الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

لقد ترك سقوط إديسا انطباعا عميقا في أوروبا ، وقلقا شديدا بشأن مصير الفرنجة في الشرق. وبينما كانت أوضاع الكرسي الرسولي في روما متأزمة ، وكانت طبقة النبلاء في فرنسا غير متحمسة لحملة صليبية جديدة ، بعد ما خبرته من نتائج الحملة الأولى ، تحرك ملكا فرنسا وألمانيا. وكان ملك فرنسا ، لويس السابع ، المحرك الحقيقي لهذه الحملة. وعبر الراهب بيرنارد دو كليرفو ، أثار حماسة الناس ، وأقنع كونراد الثالث ، ملك ألمانيا بالمشاركة فيها. إلّا إن أنباء الحملة أزعجت إمبراطور بيزنطة ، مانويل الذي راح يحصن أسوار القسطنطينية ، حذرا من قائدي الحملة ، اللذين لم يكن يطمئن إلى نواياهما إزاءه. وقدّر مانويل أن الحملة الجديدة ستفسد عليه خططه تجاه الكيانات الصليبية في الشرق. فهي ستعزز رفض حكامها الاعتراف بسيادته عليهم ، والأهم أن حملة كهذه ، يشارك فيها ملك فرنسا ، حليف روجر النورماني ، ستقوي إمارة أنطاكيا في صراعها مع الإمبراطور. وكان النورمان في صقلية قد احتلوا بعض الأراضي التابعة لإمبراطور بيزنطة في إيطاليا واليونان.

وكانت تلك الحملة فاشلة من النواحي جميعها. وإذ لم تستطع استعادة إديسا ، فإنها بهجومها الطائش على دمشق دفعتها إلى الوحدة مع نور الدين زنكي. وبداية أراد مانويل أن يسمى قائدا للحملة ، أملا في قيادة العالم المسيحي ، وعندما لم تتحقق رغبته ، اتخذ موقفا سلبيا من الحملة. والمصادر الغربية تتهمه بالتآمر مع الأتراك ضد الجيش الألماني ، من أجل إفشال الحملة. وبغض النظر عن الاتهامات ، فالحملة الخائبة زادت في ابتعاد الحملات الصليبية عن هدفها المعلن ، ونقلت الصراع إلى المعسكر الأوروبي ، وبالتالي استنكاف الناس عنها. ففي الطريق إلى القسطنطينية ، سلك الجيشان ـ الألماني والفرنسي ـ البرّ ، وعلى طول الطريق أثارا السكان المحليين ضدهما. وعندما وصلا ، وعسكرا خارج أسوار القسطنطينية ، أوجدا حالة من التوتر معها ، شارفت على الاشتباك العسكري ، الأمر الذي اضطر الإمبراطور إلى اللجوء إلى الحيلة للتخلص من وجود الجيشين خارج أسوار عاصمته.

وبداية سارع الإمبراطور إلى نقل الجيش الألماني شرقا ، إلى آسيا الصغرى ، بعد أن أقنع قريبه كونراد بذلك. ومنذ وصوله إلى البر الآسيوي ، كان الجيش الألماني يعاني قلة المؤن ، والفوضى في التنظيم. فوقع فريسة في يد السلاجقة ، وقلة منه فقط استطاعت العودة إلى نيقيا. وكان الجيش الفرنسي قد وصل في إثر رحيل الجيش الألماني ، وعسكر خارج أسوار القسطنطينية. وفي هذه الأثناء ، وصلت إلى الفرنسيين أنباء الغزو الناجح الذي قام به روجر (النورماني) على اليونان ، كما أطلقت إشاعات بشأن تواطؤ الإمبراطور مع الأتراك في هزيمة الألمان ، وثار القادة العسكريون

٢٠١

الفرنسيون يطالبون باحتلال القسطنطينية. وعندها نشرت إشاعات كاذبة عن الانتصارات التي يحققها الألمان في آسيا الصغرى ، فوافق لويس على العبور إليها ، وعلى قسم الولاء للإمبراطور أيضا. وبذلك تخلص مانويل منهما ، وتفرغ لمقارعة النورمان الذين غزوا أراضيه ، واحتلوا جزءا منها.

