كتاب الأزمنة والأمكنة

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني

كتاب الأزمنة والأمكنة

المؤلف:

الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

تخيرت في وقت خلق الله تعالى الأفلاك ، والرّوم تجعل ابتداء سنتها من الخريف ، وهو زمان الاعتدال والاستواء أيضا ، فكلّما حلّت الشّمس برأس الميزان فقد مضت سنة للعالم عندهم ، والعرب تجعل السّنة نصفين شتاء وصيفا وتبدأ بالشّتاء فتقدمه على الصّيف كأنّها تعمد على أنّ مبادئ الأقوات فيه وأوائل النّماء في العالم منه ، ثم أوّل الصّيف داخل عليه واصل وما بعده مزلق منه وفيه يستقبل الأمور ويفتح لأنواع الخلق التدبير ويزدوج الأسباب وتلقح السّحاب ويحيي الأرض بعد موتها وينشر النّبات غب اندفانها وإلى هذا أشار أبو تمام في قوله :

لو لم تكن غرس الشّتاء بكفّه

لاقى المصيف هشايما لا تثمر

ويشهد لذلك تقديم الله تعالى الشّتاء على الصّيف حين ذكر رحلتي قريش للتّجارة وامتنّ عليهم بما مكن لهم في النّفوس من الإجلال والمهابة لكونهم قطان الحرم وأرباب الأشهر الحرم ، حتى أمنوا الزّمان ، وكانت العرب من غلب سلب فقال : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) [سورة قريش ، الآية : ١ ـ ٢].

فابتداء الشّتاء وهو النّصف الأول من السنّة من حين ابتداء النّهار في الزيادة ، وذلك لحلول الشّمس برأس الجدي وفي برجه إلى انتهائه في الطّول وذلك لحلول الشّمس في برج السّرطان ، وابتداء الصّيف وهو النّصف الثّاني من السّنة من حين ابتداء النّهار في النّقصان ، وذلك لحلول الشّمس في برج السرطان إلى حين انتهائه في القصر ، وذلك لحلول الشّمس في برج الجدي ويقسمون الشّتاء نصفين.

والصّيف أيضا نصفين ، ومنتصف كل واحد منهما استواء اللّيل والنّهار والاستواء الذي يكون في نصف الشّتاء يسمّى الاستواء الرّبيعي وهو لحلول الشّمس في برج الحمل ، لأنّ الشتاء كله ربيع عندهم من أجل النّدى ، ولذلك تسمية الرّبيعين الأول ربيع الماء والثّاني ربيع النّبات ، والاستواء الذي يكون في نصف الصّيف يسمّى الاستواء الخريفي ، وذلك لحلول الشّمس في الميزان فهذه أرباع السّنة وفصولها الشّتاء والرّبيع والصّيف والخريف ، ولكلّ فصل من فصول السنة ثلاثة أبراج من البروج الاثني عشر لأنها ثلاثة أشهر.

فبروج الشّتاء الجدي والدلو والحوت ، وبروج الربيع الحمل والثّور والجوزاء ، وبروج الصّيف : السرطان والأسد والسّنبلة. وبروج الخريف : الميزان ، والعقرب والقوس. وأوائل بروج هذه الفصول تسمّى منقلبة وهي الجدي والحمل والسرطان والميزان ، لأنّ في أوائل هذه الفصول ينقلب الزّمان من طبيعة إلى طبيعة. وأوساطها وهي الدّلو والثّور ـ والأسد ـ والعقرب ـ تسمى ثابتة لأن في أوساط الفصول تثبت طبائع الزّمان على حدّها وأواخرها وهي

١٢١

الحوت ـ والجوزاء ـ والسّنبلة ـ والقوس ـ تسمّى ذوات جسدين لامتزاج طبيعة كل فصل بطبيعة الفصل الذي يليه. وذكر بعضهم أنّ أهل الحجاز يجعل للسنّة ستة فصول وسميا وشتاء وربيعا فهذه أزمنة الشتاء وصيفا وحميما وخريفا فهذه أزمنة الصّيف.

واعلم أنهم يبدءون من الأوقات باللّيل كما يبتدئون من الزّمان بالشّتاء ولذلك صار التاريخ به من دون النّهار ، وإنّما كان عندهم كذلك لأن الظّلمة الأول والضّياء داخل فيه وكل معتبرهم بمسير القمر فمستهلّه جنح العشاء وطلوعه تحت البيات. فلولا أنّ نوره ونور الشّمس يجلوان الهواء لكان الظّلام راكدا فهو أقدم ميلادا وأسبق أوانا ، وألذّ استمتاعا ، وأوثر مهادا وأغزر مطرا ، وأروى سحابا ، وأندى ظلا ، وأهول جنانا ، وأطيب نسيما ، وأفضل أعمالا. ولذلك قدمه الله تعالى في رتبة الذّكر ورتبة الوصف فقال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [سورة النّبأ ، الآية : ١٠ ـ ١١] فرتبة الذّكر ظاهرة من التّلاوة كما ترى ، ورتبة الوصف أن السّكن واللّباس مقدمان على السّبح والمعاش في متصرفات الأنام.

ثم بعد ذلك هما أخو الهدو والقرار اللّذين منهما يبتدئ النّشاء والنّماء. وقال تعالى عند الأقسام بالزمان : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [سورة الليل ، الآيتان : ١ ـ ٢](وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [سورة الإسراء ، الآية : ١٢] فلا موضع أجرى ذكرهما إلا واللّيل مقدّم ، ثم فضل تبتيل المجتهد وترتيل القارئ ، وابتهال المستغفر فيه على ما يكون منها في غيره فقال تعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٧] وفي موضع آخر : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [سورة الذاريات ، الآية : ١٨](إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [سورة المزمل ، الآية : ٦] كلّ ذلك لأنه الأول المقدم ، والأصل الموصل ، والأوان الممهد للرّاحة والوقت الموجه للرّفاهية ، وكذلك قالوا عند المدح : ما أمره عليه بغمة ولا ليله عليه بسرمد. وقال النابغة :

فإنّك كاللّيل الذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع

فقال : كاللّيل ولم يقل كالصّبح وإن كان المغر من كل لا يطاق وقال بعضهم : إنما قال كاللّيل لأنه كان عليه غضبان. وقد قيل اللّيل أخفى للويل وأخذ الفرزدق قول النّابغة هذا شعرا :

ولو حملتني الريح ثم طلبتني

لكنت كشيء أدركته مقادره

جعل الرّيح بإزاء اللّيل واللّيل أعم ، والمستحسن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالرّعب وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وليدخلن هذا الدّين على ما دخل عليه اللّيل» يعني الإسلام ،

١٢٢

وكما ندب المتعبد إلى التقرب فيه إليه. وقال الله تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [سورة الإسراء ، الآية : ٧٩] أنبأ عن نفسه تعالى بمثله فيما يبرمه ، ويقضيه ، فقال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [سورة الدخان ، الآية : ٤] يعني في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

ثم قال الناس : هذا أمر دبّر بليل ، وثبت الرأي ، وهذا رأي مبيت وليس القصد تفضيل اللّيل على النّهار ، وإنما المراد التّنبيه على سبقه وعلى إصابة العرب في تقديمه ، وقد تكلّمنا في تصحيح طريقة العرب فيما قدّمناه من الآي التي شرحناها عند قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) [سورة يس ، الآية : ٣٧] وما يقتضيه لفظة السّلخ بكلام بين ، وذكر أبو حنيفة الدّينوري عن غير واحد من علماء الرّواية أن العرب تبدأ فتقسم السّنة نصفين شتاء وصيفا ، وتقدم الشّتاء على الصّيف وتجعله أول القسمين وهذا ضد صنيع الجمهور من أهل القرار وعلماء الحساب ، لأنهم يقدّمون الصّيف على الشّتاء.

