كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

فصل

واعلم أنّ الفصل اسم قد جرى في كلام العرب وجاءت به أشعارهم قال يصف حميرا شعرا:

نظائر حون يعتلجن بروضة

بفصل الرّبيع إذ تولّت ضبائبه

وسمّي فصلا لانفصال الحرّ من البرد ، وانقلاب الزّمن عن الزّمن الذي قبله.

ويقال للفصول : الفصيّات ، الواحدة فصيّة وهي الخروج من حرّ إلى برد ومن برد إلى حر ، والفصيّة تصلح في كل أوقات السّنة متى خرجت من أذى إلى رخاء ، فتلك فصيّة ، ولا يستعمل الفصل إلا في حينه. فأمّا الأصمعي فإنّه قال : الفصيّة : أن تخرج من برد إلى حر ، وأفصى القوم وهم مفصون ويقال : لو أفصينا لخرجت معك.

٤٠١

الباب الثالث والأربعون

في ذكر العيافة والقيافة والكهانة وهو ثلاثة فصول

فصل

حكى ابن الأعرابي قال : أضلّ رجل ذودا له وأمة ، فخرج في طلبها فمر برجل من بني أسد يحلب ناقة فسأله هل أحسست من ذود فيه أمة سوداء؟ فقال : لا ولكن ادن مني أحلب لك فتشرب ثم أدلّك على ذودك وأمتك فدنا فحلب له فسقاه ، ثم قال له : ما سمعت حين خرجت من أهلك قال : نباح الكلب ـ وثغاء الشّاء ـ ورغاء البعير ـ قال نواة تنهاك. قال ثم رأيت ما ذا؟ قال : ثم عرض لي الذّئب فقال : كسوب ذو حيلة ، قال ثم رأيت ما ذا؟ قال : عرضت لي النّعامة ، قال : ذات ريش واسمها حسن ، هل تركت في أهلك مريضا يعاد؟ قال : نعم. قال : فارجع إلى أهلك فإنّ ذودك وأمتك في أهلك فرجع ، فوجد ذلك كما قال. قال : وإنّما قال هل في بيتك مريض يعاد من قوله شعرا :

صعل يعوذ بذي العشيرة بيضة

كالعبد ذي الفرو الطّويل الأصلم

فصل

وقال هشام الكلبي : حدّثني أبي عن أبي الذّيال بن نغر عن الطّرماح بن حكيم الشاعر ، قال : خرج خمسة نفر من طيء من ذوي الحجى والرأي (منهم برج) بن مسهر وهو أحد المعمرين و (أنيف بن حارثة بن لام) و (عبد الله بن) سعد بن الحشرج أبو حاتم طيء و (عارق) الشّاعر و (مرة بن عبد رضا) يريدون سواد بن قارب الدّوسي وكان كاهنا ليمتحنوا علمه ، فلمّا قربوا من السّراة قال ليخبّئ كل واحد منكم خبيئا ، ولا يخبر به صاحبه ، لنسأله عنه ، فإن أصاب عرفنا علمه ، وإن أخطأ ارتحلنا عنه وأحللنا عنه ، وأحللناه محله ، فخبأ كلّ واحد منهم خبيئا.

٤٠٢

ثم صاروا إليه فأهدوا له طرفا من طرف الحيرة وإبلا فضرب عليهم قبة ونحر لهم ، فلما مضت ثلاث دعاهم فدخلوا عليه فتكلّم برج وكان أسنّهم فقال له : جادك السّحاب ـ وأمرع لك الحباب ـ وضفت عليك النّعم الرّغاب ـ نحن أولو الآكال ـ والحدائق ـ والأغيال ـ والنّعم الجفال ـ ونحن أصهار الأملاك وفرسان العراك ـ يورّي عنه أنّه من بكر بن وائل. فقال سواد والسّماء والأرض ـ والغمر ـ والبرض ـ والقرض ـ والفرض ـ إنّكم لأهل الهضاب الشمّ ـ والنّخل العم ـ والصّخور الصمّ ـ من أجاء العيطاء ـ وسلمى ذات المرقبة السّطعاء ـ فقالوا : إنا لكذاك ، وقد خبّأ كلّ رجل منّا خبيئا لتخبر الرّجل باسمه وخبيئه. فقال لبرج : أقسم بالضّياء والحلك ـ والنّجوم ـ والفلك ـ والشّروق والدّلك في أسنخة الفلك لقد خبأت برثن فرخ ـ في إعليط مرخ ـ تحت أسرة الشّرخ. قال : ما أخطأت شيئا ، فمن أنا؟ قال : أنت برج بن مسهر عصرة المعور وثمال المحجر.

ثم قام أنيف بن حارثة فقال : ما خبيئي وما اسمي؟ فقال سواد ـ والسّحاب والتّراب ـ والأسباب ـ والأحداب والنّعم الكتاب ـ ويروى الكباب ـ لقد خبّأت قطامة فسيط ، وقذّة مريط ، في مدرة من مدى مطيط فقال : ما أخطأت شيئا فمن أنا؟ فقال : أنت أنيف ـ قاري الضّيف ـ ومعمل السّيف ـ وخالط الشّتاء بالصّيف.

ثم قام عبد الله بن سعد فقال : ما خبيئي ومن أنا؟ فقال سواد أقسم بالسّوام العارب والوقير الكارب ـ والمجد الرّاكب ـ والمشيح الجادب ـ لقد خبّأت نغاثة فنن ـ في قطيع قد مرن ـ من أديم قد جرن ـ فقال : ما أخطأت حرفا فمن أنا؟ قال : سعد النّوال ـ عطاؤك سجال ـ وشرّك عضال ـ وعمدك طوال ـ وبيتك لا ينال.

ثم قام عارق فقال : ما خبيئي وما اسمي؟ قال سواد أقسم بنقف اللّوح ـ والماء المسفوح ـ والفضاء المندوح ـ لقد خبّأت زمعة طلى أعفر ـ في زعنفة أديم أحمر ـ تحت حلس نضؤ أدبر ـ قال ما أخطأت شيئا فمن أنا؟ قال : أنت عارق ذو اللّسان العضب ـ والقلب النّدب ـ مضاء الغرب ـ مناع السّرب ـ مبيح النّهب.

ثم قام مرّة بن عبد رضا قال : ما خبيئي وما اسمي؟ قال سواد : أقسم بالأرض والسّماء ـ والبروج والأنواء ـ والظّلمة والضّياء ـ لقد خبّأت دمة ـ في زمة شيط لمة ـ قال : ما أخطأت حرفا فمن أنا؟ قال : أنت مرة السّريع الكره ـ البطيء الغرة الشّديد المرة ـ القليل الغرة.