وبعد الصعوبات التي لقيها قائدا الحملة في آسيا الصغرى ، عادا إلى القسطنطينية ، وتوجها بحرا ـ كونراد إلى عكا فالقدس ، ولويس إلى أنطاكيا فالقدس. وفي مؤتمر عكا (١١٤٨ م) ، الذي ضمّ كلا من ملك فرنسا وألمانيا وأورشليم اللاتينية ، تمّ الاتفاق على غزو دمشق. فزحفوا إليها وحاصروها ، لكنهم فشلوا في دخولها ، وانسحبوا وهم على خلاف ، يتهم بعضهم بعضا بالتآمر. وأسرع كونراد في العودة إلى بلاده ، مارّا بالقسطنطينية ، حيث عقد تحالفا مع مانويل للعمل سوية ضد روجر النورماني. أمّا لويس ، فقد تأخر بضعة أشهر ، ثم عاد إلى فرنسا ، مارّا بإيطاليا ، حيث التقى روجر ، واتفقا على التعاون. وبذلك انتهت الحملة التي عقدت عليها آمال كبيرة بفشل ذريع. وليس ذلك فحسب ، بل تسببت في توسيع شقة الخلاف بين أطرافها ، من جهة ، وبينهم وبين مسيحيي الشرق ، من جهة أخرى. والمستفيد الوحيد في الجانب المسيحي كان إمبراطور بيزنطة ، مانويل الذي فرض سيادته على الكيانات الصليبية في الشرق.

في المقابل ، شجع فشل الحملة نور الدين زنكي (١١٤٦ ـ ١١٧٤ م) ، الذي نقل عاصمته إلى حلب ، على متابعة سياسة والده في حرب الفرنجة. وكان نور الدين قد استكمل تطهير ما تبقى من إمارة إديسا (١١٥١ م) ، وأخذ أميرها جوسلين الثاني أسيرا. وبعد أن وقعت دمشق في يده ، وأصبح على تماس مباشر مع مملكة أورشليم ، بدأ قتاله معها ، كما انتزع أجزاء من إمارتي أنطاكيا وطرابلس ، وأخذ أميريهما ، بوهيمند الثالث وريموند الثالث ، أسيرين (١١٦٤ م). ودخل نور الدين في تنافس قوي مع بولدوين الثالث بشأن مصر. وكان ملك أورشليم هذا ، بعد احتلال عسقلان ، يعمل على الحؤول دون وحدة مصر الفاطمية وسورية الزنكية. وقد قام بعدة حملات على مصر ، بالتنسيق مع الوزير شاور. وكانت مصر تدفع أتاوة سنوية للصليبيين. وعندما ساءت الأحوال الداخلية في مصر ، حاول أملرك ، ملك أورشليم الجديد احتلالها ، فانحاز شاور إلى نور الدين. واستطاع هذا الأخير طرد الصليبيين من مصر عبر مندوبه شيركوه ، ومن ثمّ إنهاء الخلافة الفاطمية (١١٦٩ م) عبر صلاح الدين الأيوبي.

أمّا في بيزنطة ، فإن مانويل ، بعد فشل الحملة الثانية ، استطاع فرض نفسه سيدا

٢٠٢

على الإمارات الصليبية في الشرق. وكانت له علاقات تحالفية مع كلج أرسلان ، أمير قونيا السلجوقي الذي كان زاره في القسطنطينية (١١٦١ م) ، وأمضى في ضيافته ٨٠ يوما. لكن مانويل ، بعد أن شعر بقوته ، خرج لقتال كلج أرسلان ، وقاد الحملة بنفسه ، بهدف احتلال قونيا (١١٧٦ م). غير أن كلج ألحق به هزيمة نكراء في معركة ميريو سيفالو ، إذ بالكاد استطاع الإمبراطور أن ينجو بنفسه. ومع ذلك ، عقد الطرفان صلحا مشرفا لمانويل الضعيف. وزاد في أزمة الإمبراطور عقد معاهدة فينيسيا (١١٧٧ م) ، التي وضعت حدا للخلافات بين ملوك أوروبا ، فحرمت مانويل من المناورة. وبذلك تدهور موقع بيزنطة ، في الشرق كما في الغرب ، وانتهزت الإمارات الصليبية الفرصة للتحرر من سيادة الإمبراطور عليها.

