت من عند الرّأس ، فانحدرت انحدار العنق ، ثم ارتفعت إلى سنامها ، وهنالك لطخة سحابيّة في مثل موضع الفخذ ، يقولون : هي وسم النّاقة ، وهذه اللّطخة هي معصم الثّريا ورأس الحوت في لبّة النّاقة ، وهو في مثل صورة السّمكة غير أنّها عظيمة.

وفي جملتها كوكب هو أضوؤها يقال له : قلب الحوت. وفوق رأس النّاقة حوت آخر ، ورأس النّاقة ذنبه وهو أقصر من الحوت الأسفل وأعرض.

ووراء الكفّ الخضيب العيّوق ، وهو كوكب عظيم نيّر في حاشية المجرّة التي تلي الشّمال يقال له : عيّوق الثّريا ، وذلك كأنّهما يطلعان معا ، وإذا توسّطا السّماء تدانيا في رأي العين. قال الشاعر شعرا :

كأنّ صديا والملامة ما سقى

لكالنّجم والعيّوق ما طلعا معا

يقول : لا يتخلّف اللّوم عن صدى كما لا يتخلّف واحد من الثّريا والعيّوق عن صاحبه ، وفي إضافة العيّوق إلى الثّريا قال الشاعر :

وعاذلة هبّت بليل تلومني

وقد غاب عيّوق الثّريا فعرّدا

ولتدانيهما إذا توسّطا السّماء قال بشر :

وعاندت الثّريّا بعد هدء

معاندة لها العيّوق جار

ظنّ أنّ الثّريا تركت طريقها وعاندت إلى العيّوق وذلك من أجل البعد الّذي بينهما في المطلع والقرب الذي بينهما في وسط السّماء ، وهو فيعول من العوق والعيق جميعا والعوق الذي لا حرّ فيه.

ويقال : العيق وهو من قولهم ما يعيق به حرّ ولا يليق. ووراء العيّوق غير بعيد كواكب

٥٥٠

ثلاثة : زهر مصطفّة متقوّسة قد قطعت المجرّة عرضا ويسمّى : توابع العيوق. ويقال لها : الأعلام أيضا. ويقال للذي تحته : رجل العيّوق.

ومن أمثالهم فيما يبعد من الطمع : هو أبعد من العيّوق ، كما يقولون : هو أبعد من الثّريا. وهناك سطر من كواكب امتدّت في الشّمال على انعطاف تسمّى : الكفّ الجذماء لقصرها ، ويقولون للثّريا : الرّأس فيما بين اليدين وفي اليمنى كواكب هي أنورها فيها العاتق وهو أقربها إلى الثّريا ، ثم المنكب بعده ، ثم المرفق كويكب صغير يقال له : إبرة المرفق ، وهنالك أيضا المابض.

أما ابرة المرفق من الإنسان فهو طرف عظم السّاعد وهو الذي يذرع بذراع والطرف الآخر الذي يثنى إذا قبضت ذراعك إليك يقال له : القبيح. حيث تلاقي الإبرة القبيحا.

ويقال لما بين المرفق والمعصم الساعد ويصغّر فيقال : السّويعد. ويقال ما بعد المعصم وهي الكف ، الخضيب كف الثّريا. وهناك كوكب نيّر قدر كوكبي المرفق والعضد فهو معهما في صورة مثلّثة واسعة كلّ كوكب في زاوية من زواياها والمنجّمون يسمّون هذا الكوكب : رأس الغول. وقريب منه كوكب نيّر فيما بين قلب الحوت ومرفق الثّريا يسمّى : عناق الثريّا وهي غير العناق الذي في بنات نعش.

روى ابن الأعرابي عن العرب : قال عند بنات نعش كوكب يقال له : رأس الحية ورأس الحية مثل رأس الخلخال ، والتّنين فيما وصفه المنجّمون هناك عند رأسه.

ويوجد من بنات نعش كوكب أحمر يقال له : الذّبح. وهو ذكر الضّباع. وهناك كواكب صغار فيما بين القرحة والجدي. والرّاعي كوكب من كواكب الشاء. وكلب الراعي : كوكب صغير قريب منه.

وأسفل من بنات نعش كواكب كثيرة مختلطة يقال لها الضباع.

ويوجد كواكب صغار عن يمين الضّباع بينها وبين بنات نعش. والخباء كواكب في مثل هيئة الخباء أسفل من أولاد الضّباع.

وخلف العاتق كوكبان بينه وبين العنق يسمّيان : المرجف والبرجس.

وقال عن يمين الكف الجذماء البقر أسفل من الكفّ الجذماء متّصلة بالثّريا فهذه مشاهير الكواكب الشّامية.

