كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

ولجميع صفاته العلى وأسمائه الحسنى فلا أمد لعلمه ، ولا نهاية ولا مدد ولا غاية. وشاهد هذا قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [سورة لقمان ، الآية : ٢٧] الآية ، وهذا لأنّ العبد لا يكون ذاكرا من وجوه القدرة والحكمة كلّها إلّا ما علم منها والله تعالى ذاكر لها كلّها ، ويكون هذا كما يقال فلان أعلم بالله من فلان ، ويراد أنه قد عرف أنّ الدّنيا محدثة من وجوه عدة ، وأنّ الآخر لا يعرف ذلك إلا من وجه واحد ، وقد ظهر بما بيّناه الفصل بين ما يسأل عنه في الموضعين جميعا.

فصل في تبيين المحكم والمتشابه

من قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) والحكمة في إنزاله مقسما بين الوجهين المذكورين والكلام في المعارف والمعجز.

اعلم أنّ الله تعالى لمّا ابتلى العقلاء بتكاليف الدّين بعد إزاحة العلل وتسهيل السّبل وبعث الرّسل رتّب في مراسمه مراتب ، وجعل لكلّ مرتبة قدرا من الجزاء والمثوبة ترغيبا في الاستكثار من طاعته ، وحضّا على التّنافس في أشرف المنازل لديه ومن أجل تلك المراسم ما ندب إليه من تدبّر كتابه الحكيم الجامع للأوامر والنّواهي وأصول الحلال والحرام ، والمندوب إليه والمباح ، وقصص الأمم السّالفة ، وأخبار الأنبياء معهم ، والمواعظ والأمثال ، والحكم والآيات والنّذر والمثلات ، والعبر والامتنان بأنواع النّعم ، والإخبار بالشيء ، قبل كونه والتّنبيه على مغيبات الأمور وسرائر القلوب من دونه ، هذا وقد أنزله علما لنبيّه يتحدى زمان الفصاحة ، وأوان التّبلغ بالبلاغة جعل بعضه جليا واضحا وبعضه خفيّا متشابها ، ليعمل من تسمو نفسه إلى أعلى الدرجات فكره ، فيمتاز في العاجل بما يستنبطه ويثيره من جليل العلم ودقيقه عن غيره ممن لم يسع سعيه ، وإن جاهد في ربه ويجتاز في الأجل عند الله من الزّلفة وجزيل المثوبة ما يقرب من غايات الأنبياء وذوي العزم والنّصيحة فلولا حكمة الله فيما ذكرته لبطل التّفاضل فيما هو أشرف وتدانت الأقدار فيما هو أفخم.

ألا ترى أنّ الصّبر في أعمال القلب وأعمال الفكر وكد الرّوح لنتائج النّظر ليس كالصّبر في إتعاب الجوارح وإنصاب الآراب والمفاصل ، لذلك قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩] فأما ما روي من أن لكل آية ظهرا وبطنا ومطلعا فالمعنى لكلّها لفظ ومعنى ، ومأتى أي طريق يؤتى منه فيتبيّن علمه من ذلك الطّريق وقيل أيضا فيه: الظّهر للإخبار عن مخالفة الأمم وهلاكها والبطن يكون تحذيرا أي لا تفعلوا فعلهم فتهلكوا هلاكهم.

٨١

وحكى عن النّظام أنه قال القرآن كلّه أو بعضه جاء على كلام العامّة في أمثالهم إياك أعني فاسمعي يا جارة. وقد ظهر وجه الحكمة بما بينّاه في تنزيله بعض الكتاب محكما وبعضه متشابها فأمّا التّنبيه على كلّ نوع منهما فإنّا نقول وبالله التّوفيق :

اعلم أنّ المحكم من الآي هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا فيوافق ظاهره باطنه إذا تأوّل كأنّه أحكم أمره ومنع متدبّره من تسليط الشّبهة عليه كما منع هو في نفسه من أن يتورده الاحتمال ، وأصل الأحكام المنع. ومنه حكمة الدابة فإن قيل : إنّ الله تعالى قد وصف آيات القرآن كلّها بمثل هذه الصفة لأنه قال تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [سورة هود ، الآية : ١] وإذا كان كذلك فالمتشابه محكم أيضا ويؤدّي ظاهر الآيتين إلى تناقض قلت : إنّ قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) معناه أتقنت وأتي بها على حدّ من الوثاقة في النّظم والإصابة في المواضع لا يتخلّلها اختلال ، وهذا كما يقال للبناء الوثيق محكم. وقد قال الله تعالى في موضع آخر : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [سورة يونس ، الآية : ١] فجعل الكتاب حكيما بما تضمّنه من الحكمة وإذا وضح ذلك فقد سلم ما قلناه ولم يحصل بحمد الله تناقض ، ويشهد لما تأوّلنا عليه المحكم أنّه جعل في مقابلة المتشابه.

وجوّز بعض المتأوّلين أن يكون معنى أحكمت آياته أجملت من حيث جاء بعده ، ثم فصّلت إذ كان الإجمال والتّفصيل يتعاقبان ، وهذا الذي قاله لا يعرف في اللغة ، والمتشابه هو الذي دخل في شبه غيره فيعتوره تأويلات أو أكثر ، ومن شرطه أن يرد إلى المحكم فيقضي به عليه ، لهذا قال تعالى في صفة ثمر الجنة : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥] فقيل المعنى يشبه بعضه بعضا في الجودة والحسن. وقال المفسرون : يشبه بعضه بعضا في الصّورة ومختلف الطعوم وقد وصف تعالى الكتاب كلّه بالمتشابه كما وصفه بالحكيم ، وكما وصف آية بالإحكام فقال : كتابا متشابها والمعنى يصدّق بعضه بعضا فلا يختلف ولا يتناقض. وقل عليّ لابن عباس حين وجّه به إلى الشّراة (١) قبل القتال لا تناظروهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه ، ولكن ناظروهم بالسّنة فإنّهم لا يكذبون عليها فقوله : حمّال أي : يحمل عليه كل تأويل ، وهذا يترجم عن معنى المتشابه ومثال المحكم نحو قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل ، الآية : ١٤٥] وكقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [سورة النحل ، الآية : ٩٠].

فأمّا وجوه المتشابه فمختلفة ، (منها) اتّفاق اللّفظين مع تنافي المعنيين في ظاهر آيتين كقوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [سورة فاطر ، الآية : ٣] فهذا محكم لفظه استفهام

__________________

(١) قال في القاموس : الشراة الخوارج ، والجبل والطّريق وجبل بنجد لطيّ.

٨٢

ومعناه نفي ، والمراد لا منشئ إلا الله. ثم قال تعالى في موضع آخر : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٤] فقلنا الخلق في كلامهم يكون الإنشاء ويكون التّقدير يقال : خلقت الأديم إذا قدّرته قال : ولأنت تعزي ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يعزى ، والآية النّافية تقضي على المثبتة بأنّ الخلق يكون فيه التّقدير لا غير لأنّ الذي يخلص لله تعالى من معنى الخلق فلا يشارك فيه هو الإنشاء ومثله قوله تعالى : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [سورة محمد ، الآية : ١١] مع قوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [سورة يونس ، الآية : ٣٠] لأنّ المولى في اللغة يقع على السيّد والعبد والمعتق والولي والنّاصر وابن العم ، فمعنى لا مولى لهم : لا ناصر ، ولا ولي ومعنى مولاهم الحق الإله والسّيد الذي لا شك فيه يوم يكون الحكم والأمر له وهذا بيّن. (ومنها) : التّنافي بين المعنيين في ظاهر آيتين وإن لم يكن عن اتفاق لفظين مثل قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ (١)) (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) [سورة الزلزلة ، الآية : ٦] مع قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) [سورة الكهف ، الآية : ٩٩] وهاتان حالتان إحداهما حالة الورود وهي عند البعث والنّشور ، والأخرى حالة الصّدور والانسياق إلى المعد من الثّواب والعقاب ، وهذا معنى ليروا أعمالهم فالمحكمة التي يرد إليها يصدر الناس أشتاتا قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [سورة الروم ، الآية : ١٤](فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) [سورة الروم ، الآية : ١٥ ـ ١٦] وهذا واضح ومثله قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) [سورة النمل ، الآية : ٨٣] أي يدفعون ويستعجلون مع قوله تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [سورة مريم ، الآية : ٩٥] ومعنى فردا لا عدد معه ولا عضد ولا عدّة ولا ذخيرة والمحكمة التي ترد إليه هذه قوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) [سورة مريم ، الآية : ٨٠] وإذا كان كذلك انتفى التّشابه.

