الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

مانيتو (من عصر البطالمة) عنهم ، إذ يقول : «لا أعرف لماذا هبت رياح الغضب الإلهي علينا حتى تجاسر فجأة أناس من أصل غير معروف ، جاؤوا من آسيا ، فأغاروا في عهد الملك توتيمايوس على بلادنا مصر ، واستطاعوا بسهولة ، ومن دون قتال أن يستولوا عليها. وقد أسر هؤلاء القوم زعماء البلاد ، وأحرقوا المدن بصورة وحشية وهدموا معابد الآلهة ، وعاملوا السكان بمنتهى القساوة ، فقتلوا بعضهم ، وساقوا النساء والأطفال إلى العبودية ...»(١)

فالدلائل تشير إلى عكس ما يقول مانيتو ، إذ أدخل الهكسوس إلى مصر عناصر حضارية جديدة ، مادية وروحية ، في فترة كان الهبوط هو السمة العامة هناك. كما وفروا خلال حكمهم درجة عالية من الاستقرار بعد فترة من الاضطراب والصراع بشأن السلطة في مصر. وازدهرت في أيامهم العمارة والفنون والتجارة الدولية. وطوروا الكثير من الصناعات العسكرية وغيرها. ويبرز النسيج بين هذه الصناعات ، كما يتميّز الخزف الهكسوسي بألوانه وزخارفه وتقنيات صناعته. وهو ما تكشفه الحفريات في تل اليهودية وغيرها ، فضلا عن أنهم جلبوا إلى مصر الحصان ومركبة القتال والقوس المركب وصناعة الأسلحة البرونزية المتفوقة.

وعلى الرغم من أن الهكسوس حاولوا التقرب من سكان البلد الأصليين ، واتخذوا أسماء مصرية ، وأبدوا احتراما للعبادات المحلية وآلهتها ، بينما حافظوا على ديانتهم الخاصة ، فإنهم لم يفلحوا في الحفاظ على سلطتهم. ففي منتصف القرن السادس عشر قبل الميلاد ، شن أمراء طيبة الجنوبيون ما يسمى ب «حرب التحرير» ، وطردوا الهكسوس من مصر ، وطاردوهم إلى جنوب فلسطين ، فقاتلوهم في شاروحين (تل الفارعة الجنوبي) ، إلّا إنهم فشلوا في القضاء الكامل عليهم. ولذا ، فالفراعنة ، ومنذ السلالة السابعة عشرة فما بعد ، تلقنوا من عصر حكم الهكسوس درسا مفاده أن خط الدفاع الأول عن شمال مصر هو جنوب فلسطين ، فعمدوا إلى السيطرة عليه بصور متعددة.

ثالثا : الكنعانيون

قلة من الشعوب التي عمّرت فلسطين خلال تاريخها الطويل طبعت اسمها على البلد كما فعل الكنعانيون ، ومع ذلك يدور جدل حاد بين الباحثين بشأن هويتهم. وهذا الجدل لا يخلو من نزعات مغرضة ، ترمي إلى توظيف البحث في هذه المسألة

__________________

(*) Donald B. Redford, Egypt, Canaan and Israel in Ancient Times, p. ٨٩.

٦١

لخدمة أهداف سياسية معاصرة ، وتحديدا لمصلحة الصهيونية السياسية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين ، وخصوصا أن العصر الكنعاني في تاريخ فلسطين يتزامن مع ما يسمى عصر الآباء في التاريخ اليهودي. وباعتقاد أصحاب هذه النزعة أن التمويه على هوية الكنعانيين ، وبالتالي إبراز علاقة البلد بمن يسمون أبناء إسرائيل ، يخدم الادعاء الصهيوني بالحق التاريخي لليهود في فلسطين. غير أن موجة هذه الطروحات أخذت تنحسر في العقود القليلة الأخيرة.

وفي سياق النشاط الصهيوني لتبرير الاستيطان اليهودي الحديث في فلسطين ، جرى توظيف ما يسمى الدراسات التوراتية ، بل علم الآثار التوراتي. وقد قام مؤخرا عدد من الباحثين المرموقين بنزع الشرعية العلمية عن تلك الدراسات ، ونفي الأساس الموضوعي لذلك العلم. ويزداد الميل بين المختصين في تاريخ الشرق الأدنى القديم إلى اعتبار الكنعانيين جزءا من الأرومة العمورية التي تبلورت شخصيتها في بلاد الشام ، خلال الألف الثالث قبل الميلاد ، وتمددت شرقا في بلاد الرافدين ، إذ أقامت هناك إمبراطورية بابل القوية ، أيام حمورابي ، كما أسست ممالك متعددة في الجزء الغربي من الهلال الخصيب ، وإليها ينتمي الهكسوس الذين وصلوا مصر.

وتشير الدلائل المتوفرة ، ومن مصادر متعددة ، مكتوبة وسواها ، ومن العراق وسورية ومصر ، إلى أنه أكان ذلك قبل قيام إمبراطورية الهكسوس في مصر ، أو في فترة ازدهارها ، أو حتى بعد سقوطها ، ظلت فلسطين تشكل وحدة حضارية مع محيطها ، مادّيا وروحيّا. فحكم الهكسوس في مصر لم يكن ظاهرة مقطوعة الجذور عن بلاد الشام ، ولا انتهت بطردهم من الدلتا وملاحقتهم إلى جنوب فلسطين. والواضح أن نهاية حكم الهكسوس في مصر لم تؤد إلى انقلاب في النظام السياسي ـ الاجتماعي في المناطق التي كانت تحت حكمهم في فلسطين وسورية.

والواقع ، وكما يظهر من التنقيبات الأثرية ، فإن فلسطين لم تشهد في تاريخها السابق ازدهارا للمدن المسوّرة شبيها بهذا العصر ـ النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. وقد أقيمت هذه المدن في مواقع جديدة ، أو على أنقاض مدن أكثر قدما ، معروفة من الألف الثالث قبل الميلاد. وهي ، باستثناء حاصور (تل القدح) في شمال فلسطين ، التي تبلغ مساحة التل الذي احتلته قرابة ٧٠٠ دونم ، أقرب إلى القلاع منها إلى المدن ، وخصوصا الكبيرة منها في شمال سورية : ماري وكركميش ويمحاض وقطنا وأوغاريت. غير أن عددها كبير ، وهي تنتشر في جميع أنحاء البلد ـ في الساحل ، كما في الجبل ، وغور الأردن.

فعلى سبيل المثال لا الحصر ، تمّ الكشف عن مدن محصنة من هذا العصر في

٦٢

المواقع التالية : تل القدح (حاصور) وتل القاضي (لايش) في الغور الشمالي وتل المتسلم (مجدو) وتعنك في مرج ابن عامر وتل الفارعة الشمالي وتل بلاطة (شيكم) قرب نابلس وتل بيت مرسيم وتل الدوير (لاخيش) وتل أبو شوشة (جيزر) وتل الفارعة الجنوبي (شاروحين) وتل العجول (بيت عجلايم) ، في منحدرات جبال القدس الغربية حتى السهل الساحلي الجنوبي ؛ وتل السلطان (أريحا) وتل دير علّا في الغور الأوسط والجنوبي وتل كيسان (أفيك) وتل دور (أخشاف) ورأس العين وتل جريشة وعسقلان ، على الساحل من الشمال إلى الجنوب.

إن هذا العدد الكبير من المدن ، المنتشرة في مناطق فلسطين جميعها ، يشير إلى فترة من الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي. كما ويبدو من توزيعها أن كل مدينة منها شكلت مركزا سياسيا ـ اقتصاديا في محيطها ، حيث انتشرت قرى زراعية تابعة لها ، الأمر الذي جعلها بمثابة مدينة ـ دولة. وكذلك ، فهذا الانتشار يدل على تنوّع مصادر الاقتصاد ـ زراعة وصناعة وتجارة. وعلى العموم ، فقد أقيمت هذه المدن في مواقع استراتيجية ، بالقرب من مصدر مياه ، وتحيط بها أراض زراعية ، كما يحتل عدد منها نقاطا مهمة على طرق التجارة الدولية الرئيسية ، التي تؤكد الوثائق المتوفرة ازدهارها في هذه الفترة.