وقد كان بين أهل العلم اختلاف قديما في أنه أي أرباع السّنة أولى بالتّقديم حتى رأوا أنّ ربع الربيع الذي أوله حلول الشّمس برأس برج الحمل أولى بالتّقديم فأطبقوا على تقديمه باتفاق ، ولذلك أجمعوا في عد البروج على الابتداء ببرج الحمل. وفي عد المنازل على الابتداء بالشّرطين ، حتى لا تجد في ذلك مخالفا. هذا صنيعهم في الأزمنة ، فأما إذا صرت إلى سني الأمم وجدتهم فيها مختلفين. فمنهم من يفتتح السّنة في ربع الشّتاء ، ومنهم من يفتتحها في ربع الخريف ، ومنهم من يفتتحها في ربع الرّبيع كلّ ذلك قد فعلوا.

وممن افتتحها في الخريف أهل الشّام من السّريانيين ، ألا ترى أوّل سنتهم تشرين الأول وأنه صدر الخريف وابتداء الوسمي ، ولعل العرب أيضا كانت قد ابتدأت السّنة في بدء الأمر على مثل ذلك ، فجعلوا مفتتحها في أول الوسمي كما أنه يقدمه في قسمة الأزمان والأنواء. فثبتوا على أمرهم الأول في تقديم الوسمي ، وانتقل مدخل السّنة عن موضعه الأول ثمانين عدد أيام سنة القمر وسنة الشّمس من التّفاوت والفصول إنما تتفضّل بمسير الشّمس لا بمسير القمر.

وإنمّا توهّمت هذا من صنيع العرب من أجل أنّ كثيرا من علماء الرّواة يزعمون أنّ شهري ربيع إنما سميّا للربيع ، وأن جماديين إنما سميتا للشّتاء ووجود الماء. وأن شعبان إنمّا سمي شعبان لاشتعاب الظّعن إياهم عن المرابع للمحاضر وأنّ شهر رمضان إنمّا سمّي رمضان لشدة الحر والرّمض وأنّ صفر أنسب إلى الزّمان الذي يسمّى الصّفري ، وهذا الذي ذكروا أمر قريب لا يبعد في الوهم ، لأنّا على هذا الترتيب نجد أزمان السّنة عندهم ، ومما يقوي هذا القول ما حكي عن الغنوي الأعرابي وعن غيره فإنه قال : جمادى عند العرب

١٢٣

الشّتاء كلّه قال : ويقال للحر كلّه شهر ناجر ، كما يقال للشّتاء كله جمادى ، وكان ينشد بيت لبيد في الجزء شعرا :

حتى إذا سلخا جمادى ستة

جزءا فطال صيامه وصيامها

بخفض ستة على إضافة جمادى إليها وقال أراد ستة أشهر الشّتاء ، وهي أشهر النّدى والجزء ، وكذلك كان ينشده أبو عمر والشّيباني خفضا ويقول : أراد جمادى ستة أشهر فعرف بجمادى. قال أبو حنيفة ، ويشهد للغنوي كثرة ذكر العرب جمادى إما ببرد الزّمان وإما بكثرة الأنداء والأمطار ، وهذا كلّه من أوصاف الشّتاء ولو كان قصدهم إلى ذكر الشّهر لما تطاول لسرعة انتقال الشّهر.

ألا ترى أنّه يكون مرة في صبارة الشّتاء ومرة في حمارة القيظ وإنما حاله في ذلك كحال سائر الشّهور ، وأنت لا تجد جمادى موصوفة بالحر كما تجدها موصوفة بالبرد. قال الشاعر شعرا :

في ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب من ظلمائها الطّنبا

قال أبو حنيفة : وزعم بعضهم أنهم إنّما قدّموا الشّتاء على الصّيف لأنه ذكر. وأنّ الصّيف أنثى ، ولم يذكروا علّة تذكير الشّتاء ، وتأنيث الصّيف ، ولا أظنه إلّا لقسوة الشّتاء وشدّته ولين الصّيف وهونه ، ألا ترى أنّ من عادتهم أن يذكروا كلّ صعب من الأمور قاس شديد ، حتى قالوا : داهية مذكار ، وإن كانت أنثى فصعّبوها بأن تكون تنتج ذكورا وحتى قالوا أرض مذكار إذا كانت ذات مخاوف وأفزاع ، وقالوا : يوم باسل ذكر في شره وشدته حتى قال الشّاعر شعرا :

فإنّك قد بعثت عليك نحسا

شقيت به كواكبه ذكور

فجعلها مع نحوستها ذكورا ليكون شرّها أفظع وأصعب و (الصّيف) وإن تلظّى قيظه وحمى صلاه فهو هيّن عندهم إلى جنب الشّتاء ، والشّتاء يبرح بالقوم ولذلك قالت بنت الحسن وقد سئلت عنهما : أيّهما أشدّ فقالت : وما جعل البئيس من الأدية تقول من يقيس البؤس والضر إلى أذى فقط أي الشّتاء أشد : (والبئيس والبؤس) واحد قال الفرزدق في نعت امرأة بيضاء من أهل المدينة (لم تذق بئيسا ولم تتبع حمولة مجحد) ولذلك لا تجدهم يشتكون الضّر وسوء الحال والهزال في الصّيف ولا يعدون أن يصفوا أواره وصخده وعطشه وإذا صاروا إلى الشّتاء عجّوا من وطئه ونوّهوا باسم من آسى فيه ، واحتمل الكلّ وأطعم المصرور.

قال الشّيخ الذي قاله أبو حنيفة في تعليل تذكير الشّتاء حسن وأقرب منه أن يقال لما

١٢٤

كان إدراك الثمار في الربيعين ووضع الأحمال من الملاقيح ونتائج الخير في أصناف المعاش من الزرع والضّرع في الصيف ، وإن كانت مبادئها في أوائل الشّتاء ثم تمت حالا بعد حال فكانت تنتظر في آجالها وقتا بعد وقت انتظار ما في بطون الحاملات ، فجعلوا الشّتاء ذكرا والصّيف أنثى. وهذا شرح ما رماه الشّاعر في قوله :

لو لا الذي غرس الشّتاء بكفه

لاقى المصيف هشايما لا تثمر

وذكر أنّ منهم من يجعل الشّتاء نصفين الشّتاء أوّله والرّبيع آخره ، وكذلك يجعل الصّيف نصفين الصّيف أوّله والقيظ آخره.

وذكر ابن كناسة أبو يحيى أن العرب تسمّي الشّتاء الرّبيع الأوّل والصّيف الرّبيع الآخر وأن أحدا منهم لم يذكر الخريف في الأزمنة لأنّ الخريف عند العرب اسم لأمطار آخر القيظ ، وهذا إذا تؤمل أسفر عن أنهم يجعلون الرّبيع اسما للنّدى والجزء ، لكنّهم فصلوه بالشّتاء لشدّة برده ثم اشتهر الرّبيع اسما لما لان من طرفي الوقت.

