كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

صاحبه ، فقالت قولا شعرا في صفة الخيل على رويّ واحد ، فقال امرؤ القيس في قصيدته :

خليليّ مرّا بي على أمّ جندب

لتقضي حاجات الفؤاد المعذّب

للسّوط الهوب وللساق درة

وللزّجر منه وقع أخرج متعب

وفي نقيضها قال علقمة :

فولّى على آثارهنّ بحاصب

وغيبة شؤبوب من الشّد ملهب

فأدركهنّ ثانيا من عنانه

تمرّ كمرّ الرائح المتحلّب

فحكمت لعلقمة على امرئ القيس ، وقالت : أما أنت فحمدت نفسك بسوطك وزجرك ومريك إيّاها بساقك. وأما هو فإنه أدرك فرسه الطّريدة ثانيا من عنانه لم يمرّه بساق ، ولم يضربه بسوط ، ولم يزجره بنده ، فقال امرؤ القيس : ما هو أشعر مني ولكنّك تعشقينه فطلّقها. وقال طفيل شعرا :

وللخيل أيام فمن يصطبر لها

ويعرف لها أيّامها الخير يعقب

وقال مالك بن نويرة شعرا :

جزائي دوائي ذو الخمار وصنعتي

بما بات مطويّا بني الأصاغر

رأى أنني لا بالقليل أهوره

ولا أنا عنه بالمواساة ظاهر

أهوره : أي لا أظنّ القليل يكفيه ، يقول : هو يهار بكذا ويهابه : أي يتّهم ويزن. قوله : ولا أنا عنه ظاهر : من قولك : ظهرت لجاجة فلان إذا لم يعن بها. وقال عنترة لامرأة :

لا تذكري مهري وما أبليته

فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

يعني : أنه إن آذته ضربها حتى يظهر عليها أثر الضّرب.

شعر :

إنّ الغبوق له وأنت مسوءة

فتأوّهي ما شئت ثم تحوّبي

فذوقوا كما ذقنا غداة محجر

من الغيظ في أكبادنا والتّحاوب

كذب العتيق وماء شن بارد

إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي

إنّ الرجال لهم إليك وسيلة

إن يأخذوك تكحّلي وتخضّبي

ويكون مركبك القعود ورجله

وابن النّعامة يوم ذلك مركبي

وأنا امرؤ إن يأخذوني عنوة

أقرن إلى شر الرّكاب وأجنب

وقد قال بعض الرواة : لم يكن قوم أشد عجبا بالخيل ، ولا أعلم بها ، ولا أصنع لها

٥٢١

ولا أطول لها ارتباطا ، ولا أهجى لمن لم يتّخذها ، أو اتّخذها وأهزلها ، ولا أمدح لمن اتّخذها وأكرمها منهم.

وكذلك أضيفت إليهم بكلّ لسان ـ ونسبت إليهم بكلّ مكان ـ وفي كلّ زمان ـ حتى قالوا : هذا فرس عربي ، ولم يقولون : رومي ، ولا هندي ، ولا فارسي فحصنوها تحصين الحرم ، وصانوها صون المهج ، ليبذلوها يوم الرّوع ويأمنوا بها أوان الخوف ، وليجعلوها درّية يوم اللّقاء ، ووصلة إلى درك الثّأر حتى قالوا : إنّ الحصون الخيل ، لا مدر القرى ، كما قال الآخر شعرا :

ولمّا نأت عنّا العشيرة كلّها

أنخنا فخالفنا السّيوف على الدّهر

وكانوا يصبرون على مئونتها في الجدب ، ويغتبقون الماء القراح في الأزل ويؤثرونها على العيال بالصّنيعة ، ليكافئ عند الطلب ، أو الهرب ، ولذلك قال الأشعري مالك الجعفي :

لكن قعيدة بيننا محفوة

باد جناجن صدرها ولها غنى

تقفي بعيشة أهلها وثابة

أو جرشع عبل المحازم والشّوى

وقال خالد بن جعفر الكلابي :

أريغوني أراغتكم فإنّي

وحذفة كالسّجى تحت الوريد

أسوّيها بنفسي أو بحرّ

وألحفها ردائي في الجليد

أمرت الرّاغبين ليؤثروها

لها لبن الحلوبة والصّعود

٥٢٢

الباب التّاسع والخمسون

في ذكر أفعال الرّياح لواقحها ـ وحوائلها ـ وما جاء من خواصها في هبوبها وصنوفها

قال مؤرخ من خواص الجنوب : أنّها تثير البحر حتى يسودّ ، وتظهر كلّ ندى كائن في بطن الوادي حتى يلتصق الأرض ، وإذا صادفت بناء بني في الشتاء والأنداء أظهرت نداه وحسنه ، حتى يتناثر ويطيل الثّوب القصير ، ويضيق الخاتم في الإصبع ، ويسلس بالشّمال والجنوب تسرى باللّيل. تقول العرب : إنّ الجنوب قالت للشمال : إنّ لي عليك فضلا أنا أسري ، وأنت لا تسرين. فقالت الشّمال : إنّ الحرة لا تسري وقال الهذلي :

قد حال دون دريسة ماوية

مسع لها بعضاه الأرض تهزيز

الماويّة : التي تهبّ بالنّهار كلّه إلى اللّيل ثم تسكن ، قال الله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سورة سبأ ، الآية : ١٠] أي : سبّحي النّهار كلّه. ومسع الشّمال والدّريس : الثّوب الخلق ، والشّمال تستذري منها بأدنى شيء ، ويسترك منها رحلك ، وذرى الشّجرة والجنوب لا يستر منها شيء ، وربما وقع الحريق بالبادية في اليبيس ، فإن كانت الرّيح جنوبا احترق أياما ، وإن كانت شمالا فإنّما يكون خطأ لا يذهب عرضا. وللشّمال ذرى الشّجرة ، وذلك أن يجتمع التّراب من قبلها فيستذري بالشّجر ، فإن كان الشّجر عظاما كانت لها جراثيم ، وإن كانت صغارا ساوى التّراب غصونها ، ولا ذرى للجنوب ترى ما يلي الجنوب منها عاريا مكشوفا. والشّمال تذمّ بأنّها تقشع الغيم وتجيء بالبرد ، وتحمد بأنها تمسك الثرى ، وتصاحب الضّباب ، فتصبح عنها كأنّها ممطورة ، وتصبح الغصون وتنظف وأكثر ما يكون عن غب المطر ، فإذا ارتفعت الشّمس ذهب النّدى وتقطع الضّباب وانحسر ، وليس من الرّياح أدوم في الشّتاء والصيف من الشّمال ، كما أنّه لا شيء منها أكثر عجاجا وسحابا ، لا مطر فيه وهي هيف ، تقشر الأرض ، ويحرق العود من النكباء التي بين الجنوب والدّبور التي تهبّ من مغيب سهيل.

