كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

بيتا. وقد حنأت الأرض تحنأ وهي حانية أي اخضرّت والتفّ نبتها وإذا أدبر وتغيّر نبتها قيل : اصحامت فهي مصحامة.

وقال أبو داود الأعرابي : تركنا بني فلان في ضفيغة من الضّفائغ وهي الكلأ والعشب الكثير.

ويقال : وعبنا رقة الطّريقة وهي الصّليان والنّصى. والرّقة أول خروج نبتها رطبا. وحكوا عن الينمة أنا الينمة أغبق الصّبي قبل العتمة وأكب الثّمال فوق الأكمة ، كهيئة زيد الغنم يقال : ثمال لبنها كثير ، وكلما كثرت رغوة اللّبن كان أطيب له ، يعني دري بعجل للصّبي لأن الصبي لأبصر والمراغي أطيب لبنا من المصاريح. والينمة بقلة يشبه الباذروج. وقيل لأعرابي : هل لك في البدو؟ فقال : أما ما دام السّعدان مستلقيا فلا قال ، وهو أبدا مستلق كره البادية.

وعن غير ابن الأعرابي قال : خرج الحجاج إلى ظهرنا هذا فلقي أعرابا وقد انحدروا في طلب الميرة ، فقال : كيف تركتم السّماء وراءكم؟ فقال : متكلمهم : أصابتنا السّماء هي بالمثل ، مثل القوائم حيث انقطع الرّمث يضرب فيه تفتير وهو على ذلك يعضد ويرسغ ثم أصابتنا سماء أمثل مهنا يسيل الدّماث ـ والتّلعة ـ الزّهيدة ـ القليلة الأخذ فلمّا كنّا حذاء الجفر أصابنا ضرس جود ملأ الآخاذ. واحدها أخذ وهي المصانع. فأقبل الحجّاج على زياد بن عمرو العتكي ، فقال : ما يقول هذا الأعرابي؟ قال : وما أنا وما يقول إنما أنا صاحب سيف ورمح. قال : بل أنت صاحب مجذاف وقلس أسج ، فجعل يفحص الثّرى ويقول : لقد رأيتني وإنّ المصعب يعطيني مائة ألف ، فها أنا أسبّح بين يدي الحجّاج.

قال : وسئل أعرابي عن المطر فقال : أصابتنا السّماء بدثٍ ، وهو المطر القليل لا يرضي الحاضر ويؤذي المسافر ـ ثم رككت ـ ثم رسغت ـ ثم أخذنا جار الضّبع فالأرض اليوم لو يقذف بها بضعة لم تقض بترب ، أي لم يقع إلّا على عشب قضت وأقضت إذا أصابها القضض أي كثر المطر ، حتّى لم يوجد القضض ورسغت ، أي كثر المطر حتى يغيب الرّسغ ، والرّك أكثر من الدّثّ.

وقيل لأعرابي : ما أشدّ البرد؟ قال : إذا كانت السّماء نقية ـ والأرض ندية ـ والريح شآمية. وقيل لآخر : ما أشدّ البرد؟ فقال : إذا صفت الخضراء ، وندبت الدّقعاء ، وهبت الجربياء. وقيل لآخر : ما أشدّ البرد؟ قال : إذا دمعت العينان وقطر المنخران ، ولجلج اللّسان.

وقال أعرابي : ليس الحياء بالسّجيّة يتبع أذناب أعاصير الرّيح ، ولكنّ كلّ ليلة مسبل رواقها ، منقطع نطاقها ، نبيث أذان ضأنها تنطف إلى الصّباح.

٣٦١

وحكي عن أبي عبيدة قال : قلت لأعرابي : ما أسحّ الغيث قال : ما ألقحته الجنوب ومرته الصّبا ونتجته الشّمال. ثم قال : أهلك واللّيل ما يرى إلا أنه قد أخذه. وقال الأصمعي : قيل لرجل : كيف وجدت أرض بني فلان؟ قال : وجدتها أرضا شبعت قلوصها ، ونسيت شاتها يعني لا يذكر. قال : فهل مع ذلك خوصة؟ قال : شيء قليل كل ما خرج عود ثم قوي فهي خوصة. قال والله ما أحمدت وإن كان القوم صالحين.

قال ابن الأعرابي : أخصب الخصب عند العرب فيما ذكره أبو صالح إذا كان الخوص وافرا ، وقال رائد مرة : تركت الأرض مخضرة كأنما حولانها قصيصة رقطا وعرفجة خاصبة ، وقنادة مزيدة ، وعوسج كأنّه النّعام من سواده مزيدة أي قد أورقت.

وحكي عن أبي المجيب ووصف أيضا جدبة فقال : قد اغبرّت جادتها ـ ودرع مرتعها ـ وقضم شجرها ـ وألقى سرحاها ـ ورقت كربتها ـ وخوّر عظمها ـ وتميّز أهلها ، ودخل قلوبهم الوهل ـ وأموالهم الهزل. قال : الجادّة الطريق إلى الماء. قوله : وألقى سرحاها : هو أن يأكل كلّ سرح مذيلها ، حتّى يلتقيا من الجدب ، قال : وإذا لم يكن للمال مرعى إلّا الشّجر رقّت أكراشه ، وخوّر عظمه. قوله : درع مرتعها : أكل ما عليه حتّى لم يبق شيء وهو مأخوذ من الشّاة الدّرعاء.

وقال أبو المجيب يصف أرضا قد أحمدها ، فقال : خلع شيحها ـ وأبقل رمتها ـ وخضب عرفجها ـ واتّسق نبتها ـ واخضرّت قرياها ـ وأخوصت بطنانها ،. وأحلت آكامها ـ واعتمّ نبت جراثيمها ـ وأحزت بقلتها ـ وذرقتها وخبازتها ـ وخوّرت خواصر إبلها ـ وشكرت محلوبتها ـ وسمنت قتوبتها ـ وعمد تراها ، وعقدت تناهيها ، وأماثت ثمادها ـ ووثق النّاس بصائرتها.

قوله : خلع شيحا إذا أورق ، والمخالع من العضاة : الذي لا يسقط ورقه أبدا. ويقال : كلح الشّجر إذا انحرد. قوله : خضب عرفجها : أي اسودّ النّبات قبل أن يطلع ، والرّمث من الحمص مخصب ثم عاد ـ ثم سقد ـ ثم يرمس ـ يقال : أطلع الشّجر إذا أورق وتفطّر ـ واتقد ـ وأربس ـ وأرمس ـ وأرى العرفج ـ وبقل الرّمث خاصة ـ وأجدر الشّجر إذا طلع ثمره حتى كأنّه الجدري.

قوله ؛ أخوصت : أي نبت فيها عيدان رطبة فهي خوصة ما دامت رطبة فإذا يبست فهي شجر ، ولا يخوص من الشّجر إلّا ما لم يكن له شوك. قوله : أحزت لفلتها أي نبت فيه الحزا ، وهو نبات يسمّى الحزا كما تقول العلقة ـ والحيلة ـ والفتلة ـ فالحيلة للسلم ـ والعلقة للطّلح ـ والفتلة للسّمر ـ والذّرق الحندفوق. قوله : خوّرت خواصرها : هو أن يؤخذ جنبها

٣٦٢

فيضرب على خواصرها خوف أن يحبط فيبعد أفقها ـ والأفق الخواصر. قوله : عمد ثراها العمد أن يجاوز الثّرى المنكب.