ومنها استغلاق الآية في نفسها وبعدها باشتباهها عن وضوح المراد منها ومن جعل وجه التّشابه هذا وما يجري مجراه استدل بقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٧] وجعل وجه الأحكام ظهور المعنى وتساوي السّامعين في إدراك فهمه ولذلك مثل كثير من أهل العلم المحكمات بالآي الثّلاث التي في آخر الأنعام وهي قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥١] إلى (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣] ، والمتشابهات بقوله تعالى : (الم) ، و (الر) ، و (كهيعص) ، و (طه) وما أشبهها. ومنها ألا يعلم السّبب الذي نزلت الآية فيه على كنهه وحقه لاختلاف قديم يحصل فيه بين الرّواة ، وادّعاء بعضهم النّسخ فيه ولغرابة القصّة وقلّة البلوى بمثلها والصّواب عندي في مثل هذا أن يؤثر ما يكون لفظة الكتاب أشهد له وأدعى إليه ،

٨٣

ومثاله قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠٦] إلى (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا) [سورة التغابن ، الآية : ١٦].

ومنها أن يروى في تفسير الآية عن طرق كثيرة وعن رجال ثقات عند نقّاد الآثار ورواتها ، أخبار يختلف في أنفسها ولا يتّفق ولا يستجاز مخبرها أو يستبعد ، ثم تجد إذا عرضتها على ظاهر الكتاب لا تلائمه من أكثر جوانبها ولا توافقه وذلك مثل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٩] إلى (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٩٠] ومثل قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢] إلى (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٣] والوجه في الآيتين وأشباههما عندي أن يراعى لفظ الكتاب بعد الإيمان به ويبدل المجهود في انتزاع ما يتفق فيه أكثر الرّواة من جهة الأخبار المروية وما هو أشبه بالقصة ، وأقرب في التدين ، ثم يفسر تفسيرا قصد لا يخرج فيه عن قصة الرّواية واللفظ ولا يترك الاستسلام بينهما للجواز والانقياد للاستبشار لما عرف من مصالحنا فيما يمنعنا علمه أو يقنعنا عليه ألا ترى قوله تعالى فيما استأثر بعلمه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [سورة الإسراء ، الآية : ٨٥] وقوله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة الأعراف ، الآية : ٨] بعد قوله تعالى : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) [سورة المدثر ، الآية : ٢٩](عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [سورة المدثر ، الآية : ٣٠] ومثل هذا الاستبشار ما فعل الله من الصّرفة بيعقوب وبنيه حين انطوى عليهم خبر يوسف وكان بينه وبينهم من المسافة ما كان بينهم. ويشبهه الصّرفة التي ذكرناها ما يفعل الله من سلب الانبساط من الكفّار فيكون ذلك سببا للتسلّي فيما يبتلون به من العقاب وذلك قوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [سورة الزخرف ، الآية : ٣٩].

ومنها الالتباس حال التاريخ أو ما يجري مجراه في آيتين تتعارضان أو آية وخبر فتختلف في النّاسخة منهما والقاضية على الأخرى وذلك كما روي عن مجاهد في قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٩] وهو أمر بالحكم فنسخت ما قبلها وهو : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٢] وهو تخيّر. وروي السدّي عن عكرمة في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٢] قال نسختها : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٩] وهذا قول أهل العراق ويرون النّظر في أحكامهم إذا اختصموا إلى قضاة المسلمين والأئمة ، ولما روي من رجم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهودية واليهود ، وأمّا أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم يذهبون

٨٤

إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو من أعظم الحدود التي يأبون ويتأولون في رجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهوديين على أنّ ذلك كان قبل أن يؤخذ منهم الجزية والمقارة على شركهم وفي هذا القدر بلاغ للمتأمّل.

فأمّا الكلام في المعرفة بالله تعالى ووجوبها وبيان فساد قول القائلين بالإلهام فإنا نذكر طرفا منه ونقول : اختلف النّاس في ذلك فزعم قوم أنّ المعرفة لا يجب على العاقل القادر وأنّها تحدث بإلهام الله تعالى وكل من لم يلهمه الله المعرفة به فلا حجة عليه ولا يجب عليه وقالوا : إنّ الذين قتلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكونوا كفارا وإنّما قتلوا على سبيل المحنة ، كما يقتل التّائب والطّفل ولا يجب عليهم عقاب لأنّ الله تعالى لا يجوز أن يغضب وعلى من لم يرد إغضابه.

وقال الجاحظ : إنّ المعرفة غير واجبة ولكنّها تحدث بالطبع عند النّظر ، وقال : إنّ الذين قتلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا عارفين بالله معاندين واحتج بقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [سورة النمل ، الآية : ١٤] وقال لا يأخذ الله الإنسان بما لم يعلم ولا بما أخطأ فيه ألا تراه يقول تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٥] واستدلّوا على صحة مذهبهم بأن قالوا إن الاعتقاد لا يعلم أنه حسن أو قبيح حتى يعلم أنّه علم أو ليس بعلم فإذا علم أنّه علم فقد علم المعلوم لأنّ العلم بالعلم علما هو علم بالمعلوم فإذا علم المعلوم فقد استغنى عن اكتساب العلم به وإن كان لا يعلم أنه علم فإذا لا يجب على هذا الإنسان فعل ما لا يأمن أن يكون قبحا.

وقال أكثر أهل العلم إن المعرفة واجبة وهي من فعل الإنسان وإنّ أول المعرفة يقع متولدا عن النظر ولا يجوز أن يقع مباشرا ثم ما بعد ذلك لا يجوز أن يقع مباشرا وأنّ كلّ من أكمل الله عقله وعرّفه حسن الحسن وقبح القبيح فلا بدّ من أن يوجب عليه المعرفة به ، وأن يكلفه فعل الحسن وترك القبيح وبعضهم يضيف إلى هذه الجملة وقد جعل شهوته فيما قبحه في عقله ونفور نفسه عما حسنه في عقله.

ويستدل على وجوب معرفة الله فإنه لا يخلو من أن يكون قد كلّفنا الله لحسنها وقبّح الذّهاب عنها أو لم يكلّفنا وتركنا مهملين ، فإن كان قد كلّفنا فهو الذي يزيد ، وإن كان تركنا سدى فإنّ الإهمال لا يجوز عليه. ويقال أيضا : نحن نرى على أنفسنا آثار نعم ، ونعلم وجوب شكر المنعم ، فإذا يجب أن نعرف المنعم لنشكره.

واعلم أنّ المعجز هو ما لا يقدر عليه في صفته أو في جنسه ، فأمّا لا يقدر عليه في جنسه فهو مثل إحياء الموتى وأمّا ما لا يقدر عليه في صفته فهو فلق البحر. لأنّا نقدر على تفريق

٨٥

الأجسام المؤتلفة ، ولكن على تلك الصّفة وتلك الحالة لا نقدر عليه ، فأمّا الخبر عن الغيوب فليس بمعجز ولا وقوع المخبر على ما أخبر به معجز إذ يجوز على الخبر عن الغيب أن يكون صدقا أو كذبا وإذ قد ثبت أن يخبر الإنسان عن الشيء أنه يكون فيكون وليس يعلم في حال الخبر أنّ المخبر به يقع على ما أخبر به عنه ولا يعلم أنه معجز وإنّما العلم بأنّ الشيء يكون قبل أن يكون يعجز بلى من سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر أنه سيكون كذا وكذا ويخبر عن الغيب ثم يبقى إلى الحالة يكون فيها ما ذكره فحينئذ يكون ذلك دلالة وحجة عليه ، فأمّا من لم يبق إلى تلك الحالة فهو ليس تقوم عليه الحجّة في وقت الإخبار ولا يصح الاستدلال بذلك بل يجب أن يدلّه الله بدليل آخر.