قالوا فأخبرنا بما رأينا في طريقنا إليك ، فقال سوادا : أقسم بالنّاظر من حيث لا يرى ـ والسّامع من قبل أن يناجي ـ والعالم بما لا يدري ـ لقد عفت لكم عقاب عجزاء ـ على

٤٠٣

شناغيب دوحة جرداء ـ تحمل جذلاء ـ فتماريتم إمّا يدا وإمّا رجلا ، قالوا : كذلك كان ثم مه قال :

سنح لكم قبل ترجّل الشّروق

سيدا مق على ماء طروق

قالوا : ثم ما ذا؟ قال : ثم تيس أفرق ـ فسند في إبرق ـ فرماه الغلام الأزرق ـ فأصاب بين الواهلة والمرفق ـ قالوا : صدقت وأنت أعلم من تحمل الأرض ثم انصرفوا فقال عارق شعرا :

ألا لله علم لا يجارى

إلى الغايات في جنبي سواد

أتيناه نسائله امتحانا

ونحسب أن سيبعل بالعناد

نسائل عن خفي مخبئات

فأضحى سرّها للنّاس باد

حسام لا يليق ولا تثأثأ

عن القصد الميمّم والسّداد

كأنّ خبيئنا لمّا انتخبنا

بعينيه يصرّح أو ينادي

فأقسم بالعشائر حيث قيس

ومن نسل الأقيصر باللّباد

لقد جزت الكهانة عن سطيح

وشق وكم فل من الإياد

تفسير ما يشكل منه ، (النّعم) : الرّغاب هي الكثيرة منه (وأولو الآكال) : يريد القطائع وكانت ملوك الحيرة تقطع بكر بن وائل ولم يكن ذلك لغيرهم. و (الأغيال) : جمع الغيل : وهو الماء الجاري وبطن الوادي. وقوله : (نحن أصهار الأملاك) : يريد بنت عمرو بن الحارث الملك الكندي أم أناس منهم وهم أصهار ملوك لخم أم عمرو بن امرئ القيس الذي كان يقال له : ابن ماء السماء ـ وابن ماء المزن. و (الغمر) : الماء الكثير ، و (البرض) : الماء القليل و (النّخل العم) : الطّوال ، و (العيطاء) : الطّويلة ، و (السّطعاء) : الطّويلة العنق ، و (أجاء وسلمى) : جبلان. (الحلك) : الظلمة ، (الدّلك) : السّواد ، (البرثن) الإصبع ، و (الشّرخ) : من الرّجل بمنزلة القربوس من السّرج ، و (الإعليط) : وعاء تمر. (المرخ) : مثل وعاء الباقلي ، و (المرخ) : شجر ، و (العصرة) : الملجأ و (المعور) : الذي قد ظهرت عورته ، و (الثمال) : العصمة و (المحجر) : الذي قد احجرته السّنة. و (الأصباب) : جمع الصبب وهو المنحدر من الأرض ، و (الأحدب) : جمع حدب وهو المرتفع من الأرض ، (الكتاب) : المجتمع ـ والكباب الكثير ، و (القطامة) : ما قطعته بأسنانك ، و (الفسيط) : قلامة الظفر ، و (المريط) : سهم تمرط ريشه ، و (المدى) : ما سال من الحوض من الماء ، و (المطيط) : الخاثر بما بقي في الحوض من الماء ، و (الوقير) : القطيع من الغنم برعائه ، و (العازب) : البعيد في المرعى ، و (القارب) : القريب ، و (الجادب) : العائب ، و (النغاثة) : ما ترميه من السّواك ، و (النّفنف) : الهواء بين السّماء والأرض ، و (جرن

٤٠٤

ومرن) : بمعنى لان ، و (اللّوح) : الهواء ، و (العفرة) : حمرة أشربت غبرة ، و (الزعانف) : أطراف الأدم ، و (الحلس) : البرذعة والكساء ، و (النضو) : الذي أنضاه السّفر ، و (الأدبروالحرب والسّرب) : المال الرّاعية ، و (النّدب) : الخفيف ، و (الدّمة) : النّملة الصّغيرة ، و (الرّمة) : العظم البالي ، و (المشيط) : ما سقط من الشّعر عند المشط ، وإذا كانت الرّيشة البيضاء ظاهرته فالعقاب عجزاء. وإذا بطنت فهي كسعاء. و (الجذل) : العضو بكماله ، و (الشّناغيب) : أطراف الغصون العلى ، و (الأمق) : الطّويل ، و (الراملة) : رأس العضد الأعلى ، و (الأبرق) : حجارة اختلط بها طين ، و (البعل) : والبقر الدهش ويقال تثأثأ الرجل عن المكاره ، إذا زال ، و (اللّباد) : موضع.

ومما رواه محمد بن إسحاق قال : ذكر وقع باليمن من الحبشة فيما بلغني عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس وغيره من علماء أهل اليمن ممن يروي الأحاديث ويرغب في جمعها يحدث بعضهم عن بعض الحديث ، وبعضهم يحدّث بعضا كل ذلك قد اجتمع فيما أذكره ، أنّ ملكا من لخم كان باليمن فيما بين التّبابعة (١) من حمير يقال له ربيعة بن نصر ، وكان قبل ملكه باليمن ملك تبّع الأول ثم كان بعد تبع شمر بن عش بن ياسر بن ينعم الذي غزا الصّين وبنى سمرقند ـ وحير الحيرة وهو الذي يقول :

أنا شمر أبو كرب اليماني

جلبت الجند من يمن وشام

لناتي أعبدا مردوا علينا

وراء الصّين في غيم ويام

وإنّ الملك ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته ، فبعث إلى الخيرة من أهل أرضه والكهان والسحار والعراف (٢) والمنجمين ثم جمعهم فقال لهم : إنّي قد رأيت رؤيا أفزعتني وهالتني فأخبروني بها ، فقالوا : أقصصها علينا نخبرك بتأويلها ، فقال : إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عنها أنّه لا يصيب تأويلها إلا الذي يخبرني بها قبل أن أخبره ، فلما قال لهم ذلك ، قال رجل من القوم : إن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق ، فهما يخبرانه عما رأى من ذلك وهما أعلم من بقي ، وكان سطيح رجلا من غسّان يقال له : سطيح الذئبي نسب إلى ذئب بن عدي بن مازن بن غسان وكان شق رجلا من قسر بن عبقر بن أنمار ، وكانا كاهني اليمن في ذلك الزّمان وإليهما انتهت الكهانة ، فأرسل الملك ربيعة بن نصر إليهما ، فقدم عليه سطيح قبل شق ، فدخل عليه فقال له الملك : يا سطيح إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها حين رأيتها وإنّك إن تصبها قبل أن أخبرك عنها أصبت تأويلها.

__________________

(١) في القاموس والتّبابعة ملوك اليمن الواحد كسكر (تبع) ولا يسمّى به إلا إذا كانت له حمير وحضرموت ١٢ مصحح.

(٢) قال في كنز المدفون فرق بين.