في هذه المرحلة ـ السبعينات من القرن الثاني عشر ـ كانت مملكة أورشليم اللاتينية في ذروة اتساعها. ففي الشمال كانت حدودها على نهر المعاملتين ، بين جبيل التابعة لإمارة طرابلس ، وبيروت التابعة للمملكة. ومن هناك على طول الساحل حتى دير البلح (دارون). ومن بيروت شرقا إلى منابع الأردن وسفوح جبل الشيخ. ومن هناك جنوبا ، إذ ضمت أجزاء من الجولان والجلعاد ، وكل منطقة مؤاب حتى أيلة. وفي الجنوب الغربي ، كان خط الحدود يمتد بين أيلة ودير البلح ، عبر صحراء النقب. وهذه الدولة الواسعة والقوية ، راحت تواجه دولة أخرى تتعاظم قوة في الشمال الشرقي ، بينما تسعى لضم مصر إليها ، مستندة في عملها هذا إلى الدعوة إلى الجهاد ضد الفرنجة في الشرق. وبعد موت نور الدين زنكي (١١٧٤ م) ، وتولي صلاح الدين الأيوبي مكانه ، موحّدا بذلك مصر وسورية ، ومن ثمّ سقوط حلب في يده (١١٨٣ م) ، وضع صلاح الدين مملكة أورشليم اللاتينية بين فكي كماشة ـ مصر وسورية ـ بقيادة موحدة ، تمتلك خطة مركزية لمواجهة الفرنجة.

بعد الحملة الثانية ، كان واضحا أن الكفة تميل لغير مصلحة الفرنجة في الشرق. وبينما كان المسار العام في الإمارات الصليبية هو الصراع من أجل الانفصال والتفتت ، كان العكس صحيحا في الجانب الإسلامي ، حيث الصراع محتدم من أجل التوحيد ، ويقوده صلاح الدين الأيوبي ، بعد موت نور الدين زنكي. وكان صلاح الدين يقوم بهجمات محدودة على أطراف مملكة أورشليم منذ أيام نور الدين ـ غزة (١١٧٠ م) والشوبك وأيلة (١١٧١ م) والكرك (١١٧٣ م). ولكن منذ سنة ١١٧٧ م ، أصبح قتال الفرنجة يتخذ لدى صلاح الدين صيغة خطة مبرمجة ، ترمي إلى تصفية مملكتهم في الشرق. ففي ذلك العام ، هاجم دير البلح وغزة ، واحتل الرملة ، وفرض حصارا على اللد ، ووصل إلى أرسوف ، لكنه هزم في معركة جيزر ، على يد بولدوين

٢٠٣

الرابع (المجذوم) ، فرجع إلى القاهرة ليبدأ من جديد.

وعاد صلاح الدين (١١٧٩ ـ ١١٨٢ م) إلى قتال الصليبيين ، محاولا مهاجمتهم برا وبحرا. وبينما حاول أسطوله فرض حصار على الساحل ، قام جيشه بهجمات سريعة على الشوبك والجليل وبيسان وبيروت. لكن الصليبيين تمكنوا من إلحاق الهزيمة به في معركة الطيبة (١١٨٢ م). ومع ذلك ، ثابر صلاح الدين في حربه معهم من دون هوادة. وانتهز فرصة الهجوم على قافلة من الحجاج ، كانت أخته فيها ، قام بها أمير الكرك رينالد دو شاتيون ، الذي أتبع ذلك بمحاولة مغامرة لاحتلال أيلة ، وركوب البحر الأحمر إلى مكة والمدينة ، ودخل صلاح الدين أراضي مملكة أورشليم مرة أخرى. فاحتل بيسان ، ثم زرعين ، وفرض حصارا على الكرك ، واحتل نابلس والسامرة ومرج ابن عامر ، ثم فرض حصارا على طبرية. وتجمع الصليبيون في صفورية لفك الحصار عن طبرية ، فالتقوا جيوش صلاح الدين في حطين (١١٨٧ م) ، حيث ألحق بهم هزيمة ساحقة ، وأخذ الكثيرين من أمرائهم ، بمن فيهم ملك أورشليم ، أسرى. وبذلك سقطت المدن والحصون والقلاع في يديه من دون مقاومة ، بما فيها القدس. ولم تبق في أيدي الصليبيين إلّا مدينة صور ، التي أنقذها كونراد دو مونتفرات ، فأصبحت مركز حشد للفرنجة. وطوال الأعوام التسعين اللاحقة تقريبا ، ارتبط تاريخ الأيوبيين بالصليبيين وقتالهم ، فكانت فلسطين في قلب ذلك التاريخ ، وشهدت صعود صلاح الدين والتحرير ، كما واكبت هبوط ورثته من بعده ، وما رافق ذلك من صراعات دامية.

