كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

وهذا كما حكوا عن الحرم أنه إذا أصاب المطر الباب الذي من شقّ العراق كان الخصب في تلك السّنة بالعراق ، وإذا أصاب شقّ الشّام كان الخصب والمطر في تلك السّنة بالشّام ، وإذا عمّ جوانب البيت كان المطر والخصب عاما في البلدان.

واعلم أنّه كما أنّ لكلّ نجم نوء فله بارح أيضا وهي البوارح وهي الرّياح. والعرب تقول : فعلنا كذا أيام البوارح ، وهي رياح النّجم ـ والدّبران ـ والجوزاء ـ والشّعرى ـ والعقرب ـ وأنشد الأصمعيّ :

أيا بارح الجوزاء مالك لا ترى

عيالك قد أمسوا مراميك جوّعا

وقال آخر شعرا :

أيذهب بارح الجوزاء عنّي

ولم أذعر هوامك بالسّنار

وقال آخر شعرا :

أيا بارح الجوزاء مالك لا تجي

وقد فني مال الشّيخ غير قعود

وأحبّوا أن تهبّ رياح الجوزاء حتى إذا طردوا إبلا وسرقوها عفت الرّياح آثارها وآثارهم ، فأمنوا أن يقتفى أثرهم ، واسم ما يحدث من ريح أو حر بارح على التّشبيه بالبارح من الوحش ، لأنه قد يطلع مما يلي شمال النّاظر ، ويأخذ على يمينه كالوحش.

وقال أبو حنيفة : زعم قوم لا معرفة لهم باللغة ، أنّ البارح ضدّ النوء ، وأنّه طلوع الرّقيب فيقولون : برح الكوكب : إذا طلع ، قالوا وذلك لأنه ييامن البيت الحرام إذا طلع ويياسره إذا غرب ، وإن قال : خذ من يمينك إلى يسارك فهو بارح. والذي قالوه ليس بمدفوع ، لكنا لم نجد العلماء يعرفون ما قالوه في الكوكب ، ولا رووا ذلك عن العرب ، قال أبو زيد : البارح : الشّمال الحارة يكون في الصّيف. وقال الفرّاء : البوارح : الرّياح الصّيفية ، وسمّيت بذلك لأنّها هي السّموم التي تأتي من الشّمال ، وأنشد لذي الرّمّة شعرا :

تلوث على معارفنا ونرمي

محاجرنا شآمية سموم

وقال أبو عمرو : وهي ريح السّموم ، وقال يزيد بن القحيف : البارح : شدّة الرّيح في الحرّ ، وقال مرار في صحة ما قالوا شعرا :

تراها تدور لغيرانها

ويهمجها بارح ذو عما

يهمجها : يرمي بها في كنسها ، وهي غيرانها ، وجعلها ذا عماء لعرئه والعماء أصله في السّحاب ، وقال الأخطل شعرا :

١٦١

شرقن إذ عصر العيدان بارحها

وأيبست عن مجرى السّنة الخضر

يقول : جفّ كلّ شيء أخضر فلم يبق إلّا من درع يسقى. والسّنة سنة الحراث ، ومجرى السّنة الحرث ، وقال بعضهم : قيل له بارح : لأنه يبرح بالتّراب أي يذهب به ، وقيل أيضا : البارح البين ، كما يقال برح الخفاء إذا بان بما كان يخفى. ويجوز أن يكون من البرح ، وهو الشّدة لما كان ينسب البرد والأمطار والسّموم والحرور إلى نوئه معه. ومنه البرح وبرحين وبنات برح وبنت برح. وقال أبو زيد : إذا هبّت الجنوب بعد دوام الشّمال في ذلك فرسخ أي راحة وفرجة. والرياح أربع بإجماع من الأمم. وإنّما اختلفت باختلاف مهابّها في أقطار الأرض الأربعة ، وهي : مطلع الاستواء ـ ومغربه ـ وجهة القطب الجنوبي ـ وجهة القطب الشمالي ، فالتي تهبّ من مغرب الاستواء هي الغربية وتسمّى الدّبور ، وهي التي سمّاها الله عقيما.

وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصّبا وأهلكت العاد بالدّبور» والتي تهبّ من جهة القطب الجنوبي هي الجنوب وتسمّى الأزيب. والنّعامي وهي تهبّ من جهة القطب الشّمالي وتسمى الشّمال ، وهي الجريباء ، ومحوة لأنّها تبدّد السّحاب وتمحوه ، ونسعا ومسعا وهي الشّامية.

وقال ابن الأعرابي : مهبّ الجنوب من مطلع سهيل إلى مطلع الثّريا ، ومهبّ الصّبا من مطلع الثّريا إلى بنات نعش ، ومهب الشّمال من بنات نعش إلى مسقط النّسر الطائر ، ومهبّ الدّبور من مسقط النّسر الطائر إلى مطلع سهيل ، والجنوب والدّبور لهما هيف وهو الرّياح الحارة الصّيفية ، والصّبا والشّمال لا هيف لهما. والعرب تجعل أبواب بيوتها حذاء الصّبا ومطلع الشّمس.

وقال الأصمعي : ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر وما بإزائها ممّا يستقبلها شمال وما جاء من وراء بيت الله الحرام ، دبور ، وما كان قبالة ذلك فهو صبأ وقال غير الأصمعي وابن الأعرابي : الجنوب التي تهبّ عن يمين القبلة شتاء والصّبا بإزائها ، وقالوا كلّهم كلّ ريح تهبّ بين مهبي ريحين فهي نكباء ، لتنكّبها عن المهاب المعروفة ، والجمع نكب ، وتميل في طبعها إلى الرّيح التي في مهبها أقرب إليها.

وقال أبو زيد : النّكباء التي لا يختلف فيها : هي التي بين الصّبا والشّمال والنّكباء ذات ثمان ، لأنّ بين كلّ ريح وأختها ريحين ، وكلّ واحدة إلى جنب صاحبتها وهبوبها في أيام الشّتاء أكثر ، ومن رياح الشّتاء الحرجف والبليل ، ومن رياح الصّيف الهيف والسّموم والحرور ، فإن هبّت ليلا في ابتداء الرّبيع فهي الخاسة. وسيجيء القول في أجناس الرّياح مستقصى في موضعه ، واللّواقح تهبّ في الربيع لا غير ، وهي الجنوب ، والصّبا والشّمال وتسمّى المستثابات ، ومعناه المستنقعات من الثّواب ، ويجوز أن يكون المسئولات النؤب

١٦٢

أي الرّجوع. وروى ابن الأعرابي أنه قلّ ما تهبّ الشّمال إلا وإذا جاء اللّيل ضعفت أو سقطت ولذلك قالوا في أحاديثهم : إنّ الجنوب قالت للشّمال إنّ لي عليك فضلا أنا أسري وأنت لا تسرين ، فقالت الشّمال : إنّ الحرة لا تسري باللّيل وهذا كما ترى.

وقال أبو زيد : إنّ أكثر هبوب الشّمال باللّيل ، وأنه قلّما ينتفج من الرّياح باللّيل إلا الشّمال ، وربما انتفجت على النّاس بعد نومهم ، فتكاد تهلكهم بالقرّ من آخر ليلهم وقد كان أوّل ليلهم دفيئا ، وهذا الخلاف فيما أتين لاختلاف البقاع ، وتفاوت الأزمان والله أعلم. وأنشد الأصمعي يصف النّساء :

تصيّفن حتّى أوجف البارح السّفا

ونشّت جراميد اللّوا والمصانع

فالمصانع وإيجاف البارح السّفا : مرّ به على وجه الأرض ، وهو من الوجيف وهو السّرعة ، والسّفا ما تساقط من يبيس البقل ، وقال أيضا :

ألفن اللّوى حتّى إذا البروق ارتمى

به بارح راح من الصّيف شامس

والبروق من دفيء النّبت ، وفي المثل : أشكر من البروق ، لأنّه ينبت بالغيم والرّاح الشّديد من الرّيح ، ويشبه هذا قوله :

أقمن على بوارح كلّ نجم

وطيّرت العواصف بالتّمام

والبارح مذكّر ، وإن كانت الرّيح مؤنّثة.

