الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

وبينما لم تحظر الملكية الخاصة على الأرض ، فإنه لم يجر تشجيعها عبر موارد المنظمة الصهيونية العالمية. كما أقرّ إمكان تجديد عقد إيجار الأرض لمدة ٤٩ سنة أخرى ، وهو قابل للتوارث ، شرط عدم تقسيم الأرض بين الورثة ، وشرط الإقامة على الأرض ، وفلاحتها بالطاقة البشرية الذاتية ، من دون عمل مأجور. كما تقرر أن يدفع المستأجر ضريبة ٢% من قيمة الأرض سنويا ، إذا كانت زراعية ، و ٤% إذا كانت في المناطق السكنية (المدن).

وفي الواقع ، فإن انعقاد مؤتمر لندن في تموز / يوليو ١٩٢٠ م تواكب مع استبدال الإدارة العسكرية في فلسطين بأخرى مدنية. وفي أيلول / سبتمبر من تلك السنة ، صدر «قانون نقل ملكية الأراضي» ، وفي تشرين الأول / أكتوبر اللاحق ، فتحت دائرة تسجيل الأراضي التي كانت مغلقة منذ الاحتلال البريطاني (١٩١٧ م). كما اعترفت حكومة الانتداب بالصندوق القومي اليهودي على أنه «مؤسسة ذات أهداف تخدم المصلحة العامة» ، وتم تسجيله كشركة مخولة للعمل على شراء وتطوير الأراضي في فلسطين. وهكذا راحت ممتلكات الصندوق تتوسع من ٣٦٣ ، ٢٢ دونما في نهاية سنة ١٩٢٠ م ، إلى ٦٢٧ ، ٢٧٨ دونما في سنة ١٩٣٠ م إلى ٩٥٠ ، ٥١٥ دونما في سنة ١٩٤٠ م ، وإلى ٠٠٠ ، ٩٣٦ دونم في أيار / مايو ١٩٤٨. وبذلك كان الصندوق يملك لدى قيام إسرائيل ٥٥ ، ٣% من مجموع مساحة فلسطين البالغة ٠٢٣ ، ٣٢٣ ، ٢٦ دونما ، و ٥٤% من مجموع الأراضي التي يملكها اليهود ، والبالغة مساحتها ٠٠٠ ، ٧٣٤ ، ١ دونم ، والتي تعادل ٥٩ ، ٦% من مجموع أراضي فلسطين.

ومن أهم المؤسسات الاستيطانية التي شكلت بعد مؤتمر لندن كانت النقابة العامة للعمال اليهود في أرض ـ إسرائيل (ههستدروت هكلاليت شل هعوفديم هعفريم بإيرتس ـ يسرائيل). وقد جاء تأسيس الهستدروت (كانون الأول / ديسمبر ١٩٢٠ م) ليحدث نقلة نوعية في تطوير النقابات العمالية والمهنية التي سبقت ذلك ، والتي بدأت في أثناء الهجرة الثانية (١٩٠٤ ـ ١٩١٨ م). وقرار تشكيل الهستدروت توخى أن تكون هذه المؤسسة إحدى ركائز المشروع الصهيوني في فلسطين ، بأهدافه الرامية إلى تهويدها ، وبما ينسجم مع المرحلة الجديدة من العمل الصهيوني. فالهستدروت بالذات كانت ترمي إلى استكمال عمل المؤسسات الاستيطانية الأخرى. وإذا كانت الوكالة اليهودية تعمل على تهويد السكان في فلسطين ، عبر تهجير اليهود إليها ، وتولي إدارة شؤون حياتهم فيها ، والصندوق القومي يعمل على تهويد الأرض ، فالهستدروت هي ركيزة تهويد العمل والسوق ، وبالتالي الاقتصاد ، تحت شعار «العمل العبري» ، الذي رفعه المستوطنون ، والذي يعني في الواقع مقاطعة العمل العربي ، والسيطرة على

٤٠١

اقتصاد البلد ، وإخراج السكان المحليين من دورته.

وفي مقدمة قرار تأسيس الهستدروت ، الذي اتخذ في مؤتمر عقد في حيفا من ٤ إلى ٩ كانون الأول / ديسمبر ١٩٢٠ م ، ورد ما يلي : «إن هدف النقابة الموحدة لجميع العمال والفلاحين الذين يعيشون بعرق جبينهم ، دون استغلال جهود الآخرين ، أن تسير قدما في عملية استيطان الأرض ، وأن تتدخل في كل المسائل الاقتصادية والثقافية التي تمس العمل في فلسطين ، وأن تبني مجتمع عمال يهوديا هناك.» وقد عبر رئيس حكومة إسرائيل الأول ، بن ـ غوريون ، عن طبيعة الهستدروت بقوله : «ليست الهستدروت نقابة عمالية ولا حزب سياسي ، ولا هي تعاونية أو جمعية لتبادل المنفعة ، إنها أكثر من ذلك. فالهستدروت هي اتحاد شعب يقوم ببناء موطن جديد ودولة جديدة وشعب جديد ، ومشاريع ومستعمرات جديدة ، وحضارة جديدة. إنها اتحاد للمصلحين الاجتماعيين ، لا تمتد جذوره إلى بطاقة عضويته الخاصة ، بل إلى المصير المشترك والمهمات المشتركة لجميع أعضائه في الحياة والموت.» وبذلك لا تكون الهستدروت نقابة عمالية ، بقدر ما هي ركيزة استيطانية أساسية. (١)

والهستدروت ، إضافة إلى كونها نقابة العمال الكبرى في المشروع الصهيوني ، وفي فترات محددة ، النقابة العمالية الوحيدة ، كانت من أرباب العمل ، وأحيانا ربّ العمل الأكبر في ذلك المشروع. فقد نمت بسرعة كبيرة لتصبح الجسم الاقتصادي الرئيسي للمستوطنين ، متخذة صيغة «قطاع عام». وبذلك لم تكن هيئة ممثلة للعمال في مواجهة أرباب العمل فحسب ، بل كانت مستخدما لقطاع واسع منهم أيضا. ولا غرو ، إذ انطلقت من فكرة «غزو سوق العمل» ، ومن المبدأ الصهيوني الاستيطاني القائل بتهويد الاقتصاد ـ الإنتاج والتسويق والخدمات. وبصفتها هذه أدّت دورا سياسيا مهما في نشر الفكر الصهيوني والترويج له على الصعيد الدولي ، عبر العلاقات التي أقامتها مع نقابات العمال العالمية. كما أدّت دورا بارزا في ترسيخ الثقافة الصهيونية بين المستوطنين ، وساهمت في تمكينهم من نقل هذه الثقافة إلى حيز التطبيق العملي ، عبر الكثير من المؤسسات والمنظمات والشركات والمرافق والمستعمرات الزراعية والأحياء السكنية في المدن. هذا إضافة إلى الخدمات الطبية والضمانات الاجتماعية والتسهيلات المالية.

وتتضح أهمية الهستدروت في المشروع الصهيوني من اتساع مجال نشاطها ،

__________________

(٢٣) عبد الوهاب المسيري ، «موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية» (القاهرة ، ١٩٧٤) ، مادة «الهستدروت».

٤٠٢

ومن حجم دورها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ، داخل التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين وخارجه. فبمرور الزمن أصبحت تملك ، منفردة ، أو بالاشتراك مع رأس مال حكومي ، خاص ، أو أجنبي ، عشرات الشركات الكبيرة ، في حقول الإنتاج الصناعي والزراعي ، وكذلك التسويق والتصدير والاستيراد والنقل البري والبحري والجوي ، والبناء والاستثمارات الخارجية والصناعات التحويلية والاستهلاكية. هذا فضلا عن دورها الكبير في بناء وتطوير الاستيطان الزراعي التعاوني. فالهستدروت تملك على سبيل المثال شركة «تنوفا» للتسويق الزراعي ، و «هامشبير» للتسويق الصناعي والاستهلاكي ، و «سوليل بونيه» للبناء و «كور» للصناعة الثقيلة ، وغيرها. كما أن للهستدروت مؤسسات مالية : بنكا وصندوق تسليف وشركة إسكان وشركة تأمين وصندوقا للمرضى وصندوق ضمان اجتماعي ، كما تملك صحفا ومجلات ونوادي ثقافية ومسارح وغيرها.