فإن قال قائل : كيف يصحّ أن يكون انقضاض الكواكب رجما للشيّاطين ولا يخلو من أن يكون الذي يرمى به الشّيطان ليحرقه كوكب فيجب أن يفارق مكانه وينقص من عدد الكواكب وقد علمنا منذ عهدت الدنيا لم تنقص ولم تزد أو يكون الذي يرمى به شعاعا يحدث من احتكاك الكواكب واصطكاك بعضها ببعض فيفصل ذلك الشّعاع من الكواكب ويتّصل بالجنّي حتى يحرقه ، إذ لو لم يتّصل به لم يحترق وهذا أيضا لا يجوز لأنّ الكواكب لا تحتك. قيل له : إنّ كل ما ذكرت غير ممتنع قد يجوز أن يكون هناك كواكب لا تلحقها العين لصغرها كما قال قوم في المجرة إنها كلّها كواكب ولا تبين ، فيجوز أن يحتك بخاران عظيمان فيحدث الشّعاع ويحترق الجنّي ، وكلّ ذلك ليس بمستنكر وعلى هذا جاء في القرآن.

وأما انشقاق القمر فإنّ الجاحظ كان ينفيه ويقول : لم يتواتر الخبر به ويقول أيضا لو انشقّ حتى صار بعضه في جبل أبي قبيس لوجب أن نختلف التّقويمات بالزيجات لأنه قد علم سيره في كلّ يوم وليلة ، فلو انشقّ القمر لكان وقت انشقاقه لا يسير ، فأمّا قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [سورة القمر ، الآية : ١] فإنّما معناه سينشقّ ونحن نثبته ونقول : يكون ذلك دليلا خصّ به عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه وأنّ سائر النّاس لم يرده لأنّ الله حال بينهم وبين رؤيته بغمامة أو غيرها ويجوز أن يكون غير عبد الله رآه ، فاقتصر في نقله على رواية عبد الله وعلى ما نطق به القرآن من ذكره.

فصل الاستدلال بالشّاهد على الغائب

لأنّه الأصل في معرفة التّوحيد ، وحدوث الأجسام وصدق الرّسل. قال الله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [سورة البقرة ، الآية : ١ ـ ٣] قيل معناه يؤمنون بما غاب عنهم من أمر الآخرة وقيل : يؤمنون بما غاب من

٨٦

البعث والنّشور ، وأخبرهم به النبي. وقيل : المراد يؤمنون بالله ورسوله وما أنزل إليه ، يظهر الغيب لا كالمنافقين الذين يقولون للمؤمنين إنا معكم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنّا معكم ، إنّما نحن مستهزءون ، ومثله قوله تعالى : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [سورة يوسف ، الآية: ٥٢] وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٤٩].

واعلم أن من لا يفعل ذلك لم يجز له أن يعرف شيئا إلا من جهة المشاهدة أو ببداهة العقل ، أو بخبر ممن شاهده ولو كان كذلك لسقط الاستدلال والنظر ، ولما جاز أن يعرف الله ولا حدوث الأجسام ، ولا صدق الرّسل فيما أتت به من عند الله ، لأنه يجوز أن يعرف الله بالمشاهدة ولا ببداهة العقل لأنّه لا يشاهد ، ولأنه لو عرف ببداهة العقل لاستوى العقلاء في معرفته ، فوجب بهذا أن لا يعرف الله إلّا بدلالة المشاهدة ، وكذلك حدوث الأجسام ، ولسنا نريد باستشهاد الشاهد أن يستدلّ به على ما لم نشاهده إلا بأن نشاهد نظيره ، ومثله ألا ترى أنّا لو شاهدنا في هذا البلد إنسانا لم نعرف بذلك أن في غير هذا البلد إنسانا آخر من غير أن نشاهده ، ولكن هو أنا إذا وجدنا الجسم في الشّاهد إنّما كان متحركا لوجود حركته ، ثم وجدنا حركته لا توجد إلا فيه ، ومتى بطلت حركته لم يكن متحركا دلنا ذلك على أن كلّ جسم متحرّك فيما لم نشاهده لم يكن متحركا إلا لوجود حركته ، ولا توجد حركته إلا فيه ، ومتى بطلت حركته لم يكن متحركا ؛ لأنّه لو جاز أن يكون متحركا في الغائب مع عدم حركته لجاز في الشاهد مثله ، وكذلك إذا وجد الجسم في الشاهد إنّما كان جسما لأنّه طويل عريض عميق ومتى عدم طوله أو عرضه أو عمقه لم يكن جسما لزمه أن يعلم بدلالة الشّاهد أنّ الجسم الغائب إنمّا كان جسما لمثل ذلك.

وكذلك إذا وجد الجسم في الشّاهد لا يكون في مكانين في وقت واحد لأن وجوده في أحد المكانين ينافي وجوده في المكان الآخر كان علينا أن نجري القضية في الغائب على حده. وكذلك القول في امتناع اجتماع الضّدين ، والحركة والسّكون والسّواد والبياض ، والاجتماع والافتراق بحسب أن يراعى حالها في الشّاهد فيحمل الغائب عليها وإذا كان الأمر كذلك وجب أيضا أن يكون إذا وجدنا الفعل في الشّاهد لا يوجد إلّا من فاعل ، ولا يحصل موجود إلا بفعله له ، ثم وجدنا فعلا لم نشاهد له فاعلا أن نعلم بدلالة الشّاهد أنّ له فاعلا وإن كنّا لم نشاهده ، ولا يجب إذا لم نجد إلا أجناسا من الأشياء أن لا يثبت في الغائب خلافا لما شاهدنا ، لأنّ الأعمى الذي لم يشاهد الألوان قط لا يجوز له أن يثبت شيئا إلّا من جنس ما شاهده بسائر جوارحه ، إذ قد ثبت الألوان التي هي خلاف جميع ما شاهده ، وإن كان هو لم يشاهد وكذلك الحياة والقدرة والعلم لا يشاهد ولا شوهد نظائرها ولا يجب مع ذلك أن لا نثبتها مع وضوح الأدلّة عليها فلم يجب علينا لمن أراد منّا نفي القديم إذ كنا لم

٨٧

نشاهد له مثلا ولا نظيرا أن ننفيه من أجل ذلك إذ كان يجوز أن نثبت بالأدلّة ما لا نظير له كما مثّلناه.

وإنّما يجب تكذيب من وصف الغائب لصفة الشّاهد ثم أزال عنه المعنى الذي استحقّ الشّاهد به تلك الصفة ، فأمّا متى أثبت في الغائب شيئا مثبتا من غير أن يكون بصفة المشاهد الذي وجبت له هذه الصّفة لعلّة ، وقال مع ذلك : إنه غير مثبت لما شوهد لم يجز أن نبطل قوله بما شاهدنا ، إذ كان يجوز أن يكون ما ادّعاه خلافا لما شاهدناه ، كما لم يكن للأعمى إنكار الألوان إذا أخبرناه بها من حيث كانت مخالفة لما شاهده بسائر جوارحه ، ولم يكن لأحد أن ينكر الحياة والقدرة لأنهما خلاف ما شاهده ، ولكن يجب أن يطالب بالدّلالة على صحّة الدّعوى ، فإذا ثبتت ثبت مدلولهما ، وإلا سقطت الدعوى ، وهذا أصل القول في استشهاد الشّاهد على الغائب فاعلمه.

فصل في أسماء الله وصفاته وأحكامه

(وبيان الأصوات كيف تكون حروفا ، والحروف كيف تصير كلاما)

اعلم أنّ الأصوات جنس من الأعراض تحته أنواع تعلم ، فإذا توالى حدوثها منقطعة بمخارج الفم وما يجري مجراها سمّيت حروفا ، لذلك قيل : الكلام (مهمل) و (مستعمل). (فالمستعمل) ما تناولته المواضعة أو ما يجري مجراها من توقيف حكيم ، فجعل عبارة عن الأعيان أنفسها وعنها بأحوالها. (والمهمل) ما خالف ذلك ، وإنما قلنا هذا لأنّ جنس الصّوت لا يقتضي كونه حرفا ولا كلاما متى لم تطرأ المواضعة عليها ، وما جرى مجراها ، والمواضعة لا تصح إلا مع القصد إليها لذلك قيل : ما ينقسم إليه الكلام من الخبر والأمر والنّهي والاستخبار لا يكاد يحصل مفيد إلا بإرادة غير القصد إلى المواضعة ، لهذا متى ورد الكلام من سفيه لم يفد السّامع شيئا ، كما يفيده إذا ورد من الحكيم على المخاطب العارف بالمواضعات لمّا تعذرت معرفة قصده وصار الصّدق والكذب يستوي حالاتهما وتقام صور أنواع الكلام بعضها مقام الآخر حتى يوجب ذلك التّوقف عن قبول الأخبار وترك القطع على ما يسمع منها إلا مع البينة.