قال أبو حنيفة : قد حكى بعضهم أنّ العرب كانت تقول لا بدّ لنوء كل كوكب من أن يكون فيه مطر أو ريح أو غيم أو حر ـ أو برد ـ ثم كانوا ينسبون ما كان فيه إليه ، والأعمّ الأشهر أنّ الأمطار مقصور ذكرها على الأنواء خاصة. فما يكاد يسمع بشيء منها منسوبا إلى طلوع ولا يحفظ ، وأما البوارح فأكثر الأمر فيها أن ينسب إلى طلوع نجوم الحرّ خاصة لأنها رياح الصّيف ، وربّما نسب شيء منها إلى النّوء وذلك قليل.

وقال ذو الرمة :

حدا بارح الجوزاء أعراف موره

بها وعجاج العقرب المتناوح

الأعراف : الأوائل ، المور : الغبار وأراد بعجاج العقرب : عجاج بارح العقرب كقوله : شفّها هبوب الثّريا والتزام التنائف ، أراد هبوب بارح الثّريا فهذا ذكر البوارح.

١٦٣

فصل

في المراقبة والمطالعة

واعلم أنّ لكلّ برج ومنزل رقيبا من المنازل والبروج ، فرقيب كلّ برج البرج السّابع ، ورقيب كلّ منزل المنزل الخامس عشر ، ومعنى الرّقيب الذي في غروبه طلوع الآخر ، وهو مأخوذ من المراقبة ، لأنه يراقب بالطلوع غروب صاحبه. قال شعرا :

أحقّا عباد الله أن لست لاقيا

بثينة أو تلقى الثّريّا رقيبها؟!

والمعنى لست لاقيها أبدا ، لأنّ هذا لا يكون أبدا ، وكيف يلقيان وأحدهما إذا كان في المغرب كان الآخر في المشرق؟ وقال :

قدورهم تغلي أمام قبابهم

إذا ما الثّريا غاب قصرا رقيبها

فمراقبة الأبراج للأبراج والمنازل للمنازل ، على ما ذكرناه ، ومن هذه البروج ما يشاكل اسمه صورته كالعقرب والحوت ، ومنها ما لا يشاكل اسمه صورته ، والبروج الاثنا عشر سمّي بعضها بأسماء. فالحمل يسمّى : الكبش ، والجوزاء : التّوأمين ، والسّنبلة : العذراء ، والعقرب : الصّورة ، والقوس : الرّامي ، والحوت : السّمكة. ويسمّى أيضا الرّشاء ، ولكلّ برج منزلان وثلاثة من منازل القمر ، حتّى يستوفيها. فالحمل رقيبه الميزان ، والثّور رقيبه العقرب ، والجوزاء رقيبه القوس ، والسّرطان رقيبه الجدي ، والأسد رقيبه الدّلو ، والسّنبلة رقيبه الحوت.

والمطالعة هو أن يطلع نجمان معا ، أو متقاربين ، ولا يكون ذلك في نجوم الآخذ ولا يطلع نجمان منها معا ، ولكن يكون في غيرها ، وفيها مع غيرها وذلك كمطالعة الثريا بالعيّوق ولذلك يقول شاعرهم :

فإن صديا والمدامة ما مشى

لكالنّجم والعيّوق ما طلعا معا

ومطالعة الشّعرى الغميصاء الشّعرى العبور ، ومطالعة الأعزل للرّامح ، ومطالعة النّسر الطّائر للعنا ، ومطالعة الجبهة سهيلا ، فإن كلّ نجم إذا طلع معه الآخر أو قريبا.

وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى :

وصاحب المقدار والرّديف

أفنى الوفا بعد ألوف

الرّديف النّجم الذي إذا نأى من المشرق انغمس رقيبه في المغرب ، وإنما يعني أن تعاقب النّجوم على مرّ الدّهور ولا يبقى أحد.

١٦٤

الباب العاشر

في ذكر الأعياد والأشهر الحرم والأيام المعلومات ، والأيام المعدودات

والصلاة الوسطى

حكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال : سألت أعرابيّا فصيحا فقلت : ما الأشهر الحرم؟ فقال : ثلاثة سرد ، واحد فرد. قال ثعلب : فالسّرد المتتابعة وهو ذو القعدة ـ وذو الحجة ـ والمحرّم ـ والفرد : رجب. وهذا قول ابن عباس ويكون من سنتين ، وقال غير ابن عباس : هي من سنة واحدة فعددها المحرّم وهو أوّلها ـ والثّاني : رجب ـ والثّالث : ذو القعدة ـ والرّابع : ذو الحجّة. واحتج هذا بأنه قال تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٦] يعني من الاثني عشر ، فجعلها من سنة واحدة.

قال ثعلب : والاختيار عندي قول ابن عبّاس وهو كلام العرب ، وإن كان لفظها من سنتين فهي تعود إلى الاثني عشر إلى سنة واحدة ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت العمرة في الحج» أي في أشهر الحج ولم تكن العرب تعرف العمرة في أشهر الحج ، بل كانت العمرة فيها عندهم من أفجر الفجور ، وكانوا يقولون : إذا انسلخ صفر ، ونبت الوبر ، وعفا الأثر ، وبرأ الدّبر ، حلّت العمرة لمن اعتمر. فلمّا اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أشهر الحج دخلت العمرة في الحج ، أي في أشهرها ، وروى سفيان بن عيينة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب لآل حزم : «إنّ العمرة الحج الأصغر» ، فدلّ كلامه على أن ثمّ أكبر.

وروي عن عطاء أنه قال : من اعتمر ثم مات ولم يحج أجزأت عنه حجة الإسلام ، يذهب إلى قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٧] وروي عن عليّ كرّم الله وجهه : الحجّ الأكبر يوم النّحر ، محتجّا بقوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [سورة التوبة ، الآية : ٢] وهي عشرون من ذي الحجّة ـ والمحرّم ـ وصفر ـ وشهر ربيع الأوّل ـ وعشر من ربيع الآخر ـ قال : فلو كان يوم عرفة لكان أربعة أشهر ويوما ، وكان ابن عباس يقول : الحج الأكبر يوم عرفة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خرج مهلّا بالحج ويقول

١٦٥

بعضهم : خرج لعمرة ، وقال بعضهم ؛ خرج قارنا وإنما خرج ينتظر أمر الله ، وعلم الله أنّها حجة لا يحج بعدها فجمع ذلك كلّه له في شهر واحد ، ليكون جميع ذلك سنّة لأمّته ، فلمّا طاف بالبيت ثم رأى أن يجعلها عمرة ، وحبس من كان معه على هدي ، لقوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٦] فجمعت له العمرة والحج.