٤٠٥

قال : رأيت حممة خرجت من ظلمة ـ فوقعت تهمة ـ وفي رواية فوقعت بين روضة وأكمة. فقال الملك : ما أخطأت من رؤياي وسمه ، فما عندك في تأويلها يا سطيح؟ قال : أحلف بما بين الحرتين من حنش ـ لتنزلنّ أرضكم الحبش ـ وليملكنّ ما بين أبين إلى جرش. قال له الملك : وأبيك يا سطيح إنّ هذا لنا لغائظ وموجع فمتى هو كائن يا سطيح؟ أفي زمني أم بعده؟ قال : لا بل بعده بحين ـ أكثر من ستين أو سبعين ـ يمضين من السّنين. ثم يقتلون فيها أجمعين ـ أو يخرجون منها هاربين. فقال له الملك : ومن الذي يقتلهم ، ويلي ذلك من إخراجهم؟ قال الذي يليه ابن ذي يزن ـ يخرج عليهم من عدن ـ فلا يترك أحدا منهم باليمن. قال الملك : أيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال سطيح : بل ينقطع. قال ومن يقطعه؟ قال : نبي مكي يأتيه الوحي من قبل العلي. قال : ومن هذا النّبي يا سطيح؟ قال : رجل من دار غالب بن فهر بن مالك بن النّضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال له الملك : وهل للدهر من آخر؟ قال : نعم يوم يجمع فيه الأوّلون والآخرون ـ يشقى فيه المسيئون ـ ويسعد فيه المحسنون. قال له : أحقّ ما تقول يا سطيح؟ قال له : نعم والشّفق والغسق والقمر إذا اتّسق إنّ ما نبّأتك لحقّ.

فلما فرغ من مسألته خرج من عنده وقدم عليه شق فقال له الملك مثل ما قال لسطيح ، فقص عليه الرؤيا على ما قصّها سطيح ، فقال الملك : ما تأويلها يا شق؟ قال : أحلف بما بين الحرّتين ليغلبنّ على أرضكم السّودان وليملكنّ كلّ طفلة البنان ـ ولينزلنّ ما بين أبين إلى نجران ـ قال الملك : وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ قال بل بعده بزمان ـ ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان ، فيذيقهم أشدّ الهوان. قال له الملك : ومن هذا العظيم الشّأن يا شق؟ قال : غلام ليس يدني ولا مدن ـ يخرج من بيت ذي يزن ـ قال : فهل يدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال : بل ينقطع برسول مرسل ـ يأتي بالحق والعدل ـ بين أهل الدّين والفضل ـ يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل ـ قال له الملك : وما يوم الفصل يا شق؟ قال : يوم يجزي فيه الولاة ويدعى فيه من السّماء دعوات ، يسمع فيه الأحياء والأموات ، ويجمع النّاس فيه للميقات ، فيكون فيه لمن اتّقى الفوز والخيرات. قال له الملك : أحقّ ما تقول يا شق؟ قال : إي وربّ السّماء والأرض ـ وما بينهما من رفع وخفض ـ إنّ ما نبأتك به لحقّ ما فيه من أمض ـ فلمّا فرغ من مسألتهما وقع في نفسه أنّ ما ذكرا له كائن من أمر السّودان فجهّز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم وكتب لهم إلى ملك من ملوك الفرس يقال له سابور بن خرزاد فأنزل الحيرة. وفي غير هذا أنّه قال للمنجّمين والكهنة لمّا سألوه أن يقصّ عليهم رؤياه أنّها انسلخت منّي فقالوا : ما عندنا علم المنسلخ ولكنّا ندلّك على من يعلم.

٤٠٦

قال الدّال على الفعل كفاعله فأرسل مثلا فقالوا : أرسل إلى سطيح الغسّاني فإنّه يخبرك ، فدعا سطيحا فأتي به محمولا ولم يكن له عظم كان مستلقيا دهره يفتي النّاس يأتيه رئي من الجن بأخبار السماء ، وما يحدث في الأرض ولم تكن الشّياطين ممنوعة من الاستراق إذ ذاك ، وإنما رجمت بالنّجوم وحجبت بعد مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمسترق للسّمع الآن يرمى بنجم فيصيبه ولا يقتل بل يبقى مخبولا إلى يوم القيامة.

وفي حديث إنّ الشيطان إذا رجم وخاف الاحتراق رمى بنفسه في البحر.

وفي هذا الحديث أنّ سطيحا قال : أحلف بآله ما بين الحرتين إلى جرش ـ وما بينهما من ذي ناب وحنش ـ ليقطعنّ أرضكم الحبش ـ فليقتلنّ من دبّ وانكمش. وفي رواية الشّرقي ابن القطامي أنّه قال : فمن يلي قتل الأحبوش. قال : غلام من ذي يزن ـ يأتي ببني الأحرار من قبل عدن ـ فلا يترك منهم أحدا باليمن. قال : فهل يدوم ملك بني الأحرار أو ينقطع؟ قال : يقطعه نبي زكي ـ يأتيه الوحي من قبل العلي. قال ومن هذا النّبي الزكي؟ قال : رجل من ولد النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدّهر.

قال الكلبي : اسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن عدي بن الذّئب بن الحارث. وقال الشّرقي : أخذته ذئبة ـ وهو طفل فذهبت به إلى غيضة ـ فجعلت تغذوه بأنواع الثّمار حتى أدرك واشتدّ فهرب منها وأتى قومه فخبرهم بقصّتها ، وأقبلت في أثره كالأم الثّكلى تطلب ولدها فرموها حتّى قتلوها.

قال هشام : وشق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن نذير بن قسر بن عبقر بن أنمار.

قال : وحدّثنا أبو يحيى زكريّا بن يحيى السّاخي في إسناد ذكره ينتهي إلى سعيد بن مزاحم. وحدّث أبو الحسن علي بن حرب الطّائي في إسناد ذكره ينتهي إلى مخزوم بن هانئ المخزومي ، فقال : حدّثني أبي وقد أتت له خمسون ومائة سنة قال : لمّا كانت اللّيلة التي ولد فيها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتجس إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة ، وخمدت نار فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغاضت بحيرة ساوة ، وفاض وادي السّماوة وكان منقطعا قبل ذلك بألف عام.

ورأى مؤبذ المؤبذان إبلا صعابا ـ تقود خيلا عرابا ـ قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها ، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك وتصبّر عليه. ثم رأى أن لا يستر ذلك عن وزرائه ومرازبته فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم إليه فأخبرهم بالذي رأى فبينا هم كذلك ، إذ ورد عليهم كتاب بخمود النّار فازداد غمّا إلى غمّه.