حكى ابن الأعرابي عن الغنوي أنه قال : يلقى الرّاعي صاحبه فيقول : أين تربّعت العام إذا سقطت الصرفة (١)؟ وسقوطه عند انصرام نصف السّنة الشّتوية. وقال الفراء ربعية القوم ميرتهم في أول الشّتاء ، وأبين من جميع ما ذكرنا أنّهم يسمّون الفرع المؤخر فرع الرّبيع وهو من الشّتاء. وقال النّابغة وقد جعل الحرب كالميرة :

وكانت لهم ربيعة يحذرونها

إذا خضخضت ماء السّماء القنابل

__________________

(١) الصرفة في القاموس منزلة للقمر نجم واحد نير يتلو الدبرة سمي لانصراف البرد وبطلوعها ، محمد شريف الدين عفا عنه.

١٢٥

الباب الخامس

في قسمة الأزمنة ودورانها واختلاف الأمم فيها

اعلم أنّ الشّمس تدور في الفلك دورا طبيعيا ، وهي لازمة له وعليها طريقها والقمر ـ والكواكب الخمسة ، وهي : عطارد ـ والزّهرة ، والمريخ ، والمشتري ، وزحل. ربما كانت على هذا الفلك ، وربما مالت إلى الشّمال ، والجنوب ، ويسمّى هذا الميل عرض الكواكب ، ويسمّى هذا الفلك فلك البروج ، وهي اثنا عشر : (الحمل) ، و (الثور) ، و (الجوزاء) ، و (السرطان) و (الأسد) ، و (السّنبلة) ، و (الميزان) ، و (العقرب) ، و (القوس) ، و (الجدي) ، و (الدلو) ، و (الحوت) ، وإنما انقسم هذا الانقسام لأنّ الشّمس متى انتقلت في دورانها من نقطة بعينها عادت إلى تلك النّقطة بعد ثلاث مائة وخمسة وستّين يوما وربع يوم. وفي دورها تستوفي فصول السّنة التي هي الرّبيع ، والصيف ، والخريف ، والشّتاء.

ولهذه العلّة سميّت هذه الأيام سنة الشّمس ، والقمر يجتمع مع الشّمس في مدة هذه الأيام اثنتي عشرة مرة فجعلت الشّمس اثنتي عشر شهرا وسميت الشّهور القمرية ، كما جعل الفلك اثني عشر برجا ليكون لكل شهر برج.

وأسماء شهور العرب : المحرم ، وصفر ، والرّبيع الأول ، والرّبيع الآخر ، وجمادى الأولى ، وجمادى الأخرى ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجّة.

قال الشّيخ : اختلف الناس في أعداد أيام سنيهم ، وهم متفقون في عدّة الشّهور واعتماد العرب فيها خاصة على الأهلّة ، فكل اثني عشر هلالا عندهم سنة ، فتكون عدد أيامها ثلاث مائة وأربعة وخمسين يوما.

قال أبو الحسن المعروف بالصّوفي : بين أصحاب الحساب من الرّوم ، والهند خلاف يسير في مقدار هذا الكسر ، فكان الأوائل من أهل الروم متفقين في القديم على ربع يوم فقط ، ثم استدركوا فيه شيئا حقيرا.

١٢٦

وقال أبو حنيفة : ليس في الأمم أحفظ للفصول ، وأوقات الأنواء والطّلوع من الروم ، ولذلك من حلّ من العرب في شق الشّام أعلم بهذا من غيرهم ، ثم أنشد لعدي بن الرقاع :

فلا هنّ بالبهمى وإيّاه مذ نشا

جنوب لراش فاللها له ، فالعجب

شباطا وكانونين حتى تعذّرت

عليهن في نيسان باقية الشّرب

وإنما نصف عيرا وأتنا

رعين البقل في إبّانه

وإنّما نصف عيرا وأتنا رعين البقل في إبانه إلى أن هاج ، ونضبت المياه. وهم يبدءون فيجعلون أوّل السّنة تشرين الأول ، ويجعلونه أحدا وثلاثين يوما. ثم تشرين الثّاني ثلاثين يوما ، ثم كانون الأوّل واحدا وثلاثين يوما ، ثم كانون الثّاني واحدا وثلاثين يوما وربع ، ثم شباطا ثمانية وعشرين يوما ، غير أنهم يجعلونه ثلاث سنين كلّ سنة منها ثمانية وعشرين يوما وفي السنة الرابعة تسعة وعشرين يوما ، وتلك السّنة تكون في عددهم ثلاث مائة وستة وستين يوما ، ويسمونها الكبيسة.

وقال الخليل : يكون في شباط فيما تزعمه الرّوم تمام اليوم الذي كسوره في السّنين ، فإذا تمّ ذلك اليوم في ذلك الشهر ، سمّى أهل الشّام تلك السنة عام الكبيس ، قال : وهو يتيمّن به إذا ولد في تلك السنة ، أو قدم فيه إنسان. ثم آذار واحدا وثلاثين يوما ، ثم نيسان ثلاثين يوما ، ثم أيار واحدا وثلاثين يوما ، ثم حزيران ثلاثين يوما ، ثم تموز واحدا وثلاثين يوما ، ثم آب واحدا وثلاثين يوما ، ثم أيلول ثلاثين يوما ، فتكون الزّيادات من الأيام خمسة أيام على ثلاث مائة وستين يوما.

ثم أحبّوا أن لا تغيّر أحوال فصول سنتهم على السّنين الكثيرة والدّهور المتابعة ، فزادوا في آخر شباط ربع يوم لتصير أيام سنتهم موافقة لأيام سنة الشّمس ، وهي ثلاث مائة وخمسة وستون يوما وربع يوم ، ويكون ثلاث سنين متوالية كذلك فإذا تمّت الأرباع في أربع سنين تصير سنتهم في السنة الرابعة التي تليه ثلاث مائة وستة وستين يوما ، ويصير شباط في تلك السّنة تسعة وعشرين يوما ، وتسمى تلك السّنة الرّابعة سنة الكبيسة ، فكرهت الفرس أن يزيد في سنتهم ربع اليوم لأنهم لو فعلوا ذلك لاضطروا إلى الكبيسة في كل أربع سنين ولم يمكنهم ذلك لأنهم سمّوا أيام الشّهر بأسام.

زعموا أنها أسامي الملائكة الذين يديرون أيام الشّهر وأسامي الأيام ، هرمز ، بهمن ، ارديبهشت ، شهرير ، اسفندار ، مذخرداد ، مرداد ، يبا ، ذر ، آذر ، أبان ، حوزماه ، تير ، جوش ، ديبمهر ، مهر ، سروش ، رشن ، فروردين ، لوهرام ، رام باذ ، دنيدين ، دين ارد ، اشتاذ ، اسمان ، زامياذ ، ماراسفند ، انيران.

١٢٧

وأسماء الشهور اعتقدوا فيها مثل ذلك وهي : فروردين ماه ، ارد بهشت ماه (١) ، خرداد ماه ، تير ماه ، مرداد ماه ، شهرير ماه ، مهر ماه ، ابان ماه ، آذر ماه ، دي ماه ، بهمن ماه ، اسفنديارمذماه.

وزعموا أنّ هرمز هو اسم الملك الذي يدبر أوّل يوم من الشّهر ، وبهمن اسم الملك الذي يدبر اليوم الثّاني.