وقد قال قوم : إنّ الأربعة الحرم هي التي أجّلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمشركين فقال : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [سورة التوبة ، الآية : ٢] وهي شوّال ـ وذو القعدة ـ وذو الحجّة ـ والمحرّم. ثم قال : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [سورة التوبة ، الآية : ٥] وقال : إنّ الأربعة التي جعلت حلّا من عشر ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر ، وجعلها حرما ، كما قال : مكّة حرم إبراهيم ، والمدينة حرمي. وروي أيضا أنه حرم ما بين لابتي المدينة يعني حرّتيها ، وفي آخر حرم ما بين عير إلى ور وهما جبلان. فأما قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٧] فإنه يريد أوقات الحجّ أشهر ، أو أشهر الحجّ أشهر. وهذا خطاب يدلّ على معرفة العرب بشهور معلومة كانوا فيها يحجّون ، فأقرّ الله أمرها في الإسلام على ما كانت عليه ودعا إلى إقامة الحجّ فيها.

واعلم أنها أوقات الحجّ دون غيرها ، وأنّ من فرض على نفسه فيها الحجّ فمن السنة أن يترك الرّفث والفسوق والجدال ، ومعنى فرض الرّجل على نفسه الحج إهلاله به ، والإهلال التّلبية ، وأصله رفع الصوت. وروي عن الشّعبي وابن عمر أنّها شوّال ـ وذو القعدة ـ وذو الحجة ـ وقال بعضهم : له من ذي الحجّة عشر ليال ، فكأنّه جعل الشّهرين وبعض الثّالث أشهرا ، وهذا في القياس قريب لأنّه كما جاز أن يسمى الشّهر ذا الحجّة ، وإن كانت الحجّة في بعض أيّامه ، كذلك يجوز أن يسمّى شهر الحجّ ، وإن لم يكن جميع أيّامه مصروفا إليه.

وحكي عن ابن عبّاس أنه قال : الأيام المعدودات أيام التّشريق ، والأيّام المعلومات الأيام العشرة من أوّل ذي الحجّة. وقال عطاء : الأيام المعدودات أيام منى ويوم التّروية ، سمّي بذلك لأنّهم كانوا يتروّون من الماء ، ويتزوّدونه معهم ، ويوم عرفة لا يدخله الألف واللام ، وإنّما سمّي عرفة وعرفات ، لأنّ من حضرها كانوا يتعارفون بها. وقال بعضهم : بل لأنّ جبرائيل عليه‌السلام طاف بإبراهيم صلوات الله عليه يديره على المشاهد ، ويوقفه عليها ، ويقول له : حالا بعد حال عرفت عرفت ، والعروف الحدود ، والواحد عرفة. وقيل : سمّيت عرفة بذلك كأنّه عرف حدّه لتميزه عن غيره من الأرضين ، ولكونه معرفة امتنع من دخول الألف واللّام عليه. وحكي ؛ طار القطا عرفا عرفا ، بعضها خلف بعض.

وأمّا الأعراف : فكل موضع مرتفع عند العرب ومنه قوله تعالى : (وَعَلَى الْأَعْرافِ

١٦٦

رِجالٌ) [سورة الأعراف ، الآية : ٤٦] ، ولا يمتنع أن يكون عرفة وعرفات مشتقا من جميع ذلك والتّعريف : الوقوف بعرفات ، وتعظيم يوم عرفة إن نصب الضالة فتنادي عليه وإن سمّيت رجلا بعرفات صرفته ، ولم يكن التاء فيه كالتاء من عرفة لو سمّيت بها ، وذلك أنّ التاء من عرفات بإزاء النّون في المسلمين ، إذ كان هذا الجمع من المؤنث بإزاء جمع المذكّر الصّحيح ، ولذلك لمّا كان ذاك في موضع النّصب والجر بالياء ، جعل هذا في موضع النّصب والجر بالكسرة ، لأنّ الكسرة أخت الياء ، فلمّا كان الأمر على ذلك لم يكن كالتّاء التي يبدل منها في الوقف هاء كالتي في طلحة وعزّة ، وكان يمتنع الصّرف في المعرفة. وفي القرآن : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٨] فصرفه وإن كان معرفة.

ومشاعر الحجّ واحدها مشعر وهو في موضع المنسك ، وكذلك الشّعيرة من شعائر الحجّ ، وهي علاماته وأفعاله المختصة به ، كالسّعي والطّواف والحلق والذّبح ، وكلّ ذلك يجوز أن يكون من شعرت ، وليت شعري ، فيرجع إلى العلم كما أنّ عرفة وعرفات في تصاريفه يرجع إلى المعرفة ، وفي القرآن : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [سورة الحج ، الآية : ٣٦] وقال الخليل : يقال : أشعرت هذه البدنة لله نسكا أي : جعلتها شعيرة تهدى ، قال : وقال بعضهم : إشعارها أن يوجأ سنامها بسكّين فيسيل الدّم على جنبها فيعلم أنّها هدي. أو يعلّم بعلامة تشدّ في سنامها. وكره قوم من الفقهاء تدميتها ، وقالوا : إذا قلّدت فقد أشعرت.

وقوله تعالى : (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) [سورة التوبة ، الآية : ٣] قيل : هو يوم النّحر ، وقيل : هو يوم عرفة وكانوا يسمّون العمرة : الحج الأصغر.

ويوم النّحر : سمّي به لأنّهم كانوا ينحرون البدن.

ويوم القر : بعده ، وهو الذي يسميه العامة يوم الرّءوس ، وسمّي بذلك لأنّ الناس يستقرون فيه بمنى لا يبرحونها.

ويوم النفر : سمّي به لأنّ النّاس ينفرون فيه متعجلين.

ويقال : عيد الفطر ، وعيد الإفطار ، وعيد الضّحى والعيد أصله من عاد يعود لعوده كلّ سنة ، لكن واوه انقلبت ياء لانكسار ما قبلها ، ثم جعل البدل لازما حتى كأنّه اسم وضع لليوم ، لا مناسبة بينه وبين المشتق منه ، وهم يفعلون مثل هذا إذا أرادوا التّخصيص ، لذلك قيل في تصغيره : عييد ، وفي جمعه : أعياد ولم يجر مجرى قوله : ريح ورويحة وأرواح ،

١٦٧

ومما يشبه هذا قوله : يا دارميّة بالعلياء فالسّند هو من العلو ، فقلب الواو ياء ، وقوله : فما أمّ خشف بالعلاية مشدن. مثله وليس قبل واحد منهما ما يوجب القلب ، لكنهم يفعلون ذلك كثيرا في الأعلام وما يجري مجراها ، وقد قالوا : الشكاية وحبيت الخراج حباوة ونحو منها ، ما حكاه سيبويه من القواية قال عمرو بن براقة :

ومال بأصحاب الكرى عالياتها

فإنّي على أمر القواية حازم

وهو فعالة من القوة ، وأصلها قواوة وكأنّه كره اكتناف الواوين للألف.

والأضحى ، إذا ذكّر : يراد به اليوم ، وإذا أنّث أريد به السّاعة ، والتأنيث أجود. ويقال : دنت الأضحى ، وقيل : سمّيت الأضحية لأنها تذبح ضحوة.

والفطر : من فطرت النّاقة إذا حلبتها فانفتحت رءوس أخلافها لأنّ الأفواه تنفتح بالأكل والشّرب ، ويقال : أضحاة وأضحى وضحية وضحايا والأضحى يذكّر ويؤنّث ، فمن ذكّر ذهب إلى اليوم ، وأنشد الأصمعي :

رأيتكم بني الحدواء لمّا

دنا الأضحى وصلّلت اللّحام

وأنشد الثوريّ في تأنيثه :

قد جاءت الأضحى وما لي فلس

وقد خشيت أن تسيل النّفس

وقال هشام بن معاوية : حكى الأصمعيّ : أضحاة وسمّي الأضحى بجمع أضحاة فأنّث لهذا المعنى وجاء في الحديث : «على كلّ مسلم عتيرة وأضحاة». وقال هشام : التأنيث في الأضحى أكثر من التّذكير ، وجمع الأضحية أضاحي ، وجمع الضّحية ضحايا.