ويقال : إنّ ذلك حيا سنتين. قوله : عقدت تناهيها : فالتناهي حيث يتناهى السّيل فيستقر فعقدها أن يمر السّيل مقبلا حتّى إذا انتهى منتهاه. دار بالأبطح حتى تلتقي طرفا السّيل ، ووثقوا بصائرتها : يراد بها ماؤها وكلاؤها.

وقال الأصمعي : وصف بعض الأعراب جدبا وعيشا ، فقال : بينما نحن في زمن أعجف ـ وأرض عجفاء ـ وقف غليظ ـ وجادة مدرعة ـ إذ أنشأ الله سحابا مستكفا نشوءه ـ ضخاما قطره ، مسبلة عزاليه ـ جعود صوبه فاهرمع المطر حتى ملأ الأودية ، فرعبها وبلغ السّيل النّجاء حتّى لم ير إلّا الماء. وصهوات الطّلح فلم يمكث إلا عشرا حتّى رأيتها يندى ، فنعش الله به أموالنا ، ووصل به طرقنا وكنّا بنوطة بعيدة بين الأرجاء. قوله : الجادة : يعني الطّريق إلى الماء ومستكفا أي مستديرا. ونشوؤه ما نشأ إليه. وعزاليه أفواه مخارجه. وصوبه ما سال منه وانصبّ. واهرمع اشتد. ورعبها ملؤها. والنّجاء جمع نجوة وهو الموضع المرتفع لا يكاد يبلغه السّيل. والصّهوات عالي الطّلح. والنّوطة البعد. والأرجاء : النّواحي.

وقال ابن الأعرابي : بعث قوم رائدا لهم فقالوا : ما رأيت؟ قال : رأيت جرادا كأنه نعامة جاثمة ، جراد جبل. قوله : نعامة جاثمة يقول : فيه من الخصب والعشب الكثير حتّى كأنه نعامة ، وإنّما أراد سواد العشب وأعلى النّعامة أسود. وبعث آخرون رائدا لهم فقالوا : ما رأيت؟ قال : رأيت عشبا ينجع له كبد المصرم إذا رأى هذا ، وجعت له يعني أنه لا مال له أي إبلا ترعى هذا العشب حسرة على ما رأى. ويقولون : وردنا على كلأ الحابس فيه كالمرسل يعني يستويان فيه لكثرته والتفافه. ويقولون : وردنا على كلأ لا يكتمه البغيض. وقال طرفة :

يرعين وسميّا وصى نبته

فانطلق اللّون ودقّ الكشوح

وصى نبته اتّصل واكتهل. وأنشد أبو العبّاس ثعلب شعرا :

دفاء عليه اللّيث أفلاذ كبده

وكهله قلد من البطن مردم

يريد أنه مطر بنوء الأسد ، ومن نجوم الأسد النّثرة والجهة ونوؤهما غزير تسقط النّثرة لاثنين وعشرين تخلو من كانون الثاني ، وتسقط الجبهة في ثماني عشرة تخلو من شباط. والقلد النوبة يقال : القوم يتقالدون الماء أي يتصافيونه ويقتسمونه. قال : والماء لا قسم ولا أفلاذ.

٣٦٣

فصل

في ذكر مواقعهم ومسارحهم

قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصيل الخزاعي حين قدم عليه المدينة : «كيف تركت مكة يا أصيل؟» قال : تركتها وقد أحجن تمامها ، وأغدق أذخرها ، وأمشر سلمها ، فقال : «يا أصيل دع القلوب تقر». وروي أنه لمّا هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصاب القوم وعك فدخل عليه‌السلام على أبي بكر (رضي‌الله‌عنه) فقال : كيف تجدك فقال شعرا :

كلّ امرئ مصبح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

ثم دخل على عامر بن فهيرة فقال : كيف تجدك فقال شعرا :

وجدت طعم الموت قبل ذوقه

إنّ الجبان حتفه من فوقه

والثّور يحمي أنفه بروقه ثم دخل على بلال (رضي‌الله‌عنه) فقال : كيف تجدك فقال شعرا:

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بفجّ وحولي أذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنّة

وهل يبدون لي شامة وطفيل

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طرب القوم إلى بلادهم : اللهم حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكة» وقال الرّاجز : جاء بنو عمّك روّاد الأنق. وقال رؤبة من طول بعد الرّبيع في الأنق. وقال بعض الرّواد وسئل عمّا وراءه فقال : هلمّ أظعنكم إلى محل تطفأ فيه النّيران ، يعني لا يوجد عود يابس يوقد عليه. وقيل لأعرابي : كيف كان المطر عندكم؟ فقال : مطرنا بعراقي الدّلو وهمي ملي.

وقال أبو زياد : بعث شيخ أبنين له يرتادان ، فانصرف إليه أحدهما فقال الشّيخ : خلّ على ما وجدت ، فقال : ثأد ماد ، مولى عهد ، يشبع منه النّاب ، وهي تعدو أقفر ، يعني مكاكية فلبث ولم يظعن ، حتّى أتاه الآخر فقال : كيف وجدت الحياء؟ قال حياء ما ذا؟ قال : العام وعام مقبل؟ فقال له الشّيخ : خلّ على ما وجدت. قال ؛ وجدت بقلا وبقيلا وسبلا وسبيلا ، خوصه مثل اللّيل ، قد دبّ ما تحث هنا كم السّيل قال : هل به أحد؟ قال : نعم به بنو الرّجل لا يوجد أثرهم.

قال أبو زيد : بقلا أي وسميا كان مطره قبل الشّتاء. وبقيلا كان مطره بعد ذلك. وسبلا كان من الوسمي. وسبيلا كان بعد ذلك وهو الذي نبت منه البقيل ، قال : وعنى بالخوصة العرفج والثمام والسّبط وما كان في أصل ، قال : فلم يشك بنوه أنّ الشّيخ ظاعن

٣٦٤

إلى ما أخبر به ابنه الأول ، فلما أصبح تحمّل جهة ما أخبر به الأخير ابنه ، ففزع بنوه وقالوا : اهتزّ الشّيخ فقالوا : تذهب إلى أرض بها النّاس وتدع أرضا قفرا لا يرعاها أحد معك؟ قال : إنّ تلك طغوة لا وأخيك وقد وجد أخوكم هذا الأخير حياء العام وعام مقبل ما يبقى من هذا العام ، قال : فمضى واتّبعوه قوله : يشبع منه النّاب وهي تعدو ، ويعني لطوله واتّصاله لا تحتاج أن تقف عليه ولا أن تتبعه. قال : وقال رائد مرة ، تركت الأرض مخضرة كأنها حولاء بها بصيصة رقطا ، وعرفجة خاصبة ، وعوسج كأنه النّعام من سواد ، وهذا كما قال الآخر : وجدت جرادا كأنه نعامة باركة ، يريد كثرة العشب وسواده وشدّة الخضرة سواده ، قال : وسأل أبو زياد الكلابي صقيلا العقيلي حين قدم من البادية عن طريقه ، فقال : انصرفت من الحج فأصعدت إلى الرّبذة في مقاط الحرة ، فوجدت بها صلالا من الرّبع من خضمة وصليان وقرمل حتى لو شئت لأنخت الإبل في أزراء القفعاء ، فلم أزل في مرعى لا أحسّ منه شيئا حتى بلغت أهلي. الصّلال : أمطار متفرقة. والقفعاء نبت من الذّكور يقول : أخصبت حتى صارت تستر البعير البارك.