واعلم أن الحاجة إلى المواضعة بالأصوات هي البيان عن المراد لما كان الكلام المستعمل تنبها عليه ، فلذلك يستغني الحكيم فيما عرف مراده عن الخطاب إلا عند كونه لطفا في فعل المراد ومتى أمكنه بالإشارة والإيماء بيان غرضه عدل عن الخطاب إلا أن يكون لطفا كما ذكرناه. ولما كان الأمر على ذلك اختلفت العبارات لاختلاف المراد واحتيج إلى التبين بعد ذلك ، إذ كان الكلام بنفسه لا يدل على ما وضع له ولا بالمواضعة أو التوقيف.

٨٨

فإن قيل : فما الفرق بين (المهمل) و (المستعمل)؟ حينئذ قلت : الفرق بينهما أنّ الحكيم متى تكلّم بكلام مستعمل صحّ أن يعرف السّامع لكلامه مراده بما يقارنه من الدليل غير الكلام ، ومتى تكلم بكلام مهمل لم يجز أن يعلم مراده وإن قارنه ما قارنه وكان وجوده وعدمه بمنزلة ، ولو كان الكلام دليلا يجوز الاستطراق منه إلى ما وضع له قبلها ، لأن الدلالة لا تحتاج في كونها دلالة يجوز الاستطراق منها إلى مدلولها إلى المواضعة وإنما يحتاج في تسميتها دلالة إلى المواضعة لأنهم يسمونها دلالة إذا أراد فاعلها عند فعلها الاستطراق منها إليه ولذلك لا يجوز أن يسمّى فعل اللص دلالة عليه ، وكذلك فعل البهيمة ، وإن جاز الاستطراق منها إليه ، ولهذا جاز أن يعرف الله بدلائله من لا يعرف شيئا من المواضعات.

واعلم أنّ الكلام لمّا وضع للإبانة عن مراد المخاطب للمخاطب ، لأنّ الغرض فيه إعلامه حدوث الشيء إذ إعلامه أنّه يريد منه إحداثه أو إعلامه أنه يكره منه إحداثه ، والحدوث لا يكون إلا للذّوات ولم يكن بدّ من إعلامه العبارات عن ذوات الأشياء ليجوز منه أن يفرق الحدوث بها على وجه المراد انقسم الكلام أربعة أقسام :

الأول : عبارة عن الأعيان أنفسها وهي الأسماء.

الثّاني : عبارة عن حدوث الشيء وهو الخبر عنه.

الثالث : عبارة عن إرادة إحداثه وهي الأمر به.

الرّابع : عبارة عن كراهية إحداثه وهي النّهي عنه.

والأسماء على ضربين :

الضّرب الأول : اسم وضع لتعريف المسمّى به وليكون علما له دون غيره فيقوم مقام الإشارة إليه عند غيبته ، أو لاشتمالها عليه ، ويسمّى هذا الضّرب لقبا ولا يفيد في المسمّى به شيئا ولذلك لا يدخله الحقيقة والمجاز إذ كان لا يتعلّق بفعله ولا بحاله ولا بشيء ، مما يحلّه أو يحلّ بعضه ، ولا يوجب الاشتراك فيها اشتراكا في غيرها كما لا يوجب الاشتراك في غيرها اشتراكا فيها وقال بعضهم هذا القبيل ثلاثة أقسام :

القسم الأول : وضع تعريفا لآحاد الأشخاص كزيد وعمرو.

القسم الثاني : وضع تعريفا لآحاد أجمل الأشخاص وليقوم مقام تعداد ذكر جميعها كقولك : إنسان وأسد وحمار وطائر ، ولذلك لا يتعلق بشيء من أوصافها ولا بما يحلّها ، ويوجب الاشتراك فيها اشتراكا في الصورة دون غيرها وتسمية أهل اللّغة الجسم جسما من هذا لأنه وجب له هيئته وتركيبه ولذلك لم يجز إجراءه على الله تعالى.

٨٩

القسم الثالث : وضع تعريفا لآحاد جمل الأجناس المختلفة المشتركة في باب التّعلق بغيرها على وجه واحد ، ليقوم مقام ذكر جميع الأجناس الدّاخلة تحتها ، وهذا كاللّون والكون والاعتقاد والسّهو وما يجرى مجراها ، وهذا النّوع يسمّى جنس الفعل ويلزم الاشتراك فيها اشتراكا في نوعيتها.

الضرب الثّاني : على وجهين :

الوجه الأول : اسم على المسمّى به تعريفا لجنسه وللتميز بينه وبين ما خالفه وإن شاركه في التّسمية غيره من طريق القياس لاشتراكهما في الفائدة ، ورسم بأنه اسم جنس لمّا كانت المسمّيات به أعدادا كثيرة مماثلة وهذا كالسّواد والبياض والحمرة والخضرة والحلاوة وما جرى مجراها ، يوجب مماثلة الموصوفين بها فلذلك استحال اشتراك المختلفين بالذّوات في اشتقاق الوصف بها.

النوع الثاني : اسم جرى على المسمّى ليفيد فيه ما يفارق به غيره مما لم يشاركه فيه من غير أن يكون افتراقهم في الوصف موجبا لمخالفتهم كما لم يوجب اشتراكهم في ذلك مما يليهم في اللفظ بل في المعنى أوجب ذلك لكونه جواهر ورسم بأنه صفة ، وإذا قصد به الإكرام في التعلق قيل : إنّها مدح كما إذا قصد بها الاستخفاف قيل إنها ذم ، إذ كانت لا تخلو من الحسن أو القبح وهي على وجوه :

الوجه الأول : صفة تفيد في الموصوف معنى حالا فيه وذلك كقولك : متحرّك وساكن ، وأسود وأبيض ، وحلو وحامض ، ورسمت هذه الصّفات بصفات المعاني لأنها علل في إجراء الوصف على محالها من طريق الاشتقاق ، فلذلك أخذ الاسم من لفظها ، والاشتراك في هذه الصفة يوجب الاشتراك فيما أفادته ، ويقتضي مماثلة الموصوفين في المعنى لكونها جوهرا.

الوجه الثاني : صفة تفيد كون الموصوف فاعلا لمقدوره والاسم يجري عليه مشتقا من لفظ اسم فعله ، وهذا كقولك : ضارب وشاتم ومتكلم ، ورسمت هذه الصّفات لصفات الفعل ولا يوجب الاشتراك في هذه الصّفة تماثل الموصوفين لا بالمعنى ولا باللّفظ كما أوجب في الأولى.

الوجه الثالث : صفة تفيد الإضافة والنّسبة وذلك كقولك : هاشميّ وبصريّ ودار زيد ، وغلام عمرو ، فباتّصال الياء المشدّدة بالاسم صار صفة بعد أن كان علما أو غير صفة.

الوجه الرّابع : صفة تفيد وجود الموصوف بها يجري عليه هذه الصفة ويرجع إلى غيره وهذا كوصف الاعتقاد بأنه علم أو جهل ، أو تقليد أو ظن. ووصف العلم بأنه غم أو سرور.

٩٠

ووصف السّهو بأنه نسيان ، وكوصف الكون بأنه حركة أو سكون ، أو مجاورة أو مفارقة ، وكوصف الحروف بأنّها كلام والكلام بأنه خبر أو أمر أو نهي. ووصف الإرادة بأنّها عزم أو قصد أو خلق وكذلك جميع ما يجري. والاشتراك في هذه الصّفات يوجب اشتراك الموصوفين بها فيما أفادته دون غيرها مما يجري مجرى تماثل ذواتها واختلافها.

الوجه الخامس : صفة تفيد كون الموصوف بها على حال من الأحوال وهذا كوصف الشّيء بأنه معدوم أو موجود ، أو حي ، أو قادر أو عاجز أو معتقد ، أو عالم أو جاهل ، أو ساه أو مريد ، أو كاره أو سميع أو بصير. وعلى الأحوال التي إذا كان عليها إدراك المدركات يسمّى به الشّيء لتهيأ ذكره والإخبار عنه وهو قولهم شيء ونفس وعين وذات. وكذلك الأسماء المضمرة والمبهمة نحو هو وأنت ، وذلك وهذا والهاء في ضربته والياء في ضربني. وفرّقوا في بعضها بين المذكّر والمؤنّث والواحد والجمع. وهذه الصّفات والأسماء التي نوّعناها وأشرنا إليها مقتسمة بين الحقيقة والمجاز ، وسنبيّن كيفية وضعها واستمرارها أو انقطاعها في البابين إن شاء الله تعالى.