وأيّام التّشريق سمّيت بذلك لأن لحوم الأضاحي تشرق للشّمس ، وقيل : بل سمّيت بذلك لقولهم : أشرق ثبير كيما نغير ، وقال ابن الأعرابي : سميت بذلك لأنّ الهدي لا ينحر حتى تشرق الشّمس.

وقال أحمد بن يحيى : أنا أذهب إلى أنّ الأيام المعلومات في الأيام المعدودات لأنه جاء في كتاب الله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [سورة الحج ، الآية : ٢٨] فدلّ على أنّها أيام نحر.

ويوم عاشوراء في المحرّم ، ويقول الفقهاء : يوم عاشوراء التّاسع من المحرم ، وحكى بعضهم أنّه سئل النّضر بن شميل عن التّشريق ، فقال : هو من قولهم أشرق ثبير : أي لتطلع الشّمس ، وقيل : أيام التّشريق : لأنّهم يشرقون اللّحم ، قال : فقلت له : إنّ وكيعا حدّثنا عن

١٦٨

شعبة عن سيار عن الشّعبي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ذبح إلّا بعد التّشريق» فقال وكيع : التّشريق الصلاة ، قال : هذا حسن. قال النّضر : وقد جاء في الحديث : «لا جمعة ولا تشريق إلّا في مصر جامع» ، والتّفسير موافق للحديث ، فأما قول أبي ذؤيب بصفا المشرّق كلّ يوم يقرع. فقد حكى عن أبي عمرو الشّيباني أنّه أنشد بصفا المشقّر فأنكره ، وقال : المشقّر حصن بالبحرين ، والصّفا موضع ، فما لأبي ذؤيب والبحرين ، إنّما هو المشرّق ، وكان ابن الأعرابي يرويه المشقّر ، وحكي عن الأصمعي أنّه أنشد كلّ يوم ، فقال الله أكرم من ذاك هو : كلّ حين. ذهب الأصمعيّ إلى أنّ الحج يقال : كلّ سنة لا كلّ يوم ، والحين يقع في كلامهم على المدة الطويلة والسّنين الكثيرة. وقال الأصمعي : المشرّق المصلّى ، ومسجد الخيف هو المشرّق. وقال شعبة بن الحجّاج : خرجت أقود سماك بن حرب في يوم عيد ، فقال : امض بنا إلى المشرّق يعني المصلّى. وقيل : يعني مسجد العيدين ، وقال أبو عبيدة : المشرّق سوق الطائف ، وقال الباهلي : جبل البرام.

بيان الصلاة الوسطى :

فأما الصلاة الوسطى : فقد اختلفوا فيها : فروي عن عليّ كرّم الله وجهه أنّه الفجر ، وقال غيره : هي العصر ، وقد جاء القرآن في توكيد أمر الفجر بما يصحح قول عليّ فيه ، قال تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٨] وكلتا الصّلاتين متوسطة لسائر الصّلوات ، فإذا جعلت صلاة الفجر الوسطى فهي بين صلوات اللّيل والنهار والنّهار : الظّهر والعصر ، واللّيل العشاء أن الأولى والآخرة. وإذا جعلت العصر هي الوسطى : فهي متوسّطة بين الفجر والظّهر من صلاة النّهار. والعشاءين الأولى والآخرة من صلوات اللّيل ، وقوله تعالى : (الصَّلاةِ الْوُسْطى) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٨] مؤكد للدلالة على أنّ الصلوات المفروضات خمس ، لا زيادة فيها ، ويزيل التّأويل فيما ذهب إليه بعض المتفقهة من فرض الوتر ، بالخبر المرويّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله زادكم صلاة وهي الوتر» وقد يزيد الله النّاس مما يدعوهم إليه من أعمال البر مما هو فضيلة لفاعله ، ونافلة للمتقرّب به ولا يكون في قوله : «زادكم صلاة» ما يوجب الفرض ، ولو كان الوتر فريضة لكانت عدة الصلاة المفروضات ستا ، والسّتّ لا أوسط لها ، ولا وسطى ، وإنّما الوسط للإفراد ، لأنّها تكون منها واسطة وحاشيتان متساويتان ، كالخمس فإنّها اثنان في أحد الطّرفين ، واثنان في الآخر ، وواحد في الوسط ، ويجوز أنّ يكون معنى الوسطى : العظمى والكبرى ، يراد بذلك فضل محلّها ، وزيادة ثوابها والله أعلم أيّ الوجهين هو المراد. وقوله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٤] يقول : حرمة الشّهر تجب على الفريقين في الكفّ عن

١٦٩

القتال لكنّ الكافر إذا اعتدى ، فليس على المؤمن أن يقبض يده ، ويلقي بها إلى التّهلكة ، بل إذا قوتلوا في الأشهر الحرم كان مطلقا لهم ، ومفروضا عليهم قتالهم فيها.

وقوله تعالى : (الْحُرُماتُ قِصاصٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٤] معنى القصاص : أن تفعل بصاحبك مثل الذي هو فعل بك ، فإذا قاتلت الكافر في الشّهر الحرام كما قاتلك فقد قاصعته وفعلت مثل فعله ، وقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٤] معناه : جازوه جزاء الاعتداء ، فسمّى الجزاء باسم الاعتداء ، طلبا للمطابقة في اللّفظ ، وإيذانا بأنّ الثّاني كالفرض المؤدّى ، فالمواصلة فيه مرعية.

فصل

حكى الأصمعيّ أنّ العرب ربما تذكر اسما تعلّق الأحداث بها فيخرجونها مخرج الصّفات والأفعال منسوبة ، ولشهرتها وظهور الفرض منها استجيز معها ما لم يستجز في غيرها ، ولا يتقايس ، فمن ذلك : لا آتيك مغرى الغرر ، أي حتى يجتمع وذلك لا يكون أبدا ولا آتيك أبي هبيرة ، قال : وأبو هبيرة هو سعد بن زيد مناة بن تميم ، ولا آتيك هبيرة بن سعد ، ولا آتيك القارظة الغزى ، وقولهم : زمن الفطحل : أي حين كانت الحجارة رطبة قال :

لو أنني عمّرت عمر الحسل

أو عمر نوح زمن الفطحل

كنت رهين هرم أو قتل جعل الموت حتف الأنف والقتل سواء ، أو عام الفتق قال رؤبة : لم ترج رسلا بعد أعوام الفتق ، يشيرون بذلك إلى زمن الخصب والخير كأنّ جلود الأكلة والرّاعية لسمنها فتقت فتقا ، وكأنّ ظواهر الأرض وبطنانها فتقت بالنّبات ، ويقال : آتيه قيظ عام أوّل ، وما تركت من أبيه مغدا ولا مراحا ولا مغداة ولا مراحة ، يعني من الشّبه به ، وبعضهم يقول : ولا رواحا ولا رواحة ولا أكلّمك آخر المنون ، وأخرى المنون ، ولا أكلمه آخر ما خلقي ، يريد آخر عمري أي ما بقيت.