ومن خلال نشاطها تبرز الهستدروت ليس كمنظم للعمال ورعاية مصالحهم في المشروع الصهيوني ، وإنما كصانع للطبقة العاملة ذاتها ، وكأداة للحركة الصهيونية في تهويد اقتصاد فلسطين. فمنذ البداية ، تبنت شعار «العمل العبري» ، الذي كان يعني في الحقيقة مقاطعة العمل العربي ، وكذلك شعار «السوق اليهودية» ، أي مقاطعة المنتوجات العربية. وقد نمت عضويتها بسرعة ، فقفزت من ٤٤٣٣ لدى تأسيسها سنة ١٩٢٠ م إلى ٢٧٥ ، ١٥ سنة ١٩٢٦ م ، فإلى ٣٧٨ ، ٢٥ سنة ١٩٣٠ م ، فإلى ٨١٨ ، ٨٥ سنة ١٩٣٦ ، وإلى نحو ٠٠٠ ، ٢٠٠ في نهاية عهد الانتداب (١٩٤٨ م). وتوسع نشاطها لتصبح العمود الفقري لاقتصاد الاستيطان الصهيوني قبل قيام إسرائيل ، وحتى بعده ، إذ ظلت الهستدروت المستخدم الأكبر بعد الحكومة. وكذلك فقد قامت الهستدروت بإنشاء البنية التحتية للكيان الصهيوني قبل الإعلان عن استقلاله.

ولعل أكثر ما يكشف طبيعة الهستدروت الاستيطانية احتضانها منظمة «الهاغاناه» الإرهابية. فالنشاط الذي مارسته الهستدروت لتهويد فلسطين ، كان لا بدّ من أن يصطدم بمقاومة الفلسطينيين ، ذلك بأنه يرمي إلى نفي علاقتهم بوطنهم وتغييبهم عنه ، وهذا لا يمكن أن يتم بالوسائل السلمية. وفي الواقع ، فقد وعى قادة العمل الصهيوني مبكرا ، أن مشروعهم لا يمكن أن يتجسد إلّا من خلال استعمال العنف الفاشي المسلح ضد أهل البلد الأصليين. وحاول هؤلاء بناء قوة عسكرية خلال الحرب العالمية الأولى ، وبعد الحرب ، عملوا على نقلها إلى فلسطين لتشكل نواة «الوطن القومي اليهودي» فيها. غير أن هذا المسعى اصطدم بمعارضة الإدارة العسكرية البريطانية ، من جهة ، وبعقبات تنظيمية صهيونية ذاتية ، من جهة أخرى. وفي إطار

٤٠٣

الترتيبات الجديدة ، ووضع فلسطين تحت الانتداب لتهيئتها كي تصبح «وطنا قوميا يهوديا» ، وبالسرعة القصوى ، فقد أصبح الأمر أكثر إلحاحا. ومع اندلاع المقاومة العربية العنيفة للمشروع الصهيوني ، توفرت الذريعة لدى قادة العمل الصهيوني لتشكيل منظمات مسلحة بحجة الدفاع عن المستوطنين ، وسكتت إدارة الانتداب عن ذلك ، بل شجعته ورعته أحيانا.

غير أن ضعف الاستيطان الصهيوني أثار جدلا داخله بشأن جدوى تشكيل منظمات مسلحة ، أخذا في الاعتبار انعكاسات ذلك على مسار الصراع ، وقدرة المستوطنين على الصمود في الاختبار. فكان هناك من أيّد الفكرة بحماسة ، ولكن في المقابل ، كان هناك من تحفظ عليها ، ودعا إلى ترك مسألة أمن المستوطنين في أيدي سلطات الانتداب. لكن دعاة تشكيل المنظمات المسلحة كسبوا المعركة ، متذرعين بأعمال المقاومة العربية للنشاط الاستيطاني ، سواء إزاء التيار الصهيوني المعارض لتولي مسؤولية الأمن ، أو تجاه سلطات الانتداب ، التي لم تكن ترحب بالفكرة بوجه عام. وبعد تصفية المستعمرات في شمالي «إصبع الجليل» (١٩٢٠ م) ، قدم حاكم الجليل العسكري ، كوكس ، أسلحة للمستوطنين لمواجهة المقاومة العربية المتصاعدة ، وجند الكثيرين منهم في «الشرطة الخاصة» ، كما سمح لمجموعات «هشومير» بالتجول بسلاحها ، تحت حجة حماية المستعمرات. وكذلك ، أدّت الصدامات العنيفة في القدس (١٩٢٠ م) إلى تعزيز موقف المتطرفين من قادة العمل الصهيوني ، مثل زئيف جابوتنسكي وبنحاس روتنبرغ ، للمطالبة بتشكيل مجموعات مسلحة علنية ، بموافقة سلطات الانتداب ، التي لم تستجب لذلك في البداية.

ومع أن السلطات البريطانية في فلسطين لم توافق رسميا على تشكيل تلك المجموعات المسلحة ، إلّا إنها تشكلت ، بصورة أو بأخرى ، في مناطق متعددة : القدس وتل أبيب والجليل. ولأسباب ذاتية ـ ضعف الاستيطان والتباين في وجهات النظر بين قيادته ـ وأخرى موضوعية ـ معارضة السلطات البريطانية والمقاومة العربية ـ فقد ظلت هذه المجموعات تعمل على انفراد ، ومن دون قيادة موحدة. غير أن حزب أحدوت هعفودا ، الذي تأسس سنة ١٩١٩ م ، كحزب عمالي ، وسيطر على الهستدروت بعد تأسيسه ، تبنى في مؤتمره (١٣ ـ ١٥ حزيران / يونيو ١٩٢٠ م) قرارا بتشكيل منظمة قطرية للدفاع ـ هاغاناه. فحلت محل منظمة هشومير ، في إطار الهستدروت ، وأخذت على عاتقها تشكيل منظمة عسكرية سرّية ، تعمل على تأمين منجزات المشروع الصهيوني عن طريق تحويل فلسطين إلى «وطن قومي يهودي».

٤٠٤

وبمرور الزمن ، تحوّلت هذه المنظمة الإرهابية إلى جيش صهيوني ، تولى سنة ١٩٤٨ م فرض الأمر الواقع على فلسطين بقوة السلاح ، وأرغم أهلها على النزوح والجلاء عن وطنهم. وقامت الهاغاناه ، أكثر من أية مؤسسة استيطانية صهيونية أخرى ، من حاضنتها في الهستدروت بحسم الصراع بشأن فلسطين سنة ١٩٤٨ م ، بالعنف المسلح ، وليس بامتلاك الأرض ، أو تهويد السكان والسوق.

وانطلاقا من وعيهم لطبيعة مشروعهم الاستيطاني ، فقد توصل قادة العمل الصهيوني إلى ضرورة استعمال العنف المسلح ضد الشعب الفلسطيني لإخضاعه لإملاءات ذلك المشروع. وبعد الحرب العالمية الأولى ، بذل هؤلاء جهودا كبيرة لحمل سلطات الاحتلال البريطاني على السماح للوكالة اليهودية بتوسيع الفرقة اليهودية ليصل عدد أفرادها إلى ٠٠٠ ، ٢٥ رجل ، فتكون الأداة التنفيذية لتحقيق وعد بلفور. وكانت هذه الفرقة ، التي بلغ عدد أفرادها ٥٠٠٠ رجل ، قد انتقلت في نهاية الحرب إلى فلسطين ، لتكون في استقبال البعثة الصهيونية برئاسة وايزمن ، ولتشارك ، ولو اسميا ، في استكمال احتلال فلسطين ، بما يدعم الدعوى الصهيونية عليها. لكن الإدارة البريطانية لم تتحمس للفكرة. وإزاء الأوضاع التي تشكلت في فلسطين ، انقسم المعسكر الصهيوني بين دعاة تشكيل جيش علني بموافقة بريطانيا ، يعمل على احتلال فلسطين بالقوة ، وبين دعاة الانصراف إلى تسليح جماعات الهاغاناه ، كمنظمة عسكرية سرية ، تحت ستار الدفاع عن النفس ، وترك المسؤولية الأمنية العامة في يد سلطات الاحتلال البريطاني.

وبينما تزعم زئيف جابوتنسكي التيار الداعي إلى تشكيل جيش علني ، ونظم مجموعات مسلحة من دون ترخيص ، فقد وقف الجناح الموالي لحاييم وايزمن مع الهاغاناه السرية. وبسبب الخلافات بين الفريقين بشأن هذه المسألة من جهة ، وعدم حماسة المستوطنين للدفاع الذاتي ، وخصوصا في المستعمرات الكبيرة الأولى ، لنقص الطاقة البشرية والموارد المالية ، وعدم الثقة بقيادة الهاغاناه ، من جهة أخرى ، فقد تعثر تشكيل منظمة عسكرية واحدة بقيادة موحدة. وانصرفت الهستدروت ، بزعامة دافيد بن ـ غوريون ، سكرتيرها الأول ، إلى تنظيم الهاغاناه العمالية السرية ، بإشراف موشيه شاريت (شرتوك) ودافيد هكوهين وإلياهو غولومب. وتوجه هؤلاء إلى العمل على أسس مغايرة لتلك التي دعا إليها جابوتنسكي ، وعمدوا إلى تشكيل وحدات مسلحة من العمال ، وتوزيعها في مناطق متعددة. وظل التباين في وجهات النظر قائما ، وأدّى لاحقا إلى انقسامات وتشكيل منظمات مستقلة عن الهاغاناه ، تابعة للجناح التنقيحي. لكن الهاغاناه نفسها لم تحقق إنجازات كبيرة ، لأسباب ذاتية وموضوعية ، وخصوصا

٤٠٥

أن جناح وايزمن السائد في المنظمة الصهيونية ، لم يكن يرغب في الصدام مع سلطات الانتداب ، وأغلبية المستوطنين أرادت ترك مسألة الأمن في يد سلطات الانتداب ، لعدم ثقتها بمنظمة الهاغاناه.