وقال أبو عبيدة في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [سورة الحجر ، الآية : ٢٢]

٥٢٣

جمع ملقحة على لواقح. قال : ورأيت العرب تجعل الرّياح لقاحا للرّياح لأنها تنشئ السّحاب وتقلّبه وتصرفه وتحلّه. قال الطّرماح وذكر بردا استظلّ به :

قلق لأفنان الرّيا

ح للاقح منها وحائل

فاللاقح : الجنوب لأنّها تلقح السّحاب ، والحائل : الشّمال لأنّها لا تنشئ سحابا ، وكما سمّوا الجنوب لاقحا سمّوا الشّمال عقيما ، لأنّها عندهم لا تحمل كما تحمل الجنوب. وقال كثير : ومرّ بسفساف التّراب عقيمها.

وقال أبو وجزة :

حتّى سلكن الشّوى منهنّ في مسد

من نسل جوّابة الآفاق مهداج

يذكر حميرا وردت ماء يقول : أدخلت قوائمها في الماء ، وهذا الماء من نسل جوّابة الآفاق ، أي ريح تجوب البلاد ، أي هي أخرجته من الغيم واستدرّته ، فجعل الماء لها نتاجا ولدا ، فالرّياح على هذا هنّ اللّواقح.

وأكثر العرب تجعل الجنوب هي التي تنشئ السّحاب ، وتسدّده وتصف بواقي الرّياح بقلّة المطر ، والهبوب في سني الجدب. قال أبو كثير الهذلي :

إذا كان عام مانع القطر ريحه

صبا وشمال قرة ودبور

فأخبر أنّ هذه الثّلاثة لا قطر معها ، وأنّ القطر مع الجنوب.

وقال طرفة :

وأنت على الأدنى شمال عرية

شآميّة تزوي الوجوه بليل

وأنت على الأقصى صبا غير قرّة

تدأب منها مزرع ومسيل

فأخبر أنّها إذا لم تكن باردة كان معها القطر ، ولعلّ الهذلي أراد مثل هذا فاكتفى بذكر الشّمال ووصفه. وقال آخر :

فسائل سبرة الشّجعيّ عنّا

غداة تحاليا نجوا جنيبا

والنّجو : السّحاب ، والجنيب : الذي أصابته جنوب ، فشبه حفيفهم في القتال بحفيف المطر ، وقال المسحل :

حار وعقّت مزنة الرّيح

والعارية العرص ولم يشمل

حار : تحيّر وتردّد ، وعقّت : قطعت ، ولم يشمل : أي لم تصبه الشّمال فيقشعه.

٥٢٤

وقال أبو كثير :

حتّى رأيتهم كأنّ سحابة

صابت عليهم لم يشمل ودقها

وقال آخر من هذيل :

مرتها النّعامى ولم تعترف

خلاف النّعامى من الشّام ريحا

النّعامى : الجنوب ، ومرتها : استخرجت مطرها ، ومن الشّام : يريد الشّمال ، فهذه كلّها تجعل العمل في المطر للجنوب ، وتجعل الشّمال يقشع السّحاب ، ويسمّونها محوة ، لأنّها تمحو السّحاب.

قال العجّاج :

سغر الشّمال الزّبرج المزبرجا

قد بكرت محوة بالعجاج

فدمّرت بقية الزّجاج

السّغر : القشر ، والزّبرج : السّحاب.

وكان الأصمعي يحكي عن العرب : أنّ ما كان من أرض الحجاز فالجنوب هي التي تمري السّحاب فيه والشّمال تقشعه. وما كان من أرض العراق ، فالشّمال تمري فيه السّحاب ويؤلفه ، ولم يقل إنّ الجنوب تقشعه ، ولا أنّه لا عمل لها فيه. قال : وأحسبه أراد أنّ الشّمال والجنوب تفعلان ذلك جميعا بأرض العراق دون الحجاز ، وعلى هذا وجدت بعض الشّعراء. قال الكميت ، وكان ينزل الكوفة :

مرته الجنوب فلمّا اكفهرّ

حلّت عزاليه الشّمال

فجعل الجنوب تستدرّه والشّمال تحلّه. وقال عدي وكان ينزل الحيرة وينتقل في أرض العراق : وجيء بعد الهدو يزجيه شمال كما يزجي الكسير فاستدرّت به الجنوب على الحرير ، فالجنوب سيره مقصور ، يريد لثقله وجعل الشّمال تسوقه والجنوب تستدرّه ، لأنّ الجنوب عند أهل الحجاز وما يليه هي التي تأتي بالغيث حتّى جعلوها مثلا للخير. قال حميد :

ليالي أبصار الغواني وسيرها

إليّ وإذ ريحي لهنّ جنوب

وعلى حسب تيمّنهم بالجنوب وتصييرهم إيّاها مثلا للخير ، تشاؤمهم بالشّمال وتصييرهم إيّاها مثلا للشر. قال أبو وجزة يذكر امرأة :

مجنوبة الأنس مشمول مواعدها

٥٢٥

جعلها لا تفي بوعدها كالشّمال لا تأتي بالغيث. قال زهير شعرا :

جرت سحّا فقلت لها أجيزي

نوى مشمولة فمتى اللّقاء

وقال بعضهم : أراد جرت الطّير بها من ناحية الشّمال ، ولذلك قيل : اليمن والشّؤم ، فاليمن من اليمن ، والشّؤم من اليد الشّؤمى ، قال : وقد يتشاءمون بها من جهة البرد ، قيل لبعضهم : ما أشدّ البرد؟ فقال : ريح جربياء في أثر عماء ، في غب سماء. والجربياء : الشّمال والعماء : السّحاب يريد شمالا هبّت بعد مطر ، وقيل لآخر : أيّ الأيام أقرّ فقال : الأحصّ الورد ، والأزب الهلوف.