٤٠٧

قال مؤبذ الموبذان : وأنا أصلح الله الملك ، فقد رأيت في هذه اللّيلة ثم قص عليه رؤياه في الإبل ، فقال كسرى : أيّ شيء يكون هذا يا مؤبذان؟ قال : حادث يكون من ناحية العرب ، فكتب عند ذلك من كسرى ملك الملوك إلى النّعمان بن المنذر ، أمّا بعد فوجّه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه ، فوجّه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيّان بن بقيلة الغسّاني ، فلمّا قدم عليه قال : هل عندك علم بما أريد أن أسألك قال : ليخبرني الملك فإن كان عندي منه علم وإلّا دللته على من يعلمه ويخبره فأخبره بما رأى. فقال : علم ذلك عند خال لي يسكن بمشارف الشّام يقال له سطيح ، قال : فأته فاسأله عما سألتك عنه ، ثم ائتيني بجوابه ، فخرج عبد المسيح حتى ورد على سطيح ، وقد أشفى على الموت ، فسلّم عليه وحيّاه فلم يرد عليه سطيح جوابا فأنشأ عبد المسيح يقول شعرا :

أصمّ أم يسمع غطريف اليمن؟

أم فاظ فأزلم به شاء والعنن

يا فاضل الخطّة أعيت من ومن

وكاشف الكربة في الوجه الغضن

أتاك شيخ الحي من آل سنن

وأمّه من آل ذئب بن حجن

أزرق جهم الوجه صرار الأذن

أبيض فضفاض الرّداء والبدن

لا يرهب الرّعب ولا ريب الزّمن

وهو رسول العجم يسري للوسن

يجوب في الأرض علندن ذو فرن

بلغه في الرّيح يوغاء الدّمن

كأنما حثحث من حضني ثكن

فلمّا سمع سطيح شعره فتح عينيه ، ثم قال : عبد المسيح على جمل طليح ـ ويروى مشيح ـ يخبّ إلى سطيح ـ وقد أوفى على ضريح ، بعثك ملك بني ساسان ـ لارتجاس الإيوان ، وخمود النّيران ، ورؤيا المؤبذان ، رأى إبلا صعابا ، تقود خيلا عرابا ، قد قطعت دجلة وانتشرت في البلاد ، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة ، وظهر صاحب الهراوة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وفاض وادي السّماوة ، فليست الشّام لسطيح شاما ، يملك منهم ملك وملكات ، على عدد الشرفات ، وكل ما هو آت آت ، ثم قضى سطيح مكانه ، فثار عبد المسيح إلى رحله وقال شعرا :

شمّر فإنّك ماضي الهمّ شمير

لا يفزعنّك تفريق وتغيير

إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم

فإنما الدّهر إفراط دهارير

فرّبما أصبحوا يوما بمنزلة

تهاب صولتهم أسد مهاصير

وربّ يوم له ضحيان ذي أمر

سارت بلهوهم فيها المزاهير

وأسعدتها أكف غير معرفة

بحّ الحناجر تثنيها المعاصير

من بين لاحقه الصّقلين أسفلها

وغث وعسلوج بادي المتن محصور

٤٠٨

منهم أخو الصّرح بهرام وإخوته

والهرمزان وسابور وسابور

والنّاس أولاد علّات فمن علموا

أن قد أقلّ فمحقور ومهجور

وهم بنو أمّ من رأوا له نشبا

فذاك بالغيب محفوظ ومنصور

والخير والشرّ مقرونان في قرن

فالخير متّبع والشّر محذور

وفي غير هذا أنّ الملك قال لعبد المسيح : هل بقي في العرب أحد يخبرنا عمّا نسأل عنه؟ قال : نعم ابن عم لي بباب الجابية يقال له سطيح ، وكان سطيح لحما يحمل في جلد لم يخلق له عظم ، وإذا أرادوا تحويله من موضع طوي كما يطوى القرطاس ، فإذا أرادوا أن يتكهّن مخض كما يمخض الزّق ثم علاه بهر وعرق ، وعلته برحاء ثم تكهّن. (وفيه) فلما قدم على كسرى أخبره بالخبر ، فقال كسرى : إلى أن يملك منّا أربعة عشر ملكا يذهب دهر طويل ، وكان الرّجل منهم ربّما ملك مائة سنة فهلك منهم تسعة في أربع سنين ، وظهر أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحدّث أبو المنذر عن شيوخه عن زفر بن زرعة قال : خرجت مع نفر من قومي في الشّهر الحرام في بغية لنا فسرنا ثلاثا حتى إذا انخرقت لنا الفلاة نزلنا واديا موحشا فعقلنا رواحلنا. وقام رجل منّا فنادى بأعلى

صوته : أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ من فيه ، وكذا كنّا نفعل في الجاهلية. وذلك قوله عزوجل : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) [سورة الجن ، الآية : ٦] قال : فلما أبهار اللّيل وقد نام أصحابي وقعدت أكلؤهم وقد كنّا تحدثنا بخروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، وشاع خبره في العرب ، سمعت هاتفا يقول : يا وزر بن خوتع بن غزوان ـ هل راعك اليوم حديث الرّكبان؟ عن نبأ أيقظ كلّ وسنان ـ فأجابه آخر شعرا :

أربت يا هوبر من داع دان

روّعت معمود الفؤاد روبان

(أربت) قطّعت إربا ، و (المعمود) : الذي قد عمد المرض فؤاده ، وروبان ناعس ثقيل مسترخ من النّعاس جل فقد أشأزت قلبي الحيران ـ وقال الأول : قد لفظت مكة ذات أشبرة. جمع شبر وهي أربعة آمار ما كان أبونا أثره امار علامة أثره. رواه أنّ امرأ بين المنطباح الضّفر ، أي متداخل بعضها في بعض قد نجم القول الذي قد أظهر. فقال الثّاني :

إن كان يا بن نعجة بن صبره

ما قيل حقا فابعثن حبشرة

في آل ز لقوم وآل سجره

إنّ التي بنخلة المستغفرة

حلت بها أم اللميم القشرة

العرب كانوا يستنفرونها فإذا صوّت كصوت الرّعد من أحد أعداء الوادي يقول :

إن كان ما أنبأتما قد كانا

فقد أقم القلت الأوثانا

٤٠٩

ولم تزو جنانها الكهانا

وصادفت دون العلى شهبانا

يمنعها أن تغرب الأعنانا

(أقم الفحل) : شوله. إذا ضربها كلّها و (الأعنانا) : نواحي السّماء. ثم صرخ صرخة اشتعل منها الوادي نارا ، فخررت صعقا ، فما استيقظت إلا بأصوات أصحابي فاظ واللّات فاظ ذللا فانتبهت ، واقتصصت عليهم قصّتي ورجعنا من سفرنا وقد شاع خبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العرب.