وكذلك الأسامي كلّها وسمّوا أيضا الأيام اللّواحق بأسماء الملائكة الذين زعموا أنهم يدبرونها وهي : خونوذكاه ، واستوذكاه ، واسفيذكاه ، ومشتحزكاه ، وشتكاه. وقالوا إنّ كبسنا في كلّ أربع سنين يوما فجعلنا اللواحق ستة أيام في هذا اليوم بلا مدبر ، وسقط أول يوم من آذر ماه واستوحش هرمزد وقدر أنهم يقصدونه ثم كانوا يكبسون في كلّ مائة وعشرين سنة شهرا واحدا ليسوّوا بين الملائكة ، ولا يستوحش أحد منهم وتصير سنتهم في تلك السنة ثلاث مائة وخمسة وتسعين يوما وكانوا على ذلك إلى أن انقضت دولة الفرس ولم يكن فيهم من يمكنه فعل ذلك إلى أن كبس المعتضد مقدار ما كان قد مضى من سنة الكبيسة لكل أربع سنين يوما واحدا وجعل النّيروز اليوم الحادي عشر من حزيران وفيه يقول الشاعر مادحا له شعرا :

يوم نيروزك يوم

واحد لا يتأخّر

من حزيران يوافي

أبدا في أحد عشر

ووضع الكبيسة على رسم الرّوم ولا يعمل ذلك إلا ببغداد ، فإنّهم يجعلون أوّل سنتهم في التقويم يوم النّيروز المعتضدي ، ويستعمل في سائر البلدان النّيروز القديم.

وذكر هذا الإنسان وهو أبو الحسين الصّوفي أنّ العرب كانت تكبس أيضا. ثم ذكر النسيء من قول الله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٧] وقد تقدّم القول على ما قاله فيما مضى وبينّا من تفسير الآية والأخبار المرويّة ما أغنى.

واعلم أنّ العرب لا تذهب في تحديد أوقات الأزمنة إلى ما يذهب إليه سائر الأمم ، وتجعل أوّل عدد الأزمنة في تحديد أوقاتها ، إلى ما يعرف في أوطانها من إقبال الحرّ والبرد ، وإدبارهما ، وطلوع النّبات واكتهاله وهيج الكلاء ويبسه ، ويذهب في عدد الأزمنة إلى الابتداء بفصل الخريف وتسمية الربيع لأنّ أول الرّبيع وهو المطر يكون فيه ـ ثم يكون بعده فصل الشّتاء ـ ثم يكون بعده فصل الصّيف ـ وهو الذي يسميه النّاس الرّبيع ويأتي فيه الأنوار. وإنما

__________________

(١) في صبح الأعشى : أرديبهشتماه.

١٢٨

سمّوه صيفا لأنّ المياه عندهم تغل فيه والكلأ يهيج ، وقد يسمّيه بعضهم الرّبيع الثّاني ، ثم يكون بعد فصل الصّيف فصل القيظ ، وهو الذي يسمّيه النّاس الصّيف فأوّل وقت الرّبيع الأول عندهم وهو الخريف ثلاثة أيام تخلو من أيلول. وأول الشّتاء عندهم ثلاثة أيام تخلو من كانون الأوّل ، وأوّل الصّيف عندهم وهو الرّبيع الثّاني خمسة أيام من آذار ، وأوّل القيظ عندهم أربعة أيام تخلو من حزيران. والخريف المطر الذي يأتي في آخر القيظ ولا يكادون يجعلونه اسما للزّمان.

وقال عدي بن زيد فجعله اسما للزّمان في خريف :

سقاه نوء من الدّلو تدلّى

ولم يولّيني العراقي

وسماه خريفا ، لاختراف الثمار فيه والحطيئة ممن يجعله المطر وذكر امرأة فقال : وتبدو مصاب الخريف الجيالا. يريد أنّها تنقل إلى البدو لمصاب هذه المطرة ، فهذه حدود الأزمنة عندهم ، ثم يجعلون لكل زمان صميما يخلص فيه طبعه فيذكرون منه شهرين ويدعون شهرا لأنّ نصف شهر من أوله مقارب لطبع الزّمان الذي قبله ، ونصف شهر من آخره مقارب لطبع الزّمان الذي بعده ، فالخالص منه شهران فيسمّون شهريّ الشّتاء بالخالص شهري قماح قال الهذلي :

فتى ما ابن الأغر إذا شتونا

وحبّ الزّاد في شهري قماح

وسميا بذلك لأن الإبل فيهما ترفع رءوسها عن الماء لشدة برده والإبل القماح هي التي ترفع رءوسها. وقال بشر يصف سفينة :

ونحن على جوانبها قعود

نغضّ الطّرف كالإبل القماح

والإبل إذا رفعت رءوسها عن الماء غضّت أبصارها ، ويدعون هذين الشّهرين ملحان وشيبان لبياض الأرض بالصّقيع والجليد. وقال الكميت :

إذا أمست الآفاق حمرا جلودها

لملحان أو شيبان واليوم أشهب

فهذان شهر الشّتاء فشيبان من الشّيب وملحان من الملحة وهي البياض وقيل كبش أملح منه.

وقال قطرب : يقال لجمادى الأولى والآخرة شيبان وملحان من أجل بياض الثّلج ، قال : وقولهم مات الجندب وقرب الأشيب أي الثّلج ، ويسمّون شهري القيظ اللّذين يخلص فيهما حره شهري ناجر وسمّيا بذلك لأنّ الإبل تشرب فلا تكاد تروى لشدّة الحر ، والنّجر والبغر متقاربان وهو أن يشرب فلا يروى من الماء يقال نجر من الماء إذا امتلأ منه فكظمه ،

١٢٩

وهو على ذلك يشتهيه قال ذو الرمة يصف ماء شعرا :

صرى أجنّ يروي له المرّ وجهه

ولو ذاقه ظمآن في شهر ناجر

وقال الشّماخ شعرا :

طوى ظمأها في بيضة القيظ بعد ما

جرت في عنان الشّعر بين الأماعز

فهذان شهرا القيظ ولا أعلم أنهم سمّوا شهري ربيع الثاني باسم ، إلا أنّهم يقولون : حللنا ببلد كذا في حدّ الربيع يريدون شهريه وقال أبو ذؤيب شعرا :

بها أبلت شهري ربيع كليهما

فقد مار فيها نسؤها واقترارها

النّسو بدو السّمن والاقترار أن تحثر بولها وهو من علامات السّمن ، قال رؤبة :

شهران مرعاها بقيعان الصّلق

مرعى أنيق النّبت مجّاج الغدق

وقال ابن مقبل شعرا :

أقامت به حدّ الرّبيع وحازها

أخو سلوة مسّى به اللّيل أملح

يريد بأخي السّلوة النّدى لأنهم في رخاء وسكون ما دام النّدى عندهم وقولهم : مسّى به الليل : أي جاء عند مجيء الليل ، والأملح الأبيض ، ربما ذكروا استيفاءها شهور الرّبيع الثّاني كلّها. قال حميد شعرا :

رعين المراز الجون من كلّ مذنب

شهورا جمادى كلّها والمحرّما

قال : شهورا جمادى كلّها وهما شهران كما قال تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) [سورة النساء ، الآية : ١١] يريد أخوين فصاعدا ولم يفعلوا ذلك في زمن الخريف فيذكروا منه شهرين فيما علمت. ولا أحسب ذلك إلا لأنه لم يدعهم إلى ذكره شيء كما دعا إليه شدّة البرد في الشّتاء ، وشدّة الحر في الصّيف والقيظ ، ووقت الجزء في الرّبيع.