ج) الأوضاع الاقتصادية ـ الاجتماعية

بعد الحملة الصليبية الأولى ، وتأسيس مملكة أورشليم اللاتينية ، انتعشت البلاد اقتصاديا ، بعد الخراب الذي لحقها جراء الفوضى السياسية أيام السلاجقة والفاطميين. وانسجاما مع الأهداف الاقتصادية للحملات الصليبية ، تحوّلت فلسطين ، بسبب موقعها الجغرافي ، من جهة ، ونشاط المدن الإيطالية ، من جهة أخرى ، إلى مركز للتجارة الدولية بين الشرق والغرب ـ من الصين إلى أوروبا. وقد أدّت «الكومونات» الإيطالية ، ذات الخبرة الواسعة بشؤون التجارة والتي تملك رأس المال والأساطيل ، دورا مركزيا في هذا التطور. وفي أيام صلاح الدين ، وكذلك في أيام العادل والكامل من بعده ، ازدهرت التجارة ، وتطورت الزراعة والصناعة. ولكن الأهم هو أن مدن الساحل أصبحت تستحوذ على قسط كبير من التجارة الدولية ، وحلّت محل المراكز الكبرى السابقة ـ الإسكندرية والقسطنطينية ـ فأصبحت ملتقى التجارة من الشرق

٢٠٤

والغرب ، تؤدي دورا وسيطا مهما بينهما ، وتتمتع بامتيازات كبيرة ، منحها الفرنجة للكومونات والتجار عموما ، لقاء خدمات أساطيلهم وما يقدمونه من مردود اقتصادي.

ومملكة أورشليم اللاتينية قامت على أساس إقطاعي ، أخذ نموذجه عن النمط الفرنسي في القرن الحادي عشر. وبينما اكتفى الرأس الأول للمملكة بلقب حامي القبر المقدس ، فإن ورثته توجوا أنفسهم ملوكا. وكان للملوك حق توريث صلاحياتهم ، ولكن بموافقة مجلس النبلاء. وكانت المؤسسة المركزية في المملكة هي المحكمة العليا ، المكونة من حلقة أرستقراطية من المرتبة الأولى بين أتباع الملك. وبرزت في هذه الحلقة عائلة إبلين ، المقربة من العائلات المالكة في أورشليم وقبرص وبيزنطة. ولم تكن صلاحيات هذه المحكمة محددة بدقة ، ولذلك توسعت أو تقلصت تبعا لهيبة الملك وسطوته ، أو تخاذله وضعفه. وعلى العموم ، كانت بمثابة بلاط الملك ، وجمع أعضاؤها في أيديهم الصلاحيات كلها تقريبا. فهي التي تسنّ القوانين وتشرف على الإدارة والأموال ، وتحسم الصراعات السياسية الداخلية ، وتعقد المعاهدات وتعلن الحرب ، وقد حال وجودها دون قيام إدارة ملكية خاصة.

وكانت المملكة مقسمة إلى إقطاعيات ، يقوم عليها بارونات من أتباع الملك. وحتى الإمارات المستقلة بكل معنى الكلمة ـ إديسا وأنطاكيا وطرابلس ـ كانت تتبع رسميا للمملكة. وبصورة عامة ، وفي ذروة اتساعها ، كانت مملكة أورشليم تضم أربع بارونيات : ١) بارونية يافا ـ عسقلان ، وتضم أيضا الرملة ومجدل يابا ؛ ٢) بارونية الجليل ، وعاصمتها طبرية ؛ ٣) إمارة صيدا وقيساريا وبيسان ؛ ٤) إمارة الكرك والشوبك والخليل. وقد تداخلت أراضي هذه البارونيات بسبب الميراث والمهور والتبادلات وغيرها. وكانت العائلات الأرستقراطية تملك إقطاعيات كبيرة ، مثل عائلة جوسلين دو كورتني ، القريبة من العائلة المالكة ، والتي كانت تملك أراضي واسعة في الجليل الغربي. وكان هناك عدد من الإقطاعيات الأصغر ـ بيروت وإسكندرون (جنوب لبنان) وحيفا وأرسوف ويبنى (إبلين) وغيرها. وتميّزت بموقع خاص أملاك التاج ـ القدس ونابلس وعكا وصور ودير البلح. وكان لكنيسة سان جورج امتيازات خاصة في اللد والناصرة.