فصل آخر

اعلم أنّ اللغة لا يجوز أن يكون فيها غلط وذلك أنه إن كان الله تعالى واضعها على ما يذهب إليه أكثر العلماء ، وعلى ما أخبر به عند قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [سورة البقرة ، الآية : ٣١] فلا يجوز أن يكون فيها غلط لأنّ الحكيم الذي بيّنها لعباده لا يجوز عليه الغلط وإن كان يجوز أن يكون قد ذهب عنهم بعض ما بينه لآدم عليه‌السلام وأحدثوا أبدالا منه ، أو زادوا عليه على حسب الدّواعي والحاجة ، ولو كانوا فعلوا ذلك لما جاز أن يعلم أحد تغيّرهم لذلك إلا بخبر من الله ينزله على نبي من أنبيائه لأن اللّغات لا تعرف إلا من جهة السّمع ولا تعرف بدلالة العقل ، ولو كانوا غيّروها بأسرها لما أنزل الله القرآن بها على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان ابتداء اللّغة من كلام العباد وتواضعهم على ما يقوله بعضهم فلا يجوز أن يقع فيها أيضا غلط لأنّهم إنما سمّوا الأشياء بأسماء جعلوها علامات لها لتعرف بها وليكون التّباين والتّمايز منها ، وإذا كان أصل كلامهم ولغتهم جروا فيه على ما بيّنا فلا يجوز أن يكون فيها غلط لأنّ الحكمة تلحقه ولا تفارقه في الحالتين جميعا ، وإذا ثبت ما بيّناه من أمر اللغة ووجدنا انقسامها إلى الحقيقة والمجاز والحقيقة ما وضع من الأسماء للمسمّيات على طريق اللّزوم لها ، والاطراد فيها لأنّها يحق لها عند التعبير عنها وأمثلتها ما قدّمناه ، والمجاز ما أجري على الشّيء وليس له في أصل الوضع ، تجوزا على طريق الاستعارة ، وتفاصحا منهم وافتنانا ويكون قاصرا عن الأصل وزائدا عليه ومماثلا له ، وكيف اتّفق يكون

٩١

مستفاده أبلغ من مستفاد الحقيقة ولذلك عدل إليه نظرنا فوجدنا طريق استحقاق الموصوفين من وجوه أربعة :

الوجه الأوّل : طريق الاختصاص والاستبداد وهو المرسوم لصفات النّفس ليفيد في الموصوف أنه مستبد بها ، ومستغن بكونه عليها عن غيره وأنه مختص بها من غير أن يجعل نفسه كالعلّة الموجبة للعلل ، ولا قائمة مقامها وهذا كوصف المحدث بأنه موجود وحي وقادر وعالم وسميع وبصير وما جرى مجراها ، ولذلك رسمت بصفات التّوحيد لمّا توحّد الله بطريق استحقاقها فلم يشاركه فيها غيره مع جواز وصفهم بها لاستحقاقهم لها من غير هذا الوجه.

الوجه الثاني : طريق المعاني الموجبة لها وهو المرسوم بصفات العلل ليفيد في الموصوف بها أنه مستحقّ لها بالعلّة الموجبة له عند تعلّقها به دون غيره وهذا كوصف المحدث بأنه عالم وقادر وحي وسميع وبصير ووصف كل موصوف بأنه مريد وكاره ، وكقولهم مشته ونافر النّفس وما شاكل ذلك.

الوجه الثالث : من طريق القادرين وهو المرسوم بصفات الفعل ليفيد في الموصوف بها أنه مستحقّ لها بكون القادر قادرا عند فعله وإيجاده إيّاه دون غيره ، وهذا كوصف المحدث بأنه موجود لما كان معدوما ومقدور القادر عليه وليس في الأحوال ما يتعلق بالقادر غير المعدوم الموجود.

الوجه الرّابع : من طريق استحالة ضدّها على الموصوف بها ورسمت بالصّفات اللّازمة ليفيد في الموصوف بها أنه مستحق لها على طريق اللّزوم له من غير أن يكون محتاجا في ذلك إلى غير ما يوجبها له ، كالعلّة وما يجري مجراها ومن غير أن يكون مختصا به كصفات النّفس وهذا كوصف الشّيء بأنّه معدوم ، ومعنى المعدوم أنه لا يجوز أن يحصل له من أحكامه التي تخصه وصفاته الجائزة عليه شيء ، كما أنّ الموجود هو الذي يكون على حاله يلزمه جميع أحكامه به والموجبة له ، فلذلك قلنا إنّه لا يكون معدوما بفاعل ولا بمعنى ولا بنفسه لمّا لم يكن له واسطة بين الوجود والعدم ، فلذلك لزمه العدم عند استحالة الوجود عليه ، فأمّا الأوصاف التي تتعلق بالأعيان ممّا لا يكون عبارة عن أحوالها بل هي إخبار عنها وعن غيرها لاختصاصها بها في باب الحلول أو التّعلق أو ما يجري مجراهما فليس لها علة ولا ما يجري مجراها ولا يجوز أن يكون شيء من ذلك بالفاعل.

واعلم أنّ أعمّ الأشياء قولنا شيء لأنّه يتعلّق بالمسمّى لكونه معلوما فقط ومستحيل أن يكون ذات غير معلومة أو ذات على حال غير معلومة عليها أو غير جائز أن يكونا معلومين ، فإن كان العلم لا يحصل بالحال التي عليها لأن العلم بالذّات هو الّذي منه يصل إلى العلم

٩٢

بالحال ، ولذلك كان الذّات لا يخلو من الوجود والعدم معا إذ لو لم يكن الذّات معلومة في العدم للقديم تعالى لم يصح منه القصد إلى اختراعها وإيجادها وليس قولنا شيء مثل قولنا موجود ، بدلالة أنّك تقول هذا شيء زيد ، فتضيفه ويمتنع أن يقال : هذا موجود زيد ، وكان يجوز أن يحدّ القديم بأنه الشيء لم يزل والمحدث بأنّه الشيء عن أول كما يقال هو الموجود لم يزل والموجود عن أوّل ، وإذا كان قولنا معلوم غير متعلق بفائدة فيه وإنمّا تتعلّق فائدته بغيره فالواجب أن لا يكون قولنا شيء مفيدا من هذا الوجه.

ويمكن أن يقال : إنه يفيد الذّات فكلّ ذات يسمّى شيئا وكلّ شيء يسمّى بذات ، ويمكن أن يقال أيضا إنه يفيد المعلوم ، فصلا بينه وبين ما يسمّى محالا كاجتماع الضّدين لأنّ مثل ذلك لا يصحّ علمه ، قال وليس يخرج الذّات من أن يكون على حال مع كونه عليها يجوز أن يستحقّ غيرها ولا يجوز ، فإن كان يجوز عبّر عنها بأنها موجودة ، وإن كان لا يجوز عبّر عنها بأنها معدومة ، فلذلك يسمّى المعدوم بالشّيء كما يسمّى الموجود به لما كانا معلومين في الحالين جميعا لذلك قلنا : المراد بقولنا موجود إفادة حال من أحواله أيضا وحالة له أخرى وهي العدم. وفائدة قولنا معلوم أنّ عالما علمه لذلك جاز أن يقال معلوم زيد للشّيء الذي هو مجهول عمرو ، والحال واحدة ويستحيل أن يقال للشيء إنه موجود زيد أو معدوم عمرو على الأحوال كلها.

واعلم أنّ الله تعالى لما أوجب في حكمته عند تكليف المكلّفين مداواة دائهم بالرّحمة لهم والعطف عليهم والحلم عنهم ، وطلب صلاحهم من حيث لا يدرون ويؤلفهم من جانب لا يشعرون رسم لهم في تعبّدهم الرّجوع إليه في مهماتهم وسوغ لهم دعاءه في رفع مأربهم فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٠](وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٦] الآية ثم أنزل في محكم كتابه من أسمائه ما بصّرنا وهدانا ومن صفاته ما قوّى إيماننا وإرشادنا ، لو لا ذلك والتأسّي بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أفعاله وقبول أقواله التي بها إبطال الضّلال ، وإذا كان كذلك فإنّ ما أثبتته التّلاوة يضاف إليه ما دوّنته الرّواية عن الصّحابة والتّابعين وما عدا ذلك مما لهج به ألسنة فصحاء الأمة والصّالحين من أهل اللغة.