فمن وثائق مصرية وسورية وعراقية معاصرة ، ترد معلومات مهمة عن المدن الفلسطينية في ذلك العصر ، علما بأنه لم يعثر حتى الآن على مثل هذه الوثائق في فلسطين. إلّا إن وثائق ماري (تل الحريري) ، وإبلا (تل مرديخ) والالاخ (تل عطشانة) وأوغاريت (رأس الشمرا) ، في سورية ، تزودنا بمعلومات مهمة عن الأوضاع السائدة في فلسطين ، خلال النصف الثاني من الألف الثالث ، والنصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. ويستدل من هذه المعلومات أن علاقة تجارية وسياسية وحضارية قامت بين هذه الدول في سورية ، وبين مدن مهمة في فلسطين ، مثل : حاصور ولايش ومجدو ويافا وأسدود وغيرها.

وتكتسب وثائق إبلا ، المكتشفة حديثا ، والتي لا تزال قيد الدرس ، أهمية كبيرة ، تتعدى ما تقدمه من معلومات عن العلاقات بين بلاد الشام وكل من العراق ومصر ، والتي أدّت إبلا دورا مركزيا فيها. فهي تلقي أضواء غزيرة على ما هو معروف من وثائق ماري ، من جهة ، ومن المصادر المصرية ، من جهة أخرى ، ناهيك عما تضيفه من جديد ، لأنها أرشيف مدينة ـ دولة مهمة بحد ذاتها. وهي إذ تعيد معرفة الكتابة في بلاد الشام نحو ١٠٠٠ عام إلى الوراء عما كان يعتقد حتى الآن ، فإنها تؤكد الوحدة الحضارية ـ الإثنية ـ اللغوية لهذه البلاد ، وذلك على الرغم من غياب وحدتها

٦٣

السياسية ، عدا فترة حكم الهكسوس القصيرة نسبيا.

ويتضح من آلاف الرّقم التي عثر عليها في إبلا ، والتي تلقي أضواء جديدة على تاريخ شعوب المنطقة ـ في الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد ـ فضلا عن لغاتهم وعاداتهم وعباداتهم وعلاقاتهم ، أن سكان بلاد الشام عرفوا الكتابة منذ هذا التاريخ على الأقل. فشعوب سيناء في الجنوب ، إلى شعوب جبال طوروس في الشمال ، كانوا يعرفون اللغات والخطوط المتداولة في الشرق الأدنى القديم ، إذ عرفوا الخطين ـ المسماري والهيروغليفي ، واستعملوهما في التعبير عن لغتهم هم. ثمّ لم يلبثوا أن طوروا الأبجديتين ـ الأوغاريتية والسينائية. وهذه الأخيرة هي النمط الأولي للخط الكنعاني ، الذي أخذته العبرية القديمة.

ومنذ أيام المملكة الوسطى (نهاية الألف الثالث قبل الميلاد) ، صارت الوثائق المكتشفة في مصر ، من كتابات ونقوش ، توفر المزيد من المعلومات عن فلسطين ـ علاقتها بمصر وأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وحتى عبادات سكانها. ومع أن علاقات محدودة قامت بين مصر وفلسطين من أيام المملكة القديمة ، فإنها أيام حكم السلالتين ١٢ و ١٣ قد تطورت : أولا ، بفعل الاستقرار الداخلي الذي تحقق ، وخصوصا أيام السلالة ١٢ ، في فترة ١٩٩١ ـ ١٧٧٥ ق. م. ، وثانيا ، لتعاظم اهتمام الفراعنة بمناجم النحاس والفيروز في سيناء ، وبالتالي ضرورة حمايتها من تهديد القوى في فلسطين.

ويتحدث عدد من هذه النصوص عن الحملات العسكرية التي أرسلها فراعنة مصر ، وخصوصا أيام السلالة ١٢ ، التي مثلت ذروة قوة المملكة الوسطى ، إلى سيناء وفلسطين ، وكذلك الحملات العسكرية ـ التجارية إلى الساحل ، وربما إلى الداخل السوري. وهذه النصوص تشير إلى علاقات وثيقة ، تقترب من بسط النفوذ ، على الأقل في جنوب فلسطين ، وإلى أخرى اقتصادية متينة مع جبيل على الساحل. وإذ لا يستبعد بعض المبالغة في إنجازات تلك الحملات وأبعادها فإنها على أية حال تعطي معلومات عن الحالة السياسية ـ الاجتماعية في فلسطين ، وغيرها من بلاد الشام. وفي تلك النصوص إشارات واضحة إلى عدد كبير من دويلات ـ المدن ، يصل في بعض القوائم إلى العشرات ، مثل : عسقلان وحاصور وشيكم وحتى أورشليم ، التي يرد اسمها لأول مرة منذ أيام السلالة ١٢. ولعل الأهم أنه في تلك الوثائق يرد اسم جديد لفلسطين ، هو ريتنو ، ويميز بين منطقتين ـ عليا وسفلى. والمعنى الدقيق لهذا الاسم ليس واضحا ، لكنه بحسب استعماله يشير إلى وحدة سياسية ، أكثر من دلالته على جماعة إثنية ، أو حالة اجتماعية ، كما جرت العادة في التسميات التي كان

٦٤

الكتبة المصريون يطلقونها على الشعوب التي لم تكن ترقى في نظرهم إلى مستواهم الحضاري.

ومن هذه النصوص الرواية التاريخية لرحلة الوزير سنوحي (سانهيت) ، الذي أمضى بحسب قوله فترة طويلة في فلسطين منتقلا. وإذ يفهم من روايته أن فلسطين لم تكن تحت الحكم المصري المباشر ، فإن أجزاء منها كانت في مناطق نفوذه ، نحو سنة ٢٠٠٠ ق. م. والوثيقة تقدم معلومات عن حياة الناس اليومية : عاداتهم ومأكلهم وملبسهم ... إلخ ، كما تتعرض لما تنتجه الأرض من المحاصيل : القمح والشعير والعنب والتين ، وتشير إلى انتشار زراعة الزيتون ، وتسمى البلد «الأرض التي تدرّ العسل واللبن.»

ويفهم من هذه الوثيقة المهمة أنه على أطراف المناطق الآهلة بكثافة ، والتي كانت تابعة للمدن الرئيسية ، عاشت جماعات لم تستقر تماما بعد ، فهي تتعاطى الزراعة ، بما في ذلك أشجار الفواكه ، كما تعمل في تربية قطعان الضأن والبقر ، من دون أن تترك الصيد. ونظامها الاجتماعي أقرب إلى القبلية ، إذ السلطة الفضفاضة في أيدي شيوخ القبائل ، الذين انتحلوا لقب «ملك». وبصورة عامة ، فالأسماء الواردة في هذه الوثيقة ، كما في غيرها ، سامية ـ غربية ، سواء أكان ذلك للأشخاص والجماعات أو المواقع ، وحتى الآلهة ـ حدد (هدد) وآنو وشماش (شمش) وبعل وبعلة.

ويفهم من نصب تذكاري لأحد القادة العسكريين ، سبكحو ، من منتصف القرن التاسع عشر قبل الميلاد ، أن المصريين في تلك الفترة حكموا القسم الجنوبي والمركزي من فلسطين على الأقل. وهو يدعي أنه شارك في احتلال شيكم (تل بلاطة). ومن هذه الفترة هناك شواهد مصرية على تقاليد الكنعانيين وملابسهم وأسلحتهم ، تظهر في النقوش على مشاهد المدافن والمنحوتات الأخرى ، وخصوصا تلك التي وجدت في مغاور بني حسن من أيام فراعنة السلالة ١٢. وقد وجد مثل هذه النقوش في سرابيط الخادم (سيناء) ، حيث مناجم النحاس ، التي عمل فيها كما يبدو أسرى كنعانيون.

وتظهر مجموعة غريبة من الوثائق ، اصطلح على تسميتها «كتب اللعنات» ، مقدار النفوذ المصري في فلسطين أيام حكم السلالة ١٢ القوي. وعثر على هذه الوثائق مكتوبة على صحون وجرار أو دمى ، فخارية ، وفيها أسماء ملوك المدن في فلسطين والنوبة ، المناوئين لسلطة الفرعون : وبناء عليه ، فقد كانت معدة للكسر كتعبير عن تدمير صاحب الاسم الوارد فيها ، وخضوع مدينته للسيادة المصرية. والباحثون يميزون بين مجموعتين من هذه الكتب : الأولى ، وهي الأكثر قدما (منتصف حكم السلالة) ،

٦٥

والثانية ، متأخرة عنه بجيلين تقريبا ، أي نهاية حكم السلالة ١٢ ، في القرن التاسع عشر قبل الميلاد.