وحكى الهيثم بن عدي عن شيوخه قال : انطلقت أمّ مالك وطيّئ ابنا سبأ وهما ابنا أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان حين ترعرعا إلى كاهنة يقال لها : شهيرة بأرض سبأ بموضع يقال له : بلخع لتنظر إليهما وتقول فيهما ، وساقت معها إبلا فوجدت في طريقها سحق نعل ، فجعلتها في كرية نخل ، ثم دفعتها إلى رجل معها من قومها يقال له : صعل ، فقالت : أخبئ هذا معك حتى نثور الكاهنة بشيء قبل المسألة ، فلمّا انتهت إليها عقلت ببابها ثم قالت : يا شهيرة إني قد خبّأت لك خبئا فأخبريني به قبل المسألة ، فقالت : أقسم بالشّمس والقمر ، والكثكث والحجر ـ والرّياح والمطر ، لقد خبّأت لي جلد بقر أشعر ، وما به شعر محضر ، أو ما به حضر. قالت أحلف بالسّهل والجبل والجدي والحمل ، والقمر إذا أفل ، وما حنّ بنجد من جمل ، أن قد خبّأت لي فرد نعل ، في كرنافة نخل ـ مع رجل يدعى صعل ـ رب شاة وحقل ، قالت : صدقت فأخبريني عمّا جئت أسألك عنه ، قالت : تسألين ـ عن غلامين ولدا في يومين ـ في بطن توأمين ، (أحدهما) : ربعة جعد ، تعني طيا ، و (الآخر) : سبط نهد تعني مالكا. قالت : صدقت ، فأخبريني عنهما ، قالت : أهما معك؟ فأراهما أم تسجع نبقت عنهما؟ قالت : هما معي فنظرت إليهما ثم أقبلت على مالك فقالت : يكون من ولده قبائل وعدد ومصاليت نجد ، ورأس وكتد وحق وفند ، يصيبون ويصابون ، ويلحم عليهم ويلحمون الحق لا المين.

ثم نظرت إلى طيء فقالت : يكون في ولده سماح وجلد وإباء ونكد وعرام وسدد يأكلون ولا يؤكلون ، شديد والكلب ، قليلو السّلب ، الحق لا الكذب.

فهذا عنوان ما يحكى عن كهانتهم وغيض من فيض ما يتلى من آياتهم وعبرهم وكلّ ذلك كان قبيل ما أراد الله تعالى اطّلاعه من شأن النّبوة بعد الفترة الممتدة ، لأنّه هو الحكيم العالم يسبّب الأسباب لما يقضيه ـ ويهيئ الآراب والدّواعي لإتمام ما يمضيه ، ويزيح العلل عما يتعبد به ، ويسهّل الطرق إلى ما يدعو إليه حتى تصير المدارج صاحبة للسّالكين والدلائل متوافية للنّاظرين والمراصد ظاهرة للمعتبرين ، وأبواب الفلاح مفتتحة للمسترشدين.

فلما دنا وقت خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واصطفائه إيّاه لبعثه ورسالته وكان في الجنّ من يقعد

٤١٠

للسّمع إلى سكان السماء والمتصرفين فيما يجري عليه أهل الأرض من خير وشر ، ورفع ووضع فيؤدّي ما يدركه إلى الكهنة ، فيتسوقون به ويدعون علم الغيب فيه ، حكى الله تعالى أمرهم في ذلك في غير موضع ، وبيّن أنّ الجنّ عزلوا عمّا كانوا يتولّونه من التقاط الأنباء من أهل السّماء وبثّها فيمن كان يعبدهم من السّحرة والكهنة.

فقال عزّ وعلا (١) : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) [سورة الجن ، الآية : ٨](وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [سورة الجن ، الآية : ٩] يريد أنّا طلبنا السّماء جريا على عادتنا من قبل في التسمّع إلى أهلها وقد حجبنا الآن دونها وملئت بمن يحرسها منّا ويرمينا بالنّار إذا تعرّضنا له.

ثم ختم الكلام في الحكاية عنهم بأنّهم قالوا : لا نعلم ما ذا أريد بما فعل لأهل الأرض من الغيّ أو الرّشد أو الصّلاح ، أو الفساد يريدون ما خفي عليهم من ايتناف الرّسالة واستحداث الشّريعة والدّلالة على أنّ لمسنا طلبنا قول الشاعر وهو يرثي ابنا له :

هوى ابني من أشرف

يهول عقابه صعده

ثم قال :

ألام على تبكيه

وألمسه فلا أجده

فاقتران الوجدان بقوله ألمسه : يدل على أنّ المراد به أطلبه فلا أجده ، وقال تعالى في موضع آخر : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٢١٠ ـ ٢١٢] يريد تنزيه وحيه وتثبيت رسالته على لسان نبيّه.

فإن قيل : إذا كان أمر الكهّان مع شياطين الجن على ما ذكرت ومؤدّى الغيب على ألسنتهم من نقلهم كما اقتصصت ، فما الفرق بين أخبار النّبي وأخبارهم؟ وبما ذا يتميز ما مبناه على الحق والصدق لا تبديل يصحبه ولا خلف يعترض فيه مما هو بخلافه ، ومبناه على التّمويه والتّشبيه والمخرفة والتّزويق؟! قلت : إنّ أولئك الكهّان إنمّا تكهّنوا في أثناء أيام الفترة المتأخرة ، وقبل طلوع سوابق المعجزة ، واستقام لهم ذلك لمّا أراد الله تعالى من تمرين النّاس على ما يريد إظهاره من إعلام النّبوّة يدل على هذا أنّه لم يحك ما يشبه بلاغاتهم عند الإخبار والاستخبار فيما تقادم من أخبار ملوك قحطان وعدنان والذوين والتّبايعة وفيما ذكر قبلهم من أخبار طسم وجديس ، ومن كان في الجاهلية الجهلاء ، وإنّما قامت أسواقهم في أيام النّعمان والمنذر ابن ماء السّماء وأشباههم.

__________________

(١) يعني حكاية عن الجن الذين أسلموا ـ الحسن النعماني.

٤١١

وإذا كان الأمر على هذا فكما تناهت البلاغة نظما ونثرا على ألسن فصحاء العرب لتعقبها التّحدي بالقرآن ، فبيّن شأن الإعجاز ، كذلك تعالت أشواطها الكهّان والحزاة فيما تهاذوا به وادّعوه في أوقاتهم من علم مكتمن الأخبار ليعلوها شأن النّبي عليه الصّلاة السّلام في إعلان المغيبات ـ وسائر ما أتي به من البيّنات.

هذا وقد كان امتلكتهم صرفة من قبل الله تعالى تمنعهم فيما يأتونه من ادّعاء نزول الوحي عليه.