وقال آخر : رأيت ببطن فلج منظرا من الكلأ لا أنساه ، وجدت الصّفراء والخزامى يضربان نحر الإبل ، وتحتها قفعاء ، وحريث قد أطاع وأمسك بأفواه الإبل أغناها عن كل شيء وإذا نقع الجوذان في الاجارع فذلك غاية ريّ الأرض لأنّ الأجارع أشرب للماء ، وإذا نقع الماء في الأجارع غرقت الأجالد ، وقال ابن كناسة : بعث قوم رائدا فقيل : ما وراءك؟ فقال : عشب وتعاشيب وكماة متفرقة شيب تندسها بأخفافها النّيب ، فقيل : هذا كذب. فأرسلوا آخر ، فقالوا : ما وراءك؟ فقال : عشب ثأد ماد ، مولى عهد ، متدارك جعد ، كأفخاذ نساء بني سعد ، تشبع منها النّاب وهي تعدو. وقد مضى تفسير ما فيه من الغريب.

وبعث رجل بنين له يرتادون في خصب فقال أحدهم : رأيت ماء غللا يسيل سيلا ، وخوصه يميل ميلا ، يحسبها الرّائد ليلا. وقال الثّاني : وجدت ديمة على ديمة في عهاد غير قديمة ، يشبع منها النّاب قبل العظيمة. الغلل : الماء يجري في أصول الشّجر. وقال بعضهم : إذا أحيي النّاس قيل : قد أكلأت الأرض ، واجرنفشت العنز لأختها ، ولحس الكلب الوضر اجرنفاشها ، ازبئرارها ، وزفيانها في أحد شقّيها لتنطح صاحبتها ، وإنّما ذلك من الأشر حين سمنت فأخضبت. ولحسس الكلب : يعني أنّه يجد وضرا ويلحسه ، وإذا كانوا مجدبين لم يتركوا للكلب شيئا. وقيل لرجل منهم : ما أخصب ما رأيت البادية؟ قال : رأيت الكلب يمرّ بالخصفة عليها الخلاصة فيشمّها ويتركها. وقال أعرابي : وقد قيل له : ما تركت وراءك؟ قال : خلّفت الضّأن تظالم معزاها ، يعني أنّها لنشاطها تنطح بعضها بعضا.

وقال أبو زياد : بعث قوم رائدا لهم ، فلمّا رجع إليهم قالوا له : ما وراءك؟ قال : رأيت

٣٦٥

بقلا يشبع منها الجمل البروك ، وتشكّت منه النساء وهمّ الرّجل بأخيه. قال أبو زياد : لم يطل العشب بعد ، فإذا أقام البعير قائما لم يتمكّن منه.

وتشكّت النّساء اتّخذن الشّكّاء الصّغار ، لأنّ اللّبن لم يكثر بعد. وقوله : وهمّ الرجل بأخيه : أي همّ أن يدعوه إلى منزله ، ولم يتّسع له ، ويحتمل من التّفسير وجها آخر ، وهو أن الجمل إذا برك شبع مما حوله من مبركه ولم يحتج إلى أكثر منه. وقوله : وهمّ الرّجل بأخيه : يجوز أن يكون مثل قوله شعرا :

وأحيانا على بكر أخينا

إذا ما لم نجد إلّا أخانا

ومثل قوله : يا بن هشام ، أهلك الناس اللّبن ، لأنّ الجدب يشغلهم عن طلب الطّوائل ، وفي الخصب يتفرّغون للضّغائن. ومثل قوله شعرا :

ثعالب في السّنين محصّصات

وأسد حين يمتلئ الوطاب

ومثل قوله :

قوم إذا اخضرّت نعالهم

يتناهقون تناهق الحمر

وقيل في تشكّي النّساء ما رواه الشّعبي عن برد وردّوا على الحجّاج وهو حاضر.

رواه عنه أبو بكر الهذلي قال : جاءه الحاجب فقال : إنّ بالباب رسلا ، فقال : ائذن لهم ، فدخلوا وعمائمهم في أوساطهم ، وسيوفهم على عواتقهم ، وكتبهم بأيمانهم ، قال : فتقدّم رجل من سليم يقال له سيابة بن عاصم فقال الحجّاج له : من أين أقبلت؟ قال : أقبلت من الشّام. قال : هل كان وراءك من غيث؟ قال : نعم أصابتني ثلاث سحائب فيما بيني وبين أمير المؤمنين ، قال : فانعتهنّ لي ، قال : أصابتني سحابة بجودان فوقع قطر صغار وقطر كبار ، فكأنّ الصّغار لحمة الكبار ووقع بسيط متدارك وهو السّح الذي سمعت به ، فؤاد سائح ، وواد بارح ، وأرض مقبلة ، وأرض مدبرة أي أخذ السّيل في كل وجه ، وأصابتنا سحابة بسواء ، فلبّدت الدّمات وأسالت الغراز ، وأدحضت التّلاع وصدعت عن الكماة أماكنها. وأصابتني سحابة بالقريتين ، فقاءت الأرض بعد الرّيّ وامتلأت الآخاذ وأنعمت الأودية وجئتك في مثل مجرّ الضّبع.

ثم قال : ائذن فدخل رجل من بني أسد ، فقال : هل كان وراءك من غيث؟ فقال : لا ، كثرت الأعاصير ، واغبرّت البلاد ، وأكل ما أشرف من الجنبة ، فاستيقنّا أنّه عام سنة ، فقال : بئس المخبر أنت ، قال : خبّرتك بما كان.

ثم قال : ائذن فدخل رجل من أهل اليمامة فقال : هل كان وراءك؟ قال : نعم سمعت

٣٦٦

الرّواد تدعو إلى ريادته ، وسمعت قائلا يقول : هلم أظعنكم إلى محلة تطفأ فيها النّيران وتشكّى منها النّساء ، وتنافس فيها المعزى. قال الشّعبي فلم يدر الحجّاج ما يقول : فقال : إنما تحدث أهل الشّام فأفهمهم ، قال : نعم أصلح الله الأمير أخصب النّاس فكان السمن والزبّد واللّبن فلا توقد نار يختبز بها. فأمّا تشكّي النّساء فيحتمل وجها آخر من التّفسير سوى ما تقدم ، وهو أنّ المرأة تظلّ ترتق بهمها وتمخض لبنها ، فتبيت ولها أنين من التّعب ، ويكون التّشكّي من الشّكوى لا من الشّكوة.