قال أبو عمرو : الأحص الورد : يوم تطلع شمسه ، وتصفو شماله ، ويحمر فيه الأفق ، ولا يجد لشمسه مسا. والأحص : التي لا سحاب فيه كالرأس ، والأحص : الذي لا شعر عليه ، قال والهلوف : يوم تهبّ فيه النّكباء تسوق الجهام والصراد لا تطلع شمسه ، والأزب : من الإبل الكثير الوبر.

يقال : لحية هلوفية إذا كانت كثيرة الشّعر ، واليوم إذا كان بهذه الصفة كان ذا زمهرير ، وكانوا يقولون مع هذا : إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض وإذا ذخرت الأودية بالماء كثرت الثّمر ، والمؤتفكات : الرّياح البوارح وهي شمال حارّة في الصيف ، وذات عجاج ، سمّيت لتقلّبها العجاج ، مؤتفكات ولا أحسبهم أنّ لها عملا في ذلك ، وإنّما يريدون أنّ عضوفها ، إذا اشتدّ وكثر كان ذلك إمارة الزّكاء ، ويجوز أن يكونوا أرادوا بالمؤتفكات الرّياح كلّها إذا اشتدّت.

قال بعض الحكماء : الرّياح على ثلاثة أضرب : منها ما هي من الملائكة وصفتها أن تكسح من الأعلى إلى الأسفل ، وتهبّ صافية ثم تنقطع ، ومنها ما هي حركة الجو ، وصفتها دوام هبوبها صافية ، وكدرة سفلا وعلوا.

وروى طاوس في خبر يرفعه : لا تسبّوا الرّياح ولا المطر ولا الرّعد ولا البرق ، بعثن رحمة للمؤمنين وعذابا على الكافرين. وفي حديث آخر : لا تسبّوا الرّيح فإنّها من نفس الرّحمن. وفي آخر : ما هلك قوم ولا عاش آخرون إلا بهبوب الرّياح ودرور السّحاب.

وذكر بعضهم أنّ الروم تسمّي الأمطار والرّياح نقالات الدّول. وعن سفيان الثّوري : الدّعاء عند هبوب الرّياح وتحت المطر لا يرد.

وقال بعضهم : النّسيم الطّيب صديق الرّوح ، قال : والرخاء : ريح سليمان وكانت تحمل عرشه ، وقيل : النّسيم بدو كلّ ريح ، يقال : نسمت الرّيح.

ويروى عن عبد الله بن عباس أنه قال : الرّياح في كتاب الله ثمان : أربع منها رحمة :

٥٢٦

النّاشرات والمبشّرات والذّاريات والمرسلات ، وأربع منها عذاب : القاصف والعاصف والعقيم والصّرصر.

وقال الحكماء : الجنوب ريح ، ذكر سعد شرقي حار لاقح يقوّي السّحاب ويفجّر الأمطار ، ويلقح الأشجار.

وقال ؛ راح تمرّ به الصّبا ثم انتحى فيه شئوب جنوب ، منفجر ويسمّى الأرنب والنّعامي.

ويروى عن جعفر بن محمد أنّه قال : إنّ الجنوب تخرج من الجنة وتمر بالنّار فيصيبها وهجها ، فما فيها من حرّ فمن ذاك ، وهي ريح بروج الرّبيع ، كما أنّ الشّمال ريح بروج الصّيف ، وهي أبرد الرّياح.

ويروى عن جعفر بن محمد الشّمال : تمر بالجنّة جنّة عدن فتأخذ من طيب عرفها ، فتمرّ بها على أرواح الأبرار والصّديقين. والدّبور تهيج الرياح وتثيرها وهي أشد الرّياح على ركاب البحر ، ولا تهب إلا عاصفا ، وهي التي أرسلت على قوم عاد.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» ، وهي ريح بروج الخريف. والصّبا لطيب نسيمها وهبوبها لقبت بريح العشّاق.

وقال ابن دمية :

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

فقد زادني مسراك وجدا على وجد

وقال امرؤ القيس :

إذا قامتا يضوع المسك منهما

نسيم الصبا جاءت بريح القرنفل

وقال آخر :

أريد لأنسى ذكرها فيهيجني

نسيم الصّبا من حيث ما يطلع الفجر

وروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال في قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [سورة الأحزاب ، الآية : ٩] هي الصّبا. وقالت العرب : عصف الجنوب في الخريف دليل النّقمة ، وعصف الدّبور في الرّبيع دليل العذاب ، وعصف الشّمال في الشّتاء دليل الوفاء ، وعصف الصّبا في الصّيف دليل البؤس. وقيل في الدّبور : هي ريح بروج الشّتاء.

وقالت الحكماء : مهبّ الجنوب من مطلع الشّمس إلى زوالها ، ومهبّ الشّمال من مطلع الشّمس إلى غروبها. ومهبّ الدّبور من مغرب الشّمس إلى شطر اللّيل. ومهبّ الصّبا من شطر اللّيل إلى طلوع الشّمس ، لا تطلع هذه في هذه ولا هذه في هذه.

٥٢٧

الباب السّتّون

في ذكر الأوقات المحمودة للنّوء والمطر وسائر الأفعال ، وذكر ما يتطيّر منه أو يستدفع الشّر به.

