الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

كمنحة أعطاها الفرعون لهم بسبب يوسف ، الذي تبوّأ موقعا مرموقا في بلاطه. إلّا إنه ليس هناك أيّ دليل آخر على نزولهم إلى مصر ، مقامهم فيها ، وخروجهم منها. وتروي التوراة أنه بعد فترة ، استعبدهم الفرعون ، ووظفهم في بناء عاصمته ، وهو أمر لا يستبعد ، وخصوصا بعد طرد الهكسوس من مصر. وفي الواقع ، فهناك وثيقة من أيام رعمسيس الثاني (القرن الثالث عشر قبل الميلاد) تؤكد استخدام العابيرو في بناء هيكل رعمسيس. وإذ تورد الوثائق المصرية ذكر هروب جماعات مضطهدة من العبيد شرقا إلى سيناء ، فإن أسطورة خروج بني إسرائيل من مصر ، كما ترد في التوراة ، لا تمتلك مقومات الرواية التاريخية.

ومن الممكن أن حروب رعمسيس الثاني مع الحثيين ، هي التي أتاحت فرصة الهروب للعناصر السامية ، التي بقيت في مصر بعد طرد الحكام الهكسوس منها. وبناء عليه ، فهذا الهروب وقع في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، أيام حكم رعمسيس الثاني الطويل والمليء بالحملات العسكرية. وفي نصب تذكاري من السنة الخامسة لحكم مرنفتاح (نحو ١٢٢٠ ق. م.) ، يمجد انتصاره على الفلسطيين ، يرد ذكر إسرائيل كعنصر مستقر في جبال فلسطين الوسطى. وهو كما يظهر في هذه الوثيقة يشير إلى كيان يمتلك ميزات الشاسو ، في جبال نابلس. وفي ضوء هذا الانتشار القبلي ، عاد المصريون إلى تحصين الحاميات العسكرية في بيسان ودير علّا ، لحماية طرق التجارة المجاورة.

ولا يمكن اعتبار الرواية التوراتية عن خروج بني إسرائيل من مصر ، وتيههم في الصحراء مدة أربعين عاما ، وما رافق ذلك من قصص ، وثيقة تاريخية. وباستثناء أساس الحدث ، أي عملية الخروج بحد ذاتها ، والتي قد تنسجم مع التطورات اللاحقة لطرد الهكسوس ، فالتفصيلات الأخرى جميعها لا يمكن اعتمادها كوقائع تاريخية. لقد أصبح هذا الخروج ، في الصيغ اللاحقة للتراث الديني اليهودي ، رمزا للانعتاق وتبلور شخصية الأمة اليهودية. فأسبغت عليه هالة من القدسية ، وأضفي عليه طابع الإرادة الإلهية ، وبالتالي أسطورة شعب الله المختار ، الأمر الذي استلزم التعتيم على مجريات الأحداث كما جرت في الواقع. ولا غرو أن الأساطير والقصص والعجائب والخوارق اختلطت في الرواية عن تلك الأحداث.

ليس هناك ما يدعم الوصف العجائبي التوراتي لأحداث ومواقع رحلة الخروج. والجانب الجغرافي من الرحلة لا يزال غامضا ، إذ إن أمكنة عبور البحر الأحمر ، ونزول الوحي في جبل سيناء على موسى ، وكذلك دخول القبائل أرض ـ كنعان ، غير قابلة للتعريف والتحديد. ومع ذلك ، فقد تبلور في التراث اليهودي أن جبل سيناء هو

٨١

مقر إقامة «إله إسرائيل» ، وهناك سلمت التوراة إلى موسى. وفي «التيه» تبلورت شخصية الجماعة التي أسميت أبناء إسرائيل. والتي أسبغ عليها لاحقا مصطلح الأمة اليهودية ، وتشكل وعيها لذاتها على أساس «الاختيار الإلهي» ، والتمايز عن بقية الشعوب ، والفهم الحتمي للتاريخ ، وعلاقة هذا التاريخ بالجمع بين اليهود ، وما يسمونه أرض إسرائيل ، هو البديل لما كان يعرف بأرض ـ كنعان.

خامسا : الفلسطيّون

ليس معروفا بالدقة حتى الآن من أين جاء ذلك الشعب ـ أو مجموعة الشعوب ـ الذي عرفت فلسطين به ، كليا أو جزئيا ، على الدوام أو على فترات متقطعة ، خلال السنوات الثلاثة الآلاف الأخيرة ، حتى يومنا هذا. ومرة أخرى ، ليس أكيدا أنهم عرّفوا بأنفسهم بهذا الاسم ، لكن المصريين أطلقوه عليهم ، كما ورد في وثائقهم. فقد ورد ذكرهم في عدد من المصادر المصرية ، وخصوصا في اللوحات الجدارية من مدينة هابو ـ عاصمة رعمسيس الثالث (١١٨٤ ـ ١١٥٣ ق. م. تقريبا). والصيغة الهيروغليفية للاسم هي «بلست». أمّا السجلات الأشورية فأوردته بصيغة «بلستو» ، وفي التوراة بصيغة الجمع «بلشتيم».

بعد المعاهدة بين مصر والحثيين ، سادت فترة من الهدوء والاستقرار ، كانت الحدود فيها مفتوحة للتجارة والتبادل الحضاري ، من مصر حتى البحر الأسود ، ومن الفرات إلى البحر الأبيض المتوسط وبلاد اليونان. وشهد الشرق الأدنى القديم في العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، فترة من الازدهار والسلام والعلاقات التجارية والحضارية ، تعززت بزواج رعمسيس من ابنة ملك الحثيين ، حاتوسيلي الثالث. ولكنها كانت فترة الهدوء الذي يسبق العاصفة ، والتي جاءت فعلا ، وهذه المرة من الشمال الغربي ، من منطقة بحر إيجة ، عبر موجات من الغزاة ، عرفوا باسم شعوب البحر ، ومنهم الفلسطيّون. ووصلت هذه الموجة ذروتها في النصف الأول من القرن الثاني عشر قبل الميلاد.

لقد تضافرت عوامل متعددة ، لعل أهمها ضعف الإمبراطوريتين ـ الحثية والمصرية ـ لتقذف إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط هجرات واسعة ، غيّرت وجه العالم القديم. وهذه الهجرات أنهت عصر البرونز ، ودشّنت عصر الحديد ، نحو سنة ١٢٠٠ ق. م. وإذ استطاعت مصر أن تصمد في وجه الغزاة ، وتصدهم عن التوغل في أراضيها ، وتفرض عليهم الاستقرار في الساحل الفلسطيني ، فإن مملكة الحثيين سقطت جراء ضرباتهم. وبسقوط هذه المملكة ، فتح الباب أمام

٨٢

الأشوريين للتحرك وملء الفراغ الذي تشكل ، من جهة ، وأمام الأراميين للبروز كقوة في قلب سورية ، مركزها دمشق ، من جهة أخرى. وكذلك ، وإلى الجنوب تحرك العمونيون والمؤابيون والمدينيون والأدوميون والإسرائيليون ، لتثبيت استقلالهم على الأراضي الواقعة في أيديهم وتوسيعها ، وخصوصا على حساب الكنعانيين ، في وسط فلسطين وجنوبها.

ولأسباب متعددة ، أدّت الدراسات التوراتية دورا فيها ، يبرز الفلسطيّون إلى جانب الإسرائيليين ، من دون سواهما ، في أعمال المؤرخين والأثريين. وفي المقابل ، يغيب عن هذه الأعمال ، بدرجات متفاوتة ، الدور الذي قام به سكان البلد الأصليون ـ الكنعانيون ـ وكذلك نتائج استقرار القبائل العمورية والأرامية ، التي كانت تجوب هضبة شرقي الأردن ، وراحت تقيم ممالكها الخاصة وتبلور شخصيتها. فالتوراة هي الشاهد الوحيد المكتوب تقريبا على المرحلة التي سبقت قيام مملكة إسرائيل. وبغياب مصادر أخرى ، والجنوح نحو توظيف علم الآثار في خدمة الرواية التوراتية ، وبالتالي تغييب القوى الأخرى : الكنعانيين والعمونيين والمؤابيين والمدينيين والأدوميين ، تبقى صورة تاريخ فلسطين لهذه الفترة مشوهة.