وفي المجموعتين أسماء لم يتم تحديدها بعد ، لكن كلتيهما تضمان أسماء حكام ومدن واضحة. ففي المجموعة الأولى ، وهي الأصغر ، ترد أسماء عسقلان وأورشليم ورحوب وعرقتا (على الشاطىء الفينيقي الأوسط) ، وكذلك بلاد شوتو (لعله يعني أبناء شيت ـ العمونيين والمؤابيين). أمّا الثانية ، وهي الأوسع ، وتضم رسوما تصف أسرى حرب ، ففيها أسماء كثيرة واضحة الهوية ، منها : أورشليم وأفيك وشيكم وأخشاف ومشئال ورحوب وحاصور وصور وعرقات وبقعات (البقاع) وشريون ولبو (ربما لبو ـ حماة) وأبوم (دمشق؟) وعشتروت ، وكذلك أراضي شوتو وكوشو ، وبالطبع جبيل ، المعروفة بعلاقاتها الوثيقة مع مصر.

وأسماء الحكام في المجموعتين سامية غربية على العموم ، وهي ترد في الكثير منها مركبة ، تشتمل على أسماء الآلهة ، مثل : إيل وهداد وحورون وشمش وغيرها ، وهي الآلهة المعروفة لدى العموريين والكنعانيين. ويتأكد هذا الأمر من المصادر الأكادية المسمارية المعاصرة. وهذا يدل على التجانس الإثني ، ليس في فلسطين فحسب ، بل في بلاد الشام كلها ، وكذلك في العراق في هذه الفترة ـ أي ما بعد السومريين ـ وصولا إلى مصر في حكم الهكسوس. هذا في الوقت الذي بدأت جماعات هندية ـ أوروبية ، آتية من الشرق والشمال الشرقي ، تضغط على المنطقة بغرض التوغل فيها.

وبين مجموعتي الأسماء فرق ذو دلالة ، يعتقد أنها تمتّ بصلة إلى طبيعة التنظيم السياسي في الأماكن الواردة أسماؤها في الكتب. ففي المجموعة القديمة يرد أكثر من اسم شخص واحد في مدينة معينة ، الأمر الذي اعتبر دلالة على الطابع القبلي للمجتمع ، إذ حافظ كل رئيس على زعامته لقبيلته ، وإن أقام في مدينة واحدة مع آخرين. أمّا المجموعة الثانية فهي تورد على العموم اسما واحدا في كل مدينة ، هو الحاكم ، واستدل من ذلك على تبلور سلطة مركزية موحدة قائمة على وحدة استيطانية ، بدلا من الوحدة القبلية ، وبالتالي تشكل مدن ـ الدولة. والأمر بالطبع ، يتباين عنه في سورية ، إذ الممالك كانت أكبر وأقوى.

إن قدرة العموريين على إقامة إمبراطوريتين في آن معا ، إحداهما هكسوسية في مصر ، والأخرى بابلية في العراق ، كان لا بدّ من أن تستند إلى كثافة سكانية في بلاد الشام ، حيث تبلورت شخصيتهم. وحتى في غياب النصوص المكتوبة ، فالأعداد الكبيرة من المدن المسوّرة التي اكتشفت في نواحي بلاد الشام كلها ، والتي تعود إلى

٦٦

بداية الألف الثاني قبل الميلاد ، تشير إلى عصر من الازدهار الكبير. والكثير من هذه المدن يقع على طرق التجارة الدولية ، الأمر الذي أدّى إلى نموها وتقويتها بسرعة. والتحصينات الضخمة ، كما القصور الملكية الفخمة ، والمباني العامة الباسقة ، تؤكد جميعها أن هذه المدن كانت بمثابة دول قوية وغنية ، تحكم محيطها ، وتسيطر على جزء من التجارة الدولية ، كما تقيم علاقات متشعبة مع مثيلاتها.

ويظهر من اللوحات المسمارية المكتشفة في ماري (تل الحريري) والالاخ (تل عطشانة) في سورية ، وكذلك من «كتب اللعنات» المصرية ، أن العموريين كانوا قد أنشأوا سلالات ثابتة في مدن ـ الدولة التي انتشرت في بلاد الشام. ومنها توغلوا في مصر وأسسوا إمبراطورية الهكسوس ، كما فعلوا ذلك سابقا في العراق وأسسوا إمبراطورية بابل الأولى ، التي بلغت أوج ازدهارها واتساعها أيام حمورابي (١٧٢٨ ـ ١٦٨٦ ق. م.). وبينما عرفت الممالك في سورية بأسماء مدنها : ماري ويمحاض (حلب) وقطنا والالاخ وغيرها ، فإن المصادر أطلقت على فلسطين اسم أرض ـ كنعان (كناخني أو كنياخي) ، سواء في وثائق نوزي العراقية ، أو تل العمارنة المصرية.

وتشير الدلائل إلى أن فلسطين ، في نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد ، كانت تمرّ بمرحلة من التحوّلات الكبيرة سياسيا واجتماعيا ، إسوة ببلاد الشام عامة. فالمدن ـ الممالك تزداد عددا ، وهي تتطور عمارة وبنية ، كما تشهد ازدهارا واستقرارا ، الأمر الذي يشير إلى تبلور السلطة أو السلطات المركزية التي أصبحت عاملا سياسيا مهما في المنطقة بأسرها. وتؤكد ذلك أعمال التنقيب في جبيل وأوغاريت وحماة وبيت شان ومجدّو وجيزر والعيّ (التل) وغيرها. وشهدت بلاد الشام في هذه الفترة قيام ممالك عمورية (كنعانية) قوية مثل : ماري وطرقة وحران ويمحاض والالاخ وقطنا وقادش وحاصور ومجدّو وغيرها.

وحتى بعد طرد الهكسوس من مصر ، حافظت الممالك العمورية على قوتها وسيادتها في الهلال الخصيب. وعلى الرغم من غياب وحدتها السياسية ، فقد جمعتها وحدة حضارية ، وظلت العلاقات بين تلك الممالك قوية ، وفي مجالات متعددة ، أهمها التجارية والدبلوماسية. وإذ وقعت فلسطين ، وخصوصا جنوبها ، تحت النفوذ المصري ، فقد بقيت ، بابل في حوض دجلة والفرات وأشور في أعالي الدجلة ويمحاض في شمال سورية وقطنا في أواسط مجرى العاصي وحاصور في شمال فلسطين وأوغاريت وجبيل على الساحل الفينيقي ، ممالك قوية ومزدهرة اقتصاديا. كما قامت ممالك جديدة إلى الجنوب من ماري ، في خانة وطرقة على الفرات الأوسط.

٦٧

وبعد طرد الهكسوس من مصر (منتصف القرن السادس عشر قبل الميلاد) ، ومطاردتهم حتى مدينة شاروحين (تل الفارعة الجنوبي) ، وبالتالي وقوع جنوب فلسطين تحت النفوذ المصري ، فإن الوضع لم يتغير بصورة جذرية ، إذ إن المصريين لم يستبدلوا السكان ، بل اكتفوا بضمان السيطرة عليهم. ومن هنا ، فالكنعانيون ، الذين تربطهم صلات عرقية وحضارية ولغوية ، مع الممالك السورية ، التي بدورها أقامت صلات وثيقة مع العراق ، شكلوا حلقة وصل ، أو فصل ، بين المركزين الحضاريين ـ مصر والعراق ـ وأدّوا دورا مهما في العلاقات بينهما ، سلبا أو إيجابا ، تبادلا حضاريا ، أو صراعا سياسيا ، بكل ما نجم عن ذلك من تاريخ مشترك.

وفي هذا الإطار ، واستنادا إلى الخلفية السياسية لقيام إمبراطورية الهكسوس وسقوطها ، وإلى أرضية العلاقات الدولية التي تبلورت نتيجة قيام الممالك والإمبراطوريات في الشرق الأدنى القديم ، أدّى الموقع الجغرافي لفلسطين دورا حاسما في صوغ تاريخها في هذه المرحلة. لقد تعلم المصريون درسا مفاده أن خط الدفاع الأول عن الدلتا هو فلسطين ، على الأقل جنوبها. لكنهم لم يعمدوا إلى الاستيطان فيها ، بل اكتفوا بتعيين مندوبين لهم ، تدعمهم قوة عسكرية محدودة ، لضبط حركة الحكام المحليين ، الأمر الذي أدّى إلى تنشيط الحركة التجارية بين مصر وسورية والعراق عبر المدن الكنعانية الواقعة على الطرق الدولية.