وقال يعقوب : يقال : آخري ما خلقي ، ومنهنّ أزمان الجنان ، وهذا يشيرون به إلى الشر والآفات وأنشد :

فمن يك سائلا عنّي فإنّي

من الفتيان أعوام الخنان

يقال : خنّ الرجل وهو مخنون : إذا ضاقت خياشيمه حتى يجيء كلامه غليظا لا يكاد يفهم ، وقال جرير : وأكوي النّاظرين من الخنان ، والخنان داء يعتري العين ، وقال الخليل : الخنان في الإبل كالزّكام في النّاس ، وقال الدّريدي : زمن الخنان معروف ، ولم أسمع من

١٧٠

علمائنا تفسير أو ذكر بعضهم أنّه يضرب بالخنان المثل في البلاء والشّدة ، لأنّ البعير إذا خنّ كوي ناظراه ، وهما عرقان. قال :

قليلة لحم النّاظرين يزينها

شباب ومخفوض من العيش بارد

يصف امرأة وعلى هذا تفسير بيت جرير : وأكوي النّاظرين من الخنان : أي من داء الكبر ، ويكون كقوله : يداوي به الصّاد الذي في النّواظر.

وذكر بعضهم : خنّ في الأكل : أسرف ، ونحن في خنان من العيش ، وسنة مخنة أي مخصبة ، وقد أخنت ، وعشب أخنّ أي ملتف. قال الشيخ : وهذا الذي فسّرناه أخيرا يصلح أن يصرف زمن الخنان إلى الخير والسّعة أيضا ، إلا أنّ ما أنشده الأصمعيّ ورواه يدل على خلافه ، وذكر بعضهم أنّ الخنان أصله أنّ رجلا من العرب غزا قوما في الجاهلية ، فلما فرّق الغارة فيهم قال : خنوهم بالسّيوف ، فشهر يومه بزمن الخنان ، وفسّر خنوهم ، على نذودهم.

واعلم أنّ القبائل مختلفة ولم أذكرها لقلّة فوائدها ، وإن كان قطرب وغيره دوّنوها في كتبهم في الأزمنة وأسماء آلهتهم كيغوث ومناة ويعوق ونسر وهبل وما أشبهها ، وذكر مطافهم ودورهم وما يتعلق بأيّامهم وأعيادهم وأسواقهم تجاوزتها لأنّ ما نعيد منها لا تحلّ به في موضعه من الكتاب وتطويل الكلام بما ليس من الموضوع في الأصل مرفوض في مصنّفاتنا.

١٧١

الباب الحادي عشر

في ذكر ـ سحر ـ وغدوة ـ وبكرة ـ وما أشبهها والحين والقرن

والآن وأيّان وأوان والحقبة والكلام في إذ وإذا وهما للزّمان وما أشبهها

قال أبو العباس محمد بن يزيد : اعلم أنّ المعرفة إذا أخبر عنها بنكرة فإنها توجب فيها مثل ما يكون لها لو كانت معرفة بنفسها ، وكذلك النكرة إذا أسند إليها معرفة ، والذي جعلها على هذا كونها خبرا عن معرفة ، ولو انفردت عنها لم يكن كذلك ، يقول : زيد منطلق فالعلم أنّ المنطلق هو زيد جعله مختصا كزيد ، ولو انفرد لكان شائعا ، وعلى هذا ما يقرب من النّكرات بالصّفات وما يجري مجراها كقولك كان عند رجل من آل فلان ، وويل لزيد ، لذلك يستفاد منه ما يستفاد من المعارف ، أو تقاربه ، فعلى هذا ما سمعنا بقول : سير عليه عشية أو غدوة أو ضحوة وكلّ ذلك نكرة لا يكون واحد من أمته أولى به من الآخر ، ولا يوم من الأيام أحقّ بتعلّقه به.

فإذا قلت : سير عليه يوم الجمعة عشية ، أو ليلة الجمعة عتمة ، وأنت تريد ذلك من يومك وليلتك ، لم يكن عشية ولا عتمة وما كان مثلهما إلا نكرات في الأصل ولوصفك إيّاهنّ موضع المعرفة ضعفن وامتنعن الصّرف ، فلم تكن إلّا ظروفا منصوبة بوقوع الفعل عليها ، ولم يقمن مقام الفاعل ، كما كان يجوز فيهنّ إذا قلت : سير عليه عشية من العشيّات ، وضحوة من الضّحوات ، لأن الظّروف إذا قوين في أبوابهنّ فعلن مفعولات على السّعة ، وأقمن مقام الفاعل ، ووضعن موضع الخبر مرفوعات ، كقوله تعالى : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) [سورة طه ، الآية : ٥٩] وكقولهم : أقمنا ثلاثا لا أذوقهنّ طعاما ولا شرابا ، وسير به يوم الجمعة ، وكقول لبيد شعرا :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها

فعلى هذا يدور أمرهنّ ، وإذا هنّ نكرات ، أو كنّ معارف بأنفسهنّ فأما إذا وضعن وهنّ نكرات في موضع المعارف ، فقد أزلن عن بابهن وعرفهنّ غيرهنّ فلم يجز أن يخرجن من

١٧٢

الظروف إلى غيرها إذ كنّ قد أزلن عن أصولها فإذا قلت : آتيك ضحوة يومك وعشاءه ، لم يكن سبيله سبيل ما هو عام فيما وضع له ، فلا يحصل به اختصاص ، بل هو موضوع موضع الضّحوة بالعرف ، فصار يجري مجرى المعهود للمخاطب ، أو المضاف نحو قولك : ضحوة يومي وإذ كان كذلك بان الفرق بين الموضعين ، لأنّ حكم اسم الجنس أن يكون شائعا في الأصل.

ثم يحصل التّعريف فيه بوجه من الوجوه المعروفة وقولهم : عتمة مصدر مثل الغلبة ومعناه الإبطاء والتأخّر قال :

يذكّرني ابني السّماكان موهنا

إذا طلعا خلف النّجوم العواتم

إلا أنّه يستعمل ظرفا كما استعمل غيره من المصادر ظرفا ، كخفوق النّجم ، وخلافة فلان ، وغير ظرف أيضا يقول : سير عليه عتمة فينتصب انتصاب اليوم والليلة ويجوز أن يسند إليه الفعل ، فيقال : سير عليه عتمة من العتمات ، فيدخل الألف واللام وقد يلزم الظرفية فلا ينتقل وذلك إذا أردت به عتمة ليلة ، هذا مذهب سيبويه وكان الأخفش يقول : ضحوة وعتمة إذا كان في يومك لرفعهما أيضا ، حتى أخذ العرب تمنع منه.

فأما غدوة فإنّه اسم مشتقّ من قولك : غداة ، فلقّب به الوقت ، فصار علما له كما وضع زيد علما للرجل ، فلذلك منع الصّرف ، إذا قلت سيّرته غدوة ، لأنه معرفة ، وجاز فيه ما جاز في يوم الجمعة وأشباهه ، لأنّه معرف من جهة التّعريف ، يقول : سير بزيد غدوة وإن شئت نصبت على أصل الظّرف ، ويكره فيها مثل ذلك إذا حملتها على غدوة ، لأنّ المعنى واحد ، وإن أردت أن تجعلها كعشية وضحوة ، فجيّد ، وإنّما جعلوها معرفة تشبيها بما كان في معناها وهي غدوة ، لأنّها غيّرت بالتّعريف كما غيّرت غدوة وامتنعت من الألف واللام ، ونظير جعلهم نكرة بمنزلة غدوة ، إذ كانت في معناها رفع الاسم ونصبهم بها الخبر وإجراءها مجرى ليس ، إذ كانت في معنى ليس وإن ثبت تركها غير مشبهة فرفعت ما بعدها ، وكذلك قولك : ودع يدع إنمّا كان الكسر نحو يعد ويزن ، ولكن تعيّن فتحها وأجريت يذر مجراها لأنّها في معناها ولأنّ الفتحة أخفّ ولهذه نظائر.