وقد غلب على شعوب البحر اسم الفلسطيين مع أنهم كانوا جماعات متعددة ، وتذكر المصادر ائتلافا بين سبع منها ، سبق صدام رعمسيس الثالث بهم في عام حكمه الثامن ، أي نحو سنة ١٢٠٠ ق. م. ففي ذلك العام قام الفرعون بحملة على الساحل السوري ـ الفلسطيني ، وهزم فيها الغزاة. والمصدر الوحيد للمعلومات عن هذه الحملة هو سجل رعمسيس نفسه ، المحفوظ في قبره بمدينة طيبة. ولقد وصل رعمسيس الثالث إلى الحكم بعد موت والده رعمسيس الثاني ، وبعد فترة من عدم الاستقرار الداخلي في مصر حيث دام حكمه ٢٥ عاما. واستطاع في السنوات الأولى من توليه الحكم دحر الغزاة ، أكانوا من الغرب (ليبيا) ، أو من الشمال ـ شعوب البحر.

وحركة شعوب البحر دشّنت عصرا جديدا في تاريخ الشرق الأدنى القديم ، هو عصر الحديد. وإذا كان العامل الموضوعي لتغلغل هؤلاء الغزاة في الجناح الغربي من الهلال الخصيب هو ضعف القوى المحلية ، وعجزها عن صدهم ودحرهم ، كما كانت تفعل سابقا ، فإن العامل الذاتي لذلك الغزو لا يزال مسألة تباينت فيها آراء المؤرخين. وإذ يسود الاقتناع بين الباحثين بأن دوافع هذه الحركة الجامحة تكمن في التطورات التي وقعت في بلاد اليونان وبحر إيجة وغرب الأناضول ، فإن الحوافز المباشرة لهذه الهجرة الواسعة ، لا تزال تثير نقاشا بينهم. ففي غياب المصادر الكافية ، تتضارب

٨٣

الآراء والنظريات بشأن العوامل المحركة لهذه الاندفاعة الضخمة ، التي غيّرت اللون السياسي للشرق الأدنى القديم كله.

وبينما أدخلت حركة شعوب البحر نهجا جديدا في الصراع السياسي بشأن الهيمنة على المنطقة ، سوف يتكرر لاحقا ، فإن حركة القبائل المحلية ، واستقرارها وبلورة شخصيتها ، وبالتالي التعبير السياسي عن ذلك بممالك جديدة ، ظلت تتبع النمط السابق نفسه المعروف منذ قرون طويلة. فحتى الآن ، كان الصراع يدور بين مركزين رئيسيين ـ العراق ومصر ـ وما بينهما في بلاد الشام ، المتأثرة سلبا وإيجابا بهذا الصراع ، في حين أن نزاعاتهما مع الغزاة من ليبيا في الغرب ، أو مع عناصر هندية ـ أوروبية من الشرق والشمال الشرقي لم تتوقف. أمّا الآن فقد دخل الشمال الغربي ، الأمر الذي شكّل سابقة كان من شأنها أن تتكرر في العصور اللاحقة ، كما حدث في حملة الإسكندر المقدوني ، ولاحقا الاحتلال الروماني ، فما بعده حتى يومنا هذا.

وإذ تتضارب الآراء بشأن حوافز هجرة شعوب البحر ، بين الجوع والجشع والقرصنة ، أو بين الانهيار الاقتصادي والكوارث الطبيعية والضغط الآتي من الشمال ، فإن هناك اتفاقا على أن انحلال «ائتلاف مسينا» ، وما تبعه من سقوط طروادة ، شكلا إيذانا بانفجار هذه الحركة الواسعة. وقد وقع ذلك نحو سنة ١٢٠٠ ق. م. وبفضل الروح القتالية العالية لتلك الشعوب ، وتفوق سلاحها المصنوع من الحديد ، استطاعت تحقيق النصر على جيوش الإمبراطوريتين ـ الحثية والمصرية ـ وأتباعهما ، وخصوصا بعد الضعف الذي اعتراهما جرّاء الصراع الطويل من دون حسم. وفي فترة لا تزيد عن قرن من الزمن ، اتخذ الشرق الأدنى القديم شكلا سياسيا جديدا ، حدد المتنافسون الجدد فيه مسار تاريخه في عصر الحديد.

ففي نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، بدأت حركة شعوب جديدة من منطقة بحر إيجة ، في اتجاه الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وشمال الدلتا في مصر. وهناك من يعزو هذه الحركة إلى الضغط الناتج عن توسع قبائل يونانية من بلاد البلقان جنوبا. وهذا التحرك معروف من أيام الفرعون مرنفتاح (١٢٢٤ ـ ١٢١٦ ق. م. تقريبا) ، الذي واجه تحدّيا مزدوجا ـ من الغرب (ليبيا) ، ومن الشمال (بحر إيجة).

وتفيد المصادر المصرية أن هذا الفرعون تغلب على الغزاة ودحرهم. لكن هذه الموجة كانت الطليعة فقط ، إذ تبعتها موجات أكبر وأعظم ، وكان أثرها على غرب آسيا أشدّ وقعا منها على مصر. وعندما استطاعت القوى المحلية صدّ الغزاة ، اندفعوا في اتجاه آخر ، وبذلك تركوا بصماتهم في جميع أرجاء حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقي.

٨٤

ومع مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، راحت هذه الموجة تتعاظم وتتقدم برّا وبحرا ، من آسيا الصغرى ، مرورا بسورية ، ففلسطين ، فمصر. وأخذت في طريقها مملكة الحثيين ، وكذلك المدن السورية : كركميش وأوغاريت وأرواد ومملكة عمورو في شمال لبنان. وبفضل سوء الإدارة المصرية في ولاية كنعان ، لم يجد الغزاة مقاومة تذكر في اندفاعهم نحو قلب مصر. وكانت هذه الأخيرة تمرّ بفترة من الاضطراب الداخلي ، بعد موت مرنفتاح. وهذا ما زعزع أركان حكمها في فلسطين ، وجعل الولاة فيها محبطين ، أكان ذلك إزاء حركة شعوب البحر من الغرب ، أو تغلغل القبائل من الشرق ، وخصوصا تمركز بني إسرائيل في سلسلة الجبال الوسطى ، وتمددهم في اتجاه مرج ابن عامر والجليل الأسفل.

وبعد أن تولى رعمسيس الثالث الحكم ، ونجح في ضبط الأوضاع الداخلية وإقامة سلطة مركزية قوية ، توجه إلى مقارعة شعوب البحر ، فاستطاع دحرهم من الدلتا ، وصدّ تقدمهم في جنوب فلسطين. وبعد هزيمتهم ، ركب بعضهم البحر ، وتوجه غربا وانتشر في شمال إفريقيا ، كما يبدو. أمّا الآخرون ، فقد استقروا على الساحل الفلسطيني ، وعملوا لاحقا في خدمة الفرعون ، فحلّوا محل الحكام المحليين الكنعانيين ، وأسسوا مع الوقت خمس مدن ـ دولة ، هي : غزة وعسقلان وأسدود وجات وعقرون. ثم ما لبثوا أن راحوا يتوسعون شمالا وشرقا ، فاصطدموا بالقبائل الإسرائيلية ، التي كانت في مرحلة الانتقال من حياة البداوة إلى الاستقرار في الداخل ، وخصوصا في المنطقة الجبلية الوسطى.

وتمركز الاستيطان الفلسطي بداية في السهل الساحلي ، وخصوصا في جزئه الجنوبي ، ثم تمدد مع الزمن في اتجاه الجبال الوسطى ، فأقام مراكز في الهضبة. ويفيد مصدر مصري أن دور (جنوب حيفا) ، كانت مركزا لجماعة منهم. وإذ لا تعرف حدود استيطانهم الشمالية ، فقد دعي السهل الساحلي الجنوبي باسمهم ، ثم جرى تعميمه على فلسطين كلها لاحقا. والفلسطيون جلبوا معهم صناعة السلاح الحديدي ـ السيوف والخوذ والدروع ـ وكذلك نوعا متميّزا من الفخار ، يحمل طابعا يونانيا ـ قبرصيا. وفي معبد تمّ كشفه في تل ـ القصيلة (شمال يافا) ظهرت تأثيرات مصرية وإيجية على فن العمارة الكنعاني المحلي.

سادسا : الإسرائيليون

الرواية التوراتية تؤكد أن إبراهيم سلف العبرانيين ، هاجر من مدينة أور السومرية ، واتجه شمالا إلى حرّان ، ومن هناك إلى فلسطين. لكن شريعة موسى

٨٥

تبلورت بعد الخروج من مصر ، وفي أثناء التجوال في الصحراء (التيه) ، قبل الدخول إلى أرض ـ كنعان ، والاستقرار بها ، بصورة أو بأخرى. ويسود الاعتقاد بين المؤرخين أن العبرانيين لم ينزلوا كلهم إلى مصر ، ولا كل من عرف لاحقا باسم الإسرائيليين خرج مع موسى من مصر. والجماعة التي تبعته كانت من أصول متعددة ، تجمعت حول رايته على قاعدة الشريعة التي بشّر بها ، والهدف الذي سعى له في تجواله حول أرض ـ كنعان ، باحثا عن سبل الدخول إليها.