ونذكر الآن الكواكب اليمانية فمنها : منكبا الجوزاء وهما أيضا يداها. والأيمن منهما كوكب أحمر ، وقد وضع في الاصطرلاب ، والعرب تسمّيه مرزم الجوزاء ، والهقعة بين

٥٥١

المنكبين وهي عند العرب رأس الجوزاء لأنّ الجوزاء في المنظر شبيهة بصورة الإنسان. وربّما سمّوا المنكب الأيسر النّاجذ.

وأمّا الكواكب البيض المستعرضة في وسط الجوزاء الوباضة فإنّ العرب تسمّيها النّظم وتسمّيها أيضا : نطاق الجوزاء وفقار الجوزاء. ويسمّون الكواكب الثلاثة المنحدرة من عند هذه الأولى الجواري وكأنّها في موضع الرّجل من ظاهر الصّورة.

وهناك كوكب أبيض وباض في مثل القدم يقال له : رجل الجوزاء اليسرى وقد وضعه المنجّمون للقياس ، ورجلها اليمنى كوكب أبيض أصغر من الأول وقال الشّاعر :

فلمّا رأى الجوزاء أوّل صابح

وضرتها الكواكب التي معها. وقال الآخر فيهما جميعا. وفتية غيد من التّسهيد. الأبيات. وقد مضت في الباب السّادس والخمسين ، ومن نظر إليها وهي على الأفق بان له حسنها.

وتحت كلّ واحدة من رجل الجوزاء كواكب أربعة تسمّى كرسي الجوزاء ، وأحد الكرسيين أبين من الآخر ، ويسمّى كرسي الجوزاء النّهل.

وفوق رأس الجوزاء كواكب صغار كالعقد الموزج يسمّى تاج الجوزاء ويسمّيها العرب أيضا ذوائب الجوزاء.

وأسفل من الجوزاء على يسارك إذا نظرت إليها الشّعرى العبور ، وهي الكوكب العظيم الوباض ، وقد ذكرنا الأخرى في منازل القمر ، وإنّ المجرّة تمرّ بين الشّعريين وأسفل من كرسي الجوزاء.

ومن الشّعرى العبور ثلاثة كواكب بيض مختلفة التّثليث تشبهها العرب عذرة الجوزاء وقد يجعلها قوم خمسة كواكب. وهناك كواكب إن ضمّ بعضها إلى الثّلاثة صارت خمسة ، وقد تسمّيها العرب : العذارى وهي في حاشية المجرّة الغربيّة.

وإذا انحطّت الجبهة عن كبد السّماء فنظرت رأيت بينها وبين الشّعرى الغميصا أربعة كواكب مربعة فيها استطالة كهيئة وجه الفرس ، تسمّى رأس الحيّة ، وقد امتدت من عنده كواكب متناسقة على تعريج ، حتى قربت من عرش السّماك الأعزل ، وهذه الكواكب هي بدن الحيّة ، وفيها كوكب هو أضوأ كواكبها يسمّيها المنجّمون : عنق الحيّة ، ومنهم من يسمّيه فقار الحية ، لأنّه بعيد من الأوّل ، وقد وضع هذا الكوكب في الاصطرلاب ، والعرب تسميه الفرد ، وإيّاه عنى الشّاعر بقوله :

وقد مالت الجوزاء بالكوكب الفرد

٥٥٢

وسمّي فردا لانفراده عن أشباهه.

والخيل كواكب كثيرة أكثر من العشرة نيّرة ، وفيها ستّة كواكب في ثلاثة أمكنة متفرقة في كلّ مكان منها كوكبان. وفيما بين كواكب الخيل كواكب صغار تسمّى أفلاء الخيل ، وهي كلّها بين يدي الشّولة فوق المجرّة وأسفل من الخيل.

ومن شولة العقرب كواكب يقال لها : القبّة ، وإذا رأيت الزّبانيين مرتفعتين عن أفق المشرق رأيت فيما بينهما وبين عرش السّماك أسفل منها كواكب مجتمعة نيّرة مختلطة على غير نظم ، تسمّى الشّماريخ ، لأنّها كأنّها شماريخ كباسة.