فإن قلت : قد قرأ أبو رجاء المطاردي بالغدوة والعشي ، فجعلها شائعة كما تقول : جاءني زيد وزيد ، تريد جماعة اسم كلّ واحد منهم ، فيقول المجيب : ومن الزّيد الأوّل والزّيد الآخر. وهذا الزّيد أشرف من ذاك الزّيد ، وعلى ذلك كانت تثنية المعرفة وجمعها إذا كانت غير مضافة يخرجها إلى النّكرة ، لأنّ كلّ واحد يصير مرامه لكلّ واحد منها مثل اسمه ، وتضيف زيدا وما أشبهه كما تضيف النّكرة لأنّه يصير معرفة بما أضيف إليه ، كما قال الشّاعر :

١٧٣

علا زيدنا يوم النّقا رأس زيدكم

بأبيض من ظامي الحد يديمان

فإن تقتلوا زيدا بزيد فإنّما

أقادكم السّلطان بعد زمان

وأمّا قوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٦٢] فإنّ ذلك نكرة ليس يريد كل بكرة وكلّ عشية ، وإنّما تأويله والله أعلم : أنّ الجنة لا ليل فيها يفضي إلى نهار ، ولا نهار يتّصل بليل ، ولا شمس ، ولا قمر إنّما هو في مثل مقادير العادة في الدّنيا.

وعلى هذا جاء الحديث : «نهار الجنة سجسج» : إنّما المعنى أنه أبدا كالنّهار وقوله : سجسج أي معتدل لا برد فيه ولا حرّ. فإن قلت : كيف جاز أن يصير ما حكمه أن يكون شائعا فيما يصلح له مختصا ببعضه ، حتّى زعمت في هذه الأسماء ما زعمت. قلت : ذلك لا يمتنع في عادتهم وطرقهم ، ألا ترى أنّ قولهم : ابن عباس يختصّ بعبد الله حتى لا يعلم منه غيره ، وإن للعباس أولادا دون عبد الله ، وكذلك قولهم : ابن الزبير اختصّ به عبد الله فيما استمرّ من العادة.

فأما سحر : فإنّك تقول : سير عليه سحر ، فلا ينصرف ولا يتصرّف إذا أردت سحر يومك ، ومعنى لا يتصرّف لا يتمكّن تمكن أسماء الأزمان في أبوابها. ومعنى لا ينصرف : لا يدخله الجر والتنوين. فإن أردت سحرا من الأسحار وهو في موضعه نكرة ، فلا مانع له من الصّرف والتمكّن ، ونقول : إنّ سحرا جزء من آخر اللّيل ، وفي سحر وقع الأمر. وقال الله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) [سورة القمر ، الآية : ٣٤] وعلى هذا إن أدخلت الألف واللّام تقول : سير به السّحر المعروف ، وإنما منع الصّرف حين قلت : آتيك سحر ، وأنتظر سحر لأنه معدول عمّا فيه الألف واللّام.

وكان شيخنا أبو علي الفارسي يختار أن يقال : إنّه معدول عن أحوال نظائره ألا ترى أنّ أخواته إذا عرفت جاءت بالألف واللّام فهو جار مجرى أخر ، وجمع في العدل وإن كان أخر نكرة وسحر وجمع معرفتان ، وقد بيّنا الكلام فيه فيما يجري ولا يجري ، وإنّما لم ينصرف لأنه بلفظ النّكرة موضوع موضع المعارف من غير أن جعل علما ، فهو مناسب لضحوة وعتمة إذا جعلا من يومك الذي أنت فيه.

قال أبو علي الفارسي : دخول الألف واللّام في عتمة إذا أردت عتمة ليلة لا أعلمه استعملت الكلمة بهما. وسيبويه لم يذكره ولا يجوز حمله على ضحوة وغدوة وبكرة قياسا كما يقوله الأخفش ، فيرفع وينصب. قال : ويقوّي ما ذهب إليه سيبويه من أنّ عتمة لا يستعمل إلا ظرفا إذا أردت به عتمة ليلتك ، أنّ ما أشبهها من الظّروف لم يستعمل إلا ظروفا. فمن ذلك : سير عليه ضحى وصباحا ومساء وعشية وعشاء ، إذا أردت بجميعها ما ليومك وليلتك ، وكذلك سير عليه ليلا ونهارا ، أشبه بالمصادر وقد جعلت ظروفا.

١٧٤

فإن قيل : إنّ ضحى إذا أريد به ضحى يومه مثل عتمة ، وقد دخله لام التّعريف في قوله : أبصرته في الضّحى يرمي الصّعيد به.

وفي قوله : نؤوم الضّحى قلت : إنّ هذا قد خرج من أن يكون ظرفا لمكان الإضافة إليه ، ودخول حرف الجر عليه فاعلمه ، فإن قيل : لم خصّ بعض أسماء أوائل النّهار بأن جعل علما وبعضها بأن جعل معدولا من دون أسماء أجزائه الباقية؟ قلت : لمّا كانت المواعد والحاجات استمرّت العادة في أنّها أكثر ما تعلق تعلق بأوائل النّهار دون أوساطه وأواخره. وكثر الاستعمال فيها لذلك استجيز فيها ما لم يستجز في غيرها من التّغيرات ، يشهد لهذا أنّهم أقاموا مقام الأزمنة ما ليس منها ، وذلك كالمصادر نحو خفوق النّجم ، وخلافة فلان ، وكصفات الزّمان نحو : قليل وكثير وقديم وحديث. وهذا ما حضر في قولهم سحر وغدوة وبكرة ونظائرها وفيه كفاية.

فصل

في المحدود من الزّمان وغير المحدود

قال أبو عمرو وغيره : الزّمان ستة أشهر ، والحين ستة أشهر ، قال الله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) [سورة إبراهيم ، الآية : ٢٥] وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي : الزّمان عندهم أربعة أشهر ويقال : شيء مزمن أي أتى عليه زمان ، وكان الزّمانية فيه لامتدادها. وقال ابن الأعرابي : يقال من الزّمان زمنة ، وزمن ومن الزّمانة أيضا يقال : به زمنة وزمن ، ويقال : لقيته في الزّمن بين الزّمنين ، ألا تراه قد حدّ للّقاء وقتا ، وللفراق وقتين ، وكلّ قريب ، ويقال : لقيته ذات الزّمين أي ساعة في مدة من الدّهر يسيرة. وقال غيرهم : الحين الوقت في كلّ عدد ، والملا غير مهموز مثله ، ويقال : الحين سبع سنين ، واحتجّ بقوله تعالى : (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [سورة يوسف ، الآية : ٣٥] وقيل هو أربعون سنة لقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [سورة الإنسان ، الآية : ١] وذاك أنّه روي في الخبر أن آدم عليه‌السلام أتى عليه بعد خلق الله إيّاه وهو طين أربعون سنة ثم نفخ فيه ولم يدر ما هو.

وقيل : الحين ثلاثة أيّام لقوله تعالى : (إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) [سورة الذّاريات، الآية : ٤٣] فكان فيما روى ذلك القدر. وقال آخرون : ثلاث مرّات في اليوم لأنّه تعالى قال: (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) [سورة الروم ، الآية : ١٧] إلى و (حِينَ تُظْهِرُونَ) [سورة الروم ، الآية : ١٨] قالوا : وهذا يقتضي أن يكون في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [سورة النّحل ، الآية : ٦] غدوة وعشية قال الشيخ : المحصّل الصّحيح أنّ قولهم : الحين لما يتطاول من الزّمان ويتقاصر ويكون محدودا أو غير محدود.