اعلم أنّ العرب تحمد الولد إذا ولد في الهلال ، فإن حملته في قبل الطّهر كان ذلك أعجب إليها ، ولذلك قالت الفارعة أخت لقمان بن عاديا لإمرأة إني امرأة نزور وزوجي رجل محمق ، وأنا في ليلة طهري ، فهي لي ليلتك ، واسميني على فراشك فإذا رجع لقمان من عند الشّرب ثملا ، فوجدني على فراشك وقع عليّ ، وهو رجل منجب فعسى أن ألد منه ابنا نجيبا ، فأجابتها إلى ذلك ، فوقع عليها لقمان فحبلت بلقيم بن لقمان. ولذلك قال النّمر بن تولب لقيم بن لقمان : فإنّ ولدته قبل النّهار كان ذلك الغاية. قال :

ولدت في الهلال من قبل الطّهر

وقد لاح للصّباح بشير

وقال الرّاعي :

وما أمّ عبد الله إلّا عطية

من الله أعطاها امرأ فهو شاكر

هي الشّمس وافاها الهلال فنسلها

نجوم بآفاق السّماء نظائر

والمنجّمون يزعمون أنّ الهلال نحس ، ونحن نجد عامة حاجات النّاس إنما تجزئ مع الأهلة منها التاريخات كلّها ، ومحل الدّيون ، وفراغ الصّناع والتّجار ، ويوم الفطر ، وآجال المستغلات ، وقدوم الولاة ، وزيادة المد ، ونقصان الجزر ، ما بين الصّيبين إلى المزار ، والمواعيد ، والإجارات ، وأكثر الحيض الذي جعله الله مصحة أبدان النساء. ثم نزول الغيث الذي نشر الله به رحمته فأحيا به الأرض بعد موتها ، وفي حياتها حياة من عليها ولأسد بن ناغضة جاهلي في شأن عبيد بن الأبرص شعر :

غداة توخّى الملك يلتمس الحيا

فصادت نحسا كان كالدّبران

وللأسود بن يعفر يهجو رجلا :

ولدت بحادي النّجم يحدو قرينه

وبالقلب قلب العقرب المتوفّر

٥٢٨

وقال آخر جاهلي :

فسيروا بقلب العقرب اليوم إنّه

سواء عليكم بالنّحوس وبالسّعد

وقال آخر :

فإنّك قد بعثت عليك نحسا

شقيت به كواكبه ذكور

وقال آخر :

فإن يك كوكب الصّمعاء نحسا

به ولدت وبالقمر المحاق

وقال الأصمعي : إذا كان المطر عندهم في سرار الشّهر كان محمودا ، ورجوا غزارته ، وكثرة الخيرات به. وأنشد للرّاعي :

تلقّى نوءهنّ سرار شهر

وخير النّوء ما لقي السّرار

وقال الكميت :

هاجت له من جنوح اللّيل رائحة

لا الضبّ ممتنع منها ولا الورل

في ليلة مطلع الجوزاء أوّلها

دهماء لا قرح فيها ولا رجل

يريد إنّ هذه الليلة من السّرار ، فلا ضوء في أوّلها ، وهو القرح ، والقرح : بياض وجه الدّابة. وقوله : مطلع الجوزاء أوّلها يريد أنّها من الشّتاء ، والجوزاء في الشتاء يطلع أوّل اللّيل.

وقال الحطيئة :

باتت لها بكسيب حريه ليلة

وطفاء بين جماديين درور

قوله : بين جماديين يريد أنّها ليلة لا يدري أهي آخر من الشّهر الأول ، أو أوّل ليلة من الشّهر الثاني. وأراد أنّ المطر كان في السّرار أو في الغرّة.

وإذا كان أيضا في الغرة كان محمودا.

قال الكميت :

والغيث بالمتألّقات

من الأهلّة في النّواحر

النّواحر : جمع ناحرة وهي اللّيلة التي تنحر الشهر ، أي تكون في نحره.

وقال ابن أحمر :

ولا مكللة راج الشّمال بها

في ناحرات سرار بعد إهلال

٥٢٩

وقد توافقوا كلّهم على هذا إلا أبا وجزة ، فإنّه ذكر نصف الشّهر فقال :

في ليلة لتمام النّصف من رجب

خوارة المزن في أقتارها طول

وليس يحمدون المحاق إلّا في المطر وحده ، وقال جران العود ، وذكر امرأة تزوّجها فلم يستوفقها : قال شعرا :

أتوني بها قبل المحاق بليلة

وكان محاقا كلّه ذلك الشّهر

وحكى المفضّل أنّ زبّان بن سيار خرج غازيا ومعه النّابغة فرأى جرادا ، فقال النّابغة : جرادة تجرد ذات ألوان. فانصرف متطيّرا ، ومضى زبّان فغنم وسلم فلما قفل قال شعرا يخاطب به النّابغة من ذلك قوله شعرا :

شعر :

تعلّم أنّه لا طير إلّا

على متطيّر وهو الثّبور

بلى شيء يوافق بعض شيء

يفاجئنا وباطله كثير

ومن يبرح به لا بدّ يوما

يجيء به نعيّ أو بشير

وقال الكميت :

أللورق الهواتف أم لباك

عمّ عمّا يزنّ به غفول

الباكي : الغراب يقول : يزن بأنه ينعب بالفراق وهو غافل عن ذلك. وقال الكميت لجذام في انتقالهم إلى اليمن شعرا :

وكان اسمكم لو يزجر الطير عائف

لبينكم طيرا منبئة الفأل

أي اسمكم جذام ، والزّجر فيه الانجذام ، وهو الانقطاع. وقال أيضا يمدح زيادا :

واسم امرئ طيره لا الظبي معترضا

ولا النّعيق من الشّحاجة النعب

فقال اسمه زياد ، فالزّجر فيه الزّيادة والشّحاجة الغربان.

وقال آخر :

دعا صرد يوما على ظهر شوحط

وصاح بذات البين منها غرابها

فقلت : أتصريد وشحط وغربة

فهذا لعمري نأيها واغترابها

وقال في مخالفته آخر :

وقالوا : قاب قلت : عقبى من النّوى

دنت بعد هجر منهم ونزوح

٥٣٠

فزجر في العقاب الخير ثم قال :

وقالوا حمام قلت حمّ لقاؤها

وعادت لنا ريح الوصال تفوح

وقالوا تغنّى هدهد فوق ليلة

فقلت هدى نغدو به ونروح

قال أبو العباس المبرّد : ولم أرهم زجروا في الغراب شيئا من الخير لكنّي سمعت بيتين أنشدهما بعضهم في المدح والتفاؤل به أحدهما :

نعب الغراب فرقّ بالمشتاق

فدنا وصاح برؤية وتلاق

لا سلّ ريشك إذا نعبت بقربهم

ووقاك من ريب المنيّة واق

والآخر :