وكانت الإقطاعيات (البارونيات) صورة مصغرة عن المملكة ، وكثيرا ما انتقلت ، كليا أو جزئيا ، من يد إلى أخرى ، عبر الميراث أو الزواج. وقد حلت بها ، وخصوصا في القرن الثالث عشر ، تغييرات كان لها أثر بعيد. فعدا تقلص حجم المملكة وفقدانها الكثير من الأراضي التي احتلتها في البداية ، راحت المنظمات العسكرية تستملك

٢٠٥

مساحات من الأراضي ، وخصوصا في المناطق الحدودية. فمن ناحية ، هجرها الكثيرون من أصحابها بسبب الأوضاع الأمنية ، ومن الناحية الأخرى ، توجه إليها فرسان المنظمات العسكرية للدفاع عن تلك الحدود. وفي الإقطاعيات شكّلت محاكم عليا أيضا ، من أتباع البارون الذين يمنحون إقطاعات أصغر ، في مقابل الخدمات العسكرية وغيرها. وكانت مهمات هذه المحاكم في الإدارة والقضاء. وبالأساس ، استند التقسيم الإقطاعي إلى التنظيم العسكري ، وضمان تقديم الخدمات العسكرية والقوات المقاتلة للدولة. فكان على كل سيد ، بحسب مساحة إقطاعيته ، أن يجند عددا من الفرسان والمشاة ، ويجهزهم ليتحرك على رأسهم عند الحاجة ، فكانوا بمثابة جيش من المرتزقة.

وعلى عكس الوضع العام في أوروبا الغربية ، وانسجاما أكثر مع الحالة في إيطاليا وبيزنطة ، احتلت المدن موقعا مرموقا في مملكة أورشليم اللاتينية والإمارات الصليبية الأخرى في الشرق. ومع أن هذه المدن لم تصل إلى حد الاستقلال الذاتي (البولس اليوناني أو الروماني) ، فإنها تمتعت بدرجة عالية من الحكم الذاتي. وكانت في كل مدينة محكمة بورجوازية ، لها صلاحيات قضائية وإدارية وشرطية. ويترأس المحكمة في العادة نبيل يسميه صاحب المدينة ، ويعين معه عددا من المحلّفين ، من ذوي النفوذ. وصلاحيات هذه المحكمة تنحصر بالفرنجة ، ولكن من العامة والتجار من دون النبلاء ، ولها قوانينها الخاصة ، غير الإقطاعية ، والمرتكزة على القانون الروماني. وعدا القضايا الجنائية ، عملت هذه المحكمة بالأمور المدنية والمالية والعقارية. أمّا الأمور العسكرية فكانت بيد قائد الحصن. وفي المدن أيضا محاكم الميناء ، التي تعنى بقضايا الصفقات التجارية البحرية ، وشؤون القباطنة ، ويتولى عضويتها خبراء بأمور البحارة.

وفي المدن ، وخصوصا الساحلية ، أقام تجار المدن الأوروبية ـ الإيطالية والفرنسية والإسبانية ـ أحياء خاصة بهم ، كانت على العموم مسورة ، دعيت كومونة. وفي مقابل الخدمات التي قدمتها تلك المدن للحملات الصليبية ، وخصوصا على صعيد نقل الجيوش والمعدات والمؤن بأساطيلها الكبيرة ، حصلت على امتيازات تجارية عامة ، وفي بعض الحالات إدارية. وفي الأغلب ، تمتعت الكومونات باستقلال ذاتي ، منحه لها الملك ، وتميّزت بينها كومونات عكا وصور بعددها وضخامتها. وكان يقوم على رأس الكومونة قنصل ، تعيّنه المدينة الأم. وللكومونة استقلال قضائي ، وخصوصا في الأمور التجارية ، ولها شرطة تحافظ على الأمن فيها. وحرصت الكومونات على صيانة حكمها الذاتي ، واستغلت حاجة المملكة إليها لانتزاع