لكن سرّية الهاغاناه كانت شكلية فقط ، إذ كانت السلطات البريطانية تعلم بوجودها ، وتغض النظر عن نشاطها ، بل اعتمدت عليها أحيانا في حفظ الأمن وزودتها بالأسلحة والمدربين. وبعد قرار مؤتمر حزب أحدوت هعفودا (١٩٢٠ م) ، بتشكيل وحدات دفاعية محلية ، جاءت أحداث يافا في أيار / مايو ١٩٢١ م لتدفع الهستدروت إلى توسيع إطار الهاغاناه ، وتعيين لجنة إقليمية على رأسها باسم «مركز الدفاع». وكانت الشخصيتان المركزيتان في قيادة الهاغاناه هما : راحيل ينئيت (بن ـ تسفي لاحقا) ، وإلياهو غولومب. كما ضمت القيادة ممثلين عن الأوساط المدنية في المستعمرات ، إذ أصبحت تمثل الأحزاب الصهيونية والحركات الاستيطانية المتعددة. وعملت الهاغاناه على الحصول على السلاح بصور متعددة ، بما فيها تهريبه وفي التدريب على استعماله وتمويل فعالياتها. وحتى سنة ١٩٢٩ م ، ظل تنظيم الهاغاناه يقوم أصلا على أساس وحدات محلية ، يقف على رأسها قادة محليون ، وأعضاؤها على العموم ليسوا متفرغين للعمل العسكري ، وينتمون إليها بصورة تطوعية ، إلّا في فترات احتدام الصراع واندلاع العنف.

وفي سنة ١٩٣٧ م تشكلت «لجنة الهجرة غير الشرعية» (هموساد لعلياه بيت) ، في اجتماع عقده قادة الهستدروت والهاغاناه في تل أبيب ، وعرفت بالاسم المختصر (هموساد) ، لتتولى أمر تنظيم عمليات الهجرة غير المشروعة. وكان التبرير لإقامة الموساد هو السياسة النازية إزاء اليهود في أوروبا ، والضغط الاقتصادي والسياسي الذي يتعرض له هؤلاء في بولونيا ورومانيا ، والقيود الشديدة التي فرضتها حكومة الولايات المتحدة على هجرة اليهود إليها ، وذلك بالتنسيق السري مع المنظمة الصهيونية لتوجيههم نحو فلسطين. وقد اتخذ الموساد مقرّه في باريس ، نظرا إلى ملاءمة العاصمة الفرنسية كمركز لعملياته في أوروبا. وانتشر عملاؤه في العواصم الأوروبية ، وأداروا منها نشاطا سرّيا محكما ، بالتعاون أحيانا مع أجهزة الاستخبارات فيها ، بمن في ذلك جهاز الاستخبارات النازي «الغستابو». ولم يتورع الموساد عن استعمال شتى الوسائل لتهجير يهود أوروبا إلى فلسطين. وعشية الحرب العالمية الثانية ، وفي أثنائها وبعدها ، نشط الموساد في عمله ، الذي طال الأقطار العربية لتهجير يهودها إلى فلسطين. والموساد في النتيجة منظمة لخرق قانون الهجرة الفلسطيني ، وإدخال المهاجرين اليهود إلى البلد عنوة ، أو خلسة ، وبالتالي فقد أقام شبكة واسعة

٤٠٦

من المؤسسات والهيئات والعلاقات السرية ، ولجأ إلى أشكال متعددة من النشاطات الاستخبارية والإرهابية والتخريبية التي تخدم أهدافه ، بما في ذلك ضد الجاليات اليهودية ذاتها.

وعدا ما تقدم من مؤسسات استيطانية رئيسية ، فقد تأسست في لندن (١٩٢٠ م) منظمة النساء الصهيونية العالمية (ويتسو) ، لتخدم أغراض الصهيونية على الصعيد النسائي. ووجهت المنظمة اهتمامها لشؤون العناية بالمرأة والطفل والتدريب المهني والزراعي ، وإقامة النوادي ومراكز الترفيه للشباب. وتبرز كذلك هداسا ، منظمة النساء الصهيونيات في الولايات المتحدة. وكانت قد تأسست سنة ١٩١٢ م ، وقدمت خدمات طبية ، ومراكز إرشاد للأمهات وغير ذلك. وفي الولايات المتحدة أيضا ، تأسس (١٩٢٧ م) النداء اليهودي الموحّد ، الذي اندمج (١٩٣٩ م) مع لجنة التوزيع المشتركة اليهودية الأميركية ، وعملا على جمع التبرعات وجباية الأموال لمصلحة المشروع الصهيوني على الساحة الأميركية. وفي سنة ١٩٣٩ م ، جرى تشكيل المؤتمر اليهودي العالمي في جنيف ، وحل محل لجنة الوفود اليهودية ، التي تشكلت (١٩١٩ م) لتمثيل اليهود في مؤتمر السلام بباريس. وهذا المؤتمر يطرح نفسه ممثلا لليهود في جميع أنحاء العالم. وقد ترأسه الحاخام الصهيوني الأميركي ستيفن وايز ، وخلفه بعد موته (١٩٤٩ م) ناحوم غولدمان ، الذي جمع بين رئاسة المؤتمر اليهودي العالمي والمنظمة الصهيونية العالمية بعد قيام إسرائيل.

ويبرز نشاط المنظمة الصهيونية بعد الحرب العالمية الأولى وعي قادتها لطبيعة المشروع الاستيطاني الذي أزمعوا على إقامته في فلسطين. وانطلاقا من كونه مشروعا مشتركا مع إحدى القوى الإمبريالية أو أكثر ، تحركوا بعد الحرب لتأمين هذا الشق من المشروع. وقد حققوا ذلك عبر تكريس وعد بلفور على الصعيد الدولي ، ومن ثمّ وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني ، ليشكل حاضنة للمشروع الاستيطاني ، بدعم أميركي قوي ، وتأييد دولي واسع النطاق. وبذلك توفرت الشروط اللازمة للشق الإمبريالي من المشروع المشترك ، وبنيت الركيزة الأساسية في أمنه الاستراتيجي ـ العلاقة مع المركز الإمبريالي البريطاني. إلّا إن المنظمة الصهيونية لم تحقق في المقابل نجاحا موازيا على صعيد الشق اليهودي .. فإنشاء «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين ، كان يتطلب تهويدها ، وهذا غير ممكن من دون اليهود ، الذين لم يهرعوا بأعداد كبيرة للهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها ، بحجم يجعل المشروع الصهيوني ظاهرة قابلة للحياة بقواها الذاتية. فعلى هذا الصعيد ـ تهويد فلسطين ، كما تصورته الصهيونية ـ كان طموحها أكبر بكثير من قدرتها على الأداء.

٤٠٧

وانسجاما مع سياسة «الهجوم من أعلى» التي انتهجتها المنظمة الصهيونية ، فقد سارعت إلى تشكيل المؤسسات التي اعتقدت أنه من خلالها يمكن تجسيد مشروعها الاستيطاني. فبدأت بتنظيم جهاز السلطة ـ الوكالة اليهودية بأطرها التنفيذية والتشريعية. ومن ثم أقامت مؤسسات تهويد فلسطين وتمويله ، وكذلك وبالتعاون مع سلطات الانتداب ، شكلت إدارة ذاتية لشؤون المستوطنين ، كانت بمثابة حكومة خاصة داخل الحكومة العامة. كما بدأت بتشكيل منظمات إرهابية مسلحة ، لتدعيم سياستها الاستيطانية بالقوة العسكرية. ومع ذلك ، فقد ظلت إنجازاتها في فلسطين متواضعة خلال العشرينات. ويعود ذلك أصلا إلى أنها لم تكن مهيّأة للسيطرة على البلد ، حتى بمساعدة الانتداب. فقد كانت تعاني نقصا بالطاقة البشرية ، وعجزا بالموارد المالية ، الأمر الذي وضع أحيانا علامة استفهام على صدقيتها وفاعليتها ، حتى في نظر القريبين منها.