فغداة طرد الهكسوس أصبحت مصر تنظر إلى غرب آسيا نظرة جديدة ، وخصوصا لأهميتها الاستراتيجية في ضوء التطورات الجارية إلى الشمال ـ بروز دولة ميتاني (الكوشية) ، وإمكان تهديد مصر مرة أخرى على غرار ما فعل الهكسوس. وإذ كان الهمّ في البداية دفاعيا ، وبالتالي اتخذ صيغة الحملات التأديبية ، فسرعان ما تحوّل إلى سياسة هجومية ، ترمي إلى فرض السيادة الدائمة ، بما يعنيه ذلك من الحضور السياسي والعسكري الثابت. ومنذ البداية ، وعى المصريون أن السيطرة على أرض ـ كنعان لا تستتب عبر تغيير حكام المدن فيها ، فأبقوا عليهم ، ووضعوا لأنفسهم سياسة ، تجمع بين الترهيب العسكري والترغيب الاقتصادي ، للحفاظ على سلطتهم فيها.

والحروب التي شنها فراعنة السلالة الثامنة عشرة (١٥٧٠ ـ ١٣١٠ ق. م.) ، أكان ذلك في النوبة جنوبا أو أرض ـ كنعان شمالا ، قد بدأت عصرا جديدا في مصر ، هو عصر الإمبراطورية. ففي السابق ، ومنذ تأسيس الفرعونية ، كانت لمصر مناطق نفوذ ، سواء في الجنوب ـ النوبة ـ أو في الشمال الشرقي ـ غرب آسيا ـ ولكن هذه المناطق لم تضم ، أو يجري استيطانها مصريا. أمّا الآن ، فقد دخلت مصر على سكة

٦٨

التوسع ، واختارت المبادرة إلى الاشتباك بالشعوب المجاورة ، والعمل على إخضاعها وتسخير طاقاتها البشرية ومواردها الطبيعية في خدمة أغراضها هي.

كانت النوبة مهمة للفراعنة بسبب مناجم الذهب فيها ، وكذلك الطاقة البشرية. أمّا أرض ـ كنعان ، فأهميتها استراتيجية أولا ، واقتصادية ثانيا. فمن الناحية الاستراتيجية ، باحتلال فلسطين ينقل المصريون ساحة الصراع مع منافسيهم في غرب آسيا إلى خارج حدودهم. ومن الناحية الاقتصادية ، الهيمنة على فلسطين تعني السيطرة على طرق التجارة الدولية ، وبالتالي التحكم في حركة البضائع التي تمر بها. وفي فلسطين كان يمرّ طريقان مفصليان في التجارة الدولية آنذاك : الأول على الساحل ، وهو طريق البحر ، والثاني في الداخل ، وهو طريق الملك ، والفراعنة أرادوا وضع يدهم عليهما.

في النوبة أقام الفراعنة إدارة دائمة ، فبنوا مدنا وقرى ، وشحنوها بالجنود والمستوطنين. أمّا في أرض ـ كنعان ، فلم يفعلوا ذلك ، بل عمدوا إلى الإفادة من الإدارة القائمة ، ورفدوها بمندوبين من قبلهم ، تدعمهم حاميات عسكرية ، محدودة العدد والعدة. وفضلا عن ذلك ، استخدموا قوة الردع التي شكلتها الحملات العسكرية التأديبية المتتالية. ويبدو أن المصريين وعوا حدود قدرتهم على ضبط الأوضاع في فلسطين ، آخذين في الاعتبار إمكاناتهم الذاتية والواقع السكاني فيها ، وما له من روابط مع بلاد الشام والعراق. وبناء عليه ، زاوجوا بين الترغيب والترهيب ، تحاشيا لدفع الكنعانيين إلى الوحدة والانحياز إلى أبناء عمومتهم في الشمال ضد التغلغل المصري في غرب آسيا. ولكن هذه السياسة لم تصب نجاحا كاملا.

وعندما تهيّأت أوضاع مصر لتبني سياسة توسعية ، كانت فلسطين ، أسوة بكل الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، قد بلغت شأوا حضاريا وسياسيا يصعب إلغاؤه بهزيمة عسكرية. فالمجتمع العموري ـ الكنعاني في هذا العصر (منتصف الألف الثاني قبل الميلاد) ، كان يتمحور حول عدد من مدن ـ الدولة ، تتفاوت حجما وقوة. ومع أنها شكلت وحدة حضارية ـ لغوية ، إلّا إنها افتقدت مقومات الوحدة السياسية. ومع ذلك ، فقد قام فيها من تطلع إلى القيام بدور المركز السياسي ، أو ادّعى ذلك ، وسعى لإقامة ملكية كبيرة ، كما حدث في حاصور وقادش وتونب (وسط سورية) ونوخاشي (جنوب حلب) وأوغاريت وغيرها ، على سبيل المثال لا الحصر. وبتولي السلالة ١٨ السلطة في جنوب وادي النيل ، نحو سنة ١٥٨٠ ق. م. ، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ مصر ، عرفت باسم المملكة الجديدة ، امتدت ٤٠٠ عام ، تعاقبت فيها على السلطة السلالات ١٨ و ١٩ و ٢٠. وفيها بلغت مصر ذروة

٦٩

عظمتها. وكان أحمس الأول ، مؤسس السلالة ١٨ ، هو الذي قضى على إمبراطورية الهكسوس ، واحتل عاصمتهم أفاريس. ومن ثمّ طاردهم إلى جنوب فلسطين وحاصر القلعة الحصينة شاروحين مدة ثلاث سنوات ، واحتلها ودمرها. وبذلك أسس رأس جسر على الساحل الفلسطيني ، قاعدته في مدينة غزة.

وما كان لأحمس أن يبادر إلى هذه السياسة الجديدة ، وبالتالي ينخرط في الصراعات الدائرة في غرب آسيا ، لو لا شعوره بالخطر الذي يتهدد مصر من الشمال الشرقي ، سواء من فلسطين ، أو من ورائها. وإذ لم يكن مستبعدا أن يعود الهكسوس لغزو مصر ، فقد برزت أيضا قوتان إلى الشمال من الهلال الخصيب ، راحتا تضغطان جنوبا في اتجاه شمالي سورية والعراق. فبينما بدأ الحثيون يتحركون من أواسط أناضوليا في اتجاه الممالك العمورية في شمال سورية ، راح الحوريون ، من جبال زاغروس ، يضغطون على أشور في شمال العراق. ومثل هذه التطورات ما كانت لتغيب عن أذهان حكام مصر الذين تخلصوا لتوّهم من حكم الهكسوس.

عشية طرد الهكسوس من مصر ، برز الحثيون في أواسط الأناضول ، وتمدّدوا جنوبا في اتجاه شمال سورية ، فدمروا الالاخ ، وكذلك أرشو (شمال كركميش) ، ومن ثمّ هاجموا يمحاض (حلب) وخربوها. ثم ما لبثوا أن أغاروا على بابل وقضوا على ملكها. ولأسباب داخلية تراجعوا وانشغلوا في صراعاتهم بشأن السلطة. وبذلك فتحوا الباب أمام الكاشيين (الكوشيين) لقطف ثمار حملتهم على بابل ، وكذلك الحوريين للتمدد في شمال سورية ، ومنها إلى فلسطين. فالحوريون ، الذين أقاموا مملكة ميتاني (١٥٥٠ ـ ١١٢٠ ق. م.) توسعوا غربا إلى كركميش وحلب والالاخ ، ثم جنوبا إلى قطنا وقادش. ويعتقد أنهم الذين قضوا على مملكة حاصور القوية في شمال فلسطين. ولعل نشاط الحوريين هو الذي حرّك الفرعون العظيم تحتمس الأول (١٥٣٥ ـ ١٥١٠ ق. م.) ، للقيام بحملته الشهيرة إلى فلسطين وسورية ، وصولا إلى الفرات الأعلى. وتفيد المسلّة التي أقامها على الجانب الأيسر من الفرات ، أنه اصطدم بالحوريين وهزمهم ، إلّا إنه لم يقض عليهم. وعلى الرغم من الانتصارات التي حققها ، أو ادّعاها ، في حملته هذه ، فقد ظلت محدودة الأثر ، ولم تنه الوضع في سورية وفلسطين لمصلحة مصر. وعلى العكس ، فبعد عودة الفرعون من حملته ، وبروز مشكلات داخلية في مصر ، عادت ميتاني لتمارس نشاطها في بلاد الشام والعراق ، وتصبح المنافس الرئيسي لمصر بشأن النفوذ في غرب آسيا.

وفقط عندما استتب الحكم في مصر ، وتسلم زمام السلطة تحتمس الثالث (١٥٠١ ـ ١٤٤٧ ق. م.) ، تجددت الحملات المصرية على فلسطين وسورية. ولعل

٧٠

السبب في ذلك يعود إلى تحرك ملوك كنعان ، بقيادة ملك قادش ، وربما بالتحالف مع ميتاني ، لإنهاء النفوذ المصري في فلسطين. وكانت لملك قادش كما يبدو أطماع توسعية في فلسطين. وتحرك الفرعون سنة ١٤٨٠ ق. م. لترسيخ الحكم المصري فيها ، والتقى ملوك كنعان في معركة مجدّو وهزمهم ، إلّا إنه عاد من دون القضاء عليهم ، الأمر الذي استلزم القيام بحملات كثيرة لاحقا لإخضاع بلاد الشام للحكم المصري ، ودرء الخطر الحوري.