نعب الغراب برؤية الأحباب

ولذاك صرت أحبّ كلّ غراب

لا سلّ ريشك إذ نعبت بقربهم

وسقيت من نام صبيب سحاب

وسكنت بين حدائق في جنة

محفوفة بالنّخل والأعناب

ولم أسمع غير ذلك ، ويقال للعائف الحازي ، وكان أصل التّطير في الطّير ، وكذلك الرّجز بأصواتها وعددها والتغلّي والتّنسف ، ثم صاروا إذا عاينوا الأعور والأعضب والأبتر زجروا وزجروا بالسّنوح والبروح. وقد تقدّم فيه كلام وقال رؤبة :

يشقى به الغيران حتّى أحسبا

سيدا مغيرا أو لياحا مغربا

اللّياح : الثّور الأبيض ، وكانوا يتشاءمون بالمغرب وقال :

قد علم المرهتون الحمقى

ومن تجزي عاطسا أو طرقا

ألا نبالي إذ بدرنا الشّرقا

أيوم نحس أم يكون طلقا

وقال :

وقد أغتدي قبل العطاس بهيكل

سديد مسك الجنب فعم المنطق

وقال :

وخرق إذا وجّهت فيه لغزوة

مضيت ولم يحسبك عنه الكوادس

الكداس : العطاس وكانوا يتطيّرون منه. وكانوا إذا عطس العاطس قالوا : قد أنجمنا أي منعنا. وقال ابن الأعرابي : يقال : عطست فلانا النّجم أي أصابه الهلاك الذي يتطيّر فمات ، قال والنّجم أيضا دويبة صغيرة. وقال ذو الرّمة :

ولا أبالي النّجم العواطسا

٥٣١

وقال طرفة :

لعمري لقد مرّت عواطس جمة

ومرّ قبيل الصّبح ظبي مصمع

قال عواطس لأنّه رأى أشياء مما يتشاءم بها ، فجعل كلّ واحد كالعاطس وجعل الظّبي مصمعا : وهو الصّغير الأذن استقباحا له. وقيل : المصمع : المسرع. قال :

وعجراء دفث بالجناح كأنّه

مع الفجر شيخ في بجاد مقنّع

فإن تمنعي رزقا لعبد يصيبه

ولن تدفعي بؤسي وما يتوقع

قال الفرزدق :

إذا وطنا لمغتنيه ابن مدرك

فلقيت من طير العراقيب أخيلا

ويقال : صبّحهم بأخيل : أي بشؤم. ويقال : بعير مخيول : إذا وقع الأخيل على عجزه فقطعه. وقال الأعشى :

انظر إلى كفّ وأسرارها

هل أنت إن أوعدتني صابر

جعله مثلا لأنّهم كانوا ينظرون إليها يستدلّون بها. وقال جرير في طريقته :

وما كان ذو شغب يمارس عيصنا

فينظر في كفيه إلا تندّما

العيص : الأكمة شبّه حسبهم بها ، ومعنى ينظر في كفيه أي إذا تعيف علم أنّه لاق شرا. وقال المرقم السّدوسي مخالفا لهم شعرا :

ولقد غدوت وكنت لا

أغدو على واق وحاتم

فإذا الأشائم كالأيا

من والأيامن كالأشائم

الواق : الصّرد ، والحاتم : الغراب. وأنشد الجاحظ :

ولست بهيّاب إذا شدّ رحله

يقول : عداتي اليوم واق وحاتم

ولكنّه يمضي على ذاك مقدما

إذا صدّ عن تلك الهنات الخثارم

الخثارم : المتطهّر من الرّجال.

قال الجاحظ : ولإيمان العرب بباب الطّيرة والفأل عقدوا التمائم والرّتائم وعشّروا إذا دخلوا القرى كتعشير الحمار ، واستعملوا في القداح الآمرة والنّاحية والمتربّص ، وهي غير قداح الإيسار ويشتقّون من اسم الشيء المعاين أو المسموع ما يقيمون به العادة في ذلك ، فجعلوا الحمام مرة من الحمام ومرة من الحميم ، ومرة من الحمى. وجعلوا البان مرّة من البين ، ومرّة من البيان.

٥٣٢

وقال الحارث بن حلزة ، وكان ينكر الطّيرة : يا أيها المزمع ثم انثنى. الأبيات وقد مرّت في باب العيافة والقيافة. وأنشد المفضّل شعرا :

تغتال عرض الرّويّة المذالة

ولم ينطعها على غلاله

إلّا بحسن الخلق والنّباله

آذن بالبين صريد الصّاله

فبات منه القلب في البلبالة

ينزو كنز والطّير في الحباله

صريد : تصغير صرد ، وأضاف إلى الصّالة ، وهذا كما يقال : غراب البين.

ولقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حضرميّ بن عامر في ناس من قومه فنسبهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «من أنتم؟» فقيل : نحن بنو الزّنية فقال عليه‌السلام : «بل أنتم بنو الرّشدة» فقالوا : لا نرغب عن اسم أبينا ، ولا نكون مثل بني محولة ، يعنون بني عبد الله بن غطفان. قال : «بل أنتم بنو عبد الله فسمّوا بني محولة».

وما ذكرناه في هذا الباب كاف في موضعه ، وقد استقصيت الكلام في فنونه وشعبه في كتابي المعروف (بعنوان الأدب) وذلك في الباب الجامع لذكر الرّموز والعادات. وهو باب كثير الفوائد ، غريب الموارد.

وفي الحديث : أنه كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة ، واعترض بعضهم عليه فقال : إذا كان الفأل لا يوجب إلّا مثل ما توجب الطّيرة فيما يرجى أو يخاف ، فلا فصل بينهما وذاك أن قول القائل يا واجد وأنت باغ ، لا يوجب أمرا بخلاف ما يوجبه قوله : يا مضلّ ، لأنّ مطلوبك على ما كان عليه لا حقيقة تبدّله ، ولا مجاز يغيّره ، فيؤدّي الحالتين على طريقة واحدة. قلت : إن تسمع كلمة في نفسها مستحسنة وتكون قد أحدثت من قبل طمعا في أمر من عند الله تعالى فيعجبك سماعك لها إذ كان الطّمع خلاف اليأس ، ولأنّ الكلمة واقفته.