وإذا توسّطت الشّعرى العبور السّماء ثم نظرت على سمتها قريبا من الأفق رأيت سهيلا قد توسّط مجراه أو قريبا وذلك أرفع ما يكون في السّماء وهو قليل العلو ، قريب المجرى من الأفق ، وهو عند المنجّمين طرف سكّان السّفينة ، وهو كوكب منير عظيم أحمر منفرد عن الكواكب ، وأقرب مجراه من الأفق تراه أبدا يضطرب ، ولما يعرض لسهيل من ذلك ولانفراده قال الشّاعر :

أراقب لوحا من سهيل كأنّه

إذا ما بدا من آخر اللّيل يطرف

يعارض عن مجرى النّجوم وينتحي

كما عارض الشّول البعير المؤلف

ولو بيضه وشعاعه وانفراده. قال الآخر يصف ثورا شعرا :

خبّأت عذوبا للسّماء كأنّه

قريع هجان يتبع الشّول جافر

شبّهه في انفراده بفحل انقطع عن الضّراب فتنحّى عن الإبل ولتوهّجه قال الآخر :

حتّى إذا شال سهيل بسحر

كعشوة القابس ترمي بالشّرر

وطلوعه بالعراق لأربع ليال بقين من آب وذلك مع طلوع الزّبرة ، ويطلع بالحجاز لأربع عشرة ليلة تمضي من آب مع طلوع الجبهة. قال الشّاعر شعرا :

إذا أهل الحجاز رأوا سهيلا

وذلك في الحساب بشهر آب

ويسمّى سهيل كوكب الخرقاء. قال الشّاعر :

إذا كوكب خرقاء لاح بسحرة

سهيل أذاعت غزلها في القرائب

يريد أنّ الخرقاء لعبت صنعها ، وضيّعت وقتها ، ولم تغزل ، فلمّا طلع سهيل وجاء الشّتاء وضاق الوقت استغزلت قرابها ، وفي نحوه قال الآخر شعرا :

علّك أن تنسجي وتدأبي

إذا سهيل فاق كلّ كوكب

فتعلّمي قرضك غير معجب

٥٥٣

وإذا طلع مغرب الشّمس استبدلت الإبل الأسنان قال :

إذا سهيل مغرب الشّمس طلع

فابن اللّبون الحق والحق جذع

وفي مجرى سهيل كوكبان يقال لهما : حضار والوزن وهما يطلعان قبل سهيل ومن كلامهم حضار والوزن محفان.

وذلك أنه إذا طلع أحدهما فرآه الرّائي قال لصاحبه : طلع سهيل فيقول صاحبه : ليس بسهيل فيتماريان حتى يحلفا ، فلا بدّ من حنث أحدهما ، وإذا كان الشيء يعرض فيه الشّك كثيرا قيل : إنه لمحلف ومحنث ، ولذلك قيل كميت محلف قال :

كميت غير محلفة ولكن

كلون الصّرف غلّ به الأديم

وهنالك أيضا الفرود وهي كواكب صغار عند حضار. قال الشّاعر :

أرى نار ليلى بالعقيق كأنّها

حضار إذا ما أعرضت وفرودها

وذكر ابن الأعرابي أنّ في مجرى قدمي سهيل من خلفهما كواكب زهر ألا ترى بالعراق يسمّيها أهل تهامة الأعيار.

وبعد السّعود الأربعة المذكورة في منازل القمر ، سعود ستّة متناسقة في جهة الدّلو كلّ سعد منها كوكبان ، بينهما كنحو ما بين سعود المنازل ، وهي أربعة ، وهي كواكب خفيّة غير نيّرة ، فأوّلها سعد ناشرة ، وهو أسفل من سعد الأخبية وهو يطالع الشّرطين أي يطلع مع طلوعه.

وعلى أثره سعد الملك ثم سعد البهام ، ويقال له : مربق البهام ، وأسفل منه كواكب صغار تسمّى : الرّبق ، والرّبق : حبل يمد بين وتدين يربق إليه البهم ، وعلى إثره سعد البارع ثم سعد مطر.

وروى ابن الأعرابي عن العرب في الكواكب اليمانية أشياء ، قال : سهيل اليمن وتحته سهيل بلقين وهو غير حضار وغير الوزن ، وقال : فيما بين الفرد وبين زباني العقرب الخباء.

قال أبو حنيفة : إن كان عنى بالخباء عرش السّماك فذاك ، وإلّا فليس هناك خباء غيره ، وقال : على أثر الخباء كواكب يقال لها : الشّراسيف وهي كواكب مستطيلة مثل الحبل.

وقال : بين الشّراسيف والخباء كواكب مستديرة متبدّدة على غير نظام يقال لها : المعلف. قال : وبعد المعلف : الشّماريخ.

ووراء القبة الصّردان ، أحدهما يجري قريبا من الأفق والآخر فوقه بحياله. قال : وخلف الصّرد الأعلى اليمامتان : وبينهما وبين الصّردين في رأي العين نحو من عشرين

٥٥٤

ذراعا. قال : وهنالك : القطا ، وهي كواكب متقاطرة كتقاطر القطاء وهي كواكب غير نيّرة إلّا كوكبان.