والتغيير الفجائي في نمط حياة أتباع موسى ، من العبودية لدى الفرعون إلى الحرية في التيه ، استلزمت أساسا روحيا للانضواء تحت راية قيادته لهم في ترحالهم وتحديد مآلهم. وكان طبيعيا ، بل حتميا ، أن تأخذ شريعة موسى طابعا دينيا ، وخصوصا أن مسألة خروج الإسرائيليين من مصر بمجملها اتخذت صفة التدبير الإلهي. وبحسب التوراة ، صعد موسى إلى جبل سيناء ، مقام يهوى ـ إله إسرائيل ـ واختلى به ، وتسلّم منه الوصايا العشر. وبقبول أتباعه هذه الوصايا ، أقاموا العهد مع يهوى ، الذي أصبح حارسهم ومرجعهم الأعلى والأخير.

وفي الواقع ، فإن ديانة يهوى وشريعة موسى أدّتا دورا أساسيا في تجميع قبائل عبرانية محلية حول راية أتباع موسى ، القادمين من مصر ، في مرحلة احتلال أجزاء من أرض ـ كنعان واستيطانها. ويهوى ، كإله حرب قبلي ، وشريعة موسى ، كأساس للعهد معه ، شكلا ضرورة حيوية للإسرائيليين في مرحلة الاحتلال ، وبالتالي الصراع مع أهل البلد الأصليين ، كما مع القبائل الأخرى المنافسة. ففي الصراع مع الفلسطيين ، كما مع الكنعانيين والقبائل الأخرى المندفعة من الشرق ، برزت الحاجة إلى طلب المساعدة من يهوى وتدخله في القتال إلى جانب «شعبه المختار» ، الذي قطع «العهد» معه.

أمّا بعد الاستقرار والتحوّل إلى الزراعة ، فقد برز التأثير الكنعاني في العودة إلى عبادة آلهة الخصوبة ، ذات الجذور العميقة في مجتمع المدن في الشرق الأدنى القديم ، مثل : إيل وبعل وعشتار وغيرهم. وكان تقبّل قطاعات من الإسرائيليين ، وخصوصا من الطبقات العليا والحاكمة ، العبادات الكنعانية (الفينيقية) سببا في الصراع الداخلي ، الذي اندلع مع قطاعات أخرى شعبية ، كان يمثلها الأنبياء. وقد تشبثت هذه القطاعات الشعبية بوحدانية عبادة يهوى ، وبشريعة موسى ، وخصوصا في أوقات الشدة ، الأمر الذي برز منذ أيام داود وسليمان ، أي أيام المملكة المتحدة ، لكنه تفاقم بعد موت سليمان وانقسام المملكة.

وتنضح التوراة بالحض على التوبة إلى يهوى ، والخضوع لإرادته والتشبث

٨٦

بعبادته. كما أن يده تظهر في توجيه الأحداث التاريخية جميعها ، وقوته تبرز من خلال العقاب الذي ينزله بالخارجين على طاعته ، أو بالثواب الذي يمنحه للسائرين في دربه. والخروج من مصر ، كما احتلال أرض ـ كنعان ، هما من العلامات التي كشف بها يهوى عن ذاته من خلال التاريخ. وهو بالتأكيد قادر على فعل العكس تماما ، فهو عادل ، كما هو صارم ، لا يتهاون في نقض العهد معه. وكناطقين باسمه ، تبنى الأنبياء دعوته إلى عبادة مطلقة له ، لا تقبل الشرك ، ولا تطيق الخروج على الطاعة والمعصية للإرادة. وبناء عليه ، فإن سلام إسرائيل هو الدليل على رضى يهوى عنها ، والمصائب التي تحل بها مؤشر إلى غضبه عليها. وهو أساس مفهوم هؤلاء الأنبياء لحركة التاريخ وفلسفته.

وانطلاقا من أن يد يهوى تحرّك التاريخ العالمي عامة ، واليهودي خاصة ، عالج كتبة التوراة ، بالجمع والتصنيف والتحرير ، الأحداث الواردة فيها ، فجاءت رواياتهم غير تاريخية. وبينما اعتبرها البعض مجرد أساطير ولا تصلح مادة أولية للتاريخ ، رأى فيها البعض نوى حقيقية للأحداث ، يمكن الإفادة منها في دعم المصادر الأخرى المكتوبة والأثرية. في المقابل ، ذهب البعض إلى توظيف المصادر الأخرى كبرهان ، مباشر أو مداور ، للواقع الذي تعكسه الروايات التوراتية. أمّا الدراسات التوراتية فقد وظفت علم الآثار التوراتي في ملاءمة الواقع مع النص الوارد في تلك الروايات. وبتباين المناهج تنوّعت أساليب كتابة تاريخ هذا العصر ، وتناقضت النتائج.

وأصحاب المنهج التوراتي ، ومن يجاريهم في منظوره ، ينطلقون من أن إسرائيل القديمة استوعبت التاريخ على أنه حكم الله على الجنس البشري ، بما يقود حتما إلى «الخلاص العالمي» ، عبر توجيه الله لما صار يعرف ب «شعب الله المختار». ومن هنا انفردت إسرائيل القديمة بين الشعوب الأخرى المعاصرة بامتلاك «الوعي التاريخي». وبناء عليه ، فالروايات التوراتية ، كسجل للأحداث في حياة هذا الشعب ، وبالتالي ، علاقته بيهوى ، من جهة ، وبالأرض التي وعده بها (أرض ـ الميعاد) ، من جهة أخرى ، تصبح كتابات تاريخية حقيقية. ومثل هذا المنهج في كتابة التاريخ ، وبالتالي الإصرار على اعتبار الروايات التوراتية مادة تاريخية ، لا يعكس فكرا علميا ، ولا أمانة فكرية مبدئية ، وإنما مفهوما مغلقا لفلسفة التاريخ وحركته.

ويستخلص من الرواية التوراتية أنه بعد الخروج من مصر ، والتيه في الصحراء أربعين عاما ، دخل بنو إسرائيل أرض ـ كنعان ، من منطقة أريحا ، واحتلوها بعملية واحدة مستمرة طالت سبع سنوات. وكان ذلك بناء على خطة مسبقة ، قسمت فيها الأرض بين الأسباط الاثني عشر ، بقيادة موسى بداية ، ثم من بعده يهوشوع. وهذه

٨٧

الرواية تثير الشكوك في صدقيتها ، ليس فقط لأنها غير واقعية ، ولغياب أي دليل على مضمونها ، وانعدام أية إشارة لهذا الحدث في المصادر المصرية أو العراقية ، وإنما أيضا لتناقضها مع روايات أخرى في التوراة ذاتها. وعلاوة على ذلك ، فرواية «سفر يهوشوع» غير متماسكة ، وتحمل طابعا أسطوريا خياليا. وهناك خلط بالمواقع والأسماء ، وهذا يدل على أن هذه الرواية هي نوع من الصيغة الرسمية ، التي جمعت بعد فترة زمنية طويلة ، ومن مصادر متعددة ومتنوعة ، على يد كتبة لا يعرفون تاريخ الفترة السابقة ولا جغرافيتها السكانية. كما أن الهدف من كل هذه العملية لدى هؤلاء الكتبة كان دينيا ، وليس تاريخيا بالأصل.

والفكرة المركزية في قصة الخروج من مصر ، بقيادة موسى ، تتمحور حول التخلص من العبودية لحكم الفرعون ، وليس هدفها تحقيق «الوعد الإلهي» لإبراهيم بميراث أرض ـ كنعان ، بحسب الدعوى التوراتية. والتيه في الصحراء مدة أربعين عاما ، بين مصر وفلسطين ، إنما هو دليل على غياب هدف محدد مسبق لهذا الخروج ، وأن السبب المباشر له ، والعامل الضاغط عليه ، هو الإفلات من قبضة الفرعون. وبناء عليه ، تكون فكرة دخول أرض ـ كنعان والاستقرار بها تبلورت في مسار التيه في الصحراء ، وعبر الاحتكاك بالقبائل الأخرى المتعددة ، التي كانت في مرحلة انتقالية من البداوة إلى الاستقرار بجنوب فلسطين وشرقي الأردن. ولذلك جاء الغزو الإسرائيلي لأرض ـ كنعان من الشرق ، متجها نحو المنطقة الجبلية الوسطى ، ومترافقا مع حركة قبائل أخرى في هذا الاتجاه.