٢٠٦

الامتيازات والحفاظ عليها ، وكل محاولات إلغاء هذه الامتيازات باءت بالفشل. وعلى العكس ، ففي مراحل ضعف المملكة زادت الكومونات في قوتها ، فاصطدمت بعضها ببعض ، ودارت بينها اشتباكات مسلحة أحيانا. لقد أدّت التجارة دورا مركزيا في الحملات الصليبية ، وعبرت عنه الكومونات بموقع متميز في مملكة أورشليم اللاتينية.

وطوال فترة قيامها في الشرق ، ظلت الكيانات الصليبية تعاني نقصا في الطاقة البشرية ، وبقي الفرنجة أقلية بالنسبة إلى السكان المحليين. ولأنها ظلت في حالة حرب مستمرة ، فقد استنزف الجيش طاقة تلك الكيانات البشرية. ومن هنا ، بقيت تعتمد أصلا على المدد من أوروبا للدفاع عن نفسها إزاء المقاومة الإسلامية ، وظلت الحملات الآتية من الغرب تتحمل عبء المواجهة الواسعة. أمّا في حالات الهدوء النسبي ، فقد اعتمد الفرنجة على السكان المحليين في توفير مستلزمات حياتهم ، إضافة إلى ما يستوردونه من أوروبا ، وتحمله أساطيل المدن التجارية. وكان الجيش الصليبي يعتمد الأسلوب الإقطاعي الأوروبي في تشكيله. ومملكة أورشليم اللاتينية ، في ذروة قوتها ، امتلكت جيشا مؤلفا من ٦٠٠ فارس ، و ٥٠٠٠ من جنود المشاة ، بينما يقدر عدد سكانها آنئذ بنحو ٠٠٠ ، ١٢٠ نسمة. وإذا أضيفت إليها قوات الإمارات الأخرى ، والتنظيمات العسكرية ، وما التزمت به الأديرة والكنائس ، فالتقدير أن جيش الشرق وصل إلى ٢٠٠٠ فارس و ٠٠٠ ، ١٨ من المشاة ، وهو عدد كبير نسبيا بالنسبة إلى عدد السكان من الفرنجة في الإمارات.

وكان الفرسان عماد هذا الجيش ، وهم القوة المدرعة ، التي يساندها المشاة ، بنسبة ١٠ : ١ تقريبا. ومع تطور الدرع في أوروبا ، صار يغطي الفارس وحصانه. وللفارس بوجه عام ٣ أحصنة ومعاونان يحملان عتاده ومتاعه. وهو يزود بخوذة حديدية ودرع وترس وحربتين (قصيرة وطويلة) ، ورمح. وفي هجوم منسق ومباشر ، كانت هذه القوة ساحقة. وفي الواقع ، لم تصمد أمامها الجيوش الإسلامية في البداية. ثم ما لبث المسلمون أن اكتشفوا نقطة الضعف فيها ، وهي ثقل حركتها. فطوروا سلاح فرسانهم سريع الحركة ، الذي تدعمه النبّالة (رماة السهام). وابتدعوا تكتيكات ميدانية مضادة ، تعتمد فتح الصفوف ، واستدراج الفرسان المسربلين بالحديد ، بعيدا عن المشاة ، ومن ثمّ الانقضاض عليهم من كمائن جانبية. وبناء عليه ، اضطر الفرنجة إلى رفد سلاح فرسانهم الثقيل بآخر خفيف ، يشبه قوات المسلمين. وقد جندوا أفراده من بين السكان المحليين ، وعرف بلغتهم باسم أبناء الترك. وكانت خيولهم سريعة وملائمة لعمليات الاستطلاع والأشغال والالتفاف وسلاحهم الرئيسي القوس الصغير.