أمّا العامل المهم الآخر الذي اصطدمت به الصهيونية في سعيها لتجسيد مشروعها ، وبسرعة ، فهو المقاومة العربية العنيفة ، التي لم تكن تتوقعها ، ولم تعد لها العدة. وحاولت أن توظف سلطات الانتداب في قمعها وإخضاعها ، وبصورة فظة ، أملتها عليها تطلعاتها المفرطة في غلوائها ، من جهة ، وعدم أهليتها الذاتية لتجسيد تلك التطلعات من جهة أخرى. وإذ لم يكن في قدرتها تهويد فلسطين باليهود ، فقد ارتأت تحقيق ذلك الغرض بتغييب شعبها عنها. فمارست الأوساط الصهيونية ضغوطا على حكومة الانتداب للتضييق على العرب الفلسطينيين لتهجيرهم. وقامت وسائل الإعلام الصهيونية بحملة واسعة لتغييبهم حضاريا وثقافيا ، وحتى لنفي وجودهم المادي الجسدي ، وتشويه وجههم الحضاري بتحميلهم وزر ما لحق بالبلد من خراب ، وأنها أصبحت صحراء قاحلة تستصرخ المستوطنين لإعمارها ، كما ادعت أبواق الإعلام الصهيوني. وكان كلما زاد تواطؤ سلطات الانتداب مع الأهداف الصهيونية ، وتحرك الطرفان لتجسيد وعد بلفور ، ولّد ذلك ردة فعل مضادة من جانب العرب الفلسطينيين ، وزاد في احتدام التناقض بين الطرفين في حركة لولبية متصاعدة ، الأمر الذي رفع حدة المواجهة بينهما ، وصولا إلى الثورة.

سادسا : الطريق إلى الثورة

لقد تضافرت جهود حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين ، مع النشاط الصهيوني الاستيطاني المحموم لتهويدها ـ الأرض والشعب والسوق ـ على جعل ثورة السكان العرب المحليين مسألة حتمية. والشروط الموضوعية لمثل هذه الثورة

٤٠٨

توفرت منذ البداية ، إذ راح الانتداب والاستيطان يحثان الخطى نحو تغييب العرب الفلسطينيين عن وطنهم ، كضرورة لتحقيق الهدف المعلن لهما ـ تحويل فلسطين إلى «وطن قومي يهودي». وكان طبيعيا أن يرفض الفلسطينيون ذلك ، وأن يقاوموه بما لديهم من طاقة على الفعل. وعلى هذا الصعيد ، لم تتوفر لهذا الجزء من الأمة العربية ، الذي عزل عن عمقه الاستراتيجي بالتقسيمات الاستعمارية للوطن العربي بعد الحرب ، المقومات الذاتية لإشعال الثورة. وإذ كانت حالة الوعي لأخطار المشروع الصهيوني متقدمة ، فإن أوضاع الشعب الفلسطيني السياسية والاجتماعية بعد الحرب ، لم تكن مهيّأة لإدارة صراع مع الاستيطان والانتداب ، بالمستوى نفسه من الحدة ، الذي يتوازى مع درجة احتدام التناقض المتولد من الجمع بين هذه الأضداد في وحدة صراعية.

ولأن حكومة الانتداب لم تتطابق في أسلوب عملها تماما مع الوكالة اليهودية ، وذلك لحسابات بريطانيا الإقليمية والدولية ، بينما الوكالة تستعجل وضع يدها على فلسطين من دون أن تكون مهيّأة لذلك ، فقد اتخذ الصراع المثلث الجوانب آلية معينة ، راحت تتكرر بحركة لولبية متصاعدة نحو الاحتدام وانفجار الثورة العربية (١٩٣٦ م). فإزاء المقاومة العربية للهدف المشترك بين الانتداب والاستيطان ، سلكت حكومة الانتداب سبيل التطويع السياسي المتأني ، في مقابل النهج الذي اعتمدته الوكالة اليهودية ، والذي يطالب حكومة الانتداب بفرض المشروع الصهيوني قسرا على الفلسطينيين. وعندما لم تستجب هذه الحكومة لمطالب الوكالة ، كانت العلاقة تتوتر بينهما مرحليا ، فتهدأ المقاومة العربية مرحليا أيضا ، ثم لا تلبث أن تتصاعد عند ما يعاود الحليفان نشاطهما لتحقيق خطوة جديدة على طريق التهويد. وعندها ، تتراجع حكومة الانتداب تكتيكيا ، فتندفع الوكالة اليهودية قلقة على مصير مشروعها ، وتتحرك على الصعيد الدولي ، وخصوصا على محور لندن ـ واشنطن ، بينما تتوصل القيادة الفلسطينية ، إلى تفاهم ما مع حكومة الانتداب ، وتهدأ الأوضاع مرحليا ، وهكذا دواليك.

ولكن مع بداية الثلاثينات ، راح الوضع يتفاقم نتيجة صعود النازية في ألمانيا ، وبالتالي ازدياد حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين بالوضعين ، الشرعي وغير الشرعي. فعمّ التململ جميع أنحاء فلسطين ، وأعلن الإضراب العام الذي دام ستة أشهر ، وبالتالي اندلعت الثورة المسلحة (١٩٣٦ م) ، التي استمرت حتى إعلان الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ م). وفي الأعوام العشرين الفاصلة بين الحربين العالميتين ، تبلورت الملامح الرئيسية للمشروع الصهيوني. فقد شكلت أجهزة الحكم الذاتي اليهودي ، إضافة إلى هيئات الوكالة اليهودية في لندن وفلسطين. وكذلك أنشئت المؤسسات الاستيطانية التي تغطي جميع نواحي العمل اللازم لتهويد فلسطين. لكن

٤٠٩

الاستيطان الصهيوني ظل بعيدا عن الأهلية لوضع اليد على البلد. وفي هذه الأثناء جرى تراجع في السياسة البريطانية تجاه المشروع الصهيوني ، على قاعدة وعد بلفور ، وصولا إلى طرح مشاريع لتقسيم فلسطين ، بعد فصلها عن شرق الأردن ، الأمر الذي لم يرق للحركة الصهيونية ، ولم يرض عنه الفلسطينيون. فتصاعدت المقاومة العربية ، واتجهت الصهيونية أكثر فأكثر نحو الولايات المتحدة لصوغ علاقات جديدة ، تكون على حساب الصلة التاريخية للمشروع الصهيوني ببريطانيا.

في كانون الثاني / يناير ١٩٢١ م ، نقلت الحكومة البريطانية إدارة فلسطين من وزارة الخارجية إلى وزارة المستعمرات ، التي تولاها آنذاك ونستون تشرشل. وكان المندوب السامي ، سامويل ، مسؤولا أمامه وبحاجة إلى موافقته على إجراءات حكومة الانتداب وميزانيتها. وإلى جانب المندوب السامي هيئة تنفيذية تعيّنها الحكومة البريطانية. ولدى وصوله إلى فلسطين ، كان سامويل متحمسا لتجسيد وعد بلفور. فبادر إلى اتخاذ عدد من الإجراءات لتعزيز الاستيطان الصهيوني. وأصدر «قانون الهجرة» (١٩٢٠ م) ، الذي أعطاه سلطة السماح لمن أراد ، بالدخول إلى البلد ، وإخراج من أراد هو منها. وحدد عدد المهاجرين اليهود إليها ب ٥٠٠ ، ١٦ سنويا. وكذلك سنّ قانون «نقل ملكية الأراضي» الذي سهل عمليات البيع ، وقانون «الأراضي المحلولة» و «الأراضي الموات» ، اللذين يخدمان الأهداف الصهيونية ، ويضيقان الخناق على الفلاحين العرب ، ويزيدان عبء الضرائب عليهم.

وقد أدّت المنظمة الصهيونية دورا كبيرا في تشكيل حكومة الانتداب ، عبر علاقاتها بأركان الحكومة البريطانية ، بما في ذلك تعيين سامويل نفسه مندوبا ساميا. وضمت حكومة الانتداب الأولى عددا من اليهود البريطانيين الموالين للصهيونية ، تولوا المناصب المهمة فيها ، ومنهم : نورمان بنتوتش ، النائب العام ، وألبرت حايمسون ، مسؤول دائرة الهجرة ، وماكس نوروك ، مساعد سكرتير الحكومة الأول. وكان التعاون بين هؤلاء الأربعة كفيلا بتمرير كل قانون يرونه ملائما في خدمة الصهيونية. وكذلك ، عيّنت الوكالة اليهودية الكولونيل اليهودي الصهيوني كيش ضابط ارتباط لها مع حكومة الانتداب ، لاستغلال علاقاته. ولم تتدخل حكومة الانتداب في تشكيل هيئات الحكم الذاتي اليهودي ، التي جرى انتخابها من قبل المستوطنين فقط. وبدرجة عالية من التطابق ، تحركت إدارة سامويل بالتنسيق مع الوكالة اليهودية لتحقيق هدف الانتداب ـ تهويد فلسطين ـ متجاهلتين وجود شعبها عليها ، فهب هذا ، بما توفر لديه ، للدفاع عن وجوده.