فإن قيل : بما ذا يتفصّل ، مما قال لك إنّ التّحدي بالقرآن ـ وعجز من في زمانه عن الإتيان بمثله وبأقلّ سورة منه ضمن تصوير المراد من تباري الخطباء والشّعراء ، والوصّاف والبلغاء؟ إذ كان انبعاث هممهم ـ وتحرّك شهواتهم ـ واهتياج طبائعهم له لا داعي إليها ، ولا مسبّب لها عند الفحص والتأمل إلّا ذلك ويكشفه ما تراه من مساعدة دخلائهم من غيرهم وتعاونهم عند الأخذ عنهم في طلب الزّيادة عليهم كلّ ذلك لتصير المعجزة في كلّ أوان مجددة ـ كما كانت في زمانهم محققة فما العذر في الكهانة؟ وكيف ينماز حالها عما خلّدته النّبوة؟ قلت : إنّ النّبوة غايتها لا تدرك لأنّها محفوفة بالصّدق والنّزاهة والآيات البيّنة وعليها واقية من قبل الله تعالى يبعدها من الرّيبة ، ويحفظها من درن الشّبهة والظّنة ، والكاهنين قد بيّن الله تعالى حاله في محكم كتابه فقال : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) [سورة الشعراء ، الآية : ٢٢١ ـ ٢٢٣] فحالهم حال المنجّم فيما يحكم به وهو يردّد بين مصدّق ومكذّب ومؤمن به ومبطل ، وإذا كان الأمر على هذا انسدّت طرق المعارضات فالاكتفاء في تبيّن أمرهم بما ذكرته واجب.

فصل

في القيافة والعيافة

فأمّا القيافة : فقد خصّ بها قوم من العرب ، وإنّما هو في الأنساب خاصة وقد ثبّتها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحكم بها الشّافعي وأصحابه ، ويلحقون بها الولد وهذه فضيلة خصّت بها العرب. روى سفيان بن عيينة عن الزّهري عن عروة عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعرف السّرور في وجهه ، فقال : ألم تري أنّ مجزز المدلجي نظر إلى أسامة وزيد وعليهما قطيفة وقد غطيا رأسيهما وبدت أقدامهما فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض ، وهذا استدلّ به الشّافعي وذكره المزني فيما حكى من مذهبه.

وروي أنّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه دعا قائفا لرجلين ادّعيا ولدا فقال : لقد اشتركا فيه ، فقال عمر للغلام : وال أيّهما شئت. وروي أنّ أنسا شكّ في ابن له فدعا القافة

٤١٢

للنّظر في أمره. وهذه الأدلة تسوّغ في الدّين القيافة ، وإنّما هي علم يتتبع أثرا أرشد الله له قوما خصّهم بفضيلته ويقال : قفاه وقافه واقتافه واقتفاه بمعنى. وفي القرآن : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [سورة الإسراء ، الآية : ٣٦].

وأمّا العيافة ففعل الزّجار. قال الأعشى :

ما تعيف اليوم من طير روح

من غراب البين أو تيس برح

فقال في الإجمال : ما تعيف من طير روح ، وفي التّفصيل (قال) : من غراب البين أو تيس برح ، فجعل التّيس من تفسير الطّير لأنّهم يقولون في تعارفهم : جرى طائره بكذا ، وحكى أبو زيد عنهم : سألت الطّير ، وقلت للطّير ، وإنّما هو زجرانها. وفي القرآن : (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) [سورة يس ، الآية : ١٩] و (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) [سورة النّمل ، الآية : ٤٧] والأمم على اختلافها تفعلها. فمن ذلك قول الهذلي :

أتيح له من الفتيان خرق

أخو ثقة وخريق حشوف

فبينا يمشيان جرت عقاب

من العقبان خاسئة دفوف

فقال له : وقد أوحت إليه

ألا لله إنّك ما تعيف

فقال له : أرى طيرا ثقالا

تبشّر بالغنيمة أو تخيف

ففي هذا الذي قاله بيان ، إنّ ذلك رجم ظن ، وفي العرب من يشتقّ من اسم ما يعنّ له عند الطّيرة ، فيبني قصّته عليه كقول القائل :

قالوا : حمام قلت : هم لي اللقاء. وقالوا : غراب قلت : غرب من النّوى. وقد اشتق أبو تمام على ضد هذا فقال شعرا :

لا تشجينّ لها فإنّ بكاءها

ضحك وإنّ بكاءك استعقام

هنّ الحمام فإن كسرت عيافة

من جابهنّ فإنّهنّ حمام

فأمّا ما يقولون في الغراب والظّباء وهي : (السّانح) و (البارح) و (النّاطح) و (القعيد) و (الجابه) و (غراب البين) فقد اختلفوا في (السّانح) و (البارح) فمن العرب من يتشاءم بالسّانح ويتيمّن بالبارح على ذلك قول زهير :

جرت سخّا فقلت لها أجيزي

نوى مشمولة فمتى اللّقاء

وقال النابغة :

زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا

وبذاك خبّرنا الغداف الأسود

فما تطيّر به زهير تبرّك به النّابغة ، (فالسّانح) : ما جاء من ميامنك فولّاك مياسره ،

٤١٣

و (البارح) ما جاء من مياسرك فولّاك ميامنه ، فأحدهما راعى من نفسه ما كرهه والآخر راعاه من الماربة ، (فأما الناطح) فما يلقاك و (القعيد) ما استدبرك و (الجابة) ما جاء من أعلاك وقوله : (أجيزي نوى مشمولة) معناه اقطعي نوى هبّت عليها ريح الشّمال فبدّدت شملها وقوله : (فمتى اللقاء) : استبعاد لوقوعه.

وحكى أحمد بن يحيى عن أبي المنهال المهلبي عن أبي زيد الأنصاري أنّ ما مر من ظبي أو طائر أو غيره فكلّ ذلك عندهم طائر. وأنشد في ذلك لكثيّر :

فلست بناسيها ولست بتارك

إذا عرض الأدم الجواري سؤالها

ثم خبّر بعد أن قال الأدم الجواري أنه طائر فقال :

أدرك من أمّ الحكيم غبطة

بها خبّرتني الطّير أم قد أتى لها

وقد فسّر قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [سورة الإسراء ، الآية : ١٣] الآية على أنّ معناه حظّه ، وقيل : عمله وما قدّمه من خير أو شر. ويكون ذلك في الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وقال تعالى فيه : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) [سورة يونس ، الآية : ٣٠] وفي موضع آخر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [سورة الحاقة ، الآية : ١٩] وقال الكميت في تصديق ما ذكرناه شعرا :

وما أنا ممّن يزجر الطّير همّه

أصاح غراب أم تعرّض ثعلب

وقال حسان بن ثابت رضي‌الله‌عنه :

ذريني وعلمي بالأمور وسيرتي

فما طائري فيها عليك مخيلا

رواه أبو زيد وفسّره على أنّ المراد ليس رآني بمشئوم. وأنشد لكثير :

أقول إذا ما الطّير مرّت مخيلة

لعلّك يوما فانتظر أن تنالها

(مخيلة) : مكروهة من الأخيل ، وأنشد : ولقيت من طير العراقيب أخيلا. ومن المأثور قولهم :

اللهمّ لا خير إلّا خيرك ، ولا طيرا إلّا طيرك ، ولا ربّ غيرك ، وقال خثيم بن عدي في ضدّ ما تقدّم :