قال أبو حنيفة : النّاس مجمعون من تقديم البروج على برج الحمل. ومن تقديم المنازل على الشّرطين ، وفي ذلك دلالة على تقديم فصل الرّبيع ، وذكره قبل سائر الفصول وهو لحلول الشّمس برأس الحمل ، قال : والفصل اسم جرى في كلام العرب وجاءت به أشعارهم ، قال الشّاعر يصف حمير وحش شعرا :

نظائر جون يعتلجن بروضة

لفصل الرّبيع إذ تولّت صبائنه

وسمّي فصلا لانفصال الحر من البرد ، وانقلاب الزّمن الذي قبله ، ويقال للفصول

١٣٠

أيضا : الفصيان والواحدة فصية ، وهي الخروج من حر إلى برد ، ومن برد إلى حر. والفصية تصلح في كل أوقات السّنة متى خرجت من أذى إلى رخاء فتلك فصية ، ولا يستعمل الفصل إلّا في حينه ، فأمّا الأصمعي فإنّه قال : الفصية : أن يخرج من برد إلى حر ، ويقال : أفصى القوم وهم مفصون ، ويقال : لو أفصينا لخرجت معك. والشّمس تحل برأس الحمل لعشرين ليلة تخلو من آذار وعند ذلك يعتدل اللّيل والنهار ، ويسمّى الاستواء الرّبيعي.

ثم لا يزال النّهار زائدا ، واللّيل ناقصا إلى أن يمضي من حزيران اثنتان وعشرون ليلة ، وذلك أربع وتسعون ليلة ، فعند ذلك ينتهي طول النّهار وقصر الليل ، وينصرم ربع الرّبيع ، ويدخل الرّبع الذي يليه ، وهو الصّيف ، وذلك لحلول الشّمس برأس السرطان ، ويبتدئ اللّيل بالزّيادة ، والنّهار بالنقصان ، إلى ثلاث وعشرين ليلة تخلو من أيلول ، وذلك ثلاث وتسعون ليلة ، وعند ذلك يعتدل اللّيل والنهار ثانية ، ويسمّى الاستواء الخريفي ، وينصرم ربع الصّيف ويدخل ربع الخريف ، وذلك لحلول الشّمس برأس الميزان ، ويأخذ اللّيل في الزّيادة والنّهار في النقصان ، إلى أن يمضي من كانون الأول إحدى وعشرون ليلة ، وذلك تسع وثمانون ليلة ، وعند ذلك ينتهي طول اللّيل وقصر النّهار ، وينصرم فصل الخريف ، ويدخل فصل الشّتاء ، ويبتدئ النّهار في الزيادة ، وذلك لحلول الشّمس برأس الجدي إلى مصيرها إلى رأس الحمل ، وذلك تسع وثمانون ليلة وربع فعندها ينصرم ربع الشّتاء ، ويدخل فصل الرّبيع ، فعلى هذا دور الزّمان فاعلمه.

١٣١

الباب السّادس

في ذكر الأنواء ، واختلاف العرب فيها ومنازل القمر ، مقسمة الفصول على

السنة ،

وأعداد كواكبها وتصوير مأخذها ضارة ونافعة

اعلم أنا نذكر من أمر الأنواء ومذهب جهّال العرب فيها ، ومن صفة المنازل والبروج ما يحتاج إليه هذا الكتاب ، والدّاعي إليه أنهم كانوا ينسبون الأوقات إليها كثيرا ، وكذلك ما نذكره من أحوال الشّمس والقمر ، وكان في العرب من يسرف في الإيمان بها ونسبة الحوادث إليها ، حتى أوهم كلامهم وإفراطهم أنّ السّقيا وجميع ما يحمد منها ، أو يذم إلى جميع ما ينقل فيه الأيام من خير وشر ، ونفع وضر ، وكلّ ذلك من الأنواء وبها. وهذا كإضافتهم إلى الكواكب أفعال صانعها ، وتطابقهم في التّيمن والتشاؤم بها ، لذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آمن بشيء من ذلك فقد كفر بما أنزل عليّ».

وقد مرّ فيما تقدّم من الكتاب فصل كثير بيّن فيه فساد طريقتهم ، وأنّ من عدل عنها وجعلها آيات يقيمها الله تعالى ، تنبيها على حكمته فيها ، ليعتبر المعتبرون بها ويشكروا نعمه فيها ، فقد برئت من الذّم ساحته ، وتباعد عن الإثم منهجه ، على مثل ذلك يحمد قول عمر بن الخطاب حين خرج إلى الاستسقاء ، فصعد المنبر ولم يزد على الاستغفار ، ثم نزل فقيل : إنّك لم تستسق ، فقال : لقد استسقيت بمجاديح السّماء. قال أبو عمر والمجاديح وأحدها مجدح ، وهو نجم من النّجوم كانت العرب تقول : إنّه يمطر به لقولهم في الأنواء. قال أبو عبيد فسألت عنه الأصمعي ، فلم يقل فيه شيئا وكره أن يتأوّل على عمر مذهب الأنواء ، وقال الأموي : يقال فيه أيضا : المجدح بالضّم وأنشد فيه قوله شعرا :

وأطعن بالقوم شطر الملو

ك حتّى إذا خفق المجدح

قال أبو عبيد : والذي يراد من هذا الحديث أنه جعل الاستغفار استسقاء يتأوّل قوله تعالى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [سورة نوح ، الآية

١٣٢

: ١٠ ـ ١١] وإنما نرى أنّ عمر تكلّم بهذا على أنها كلمة جارية على ألسنة العرب ليس على تحقيق الأنواء ، ولا التّصديق بها ، وهذا شبيه بقول ابن عباس في رجل جعل أمر امرأته بيدها ، فطلّقته ثلاثا ، فقال خطّأ الله نوءها ألا طلّقت نفسها ثلاثا. ليس هذا منه دعاء عليها أن لا تمطر ، إنّما هو على الكلام المنقول. ومما بيّن لك أنّ عمر أراد إبطال الأنواء والتكذيب بها بقوله : لقد استسقيت بمجاديح السّماء التي يستنزل بها الغيث. فجعل الاستغفار هو المجاديح لا الأنواء ، وهذا القدر إذا ضمّ إليه ما تقدم في فصل يشتمل على تأويل الأخبار المرويّة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان معتقدات العرب في الأنواء والبوارح ، أغنى وكفى في عذر من يعذر ، وذمّ من يذم منهم والسّلام.

قال أبو حنيفة يقال : ناء الكوكب ينوء نوأ ونوء ، أول سقوط يدركه في الأفق بالغداة قبل انمحاق الكواكب بضوء الصّبح.

والكوكب إذا وافاه الصّبح وهو مرتفع عن أفق المغرب لا يزال الصّبح يوافيه كلّ غداة ، وهو إلى الأفق أقرب ، حتى يوافق موافاته الأفق انمحاق الكوكب لضوء الصّبح ، ثم يكون سقوطه بعد ذلك ، والكواكب ظاهرة فلا يزال سقوطه يتأخر كلّ ليلة إلى أن يكون في أول اللّيل ، فتراه على الأفق غاربا مع ظهوره للأبصار ، ثم يستسر فلا يرى مقدارا من الليالي ثم يكون أوّل رؤيته غامضا في ضياء الصّبح حين يبدو للأبصار. فالواجب أن يغرق ما بين الغروب الذي هو أوّل وبين الغروب الذي له النوء لأنّ الذي له النوء سقوط النجم بالغداة في المغرب بعد الفجر وقبل طلوع الشّمس وطلوع رقيبه في المشرق في ذلك الوقت ، ولا يكون هذا إلا في غداة واحدة من السّنة للكوكب الواحد.