وحكى أبو عبد الله قال : قدم رجل من سفر كان فيه ، فقالت له ابنته : كيف كنت في سفرك؟ فقال : تقسّمتني الأداوي والنّجم ، قال : يعني بالنّجم طلب الهداية باللّيل أن لا يضل. والأداوي يريد أن ينظر كم فيها من الماء أقليل أم كثير يشكو جزعه واهتمامه وخوفه من المتالف ، وأنشد للمرار بن سعيد شعرا :

له نظرتان فمرفوعة

وأخرى تأمل ما في السّقاء

قوله : مرفوعة أي ينظر إلى السماء يسأل ربّه النّجاة ، وأخرى إلى السّقاء هل فيه ما يبلغه إلى الماء.

ولقي أعرابي آخر فسأله عن المطر فقال : أصابتنا أمطار غزيرة واشتدّ لنا ما استرخى من الأرض ، واسترخى لنا ما اشتدّ من السّماء ، أي استرخى لنا جلد السّماء ، واشتدّ الرّمل الذي ندي ، وهذا مثل قول العجّاج شعرا :

عزّز منها وهي ذات إسهال

ضرب سوارى ديمة وتهطال

وقال أعرابي ونظر إلى السّماء فوجدها مخيلة : هذا صيّب لا يؤمن معه الدّوافع أن تدرأ عليكم بسيولها فتحوّلوا بأخبيتكم ، ولن تنجوا من الموت ، وأنشدني بعضهم للكميت في المخيلة شعرا :

فإيّاكم وداهية ناد

أظلّتكم بعارضها المخيل

٣٦٧

الباب الثامن والثلاثون

في ذكر الوراد ومن جرى مجراهم من الوفود

قال : العريجاء أن ترد غدوة وتصدر عن الماء فيكون سائر يومها في الكلأ وليلتها ويومها من غدها ، ثم ترد ليلا ثم تصدر عن الماء ، ويكون بقية ليلتها في الكلأ ويومها من الغد وليلتها ثم يصبح الماء غدوة ، فهذه العريجاء ، وهي من باب صفات الرّفه. وفي الرّفه الظّاهرة والضّاحية والآئبة والعريجاء وظاهرة الغب ، وهي للغنم لا تكاد تكون للإبل ، والظّاهر أن ترد كلّ يوم ضحوة والآئبة أن ترد كلّ ليلة ، وظاهرة الغب أقصر من الغب قليلا ، وقال : أقصى ظمأ الغنم في الشّتاء سدس ، وفي الصّيف ترد كلّ يوم ، والإبل أقصى ظمأها ثلاثة أعشار في غير الجزء ، والجزء أن يكتفوا بالرّطب عن الماء ، وأقصى ظمأ الحمار الأهلي غبّ في الشّتاء والرّفه أن يرد كلّما أراد وأقلّ ظمأ الإبل الغب ، وكلّ هذا حكاه ابن الأعرابي.

قال : ودخل رؤبة على سليمان بن علي فقال : ما بقي من باتك؟ فقال : إنّي لأظمي فأورد فأقصب ، قال : أقصب الرّجل : إذا أورد فلم يشرب إبله إلّا شربا ضعيفا وقصبت هي. ودخل عليه مرة أخرى ، فقال : ما عندك؟ فقال : يمتد فلا يشتد ، فإذا أكرهته يرتد ، فقال : إنّي لأجد ذلك.

وحكى غير واحد من الرّواة أنّه لما وردت وفود العرب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام طهفة بن أبي زهير ، فقال : أتيناك يا رسول الله من غور تهامة بأكوار الميس ، ترتمي بنا العيس ، نستحلب الصّبير ، ونستخلب الخبير ونستعضد البرير ، ونستخيل الرّهام ، ونستجيل الجهام ، من أرض غائلة النّطأ ، غليظة الموطأ قد نشف الدّهن ، ويبس الجعتن ، وسقط الأملوج ، وماد العسلوج وهلك الهدي ، ومات الودي ، برئنا يا رسول الله من الوثن والعنن ، وما يحدث الزّمن لنا دعوة السّلام ، وشريعة الإسلام ما طما البحر ، وقام تعار ، ولنا نعم همل إغفال ، ما تبض ببلال ووقير كثير الرّسل ، قليل الرّسل ، أصابتها سنة حمراء موزلة ليس

٣٦٨

لها علل ولا نهل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ بارك لها في محضها ومخضها (١) ومذقها ، وابعث راعيها في الدّثر يبالغ الثمر ، وبارك له في المال والولد من أقام الصّلاة كان مسلما ، ومن آتى الزكاة كان محسنا ، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا لكم ، يا بني نهد ودائع الشّرك ووضائع الملك ، لا تلطط في الزكاة ولا تلحد في الحياة ، ولا تثاقل في الصلاة». وكتب معهم كتابا إلى بني نهد : «بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد : السّلام على من آمن بالله ورسوله لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة ، ولكم القارض والفريش وذو العنان الرّكوب والفلو الضّبيس ، لا يمنع سرحكم ولا يعضد طلحكم ، ولا يحبس درّكم ما لم تضمروا الآماق ، وتأكلوا الرّباق ، من أقرّ بما في هذا الكتاب فله من رسول الله الوفاء والعهد والذّمة ، ومن أبى فعليه الرّبوة».

تفسيره قوله : نستحلب الصبير : يريد الغيم الأبيض المتراكم أي نتطلب منه الغيث ونستخلب الخبير : أي نحصده والخلب القطع ومنه المخلب والخبير : النّبات ، ومنه المخابرة في الزّراعة ، ومعنى نستخيل الرّهام : أي الأمطار والواحدة الرّهمة ونستخيل من قولك سحابة مخيلة وخيلت وتخيلت ومعنى : نستجيل الجهام (٢) أي نجده جائلا في الأفق ، والجهام السّحاب الذي قد أراق ماءه.

قال الهذلي : ثلاثا فلما استجيل الجهام واستجمع الطّفل منه رشوحا. ويروى نستحيل بالحاء ، ويكون من استحلت الشّخص : إذا نظرت إليه هل يتحرك. وقوله : من أرض غائلة النّطا يريد من أرض مغنية البعد ، أي من ركبها أهلكته ، يقال : غالته غول والنّطاء البعد قال ، وبلدة يناطها نطي. وقوله : نشف المدهن أي انتشف القارات ما تقع فيها من ماء المطر ، وقوله ويبس الجعثن يعني أصول النبات.

ويقال : جعثنه أيضا وجمعها جعاث. وقوله : وسقط الأملوج ، الأملوج ورق لبعض الأشجار مفتول كالعبل. وقوله : وماد العسلوج أي مالت الأغصان وانبثت. ويقال : عسلوج وعسلج قال : أنبت الصّيف عساليج الخضر.

وقوله : هلك الهدي يراد به الإبل وأصله فيما يهدى من القرابين ، وفي القرآن : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٦] والهدي.

__________________

(١) في مجمع الأنوار المحض بحاء مهملة وضاد معجمة : اللّبن الخالص بلا ماء وهو بمعجمتين ما مخض من اللّبن وأخذ زبده ـ الحسن النعماني كان الله له.

(٢) كذا في الأصل وقال في مجمع بحار الأنوار في خيل : بالخاء المعجمة ونستخيل الجهام هو نستفعل من خلت إذا ظننت أي نظنّه خليقا بالمطر ، وأخلت السّحابة واخبلتها ومنه حديث إذا رأى في السماء اختيالا تغير لونه. الاختيال أن يخال بنوءه المطر ١٢ الحسن النعماني المصحح كان الله له.