ولست بهيّاب إذا شدّ رحله

بقول عداني اليوم واق وحاتم

قال :

فإذا الأشائم كالأيامن

والأيامن كالأشائم

٤١٤

وكذلك لا خير ولا شر على أحد بدائم ، ويشبه هذا المعنى ما أنشده أبو عبيدة عن أبي عمرو :

يا أيّها المزمع ثم آنسني

لا يثنك الحادي ولا الشّاحج

ولا قصيد أعضب قرنه

هاج له من مزبع هائج

هذا الفتى يسعى ويسعى له

تاج له من أمره خالج

يترك ما رقح من عيشه

يعيث فيه همج هامج

لا تكسع الشّول بأغبارها

إنّك لا تدري من الناتج

واصبب لضيفانك ألبانها

فإنّ شرّ اللّبن الوالج

٤١٥

الباب الرابع والأربعون

في ذكر ما أبهم من الأوقات حتى لا يتبيّن للسّامع حاله وما شرح منها

اعلم أنّ مذاهب العرب في التّنبيه على أوقات الأفعال مختلفة وذلك لاختلاف أحوالهم فيما يقصدونه من البيان ، فربّما بالغوا في التّعين والشّرح حتى يصير المستدل عليه كما يشار باليد إليه ، وربما أبهموها اعتمادا على القرائن لأنّها قد تنوب عن الأوصاف المخصصة فيعتمد في الإبانة عليها أو ربما أبهموها حتى لا يكاد يتحصّل للسّامع منها تفقّه على واحد منها بعينه لشمول صفاته للأوقات كلّها وجميع ذلك موجود في أشعارهم ، فمن ذلك قوله يصف امرأة :

ساهرت عنها الكالئين فلم أنم

حتّى التفتّ إلى السّماك الأعزل

والسّماك قد يطلع في كلّ آناء اللّيل ومثله :

ونائحة صوتها رائع

بعثت إذا ارتفع المرزم

و (ارتفاع المرزم) ليس مما يكون وقد لا يكون ، ويروى إذا خفق المرزم ، وحينئذ يقرب التّحديد به ، ومثل هذا قول الآخر :

حتى رأيت عراقي الدّلو ساقطة

وذو السّلاح مصوح الدّلو قد طلعا

قوله : (وذو السّلاح مصوح الدّلو) : هو مما يكون على حالة واحدة أبدا ، وذلك أنّ السّماك الرّامح متى طلع سقطت عراقي الدّلو ، و (المصوح) الغيبوبة وقد جاء في المصيح والفعول والفعيل يجتمعان في فعل واحد مصدرين ، ومثله الوكوف والوكيف ، ومثل قول الآخر :

قلت له والجدي فوق الفرقد

إنّك إن تضج بهذا المرقد

لا ترد الأمواه إلّا من غد

٤١٦

ومثله الوكوف والوكيف.

فلمّا استدار الفرقدان زجرتها

وهبّت شمال ذو سلاح وأعزل

ومعنى هبّ طلع ، فهذه أمثلة المبهمات ، ومن المحدود قوله :

فلمّا أن تغمّر صاح فيها

ولمّا يغلب الصّبح المنير

(والتّغمّر) : شرب دون الرّي وذلك من خوف الرّماة و (الصّبح المنير) : الواضح أي كان ذلك سحرا قبل استنارة الصّبح. وقال الرّاعي في مثله :

فصبّحن مسجورا سقته غمامة

دعاك القطا ينفضن فيه الخوافيا

وقال ذو الرّمة :

ففسلت وعمود الصّبح منصدع

عنها وسائرها باللّيل محتجب

فهذه الأبيات كلّها وقّتت آخر اللّيل. ومما يستدل بالقرينة على حده قول امرئ القيس :

إذا ما الثّريا في السّماء تعرّضت

تعرّض أثناء الوشاح المفصّل

ألا ترى أنّ هذا الوصف وإن كان يتّفق في كل آناء اللّيل فقد حظره بقوله :

فجئت وقد نضّت لنوم ثيابها

لدى السّتر إلّا لبسة المتفضّل

فلما علم أنّ الموقت يكون من أوّل الليل وأنّ الذي وصف من تعرّض الثّريا إنمّا يكون عند انصبابها للمغيب ، علم أنّ الزمان زمان الدفيء ، فباجتماع هذه الأدلة عاد محظورا بعد أن كان مرسلا ، ومثله قول حاتم :

وعاذلة هبّت بليل تلومني

وقد غاب عيّوق الثّريا فغرّدا

(فغيبوبة العيّوق) : وإن كان قد يكون في كل آناء اللّيل ففي ذكره (العاذلة) دليل على أنّه في آخر اللّيل ، لأنّه وقت العواذل بدلالة قول زهير شعرا :

غدوت عليه غدوة فوجدته

قعودا لديه بالصّريم عواذله

(والصّريم) : بقية من اللّيل لأنّهن يأتين بعد نومهنّ وبعد إفاقة المعذول.

وإذا علم أنّ هذا الوقت الذي عنى الشاعر هو في آخر الليل معلوم وهو زمن الشّتاء وليالي التّمام ، فقد صار الزّمان معلوما والوقت محظورا بالأدلة ، (والتّغريد) : العدول إلى

٤١٧

الغرد ، وأصله الغراد والخص ، وفي الكلام تقديم وتأخير كأنّه قال : وقد غرد عيّوق الثّريا فغاب. وكذلك قول أبي ذؤيب شعرا :

فوردن والعيّوق مقعد رأى

الضّربا خلف النّجم لا تتبلّع

(لأنّ العيّوق والنّجم) يكونان كما وصف ، إذا توسّطا السماء وتوسطهما السّماء آخر اللّيل إنّما يكون في حمارّة القيظ. وقوله : (مقعد رأى الضّربا) في حمارة القيظ. وقوله : (مقعد رأى الضّربا) في إعرابه كلام وقد بيّنته فيما شرحته من شعر هذيل ومثله قول الآخر. كمقاعد الرّقباء للضّرباء أيديهم نواهد. قوله : لا تتبلع : أي لا تتعدم ، وذلك أنّ النّجوم إذا توسّطت السماء خيّل إليك أنها تتحير ، فلا تبرح لذلك قال : والشّمس حيرى لها في الجوّ تدويم ، وليس قول امرئ القيس :

فيا لك من ليل كأنّ نجومه

بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل

من هذا إنما يريد أن يصف اللّيل بالطّول فكأنّ كواكبه لا تسير ، والأوّل يريد ركود النّجوم إذا توسّطت السّماء خاصة ، وقد أحسن لبيد في قوله وهو يصف الكواكب :