وأما السّقوط الذي هو أفول واستسرار ، فإنّه يكون من أول الليل وذلك أنّ هذا النّجم السّاقط بالغداة في أفق السّماء يرى بعد اليوم الذي يسقط فيه متأخّر السّقوط عن ذلك الوقت ، فيسقط قبله ولا يزال يتأخّر في كل يوم حتى يكون سقوطه في اللّيل ، ثم يتأخّر في اللّيل إلى أن يسقط في أوّل اللّيل في المغرب ، ثم يستسر بعد ذلك فلا يرى ليالي كثيرة ثم يرى بالغداة طالعا في المشرق خفيا ، فهذا سقوط الأفول ، وقد أحسن الشّاعر في تحديد ذلك حين قال شعرا :

وأبصر النّاظر الشّعرى مبيّنة

لمّا دنا من صلاة الصّبح ينصرف

في حمرة لا بياض الصّبح أغرقها

وقد علا اللّيل عنها فهو منكشف

تهلهل اللّيل لم يلحق بظلمته

قوت النّهار قليلا فهي تزدلف

لا يبأس اللّيل منها حين تتبعه

ولا النّهار بها للّيل يعترف

١٣٣

فهذا وقت الطّلوع والسّقوط ومعنى قوله : تهلهل اللّيل أي تصير في مشرقه حيث امتزج سواده بياض الصّبح فهي فوت النّهار ، لأنّه لم يطمسها بضوئه ، ولم يلحق بظلمة اللّيل الخالصة ، فهي بينهما ، واللّيل لا يبأس منها ، لأنّها في بقية منه ، ولا النّهار يسلمها للّيل لأنّها في ابتداء منه ، ومراد الشّاعر بهذا الوصف أنّ الأمر الذي وقته كان في حمارّة القيظ ، لأن الشّعرى تطلع بالغداة في معمعان الحر.

قال الشيخ : أظنّ هذا الشّاعر سلك في تحديده للاستسرار طريقة زهير حين قال يصف شاهينا وحمامة شعرا :

دون السّماء وفوق الأرض قدرهما

فيما تراه فلا فوت ولا درك

فقوله : لا فوت ولا درك ، كقول ذاك لا يبأس اللّيل منها ، ولا النّهار يعترف اللّيل بها ، قال : وقال الكميت في تحديد وقت الطلوع شعرا :

حتّى إذا لهبان الصّيف هبّ له

وأفغر الكالئين النّجم أو كربوا

وساقت الشّعريان الفجر بعضهما

فيه وبعضهما باللّيل محتجب

فجعل طلوعها بين اللّيل والنّهار كما جعله الأوّل. ومعنى أفغر النّجم : يريد إذا صارت الثّريا في وسط السّماء ، فمن نظر إليها فغر فاه ، أي فتحه ، ومعنى كربوا : قربوا وطعن قوم على الكميت في هذا البيت ، وحسبوا أنه أراد أن إحداهما طلعت قبل الفجر ، فهي في اللّيل ، وأنّ الأخرى طلعت مع الفجر ، فهي فيه ، فقالوا : لا يجوز ذلك إلا في ثلاثة فصاعدا ، قال أبو حنيفة : والذي قالوا كما قالوا ، غير أنّهم ذهبوا إلى غير مذهب الكميت ، ولو أراد الكميت ما توهّموا لكان قد أخطأ في المعنى أيضا مثل ما أخطأ في اللّفظ ، وذلك أنّه قال : وساقت الشّعريان الفجر.

فاعلم أنّ الفجر طلع قبلهما ، فكيف يعود فيجعل إحداهما طالعة قبله ، هذا بتعجيل ، وبعد فإنّ الشّعريين تطلعان معا. وإنّما أراد أنّ بعضهما كلتيهما في اللّيل وبعضهما كلتيهما في النّهار ، إذا كانتا بين اللّيل والنّهار ، قال الشيخ الأكشف في بصرة الكميت أن يقال أراد أنّ بعضيهما في اللّيل وبعضيهما في النّهار ، فيخرج البعض بالثنية من أن يكون بمعنى أحد ، ويستفاد منها أنّ الشّعريين تطلعان معا ، وأنّ القصد في ذكرهما للتّحديد ، إلى أن تكونا بين اللّيل والنّهار ، ومع ذلك فقد ضيق على نفسه تضييقا شديدا ، فأفرط في التّحديد إفراطا بعيدا ، فإذا سمعتهم ينسبون إلى الطّلوع والسّقوط مرسلا غير مضاف إلى وقت ، فاعلم أنّهم إنّما يريدون الطلوع والسّقوط للّذين يكونان بالغداة ، وذلك مثل قولهم إذا طلعت العقرب :

١٣٤

حمس المذنب ، ومثل قولهم إذا طلعت الشّعرى : جعل صاحب النّخل يرى ، ومثل قول الشاعر شعرا :

فلمّا مضى نوء الثّريا وأخلفت

هواد من الجوزاء وانغمس الغضر

ومثل قوله :

هنا ناهم حتّى أعان عليهم

عزالى السّحاب في اغتماسه كوكب

فهذه السّقوط وما أشبهه هو بالغداة ، وإذا ذكر ذلك من نجوم الأخذ خاصة فهو النوء ، ألا ترى أنّهم لمّا أرادوا الطّلوع بالغداة قالوا : إذا طلع النّجم فالحرّ في خدم ، فجاء مرسلا غير مضاف. ولما أرادوا طلوعه لغير الغداة قالوا : إذا طلع النّجم عشاء ابتغى الرّاعي كساء ، فجاء مضافا إلى الوقت. وأما قول القائل : حين البارحة حين غاب النّجم وذهبن ليلة كذا ، حين طلع السّماك فإنّما المراد بذلك ، وقت المجيء والذّهاب من تلك اللّيلة بعينها ، وليس من الأوّل في شيء ، ومنه قول الشاعر شعرا :

حتى إذا خفق السّماك وأسحرا

ونبا لها في الشّدّ أيّ نبال

ومثل قول الآخر :

فعرسن والشّعرى تغور كأنّها

شهاب غضا يرمى به الرّجوان

وإذا جاء ذكر المغيب مرسلا ، فالمراد حينئذ الغيبوبة التي هي ابتداء الاستسرار وذلك قولهم: غرب الثّريا أعوه من شرفها ، وكقولهم : مطر الثّريا صيف كلّه وهذا الغرب غير السّقوط الذي هو النوء ، ومطر نوء الثّريّا وسمي ومن هذا الجنس قول الشاعر :

فيمّمت سيرا سريع الرّجا

ء مائل من راجل يركب

مغيب سهيل صدور الرّكا

ب سيرا يشقّ على المعتب

فهذا كلّه غيبوبة الاستسرار ، ولا يكون إلا بالعشيّات على أثر مغيب الشّمس ثم لا تراه بعد ذلك حتى يتمّ استسراره ، ثم يكون أوّل ظهوره بالغدوات وقد اختلف النّاس في معنى النّوء : فبعضهم يجعله النّهوض ، قال : لأنه سمى نوى الطّلوع الرّقيب لا لسقوط السّاقط ، وهذا ليس بمنكر في اللّغة ، لأنّ هذه اللّفظة تعدّ في الأضداد ، قال أبو حنيفة : هو النّهوض ، ولكنّه نهوض الذي كأنه يميله شيء فيجد به إلى أسفل ، وزعم الفراء أنّ النوء السّقوط والميلان ، وأنّ أبا ثروان أنشده في صفة راع نزع في قوس :

حتّى إذا ما التأمت مفاصله

وناء في شقّ الشّمال كاهله

قال : يريد أنه لما نزع مال إليها ، وقوله : التأمت مفاصله فإنّه يعني أنّه لزم بعضه بعضا

١٣٥

لشدّة النّزع. قال : ونرى أنّ قول العرب ما ساءك وناءك من هذا ، ومعناه أناءك فألقى الألف للاتباع كقولهم : هنّأني الطّعام ومرّأني ، وكان ينبغي أن يكون أمرأني.