قال : وثم الظّليمان فوق ذلك وهما كوكبان نيّران بينهما في رأي العين إذا استويا في السّماء قدر مائة ذراع وبينهما الرّال.

وقال السّفينة كواكب خفيّة متتابعة متقدمها عند سعود البهائم ومؤخّرها السّمكة.

وقال : في مقدّمها الضّفدع الأوّل في مؤخرها الضّفدع الآخر.

فهذا ما أردنا ذكره من مشاهير الكواكب.

تم الباب وبتمام هذا الباب تم الكتاب ولله الحمد بلا عدد. وعلى المصطفى محمد ، وآله وأزواجه وذريّاته وأصهاره وأصحابه وأنصاره أبد الأبد صلوات ورضوان وسلام وغفران.

فرغت منه ضحوة يوم الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وأربع مائة ، حامدا الله تعالى على نعمه وأياديه الظّاهرة والباطنة ، ومصلّيا على أنبيائه ورسله ومسلما.

قال الشّيخ أبو علي المرزوقي رحمه‌الله هذا الفصل خاتما به كتابه حرس الله ما خوّلك من الشّتات ، وحفظ ما نوّلك من عارض الانبتات ، وأعانك في طلب الأدب على الازدياد. ووفقك في سائر متصرّفاتك لصلاح البدء والمعاد.

قد سهّل الله تعالى وله المنّ ما تمنيت بلوغه من الفراغ من كتاب الأزمنة فجاء على حدّ من الكمال ، طاب له العيش وخفّ على النّفس فيه التّعب ، وما أدّاني إلى ذلك إلا لطيف هداية الله تعالى جدّه وكريم كفايته ، فبهما اشتدّ أزري واستبد ما اختلّ من خاطري وذهني ، فأمّا ما كنت أشكوه من قبل حتى استطيلت مدة الانتظار في عمله ، فلما ألزم حواملي وجوارحي من الضّعف العارض والوهن الحادث ، وقد أبدل الله تعالى على كريم عادته به استجمام الأمل في زواله واستحكام الطّمع في انحسامه على تطوّل الله المعول في تحقيق المرجو وهو حسبنا وحده ونعم الوكيل.

واعلم أنّ هذا الكتاب ينقسم أقساما ثلاثة وهذا الحكم يتناول جماهير أبوابه وفصوله لا يختصّ به بعض دون بعض.

أحدها : التّنبيه على نعم الله جل جلاله فيما نصب للمكلّفين في آناء اللّيل والنّهار من الأدلّة الواضحة والحكم البالغة ، وأفادهم فيما سخّره لهم وأعانهم به في جوانب البر والبحر من النّعم الظّاهرة والباطنة قولا وفعلا وجملا وتفصيلا في بداهة العقل ، وعلى ألسنة الرّسل

٥٥٥

فإنّ صلة إحدى النّعمتين بالأخرى فيهما كصلة الإبصار بالضّوء ـ والأنفاس بالجو ـ وكما هدى إلى الاستدلال بالشّاهد على الغائب ـ وبالجلي على الخفي ، وكثر ما أشرت إليه يمرّ عليه المارّون ، وهم عنها معرضون.

والثّاني : التّذكير بحكم العرب في لغاتهم ـ وآدابهم ـ وعاداتهم ـ ومآربهم ـ مع تلاحق أقطارهم ـ وتضايق أوطانهم ـ ورضاهم بالعفو من مقاماتهم ـ ومآبهم على اختلاف أسبابهم ـ وطرقهم ، واقتنان هممهم ـ ووجههم ـ هذا إلى ما خصّوا به من الفضائل دون الأمم ، وتوحّدوا به من جلائل المنح والنّعم ، وفوائد هذين القسمين في الاتّساع كالشّمس في ضيائها ـ والرّيح في هبوبها يتكافأ في نيل الحظ منهما المحب والكاره ، ويعترف بهما إذا أنصف المسلم والمعاند.

والثّالث يحوي لمعا من الأشعار ـ وغررا من النّوادر والآثار ـ اقتضى ذكرها مناسبتها للأزمان التي هي من همّنا وفرضنا على أنفسنا الوقوف تحت ظلّها ، ولو تقصّينا أبوابها لفني العمر وبقي منه الكثير فتطرّفنا منها ما تطرّفنا إيذانا بأنّ الغفلة لم تحل دونها ولئلا تخلو تضاعف الأبواب من بعضها فليعذر النّاظر فيه هذا الكتاب. إذا انتهى إلى المواضع التي أشرنا إليها متصوّرا حالنا ، وليحذر إلحاق الغائب بنا ، ففي مستحسنه إن شاء الله ما يشغل عن مستهجنه ، والشّمس يطمس نورها ـ ما أحاط من الكواكب بها ـ وقد قيل : لكلّ حسناء ذامّ.