٣٦٩

وقوله : وملت الودي يراد به فسيل النّخل.

وقوله : من الوثن والعنن ، فالعنن الاعتراض والمخالفة ، يريد برئنا إليك من المشاقّة وكل معبود من دون الله. وقام تعار : اسم جبل يريد الأبد.

وقوله : نعم إغفال أي لا ألبان لها. والغفل الذي لا سمة له.

وقوله : ما تنبض ببلال : أي لا تنطف ضروعها بما يبتل.

وقوله : ووقير كثير الرّسل فالرّسل اللّبن ، وإنما وصف السّنة بالحمرة للجدب الشّامل لذلك. قال : إذا احمرّ آفاق السّماء من الفرس.

ويقال : جوع أغبر وموت أحمر. وقوله : موزلة من الأزل وهو الضّيق. ويقال : أزل أي صار في أزل ، كما تقول أسهل وأحزن. والدّثر : المال الكثير.

وقوله : ودائع الشّرك ووضائع الملك. الوديع : العهد. يقال : توادع الجيش إذا عاهد كلّ واحد منهما صاحبه أن لا يرى له إلا ما يراه لنفسه ، فكان بينهما تشارك ولا عرو بينهما ولا شر. ويقال : أعطيته وديعا أي عهدا. والوضائع جمع الوضيعة : وهي ما وضع على المسلمين في أموالهم وأملاكهم. والمعنى : أنهم يساوون المسلمين فيما يلزمون لا زيادة عليهم ولا عتب ، متى لم يلطوا الحقّ أو لم يلحدوا في حياتهم عن واجب ، ولم يتثاقلوا فيما اشترع من فرائض الدّين. والإلطاط : المنع ويقال : لطّ وألط بمعنى. والإلحاد : العدول.

وقوله : لكم في الوظيفة الفريضة ، فالفريضة الهرمة ، وكذلك الفارض والمعنى : لا يعد عليكم في الصّدقة مثله.

وكذلك العارض : هي الكبير وذات الآفة ، من كلامهم : بنو فلان أكّالون للعوارض.

والفريش من الخيل : التي وضعت حديثا فهي كالنّفساء من النّاس والرّكوب الذّلول والفلو (١) الضّييس : الصّعب ، وهذا كما روي : «عفونا لكم عن صدقة الخيل».

وقوله لا يمنع سرحكم : يريد ما تسرحونه في مراعيكم لا تمنعون منها ولا تزاحمون فيها. ولا يعضد أي لا يقطع.

وقوله : يمنع درّكم هو على حذف المضاف أي ذوات الدّراي لا يمنع من الرّعي ، ويحشر أي إلى المصدق.

__________________

(١) في المجمع الفلو بفتح فاء وضم لام فمشدّدة وروي بسكون لام وفتح فاء.

٣٧٠

والأماق (١) العته والغل ، يقال في فلان ماقة.

وقوله : وتأكلوا الرّباق : يعني العهود التي صارت كالأرباق في الأعناق.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أبي فعليه الرّبوة» أي : الزّيادة ، يريد أنّ الخارج من الطّاعة يتضاعف عليه ما يلزمه ، وهذا كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قيل له : إنّ فلانا قد منع الصّدقة ، فقال : هي عليه ومثلها.

حديث قيلة : روت قيلة : قالت وردت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلّيت معه الغداة حتّى إذا طلعت الشّمس دنوت وكنت إذا رأيت رجلا ذا رواء ، وذا قشر طمح بصري إليه ، فجاء رجل فقال : السّلام عليك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وعليك السّلام» ، وهو قاعد القرفصاء ، وعليه أسمال مليتين ، ومعه عسيب نخل مقشو غير خوصتين من أعلاه ، قالت : فتقدّم صاحبي فبايعه على الإسلام ثم قال له : يا رسول الله اكتب لي بالدّهناء ، فقال : «يا غلام اكتب له» قالت : فشخص بي وكانت وطني وداري ، فقلت : يا رسول الله الدّهناء مقيد الجمل ، ومرعى الغنم ، وهذه نساء بني تميم وراء ذلك فقال : «صدقت المسكينة المسلم أخو المسلم بينهما الماء والشّجر ، ويتعاونان على الفتان». وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيلام ابن هذه أن يفصل الخطة وينتصر من وراء الحجرة». يقال شخص بفلان : إذا أتى ما يقلقله ويحرّه.

والفتان جمع فاتن وهم الشّياطين يفتنون ويفتح فاؤه فيقال : فتّان ، على المبالغة. والرّواء : المنظر ، والقشر : اللّباس ، والقرفصاء : جلسة المحتبي ، والعسيب : جريد النّخل ، والمقشو : المقشور.

وممّا روي من أخبار الوفود أن معاوية بن ثور وفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن مائة سنة ، ومعه ابنه بشر ، فقال معاوية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أتبرّك بمسّك وقد كبرت وابني هذا بربي فامسح وجهه ، فمسح صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجه بشر ، وأعطاه أعنزا عفرا ، وبرك عليهم ، قالوا : وكانت السّنة ربما أصابت بني البكاء ولا يصيبهم فقال محمد بن بشر شعرا :

وأبي الذي مسح النّبي برأسه

ودعا له بالخير والبركات

أعطاه أحمد إذ أتاه أعنزا

عفرا نواحل لسن باللّجبات

يملأن رفد الحيّ كلّ عشيّة

ويعود ذاك الملء بالغدوات

بوركن من منح وبورك مانحا

وعليه منّي ما حييت صلاتي

__________________

(١) الإماق الحمية والأنفة وقيل الجرأة ـ مجمع.

٣٧١

وهذا باب له جوانب ، وورّاد العرب مختلفة الطّرق ، فمنهم من قال :

ولقد وردت الماء لون حمامة

لون الفريقة صفّيت للمدنف

فصدرت عنه طاميا وتركته

يهتزّ علفته كأن لم يقشف

وقال آخر :

وماء قد وردت أميم طام

على أرجائه زجل القطاط

فبتّ أنهته السّرحان عنه

كلانا وارد حرّان ساط

وقال لبيد :

فوردنا قبل فراط القطا

إنّ من وردي تغليس النّهل

طامي العرمض لا عهد له

بأنيس بعد حول قد كمل

فهرقنا لهما في داثر

لضواحيه نشيش بالبلل

وقال العجّاج :

وردته قبل الذّباب العسال

وقبل إرسال قطا فإرسال

بالقوم عبدا والمطي الكلال

وقال امرؤ القيس :

فأوردها من آخر اللّيل مشربا

بلالق خضرا ماؤهنّ قليص

يعني : عيرا وأتنا ، فربّما قصدوا الحج بركوب الفلوات التي لم تسلك ، والمياه التي لم تورد ابعادا في الغزو ، واقتحاما على المهالك. وربما ذكروا التّوحّش ومجاورة الوحوش لذلك قال الشّنفري:

طريد خبايات تياسرن لحمه

عقيرته لا بأيما حن أوّل

بجناياته في القبائل حتى أسلمه ذووه وتبرءوا من موالاته.