فقد روي في التّفسير أنّ قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الأعراف ، الآية : ١٨٠] أنه تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة ، وجاء في الحديث أنّ : «اسم الله الأعظم الله» وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لله مائة اسم غير واحد من أحصاها دخل الجنة» فيجب أن ينظر فيه فيما سبكه التّحصيل ، وكما ذكرنا وينقى من درن الغباوة ويتلقّى بالقبول فيما يجوز إطلاقه على القديم تعالى ، والباقي يتوقّف فيه والوصف والصّفة

٩٣

جميعا لا يكونان إلا كلاما وقولا فهو كالوعد والعدة. وسمعت شيخنا أبا علي الفارسي يقول : أسماء الله تعالى كلّها صفات في الأصل إلّا قولنا الله والسّلام لأنّ السّلام مصدر ، ولفظ الله بما أحدث من صفة ولزوم الألف واللّام له ، يعدّ من الصفات فصار متبوعا لا تابعا كالألقاب يريد يتبعه الصفات ويقدم به ، ومعناه الذي تحق له العبادة ، فإذا قلنا لم يزل إلها الذي حقّت له العبادة من خلقه إذ أوجدهم. وقولنا إله نكرة ويجمع على الآلهة قال تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [سورة القصص ، الآية : ٥] واشتقّ منه تألّه الرّجل إذا تنسّك ، قال :

سبّحن واسترجعن من تألّه

لله درّ الغانيات المبدرة

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن عيسى عليه‌السلام قال له رجل : ما الله؟ قال : الله إله الآلهة». وروي عن ابن عباس أنه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. وروي في قوله تعالى : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢٧] أنّ معناه وعبادتك ، فالأصل إله حذفت الهمزة منه وجعل الألف واللّام عوضا منه لازما وأدغم في اللّام التي هي عين الفعل ، فصار الاسم بالتّعويض والإدغام مختصا بالقديم حتى كأنّه ليس من الإله في شيء ، قال سيبويه : ومثله أناس والنّاس يريد في حذف الهمزة لا في التّعويض بدلالة قوله :

إنّ المنايا يطلعن على الأناس الآمنينا

فجمع بين الألف واللّام والهمزة ، ولو كان عوضا لما جاز الجمع بينهما ، وقد قيل في قوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٦٥] إنّ الاسم الذي لا سمّي له فيه هو قول القائل : الله بهذه البنية الصفية ، وقولهم في صفات الفعل : يا غياث المستغيثين ، ويا رجاء المرتجين ، ويا دليل المتحيّرين ، موضوع موضع الاسم وكلّ ذلك مجاز وتوسّع ، وكذلك قولنا : قديم إنما وجب له هذا لتقدمه لا إلى أول ، فهو صفة لذاته وليس ثبت بهذا معنى يسمّى قدما. وقوله تعالى : (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [سورة يس ، الآية : ٣٩] وفي آخر : (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) [سورة الأحقاف ، الآية : ١١] يراد به تقدّم له وإن كان القصد إلى المبالغة.

فإن قيل : فهل يوجب إجراء لفظ القديم على الله تعالى وعلى الواحد منّا كما ذكرت تشبّها به؟ قلت : لا وذلك لأنّ الله تعالى قدم وتقدّم لنفسه والمحدث يقدم بأن الفاعل فعله في الأوقات المتقدّمة ، وإذا كان كذلك فقد اختلف موجب الصّفتين فلم يجب منهما تشبيه ، وعلى هذا قولنا : عالم في القديم والمحدث وقادر وسميع وبصير وحي وقدير وعزيز وملك ومالك ومليك ، على أنّه لو ساعدت العبارة لكان تفرد ما يستحق للذات بعبارة تلزمه ، ويخالف بها غيره وكانت الحيطة في ذلك ، لكنهم استطالوا ذلك وكان يكتفي بعلم الذات من لا يعلم حالها المختصة بها ، فاقتصدوا في العبارة كما اقتصدوا في الأخبار في بابي التذكير

٩٤

والتأنيث ، فأجروا ما لا يصح وصفه بالتّذكير الحقيقي ولا التأنيث الحقيقي مجرى غيره في العبارة.

وكذلك في الاخبار عن الله تعالى وإضمار أسمائه في الاتصال والانفصال إذ قلت هو وأنت وإياك ورأيته ورأيتك ومثل ذلك اقتصادهم في صفات ما غاب عنّا من أمور الآخرة وأهوال القيامة وطي السّماوات وتبديل الأرض غير الأرض إلى غير ذلك مما أخفيت حقائقه عنّا فاقتصروا في بيانها على عبارات لا تستوفيها ، وعلى كنهها لا يؤديها ، وهي ما نستعمله إذ عبّرنا عمّا نشاهده.

فأمّا الفصل بين السّامع والسّميع حتّى قيل : لم يزل الله سميعا وامتنع لم يزل الله سامعا فهو أنّ السّميع لا يقتضي مسموعا فيعدى إليه والسّامع لا بدّ له من مسموع ، والمسموع لا يكون مسموعا حتى يكون موجودا وذلك يدافع قوله : لم يزل وهذا كما يقول : هو عالم وعليم في كل حال ثم تمنع من أن يقول : لم يزل الله عالما بأنه خلق زيدا إذ كان ذلك يوجب وجود زيد في الأزل ، وعلى ما ذكر من الاقتصاد والاقتصار تركوا العبارة عن أشياء وإن أدركها الفهم لقلّة البلوى بها وذلك تركهم وضع في الصناعات المستجدّة ما أحدث من الأسماء ووضع في الشّرع أو نقل ما وضع ونقل.

وأما الأسماء المشتقة من الأعراض التي ليست مهيات كقولهم : فاعل ومحدث وعادل وجابر وصادق وكاذب ومريد وكاره فإنها لا توجب تشبها وذلك أن الإنسان قد يكون فاعلا لفعل لا يحلى به ، والفعل لا يختلف به هيئته عند أحد ممن يدركه ، (ألا ترى) أنّ هيئته لا تختلف لما يفعل في غيره من الحركات والتأليف والافتراق والعدل والجور ولا الإرادة والكراهة ولا الأمر والنّهي فلم يجب أن تكون تسميتنا بهذه الأسماء للمسمّى بها إذا استحقها تشبها له ، لأن التّشبه في الشاهد لا يعقل إلا من وجهين اثنين ، أحدهما : اشتباه بالهيئة كالأسود والأسود والطويل ، أو يشبهان بأنفسهما وأن يكونا من جنس واحد نحو البياض والبياض ، والتقدم والتقدم ، والتأخّر والتأخّر ، وما جرى هذا المجرى من الأجناس المتفقة بأنفسها ، فلما كانت تسميتنا بالفاعل لا توجب جنسيته ولا هيئته لم يوجب تشبها وهذا كقولهم آمر وناه وقائل ومعلوم ومذكور ، فأما رحيم ورحمن فهما من الرّحمة وبناءان للمبالغة وحقيقة الرحمة النعمة إذا صادفت الحاجة.

وذكر بعضهم أنّ الرّحمن هو الاسم الذي لاسم القديم سبحانه فيه وليس كذلك لأنهم قالوا لمسيلمة رحمن ، وقالوا أيضا فيه رحمن اليمامة ، وذكر بعضهم أنه لمّا سمعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الرّحمن قالت قريش : أتدرون ما الرّحمن؟ هو الذي كان باليمامة ، وإذا كان كذلك فما بقي إلا أن يكون لفظة الله هي التي لا سمّي فيها ، فإن قيل : فقد نرى الفاعل هيئته يخالف

٩٥

هيئة من ليس بفاعل والقائل منا له هيئته السّاكت ، قيل له : لم تخالف هيئته هيئة السّاكت بالقول وإنما خالفت هيئاتهما بالسكون الذي في شفتي السّاكت وبالحركات التي في لسان المتحرك ، لا بالكلام ، فإذا كان الله يفعل الكلام والأمر والنهي من غير أن تحل فيه حركة صحّ أنه لا تكون تسميتنا إياه آمرا وناهيا أو متكلما تشبيها.