ومثاله أن تسمع وأنت خائف يا سالم ، فالفأل لا يوجب السّلامة ، ولكن كأنّه يبطل اليأس ، ويدفع سوء الظّن ، والرّجاء بالله وحسن الظّن به محمود مندوب إليه ، وإذا ظنّ أنّ المرجو من حيث وافق تلك الكلمة كالأقرن ، ففرح بذلك فلا بأس عليه. وإذا كان الأمر على هذا فالطّيرة بعيدة من هذا ، وكذلك المتطيّر فيما يأتيه أو يذره وهذا ظاهر.

وحكى الجاحظ عن الأصمعي ، قال : هرب بعض البصريّين من بعض الطّواعين فركب حمارا ومضى بأهله نحو سفوان ، فسمع غلاما له أسود يحدو خلفه ويقول : لن يسبق الله على حمار ، ولا على ذي ميعة مطار أن يأتي الحتف على مقدار ، قد يصبح الله أمام السّاري ، فلمّا سمع ذلك رجع بهم ، ومن أعجب ما لهم قول الشّاعر :

فإن يبرأ فلم أنفث عليه

وإن يفقد فحقّ له الفقود

٥٣٣

وقول آخر :

فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت

فطعنة لا غس ولا بمغمر

لأنّ ظاهر هذا الكلام يقتضي أنّهم كانوا إذا شكوا سلامة رميهم رقوا نبالهم برقية ، ونفثوا فيها نفث السّواحر في عقد ما يبرمونه من سحرها. وهذا كما اعتقد في النّيران وهي كثيرة ينسب بعضهم إلى العجم ، وبعضهم إلى العرب وفي أثنائها نيران الدّيانات حتى عبدت. ويذكر هنا ما يأخذ كتابنا هذا منه بحظ ، فقد استقصى الجاحظ القول فيها ، وذكر أحوال المعظمين لها والمستهينين بها وقد قال الله تعالى في ذكر الثّقلين : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [سورة الرّحمن ، الآية : ٣٥ ـ ٣٦] وليس يريد أنّ التعذيب بالنّار نعمة يوم القيامة ، ولكنّه أراد التّحذير بخلقه لها والوعيد بها غير إدخال النّاس فيها ، وإحراقهم بها ، وفي ذلك نعمة من الله مجدّدة ، إذ كان حال من حذر مخالفا بحال من أهمل وترك وما يختاره. وقال الشاعر يد الخصب شعرا :

في حيث خالطت الخزامي عرفجا

يأتيك قابس أهله لم يقبس

ومن أمثالهم : في كلّ شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار. وفي الجاهلية الأولى إذا تتابعت عليهم الأزمات ، وركد البلاء ، واشتدّ الجدب ، واحتالوا إلى استمطار جمعوا ما قدروا عليه من البقر ، ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السّلع والعشر ثم صعدوا بها في جبل وعر وأشعلوا فيها النّار وضجّوا بالدعاء والتّضرع ، وكانوا يرون أنّ ذلك من أسباب السّقيا. لذلك قال أمية بن أبي الصّلت :

سنة أزمة تخيل بالنّاس

ترى للعضاة فيها صريرا

سلع ما ومثله عشر ما

عائل ما وعالت البيقورا

ويقال : بقر وباقر وبيقر وبيقور وبقير. وقال بعضهم : تقرّبوا بذلك ، كما تفرّد بعضهم بقربان تأكله النّار فإنهم كانوا يأتون بالقرابين ويوقدون نارا عظيمة وتدنى تلك القرابين في لخلف منها وهم يطوفون حولها ويتضرّعون ، فإذا أكلت النّار وقد أشعلوها تلك القرابين عدّوا ذلك قبولا لها ، وإسعافا بالمطالب منها. وأنشد القحذمي للورل الطّائي في لاستمطار :

لا درّ درّ رجال خاب سعيهم

يستمطرون لدى الأزمات بالعشر

أجاعل أنت بيقورا مسلعة

ذريعة لك بين الله والمطر

وعلى ذكر النّار فللعرب منها ما يذكر في الرّموز. ومنها ما يجعل علامة لحوادث كحذر. ومنها ما يضرب بذكره مثل ، أو يعقد به ديانة ، أو يقام به تشبيه وسنّة ، والجاحظ قد

٥٣٤

أثار الرّهج في جمعها ووصفها ، والكلام عليها وعلى المتديّنين بعبادتها ، وأنا أذكر منها هنا ما يكتفى به إن شاء الله تعالى.

قال الجاحظ : قال الله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) [سورة يس ، الآية : ٨٠] النار من أكبر الماعون ، وأعظم المرافق ، ولو لم يكن فيها إلّا أنّ الله تعالى جعلها الزّاجرة عن المعاصي ، لكان في ذلك ما يزيد في قدرها ونباهة ذكرها وقال تعالى : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) [سورة الواقعة ، الآية : ٧٣] فالعاقل المعتبر إذا تأمل قوله تعالى : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) تصوّر ما فيها من النّعم أولا ومن النقم آخرا. وقد عذّب الله تعالى الأمم بأنواع العذاب ولم يبعث عليهم نارا لأنّه جعلها من عذاب الآخرة.

قال : ومن النّيران بعد ما ذكرها من أنّ العرب في الجاهليّة كانت تستمطر بالنّار التي كانوا يوقدونها عند التّحالف ، فلا يعقدون حلفهم إلّا عندها ، وكانوا يقولون في الحلف : الدّم الدّم والهدم الهدم لا يزيده طلوع الشّمس إلا شدّا ، وطول اللّيالي إلا مدّا ، وما بلّ البحر صوفة ، وما أقام رضوى في مكانه ، إذ كان جبلهم رضوى أو ما أنفق من مشاهير بلادهم يؤكّدون العقود بمثل ذلك ، وعلى هذا ما ورد في الخبر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأنصار لمّا أرادوا أن يبايعوه ، فقال أبو الهيثم بن التّيهان : إنّ بيننا وبين القوم حبالا نحن قاطعوها ونخشى إن الله أعزّك وأظهرك أن ترجع إلى قومك ، فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «لا بل الدّم الدّم ، والهدم الهدم ، واللّدم اللّدم» أي حرمتي مع حرمتكم أطلب الدّم بطلبكم ، وأعفو بعفوكم ، فأجرى الكلام صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كان يجرونه حينئذ عند التّحالف وقال الشّاعر :

ثم الحقي بهدمي ولدمي : أي أصلي وموضعي. والهدم متحركا المهدوم. وقال أوس يصف عيرا :

إذا استقبلته الشّمس صدّ بوجهه

كما صدّ عن نار المهول حالف

وكان قوم اختلفوا عند نار فغشوها حتّى محشتهم النّار ، فسمّوا المحاش. لذلك قال النّابغة يخاطب رئيسهم.