وقال :

ويشرب أسارى القط الكدر بعد ما

سرت قربا أحياؤها يتصلصل

وربما قصدوا الافتخار فيه بورود أبواب الملوك ومنافرة الخصوم بها والسّعي في تحمّل الدّيات وإصلاح ما بين العشائر. وجعل المياه فراطة لهم لسبقهم كل الإغراء إليها يدل على هذا قوله :

ولا يردن الماء إلّا عشية

إذا صدر الورّاد عن كلّ منهل

٣٧٢

وذكر بعضهم هذا فقال : خير الورد ما كان أوّل النّهار وشره ورد العشي حتى أنهم يتعايرون به ، وذكر البيت وخالفه آخر فقال : خير الورد ما وافق الحاجة ثم أنشد :

أوردها مهجرا يسار

يسار لا يروي يدا العشار

ليس بإيراد العشيّ عار

قال أبو عبد الله : والذي بسط له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رداءه أشج عبد القيس واسمه عائذ بن عمرو ، وقال له : «فيك خصلتان يحبّهما الله : الحلم والإناءة» قال : هما فيّ أو شيء جبلني الله عليه ، فقال : «جبلك الله عليه» فقال : الحمد لله الذي جبلني على ما أحبّ أو نحو ذلك.

وحكى هشام عن أبيه أنه أخبره رجل من رحبة حمير قال : كنت في جمة فبينا نسير في بعض مفاوز اليمن فأضلّلهم بعارض عرض وقد سرت ثلاثا لا أرى أنيسا إذ دفعت إلى شجر وظلّ وماء معين. وقد ظمئت وأكللت فإذا أنا بشيخ له غديرتان بيضاوان كأنّهما ينطفان بالدّهان ، وعليه حلة كأنّها فارقت من يومها الصّبيان ، وبين يديه بغلان حضرميّتان كأن لم تنالا بوطء ، وهو قائم يصلّي بقراب ما بين شجرات عم ، فدنوت وسلّمت ، وإنّ رأسه ليحاذي قمّة رأسي وإنّي لعلى نجيب ساف عليك. ثم أنخت وشربت من الماء وسقيت بعيري وجلست وراءهما ، فلما أحس بجلوسي ركع وسجد ثم ردّ عليّ سلامي.

ثم قال : من أين وضح الرّاكب؟ فقلت : من رمع فقال : ما بالك على غير سمت؟ فقلت : ما زلت على لقم بهجم أؤم أطراف قوادم الفجر الأشمل ، ومنكب الأريب الأيمن حتّى هبطت بالأمس غوطا ملطاطا ، حين طفل الأصيل فبتّ حيث طخطخ اللّيل بصري ، فلما تهور اللّيل شبه لي ثائبة رعاء فثاء ذلك عني بعض ما كان يشيزني ، ثم ثبت فحله أن قد استثبت فقمت إلى بعيري فغيرت عليه.

ثم ركبت أؤم الأصوات وكأنني في أكساء أهلها ، وما يزداد إلّا بعدا فتفزّع عنّي سربال اللّيل ، بين نعاف متواصية ، فزلت أخبطها سحابة يومي متوسّما تارة ومتعسّفا أخرى ، حتى رفع لي هذا السّواد ، حين نجهت من نقب ، ذلك القف فرمته حتى أضافني إليك هذا الضّوح ، فقال : حسبك بواقيه الموقى جنه ـ ولو كنت ذا خبر تكنه ، خطر ما هجمت عليه ما رأيت للنّوم سميرا ، فقابل النّعمة بالسّلام بشكرها ، فقال : يا بن أخي السّماء غطاء ، والأرض وطاء. وأما موطن وراء هذا الضّراء فقد أخذتني منه وحشة ، وقلت : يا عمي هل أنت بمخبري عمّا رأيت من عجائب الدّهر في مدة أيامك؟ فقال : نعم أرأيت النّعاف المتقابلات ، والغيطان المتواصيات اللّواتي جرعتهن سائر اليوم؟ قلت : نعم. قال : هل أحسست هنالك رسما واضحا ، وإثرا ماضحا؟ قلت : لا. قال : والله يا بن أخي لقد عهدت بتلك البيضة الفيحاء مجادل كالشّناخيب ، مشرفات المحاريب ، يرى الرّاكب شعافها من منزلة ثلاث ،

٣٧٣

محفوفة بالجحافل الململمة ، والكتائب المسوّمة ، ينم على أبوابها الأحبوش ، وتهز الآل ينم الأسد على الأشبال ، وتحوص لربّها الآمال ، في الأموال ، فتأذى ثات ، وماذ وثات الأسد الضّرغام ، الأبلج القمقام ، الملك الهمام ، يخضع لبيته الأذقان ، وتذعر لهيبته الجنان ، عطاؤه غمر ، وأخذه قهر ، وسلامه إنعام ، ومحاله اصطلام ، عمل بذلك سبعين خريفا ، وأعين الحوادث عنه مغضية ، ثم شصاءه إليه يوم من الدّهر ، كدر المعاش ، وبدّد شمل الريّاش ، ثم اقتعد مطيّ تلك النّعمة ، ذو هلاهلة تقمع الأضداد ، وغمر الأنداد ، وأنشأ المصانع ، وبثّ الصّنائع ، فغيّر بذلك أربعين حجة وسبعا ، لا تروعه حادثة ولا يعتن له عاتنة ، ولا تعرض له هاتنة.

ثم كشّرت له عن أنيابها أم اللّميم ، فرمته بأقصد سهامها ، ورهقتهم بأفظع أيامها فحطّتهم عن وثابه ، دون حجابه ، ومصارع أبوابه ، ولم يمنعه العز الصّم ، ولا العدير الدّهم ، ثم سحب والله الزّمان على آثارهم ذيول البلاء ، وطحنهم بكلاكل الفناء ـ فأصبحت الآثار بائدة ـ والعزّة هامدة ـ وفي ذلك يقول شاعر من غابرهم :

خلق النّاس سوقة وعبيدا

وخلقنا الملوك والأربابا

كان ذو ثات الهمام ربيعا

يحسب النّاس سيبه أحسابا

وطىء الأرض بالجنود اقتدارا

واقتسارا حتّى أذلّ الصّعابا

حوله الصّهب والجعاد يخالو

ن لدى بابه اللّيوث الغضابا

وتغضّ العيون من دونه الأملا

ك مائدا وتحنو الرّقابا

فرماني الزّمان منه بيوم

غادر المعمر الخصيب يبابا

فكأنّ الجموع والعدد الدّهم

وذاك النّعيم كان ترابا

ثم قال لي : عليك تلك الثّنية فأسند فيها ، فإذا فرعتها فمثلت لك الخورمات ـ على المازم ، فتنكّبها ذات اليمين ، فهناك الطريق ثم غاب عنّي فلم أره بعد.