٢٠٧

واستعمل الصليبيون المشاة كنبالة وقاذفي منجنيق ورماة رماح. وكان هؤلاء يتقدمون الفرسان ويحجبونهم ، وبعد امتصاص صدمة اندفاع العدو الأولى ، يفتحون تشكيلاتهم لانطلاق الفرسان عندما يستدير العدو. ثم يعود المشاة ويغلقون على الفرسان المدرعين. ويعتقد أن الصليبيين هم الذين طوروا هذا التكتيك. وعدد من الهزائم التي لحقت بالصليبيين كان سببها عزل الفرسان عن المشاة (كما حدث في حطين). ولم يكن للفرنجة في الشرق أسطول خاص ، إذ اعتمدوا كلية على أساطيل المدن التجارية ، وخصوصا الإيطالية ، ومن خلال اتفاقات تجري بين الطرفين. وقد تقلصت أهمية الأسطول والبحرية بالنسبة إلى مملكة أورشليم بعد أن أهمل الأيوبيون ، ومن بعدهم المماليك ، البحرية ، وعندها سيطرت أساطيل إيطاليا على البحر الأبيض المتوسط. وأقام الفرنجة دورا للصناعة (مسافن) في عكا وصور. وفي القرن الثالث عشر ، صارت مملكة أورشليم تعتمد أساسا على كتائب الفرسان التي يجيء بها ملوك أوروبا إلى الشرق ، ويتركونها بعد عودتهم لفترة معينة في خدمة المملكة ، أو التنظيمات العسكرية ، أو حتى الأديرة والكنائس.

وإزاء حالة الحرب المستمرة ، وللتعويض عن النقص في الطاقة البشرية ، عمد الصليبيون إلى إقامة شبكة من التحصينات ، لم تشهد مثلها فلسطين ، لا من قبل ولا من بعد. وقد أقيمت هذه التحصينات في النقاط الاستراتيجية ، على الحدود ، كما على مفارق الطرق ومعابر الأنهار ، وفي محيط المدن الرئيسية ، في الداخل ، كما على الساحل. وبحسب ظروف الزمان والمكان ، أقيمت تحصينات من ثلاثة أنماط : ١) حصون صغيرة ، جدارها الخارجي هو سورها ، وفي زواياها أبراج مطلة ، وهي على العموم شبيهة بالحصون البيزنطية ؛ ٢) قلاع كبيرة ، قد تصل إلى حد استيعاب حامية عسكرية كاملة ، وهي مجهزة للصمود في الحصار ، ولها بالعادة سوران ، يسيطر الداخلي منهما على الخارجي ، وعلى الأسوار شبكة من الأبراج تسيطر على محيط القلعة ، وتمكن من الدفاع عنها بصورة جيدة ؛ ٣) مدن قديمة ، أعيد ترميم أسوارها ، وأقيمت فيها قلاع مسورة بصورة منفصلة ، بحيث تكون قادرة على الصمود كوحدة دفاعية مستقلة ، حتى بعد سقوط المدينة ، وفي المدن الساحلية جرت العادة على تحصين الميناء.

وكان الخط الخارجي للتحصينات موجها إلى الشرق ، لصد هجمات المسلمين ، والحؤول دون انتظامهم للقتال على حدود المملكة ، أو داخلها. وهذا الخط يبدأ في بانياس (الصبيبة) ، على سفوح جبل الشيخ ، وهي تسيطر على الطريق إلى دمشق ، وينتهي في جزيرة فرعون بخليج العقبة. وهو يمر بقصر

٢٠٨

البردويل (بولدوين) ، ومنه إلى حبيس جلدك (على الضفة الجنوبية لنهر اليرموك). وفي شرق الأردن ، يضم عمان والكرك والشوبك ووادي موسى والعوير (سلع) وأيلة. ويوازيه إلى الغرب من النهر خط آخر ، يبدأ ببانياس أيضا ، ويمر بقصر العطارة (الذي يحمي جسر بنات يعقوب) ، ثم كوكب الهوى (التي تحمي جسر المجامع) ، ثم بيسان ، فمجموعة من الحصون الصغيرة تحمي منطقة أريحا ، (كانت في أيدي تنظيم الهيكليين). وكان حصنا كرمل والسمّوع يحميان الطريق من النقب إلى الخليل. وقلعتا غزة ودير البلح تحميان الطريق إلى مصر.