جمع محاشك يا يزيد فإنّني

جمّعت يربوعا لكم وتميما

ونار أخرى : وهي التي كانوا يوقدونها خلف المسافر والزائر الذي لا يريدون رجوعه. لذلك قال بشار :

صحوت وأوقدت للجهل نارا

وردّ عليك الصّبيّ ما استعارا

ونار أخرى توقد لجمع النّاس للحرب ، وتوقّع جيش عظيم. قال عمرو بن كلثوم :

ونحن غداة أوقد في خزازى

رفدنا فوق رفد الرّافدينا

٥٣٥

ونار أخرى : وهي نار الحرّتين وهي نار خالد بن سنان ، ولم يكن في بني إسماعيل نبيّ قبله ، وهو الذي أطفأ الله تعالى به نار الحرّتين ، وكان حرّة ببلاد عبس ، فإذا كان اللّيل فهي نار تسطع في السّماء ، وكانت طيّء ينفش بها إبلها من مسيرة ثلاث ، وربّما ندرت منها العنق فتأتي على ما تقابله فتحرقه. وإذا كان النّهار فهي دخان يفور فبعث الله تعالى خالد بن سنان عليه‌السلام ، فأطفأها وله قصة مرويّة.

وروي أنّ ابنته قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبسط لها رداءه وقال : «هذه ابنة نبيّ ضيّعه قومه» وأنشدوا شعرا :

كنار الحرّتين لها زفير

تصمّ مسامع الرّجل البصير

ونار أخرى وهي التي أطفأها خالد بن الوليد لمّا أرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها ، وكان السّادن احتال حتى رماه بشرر يوهمه أنّه لتعرّضه لها فقال : كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك ، فكشف الله تعالى ذلك الغطاء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فأما نيران السّعالي والجن والغيلان فلها شأن آخر. والنّار التي توقد للظّباء وصيدها معلومة.

ومن النّيران المذكورة نار أبي حباحب ، ونار الحباحب أيضا ، وقيل أبو حباحب رجل كان لا ينتفع به في ماعون ولا في موقد نار ، فجعل ناره مثلا لكلّ نار تراها العين ، ولا حقيقة لها عند التماسها ونسبت إليه. وقال القطامي :

ألا إنّها نيران قيس إذا شتوا

لطارق ليل مثل نار الحباحب

ويشبه نار الحباحب نار البرق.

ونار اليراعة ، واليراعة : طائر صغير يصير باللّيل كأنّها شهاب قذف أو مصباح يطير. وكانوا ربّما أوقدوا نارا واحدة وربّما أوقدوا نيرانا عدة ، وربّما أوقدوا نارين. فالواحدة توقد للقرى ، ويستدلّ بها الضّالّ والمتحيّر في الظّلمة في اللّيل البهيم. والمطعام يوقد اللّيل كلّه في الشّتاء. ولذلك قال الشّاعر شعرا :

له نار تشبّ بكلّ واد

إذا النيران ألبست القناعا

وما أن كان أكثرهم سواما

ولكن كان أرحبهم ذراعا

وقال مزرد :

وشبّت له ناران نار برهوة

ونار بني عبد المدان لدى الغمر

فامّا الإكثار من النيران في مجمعهم فكما يكثرون من الذّبح فيه مخافة أن يجزرهم

٥٣٦

جازر ، فيستدل بقلّة الذّبح والنّيران على قلّة العدد وضعف العدد ، وهذا من مكائدهم.

ومن أحسن ما قيل في نار الضّيافة قول الأعشى :

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في بقاع يحرق

تشبّ لمقرورين يصطليانها

وبات على النّار النّدى والمحلّق

رضيعي لبان ثدي أمّ تقاسما

بأسحم داج عوض لا نفرق

وقول الحطيئة أحسن منه وهو :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

ونار أخرى وهي نار الميسم : ويقال : ما نارك؟ فيقول : علاطة أو خباطة ، أو كذا لذلك قال بعض الحزاب :

تساكني الباعة أين دارها

إذ زعزعوها فسمت أبصارها

فكلّ دار لأناس دارها

وكلّ نار المسلمين نارها

قد وفرّنا قسط هذا الباب لفوائده ، وقد أتى الجاحظ على ذكر نيران العرب والعجم ونيران الدّيانات ، فبلغ الغاية ، ولم يترك لمتتبّع مقالة ، وإن كان أخلّ بذكر نارين ، إحداهما : نار الغدر ، وهي التي أرادها زبير في قوله شعرا :

وتوقد ناركم شررا ويرفع

لكم في كلّ مجمعة أواء

والثانية : نار الوشاة : وهي التي أرادها أبو ذؤيب في قوله :

أبى القلب إلا أمّ عمرو فأصبحت

تحرّق ناري بالشّكاة ونارها

٥٣٧

الباب الحادي والسّتون

في ذكر الاستدلال بالبرق ، والحمرة في الأفق ، وغيرهما على الغيث

قال أبو عمرو تقول العرب في السّحابة : تنشأ إن تبهرت متنكبة ووميضها ضعيف يخفى مرّة ويظهر أخرى ، فقد أخلفت ومعنى تبهّرت : تقطّعت والبهر حفر تكون في الأرض ، ومعنى تنكّبت : عدلت عن القصد ، ومنه النّكباء في الرّياح.

وحكي عن أبي عبيدة قال : قلت لأعرابي : ما أسحّ الغيث؟ قال : ما ألقحته الجنوب ومرته الصّبا ، ونتجه الشّمال ، وإذا كان السّحاب أبيض يبرق بضوء فذاك دليل مائه ، ويقولون : إذا رأيت السّماء كأنه بطن أتان قمراء ، فذلك الجود. قال الشّاعر :

وأضحى يحطّ المعصمات حزيرة

وأصبح رجّاف اليمامة أقمرا

الرّجاف : ما رجف من السّحابة. وقال آخر : وهو المتنخّل الهذلي يذكر مطرا شعرا :

تمدّ له حوالب مشعلات

تجلّلهنّ أقمر ذو انعطاط

قالوا : وإذا كانت السّحابة تبرق كأنها حولاء ناقة ، وهو ما يخرج مع الولد فذلك من علامات.