وفي نقوش سيرته ، ترك تحتمس الثالث معلومات وفيرة عن بلاد الشام في أيامه. وتبرز دولة قادش (في أواسط نهر العاصي) كمحرك رئيسي ضد مصر ، وكما يبدو ، ليس بمعزل عن التحالف مع ميتاني. وفي أحد تلك النقوش يصف المعركة الكبيرة ضد تحالف ملوك كنعان بالقرب من مجدو. وقد باغت الفرعون أعداءه ، عبر سلوكه طريق وادي عارة الضيق ، الأمر الذي لم يتوقعه هؤلاء. وهكذا فرض عليهم القتال في مرج صغير (قنا) ، وحرمهم من الإفادة القصوى من مركبات الحرب الكثيرة التي جمعوها. لكن الجنود المصريين انصرفوا مبكرا إلى نهب المعسكرات ، الأمر الذي أتاح الفرصة لملوك الحلف الكنعاني من أجل التحصن في مجدّو ، وبالتالي ، التفاوض على شروط التسليم بسيادة مصر عليهم.

ويقول الفرعون متفاخرا : «وقف جلالتي الملكية ، وسمح لهم [الحكام] بالعودة إلى مدنهم وسافروا جميعا يركبون الحمير لأنني أخذت خيولهم.» وفي الواقع ، وبعد حصار دام سبعة أشهر ، من دون القدرة على اجتياح أسوار مجدّو ، رأى الفرعون القبول بشروط التسليم التي طلبها ملوك كنعان المحاصرين فأعطاهم العفو العام ، عنهم وعن جنودهم وعائلاتهم ، شرط أن يقبلوا السيادة المصرية ، ويسلموا أسلحتهم وخيولهم. وإذ تمّ الاتفاق ، وعاد كل منهم إلى بلده ، إلّا إن أمر السيادة لم يستتب. واضطر الفرعون إلى العودة إلى بلاد الشام في ١٥ حملة ، استطاع في نهايتها إخضاع سورية كلها لحكمه. ولكن ذلك كان إلى حين فقط ، إذ عاد ملوك كنعان إلى التمرد على سلطة الفرعون ، المرة تلو الأخرى.

وفي عهد تحتمس الثالث ، وصلت الإمبراطورية المصرية ذروة قوتها وتوسعها.

فقد خضعت له بلاد الشام ، لكنها لم تسلّم بالأمر ، وخصوصا مملكة قادش في سورية ، إذ ظلت تتحين الفرص للتمرد على الحكم الفرعوني. وكذلك ، وعلى الرغم من الهزيمة التي لحقت بدولة ميتاني الحورية ، في معركة كركميش سنة ١٤٧٢ ق. م. ، فإنها لم تسقط ، بل ظلت تصارع بشأن البقاء والسيادة ، على الأقل في شمال شرقي سورية. ثم عادت ودعمت قادش في تمردها سنة ١٤٦٣ ق. م. ، وهذا ما اضطر

٧١

تحتمس إلى مهاجمتها واحتلالها. وظل الصراع قائما بين ميتاني ومصر حتى سنة ١٤١٥ ق. م. ، إذ عقد الطرفان معاهدة سلام بينهما ، قامت على أساس نوع من توازن القوى.

ويتضح من الإجراءات التي اتخذها تحتمس الثالث إنه اعتبر الأراضي التي فتحها في بلاد الشام وحدة خاصة في الإمبراطورية المصرية. والظاهر أنه أبقى على التقسيم الإداري كما كان أيام الهكسوس ، وفي أغلب الأحيان ، أبقى على الحكام المحليين الذين أقسموا على الطاعة والولاء له. إلّا إنه عين مندوبين له لمراقبة الأوضاع ، وجباة لجمع الضرائب والأتاوات ، ورفدهم بحاميات عسكرية ، وأقام قلاعا لهذه الحاميات ، كما في بيسان مثلا ، وعلاوة على ذلك ، كان يقوم بين الحين والآخر بحملة عسكرية ، ربما سنوية ، لتدعيم هيبته ، أو لقمع تمرد ما.

ولضمان ولاء الحكام والنبلاء له ، عمد تحتمس إلى أخذ بعض أبنائهم رهائن في بلاطه. ومنهم من خدم في جيش الفرعون ، وتثقف على خدمته والولاء للحضارة المصرية ، ومن صفوفهم استبدل الفرعون الحكام الذين تمردوا عليه. وكان المنظور الفرعوني العام إزاء هذه الولايات أنها بمثابة حزام أمني لأراضي الإمبراطورية في مصر ، ومصدر للدخل والمواد الخام والبضائع. وفضلا عن المهمات القتالية عند الحاجة ، والإجراءات الأمنية الجارية ، كانت الولايات تدفع ثلاثة أنواع من الضرائب : ١) عينية : منتوجات زراعية وصناعية تحتاجها مصر ؛ ٢) طاقة بشرية : عمال في المعابد وأراضي الملك والنبلاء ؛ ٣) فتيان للخدمة في بلاط الفرعون وجيشه ، وفتيات للعمل كإماء في قصور الطبقة الحاكمة.

والانتصارات التي حققها تحتمس الثالث ، بإخضاع بلاد الشام وتحجيم دولة ميتاني ، جعلته القوة الرئيسية في الشرق الأدنى القديم ، وأصبح الجميع يخطب ودّه ، ويرسل إليه الهدايا ، ويسعى لإقامة علاقات صداقة معه. ولكن ذلك لم يدم طويلا. فالضرائب الثقيلة التي فرضها على السكان أرهقت كاهلهم ، والأتاوات التعسفية التي اقتصها منهم ، بالمال والرجال ، ضيقت عليهم الخناق ، وبالتالي زادت في حدة التذمر ، وتحيّن الفرص للتمرد. وقد وقع ذلك فعلا ، الأمر الذي اضطر خلفاء تحتمس إلى القيام بحملات جديدة لقمع الاضطرابات. وقد لجأ هؤلاء إلى سياسة الإجلاء الجماعي للسكان المحليين إلى مصر ، ، وتشغيلهم هناك في الأعمال العامة ، أكان ذلك للملك أو للمعابد.

وبعد توقيع معاهدة الصداقة بين ميتاني ومصر ، سادت فترة من السلام في المنطقة ، وخصوصا بعد تحديد مناطق النفوذ بينهما في بلاد الشام ، وبالتالي تبعية

٧٢

الممالك الكنعانية المحلية لكل منهما. وكان مجرى العاصي ، على العموم ، هو الحد الفاصل ، الأمر الذي يعني أن فلسطين والساحل الفينيقي كانا من نصيب المصريين. إلّا إنه في نهاية الربع الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد ، عاد الحثيون إلى البروز بقوة على مسرح الأحداث. فقضوا على ميتاني سنة ١٣٧٧ ق. م. ، وواصلوا زحفهم في أراضي سورية ، معتبرين أن مناطق نفوذ ميتاني هي ميراثهم الشرعي. واندلع الصراع بين مصر والحثيين ، الذين سعوا لإثارة القلاقل في مناطق النفوذ المصري ، لكنهم لم يقدموا على احتلالها.

وطالت الحرب بين الحثيين والمصريين ، واستمرت أكثر من قرن ، عجز فيها الطرفان عن الحسم ، نظرا إلى توازن القوى بينهما ، وأيضا بسبب بعدهما ، كلّ عن عاصمة الآخر ، كما أن الممالك الكنعانية في بلاد الشام كانت لها حسابات خاصة بها ، تسعى لتحقيقها من خلال توظيف الصراع بين القوتين لمصلحتها. ومنذ منتصف القرن الرابع عشر ، بدأت قبضة مصر على أرض ـ كنعان تضعف ، ليس إزاء الحكام المحليين فحسب ، بل أيضا تجاه قبائل رحالة ، عرفت باسم العابيرو (الحابيرو) من جهة ، وتجاه الحثيين ، من جهة أخرى. ومات توت عنخ أمون من دون وارث ، وسعت أرملته للتحالف مع ملك الحثيين ـ شوبيلوليوما ـ وحتى الزواج منه ، إنقاذا لعرشها ، لكنها لم تفلح.