لكن ما كان لدى الشعب الفلسطيني لخوض هذا الصراع ضد تحالف الانتداب

٤١٠

والاستيطان قليل. فقد توفر لديه الوعي لخطر المشروع الصهيوني ، والإرادة للتصدي له ، لكنه ظل ينقصه التنظيم السياسي والاجتماعي اللازم لإدارة الصراع وكسبه. فالشعب الفلسطيني ، بعد الحرب وما تحمل جراءها ، وتقسيم بلاد الشام ، وضرب مشروع الدولة العربية ، وطرد فيصل من دمشق ، ومحاصرة الحركة القومية فيها ، لم يكن مهيّأ للوقوف وحده في وجه التحالف الإمبريالي ـ الصهيوني. ومع أن روحه الكفاحية كانت عالية ، واستعداده للتضحية كبيرا ، غير أن نضاله تميّز بالعفوية والارتجال ، وبالتالي تبعثر أوجه النشاط. وإذ برزت في داخله تنظيمات سياسية وأحزاب متعددة ، لكنها لم تكن مؤهلة للقيام بعمل اللازم لدحر المشروع الصهيوني. وقد أدّى غياب القيادة الكفوءة دورا رئيسيا في تقصير هذا النضال عن تحقيق غاياته في درء الخطر الصهيوني عن فلسطين. لكن نضال الشعب الفلسطيني ، على عفويته ، قد أخّر قيام الكيان الصهيوني إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية (١٩٤٨ م) ، أي إنه صمد على الرغم من كل التضحيات في وجه التحالف الصهيوني ـ البريطاني ، المدعوم أميركيا ، مدة ثلاثين عاما.

ولدى وصوله إلى القدس ، دعا سامويل وجهاء المنطقة إلى الاجتماع به يوم ٧ تموز / يوليو ١٩٢٠ م ، ووجهاء منطقة حيفا في اليوم التالي ، ووعدهم بضمان الحرية والمساواة لجميع الأديان ، وبالعمل على تطوير البلاد إداريا واقتصاديا. وأعلن العفو عن الموقوفين والمطلوبين في «انتفاضة القدس» (١٩٢٠ م) ، بمن فيهم الحاج أمين الحسيني. كما سمح بعقد المؤتمر الفلسطيني الثالث في حيفا بتاريخ ١٣ كانون الأول / ديسمبر ١٩٢٠ م ، الذي كانت مهمته وضع استراتيجية جديدة للعمل الوطني الفلسطيني في المرحلة الجديدة ، بعد تقسيم بلاد الشام ، وإنهاء حكومة فيصل (تموز / يوليو ١٩٢٠ م). وترأس المؤتمر موسى كاظم الحسيني ، وأكد البيان الصادر عنه «أن الحكومة غير شرعية ، لأنها تمارس سلطة التشريع دون مجلس تمثيلي ، وقبل أن يصدر القرار النهائي لعصبة الأمم.» واعترض البيان على اعتراف حكومة الانتداب بالمنظمة الصهيونية ، واعتبار العبرية لغة رسمية ، وفتح باب الهجرة إلى فلسطين. ووجه نقدا شديدا إلى المجلس الاستشاري الذي عينه المندوب السامي ، وختم البيان بإعلان «ميثاق وطني» ، ضمّ ثلاثة مبادىء : ١) استنكار السياسة الصهيونية بإقامة الوطن القومي على أساس تصريح بلفور ؛ ٢) رفض مبدأ الهجرة اليهودية ؛ ٣) إقامة حكومة تمثيلية. (١)

__________________

(٢٤) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم الثاني ، المجلد الثاني ، مصدر سبق ذكره ، ص ١٠٠٨ ـ ١٠٠٩.

٤١١

وكان المؤتمر الفلسطيني الثالث ، شكلا ومضمونا ، يمثل تراجعا لدى الحركة الوطنية الفلسطينية على الصعيد القومي ، واندفاعا نحو التركيز على البعد الوطني ، وذلك بفعل الواقع الذي تشكل بعد الحرب ، كما أنه تعبير عن طبيعة الزعامة المحلية التي قادت العمل الوطني الفلسطيني في تلك المرحلة. لقد غاب عن بيان المؤتمر أي ذكر للاستقلال والوحدة مع سورية ، وجرى التأكيد على مناهضة المشروع الصهيوني ، كقاسم وطني مشترك ، والمطالبة بالمشاركة في حكم البلاد عبر حكومة تمثيلية ، كتعبير عن المصالح الذاتية والوطنية. وإذ لم تكن قرارات المؤتمر ترضي جيل الشباب الوطني المتحمس ، الذي وجه إليها نقدا شديدا ، فإن المندوب السامي كان يخشاها. وبناء عليه ، دعا موسى كاظم الحسيني وخمسة من زملائه السياسيين ، إلى لقاء معه بصفة شخصية ، وبحث القضايا التي تشغل بالهم ، كونه لا يعترف بالمؤتمر ، وبالتالي باللجنة التنفيذية المنبثقة منه. وفي اللقاء ، أكد سامويل أن مهمته تنحصر في تنفيذ سياسة حكومته ، وليس صوغها. وهو مستعد للتفاهم معهم بشأن طريقة تجسيد وعد بلفور ، ولكن ليس على مبدأ الالتزام به. وأعرب عن الاستعداد للاعتراف بهيئة عربية موازية ل «المجلس الوطني اليهودي» في فلسطين.

وعندما تولى ونستون تشرشل وزارة المستعمرات (شباط / فبراير ١٩٢١ م) حدد هدفه بوضع سياسة شاملة ومتماسكة للشرق الأوسط ، تسمح بسحب الجيوش البريطانية الكبيرة المتمركزة هناك. ولذلك عقد مؤتمر القاهرة (آذار / مارس ١٩٢١ م) ، حيث تمّ التأكيد على التزام حكومة بريطانيا بوعد بلفور في فلسطين ، مع فصل شرق الأردن عنها ، ووضعه تحت إشراف المندوب السامي فيها ، لكن من دون أن تسري عليه شروط الانتداب فيها ، وتعيين عبد الله بن الحسين أميرا عليه. وفي مقابل معونة مالية يتلقاها سنويا بمبلغ ٠٠٠ ، ١٨٠ جنيه استرليني ، تعهد الأمير باحترام التزامات بريطانيا الدولية تجاه فرنسا في سورية والحركة الصهيونية في فلسطين. وبعد مؤتمر القاهرة ، توجه تشرشل إلى فلسطين ، والتقى هناك وفدين : الأول عربي ، والثاني صهيوني. ولم يكن أي من الطرفين راضيا عن اللقاء. لقد تعامل تشرشل مع الوفد العربي باستخفاف ، أثار حنقه ، ومع الوفد الصهيوني بابتزاز ، أثار قلقه ، وخصوصا بعد فصل شرق الأردن عن فلسطين ، الأمر الذي لم يرق للصهيونيين.

وزيارة تشرشل إلى القاهرة وفلسطين ، وما اتخذه في أثنائها من إجراءات ، وما صدر عنه فيها من تصريحات ، لم تساعد على تهدئة الأوضاع في فلسطين ، بل على العكس ، زادت التوتر حدة. ففي ١ أيار / مايو ١٩٢١ م وفي أثناء الاحتفال بعيد العمال

٤١٢

العالمي في تل أبيب ـ التي أقيمت سنة ١٩٠٩ م ، شمال يافا ، وظلت ضاحية منها إلى ١٩٢١ م ـ اشتبكت مجموعتان صهيونيتان ـ اشتراكية وشيوعية ـ بشأن الشعارات المرفوعة ، واتسع الاشتباك ليصل حيّ المنشية العربي في يافا ، ومنه إلى المنطقة بأكملها. وبغض النظر عن الشرارة التي أشعلت ثورة يافا ، والتي تتباين الروايات بشأنها ، فإن التحقيقات الرسمية البريطانية في أسبابها (لجنة هايكرافت ، قاضي القضاة في حكومة الانتداب) أكدت أنها تعود إلى استياء العرب من وعد بلفور ، ومن الهجرة اليهودية ، ومزاحمة اليهود لهم في وطنهم ، ومحاباة الإنكليز للمستوطنين في المصالح والمرافق المتعددة. وبناء عليه ، فالعرب قلقون على مصيرهم ومستقبلهم في وطنهم ، وهم يرون في حكومة الانتداب عضدا للسياسة الصهيونية. وأوصت لجنة هايكرافت بإدخال تعديلات على سياسة الانتداب ، لكن أحدا لم يأخذ بها.