تفسير الألفاظ الغريبة

الماء المعين : الظّاهر وينتعان : يقطران. ويقال : (وضح الرّاكب) : وأوضح أي طلع ، واللهجم : البين ، واللّقم : الطّريق ، والأريب : ريح تهب متنكّبة بين الصّبا والجنوب ، فإذا هبّت من تحت مطلع سهيل فهي الجنوب الخالصة. وقوله : (قوادم الفجر) : يعني جناحه ، والغوط الملطاط : ما اعترض من الأرض في الغائط وحجب ما وراءه ، وطفل الأصيل : أي أقبلت في الظّلمة ، وطخطخ اللّيل بصري : أي سترت الظّلمة عيني ، تهور اللّيل : أدبر ، والثّائبة : الزّحر ، فثأ : سكن ، تشيزني : تقلقني. والإكساء : الماخير الواحد

٣٧٤

كسوء ، والمتواصية : المتواصلة. نجهت : بدوت ، النّقب : الطّريق الضّيق ، الضّوح : منعطف الوادي ، الأثر الماصح : الدّارس ، البيضة الفيحاء : الأرض الملساء ، الشّناخيب : أعالي الجبال ، الواحد شنخوب. المحاريب : الغرف بلغة حمير وغيرهم ، ذوثات : قيل من أقيال حمير دون الملك المتوّج. قوله : وسلامه إنعام ، يريد أنّه يسالم منعما لا مضطرا ، والمحال : الكيد والعقوبة ، يقال : شصا بصره : أي شخص ، وشصا برجله : دفعه ، والرّياش : الهيئة ، وثروة لا يعتن : لا يعترض. الهائثة : الدّاهية وكذلك : أم اللّميم. الوثابة : السّرير بلغة حمير ، الصّم : الشّديد الثابت.

قال الأصمعي : كانت حمير تسمّي الملك إذا لم يغز (موثبان) قال : وكانت ملوك حمير قد رتّبوا المملكة أن يختار الملك ثمانية من أبناء الملوك ، يسمّيهم المثامنة يخدمونه فإذا مات الملك انتخب أهل المملكة من المثامنة رجلا إن لم يكن له ابن أو ابن أخ ، ثم أخذ من الأقيال رجل يجعلونه بدل ذلك من المثامنة لتمام الثمانية وأخذ من أهل البيت رجل فجعل قيلا. والأقيال : ثمانون رجلا ، وأهل البيت أكثر من أن يحصوا ، (والخورمات) : ثنايا الجبال ، و (المآزم) المضائق.

٣٧٥

الباب التّاسع والثلاثون

في السّير ، والنّعاس ، والميح ، والاستقاء وورود المياه

قال لبيد شعرا :

ومجود من صبابات الكدى

عاطف النّمرق صدق المبتذل

قال : هجدنا فقد طال السّرى

وقدرنا إن خنا العيش غفل

قل ما عرس حتى هجته

بالتّباشير من الصّبح الأول

يلمس الأحلاس في منزله

بيديه كاليهوديّ المصل

يتمارى في الذي قلت له

ولقد يسمع قولي حين هل

(المجود) : أصله الذي قد مطر جودا وجعله عاطف النّمرق لانثنانه في النّعاس وتمايل ، ومعنى صدق المبتذل : إذا ابتذل نفسه للعمل كان صلبا ، ومعنى (هجدنا) : نومنا يريد أنّ السّير قد امتد واتّصل وأنّهم مالكون لورود المقصد إن سلموا من آفات العيش ، وجعله لامسا لحلسه كاليهودي في صلاته لزوال تماسكه ، وغلبة التّوابد قوله : (يتمارى) يبين به زوال تحصيله فهو شاك فيما يدركه بسمعه وإن كان مميز الماء يخاطب به أبا حية النّميري :

وأغيد من طول السّرى برحت به

أفانين مضاء على الأسّ مرجم

سريت به حتّى إذا ما تمزّقت

توالى الدّجى عن واضح اللّون معلم

أنخنا فلمّا أفرغت في لسانه

وعينيه كأس السّحر قلت له قم

يودّ بوسطى الخمس منه لو أنّنا

رحلنا وقلنا في المناخ له نم

حظاء الكره مغلوبا كأنّ لسانه

بمارد من رجع لسان مرسم

ذكر ابن الأعرابي أنّ عقيل بن علقة خرج في سفر ومعه ابنه عملس وابنته الحرباء فقال شعرا:

قضت وطرا من دير أروى وربّما

على عجل ناطحته بالجماجم

٣٧٦

فقال لابنه : أجز ، فقال :

فأصبحن بالموماة يحملن فينة

تشاوى من الإدلاج ميل العمائم

ثم قال لابنته أجيزي فقالت شعرا :

كأنّ الكرى يسقيهم صرخدية

عقارا تمشّت في الطّلى والمعاصم

فقال : والله ما وصفتها حتى شربتها وضربه ابنه بسهم فاختلّ ساقه وقال شعرا :

إنّ بني رملوني بالدّم

من يلق أبطال الرّجال يكلم

وما يكن من صعر يقوم

شنشنة أعرفها من أخزم

قال ذو الرّمة :

وليل كجلباب العروس ادّرعته

بأربعة والشّخص في العين واحد

أجم غدافي وأبيض صارم

وأعسر مهري وأشعث ماجد

أخو ثقة جاب الفلاة بنفسه

على الهول حتى لوّحته المطارد

وأشعث مثل السّيف قد لاح جسمه

وحيف المهاري والمهوم الأباعد

سقاه الكرى كأس النّعاس برأسه

لدين الكرى من آخر اللّيل ساجد

أقمت له صدر المطيّ وما درى

أجائرة أعناقها أم قواصد؟

ترى النّاشئ الغرّيد يضحى كأنّه

على الرّجل مما منه السّير عاصد

قوله : (كجلباب العروس) : في التشبيهات الظّريفة لأنّ اللّيل لا يشبه جلباب العروس إلا في سبوغه واتّساعه وقلة فرجه وتمامه ومثله قول الآخر شعرا :

إذا ما الثّريا طلعت في سنائها

طلاع العروس في ثياب جلاء

تنفّست من علمي بما البين صانع

وإنّ ردائي ليس لي برداء

وإنما ذكر الثّريا لطلوعها في أطول ما يكون ، وحينئذ تطلع في وقت غروب الشّمس وذلك في أوّل الشّتاء ، فإذا طلعت طلعت في حمرة الأفق ، فشبّهها في تلك الحالة بثياب العروس في حمرتها وسبوغها. قوله : (تنفّست) : أي علمت أنّ الزّمان قد تغيّر عن هيئته ، وأنّ الإنسان لا يكتفي من الكسوة بما كان يكتفي به قبل ذلك لتحرك البرد ، وأنّ الأحياء تتفرّق فيطلبون المحاضر ويهجرون البوادي ولابن أم صاحب :

وفتية أرّقتهم من مهجع

والنّوم أحلى عندهم من العسل

لا يطعمون النّوم إلا قللا

حسوا كحسو الطّير من ماء الوسل

٣٧٧

قلت لهم : أصبحتم فارتحلوا

واللّيل ملق حلسه داني الظّلل

فنهضوا مائلة أعناقهم

كأنّهم من الكلال والثّمل

شرب تساقوا قرقفا حمصية

كرّت عليهم عللا بعد نهل

وأنشد أحمد بن يحيى :