وعلى أرضية الصراع الداخلي بين الفرعون وطبقة الكهنة ، الذي اتخذ طابعا لاهوتيا أيام أخناتون ، وإزاء التهديد الحثي من الشمال ، واختلال الأمن في أرض ـ كنعان ، بفضل العابيرو الرحل ، قامت السلالة ١٩ في مصر (١٣٢٣ ـ ١١٩٠ ق. م. تقريبا). وذلك بعد موت توت عنخ أمون من دون وارث ، وتولي بعض قادة الجيش ضبط الوضع الداخلي ، إزاء عجز أرملة الفرعون عن ذلك. وسعى فراعنة هذه السلالة ، بدءا بمؤسسها ، القائد رعمسيس (رامسيس) الأول (١٣٢٣ ـ ١٣٢١ ق. م. تقريبا) لاستعادة موقع مصر في غرب آسيا. وتبعه ابنه سيتي وحفيده رعمسيس الثاني ، بانتهاج سياسة تذكر بتلك التي قادها تحتمس الثالث من السلالة ١٨.

وبصعود السلالة ١٩ إلى الحكم في مصر ، بدأت مرحلة جديدة من تعاظم قوتها وتوسعها ، وظهرت آثار ذلك في فلسطين أولا. فرعمسيس الأول ، الذي حكم فترة قصيرة ، لم يوجه اهتمامه إلى الولايات المصرية في آسيا. لكن ابنه سيتي الأول ، الذي حكم نحو عشرين عاما (١٣٢١ ـ ١٣٠٢ ق. م.) تقريبا ، سارع إلى استعادة سيادة مصر في غرب آسيا. فأقام الحصون على الطريق المؤدي إلى فلسطين في شمال سيناء. وقام بحملات تأديبية ضد القبائل الرحالة (شوسي) ، التي كانت تهدد تجارة

٧٣

مصر مع بلاد الشام ، بل قطعت الطريق الدولي عند غزة. وكانت هذه الحملة بداية نشاطه.

وعاد سيتي إلى فلسطين ، وتجاوزها شمالا واصطدم بالحثيين. ثم سارع إلى إنقاذ الحامية المصرية في بيسان ، التي حاصرها تحالف كنعاني بين ملوك : فحل ورحوب وينوعام (على منابع الأردن). ولم يجد سيتي صعوبة في دحر هذا التحالف ، على الرغم من الإزعاج الذي سببه العابيرو لمؤخرة جيشه. وفي ينوعام تقبل مراسم طاعة حكام لبنان ، ما عدا عمورو التي استظلت بحماية الحثيين. ثم قام بحملة أخرى ، غير حاسمة ، ضد قادش وعمورو ، والأكيد أنه اصطدم بالحثيين. وترك سيتي مسلتين ـ إحداهما مكسورة ، في قلعة بيسان ـ تمجدان انتصاره على تحالف ملوك كنعان ، وفي المسلة المكسورة ، التي يصعب تحديد زمانها بالدقة ، يرد ذكر العابيرو بين القوى التي هزمها «الفرعون العظيم».

وفي نهاية القرن الرابع عشر قبل الميلاد ، مات العدوّان اللدودان : سيتي المصري ، ومورسيلي الحثي ، واحتل مكانهما ابناهما الشابان. وكان رعمسيس الثاني (١٣٠٠ ـ ١٢٣٣ ق. م. تقريبا) هو المبادر إلى فتح الصراع على الجانب المصري. فقام بحملة على مملكة عمورو في شمال لبنان ، ولم يشتبك مع الحثيين ، لكن الحرب معهم بدأت فعلا. وقد نقش رعمسيس الثاني مسلة على نهر الكلب تخلد الحملة. وفي عام حكمه الرابع ، كما يرد في سيرته ، خرج على رأس أربعة فيالق ، من المشاة والفرسان ، والتقى الحثيين عند قادش ، ودارت معركة شارك فيها أكثر من ٠٠٠ ، ٢٠ رجل على الجانبين ، ولعلها الأفضل توثيقا من أية معركة أخرى معروفة ، قبل معركة الماراثون بين الفرس واليونان سنة ٤٩٠ ق. م.

ويفاخر رعمسيس ، الذي نجا من الموت بأعجوبة ، بفضل شجاعته وتردد ملك الحثيين ، بأنه أحرز النصر في المعركة. ولعله على حقّ ، مع أن الصراع مع الحثيين لم يحسم ، وقادش لم تسقط بيده ، وعمورو عادت إلى الانحياز إلى الحثيين ، وكنعان تمردت فور انسحابه منها عائدا إلى مصر. ولذلك ، اضطر رعمسيس إلى القيام بحملة أخرى إلى فلسطين ، ودمر المدن ، ومع ذلك عمد إلى عقد معاهدة سلام مع الحثيين. وبنود هذه المعاهدة الدبلوماسية الدولية وصلت إلينا بصيغتيها ـ الحثية والمصرية. وهي تشير إلى توازن القوى بين الدولتين. وأقرّ الطرفان بالحدود بينهما ، كما كانت أيام سيتي الأول. وقد توصلا إليها بعد الاقتناع بعبثية استمرار الحرب بينهما ، وخصوصا أنهما يواجهان عدوّا مشتركا ، هو شعوب البحر. وصارت المنطقة التابعة للحكم المصري تعرف باسم أرض ـ كنعان ، الوارد ذكرها في التوراة.

٧٤

ويعتبر تل القدح (أو تل وقاص) ، وهو موقع المملكة الأهم في فلسطين في تلك الفترة ـ حاصور ـ أكبر مواقع هذا العصر في فلسطين. وتبلغ مساحته نحو ٧٠٠ دونم. وقد كشفت الحفريات فيه عن مبان ضخمة متنوعة ، أهمها الأكروبولس ، الذي يعود إلى عصر الهكسوس ، وقصر كبير عند البوابة ، التي يعتقد البعض أن سليمان بناها لاحقا. ويرد ذكر حاصور في وثائق ماري ، من العهد البابلي القديم. ويظهر أن الموقع كان يوازي بأهميته الدول العمورية الكبيرة في شمال سورية ، مثل : يمحاض (حلب) وقطنا (تل المشرفة) إلى الشمال من حمص وكركميش وإبلا (تل مرديخ). وتحتل مجدّو (تل المتسلم) في مرج ابن عامر ، عند مدخل وادي عارة ، الذي يشكل حلقة في طريق البحر الدولي المهم ، موقعا استراتيجيا مرموقا. وقد كشفت الحفريات فيها ، وفي عدد من المواقع الأخرى ، آثارا معمارية فخمة من هذا العصر.

ويبقى مصطلح كنعان مبهما. ويرجح أنه اشتقّ من صنعة صباغة الأرجوان ، أو التجارة به ، والتي مارسها السكان في عصر البرونز ، الذين تطلق التوراة عليهم لقب «التجار» (أشعيا ٢٣ : ٨). والكنعاني وفق هذا المعنى هو تاجر البضائع الأرجوانية ، أو صانعها ، الذي أوجد لها سوقا في مصر ، وعرف بها. وأطلق الاسم على سكان المدن الفينيقية الساحلية ، وتطور ليشمل المنطقة جغرافيا ، ويكتسب مضمونا إثنيا ، فأصبح يدل على الأرض والسكان معا. أمّا كيف كان الكنعانيون يسمون أنفسهم ، فليس لدينا ما يدل على ذلك في وثائق تعود إليهم. وهناك من يقول إن الاسم مشتق من الفلاحة ، والكنعاني هو الفلاح ، ساكن المروج ، العامل بالزراعة ، خلافا ل «العابيرو» أو «الشاسو» أو «الشوتو» ، من الأقوام الرحل.

رابعا : العبرانيون

على العكس من الكنعانيين ، الذين تعرضت علاقتهم التاريخية بفلسطين إلى محاولات الطمس والتبديد ، فقد جرى إبراز علاقة العبرانيين بها وتضخيمها ، إلى حد شيوع فكرة الترابط التاريخي بينهم وبينها. وهذا تشويه متعمد للتاريخ. وتشويه آخر جرى تعميمه هو الخلط ، الذي لا يخلو من قصد ، بين العبرانيين وبني إسرائيل ، إذ سوّى بينهما ، وهو ليس صحيحا ، إذ إن العبرانيين شيء ، وبنو إسرائيل شيء آخر. وبفعل هذا التشويه صارت فلسطين تعرف على نطاق واسع باسم أرض ـ إسرائيل. وقد أدّت الدراسات التوراتية ، وليس من قبل اليهود فقط ، دورا رئيسيا في هذا التشويه الشائع.