١٧٥

وقد حكي عن أبي زيد وأبي عبيدة ويونس أن (الدّهر) و (الزّمان) و (الزّمن) و (الحين) يقع على محدود ، وعلى عمر الدّنيا من أوّلها إلى آخرها. قال الأعشى شعرا :

لعمرك ما طول هذا الزّمن

على المرء إلّا عناء معن

يريد به الوقت الممتد وقيل في قوله تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [سورة ص ، الآية : ٨٨] أراد يوم بدر وقيل : أريد به القيامة. وجميع ما حكيناه عند الفحص يدلّ على أنّ المراد به تبع لمقصود المتكلّمين. فإذا قال : لم ألقك منذ حين وهو يريد تبعيد الوقت ، علم ذلك بالحال أو القرينة ، وكذلك لو قال : أعطيك حقّك بعد حين ، وأراد : تقريب الوقت. وإذا حلف الحالف على حين ، فإن كان من أهل المعرفة بالحين أخذ بقوله ، وإن لم يكن من أهلها حمله الإمام على أعرف الأوقات فيه عند العامة ، واستظهرنا بعد الحالين في الوجود.

وقال شرقي الزّمن عندهم شهران ـ والزّمين شهر واحد. وقيل : الزّمان ستة أشهر ـ والزّمن أربعة أشهر ـ والزّمين شهران ـ والحرس كمال السّنة ما بين أولها إلى آخرها. وقال غيره : الحرس ما بين الحين إلى السنة. وقال الخليل : الحرس وقت من الدّهر دون الحقب. قال شعرا :

وعمرت حرسا دون مجرى داحس

لو كان للنّفس اللّجوج خلود

ويقال : شيء محروس ، أي عليه حرس ، ويقال : أحرس بالمكان ، أقام حرسا. قال : وعلم أحرس فوق عنز ـ والعنز أكمة صغيرة.

والبرهة عشر سنين. وقال الخليل للبرهة : حين من الدّهر طويل ـ والعصر عشرون سنة. وقيل : العصر لا يكون إلّا لما سلف. وقوله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [سورة العصر ، الآية : ١ ، ٢] قال ابن الكلبي : هو الدّهر كلّه الماضي والمؤتنف ، وقد قيل : عصر وأعصر وعصور. قال : كر اللّيالي واختلاف الأحصر. وقال آخر : أبعصور من بعد تلك عصور ، والعصران الغداة والعشيّ.

والأشدّ ثلاثون سنة ، وقيل : هو لما بين ثلاث وثلاثين إلى تسع وثلاثين. قال الشيخ : تحقيقه بلوغ نهاية القوّة والشّباب. واختلف في بنائه ، فمنهم من يقول : هو جمع وواحدة شد ومثله ضب واضب. ومنهم من يقول هو واحد ومثله من الأبنية قولهم آنك وهو الأسرب وقولهم آجر. وقال سيبويه : افعل ليس من أبنية الواحد. وهذان أعجبان عند أصحاب العربية.

والسبت من الدّهر ثلاث مائة سنة ، وقال بعضهم : السبت أربعون سنة وأنشده :

١٧٦

وقد نرتعي سبتا ولسنا بحيرة

محلّ الملوك تفدة فالمغاسلا

والحقبة من السّتين إلى الثمانين. وقال بعضهم : من السّبع إلى العشر. وقال الخليل : الحقبة زمان من الدّهر لا وقت له والجمع الأحقاب. وقيل الحقب : السّنون واحدها حقب ، والحقب : الدّهر والجمع الأحقاب. وقيل : في قوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) [سورة النبأ ، الآية : ٢٣] واحدها الحقب ثمانون سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما ، كل يوم منها مقداره ألف سنة من سني الدّنيا. وذكر قطرب أنّ الحقب بلغة قيس مائة سنة.

والقرن من الثّمانين إلى المائة ، وقالت طائفة منهم القرن ثلاثون سنة وقيل القرن أربعون سنة. وقال أبو عمرو غلام ثعلب : الصّحيح عندي أنّ القرن مائة سنة ، وذاك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح يده على رأس صبي وقال له : «عش قرنا» فعاش مائة سنة. وقد احتجوا أيضا بقوله عليه‌السلام : «خير النّاس قربي ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم». وهذا يدل على أنّ القرن ثلاثون إلى الأربعين.

وقال ابن الأعرابي : الهنيد مائة سنة ، والهند مائتا سنة والدهر ألف سنة. وقول الله تعالى : (بِضْعَ سِنِينَ) [سورة يوسف ، الآية : ٤٣] قيل : إنها سبعة. وقال أكثر أهل اللغة : إنّ البضع لما بين الثّلاثة إلى العشر. وحكي البضع بفتح الياء وقال المبرّد : هو ما بين العقدين إلى الواحد ، وإنما جاز في الاثنين أيضا عنده لأنه جمع ، وبضع اسم الجماعة المحظورة بالعقود. وقال أحمد بن يحيى : البضع من ثلاثة إلى سبعة وأكثره تسعة ، ويقال : بضع عشر وبضعة عشر شهرا ، وبضع وعشرون إلّا أنه مع العشرة أكثر وأصله من القطع ، يقال : بضعة بضعا والمقطوع بضع ، فهو مثل الطّحن والطّحن.

وذكر أبو عبيد الوقص ما زاد من السّنين على العشر ، وإحدى عشرة وقص وكذلك المياه التي لا تورد بين الماءين المورودين وقص قال والشّنق في الدّية خاصة ، وقيل : الوقص والبضع اسمان للعدد فهما يستعملان في كلّ معدود وهذا هو الصّحيح.

والنّيف يجيء بعد العقود يقال : نيّف وعشرون ، ونيّف وتسعون ، ولا يقال : نيف وعشرة ، ويجوز عشرة ونيف لأنه اسم لما يزيد على العقد ووزنه فيعل وأصله من ناف ينوف إذا ارتفع وأشرف وانبسط ، ويقال : ناف النّفس ينوف نوفا إذا تحرّك ونسم بعد خفوضه وهموده. ويقال في الدّنف الحرض قد نافت له نفس ترجوه معه ، وإذا حمحم الفرس للقضيم ، قيل : ناف نوفا ، ويقال : أناف على الشيء أي أشرف ، نافه يناف. والنّوف السّنام لإشرافه والبطر لزيادته في ذلك الموضع والعلم قال شعرا :

يخبّ به العطّاف رافع نوفه

له زفرات بالخميس العرمرم

١٧٧

الآن : فقد قال أبو العباس : يشار به إلى حاضر الوقت ، وتلخيص هذا أنّه الزّمان الذي يقع فيه كلام المتكلم فهو آخر ما مضى وأول ما يأتي من الأزمنة ، وهذا مراد قولهم : الآن حد الزّمانين ، والذي أوجب بناءه أنها وقعت في أوّل أحوالها بالألف واللام. وحكم الأسماء أن تكون منكورة شائعة في الجنس. ثم يدخل عليها ما يعرّفها من إضافة ، وألف ولام فخالفت الآن سائر أخواتها من الأسماء ، بأن وقعت معرفة في أوّل أحوالها ، ولزمت موضعا واحدا كما تلزم الحروف مواضعها التي وقعت فيها في أوّليتها غير زائلة عنها ، ولا نازحة منها واختيرت الفتحة لآخرها لخفّتها ولمشاركتها للألف التي قبله. وقال الفرّاء فيه قولان :

الأوّل : أنّ أصله أنّ الشيء يئين إذا أتى وقته ، كقولك : آن لك أن تفعل كذا وإني لك ، ثم أدخلوا الألف واللّام عليه ، وإن كان فعلا كما يروى أنّه نهى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قيل وقال فعلان ماضيان وأدخل عن الجارة عليهما وتركا على ما كانا.

الثّاني : إنّ الأصل فيهما أوان ، ثم حذف الواو فبقي آن ، كما قالوا : رواح وراح ، والكلام عليه قد مضى في غير هذا الموضع من كتبنا.