ويستدل من المصادر المصرية ، وخصوصا رسائل تل العمارنة (القرن الرابع عشر قبل الميلاد) ، أن منطقة الجبال الوسطى في فلسطين كانت قليلة السكان ، لم تولها السلطة المركزية المصرية اهتماما في أيام السلالتين ١٨ و ١٩. والمصريون الذين لم يرغبوا في القيام بدور الشرطي في هذه المنطقة ، وبالتالي لم يشحنوها بالحاميات العسكرية ، وعوا الخطر الكامن في تركها مناطق تجمّع للقبائل المتمردة ، فأولوا حفظ الأمن فيها إلى الحكام المحليين ، الذين برز بينهم حاكما أورشليم وشيكم. وتركز دور هؤلاء الحكام على كبح العناصر البدوية من تهديد طرق التجارة الرئيسية ، وإبقائها بعيدا عن المناطق الحيوية للأمن المصري على ساحل فلسطين وفي جنوبها.

ومنذ بداية القرن الخامس عشر قبل الميلاد ، بدأت أخبار القلاقل والاضطرابات تتوارد على البلاط الفرعوني من فلسطين وسورية ، ليس بسبب تمرد الحكام ، كما في بداية الألف الثاني قبل الميلاد ، وإنما نتيجة نشاط عناصر بدوية غير خاضعة لسلطة أحد. وفي البداية ، أفادت هذه العناصر من الصراع المثلث الجوانب ، بين القوى

٨٨

الحاكمة في كل من العراق وأناضوليا ومصر. أمّا بعد عقد معاهدة السلام بين الحثيين والمصريين ، فقد استغلت تلك العناصر ضعف الطرفين نتيجة الحروب التي استنزفت قواهما. وكانت المنطقة الجبلية في وسط فلسطين نقطة الضعف في ولاية كنعان المصرية ، ولا غرو أن الاستيطان الإسرائيلي بدأ هناك.

لقد تميّز المصريون القدماء عموما بنظرة من الاحتقار إلى الجماعات غير المستقرة ، والتي لا يمكن السيطرة عليها وتنظيمها. وأطلقوا عليها أسماء تعبر عن شيء من الدونية مثل العابيرو والشاسو. وهذه الكنى موجودة في الوثائق المصرية من أيام السلالة ١٨ ، وخصوصا رسائل تل العمارنة ، التي تعود إلى النصف الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وبينما تشير هذه المصادر إلى أن أمكنة تجمع هذه الأقوام كانت في شرقي الأردن خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد ، فإننا نجدها غربي النهر في القرن الذي يليه. والظاهر أن الحكام المحليين ، في صراعاتهم المستمرة ، وكذلك الحاميات المصرية المعزولة ، استعملوا هذه الجماعات كمرتزقة. وباختلال حبل الأمن ، ووهن يد السلطة المركزية خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد ، راحت هذه الجماعات تفرض وجودها بالقوة.

وخلال فترة طويلة ، كما تفيد المصادر المصرية ، ظل الشاسو يشكلون عنصر إزعاج على أطراف حدود ولاية كنعان المصرية ، وبالتالي مصدر قلق للسلطات المصرية وحكام المدن الكنعانية ، للخطر الذي شكلوه على طرق التجارة. وفي نهاية السلالة ١٨ ، اندفعوا غربا عبر النقب الشمالي إلى سيناء وقطعوا طريق البحر. ومع أن سيتي الأول (١٣٠٩ ـ ١٢٩٠ ق. م.) طردهم ، وتقدم لفك الحصار الذي فرضته جماعات أخرى منهم على الحامية المصرية في بيسان ، فمن الواضح أنه لم يخضعهم ولم يردعهم عن العودة إلى نهجهم بالتغلغل في أرض ـ كنعان بعد انسحابه منها. والأكيد أن الشاسو أفادوا من انشغال الفرعون بقتال شعوب البحر ، ووسعوا من تمددهم في المناطق الريفية والجبلية والصحراوية ، مستغلين عجز الحكام المحليين عن ضبطهم.

ورسائل تل العمارنة (أرشيف أخناتون) هي في الأغلب مخاطبات متبادلة بين بلاط الفرعون وحكام المدن الكنعانية الخاضعة له ، وهي تعالج الوضع الأمني والفوضى المستشرية نتيجة نشاط العابيرو (الشاسو) ، وفيها اتهامات متبادلة بين هؤلاء الحكام بدعوى التعاون مع العابيرو ، الذين يريدون الاستيلاء على «بلاد السيد الملك». وعدا ذلك ، تعالج الرسائل قضايا إدارية ـ اقتصادية ، مثل أداء الضرائب والتطويع لأعمال الملك ، وأمن القوافل التجارية وإصلاح الطرق. ومع أن ملوك

٨٩

السلالة ١٩ الأوائل أعادوا تأكيد سيطرتهم في بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، إلّا إن هذه السيطرة سرعان ما راحت تتضعضع ثانية. وفي هذه الفترة تفاقم تغلغل العابيرو في النصف الثاني من حكم رعمسيس الثاني الطويل (١٢٩٠ ـ ١٢٢٤ ق. م. تقريبا).

ورسائل تل العمارنة تكشف أن بعض حكام المدن شكلوا حولهم وحدات سياسية كبيرة نسبيا ، كما هو الحال في عسقلان وجيزر وأورشليم وشيكم ومجدو وعكا وحاصور. ويستفاد أن حاكم شيكم ، لبعايو ، أقام علاقة قوية مع العابيرو ، ولم ينفذ السياسة المصرية ، الأمر الذي استلزم إزاحته. لكن العابيرو بقوا. وفي أورشليم ، عيّن الفرعون ابنا صغيرا للحاكم بدلا منه ، هو عبدي هبة ، الذي يظهر استعداده لمقاتلة العابيرو ، ويطلب مساعدة الفرعون لهذا الغرض ، وبسرعة قبل فوات الأوان. وهذا يدل على أنه خلافا للمنطقة الساحلية ، حيث النفوذ المصري كان قويا ، وخصوصا في المناطق التي تمر بها طرق القوافل ، فإن السلطة في الداخل كانت هشة ، وخصوصا في منطقة الجبال الوسطى.

أمّا حول فلسطين ، فإلى الشرق كانت تتشكل وحدات سياسية في : أدوم ومؤاب وعمون والجلعاد. وفي جنوب سورية ، تبرز دمشق كمركز سياسي يسعى لتوسيع سيطرته شمالا وجنوبا ، ويعمل على تشكيل ائتلاف يضم عددا من الممالك الصغيرة مثل عشتروت ، التي كانت في صراع مستمر مع مملكة حاصور في الجليل الأعلى. وفي لبنان ، تبرز دولة عمورو كمملكة فاصلة بين المصريين والحثيين ، وتعمل على تدعيم استقلالها وبسط نفوذها على الساحل الفينيقي ، وبالتالي السيطرة على التجارة مع العراق ومصر. وفي الجزيرة السورية يبرز الأراميون كقوة جديدة وفاعلة على الجبهتين ـ الحثية والأشورية. وهكذا يتضح أنه عشية الغزو الإسرائيلي لفلسطين ، كانت قد تشكلت في محيطها وحدات سياسية ناشئة وقوية حالت دون استقرار قبائل جديدة في مناطقها.

لقد تبلورت الوحدات السياسية ، القائمة على الانتماء الإثني ، في شرقي الأردن قبل استقرار القبائل الإسرائيلية وائتلافها غربي النهر. والدلائل تشير إلى أن ذلك جرى في نهاية حكم السلالة ١٨. أمّا في فلسطين ، فإن نفوذ السلطة المصرية في الساحل ، ووجود مدن الممالك الكنعانية في الداخل ، أعاقا توحد القبائل ، وبالتالي تشكّل جماعات كبيرة قادرة على إقامة مراكز قوى فاعلة. فانتشرت القبائل على أطراف المدن ، وفي المناطق الجبلية ، واشتغلت بالرعي أصلا ، وببعض أنواع الزراعة والتجارة. وائتلاف هذه القبائل خضع لعاملين مرتبطين جدليا : الأول ، مسار تدهور سلطة حكام المدن ، كل بمفرده ؛ والثاني ، ازدياد قوة القبائل وعدد أفرادها

٩٠

وفق أوضاع كل منها الخاصة.