وعلى هذا قولنا : العالم والحي والقادر والسميع والبصير لأن شيئا من ذلك لا يوجب تجنيسا ولا تركيبا ولا هيئة ، فإن قال : أليس العالم في الشاهد يحل العلم فيه أو في بعضه ، وكذلك الحي فلم زعمتم أن الحيزين لا يشتبهان لحلول الحياة فيهما؟ قلت : إن الحياة ليست بهيئة لهما فيشتبهان بها عند حلولها فيهما ، ولو كانا مشتبهين بسائر هيئاتهما ، فإن قال : فيلزمكم أن لا يكون من وصف الله تعالى بأنه يحله العلم والحياة مشتبها بخلقه ، قيل : ليس هو بهذا القول مشبها ، ولكن بتجويزه حلول الأعراض فيه يكون مشبها لأن ذلك يرجع إلى الهيئة.

واعلم أنّ الصفة قد تجري على الموصوف من وجهين في أحدهما : يجب له عن اختصاص واستبداد فيكون للذّات ويقترن بما لم يزل وفي الثاني : يقصر غايته فنقف دون موقف الأول ، وذلك كقولنا : بصير ومبصر لأنهما للذات ، إلّا أنّ مبصرا يتعدى إلى مبصر موجود ، ولذلك لم يجز أن يقال لم يزل مبصرا ، كما قيل : لم يزل بصيرا وعلى هذا قولك رأى يتصرف على وجهين.

فإن أريد أنه عالم قلت لم يزل الله رائيا وإن أريد أنه مبصر للمبصرات امتنع منه ؛ لأنّ المرئي المدرك لا يكون إلا موجودا ، وعلى هذا قولك الصّمد إن جعلته بمعنى السّيد قلت لم يزل الله صمدا ، وإن قلت هو من الصّمد إليه من العباد والقصد امتنع أن يقال لم يزل صمدا. ومثله كريم يراد به العز فيقال : لم يزل كريما وهو أكرم عليّ ، ويراد به الإفضال فيكون من صفات الفعل ، ومثله حكيم يكون بمعنى عالم فيقال لم يزل حكيما وإن أريد به أنه يحكم الفعل لحق بصفات الفعل ، والصفات المستحقة من طريق اللغة الحقيقية والمجازية فإنها تجري عليه تعالى متى لم يمنع مانع من جهة العقول والشّرع ، فإن التبس الحال يختار الأكرم فالأكرم والأبعد من التشبيه فالأبعد ، وذلك لمجانبتنا لأنّ نصفه بأنه يعقل أو يحس أو يفقه ويستبصر ويتيقن أو يفطن أو يفهم أو يشعر لما تتضمنه هذه الألفاظ من الأحوال التي حصولها لا يليق بالله تعالى.

فإن قيل : هو شاهد وشاهد كل نجوى وقريب مجيب ومطّلع على الضّمائر قلت : أجرينا عليه هذه الألفاظ مجازا وتوسعا ولأنها بكثرة دورانها في ألسنة السّلف الصالح ، والإشارة بها إلى ما لا يخيل ولا يلتبس من القصود السّليمة انتفى عنها ما يلابس غيرها من

٩٦

كل موهم ، ولمثل هذا أجرى قوي في صفة مجرى القادر وامتنع في شديد ومتين وما أشبهه من أن يجري مجراه ، فأما قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥] و (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٧٩] وما جرى مجراه فمثله في البلاغة يسمى المجانسة والمطابقة وهو ضرب من المجاز سمّي الثّاني فيه بالأول ليعلم أنه جزاؤه وقد أجرى إلى مثله ، والمعنى يجازيهم جزاء الاستهزاء والسّخرية ونحو قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [سورة الشورى ، الآية : ٤٠] والثاني لا يكون سيئة.

فإن قيل : فهل يجري التهاتف والتّهكم مجرى السخرية فتجيزه عليه اتساعا؟ قلت : لا يجوز ذلك ؛ لأن المجاز لا يقاس ، ألا ترى أنّ أرباب اللغة مجمعون على أنه لا يجوز سل الجبل ، وإن جاء سل القرية ، ومثل هذا قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة النور ، الآية : ٣٥] وامتناعنا من بعد من أن تقول الله سراج السماوات ، أو شمسها أو قمرها إذ كانت المجازاة لها انتهاء تجاوزها إلى ما ورائها محظور ، هذا مع توافق الصفات ، فكيف إذا اختلفت؟ ويقارب هذا قولهم في الله لطيف ورحيم ، والمراد به الإنعام ، ثم امتنعوا فيه من رفيق ومشفق لرجوعهما إلى رقة القلب واستيلاء الخوف ، فأما الغضب والسخط والإرادة والكراهة والحب والبغض والرضاء والطالب والمدرك والمهلك فمن صفات الفعل ، والله يحدثها لا في مكان إذ كان جميعها لا يوجب تصويرا ولا تهيئة ولا تركيبا ، وإنما تفيد عقابا للمكلفين أو إثابة أو إيجابا لإيقاع الفعل ، أو نفيا له وإذا كانت كذلك انتفت عن المحال على أنه لو أحدثها في المحال لعادت المحال الموصوفة بها.

فإن قيل : فهل يجوز أن تقع منّا إرادة لا في محل؟ قلت : لا وذلك أنّ أفعالنا تقع مباشرة ، أو متولدة عن مباشرة ، فلا بدّ لها من محل وأفعال الله تعالى بخلافها. فإن قيل : هل يجوز أن يوصف الله بأنه راع ، وأنه خفير ، وحارس كما وصف بأنه رقيب وحافظ؟ قلت : قد جاء رعاك الله وحرسك وحاطك في دعاء المسلمين ومعانيها صحيحة ، لكن بناء اسم الفاعل منها في صفاته لم يجيء وهم يستغنون بالشيء عن شبهه في اللغة ، فيذهب عن الاستعمال ومع ذلك فوصفه يجب أن يكون كريما ، ولفظة الحارس والرّاعي والحائط ليس مما يستكرم فيقرن بيا للاختصاص ، فيقال يا حارس أو يا راعي ، أو يا حائط ومما ينفر منه فيترك قول القائل في الله يا معلم وإن كان قد جاء (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [سورة الرحمن ، الآية : ١ ـ ٢] لاشتهاره في صفات المحترفين به ، على أنّ الفرق بين ما يجعل إخبارا وبين ما يجعل خطابا ويصدر بحرف النّداء ظاهر. وإذا كان كذلك فلفظ الخطاب بيا كالمترجم عن تواضع وفاقة فيجب أن يختار معه من الصّفات ما يؤكّد الحال ويحرّر السؤال ويشبه ما نحن فيه أنّهم قالوا في صفاته علّام الغيوب.

٩٧

ثم امتنعوا من علامة وإن كانت تاء التأنيث زائدة في المبالغة لما يحصل في اللّفظ من علامة التأنيث ولا تنحط رتبته عن رتبة التّذكير. ولأنهم جعلوا اللّفظ مؤنثا لاقتران علامة التأنيث فقالوا للبيضتين الاثنيان ، ووصف بعضهم المنجنيق وهو مؤنث في اللّغة فقال وكل أنثى حملت أحجارا ، فأمّا الخفير فمعناه لا يصح على الله لأنه من السّتر ومنه خفرت المرأة. وقول القائل ثابت في صفة الله قليل الاستعمال ومعناه صحيح فيه وهو الكائن الذي ليس بمنتف ، وقولهم : وتر ، وفرد وفذ جميعه جائز عليه لأنّ معناه معنى التّوحيد ، إلا الفذ ، لأن معناه القلّة. وقولهم إبراهيم خليل الله فمعناه الاختصاص ، ولا يقال الله خليل إبراهيم ، لأنّه يخص الله بشيء ولا يقاس الصّديق ولا الوامق ولا العاشق على الخليل ، ولا على المحب ، ولا يوصف الله بالكامل ، ولا الوافر لأنّ معناه الذي تمّت أبعاضه وتوفّرت خصاله ولا يوصف الله بالفرح ، لأن الفرح إنما يجوز على من يجوز عليه الغم على أنه مع ذلك متناوله مذموم وليس كالسّرور. يدل على ذلك قوله تعالى : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [سورة هود ، الآية : ١٠] ومما يقلّ استعماله وصفه بالسّار والبار ، وإن كان معناهما صحيحا إذا كان تعالى يسر أولياءه ويبرّهم سمعه وطوله.