وتفيد التقارير أن المستوطنين هم الذين بدأوا بإطلاق النار ، بينما هاجم العرب منزلا مخصصا للمهاجرين الجدد ، إذ وقع معظم الإصابات بين اليهود ، ٤٧ قتيلا و ١٤٦ جريحا ، بينما في الجانب العربي سقط ٤٨ شهيدا ونحو ٧٥ جريحا ، معظمهم برصاص القوات البريطانية. وخلال أسبوعين من الاشتباكات العنيفة ، برز انحياز القوات الحكومية إلى جانب المستوطنين ، الأمر الذي زاد في نقمة العرب. فتواصلت الاضطرابات ، ورفعت شعارات تطالب بالأسلحة للدفاع عن النفس في مواجهة المستوطنين المسلحين ، وباستبدال القوات البريطانية التي شاركت في القتال بأخرى هندية. وانتقلت الاشتباكات إلى المناطق المجاورة ليافا. وفي ٥ أيار / مايو ١٩٢١ م ، وقع اشتباك كبير بالقرب من مستعمرة بيتح تكفا (ملبس) ، إذ تصدت القوات البريطانية للهجوم العربي ، واستعملت ضده كل أنواع الأسلحة بحيازتها ، فسقط عدد كبير من القتلى والجرحى ، وأنقذت المستعمرة من التدمير. كما وصلت إلى ميناء يافا بارجتان بريطانيتان لإرهاب السكان.

وهزّت ثورة يافا المندوب السامي ، كما فعلت بوزير المستعمرات ، اللذين شعرا بخطورة الوضع أكثر ما كان يقدران. وفي اليوم السادس من الاضطرابات ، أصدر سامويل أمرا بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، في إيماءة لاسترضاء العرب وتهدئة الأوضاع ، وفي إشارة واضحة إلى أن الهجرة هي السبب في حالة التوتر القائمة. وعندما احتج الصهيونيون على ذلك ، اتهمهم سامويل بإدخال مهاجرين شيوعيين من أوروبا الشرقية إلى فلسطين وكتب بذلك إلى تشرشل. ووقف تشرشل وراء سامويل في ضبط الهجرة اليهودية ، وتشديد الرقابة على هوية المهاجرين ، وتحديد عددهم بما

٤١٣

يتلاءم مع قدرة البلد على الاستيعاب. وليس ذلك إلّا لأن سامويل أحسّ بالخطر يهدد المشروع الصهيوني بمجمله ، إذا لم يتم تدارك الوضع بخطوات تهدّىء قلق الفلسطينيين. فطلب من تشرشل التسريع في تشكيل هيئات تمثيلية في فلسطين ، والاعتراف بهيئة عربية قرينة لليهودية المنصوص عليها في صك الانتداب. لكن تشرشل لم يستجب ، بل أشار على سامويل بالتسويف ، واستغلال فرصة عيد ميلاد الملك ، ليضمن خطابه في المناسبة (٣ حزيران / يونيو ١٩٢١ م) ما من شأنه تهدئة مخاوف العرب من سياسة بريطانيا القائمة على وعد بلفور. فأكد سامويل في الخطاب أن بريطانيا لا تفرض على الفلسطينيين سياسية مناقضة لمصالحهم الدينية والسياسية والاقتصادية.

لكن خطاب سامويل لم يغير كثيرا ، لأنه لم يعالج أسباب التوتر بصورة جدية. وكانت لجنة هايكرافت أوردت في تقريرها ، الذي قدمته في تشرين الأول / أكتوبر ١٩٢١ م أن الاضطرابات تعود إلى الأسباب التالية : ١) معارضة الفلسطينيين للصهيونية ولسياسة الانتداب الرامية إلى تهويد فلسطين ، وليس لمنفعة جميع سكانها ؛ ٢) الامتيازات التي تتمتع بها الوكالة اليهودية بما يجعلها حكومة داخل حكومة ، ٣) تدفق المهاجرين اليهود على البلاد ، ضمن خطة سياسية للاستيلاء عليها ؛ ٤) قلق العرب الفلسطينيين على مصيرهم ، وسخطهم لحرمانهم من الاستقلال. وقال التقرير «إذا كان قد ظهر في البلاد شيء من شعور العرب ضد البريطانيين ، فإنه يرجع إلى أن الحكومة مقرونة في أذهان العرب بتعضيد السياسة الصهيونية.» وبيّن التقرير وحدة الموقف الفلسطيني من الصهيونية لدى أبناء جميع الطوائف ، وأشار إلى الوعي السياسي العميق لأخطار الصهيونية بين فئات الشعب الفلسطيني ، وأوصت اللجنة بضرورة حماية حقوق هذا الشعب في وطنه إزاء النوايا الصهيونية ، التي يجري التصريح عنها من قبل المسؤولين في الوكالة اليهودية ، بأنه «ليس من الممكن أن يكون في فلسطين سوى وطن قومي واحد ، هو اليهودي.» (١)

وقدّر سامويل أن التسرع في تنفيذ سياسة «الوطن القومي اليهودي» ، كما تطالب المنظمة الصهيونية ، وتضغط على حكومتي لندن وفلسطين لفرضها قسرا على أهل البلد الأصليين ، قد تؤدي إلى نتائج عكسية ، تهدد مصير المشروع الصهيوني. وبناء عليه ، ولامتصاص ردات الفعل في فلسطين ولتخفيف حدة المعارضة المتزايدة في لندن للانتداب وأهدافه ، عزم سامويل على اتباع سياسة مرحلية ، تتسم بالمرونة ،

__________________

(٢٥) المصدر نفسه ، ص ١٠٠٩ ـ ١٠١٠.

٤١٤

والاستجابة لبعض المطالب العربية ، الأمر الذي أثار سخط الأغلبية في المنظمة الصهيونية. ونتيجة تقرير لجنة هايكرافت الذي كشف عن الاستياء الشعبي عميق الجذور وواسع النطاق لدى الشعب الفلسطيني من السياسة البريطانية ، فقد مال سامويل إلى قبول بعض توصياتها ، وذلك باتخاذ إجراءات تخفف من حالة التوتر التي تسود البلد عامة. وفي تقريره إلى تشرشل ، عزا سامويل الاضطرابات إلى عوامل سياسية واقتصادية ، زادتها الهجرة الصهيونية سوءا. واقترح إقامة مؤسسات تمثيلية فلسطينية ، والإسراع في المصادقة على الانتداب في لندن وعصبة الأمم ، كما أوصى باستقبال وفد من أعضاء المؤتمر الفلسطيني الرابع.

أ) الكتاب الأبيض الأول

في إطار سياسة المناورة والمرحلية ، توجه سامويل إلى زعماء الحركة الوطنية الفلسطينية (من أعضاء المؤتمر الفلسطيني الثالث) ، وطلب منهم العمل على تهدئة الأوضاع ، فاستجابوا ، وقاموا بدور فاعل على هذا الصعيد. وقدّر لهم سامويل ذلك ، وأوصى باستقبال وفد منهم في لندن باحترام. وكان له ضلع في تثبيت الحاج أمين الحسيني خلفا لشقيقه كامل أفندي الحسيني ، بمنصب مفتي القدس ، وبالتالي رئيس العلماء والمجلس الإسلامي الأعلى ، على الرغم من دوره في أحداث العنف التي وقعت في القدس سنة ١٩٢٠ م. ومن موقعه هذا ، برز الحاج أمين في قيادة العمل الوطني الفلسطيني ، وطالب سامويل الحركة الصهيونية باستبعاد العناصر الشيوعية من بين المهاجرين إلى فلسطين ، وفرض الرقابة الشديدة على الهجرة اليهودية إليها. كما أوصى بالإسراع في إقامة مؤسسات تمثيلية ، واقترح على تشرشل بذل الجهود للتوفيق بين الوفد الفلسطيني والمنظمة الصهيونية ، في أثناء زيارة الوفد إلى لندن. وما يلفت الانتباه أن سامويل أوصى وزير المستعمرات بضرورة الحدّ من صلاحيات الوكالة اليهودية كما ترد في صك الانتداب ، أو إضافة مادة مماثلة تؤمن اعترافا مقابلا بهيئة عربية.