واعلم أنّ من حقّ المصنّف إذا جمع الأصول بحقائقها ـ واستوفى الفروع بلواحقها ـ أن يمنع الخاطر من تجاوز الأنس بالميسور ، إلى وحشة المعسور ، ويدفع الهاجس من الخروج عن مساعدة الألوف إلى مشامسة الثّغور ، حرصا على بلوغ غاية شأوه لا يلحقها ، ودفعا في وجه ممكنة جهده لا يحيط إلا بها ، لأنّ التّحفظ مع الإقلال أقرب ـ وهو مع الإكثار أبعد ـ ونصرة الرّأي في مجاذبة الهوى حصن من النّدامة ـ وأمن من الملامة ، ولأنّ البليغ وإن كان مؤيدا في خصله مسددا في نقده ، يصحب التّثبت ويجتنب التّجوّز لا يعجزه ما غاب ـ ولا يغلبه ما راب ، فمن الواجب عليه أن يجتنب الاستبداد ـ عند الاستعداد ـ ويحاذر الملال ـ قبل حصول الكلال ، لأنّ من عاف مصادر الغرور ـ لم يركن إلى موارد الحبور ـ فتراه يصافح المذموم بيد الاحتقار ـ متهاتفا فيطرحه ، ويكافح المرذول بسيف القباحة متأنفا فيتنزّه عنه وترك الشّر قبل الاختيار ـ أفضل من ملابسة على الاغترار والأدب حبس العقول ، والتأدّب اكتساب القلوب ـ والاستنباط جوالب الأفكار ، والبحث عن المكامن بأداة البصائر والأبصار ، ولكلّ منها أسباب مكرمة ـ وأعلام مرفعة ـ يسيره كاسب الجمال ـ وكثيره كاسي الجلال ولا غرو فإنّ السّجايا تدخلها المتاجرة والمرابحة ، فمنها ما هو أمحض من الكرم ـ وأنزه من الدّنس ـ وفي الثّناء الباقي الدّهر خلف من نفاد العمر.

٥٥٦

تقريظ وجد آخر الأصل

بسم الله براعة الاستهلال ، والتّخلص بالصّلاة على محمد رسوله والآل. ثم براعة الختام عليه وعلى آله وصحبه السّلام ، وبعد فمن قابل أبواب هذا الكتاب وسلك أرجاءه المطرزة بالآداب وجد حديقة موشّحة ببديع الطّريقة ، مرصّعة بدراري البيان موشّعة بلوامع التّبيان ، مرشحة بعقود اللآلئ ، مدبّجة كالغزالي ، منسجمة الألفاظ والمعاني ، موزونة الأركان والمباني ، مطيبة بأفواه البلاغة ، مسوّرة بلجين لا لجين الصّناعة ، فكأنّ بانيها قد خطّها في ذهنه الوقّاد قبل الشّروع ، ومهّد أصولها لاستنباط الفروع ثم أسّسها بأساس التّحقيق ، ورفعها بلبن التّدقيق ، وزيّنها بمصابيح الفصاحة ، وأنارها بثوابت السّماحة ، حتى أتت جنة عالية ، قطوفها دانية ، فيها أعين فوائد جارية ، وحور خرائد لقلوب المدنفين فارية ، وموائد للمعاني وللمعاني قارية ، وغرائب لم تكن على الأفئدة طارئة ، وطرائق للسّالكين واضحة كافية ، ودبارق لقلوب العاشقين فنون البلاغة شافية ، بيد أنها جامعة للّغة الغريبة ، والنّكت العجيبة وخرائد الأذهان الحصان ، التي لم يطمثهن أنس قبله ولا جان ، فبخّ له من لوذعي نحرير ، وألمعي تنقيح وتقرير ، ما أرشق براعة استهلاله وتخلّصه ، وما أوفق حسن مقطعة وتربّصه ، إلى أن حافظ على براعة الختام ، بأوقات الصّلاة بخير اهتمام ، وجعلها تذكرة مدة الأعوام والأيام ، وها أنا أختم بالسّلام على سيّدنا محمد خير الأنام ، وعلى آله الأعلام وخير صحبه الماسكين زمام الإسلام.

٥٥٧
٥٥٨

فهرس

كتاب

الأزمنة والأمكنة

٥٥٩
٥٦٠