إني إذا ما اللّيل كان ليلين

ولجلج الحادي لسانين اثنين

لم تلفني الثّالث بعد العدلين

ساد الرّقئين منهم ذو البردين

الرّقئين : المتكابس ، وقد يعد من هذا الباب قوله :

إني إذا ما القوم كانوا أنجية

واضطرب القوم اضطراب الأرشيه

وشدّ فوق بعضهم بالأردية

هناك أوصيني ولا توصي بيه

وقال آخر :

يقول وقد مالت به نشوة الكرى

نعاسا ومن يعلق سرى اللّيل يكسل

أنخ نعط أنضاء النّعاس دواؤها

قليلا ورقة عن قلائص ذبل

فقلت له : كيف الإناخة بعد ما

حدا اللّيل عريان الطّريقة منجل

وقال العجاج وذكر ماء :

كأنّ أرياش الحمام النّسل

عليه ورقان القران النّصل

فويق طامي مائه المجلل

جفالة الأجن كحمر الجمل

يريد بالنّسل : السّاقطة ، والقران : نبل صيغت صيغة واحدة وجعلها ورقا لأنّها إذا عرضت على النّار تسودّ فتصير ورقا ، والنّصل : التي قد نصلت : أي خرجت من مواضعها ، والمجلّل : المغطى بالعرمض وهو الطّحلب. قوله : جفالة : انتصب بالمجلّل وجفالة كل شيء ما أخذ منه ، وقلع من أعلاه ، يريد أنّ الماء قد يبس مثل العباية مما لا يورده ، فعلاه مثل الحمر : وهو بقية الألية إذا أذيبت. والجمل : الذين يذيبون الشّحم يقال : جملت الشّحم وأجملته ، والجميل الودك المذاب ومثل هذا قوله :

يتجفّل عن جمانه دلو الدّالي

عانه غشراء من آجن طال

الغشراء : البيضاء إلى الدّسمة ، والآجن : المتغيّر والطّالي : الذي عليه طلاوة وهو ما يلبسه. وأنشد في الاستسقاء :

قد علمت إن لم أجد معينا

لأخلطنّ بالخلوق طينا

٣٧٨

يعني امرأته ، أي استعملها في الاستسقاء إن لم أجد غيرها. وقال آخر يخاطب الدّلو :

تملئي ثمّ هلمّي حيّ

إلى سواد نازع مكبّ

يقول : ارتفعي إلى شخص المستقي وهو سواده والنّازع بالدّلو : هو المكبّ وقال آخر :

لتروينّ أو لتبيدنّ السّجل

أو لأروحنّ أصلا لا أشتمل

أي لا أقدر على الاشتمال من إعيائي وضعفي. وقال الآخر :

إن سرّك الريّ أخا تميم

فاجعل بعبدين ذوي وزيم

بفارسي وأخي الرّوم

الوزيم : القوّة ورجل متوزم : أي شديد الوطء ، أي اجعل السّاقين من جنسين مختلفين ، لأنهما إذا كانا كذلك لم يفهم أحدهما كلام الآخر وكان أحثّ للعمل لقلّة الإنس بينهما. وأنشد في معناه :

وساقيان سبط وجعد

وفارطان فارسن وبعد

وأراد وعاد فجعل الفعل بدله. وقال : وأنشده الأصمعي :

إذا بلغت قعرها فانشقّي

واغترفي من تربها الأدقّ

انشقّي : انفتحي واجر ما فيها. ويقال : بل دعا عليها كأنه قال : انشقّي وحسبي أن بكون حظّك التّراب. وقال وذكر إبلا :

فوردت عذبا نقاخا سمهجا

فأعجلت شفتها أن تنفجا

نقاخ عذب وسمهج : مثله يعني أنّ الإبل جاءت عطاشا ، فلم ينتظروا بها أن يبلوا الدّلاء فألقوها كما هي يابسة. قوله وردت : قد تكلّم النّاس فيه من قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) [سورة القصص ، الآية : ٢٣] الآية ومن قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [سورة مريم ، الآية : ٧١].

فمنهم من يقول : إنّ الورود يقتضي الاختلاط بالمورود ومشافهته والدّخول فيه ، بدلالة قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [سورة مريم ، الآية : ٧٣] فكيف ينجّيهم منها وهم لم يأتبسوا بها ، فعلى قولهم يجب أن يكون قد حتم على نفسه إيراد الخلق جميعا النّار ، ثم ينجّي منها المتّقين ويذر فيها الظّالمين. والحكمة في ذلك أن يشاهد المؤمنون موضع الكفّار ، فتكثر لديهم مواقع النّعم ويزدادوا اعتدادا وفرحا بما منحهم الله تعالى ، قالوا :

٣٧٩

وتصير النّار عليهم بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه‌السلام في الدّنيا وإن كانت على الكفار عقوبة وعذابا ، واستدلّوا على ما قالوا بقوله تعالى : (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) [سورة مريم ، الآية : ٧٢] فإنه لم يقل ويدخل الظّالمين.

وقال بعضهم : إنّ هذا يعني به الكفّار خاصة ، واحتجوا بقراءة بعضهم : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [سورة مريم ، الآية : ٧١] مسوقا على قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) [سورة مريم ، الآية : ٦٩] الآية. ويكون على هذا التأويل وفي هذا المذهب قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [سورة مريم ، الآية : ٧٢] يراد به يخرج المتّقين من جملة من يدخل النّار فكأنّ الخلق على اختلاف طبقاتهم ، يردون عرصة القيامة ثم يفترقون فرقا على ما بيّن الله تعالى في غير هذا الموضع.

وقال أهل النظر وكثير من المفسّرين منهم الحسن وابن مسعود وقتادة : ليس الورود من الدّخول في شيء. ألا ترى أنّ الأصل في ذلك قصد المشارع والمناهل وقصدها ليس بالخوض فيها يدل على ذلك قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) [سورة القصص ، الآية : ٢٣] فالورود البلوغ إلى الماء ثم توسّع فيه فاستعمل في بلوغ كلّ مقصد يقولون : وردنا بلد كذا وكذا.

وقال الخليل : الورد ، يوم وقت الورود بين الظماءين ، يقولون : وردت الطيّر الماء وردا ووردته أورادا وقال تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [سورة مريم ، الآية : ٨٦] وقالوا : أرنبة واردة وهي المقبلة على السّبلة وقال تعالى : (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) [سورة يوسف ، الآية : ١٩] يراد طالب الماء منهم وبالغه. وقال زهير :

فلمّا وردن الماء زرقا جمامه

وضعن عصيّ الحاضر المتخيّم

وهذا أصدق شاهد على أنّ الورود ليس بالدّخول ، والحجة القاطعة في أنّ المؤمنين وإن حضروا حول جهنّم مع الإنس والجن للحتم المقضي ، والوعد من الله الزكي ، فإنّهم مبعدون عن النّار قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ١٠١] ونرجع إلى إتمام الباب لأنّ هذا عارض عرض. وقال عجيز السّلولي :

ولي مائح لم يورد الماء قبله

معلّى وأشطان الطّوى كثير

(المائح) : الذي يصير في البئر فيملأ الدّلو من الماء إذا قلّ الماء. قال :

يا أيّها المائح دلوي دونكا

إنّي رأيت النّاس يحمدونكا

٣٨٠