عشت دهرا وما يدوم على

الأيام إلا برمرم وتعار

والنّجوم التي تتابع باللّيل

وفيها ذات اليمين ازورار

دائبا مورها ويصرفها الغور

كما يصرف الهجان الدوار

وإنّما (ازورارها ذات اليمين) عطفا إلى القطب لأنّها جميعا تدور على القطب الشّمالي مرتفع فإذا توسّط كوكب ثم انصبّ فقدرت له في نفسك مغربا على أم قاصد عدل عن السّمت الذي توهّمته. (وتزاور ذات اليمين) حتى يغيب فوق الذي قدّرته حتّى ربّما كان البعد في ذلك بعيدا وعلى هذا حال جميع الكواكب في مدارها ، ولازورارها إلى القطب. قال الشّاعر يمدح رجلا:

مالت إليه طلاها واستطيف به

كما يطيف نجوم اللّيل بالقطب

ولعلّة ذلك قال بشر :

وعاندت الثّريا بعد هدء

معاندة لها العيّوق جار

لمّا تدانيا في رأي العين حين توسّطا السّماء وقد كان أحدهما بعيدا من صاحبه في المطلع جعل ذلك تركا من الثّريا لطريقها ، وعدولا إلى العيّوق وليس ذلك بمعاندة ، ولكن لما بيّنته من ازورار النّجوم كلّها في مدارها إلى القطب ، إذ كانت عليه تدور ، لأنّ الكواكب إذا كانت في آفاق السّماء كانت أعظم في المنظر ، وكان البعد الذي بينها أوسع في الرأي ،

٤١٨

فإذا توسّطت كانت في العين أصغر ورأيت أيضا أشدّ تقاربا.

قال أبو حنيفة : لذلك أيضا يرى الكوكب من الكواكب إذا طلع متقدما لكوكب آخر ، حتى إذا تدلّيا من وسط السّماء يطلبان الغور صار المتقدّم متأخرا منهما ، والمتأخّر متقدما ، وحتى يغيب أبطؤها طلوعا ويبقى صاحبه بعده مدة كالسّماك الرّامح ، فإنّه يطلع بين يدي الفكة بزمن ، حتى إذا هما تصوّبا للمغيب تقدم السّماك فغاب قبلها بمدة ، وكالعيّوق فإنه يطلع قبل الدّبران بزمن ثم يغيب بعده بحين.

وكذلك الرّدف يطلع قبل النّسر الطّائر بقليل ، ويغيب بعده بزمن. وقول لبيد (دائب مورها) يعني جريها. وأما قوله : (يصرفها الغور) كما يصرف الهجان الدّوار ، فقد أحسن التّشبيه لأنّ النّجوم إذا غابت ردّها الفلك إلى الطّلوع كما يفعل الطّائفون بالدّوار ، فإنهم إذا قضوا طوافا استأنفوا طوافا ، والدّوار : أنصاب كانت لأهل الجاهلية يطوفون حولها كما يطاف بالكعبة.

قال أبو حنيفة : ولازورار الكواكب ذات اليمين قال الشاعر شعرا :

ألا طرقت دهقانة الرّكب بعد ما

تقوّض نصف اللّيل واعترض النّسر

يعني النّسر الطّائر وإنما اعتراضه من قبل ازوراره في السّير وأنت تراه في وسط السّماء باسطا جناحا في جهة الجنوب ، وجناحا في جهة الشّمال حتى إذا تصوّب للمغيب اعترض فصار أحد جناحيه في جهة المغرب والآخر في جهة المشرق على خلاف الصّفة الأولى ، من هذا النّحو قول امرئ القيس شعرا :

إذا ما الثّريا في السّماء تعرّضت

تعرّض أثناء الوشاح المفصّل

لأنها تتلقاك في مطالعها بأنفها ، وهو أدقّ طرفيها ، حتى إذا تصوّبت للمغيب اعترضت فكانت أشبه شيء بانظام جمع طرفاها ثم طرح وتلقاك بعرضه وذلك أنّ الثّريا سطران فهي كانظام مثنى مثنى ومنه قول المرار شعرا :

وبنات نعش يعترضن كأنّما

تمسي الرّكاب معارضات صواريا

و (بنات نعش) : من أشد الكواكب اعتراضا لأنّها لا تغيب إلا في بعض المواضع فإذا دار الفلك بها بحيث لا تغيب ، نظرت إليها بكلّ منظر معترضات ومنتصبات ومنقلبات ، وكذلك جميع الكواكب المنتظمة على أشكال مما قارب القطب كذلك حالها حيث لا تغيب ، فأمّا تشبيه إيّاها بالصّوار فإنّ من عادة الشّعراء تشبيه الكواكب بالبقر والظّباء ، وإذا رأيت الوحش سوارب في مراتعها رأيتها بيضاء تلوح كأنّها نجوم.

٤١٩

الباب الخامس والأربعون

في الاهتداء بالنّجوم ، وجودة استدلال العرب بها وإصابتهم في أمّهم

اعلم أنّ الاهتداء بالنّجوم يحتاج إليها صنفان من النّاس : سيّارة البحر وسائلة الإغفال والقفر ، ولذلك مهر الهداية بالنّجوم الصّراريون والأعراب وقد ذكره الله تعالى في جملة ما عدّد من نعمه على خلقه فقال : (جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٧] وقال تعالى أيضا : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) [سورة الإسراء ، الآية : ١٢] الآية. ثم قال تعالى : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٩٧] وهؤلاء الذين فصّل لهم هذه الآيات واختصّهم بفضل عليها هم الذين عنى بقوله تعالى : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [سورة النّحل ، الآية : ١٦] فافهم عن الله قوله.

ثم اعلم أنه لا يجد من أحبّ علم الاهتداء بالنّجوم بدأ من التقدّم بمعرفة أعيان ما يحتاج إليه منها ، واعتبار النّظر إليها في جميع آناء اللّيل حتى يعرفه كمعرفة خلطائه ، لئلا يلتبس عليه إذا اختلفت أماكنها في أوقات اللّيل ، فإنّ كثيرا ممن يعرف النّجم من النّجوم إذا كان في جهة المشرق حتى إذا دار به الفلك فنقله إلى جهة أخرى عمي عليه حتى لا يعرفه ، ويتحيّر حتى لا يهتدي إليه ، ويحتاج بعد الاستثبات في معرفة أعيانها إلى معرفة مطالعها ومغاربها ، وحال مجاريها من لدن طلوعها إلى غروبها ، لأنّ ذلك مما يبدّل أعيان الكواكب في الأبصار ، ويدخل على القلوب الحيرة ويورث الشّبهة ويحتاج أيضا إلى أن يعرف سموت البلدان التي تقصد ، وجهات الآفاق التي تعمد لئلا يعلم بأي كوكب ينبغي له أن يأتمّ.

والتوجّه إلى القبلة في كل بلد هو من هذا الجنس أيضا ، وعلم ذلك ليس بصغير القدر في خاصة الدّين ، لأنّه أمر أمر الله به عباده فقال تعالى : (مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٠].

وليس بعد أدلّة الحساب دليل أدلّ من أعيان النّجوم ، فليس الشّمس بخارجة منها بل

٤٢٠