إن كل محاولات التجسير بين الروايات التوراتية المتعددة بشأن ما يسمى «الاحتلال الإسرائيلي لأرض ـ كنعان» ، لم تفلح في إزالة التناقضات بينها. وتميل أغلبية المؤرخين اليوم إلى اعتبار هذا الاحتلال نتيجة مسار طويل ، اتخذ صورا متعددة ، غاب عنها التنسيق والتخطيط المسبق. وفي هذا المسار ، احتلت قبائل معينة ، أو مجموعة منها ، وبصورة عشوائية حين سنحت الأوضاع ، مناطق قليلة السكان ، بينما المدن الكنعانية القوية حافظت على وجودها وأراضيها. ومن هنا ، فإن رواية سفر يهوشوع عن عملية احتلال مبرمجة ، تحت قيادة موحدة ، لا أصل لها ، وإنما حيكت من نسج الخيال لدى كتبة التوراة في عصور متأخرة ، ومن منطلق إثبات وحدة «الشعب المختار» ، في مقابل واقع التفتت الذي تعيشه القبائل المسماة «أبناء إسرائيل».

وعلاوة على ذلك ، فإن المسوحات الأثرية لا تدعم الرواية الواردة في سفر يهوشوع. وعلى سبيل المثال لا الحصر : العيّ التي يرد ذكرها أنها سقطت في أيدي الإسرائيليين ، لم تكن قائمة في حينه ، بل كانت مهجورة خربة ، وشيكم التي يقال إنهم احتلوها ظلت مدينة كنعانية لفترة طويلة بعد ذلك ؛ وأريحا في تلك الفترة كانت قرية صغيرة غير مسوّرة ، وبالتالي فقصة «الأسوار التي انهارت على صوت البوق» هي أسطورة خيالية. ومن التوراة ذاتها يستنتج أن عددا من القبائل المحسوبة على بني إسرائيل ظلت تحت حكم مدن كنعانية لفترة طويلة في مرج ابن عامر والجليلين ـ الأعلى والأسفل. وعلى العموم ، فالدلائل الأثرية تؤكد أن الإسرائيليين لم يفلحوا في احتلال أرض ـ كنعان كما يرد في الرواية التوراتية ، وأن مثل هذا الاحتلال وقع في مراحل لاحقة ، وبعد أن نقضوا العهد مع يهوى ، وبناء عليه فقد وقع من دون «تدبير إلهي».

إن الجمع بين المعلومات المتوفرة من المصادر المتعددة ، يعطي الدلالة على أن التمدد الإسرائيلي في أرض ـ كنعان كان يتناسب اطرادا مع انكماش السلطة المصرية فيها ، وبالتالي انحصارها في المنطقة الساحلية والنقاط الاستراتيجية على طرق التجارة الدولية. وهذا التراجع المصري ترك المدن الكنعانية في الجبال الوسطى ، على عكس تلك الواقعة في السهول وعلى الساحل ، وحدها في مواجهة القبائل الإسرائيلية ، فراحت تسقط بالتدريج ، بحسب قدرتها الذاتية على الصمود. وخلال عصر القضاة (١٢٥٠ ـ ١٠٥٠ ق. م. تقريبا) ، كانت هناك ثلاثة جيوب إسرائيلية : الجليل والوسط والجنوب ، تعزلها عن بعضها البعض مدن وقلاع كنعانية.

٩١

وينفرد بعزلته في هذه الفترة سبط يهودا ، الذي تبوّأ موقع القيادة في مملكة داود وسليمان ، ومن اسمه اشتقت كلمة اليهودية ، حيث كان يتجول بعيدا في النقب الشمالي ـ الشرقي.

وبعد موت الفرعون مرنفتاح (١٢٢٤ ـ ١٢١٦ ق. م. تقريبا) ، تدهورت أوضاع السلطة المصرية في أرض ـ كنعان. وبعد فترة (بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد) ، استعاد رعمسيس الثالث بعض النفوذ المصري الضائع فيها. وتفيد سيرته الذاتية أنه تغلب على الفلسطيين ، وألزمهم الاستيطان في السهل الساحلي الجنوبي ، وربطهم بخدمته الخاصة. ومن هنا ، أصبح الفلسطيون يعتبرون أنفسهم البديل للحكام الكنعانيين ، ولاحقا ، وبعد تضعضع السلطة الفرعونية ، نصّبوا أنفسهم الخلفاء الشرعيين للحكم المصري في أرض ـ كنعان. وراح هؤلاء يثبتون سلطتهم ، ويتوسعون في الاتجاهات المتعددة ، فاندلع صراع مثلث الجوانب ـ فلسطي وكنعاني وإسرائيلي ـ كان الكنعانيون أول الخاسرين فيه. فبفضل تفوقهم بالسلاح ، وروحهم القتالية العالية ، استطاع الفلسطيون التغلب في الساحل الجنوبي على الكنعانيين ، الذين كانوا خاضعين للسيادة المصرية منذ قرون.

أمّا في الداخل ، فقد اندلع الصراع بين القبائل الإسرائيلية والمدن الكنعانية من جهة ، وبين تلك القبائل والوحدات السياسية التي قامت شرقي الأردن ، من جهة أخرى. فهذه الوحدات أيضا سعت للإفادة من تهاوي السلطة المصرية ، والتمدد في المناطق الخصبة غربي النهر. وإزاء الخطر الإسرائيلي ، تشكل ائتلاف بين المدن الكنعانية ، بقيادة ملك حاصور ـ يابين. ولذلك ، اضطرت القبائل الإسرائيلية في الشمال والوسط إلى التحالف بين بعضها البعض ، وحققت نصرا على الكنعانيين في معركتين حاسمتين : الأولى في تعنك ، في مرج ابن عامر ، والثانية في الحولة ، بالقرب من حاصور ، الأمر الذي وضع حدّا لهذه المملكة الكنعانية القوية ، في نهاية القرن الثاني عشر قبل الميلاد.

إن انهيار الائتلاف الكنعاني ، وبالتالي بروز القبائل الإسرائيلية كقوة رئيسية في المنطقة الجبلية من فلسطين ، وضعا تلك القبائل بين فكي كماشة. فمن الغرب ، راح الفلسطيون يزيدون في ضغطهم بهدف التوسع من الساحل الجنوبي في اتجاه الشمال والشرق. وفي الشرق ، ارتفعت حدة الصراع مع الوحدات السياسية التي كانت في مرحلة الانتقال من البداوة إلى الاستقرار ، والبحث عن مجال حيوي من الأراضي الخصبة غربي النهر. وقد اضطر ذلك القبائل الإسرائيلية إلى توثيق التحالف بينها ، والتوجه نحو تنصيب قيادة موحدة عليها ، ولكن من دون الوحدة الاندماجية. وبناء

٩٢

عليه ، برز عدد من القادة العسكريين ، أدّوا دورا مركزيا في إدارة الصراع ، مثل جدعون وأبيميلخ ، لكنهم لم يتوصلوا إلى الملكية. ولم يفلح كل الضغط الخارجي على الإسرائيليين في حينه ، في حملهم على التنازل عن قبليتهم. لقد تساندت القبائل للقتال ضد العدو المشترك من سكان المدن الكنعانية المتحضرة. لكن الروابط الذاتية بينها لم تكن من القوة بحيث تشكل أساسا لوحدة سياسية اندماجية.

وبعد منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، عندما تفاقم الضغط على القبائل الإسرائيلية في الجبال الوسطى ـ الفلسطيون من الغرب والعمونيون من الشرق ـ نضجت في وقت الشدة الأوضاع لقيام الملكية على تلك القبائل. ففي هذه الفترة توغل الفلسطيون في المنطقة الجبلية ، ووصلوا إلى شيلو ، المركز الديني للقبائل الإسرائيلية ، واحتلوها وخربوها وأخضعوا المنطقة لحكمهم. في المقابل ، قام ناحاش ، ملك العمونيين ، بإخضاع القبائل في منطقة الجلعاد ، التي كانت تربطها علاقات قربى بسبط بنيامين ، الذي منه خرج شاؤول ، أول ملك لإسرائيل. وقد نصّبه في هذا الموقع صموئيل (شموئيل) ، النبي الذي حمل لواء المقاومة ضد الفلسطيين ، في الجبال الوسطى ، حيث أقامت قبيلتا بنيامين وإفرايم.

واستطاع شاؤول (١٠٢٠ ـ ١٠٠٤ ق. م.) ، بالاعتماد على أبناء قبيلته بداية ، ومن خلال تكتيكات عسكرية سريعة ومفاجئة ، أن يهزم العمونيين ويصدهم عن الجلعاد. ثم توجه نحو الحاميات الفلسطية الصغيرة في المنطقة الجبلية ، فطردها إلى الساحل. وراح بعد ذلك يوسع حدود نفوذه في الاتجاهات جميعها : الجبعونيون في الغرب والعمالقة في الجنوب وأبناء لوط وقيدم في الشرق. وأخيرا ، دحر الفلسطيين بالقرب من بيت جبرين ، في المعركة التي بحسب الرواية التوراتية انتصر فيها داود على جليات بالمقلاع. والواضح أن شاؤول لم ينجح في إقامة الوحدة بين القبائل الإسرائيلية ، كما أن حدود ملكه غير واضحة تماما. ومقدار التزام القبائل بملكه يتضح من خلال الحقيقة التاريخية أن هذه القبائل لم تعد إلى استقلاليتها بعد زوال الخطر الخارجي فحسب ، بل إلى الصراع بين بعضها البعض بشأن الأرض التي وقعت في أيديها.