وقولهم أيّان فإنّه يقوم مقام متى ، فهو يتضمّن معنى الألف وكان حكمه أن يكون ساكن الآخر ، لكنّه حرّك لالتقاء السّاكنين ، واختيرت الفتحة لخفّتها ولأنّ قبلها ياء مشدّدة ، وهما بين الياء والنّون ، ليس بحاجز حصين وهو الألف.

وحكى الكسائي أنّ أبا عبد الرّحمن السّلمي قرأ : (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [سورة النّحل ، الآية : ٢١] بكسر الألف.

وإبّان وأفان فهما معربان متمكّنان وتضيفها فتقول : جئت على إبّان فلان وإفاته أي في وقته ، وتفردهما بنزع الجار منهما ، فتقول : جئت إبّان ذلك وإفاته ، وانتصابهما على الظّرف.

وأما قولهم أوان فمعناه الوقت ويجمع على آونة قال ابن أحمر شعرا :

يؤرّقنا أبو حنش وطلق

وعمّار وآونة أنالا

وقد جاء مبينا منونا في قول الشاعر :

طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن ليس حين بقاء

وإن كان متمكنا في جميع الكلام تقول : هذا أوان طيّب ، وأدركت أوان فلان ، قال أبو العباس : إنّما بني من قبل أنّ الأوان من أسماء الزّمان ، وأسماء الزّمان قد تكون مضافات إلى الجمل ، كقولك : هذا يوم يقوم زيد ، وأتيتك زمن عمرو أمير. فإذا حذفت الجملة من

١٧٨

قولك أوان ، وقد يضم معناها وهو في حكم المعرفة بها استحق البناء ، ثم عوّضت منها التّنوين كما فعلت ذلك بقولك : حينئذ وساعتئذ وفارق قولك : أوان الغايات ، لأن الغايات مضافة إلى المفردات في التقدير ، وأوان مضافة إلى جملة فهو كاسم حذف بعضه وبقي بعضه وقد عوّض مما حذف فيه والغايات لم يؤت فيها بما يكون عوضا ، ونيّة الإضافة فيه أقوى إذا كانت إلى المفرد لا إلى الجملة ، واختيرت الكسرة في أوان لما بني لالتقاء السّاكنين.

وذكر بعض الكوفيين أنّ لات جارت لأوان بمنزلة حرف من حروف الخفض ، ولو كان كذلك لفعل به مثل ذلك في قوله تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [سورة ص ، الآية : ٣].

وأما إذ وإذا فهما اسمان مبهمان. فإذ لما مضى وإذا للمستقبل ، فهما كالأسماء النّاقصة المحتاجة إلى الصّلات ، لأنّ الأسماء موضوعها أن تدلّ على مسمياتها في الأصل ، فإذا صار بعضها لا يدلّ بنفسه على ما هو المطلوب منه واحتاج إلى ما يكشفه ، ويوضح معناه حلّ بما بعده من تمامه محلّ الاسم الواحد ، وصار هو بنفسه كبعض الاسم ، وبعض الاسم مبنيّ. فإذ يوضح بالابتداء والخبر ، والفعل والفاعل تقول : جئتك إذ قام زيد ، وإذ زيد قام ، وإذ يقوم زيد وإذ زيد يقوم ، فإذا كان الفعل مستقبلا حسن تقديمه وتأخيره. وإذا كان ماضيا قبح التأخير ، لا يقولون : جئتك إذ زيد قام ، إلا مستكرها من قبل ، أنّ إذ للماضي ، فإذا كان في الكلام فعل ماض اختير إيلاؤه إيّاه لمطابقتهما ومشاكلة معناهما. وإذ عند أصحابنا اسم مضاف إلى موضع الجملة التي بعدها ، ولا يجازي بها ، لأنها مقصورة على وقت بعينه ماض.

وإذا من أسماء الزّمان أيضا ويقع بعدها الأفعال المستقبلة ، وهي موضحة بما بعدها كما كانت إذ غير أنها لا يليها إلا الأفعال مظهرة كانت ، أو مضمرة كقولك : أجيئك إذا قام زيد ، يعني الوقت الذي يقوم فيه ، وفيها معنى المجازاة فلذلك لا يقع بعدها إلا الأفعال.

فإذا رأيت الاسم بعدها مرفوعا فعلى تقدير فعل قبله ، لأنّه لا يكون بعده الابتداء والخبر وإنّما لم يجازيها لأنّها تقع محدودة ، والمجازاة معتودة على أنّها يجوز أن يكون وألّا يكون تقول أجيئك إذا احمرّ البسر ، ولا يجوز أن تقول : إن احمر البسر ، فلمّا كان إذا لوقت معلوم لم يجاز بها ، وإن كان فيها معنى المجازاة ، إلا أن يضطر شاعر قال الفرزدق :

ترفع لي خندق والله يرفعنا

نار إذا ما خبت نار لهم تقد

ومعنى المجازاة : أنّ جوابها يقع عند الوقت الواقع كما يقع المجازاة عند وقوع الشّرط. ولإذا موضع آخر يكون فيه اسما لمكان وذاك من ظروفه وسيجيء الكلام فيه في الباب الذي يليه.

١٧٩

الباب الثّاني عشر

في لفظ أمس ـ وغد ـ والحول ـ والسّنة ـ والعام ـ وما يتلو تلوه ولفظ حيث ـ وما يتّصل به ـ والغايات ـ كقبل ـ وبعد ـ وذكر أول ـ وحينئذ ـ وقطّ ـ ومنذ ـ ومذ وإذ المكانية.

ومن عل يقال : اليوم ليومك الذي أنت فيه ، وأمس لليوم الّذي يليه يومك الذي أنت فيه وقد مضى. وقال قطرب وغيره : يقول : رأيته أمس فتكسر ، كما قالوا : قال الغراب : غاق يا هذا في حكاية صوته ، وتميم يرفعون أمس في موضع الرّفع فيقولون : ذهب أمس بما فيه فلا يصرفونه لما دخله من التّغيير وقال الرّاجز :

لقد رأيت عجبا مذ أمسا

عجائزا مثل السّعالى خمسا

فكأنّه ترك صرفه في لغة من جرّ بمذ. وقال عدي بن زيد :

أتعرف أمس من لميس طلل

مثل الكتاب الدّارس المحول

قال الشيخ : اعلم أنّ أمس اسم معرفة لما مضى وشوهد. وغد بخلافه لأنه وإن كان اسما لليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه ، ولم يجيء فهو نكرة. ومثلهما قطّ وأبدا لأن قط معرفة وأبدا نكرة ، وفي بناء أمس طريقتان :

الأول : ما ذكره أبو العباس المبرّد وهو أنّ شرط الاسم أن يلزم مسمّاه ، ولا سيّما ما كان معرفة ليكون علما باقيا له. وأمس ليس يلزم مسمّاه لأنه اسم لليوم الذي يليه يومك الذي أنت فيه وقد مضى ، فكلّما مضى يومك انتقل لفظ أمس عمّا كانت له إلى ما كانت بعده ، فلمّا كان كذلك أشبهه الحروف في أنّه لا لزوم لها وإنما ينقل إلى ما ينقل إليه كمن وفي وإلى ، فيفيد معناها فيه فبني لذلك.

الثّاني : إنه كان حق تعريفه أن يكون بالألف واللّام ليؤدّي العهد فيه فلم يدخلا عليه ، بل ضمن معناهما ، والاسم إذا تضمّن معنى حرف ، يجب أن يبنى ، فهذا وجه بنائه فأمّا من

١٨٠