بعد هذه الخطوات التي اتخذها سامويل لتهدئة الأوضاع ، تحرك حاييم وايزمن في لندن لقطع الطريق على توجهات المندوب السامي. وبضغط منه على الحكومة ، جرت مناقشة مسألة الانتداب على فلسطين ، بهدف صوغ سياسة تعتمدها وزارة المستعمرات ، وتكون على مسؤولية الحكومة كلها ، التي لم تكن موحدة في رأيها بالنسبة إلى الموضوع. وفي نهاية المطاف ، التزمت الحكومة بالانتداب على أساس وعد بلفور. وعلى الرغم من معارضته الأولية ، عاد اللورد كيرزون ، وزير الخارجية ،

٤١٥

وقبل بالمشروع ، معلّلا ذلك بقوله : «إننا لا نستطيع التراجع الآن. وإذا فعلنا ذلك فإن الفرنسيين سيحلون محلنا ، وعندها يصبحون على أعتاب مصر ، وعلى أطراف القناة. وعدا ذلك ، ففلسطين تحتاج إلى الموانىء والكهرباء ، ويهود أميركا أغنياء ، ويمكنهم دعم هذا التطوير. علينا أن نكون منصفين للعرب وحازمين معهم ، من دون إظهار انحياز إلى الصهيونية يثير الشكوك بسوء النية لدينا.» ولدى مناقشة الموضوع في مجلس اللوردات ، رفض بأغلبية ٦٠ صوتا في مقابل ٢٩ صوتا ، لكن قرار اللوردات هزم في مجلس العموم ، إذ طرحه تشرشل وتولى الدفاع عنه ، معتبرا أن التصويت عليه هو تصويت على الثقة بالحكومة ، فحصل على الأغلبية. وأصبح قرار الحكومة سياسية رسمية معتمدة. (١)

وفي النقاش مع الحكومة البريطانية بشأن تشكيل هيئات تمثيلية ، وافق وايزمن على التقدم البطيء في هذا المجال ، في مقابل الإجراءات التالية : ١) فصل فلسطين عن «قيادة الشرق الأوسط» في القاهرة ؛ ٢) إبعاد جميع الموظفين غير المتعاطفين مع الصهيونية من حكومة الانتداب ؛ ٣) منح امتياز توليد الكهرباء إلى بنحاس روتنبرغ فورا ؛ ٤) معاقبة القرى التي هاجمت المستعمرات اليهودية بصورة تأديبية رادعة ؛ ٥) منح المنظمة الصهيونية حق الإشراف على تأشيرات الهجرة اليهودية. (٢) وفي أثناء مناقشة مسألة الانتداب في الحكومة ، تكلم تشرشل ، من دون إظهار ميول شخصية ، وورد في كلامه ما يلي : «إن الحالة في فلسطين تسبب لي الارتباك والقلق ، فالبلاد بكاملها في حالة من الغليان ، ولا تلقى السياسة الصهيونية قبولا لدى أحد غير الصهيونيين أنفسهم. إن كلا من الجانبين ـ العربي واليهودي ـ مسلح وماض في التسلح ، ومستعد للانقضاض على الجانب الآخر ... ولقد رفضنا حتى الآن ، لمصلحة السياسة الصهيونية ، منح العرب أية مؤسسة انتخابية. ومن الطبيعي أن يقارنوا معاملتهم هذه بتلك التي يلقاها إخوانهم في العراق. هذا بينما الدكتور وايزمن والصهيونيون غير راضين أبدا عن التقدم الذي حدث ... وعما يدعونه من ضعف السير هربرت سامويل ... ويبدو لي أنه لا بدّ من أن يقوم مجلس الوزراء بمراجعة الحالة برمتها ... إنني أبذل قصارى جهدي لتنفيذ وعد بلفور ... وأنا مستعد للاستمرار في هذا الخط ، إذا كان هذا هو قرار الوزارة الثابت.» (٣)

__________________

(٢٦) Michael J. Cohen, Palestine to Israel, From Mandate to Independence) London, ٨٨٩١ (, pp. ٣١ ـ ٥١.

(٢٧) Ibid.,p.٣١.

(٢٨) Ibid.

٤١٦

وأوضحت التحقيقات في أسباب ثورة يافا أن قمعها بالقوة ، وحتى استمالة بعض الرموز القيادية في الحركة الوطنية الفلسطينية ، عبر تقديم بعض الإغراءات لها ، لن تحقق الاستقرار في البلد. فحالة التوتر ظلت تسود الأوضاع العامة فيها ، بينما تصاعدت موجة الانتقادات لسياسة الحكومة في بريطانيا. وإذ راح سامويل يعزز اتصالاته مع زعماء الحركة الوطنية ، ويستغل التناقضات بينهم ، عمد تشرشل إلى طرح «الكتاب الأبيض» ، الذي يحدد مرتكزات السياسة البريطانية في فلسطين. في المقابل ، وبعد أحداث يافا وجوارها ، التي أدّت الزعامة الفلسطينية دورا في تهدئتها ، ففقدت كثيرا من رصيدها الشعبي ، وخصوصا أنها لم تؤيد مقاطعة البضائع اليهودية كما طالبت قيادات شعبية شابة ، دعت تلك الزعامة إلى عقد المؤتمر الفلسطيني الرابع. وانعقد المؤتمر (حزيران / يونيو ١٩٢١ م) في القدس ، وأكد المطالب الوطنية والإصرار على مقاومة الصهيونية ، وأعلن تمسكه بالوحدة السورية. لكن الخطوة الإجرائية التي اتخذها كانت انتخاب وفد للسفر إلى بريطانيا للمطالبة بالحقوق الفلسطينية.

وجاء المؤتمر الفلسطيني الرابع ليزيد في تركيز قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية على قضاياها القطرية ، وعلى رأسها مسألة الحكم في ظل الانتداب. وكان طبيعيا أن تتوجه إلى الاتصال بالحكومة البريطانية ، وبالأوساط السياسية في لندن ، وربما بتشجيع من سامويل ، الذي راح يبني آماله على التقريب بين تلك القيادة والمنظمة الصهيونية. فشجع إرسال وفد فلسطيني إلى لندن ، وأوصى وزير المستعمرات بحسن استقباله ومعاملته ، ومحاولة عقد لقاء بين الوفد وقادة العمل الصهيوني. في المقابل ، طلب سامويل ، واستجاب زعماء الحركة الوطنية لطلبه ، إصدار بيان يدعو إلى التهدئة خلال المدة التي يمضيها الوفد في لندن. وفي الواقع ، مالت الأوضاع إلى الهدوء بعد المؤتمر الرابع ، وسفر الوفد إلى أوروبا ، وخطاب سامويل لمناسبة ميلاد الملك ، الذي صيغ بلهجة تصالحية ، تهدف إلى تهدئة خواطر العرب ، وتلطيف مخاوفهم من المشروع الصهيوني ، وإشاعة الاستقرار في البلاد ، عبر زرع الأوهام بشأن سياسة بريطانيا ، ونتائج سفر الوفد إلى لندن ، والإجراءات الموقتة بوضع قيود على الهجرة اليهودية.

لكن الوفد ، الذي سافر مجرّدا من جميع عناصر القوة ، ما عدا عدالة قضيته ومراهنة المندوب السامي على دوره في تهدئة المزاج الشعبي ، لم يحقق إنجازا كبيرا في لندن مع حكومة لويد جورج ، التي مارست جميع أنواع الخداع على العرب في الحرب ، كما في مؤتمر السلام بعدها. ونظرا إلى دورها في أحداث يافا ، فقد خسرت الزعامة التقليدية الفلسطينية كثيرا من رصيدها الشعبي ، وهي على أية حال

٤١٧

لم تكن منتخبة ديمقراطيا ، وبالتالي لم تكن معبرة عن جماهير الشعب الفلسطيني ، سياسيا وتنظيميا ، كما أنها لم تكن موحدة في موقفها من الانتداب ، وقد انعزلت عن عمقها الاستراتيجي العربي. وفي الطريق إلى لندن ، عرج الوفد على روما ، حيث التقى البابا ، الذي أبدى تعاطفه المعنوي مع الشعب الفلسطيني. أمّا في لندن ، فقد كان مركز صنع القرار ليس في مصلحته ، وخصوصا أن وزير المستعمرات ، تشرشل ، الذي لم يكن يولي مسألة فلسطين أهمية كبيرة ، لم يكن أيضا بصدد تبني موقف الوفد في مواجهة مراكز القوى البريطانية والأميركية المتعاطفة مع الصهيونية ، وذلك على الرغم من التساؤلات التي أثيرت بشأن وعد بلفور والانتداب على فلسطين في مجلس اللوردات ، وفي أوساط الرأي العام والصحافة البريطانيين.