فإن قيل : أفيجوز أن يقال في الله تعالى : إنه يمكنه أن يفعل ، ويستطيع أن يفعل ويطيق أن يفعل؟ قلت : كلّ ذلك جائز إلا قولك : يطيق أن يفعل ، لأن الطّاقة استفراغ الجهد فيما يقصده الإنسان وقوله تعالى : (ذِي الطَّوْلِ) [سورة غافر ، الآية : ٣] حسن جائز لأن معنى ذو الطّول وله الطّول واحد فاعلمه.

واعلم أنّ قول القائل : ما زال زيد يفعل كذا من العبارات الدّاخلة على المبتدأ والخبر يفيد الزّمان دون الحدث ، وإذا كان كذلك فزيد هو الذي كان مبتدأ وهو المخبر عنه ، والخبر ما بعده ، ولا يستقل بنفسه كما أنّ المبتدأ لا يستقلّ بنفسه وما زال مثل كان وأصبح وأمسى في أنه أفاد الزّمان ، إلا أنه بدخول حرف النفي عليه عاد إلى الإثبات ، لأن نفي النّفي إثبات ، وممّا صدّر بحرف النفي من إخوانه ما برح وما فتئ ، وما انفك ، وقال سيبويه : تقول زايلته مزايلة وزيالا والتزايل تباين الشيء ، وزيلت بينهم فرقت.

فإن قيل : فهل يجوز أن يقال : ما زال زيد يقطع الكلام به ، والمراد ثبت زيد. قلت : إن أخرجته من جملة العبارات الدّاخلة على المبتدأ والخبر وجعلته فعلا تاما يستغني بفاعله ، ويفارق ما لا يتم إلا بخبره ، لم يمتنع ذلك فيه ، وحينئذ يصير مثل كان الذي يفسر يحدث وجاء في القرآن : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٠] وعلى هذا قوله تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) [سورة يوسف ، الآية : ٨٠] لأن تقديره لن أبرح من الأرض لأن برح لا يتعدى مثل زال ، والأرض مخصوص لا يكون ظرفا ، وهذا غير المستعمل في قولهم لم يزل

٩٨

الله واحدا سميعا بصيرا ، ومثله أصبح الذي يمثل باستيقظ ، وأمسى الممثل بنام.

وقد فسّر سيبويه ما برح بما زال ، ولم يجعله من البراح إيذانا بالفرق بين ما جعل عبارة وبين غيره ، وقال تعالى : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [سورة طه ، الآية : ٩١] وفي موضع آخر : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) [سورة الكهف ، الآية : ٦٠] والمعنى لا أزال أسير حتى أبلغ ، ولو جعل من البراح لدافع قوله حتى أبلغ ، لأنّ الثّابت في موضعه لا يكون متبلغا ، ومما يشرح هذا الذي قلناه امتناعهم من قول القائل : ما زال زيد إلا كذا حتى ردّوا على ذي الرّمة قوله :

حراجيح (١) ما تنفكّ إلا مناخة

على الخف أو ترمي بها بلدا قفرا

وقالوا الاستثناء ممتنع هنا وإنّما هو حراجيح ما ينفك مناخة أي لا يزال شخوصا مجهودة ، وحمل إلا على الكثرة والجنس ، ومنهم من قال : ما تنفكّ من قولهم فككته فانفكّ كأنه يخرجه من أن يكون مما يدخل على المبتدأ والخبر ، ويجعله مستقلا بفاعله مثل كان التامة ، ويكون المعنى لا ينخل قواه إلا في هذه الحالة وعلى هذا ما فتئ وفي القرآن : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) [سورة يوسف ، الآية : ٨٥] أي لا تفتؤ ولا تزال.

فإن قال قائل : فهل يجوز أن يوصف الله تعالى بأنه ذخر وسند؟ قلت : هذا لا يكون إلا مجازا وما لا يجب من جهة الحقيقة لا يجوز عندنا وصف القديم به إلّا إذا كثر في كلام أهل الدين وأخبار أرباب اللغة فيصير تبعا فيه لهم ، وذلك أنّ الذّخر ما يذخره الإنسان ويحرزه لنفسه وليوم حاجته ، ويكون في الوقت كالمستغني عنه فيقال : أذخر هذا لطوارق الزّمان ونوائب الدهر والأيام وعلى هذه الطريقة لا يجوز ذلك على الله لأنّ الحاجة إليه دائمة فهذا في الذّخر وكذلك السند في الحقيقة هو ما أسند الإنسان إليه ظهره والله متعال عن هذه الصفة. فإن قيل : فهل يجوز أن يوصف الله بأنه نجي وولي؟ قلت : النجيّ فعيل ويراد به الذي يناجي ، ووصف به الجمع في قوله تعالى : (خَلَصُوا نَجِيًّا) [سورة يوسف ، الآية : ٨٠] وإن كان على لفظ الواحد كما جاء فعول في قوله تعالى : (عَدُوٌّ لِي) [سورة طه ، الآية : ٣٩] وإذا كان كذلك فليس هو كالنكير والنّذير لأنهما مصدران ، ولكنّه بمنزلة العلي والولي ونحوه مما يكون ، والوالي والولي بمعنى واحد ، قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٧] وقال تعالى : (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) [سورة الرّعد ، الآية : ١١] ، وكذلك النجيّ ومثله الصّديق والخليط في أنه بلفظ الواحد ووصف به الجمع ، وقوله : إني إذا ما القوم كانوا أنجيه. فأنجيه كقولهم كثيب وأكثبة ورغيف وأرغفة شبه الصفة بالاسم فكسرت تكسيره

__________________

(١) الحرجوح : الناقة السمينة ـ قاموس.

٩٩

وقوله تعالى : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [سورة الإسراء ، الآية : ٤٧] وصف بالمصدر كما وصف بالعدل والرضى ، وإذا كان الكلام بيانا عن المعاني فعلى المتكلم أن يبيّن المعاني التي يخبر عنها بكلامه وإلا كان بمنزلة من يلغز ويعمّي كلامه لئلا يفهم ، وفاعل هذا مختار عابث فأما قولنا : وكيل علينا أي متول لأمورنا وقائم ، بحفظنا ونصرتنا ، ولا يجوز أن يقال : وكيل لنا لأنّ الوكيل لنا هو النائب عنّا وخليفتنا فيما يليه لنا فأما قولنا : توكلنا على الله ، فليس من الوكالة في شيء وإنما معنى يتوكل يلتجئ ويعتمد وإذا كان كذلك فإنّا نقول : الله وكيل علينا ، ولا نقول : متوكّل علينا.

فإن قيل : كيف جاز مجيء تفعل وتفاعل في صفاته وممّا من أبنية التكلّف والتّكلف لا تجيزه على الله. قلت : قوله المتكبّر والكبير المتعالي في صفاته كالكبير والعالي والمباني كما يتفرد بالمعاني أو يكثر مجيئها لها فإنها قد تتداخل وتتشارك حتى لا تمايز ولا تباين ، وإذا كان كذلك فقول القائل تعلى وتعالى وعلا بمعنى واحد قال : (تعلّى الذي في متنه وتحدّرا) بمعنى علا وحدر وقال شعرا :

ومستعجب مما يرى من إناتنا

ولو زينة الحرب لم يترمرم

بمعنى عجب. وقال أوس :

وقد أكلت أظفاره الصّخر كلّما

تعايا عليه طول مرقي توصّلا

بمعنى أعيا ، وهذا كثير ظاهر فاعلمه. ومنه قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٦٧] بمعنى آذن. واعلم وقد انتهى هذا الباب وكمل بما ضمّ إليه من أخبار الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرها ، جامعا إلى الوفاء بما وعدته ومجيئه على المثال الذي خططته ، أني لم آل جهدا في اختيار ما كانت الحاجة إلى بيانها أمس ، والنّفس إلى تبينها أتوق ، حتى بلغ حدا يمكن الاستعانة به ، مع أدنى تأمّل على فتح كثير مما يستغلق من نظرائه ، وكلّ ذلك بعون الله وحسن توفيقه ، وأنا الآن مشتغل بالباب الثّاني والكلام في حقيقة الزّمان والمكان ، والرّد على من تكلّم بغير الحق فيهما والله بحوله وقوّته يعين على بلوغ ما نعرب منه وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٠٠