لقد جهد حملة لواء الدراسات والآثار التوراتية في توظيف غموض المصادر

٧٥

الأخرى ، أو غيابها ، في غير مصلحة علاقة الكنعانيين وسواهم بفلسطين. ولكنهم ـ وعلى العكس من ذلك تماما ـ عندما كان الأمر يتعلق بالعبرانيين عملوا على سدّ الثغرات بتأويلات واجتهادات لا تصمد أمام النقد العلمي. وزجت التوراة ، التي هي كتاب ديني في الأصل ، وليس مصدرا تاريخيا ، في خدمة هدف تغييب الشعوب التي عمّرت فلسطين ، وبالتالي إبراز الحضور الإسرائيلي ، الذي استحوذ بدوره ، من دون غيره ، على الإرث العبراني في تاريخ فلسطين. وراح الباحثون في الدراسات والآثار التوراتية يواجهون معارضيهم في الرأي بالسؤال : هل لديكم مصدر أفضل يدحض ما تورده التوراة؟

وفي الواقع ، فإن ما يتوفر حتى الآن من مصادر مكتوبة وغيرها ، يدحض الرواية التوراتية ، ليس في العام فحسب ، بل في الخاص أيضا. ففي المصادر ـ المصرية والعراقية والسورية ـ لا توجد إشارات معاصرة لما تسميه التوراة أبناء إسرائيل ، أو لمن له علاقة توراتية بهم ، قبل القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، وحتى في القرون اللاحقة ، بما في ذلك مملكة داود وسليمان ، فالإشارات قليلة جدا ، ولا توحي بأهمية خاصة لهذه الظاهرة المركزية في التوراة. في المقابل ، هناك غياب لأية دلائل في التوراة ، تنم عن معرفة كتبتها بمصر والعراق أو بلاد الشام ، في الألف الثاني قبل الميلاد ، والذي تسميه الدراسات التوراتية عصر الآباء ، أي عصر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ولا حتى معرفة محددة بمسألة دخول العبرانيين إلى مصر ، وخروجهم منها ، والروايات متناقضة.

ويلفت الانتباه حقا غياب أي ذكر في التوراة للإمبراطورية المصرية التي كانت تحكم أرض ـ كنعان في عصر الآباء ، كما تسميه. وكتبة التوراة لا علم لهم بالحملات الفرعونية المتكررة في غرب آسيا ، ولا بالتغلغل الحوري والحثي. وليست لهم دراية بحكام مدن ـ الدولة المنتشرة في كل أرجاء البلد ، وحتى أسماء الفراعنة العظام في هذه الفترة الطويلة غير معروفة لديهم. في المقابل ، هناك عملقة لشخصيات لم تجد المصادر الخارجية أية أهمية لذكرها ، فغابت عنها تماما. وعلاوة على ذلك ، هناك خلط بالأحداث وبأسماء المواقع والتواريخ. ومثل هذا الجهل بالواقع الذي حاول كتبة التوراة توظيفه ، يضع علامة استفهام كبرى على تأريخية الروايات التوراتية. ويتضح لنا من الأمور المعروفة حتى الآن عن تاريخ الشرق الأدنى القديم ، وهي غير قليلة ، أن بؤرة اهتمام التوراة هي جماعة هامشية ، لم تترك بصماتها على المحيط الذي عاشت فيه. ولذا ، فالأهمية الكبيرة التي يوليها كتبة التوراة لهذه الجماعة ـ العبرانيين والإسرائيليين ـ لا تجد لها صدى في المصادر الأخرى. وبناء

٧٦

عليه ، تبقى التوراة على العموم المصدر الوحيد تقريبا عن هذه الجماعة. والجهد الضخم الذي بذله هؤلاء الكتبة في تصنيف وتحرير الروايات المتناقلة داخل الجماعة ، وفي صوغها المتأخر على صورة تاريخ الأمة اليهودية ، لا يجد ما يدعمه ، لا في المصادر التاريخية الأخرى المعروفة ، ولا في علم الآثار الذي حقق إنجازات مهمة على صعيد المنطقة.

وما اصطلح على تسميته علم التاريخ التوراتي ، انطلق من عدد من المسلمات والمفاهيم الطوباوية ، التي لا تصمد أمام النقد العلمي. وبالتأكيد ، فإن المعتقدات الدينية ، وهي فعل إيمان ، قد أدّت دورا رئيسيا في صوغ الفلسفة التي يستند إليها هذا العلم. وبناء عليه ، فالروايات التي يوردها الكتاب المقدس ، جرى اعتمادها على أساس أنها كتابات تاريخية حقيقية ، على الباحثين وزر الكشف عن التعبيرات المادية لها في الواقع. ومن هنا ، نشأ علم الآثار التوراتي ، الذي جاء ليقيم الدليل المادي على صحة تلك الروايات ، بينما هو يستند إليها أصلا في تحديد الأحداث والمواقع ، الأمر الذي أدخل هذه الدراسات في حلقة مفرغة ، (دور) كان نتاجها «تاريخ» يقوم على التفكير الدوري.

والباحثون الموضوعيون اليوم ، في وضع أفضل لإخضاع هذه الروايات التوراتية للتمحيص والتقويم ، بالاستناد إلى المصادر الأخرى المتوفرة. ومع ذلك ، فهناك وجهات نظر متباينة بينهم. فمنهم من ينفي تأريخية الروايات عن عصر الآباء ، جملة وتفصيلا ، ويعتبرها أساطير وملاحم أدبية ، كتبت في عصور متأخرة ، ومن منظور يعالج الماضي بإسقاطات الحاضر ، أو العكس. ومنهم من يرى فيها نوى حقائق تاريخية ، جرى تضخيمها بالمراجعات وأعمال التحرير والتصنيف اللاحقة. ومع ذلك يبقى النهج التقليدي ، المتأثر بالانحياز الديني ، أو السياسي ، شائعا اليوم. وهذا النهج لا يدحضه نهج مقابل ، يعتمد الأساليب نفسها في البحث عن الحقيقة التاريخية ، ويستند إلى روايات تحمل الطابع الأسطوري نفسه.

وأغلبية المؤرخين غير التوراتيين ترى اليوم أن العبرانيين هم العابيرو ، أو الحابيرو ، الذين يرد ذكرهم في وثائق ماري ونوزي ، منذ بداية الألف الثاني قبل الميلاد. ويرد المصطلح في كتب «اللعنات المصرية» من تلك الفترة أيضا. ويفسره البعض أنه يعني «الرحل» ، من الجذر السامي «عبر». بينما يعتبره آخرون مصريا ، ويفسرونه بمعنى «الرعاة المتنقلين» ، أو «مثيري الغبار». وتطلق عليهم المصادر المصرية كنية أخرى ، هي «شوسي» أو «شاسو» ، التي تعني «الرحل» (قطاع الطرق). وبناء عليه ، فهم من القبائل والجماعات العمورية بصورة عامة ، لم تستقر

٧٧

وتعمل بالزراعة ، وإنما ظلت على الأطراف ، بين الصحراء والخضراء ، تعمل أساسا بالرعي ، أو بالتجارة الدولية ، عبر نقل البضائع على دوابها ، أو توفير الحماية لها ، أو حتى المساهمة الفعلية فيها.

في هذا الإطار ، يمكن قبول النوى التاريخية للروايات التوراتية ، بعد تجريدها من العنصر القصصي والأسطوري الذي نسج حولها على مرّ العصور. فالوصف التوراتي للجماعة التي قادها إبراهيم ، بخطوطه العريضة ، وما تورده الأسفار الأولى من التوراة عن علاقة تلك الجماعة ببطون أخرى من قبيلتها ، ينسجم بالعام ، بغض النظر عن الخاص ، مع الخريطة السكانية للهلال الخصيب ، في بداية الألف الثاني قبل الميلاد. فإلى جانب سكان المدن المسوّرة ، التي قامت وازدهرت في ذلك العصر ، أكان ذلك في السهول ، أو المروج ، أو على الطرق الرئيسية للتجارة الدولية ، كانت هناك عناصر بدوية متنقلة على أطراف الصحراء ، وفي المناطق الجبلية قليلة السكان. ويبدو أن العبرانيين ينتمون في بداية ظهورهم في فلسطين إلى هذه العناصر.