وبغض النظر عن الجانب الأسطوري في القصة ، فالواضح أن داود قد برز كقائد عسكري في هذه المعركة ، وأخذت شعبيته تتسع ، الأمر الذي أثار حقد شاؤول عليه ، وخصوصا بعد أن فشل هذا الأخير في ضمان ولاء القبائل له ولذريته كملك. وتفاقم الوضع بين الاثنين ، على خلفية قبلية ، إذ كان داود ينتمي إلى سبط يهودا ، البعيد في الجنوب على حدود الفلسطيين ، والذي رفض الانصياع لرغبة شاؤول في تنصيب نفسه

٩٣

ملكا على إسرائيل ، مستفيدا في تحديه هذا من وجود «مملكة أورشليم اليبوسية» كحاجز يفصل بينه وبين سبط بنيامين ، الذي ينتمي إليه شاؤول ، ويدعمه سبط إفرايم. واضطر داود إلى الهروب من وجه شاؤول ، والعمل لدى الفلسطيين في حامية حدودية بالنقب. ومن هناك ، راح يوطد علاقاته مع سبطه ـ يهودا ـ منطلقا من قاعدة العمل في خدمة الفلسطيين ، ويبني قوته العسكرية الخاصة ، من قبيلته وغيرها.

وباندفاعه لتكريس نفسه ملكا ، اصطدم شاؤول بالنزعة القبلية القوية لدى الإسرائيليين ، وبممارساته التعسفية جلب على نفسه غضب النبي صموئيل ، فأفاد داود من ذلك كله ، وراح يجمع حوله العناصر المتذمرة من تصرف شاؤول ، ويسترضي القبائل الجنوبية ، وخصوصا يهودا ، الرافضة لزعامة شاؤول ، ابن السبط الصغير ـ بنيامين ـ وكل ذلك من منطلق قاعدة العمل في خدمة الفلسطيين ، وبالتالي الاطمئنان إلى رضاهم عنه. وبتدهور الأوضاع الذاتية لملك شاؤول ، انتهز الفلسطيون الفرصة ، وهاجموه ، هذه المرة من الشمال ، من مرج ابن عامر ، فهزموه ، وشتتوا جنده ، وأسروه مع ثلاثة من أبنائه ، وقتلوه ، وأعادوا سيطرتهم على المناطق التي احتلها منهم ، ولكن من دون إقامة سلطة مباشرة فيها. لقد اكتفوا باقتلاع عنصر الخطر ، وعادوا إلى مناطقهم.

أمّا داود (١٠٠٤ ـ ٩٦٥ ق. م.) ، فبعد هروبه من وجه شاؤول الذي عزم على قتله ، لجأ إلى ملك جات الفلسطي ، أخيش ، وعمل في خدمته حارسا لحدوده من هجمات القبائل المتنقلة في الصحراء ، واتخذ مقرّا له في مدينة تسجلاج (صقلج) في الطرف الجنوبي الشرقي من أرض الفلسطيين. ومن هذه المنطقة واصل صراعه مع أشبعل ، ابن شاؤول ووارثه ، الذي بدعم من قائد الجيش ، أبنر ، نقل مركزه إلى شرقي الأردن. والفلسطيون ، الذين استغلوا هذا الصراع لمصلحتهم ، سكتوا عن داود عندما نقل مقرّه إلى حبرون (الخليل) ، وساندوه في صراعه بشأن ميراث ملك شاؤول ، ولم يستفيقوا على الخطر الناجم عن ازدياد قوته إلّا بعد أن وضع يده على أورشليم ، وأنهى حكم اليبوسيين الكنعاني فيها.

ويبدو أن داود ، بعد احتلال أورشليم ، انتهز الفرصة لقطع علاقة التبعية التي ربطته بالفلسطيين ، فبادر هؤلاء بتجريد حملة ضده ، لكنه دحرهم ، وتابع مطاردتهم ، واحتل مدينتي : جيزر وعقرون من أيديهم ، وجعلهما خط دفاعه الأول في مواجهته لهم. وبعد أن بسط سلطته على جبال القدس ، وجعل أورشليم عاصمة له ، ونقل إليها «تابوت العهد» ، ليركز فيها السلطتين ـ الدينية والسياسية ، تحوّل داود إلى توسيع مملكته. وخلال بضع سنوات ضمّ إليها كل ولاية كنعان المصرية سابقا ، ما عدا

٩٤

السهل الساحلي ، الذي بقي في أيدي الفلسطيين. وبعد ذلك توجه نحو شرقي الأردن ، واشتبك مع العمونيين والمؤابيين الذين كانوا يعملون لترسيخ سلطتهم هناك.

وبسبب نشاطه العسكري في الجلعاد ، اصطدم داود مع العمونيين والمؤابيين في شرقي الأردن ، ومع الأراميين في سورية. وبغض النظر عن المبالغة التوراتية في حدود مملكة داود ، الأمر الذي لا نجد له صدى في المصادر الأخرى المعروفة ، فإن في الإمكان الافتراض أنه برز كقوة في هذه المرحلة ، بفضل أوضاع سياسية خاصة ، أدت إلى تدهور أوضاع الإمبراطوريات الكبيرة كلها المعروفة في الشرق الأدنى آنذاك ، وأفسحت المجال أمام قيام مملكة داود. فدولة الحثيين انهارت بفعل حركة شعوب البحر ، والإمبراطورية المصرية تراجعت بتضافر عوامل خارجية وداخلية. وكذلك حدث في أشور وبابل ، بعد أيام تغلات بلّيسر الأول (نحو ١١٠٠ ق. م.) ، الأمر الذي دفع الأراميين إلى التمدد والعمل على إقامة ممالك مستقلة في سورية : دمشق وصوبا وجشور وغيرها.

ويظهر أن داود أقام علاقات تجارية ودبلوماسية مع ملك حماة ، توعي ، في مواجهة الأراميين الآخرين ، ومع حيرام ، ملك صور الفينيقي ، لأغراض تجارية. وكذلك فعل مع العمونيين ، إذ لضرورات سياسية واعتبارات داخلية ، زوّج ابنه سليمان من نعامة ، ابنة الملك العموني. وهو نفسه تزوّج من ابنة ملك جشور الأرامي. أمّا في الداخل ، فلم يحقق الكثير في حياته ، إذ شغل بالحروب ، فأدّى ذلك إلى تذمر القبائل ، وحتى إلى ثورة ابنه أبشالوم عليه ، بدعم من قبيلته ـ يهودا ـ الأمر الذي اضطره إلى الهروب واللجوء إلى حماية العمونيين. وفي آخر أيامه ، أمر بإجراء إحصاء للسكان ، لضرورات جباية الضرائب ، والتجنيد للجيش وأعمال الملك (السخرة) ، فأثار بذلك نقمة القبائل وتمرّدها عليه.

وفي سعيه لتوحيد القبائل الإسرائيلية حول ملكه وعاصمته ، اصطدم داود بالنزعة الانفصالية القوية لدى تلك القبائل. لقد نقل تابوت العهد ـ رمز وحدة بني إسرائيل من أيام موسى ـ إلى أورشليم ، وأخذ يعد لبناء قصر لنفسه وهيكل ليهوى. فجمع مواد البناء ، وكذلك الذهب والفضة لهذا الغرض ، الأمر الذي أدّى إلى تذمر الناس من عبء الضرائب. كما ثار بعض القبائل ضد المحاباة التي خصّ بها قبيلته ـ يهودا ـ بإعفائها من الأتاوات ، ومنحها الامتيازات عبر المواقع الرفيعة في الجيش والإدارة المدنية. وفي النتيجة ، لم ينجح داود في التغلب على النزعة الانفصالية لدى القبائل الإسرائيلية ، وكان لا بدّ من اللجوء إلى أعمال القمع لفرض سلطانه ، وتأمين حاجات جهاز الدولة المركزية من النفقات والتموين وأعمال العمارة.