قال أبو حنيفة : فأمّا من ذهب إلى أنّ الكوكب ينوء ثم يسقط ، وإذا سقط فقد تقضى نوؤه ، ودخل نوء الكوكب الذي بعده ، فتأويله أنّ الكوكب إذا سقط النّجم الذي بين يديه أطلّ هو على السّقوط ، وكان أشبه شيء حالا بحال النّاهض ولا نهوض به ، حتّى يسقط ، لأنّ الفلك يجرّه الغور ، فكأنّه متحامل عليه ، يعني قد غلبه. ويجمع النوء أنواء ونوانا. قال حسّان بن ثابت رضي‌الله‌عنه شعرا :

ويثرب تعلم أنّا بها

إذا قحط القطر نواتها

وقال بعضهم : الحق في ذلك مذهب الخليل الذي حكاه عنه مؤرج ، وهو أنّ النّوء اسم المطر الذي يكون مع سقوط النّجم ، لأنّ المطر نهض مع سقوط الكوكب ، واسم الكوكب السّاقط النّوء أيضا ، فالشيء إذا مال في السّقوط يقال : ناء ، وإذا نهض في تناقل يقال ناء به ، قال ذو الرمة في وصف الرياك :

ينون ولم يكسين إلا قنازعا

من الرّيش تنواء الفصال الهزائل

وينوء الحمل الثّقيل إذا مال بالبعير ، ويقال : المرأة تنوء بها عجيزتها ، قال الشاعر :

لها حضور وأعجاز تنوء بها

إذا تقوم يكاد الخصر ينخزل

وفي القرآن : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [سورة القصص ، الآية :٧٦].

فصل

وهي نجوم الأخذ ، قال الله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [سورة يس ، الآية : ٣٩].

وهي ثمانية وعشرون منزلا لا اختلاف في ذلك ، وتسمّى نجوما ، وإن كان منها ما هو كوكب واحد ، وكان منها ما هو أكثر ، وقد قيل للثّريا : النجم ، وهو كالعلم لها وهي ستّة كواكب. والنّجم إن كان كالعلم ، وقد شهرت به ، فقد يقولون في النّسبة هذا النّجم الثّريا إذا جعلوه اسما لجماعة كواكبها ، ويقولون : هذه نجوم الثّريا إذا جعلوا كلّ كوكب منها نجما ، ثم جمعوها. قال ذو الرمة :

لعالية في الأدحى بيضا بقفرة

كنجم الثّريا لاح بين السّحائب

١٣٦

وقال الأعشى فجعله جمعا :

يراقبن من جوع خلاء مخافة

نجوم الثّريّا الطّالعات الشّواخصا (١)

وقال أبو عبيدة : يقال النجم ، فيفرد اللفظ والمعنى للجمع ، وأنشد قول الراعي :

فباتت تعدّ النّجم في مستجيرة

سريع بأيدي الآكلين جمودها

يعني ضيفة قراها جفنة ، قد استجار فيها الدّهم ، فهي ترى نجوم اللّيل فيها. وأمّا الكوكب فلا نعلمه يقع إلا على واحد فقط ، وقال الآخر في منازل القمر فسمّاها نجوما :

وأخوات نجوم الأخذ إلّا أنضة

أنضة محل ليس قاطرها يثري

قال أبو عبيدة : نجوم الأخذ : منازل القمر ، سمّيت نجوم الأخذ ، لأخذه كلّ ليلة في منزل. وقال أبو عمرو الشّيباني : الأخذ : نزول القمر منازله ، يقال : أخذ القمر نجم كذا إذا نزل به. وأنشد أبو عمرو شعرا :

وأمست نجوم الأخذ غبرا كأنّها

مقطّرة من شدّة البرد كسف

وقال : مقطّرة من القطار ، أراد تناسقها ، ومراد الشّاعر كسوفها ، لأنّها متناسقة في الخصب والجدب. وكان على كل حال ، وكسوفها ذهاب نورها لشدّة الزّمان وذلك لما يعرض في الهواء من الكدر ولا يجلوه ، قال أبو الطمحان القتبي : تذكر حميرا وردت عيونا.

وتراها نجوم الأخذ في حجراتها

وتنهق في أعناقها بالجداول

وقال أبو حنيفة : أول ما تبتدءون به من المنازل الشّرطان ، ولما كانت العرب تقدّم الشّتاء كان أول أنوائها مؤخّر الدلو ، وهو الفرع المؤخر ، ونوؤه محمود الوقت ، عزيز الفقد ، وهو أوّل الوسمي ، ثم بطن الحوت وهو الذي يسمّيه الرّشاء ولا يذكر نوؤه لغلبة ما قبله عليه.

واعلم أنّ المنازل تبدو للعين منها في السّماء أبدا نصفها ، وهو أربعة عشر ، وكذا البروج يبدو نصفها ، وهو ستة لأنه كلّما غاب واحد منها طلع من المشرق رقيبه وسقوط كلّ منزل فيه ثلاثة عشر يوما سوى الجبهة ، فإنّ لها أربعة عشر يوما لأنّها خصّت باللّيلة الباقية من أيّام السّنة الثّلاث مائة والخمسة والستين ، وفضلت بذلك على سائرها ، لغزارة نوئها ، وكثرة الانتفاع بها ، ويكون انقضاء الثمانية والعشرين ، وانقضاء الاثني عشر مع انقضاء السنة.

__________________

(١) شخص النجم : طلع.

١٣٧

ولمّا كانت السّنة أربعة أجراء صار لكلّ ربع منها سبعة منازل ، وهي الأنواء وأسماؤها : الشّرطان ـ البطين ـ الثّريا ـ الدّبران ـ الهقعة ـ الهنعة ـ الذّراع ـ النّئزة ـ الطّرف (١) ـ الجبهة ـ الزّبرة ـ الصّرفة ـ العوّاء ـ السّماك الأعزل ـ الغفر (٢) ـ الزّباني ـ الإكليل ـ القلب ـ الشّولة ـ النّعائم ـ البلدة ـ سعد الذّابح ـ سعد بلع ـ سعد السّعود ـ سعد الأخبية ـ الفرغ الأوّل ـ الفرغ الثاني ـ الرّشا (٣) ـ فهذه ثمانية وعشرون نجما هنّ أمهات المنازل.

قال أبو حنيفة : وقد يعدّون معها نجوما أخر إذا قصر القمر أحيانا عن هذه المنازل نزل ببعض تلك ، وذلك لأنّ القمر لا يستوي سيره فيها ، لأنّك تراه بالمنزل ثم تراه وقد حلّ به في الشّهر الآخر ، فتجد مكانيه مختلفين فيه ، إذا أنعمت حفظه وضبطه ، ولهذه العلة يخلطونها بالمنازل ، حتّى ربّما جعل لبعضها في الأنواء حظّا.