وعلى افتراض أن قصة رحيل إبراهيم ، وغيره من أقاربه وأبناء عشيرته ، من العراق إلى فلسطين ، مرورا بمدينة حرّان ، ليست أسطورة من نسج الخيال ، فإنها بالتأكيد لا يمكن اعتبارها تاريخا ، لأن التاريخ غائب عنها تماما. وتسترعي الانتباه ظاهرة أن الشخصيات التي تركز عليها الروايات التوراتية ـ إبراهيم وتيرح وناحور ولوط وإسحاق ويعقوب وحتى يوسف ، لا يرد لها ذكر في المصادر الأخرى. وإذا أمكن استيعاب ذلك على أساس أن هذه الشخصيات المركزية في التوراة هي هامشية جدا بالنسبة إلى المراكز المدينية الكبرى في ذلك العصر ، فإن ما يدعو إلى الاستغراب هو تعذر تعريف شخص واحد من الأسماء الواردة في تلك الروايات بثقة ، بالاستناد إلى النصوص التاريخية المتوفرة.

ومشكلة أخرى تواجه الباحث في هذه الروايات ، تتعلق بغياب التواريخ ، وعفوية استعمال الأعداد. وعلى افتراض تاريخية الأحداث المذكورة في أسفار التوراة القديمة ، وبناء على الوصف العام للواقع السكاني والاجتماعي ـ السياسي ، في مناطق تجوال إبراهيم وعشيرته ، ففي الإمكان اعتبار حدوث هذه الهجرة في أية فترة خلال ألف عام ، منذ سرجون الأكادي إلى الاحتلال الإسرائيلي لبعض أرض ـ كنعان ، أي في الفترة (٢٣٠٠ ـ ١٣٠٠ ق. م. تقريبا). وتتبلور لدى الباحثين مؤخرا نظرية تربط هجرة العبرانيين إلى فلسطين ، ونزول بعضهم إلى مصر ، ومن ثمّ الخروج منها على دفعات ، بحركة الهكسوس في بلاد الشام. ويقول البعض إن المسوحات الأثرية في شرق الأردن وجنوب فلسطين تؤيد ذلك.

٧٨

إن الربط بين رحيل العبرانيين وهجرات القبائل العمورية ، يضعهما في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. ويرى كثيرون من العلماء أن إبراهيم عاش نحو القرن الثامن عشر قبل الميلاد. وبناء على ذلك ، فإن نزول جماعات منهم إلى مصر ، حدث على الأغلب في إطار توغل الهكسوس في الدلتا. وقصة يوسف ، إذا انطوت على حقيقة تاريخية ، فعلى الأغلب أنها وقعت في أثناء حكم الهكسوس ، إذ ارتقى في بلاط ملوكهم إلى منصب رفيع. وعبودية العبرانيين في مصر بدأت بعد طرد الهكسوس منها ، على اعتبار أنهم كانوا جزءا من العناصر الغريبة المهزومة ، التي طردت من مصر ، بينما بقي العبرانيون فيها. وخروجهم بقيادة موسى ، وقع بعد ذلك بفترة زمنية. وبحسب الرواية التوراتية طالت العبودية مدة ٤٠٠ عام.

والرواية التوراتية تؤكد أن العبرانيين كانوا جماعة سامية غربية ، بدأت رحلتها في جوار مدينة أور في جنوب العراق ، ومنها إلى حرّان (حاران) في شمال بادية الشام ، التي تفيد وثائق ماري ونوزي أنها كانت مستقرا لقبائل عمورية في بداية الألف الثاني قبل الميلاد. وإذ استقر جزء منهم في حرّان ، تابع الباقون ، ومنهم إبراهيم وعائلته وأقاربه ، الطريق إلى شرقي الأردن وفلسطين. وفي فلسطين تنقل إبراهيم وأبناؤه وأتباعه بين النقب والمنطقة الجبلية الوسطى ، إلى حدود شيكم (نابلس). وفي هذه الأراضي رعوا قطعانهم ، بعيدا عن المراكز الكنعانية الحضرية القوية ، وعن متناول يد الحاميات المصرية.

وقصة إبراهيم وأبنائه وأتباعهم في التوراة تشير إلى جماعة هامشية ، تعيش حياة قبلية شبه بدوية ، يحكمها نظام اجتماعي أبوي ، وتعمل أساسا في رعي الغنم والماعز ، وتتنقل في المواسم طلبا للماء والكلأ. وفقط إسحاق (يتسحاق) عمل بالزراعة الموسمية في النقب الشمالي ـ الغربي. وهذه الجماعة كانت تضرب خيامها على أطراف المدن ، بموافقة حكامها ، وتحت حمايتهم. وهذا الوصف التوراتي العام يتطابق إلى حد كبير مع المضمون الاجتماعي لمصطلح عابيرو ، أو شاسو ، المعروف من مصادر أخرى ، والذي يرد في التوراة بصيغة عبريم ، دلالة على طبقة اجتماعية بدوية رحالة ، ثمّ أصبح لاحقا يستعمل للدلالة على بني إسرائيل فقط.

وإذا صحّ أن العبرانيين هم العابيرو ، فإنهم يكوّنون جزءا من طبقة واسعة من سكان الهلال الخصيب ، تميّزت بحياة البداوة وعدم الاستقرار ، وتنقلت على أطراف الصحراء ، إذ لم تكن الأعراف الاجتماعية والسياسية لسكان المدن تسري عليها. وعائلة إبراهيم بالذات ارتبطت مع المدن الكنعانية ، وخصوصا حبرون (الخليل) وأورشليم وشيكم ، بعلاقات «جوار» (جير ، بالعبرية) لفترة طويلة. وإطلاق الاسم

٧٩

«عبرانيين» على «إسرائيل» حدث متأخرا ، ومن قبل سكان المدن ، أي الآخرين ، وتبناه «بنو إسرائيل» للتعريف بأنفسهم إزاء هؤلاء الآخرين. وهكذا ، وبمرور الزمن ، انتحل جزء صغير من هذه الطبقة الواسعة اسمها العام ، بينما الأجزاء الأخرى تبنت أسماء مختلفة.

ويستفاد من التوراة أن منطقة ترحال إبراهيم وعائلته امتدت من شيكم في الشمال ، مرورا بمدينة بيت أيل والعيّ وسالم (أورشليم) وحبرون (الخليل) وبئر السبع في النقب. والترحال يحدده بلا شك موسم الرعي. ففي الشتاء كانوا ينزلون إلى المنخفضات ، وصولا إلى البادية والنقب ، أمّا في الصيف فيصعدون إلى الجبال والمروج ، ويتمددون شمالا حتى دوتان (بالقرب من جنين). وفي السنوات الماطرة كانوا يزرعون مجاري الأودية في النقب الشمالي قمحا وشعيرا ، كما فعل إسحاق في وادي جرار (وادي غزة). وفي سنوات المحل المتتالية ، وصلوا في تجوالهم إلى الدلتا الشرقية.

وفي تجواله بالبلاد ، كان إبراهيم يعرف باسم أبرام العبري ، دلالة على مهنة الرعي التي كان يتعاطاها ، ونمط الحياة الذي يعيشه ـ التنقل وعدم الاستقرار أو الارتباط بملكية الأرض. وهو يشعر أنه غريب في أرض ـ كنعان ـ جار ـ عبر اتفاق يعقده مع حاكم المدينة التي يضرب خيامه على أطرافها ، إلى حد أنه يشتري لنفسه قبرا بثمن كامل. وإسحاق يحاول أن يستقر ويتحوّل إلى الزراعة في وادي جرار (وادي غزة). أمّا يعقوب فيعمل بالرعاية ، ويشتبك مع أصحاب الأراضي التي يجول بقطعانه فيها ، ويحاول أخذ الأرض بالقوة ـ بالقوس والسيف ـ وذلك بالقرب من شيكم. ويعقوب هو إسرائيل ، الذي أسبغ اسمه على ذلك الجزء من العبرانيين الذي أصبح يعرف بكنية بني إسرائيل.

وبحسب الرواية التوراتية ، انقسم العبرانيون أيام إبراهيم إلى مجموعات إثنية ، أقامت في جنوب فلسطين وشرقي الأردن. وبعض هذه المجموعات ظل قريبا من بعضه ، مثل : أدوم وإسماعيل ومؤاب وعمون ، وبعضها ابتعد مثل : قيدم وعماليق وغيرهما. ويمكن الافتراض أنه في نهاية عصر الهكسوس في مصر ، ومع توسع المدن وازدياد قوتها ، ضاق مجال حركة القبائل ، ودفعت أكثر فأكثر إلى أطراف الأرض الآهلة. وفي تلك الأوضاع خرج يعقوب إلى مصر من منطقة بئر السبع. وكذلك ترك عيسو أرض ـ كنعان ، واستقر في سعير (أدوم). وهكذا فعل المؤابيون والعمونيون في الأراضي التي أصبحت لاحقا ممالك لهم.

وتصف التوراة هجرة العبرانيين إلى مصر ، وبقاءهم في أرض غوشن (الدلتا) ،

٨٠