٩٥

لقد ثارت المشكلات في وجه داود وهو في ذروة قوته ، إلّا إنها تفاقمت في آخر أيامه ، وخصوصا بشأن الوراثة. فبعد مقتل ابنه الأكبر ، أمنون ، احتل مكانه أبشالوم (ابن معخا ، ابنة تلمي ملك جشور). إلّا إن أبشالوم ثار على والده ، واضطره إلى الهروب والاحتماء عند العمونيين. وبعد فشل التمرد ومقتل أبشالوم ، دار الصراع في البلاط ، بين أنصار سليمان ، بقيادة والدته ، بات شيبع (اليبوسية) ، وأنصار الابن الأكبر سنّا ، أدونياهو ، (ابن حجّيت). وتغلب سليمان ، وأوصى داود له بالملك. وعندما تولى العرش ، قتل أخاه وأنصاره المقربين ، ليضمن استتباب الملك له (٩٦٥ ـ ٩٢٨ ق. م.).

بالكثير من التبرير تقدم الرواية التوراتية سليمان كملك فوق العادة ، يتميّز بالحكمة ، ويتصف بحب العدل والسلام ، ويعمل على توطيد أركان مملكته وترتيب أوضاعها ، ويسعى لدمج القبائل الإسرائيلية في وحدة سياسية ، ويحاول نسج علاقات خارجية حميمة مع جيرانه. غير أن الواقع ، كما يظهر من خلال التطورات التاريخية ، يشير إلى غير ذلك. فما لبث أن مات ، حتى انقسمت مملكته إلى شطرين : شمالي ، وهو الأكبر ، ويضم أغلبية القبائل ، ويدعى «إسرائيل» ؛ وجنوبي ، يدعى «يهودا» ، ويضم بالأصل سبطي يهودا وبنيامين. وهذا يدل على أن سليمان فشل في توحيد القبائل الإسرائيلية حول ملكه في أورشليم ، سياسيا ودينيا.

وورث سليمان عن داود مملكة واسعة نسبيا ، تأسست على الحرب ، وضمت مناطق جغرافية متعددة ، وعناصر إثنية كثيرة ، وبالتالي فقد انطوت على أزمة مستمرة ، داخليا وخارجيا. في حينه ، استفاد داود من عاملين أساسيين ، تضافرا ليتيحا له فرصة السيطرة على أراض واسعة : الأول ذاتي ، وهو بناء قوة عسكرية مقاتلة ؛ والثاني موضوعي ، وهو الفراغ السياسي الذي عمل فيه ، نتيجة انكماش نفوذ الإمبراطوريات الكبيرة في الشرق الأدنى القديم ، وعزوفها عن التدخل في فلسطين لاهتمامها بمشكلاتها الداخلية. والإيجابيات التي قدمها هذان العاملان ، سرعان ما انقلبت إلى سلبيات. فاستمرار الحرب رفع حدة التوتر الداخلي والتذمر القبلي ، وإخضاع الشعوب المجاورة صعّد من مقاومتها لهذا التسلط. وكان على سليمان أن يواجه النتائج.

وفي الواقع ، ليست هناك مصادر خارجية تدعم الرواية التوراتية عن إنجازات سليمان ، فالمعلومات الأثرية تعطي انطباعا أنها كانت أكثر تواضعا من الذي تضفيه عليها الصيغة التوراتية. ويلفت الانتباه خلوّ المصادر المعروفة من مصر والعراق وسورية من أي ذكر لملكي إسرائيل ، داود وسليمان. ومع ذلك فمن المنطقي الأخذ

٩٦

بالدعوى أن سليمان وجّه نشاطه لاستكمال مشروع والده ، وربما بوسائل أخرى : دبلوماسية وسياسية وتجارية وغيرها. وتنتقد التوراة علاقات سليمان الخارجية ، وخصوصا مسألة زواجه الدبلوماسي واسع النطاق. وتعتبر أنه أدخل العبادات الأجنبية إلى مملكة إسرائيل ، والتي تنافس ديانة يهوى على قلوب الإسرائيليين. كما تتخذ التوراة موقفا متعاطفا مع عامة الشعب المتذمر من أعباء الضرائب وأعمال السخرة التي فرضها على الناس لإنجاز أعماله المعمارية الكثيرة.

وبحسب التوراة ، حلّت العلاقات التجارية المتشعبة التي أقامها سليمان محل الحروب التي خاضها داود ، فأصبحت السمة البارزة لعصره. ونتيجة ذلك ، ازدهرت مملكته وتعاظم دخلها ، من مواردها الذاتية ، ومن تجارة الترانزيت التي مرت بالأراضي التي يحكمها ، مستفيدا من موقعها الاستراتيجي المهم ، فضلا عن نشاط بلاطه التجاري لحسابه الخاص. وبناء على ذلك ، فقد أولى طرق التجارة أهمية قصوى ، فبنى الحصون والقلاع لحمايتها : حاصور ومجدو وجيزر وعتسيون جيبر (العقبة ـ أيلة) وغيرها. وأقام جيشا محمولا على مركبات عسكرية لحفظ الأمن على تلك الطرق. ويتضح أنه اهتم بتوسيع عاصمته وتزيينها ، فبنى قصرا لنفسه ، وهيكلا ليهوى ، أراده مركزيا للمملكة ، وبديلا من جميع مراكز العبادة المحلية الأخرى.

وكان لا بدّ من أن يترافق ذلك مع تطوير جهاز الدولة الإداري ، بما يتواكب والتحولات الجارية فيها. فقسّم المملكة إلى اثني عشر لواء ، لعله الأساس في تقسيم بني إسرائيل إلى اثني عشر سبطا ، كعملية مصطنعة ، هدفها المركزي توزيع أعباء مستلزمات البلاط الملكي والهيكل خلال أشهر السنة ، بحيث يتكفل كل منها ذلك شهرا في العام. كما زاد سليمان في مركزية السلطة في البلاط والجيش ، وعمم أعمال بيت الملك (السخرة) على جميع الإسرائيليين بحسب الحاجة ، خلافا لسياسة والده الذي حصرها بغيرهم. ويذكر أنه استغل مناجم النحاس في العربة (تمنع) ، كما اشتغل بتجارة الخيول وعربات الحرب وبالمعادن الثمينة والأحجار الكريمة ، وحتى الطيور والحيوانات النادرة.

وعلى الرغم من الثراء الأسطوري الذي جمعه سليمان ، فإن نشاطه العمراني الواسع ، وإدارة بلاطه الفاخر ، ومستلزمات حكومته وجيشه ، قد استنزفت موارده. وبناء عليه ، اضطر إلى زيادة أعمال السخرة ، ومضاعفة الضرائب ، الأمر الذي أدى إلى إفقار سكان الريف ، وبالتالي تفاقم التململ بين القبائل ، وخصوصا في منطقة سبط إفرايم بمحيط شيكم ، الذي ساءه جدا التمييز الذي تمتع به سبط يهودا ـ قبيلة

٩٧

الملك. ولتسديد ديونه لملك صور ، حيرام ، الذي زوّده بمواد البناء والحرفيين المهرة ، عمد سليمان إلى بيعه عشرين مدينة في الجليل (قضاءي كابول ومعلوت). ويظهر أن الأراميين ، في دمشق وصوبا وحماة ، نقضوا ما كان بينهم وبينه من اتفاقات تجارية ، الأمر الذي زاد في أوضاعه الاقتصادية سوءا.

ويتضح أن سليمان ، في أواخر عهده ، فشل في ضبط الأوضاع الداخلية والحفاظ على العلاقات الخارجية لمملكته ، إذ راحت الحالة العامة تتردى. والازدهار الذي شهدته المملكة ، والذي حفزه على القيام بنشاطات عمرانية واسعة ، وبالتالي على اتخاذ إجراءات إدارية صارمة ، تمخض عن نتائج سلبية. لكن العامل الأهم في تضييق الخناق على سليمان ، كان التطورات السياسية الإقليمية. فبينما عادت مصر إلى إثبات وجودها في غرب آسيا ، وأولا في فلسطين ، برزت مملكة الأراميين في دمشق كمنافس قوي لمملكة سليمان ، عسكريا واقتصاديا. وعلاوة على ذلك اندلع تمرد في إفرايم ، بقيادة يربعام بن نباط ، وآخر في أدوم ، ويبدو أنهما كانا بدعم من مصر ، أيام السلالة ٢٢. ثم ما لبثت أشور أن عادت إلى التحرك ، وبناء الإمبراطورية مجددا.