وتشرشل ، الذي كان في موقع الدفاع عن النفس داخل حكومته إزاء الاتهامات التي وجهها إليه قادة العمل الصهيوني وأنصارهم في المؤسسة البريطانية الحاكمة ، تعامل مع الوفد الفلسطيني بجفاء فظ. وقبل أن يلتقي الوفد ، تسلح بقرار الحكومة ، الذي يلتزم بسياسة الانتداب القائمة على وعد بلفور. وما عدا بعض العلاقات العامة ، وقرار مجلس اللوردات بعدم قبول صيغة الانتداب لأنها تخالف العهود التي قطعتها بريطانيا للعرب ، والذي لا يلزم الحكومة بشيء ، عاد الوفد الفلسطيني من سفرته الطويلة خالي الوفاض ، إذ رفضت حكومة لويد جورج مطالبه. ونظرا إلى فشل الوفد في تحقيق شيء من الآمال التي علقت عليه ، فقد اندلعت الاضطرابات في القدس لمناسبة ذكرى وعد بلفور (١٩٢١ م) ، وتبادل العرب والعصابات الصهيونية إطلاق النار ، فقتل ٥ من اليهود و ٣ من العرب ، وجرح ٢٦ آخرون ، وقمعت الاضطرابات على يد السلطة. وقد وضع ذلك الزعامة الفلسطينية التقليدية ، التي راحت تميل إلى التعاطي مع الانتداب ، وحتى مع المشروع الصهيوني ، بمرونة معينة ، في موقف حرج ، وأصبح موقعها السياسي رهنا بقدرتها على انتزاع بعض المكاسب من الحكومة البريطانية.

لقد ذهب الوفد الفلسطيني إلى لندن برئاسة موسى كاظم الحسيني ، وبقي فيها تسعة أشهر ، قام في أثنائها بالسفر إلى جنيف لحضور اجتماع عصبة الأمم. ولكن كما في لندن ، كذلك في جنيف ، كانت حصيلة الجهد لا تذكر. وفي المقابلة الأولى له مع الوفد ، لم يتردد تشرشل في تذكير أعضائه بأنه يستقبلهم كوفد غير رسمي ، وبأنهم ما داموا يصرّون على إلغاء وعد بلفور ، فليس لديه ما يمكن بحثه معهم ، مؤكدا أنه على العرب القبول به كحقيقة ، ومن ثمّ العمل على ألّا يلحق تنفيذه الضرر بمصالحهم ، ودعاهم إلى البحث في الترتيبات لتسيير الأمور بسلام في الأعوام

٤١٨

القادمة. وفي أثناء البحث في الوسائل التي تكفل حقوق العرب ، أكد تشرشل بجلاء أن أية هيئة ، أو مجلس تمثيلي ، لن تكون لهما صلاحية الإشراف على الهجرة اليهودية ، أو البت في أي أمر أساسي يتعلق بتنفيذ سياسة «الوطن القومي اليهودي». وفي ٢٢ شباط / فبراير ١٩٢٢ م ، طرح تشرشل على الوفد مسودة دستور فلسطين ، فرفض الوفد التعامل معه لأنه غير مخول بذلك. كما طرح على الوفد اللقاء مع قيادة العمل الصهيوني ، فرفض ذلك أيضا ، لأنه لا يعترف بالمنظمة الصهيونية ، مؤكدا أنه جاء إلى لندن للتفاوض مع الحكومة البريطانية فقط.

وفي أثناء إقامته الطويلة في لندن ، ونظرا إلى المعاملة السيئة التي لقيها الوفد هناك من قبل الحكومة البريطانية ، احتدم الجدل بينه وبين تشرشل ، الذي تميّز بالفظاظة في مخاطبة الوفد ، وراحت المراسلات بينهما تتخذ لهجة قاسية. وقد بلغت ذروتها في رد تشرشل على رسالة للوفد ، جاء فيه : ١) أن دستور فلسطين يجب أن يبحث مع وفد رسمي منتخب ، وأنتم لستم بهذه الصفة ؛ ٢) أن وزير المستعمرات لا يمكنه بحث دستور فلسطين ، وحتى مع وفد رسمي منتخب ، إلّا على أساس وعد بلفور ؛ ٣) أن وزير المستعمرات لا يستطيع أن يبحث ، حتى مع وفد منتخب في المادة ٢٢ من ميثاق عصبة الأمم ، لأن وعد بلفور أعطي قبل ذلك الميثاق. وردّ الوفد بقساوة أيضا ، إذ ذكّر وزير المستعمرات بأن بريطانيا هي التي تحكم من دون دستور ، وهي التي يجب أن تطرد من عصبة الأمم لمخالفتها المادتين ٢٠ و ٢٢ من ميثاقها. وفي ٥ أيار / مايو ١٩٢٢ ، عاد الوفد بخفي حنين ، وقد خابت آماله في التأثير على سياسة الحكومة البريطانية ، على الرغم من التعاطف الذي لقيه من بعض الصحف ، وبحث الموضوع في البرلمان ، ورفض مجلس اللوردات وعد بلفور ، بينما أقره مجلس العموم ، فأصبح ملزما للحكومة ، وعلى هذا الأساس طرحته في عصبة الأمم ، التي تبنته في ٢٤ تموز / يوليو ١٩٢٢ م. (١)

في إثر إقرار الانتداب في عصبة الأمم ، أعلنت حكومة بريطانيا أنها سوف تضع نصوص صك الانتداب موضع التنفيذ في ضوء «البيان السياسي» (الكتاب الأبيض) ، الذي صدر عنها في ٢٢ حزيران / يونيو ١٩٢٢ م ، ونسب وضعه إلى وزير المستعمرات ، تشرشل ، فعرف باسمه. ونشر في ١ تموز / يوليو ١٩٢٢ م ، على أن يصبح نافذ المفعول من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية في أيلول / سبتمبر ١٩٢٢ م. وجاء الكتاب الأبيض في سياق محاولة بريطانية لتهدئة الأوضاع في

__________________

(٢٩) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم العام ، المجلد الرابع ، مصدر سبق ذكره ، ص ٥٧٢ ـ ٥٧٤.

٤١٩

فلسطين ، عبر حلقة أخرى من المناورات والتطمينات المخادعة ، ولسحب البساط من تحت أقدام المعارضة المتصاعدة في البرلمان البريطاني للانتداب القائم على وعد بلفور. وإذ حاول البيان ، عبر صيغ لفظية تحتمل التأويل ، إضفاء طابع من الاعتدال على السياسة البريطانية في فلسطين ، إلّا إنه أكد على المواقف الأساسية في وعد بلفور. وبذلك لم يحقق أهدافه المتوخاة لدى الفلسطينيين ، إذ جاء مخيّبا لآمالهم ، وبالتالي حافزا لهم على متابعة النضال ضده. وقبلت به المنظمة الصهيونية تكتيكيا ، فأصبح الأرضية للصراع الدائر بشأن فلسطين ، بين الحركة الوطنية الفلسطينية ، من جهة ، وحكومة الانتداب والوكالة اليهودية ، من جهة أخرى.

ومع أن تقريري لجنتي بالين وهايكرافت حمّلا النشاط الصهيوني مسؤولية أعمال العنف التي انفجرت في فلسطين ، فإن الكتاب الأبيض أرجع أسباب التوتر إلى تفسيرات مبالغ فيها لمعنى «الوطن القومي اليهودي» ، من قبل العرب واليهود على حد سواء. ومن أهم النقاط التي أكد عليها الكتاب الأبيض ما يلي : ١) أن وعد بلفور لا يعني تحويل فلسطين بأكملها إلى «وطن قومي يهودي» ، وإنما يعني «أن وطنا كهذا سيؤسس في فلسطين» ؛ ٢) التزام بريطانيا بوعد بلفور الذي أصبح «غير قابل للتعديل» بعد المصادقة عليه من قبل الدول الكبرى في مؤتمر سان ريمو ومعاهدة سيفر ؛ ٣) أن «الوطن القومي اليهودي» لا يعني دولة يهودية ، وهو سيقوم بالتدريج ؛ ٤) الوجود اليهودي في فلسطين «حقّ وليس منة» ، و «الوطن القومي اليهودي يستند إلى صلة تاريخية قديمة» ؛ ٥) ضرورة استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، مع مراعاة قدرة البلاد الاقتصادية على استيعابها ؛ ٦) أن «اللجنة الصهيونية» (الوكالة اليهودية) لا تملك أي قسط في إدارة البلاد العامة ، والمركز الخاص الذي تشغله بموجب المادة الرابعة من صك الانتداب لا يخولها صلاحية تولي هذه المهمة ؛ ٧) تشكيل مجلس تشريعي ، كخطوة على طريق الحكم الذاتي ، الذي يتم بالتدريج ، ولا يتعارض مع سياسة الانتداب ؛ ٨) استثناء فلسطين من التعهدات التي التزمت بها بريطانيا في مراسلات مكماهون ـ الحسين ، بسبب التزامها بوعد بلفور. (١)

ب) صك الانتداب

بعد أن حسمت حكومة لندن مسألة الانتداب داخليا ، وصار الكتاب الأبيض هو الأساس لسياستها المعتمدة في فلسطين ، توجهت إلى عصبة الأمم لإقرار صك

__________________

(٣٠) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم الثاني ، المجلد الثاني ، مصدر سبق ذكره ، ص ١٠١١ ـ ١٠١٢.

٤٢٠