(١) أمّا الشّرطان فهما كوكبان على أثر الحوت مفترقان شمالي وجنوبي بينهما في رأي العين قدر ذراع ، وإلى جانب الشّمالي منهما كوكب صغير ذكر أنّهما به سميّت الأشراط ، والواحد منهما شرط متحرك ، وقد ذكر عن العرب شرط بالإسكان قال كثيّر في جمعهما شعرا :

عواد من الأشراط وطف نقلها

روائح أنواء الثّريّا الهواطل

وقال الكميت في الإفراد :

من شرطي مرتعن تجلّلت

عزال بها منه بتجاجة سحل

وليس يمنع تحريكه في النّسبة من أن يكون الواحد شرطا بإسكان وإذا نسبت إليها لم ينسب إلّا بالجمع أو الإفراد ، فأمّا مثنّى فلم نجدهم قالوا شرطاي. قال العجّاج في الجمع : من باكر الأشراط أشراطي. وهذا قليل.

قال الشيخ : الجمع قد نسب إليه إذا جعل علما أو أجري مجرى العلم ، فالعلم كقولهم : كلابي وأنماري ومدايني وما أجري مجرى العلم أشراطي ، قال ويقولون : الشّرطان قرنا الحمل ، ويسمّونها النّطح أو النّاطح ، وبين يدي الشّرطين كوكبان شبيهان بالشّرطين ، يقال لهما الأنثيان. قال أبو حنيفة : ذكر الرواة أنّ العرب تجعلهما مما يقصر القمر ، فينزل به ويجعلون لهما في الأنواء حظا.

__________________

(١) بعضهم يسمّيها الطّرفة.

(٢) الغفرة.

(٣) منهم من يسميه : بطن الحوت.

١٣٨

(٢) وأمّا البطين فتلقبه كواكب خفيّة كأنها نقط الشاء ، وهو على أثر الشّرطين بين يدي الثّريا ، وقد يتكلمون به مكبرا ، فيقولون : البطن ، ويزعمون أنّه بطن الحمل.

(٣) وأمّا الثريا فهي النّجم لا يتكلمون بها مكبرة ، وهي تصغير ثروي ، مشتقّا من الثّروة ، وكأنه تأنيث ثروان ، والنّجم كالعلم له يقال له : طلع النّجم ، وغاب النّجم وأنشد للمرار شعرا :

ويوم من النّجم مستوقد

يسوق إلى الموت نور الظّبا

وقال شعرا :

إن النّجم أمسى مغرب الشّمس طالعا

ولم يك في الآفاق برق ينيرها

قال الشيخ : هذا كما اشتهر عبد الله بابن عباس وصار كالعلم له ، وكان له إخوة ، قثم وغيره ، فلم يشتهروا به ، ويقولون : الثريا إليه الحمل.

(٤) وأما الدّبران فالكوكب الأحمر الذي على أثر الثّريا بين يديه كواكب كثيرة مجتمعة من أدناها إليه كوكبان صغيران يكادان يلتصقان ، يقول الأعراب : هما كلباه ، والبواقي غنمه ، ويقولون : قلاصه ، قال ذو الرمة شعرا :

وردت اغتشافا والثّريا كأنّها

على قمّة الرّأس ابن ماء محملق

يدفّ على آثارها دبرانها

فلا هو مسبوق ولا هو يلحق

لعشرين من صغرى النّجوم كأنّها

وإيّاه في الخضراء لو كان ينطق

قلاص (١) حداها راكب متعمّم

إلى الماء من قرن التّنوفة مطلق

قرن التنوفة أعلاها ـ والمطلق الذي يطلب ليلة الماء وبعده القرب للورد ، ويسمّى دبرانا لدبوره الثّريّا ، كما قيل : إيبان وصميان ، وسمّى تالي النجم ، وتابع النّجم. وقد يطلق فيقال : التابع ، ويقال أيضا حادي النّجم ، ومن أسمائه المجدح بالضمّ والكسر فالضمّ حكاه الشيباني ، والكسر حكاه الأموي ، والمنجّمون يسمّونه قلب الثّور وقولهم : الدّبران مما اختصّ وجرى مجرى العلم.

(٥) وأمّا الهقعة فهي رأس الجوزاء ثلاثة كواكب صغار مثفاة ، وتسمّى الأثافي تشبّها بها.

حكي عن ابن عباس أنّه قال لرجل : طلّق عدد نجوم السّماء يجزئك منها هقعة

__________________

(١) القلوص : الناقة الشّابة القويّة.

١٣٩

الجوزاء ، وقد يقال للدّابرة يكون الشّق الفرس الهقعة ، وهي تكره ، يقال فرس مهقوع.

(٦) وأمّا الهنعة : فكوكبان بينهما قيد سوط ، وهما على أثر الهقعة ولتقاصرها عنها سمّيت الهنعة. والذراع المبسوطة بينهما منحطة عنهما ويقال : أكمة هنعا إذا كانت قصيرة ، وتهانع الطّائر إذا كان طويل العنق فقصّرها.

وقال ابن كناسة : يقال للهنعة الزّرق الميسان ، فإنّما ينزل القمر بالتّحايي وهي كواكب ثلاثة بإزاء الهنعة والواحدة منها تحياة.

(٧) وأمّا الذراع فهي ذراع الأسد المقبوضة ، وللأسد ذراعان مقبوضة ومبسوطة ، (فالمقبوضة) منهما هي اليسرى ، وهي الجنوبية ، وبها ينزل القمر وسمّيت (مقبوضة) لتقدّم الأخرى عليها ، والمبسوطة منهما هي اليمنى وهي الشّمالية ، وكلّ صورة من نظم الكواكب فميامنها مما يلي الشّمال ومياسرها مما يلي الجنوب ، لأنّها تطلع بصدورها ناظرة إلى المغارب فالشّمال على أيمانها ، والجنوب على أيسارها. وقد فهم ذلك القائل والنّجوم التي تتابع باللّيل وفيها ذات اليمين ، ازورارها على أيمانها إطافة منها بالقطب.

وقال أبو حنيفة : أنت ترى الكوكب يدرأ من مطلعه من الأفق الشّرقي فلا يستقيم مضيئه إلى مقابل مطلعه من الأفق الغربي في المنظر ، ولكن تراه يتجانف إلى القطب ، ولذلك قال الشاعر شعرا :

وعاندت الثّريا بعد هدء

معاندة لها العيّوق جار

لأنّها تركت القصد في المنظر ، فذلك معاندتها ، وعلّة ذلك ما بيّنه الكميت في قوله :

مالت إليه طلانا (١) واستطيف به

كما تطيف نجوم اللّيل بالقطب

وأحد كوكبي الذراع المقبوضة هي الشّعرى الغميصاء ، وهي تقابل الشّعرى العبور ، والمجرّة بينهما وقد تكبر يقال الغمصاء ، قال أبو عمر وهي الغميصاء والغموص ويقال لكوكبها الأحمر الشّمالي المرزم ، مرزم الذّراع وهما مرزمان هذا أحدهما ، والآخر في الجوزاء قال :

ونائحة صوتها رابع

بعثن إذ أخفق المرزم

ويروى إذا ارتفع المرزم فهذا المرزم هو الذي في الذّراع ، لأنّ مرزم الجوزاء لا نوء له ، وليست من المنازل ، وقد ذكرا جميعا بالنّوء على ذكر الشّعريين والسّماكين. قال جدار :

__________________

(١) الطّلا : بالفتح ولد الظبي ساعة يولد ، والصغير من كل شيء.

١٤٠