وبموت سليمان انفجر الوضع بعنف ، وانقسمت المملكة المتحدة. فأسباط الشمال ، التي لم تسلم قط بالملك لبيت داود ، من سبط يهودا ، في حين تدّعي هي أنها من أبناء يوسف ، انتهزت الفرصة لإعلان انفصالها عن عاصمة داود ، سياسيا ودينيا. ويربعام بن نباط ، الذي كان لجأ إلى مصر بعد تمرده الفاشل على سليمان ، عاد إلى قبيلته ـ إفرايم ـ وأعلن الانفصال. ورحبعام ، ابن سليمان ووارثه ، وقف عاجزا عن التصدي لهذه الحركة الانشقاقية وقمعها. وقد آذن ذلك ببداية حرب طويلة بين المملكتين ، شهدت مراحل من المدّ والجزر ، والصدام والهدنة الموقتة ، إلى أن قضى الأشوريون على مملكة إسرائيل الشمالية ، وتبعهم الكلدانيون بإنهاء مملكة يهودا الجنوبية والصغيرة.

وعدا انقسام المملكة ، ودخول شطريها في حرب ضروس بينهما ، كان الحدث الأهم الذي عقب موت سليمان بخمس سنوات ، هو حملة الفرعون الليبي الأصل ، شيشاك (شيشنق) ، على فلسطين (نحو ٩٢٥ ق. م.). ويرد ذكر هذه الحملة في نصب تذكاري أقامه الفرعون ، واكتشف في مجدّو. وكانت الحملة أقرب إلى الغزو بهدف النهب ، منها إلى عملية في إطار خطة لإعادة السيادة المصرية على فلسطين. ونجت يهودا من الحصار والدمار بدفع جزية كبيرة ، بينما لحقت بمدن إسرائيل أضرار جسيمة. وبعد عودة شيشاك إلى مصر ، انتهز أبيام بن رحبعام ، ملك يهودا الجديد ،

٩٨

الفرصة ووسع حدوده الشمالية على حساب يربعام بن نباط ، ملك إسرائيل. وفي حربه هذه ، عقد أبيام تحالفا مع بن هداد (حدد) ، ملك دمشق الأرامي. ومنذئذ دخلت أرام دمشق عنصرا دائما في الصراع الدائر بين يهودا وإسرائيل.

وخلال فترة طويلة ، ظل ملوك يهودا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم بيت الملك الشرعي ، وإلى ملوك إسرائيل على أنهم منشقون ، يجب انتهاز الفرصة لإخضاعهم وضمّ أراضيهم إلى المملكة الموحدة ـ يهودا. وبناء عليه ، فلم يعنوا بتحصين حدودهم الشمالية ، بانتظار الفرصة التي لم تأت. في المقابل ، ومنذ البداية ، كان همّ يربعام في إسرائيل تكريس الانفصال ، وإعطاءه التعبيرات السياسية والدينية ، التي لا تمت بصلة إلى أورشليم ـ بلاطا أو هيكلا. فأعاد الاعتبار إلى أمكنة العبادة القديمة ، وأقام فيها العجول المذهّبة ، الأمر الذي اعتبره كتبة التوراة عودة إلى عبادة الأصنام. وجعل عاصمته أولا في شيكم ، ثم نقلها لاحقا إلى السامرة.

إن العوامل التي أدّت إلى انقسام مملكة داود بعد موت سليمان ، عادت لتفعل فعلها في مملكة إسرائيل بعد استقلالها. فوقوعها بين مطرقة الأراميين ، القوة الصاعدة في دمشق ، وسندان يهودا التي تحالفت معهم ، أدخل إسرائيل في مأزق خارجي ، بينما بنيتها الداخلية كانت قائمة على ائتلاف قبلي هش. والهزائم المتتالية التي لحقت بيربعام ، خلخلت أركان حكمه ، فانتهز بعشا بن أحيّا (٩٠٦ ـ ٨٨٣ ق. م.) ـ من سبط يسّخار ـ الفرصة ، وقضى على سلالة يربعام ، وبالتالي على زعامة قبيلة إفرايم في مملكة إسرائيل. وبذلك دخلت إسرائيل في صراع داخلي بشأن السلطة ، بينما ظلت يهودا أكثر تماسكا بسبب ارتكازها أصلا على قبيلة واحدة ، هي يهودا ، التي خرجت منها سلالة داود المالكة.

وفي غياب تهديد جدّي لبلاد الشام ، أكان ذلك من مصر أو العراق ، وحياد المدن الفينيقية على الساحل ، اندلع صراع مثلث الجوانب بين ممالك الداخل ـ دمشق والسامرة وأورشليم ـ لم تستطع أي منها حسمه لمصلحتها تماما. وبداية عمد بعشا إلى التحالف مع دمشق ضد يهودا ، واستطاع بذلك أن يستعيد الأراضي التي خسرتها إسرائيل أيام أبيام. لكن ملك يهودا ، آسا (٩٠٨ ـ ٨٦٧ ق. م.) الذي راح يحسّ بالخطر ، سواء من الشمال (تحالف دمشق ـ السامرة) ، أو من الجنوب (حركة زيرح الكوشي) بتحريض من مصر ، سارع إلى التحالف مع دمشق ، والتعاون معها ضد السامرة. لكن آسا ، الذي تمتع بشعبية في بداية حكمه ، نظرا إلى انحيازه ضد العبادات الأجنبية في يهودا ، راح يواجه مشكلات داخلية لتحالفه مع الأراميين ، ربما بتحريض من مصر ، الأمر الذي حمله على اللجوء إلى القمع لإخماد المعارضة الشعبية ضده.

٩٩

من موقع القوة ، استطاع بن هداد الأول ، ملك دمشق الأرامي ، انتزاع مناطق واسعة من مملكتي إسرائيل ويهودا ، وخصوصا في شرقي الأردن وشمال فلسطين. ومرة أخرى وقع انقلاب في بلاط بعشا بعد موته ، وانتقل الملك إلى قائد جيشه عمري (٨٨١ ـ ٨٧٣ ق. م.) ، الذي أسس سلالة جديدة هي الثالثة في إسرائيل ، بينما سلالة داود استمرت في الحكم في يهودا. واستطاع عمري أن يثبّت أركان حكمه ، فبنى عاصمة جديدة له ـ هي السامرة. وإزاء ضغط الأراميين المتعاظم ، عمد عمري إلى عقد اتفاقات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية مع إتبعل ، ملك صيدا (الفينيقي) ، الأمر الذي عاد عليه بفوائد جمّة. وكذلك ، توجه نحو تحسين علاقاته مع مملكة يهودا. وبذلك أدخل عمري مملكته في مرحلة من الازدهار ، جعلتها قوة مهمة في بلاد الشام ، كما يبرز ذلك لاحقا ، في تحالف هذه الممالك جميعا ضد أشور.

والوثائق الأشورية تشير إلى ملوك إسرائيل باسم «بيت حمري» ، وحتى لأولئك الذين لم يكونوا من سلالته. وكما قطف سليمان ثمار جهد داود ، هكذا فعل آحاب (٨٧٤ ـ ٨٥٣ ق. م.) بعد عمري ، على الرغم من تباين الأوضاع ، إذ كانت أشور في هذه الفترة تعاود نشاطها التوسعي بوتيرة عالية. ووطد آحاب علاقاته مع الفينيقيين ، وتزوّج إيزابيل ، ابنة إتبعل ، ملك صيدا. وإذ قوّى ذلك موقعه السياسي الإقليمي ، فإنه خلق له مشكلات داخلية ، تمثلت بالمعارضة الشعبية للعادات والتقاليد التي جلبتها إيزابيل معها ، ونشرتها في البلاط ، كما في أوساط الارستقراطية المدنية والعسكرية. وكما فعل سليمان في أورشليم ، هكذا نشط آحاب في توسيع عاصمته السامرة ، وتزيينها وتحصينها.

والمشاريع العمرانية في عاصمة آحاب ، والتحصينات الضخمة على حدود مملكته ، تشير إلى الازدهار الاقتصادي في إسرائيل في أيامه. وكان ذلك نتيجة العلاقات التجارية مع المدن الفينيقية من جهة ، ومع يهودا ، من جهة أخرى ، إذ بعد موت آسا تحسنت علاقات آحاب مع ابنه ووارثه يهوشافاط. ولتكريس التعاون بينهما ، زوج آحاب ابنته عتاليا (ابنة إيزابيل) ، إلى يهورام ابن يهوشافاط ، فحملت معها العادات والتقاليد والعبادات الفينيقية إلى أورشليم ، الأمر الذي أثار ردات فعل سلبية فيها. ولكن الأهم هو توتر العلاقة مع أرام دمشق ، أيام بن هداد الثاني ، جرّاء التقارب بين يهودا وإسرائيل. وسارع بن هداد إلى مهاجمة آحاب ، ووصل إلى عاصمته ، وحاصرها ، لكنه لم يحتلها. وخلال فترة قصيرة ، دخل هؤلاء جميعا في تحالف لمواجهة أشور.

ويبدو أن بن هداد عاد إلى دمشق ليواجه خطر الأشوريين الآتي من الشرق.

١٠٠