وإذا كانت السّحابة نمرة فهي خليقة بالمطر لذلك قال قائلهم : أرينها نمرة ـ أركها مطرة. والنّمرة التي ترى سحابها صغارا بتداني بعضها من بعض ، ويكون كلون النّمر ، وإذا كان السّحاب بطيئا في سيره ، فذاك دليل على كثرة مائه ولذلك قال الهذلي يصفه :

وأقبل مرّا إلى بحدل

سباق المقيد يمشي رسيفا

وقال عبيد :

دان مسفّ فويق الأرض هيدبه

يكاد يدفعه من قام بالرّاح

جعل له هدبا يتدلّى لثقله ودنوّه من الأرض.

٥٣٨

شعر :

فمن بنجوته كمن بعقوته

والمستكنّ كمن يمشي بقرواح

ومثله قول الآخر :

أسدف منشقّ عراه فذو الأدماث

ما كان كذي الموئل

الأسدف : الأسود وجعل عراه ينشقّ بالماء والدّمث : السّهل اللّين ، والموئل : المكان المرتفع الذي يئل النّاس إليه من السّيل.

وروي أن المعقّر البارقي سأل ابنته عن السّحابة وقد كفّ بصره ، وإنمّا سمع صوت رعدة فقالت : أرى سحما عفاقة ، كأنّها حولاء ناقة ذات هيدب دان وسير وان فقال : يا بنية وائلي بي إلى جنب قفلة ، فإنها لا تنبت إلا بمنجاة من السّيل. القفل : ضرب من الشّجر لا ينبت إلا مرتفعا من السّيل وإذا كان السّحاب أصهب إلى البياض فذاك دليل على أنه لا ماء فيه وعلى الجدب. قال النابغة شعرا :

صهباء ظمّاء أبين البين عن عرض

يزجين غيما قليلا ماؤه شبما

وقال أمية بن أبي الصّلت يذكره شدّة الزّمان في الشّتاء :

وشوّذت شمسهم إذا طلعت

بالجلب هفا كأنّه الكتم

شوّذت : عليت وعمّمت ، ويقال للعمامة المشوّذ والجلب : سحاب لا ماء فيه ، والهف : الرّقيق. وذلك من علامات الجدب.

وقد يعترض في الأفق حمرة بالغداة والعشيّ من غير سحاب في الشّتاء فيستدلّ به على قلّة الخير وشدّة الزّمان. وقال النابغة شعرا :

لا يبرمون إذا ما الأفق جلّله

صرّ الشّتاء من الإمحال كالآدم

يريد : لا يخلون في هذا الوقت ، والبرم : الذي لا يدخل مع القوم في المسير. وقال الكميت :

إذا أمست الآفاق حمرا جنوبها

لشيبان أو ملحان فاليوم أشهب

وقال الفرزدق :

يغضّون بأطراف العصيّ تلفّهم

من الشّام حمر الضّحى والأصائل

يريد حمر الآفاق : أوّل النّهار وآخره ، فهذه الحمرة التي بيّنتها ودللت عليها بشواهدها

٥٣٩

من الشّعر وغيره هي التي تدلّ على الجدب.

وقد يستدلّ بالحمرة إذا اشتدّت جدا في السّحاب المخيّل وإنّما تكون من شعاع الشّمس عند الطّلوع وعند الغروب على المطر. والفرق بينهما أنّ تلك تكون بغير سحاب أو تكون مع شيء رقيق منه ، وحمرة الغيث تكون شديدة عند الطّلوع وعند الغروب في سحاب متكاثف مخيل. والحمرة التي يشير إليها إنما هي من قرص الشّمس لأنّك تراه في المشرق والمغرب للغبار والبخار ، والضّباب المعترض بينك وبينها أحمر وأصفر للهواء الملابس لها ، وقد توجد النّار تختلف على قدر اختلاف النعظ الأزرق والأبيض والأسود.

وذلك كلّه يتغيّر في مرأى العين بالعرض الذي يعرض للعين ، وعلى قدر جفوف الحطب ورطوبته ، وعلى قدر أجناس العيدان والأدهان تجدها حمراء أو صفراء أو خضراء.

ولذلك يوجد برق السّحاب مختلفا في الحمرة والبياض على قدر المقابلات والأعراض ، وتجد السّحابة بيضاء ، فإذا قابلت الشّمس بعض المقابلة فإن كانت السّحابة غربيّة والشّمس منحطة ، رأيتها صفراء ثم حمراء ثم سوداء تعرض العين لبعض ما يدخل عليه ، وقال الفلتان الفهمي في النّار:

ويوقدها شقراء في رأس هضبة

وقال مزرّد :

فأبصر ناري وهي شقراء أوقدت

بعلياء يشز للعيون النّواظر

وقال الراعي وهو يريد أن يصف لون ذئب :

كدخان مرتجل بأعلى تلعة

غرثان حزم عرفجاء ميلولا

المرتجل : الذي أصاب رجلا من جراد وهو يشويها وجعله غرثان لأنه لغرثه لا يميز الرّطب من اليابس ، فهو يشويها بما حضره ، وأدلّة هذا الكلام كلّه ليكون لون الدخان ولون الذئب الأطحل متّفقين ، فأما شيم البروق فكانوا يقولون : إذا بلغت سبعون برقة انتقلوا ولم يبعثوا رائدا لثقتهم بالمطر ، وإذا كان البرق عندهم وليفا وثقوا بالمطر. والوليف : الذي يلمع لمعتين. قال الهذلي شعرا :

لشمّاء بعد أشتاب النّوى

وقد بتّ أجنبت برقا وليفا

وإذا تتابع لمعانه كان مخيلا للمطر.

ويقال : ارتعج البرق إذا كثر وتتابع. وقال الرّاجز شعرا :

سحّا أهاضيب وبرقا مرعجا

يجاوب الرّعد إذا تبوّجا

٥٤٠