وفي داخل البلاد بنيت تحصينات لحماية طرق المواصلات الرئيسية. ومع تقلص مساحة المملكة كثرت فيها القلاع ، كما جرى تحصين المدن الساحلية والداخلية. فالطريق من دمشق إلى صور ، سيطرت عليه قلعة بانياس ، ثم حصن هونين وقلعة تبنين ، ومدينة صور نفسها كانت محصنة بشبكة مثلثة من الأسوار. وعلى الطريق بين صور وعكا حصنان : إسكندرون والزيب. أمّا عكا ، عاصمة المملكة في القرن الثالث عشر ، فكانت نفسها محصنة بسور مزدوج. وتحمي الطرق المؤدية إليها شبكة مستديرة من التحصينات والقلاع ـ الزيب والمنوات وقلعة القرن (القرين) ومعليا وجدّين وشفاعمرو وحيفا. وقلعة صفد الضخمة ، التي أقام بها الهيكليون ، كانت تحمي الطريق بين عكا وجسر بنات يعقوب. وأمّا مرج ابن عامر الخصب والاستراتيجي ، فتدافع عنه من الشرق بيسان وكوكب الهوى ، وفي المركز جنين وعفربلا والفولة وجبل طابور ودبورية.

وأقيمت تحصينات قوية على الساحل إلى الجنوب من عكا وحتى دير البلح ، وأهمها : عتليت وقيساريا وأرسوف ويافا وعسقلان وغزة. وأسوار قيساريا جرى ترميمها أيام لويس التاسع. وعلى الطريق منها شرقا أقيمت تحصينات في وادي عارة (عرعرة) واللجون وجبل طابور والناصرة. وعلى الطريق من يافا شمالا كانت المدينة المحصنة الرملة وكنيسة سان جورج المحصنة في اللد ومجدل يابا وقلنسوة وبرج الأحمر وقاقون. وبين يافا والقدس طريقان : الأول ، يمر باللد والرملة إلى البرج وبيت نوبا وقبيبة والنبي صموئيل والقدس ؛ والثاني ، من الرملة إلى اللطرون المحصنة ، أبو غوش والقدس. وإلى الجنوب الغربي من القدس : يبنى وتل الصافي وبيت جبرين. وإلى الجنوب من القدس ، بيت لحم والخليل وغيرهما. وكانت عسقلان مدينة محصنة وفيها ميناء كبير. ولذلك ، وبسبب موقعها الاستراتيجي ظلت موضوع خلاف بين الفرنجة والمصريين في كل المفاوضات لعقد معاهدات. وفي مملكة أورشليم اللاتينية ، كما في أوروبا وجزر البحر الأبيض المتوسط ،

٢٠٩

أدّت التنظيمات العسكرية الصليبية دورا مهما. ففيها تمثلت الروح الصليبية الأصولية ، وبأفرادها تجسد التكامل بين الصليبي المقاتل والراهب. وكانت بدايات تلك المنظمات العناية بالحجاج ، ولذلك عرفت باسم «الإسبتارية» (تنظيم المشفى). وقد تأسست قبل قيام المملكة ، أمّا بعده ، فزاد نشاطها ، وحصلت على براءة من البابا ، وأقامت فروعا لها في أوروبا. وكان أعضاء التنظيم يؤدون قسم الرهبان المثلث ـ الاعتزال والفقر والطاعة. ثم أضافوا إلى عملهم في رعاية الحجاج ركنا أساسيا هو الدفاع عن مملكة أورشليم اللاتينية ، فاكتسبوا طابعا عسكريا. وقام التنظيم على الصدقات ، وجمع أموالا كثيرة ، فاشترى أراضي واستغلها. وكان مركزه بداية في القدس ، ثم بعد سقوطها ، انتقل إلى حصن الأكراد في سورية. وبسبب قوته الاقتصادية ، أصبح هذا التنظيم قوة عسكرية كبيرة في المملكة. وكان أعضاؤه يلبسون العباءة السوداء ، وعليها صليب مالطا ، الأبيض اللون ذو الزوايا الثمان ، على الجانب الأيسر من الصدر. وقد استمر هذا التنظيم في أوروبا وجزر البحر الأبيض المتوسط حتى بعد نهاية دولة الفرنجة في فلسطين.

وبعد الإسبتاريين بعدة سنوات ، قام تنظيم آخر ـ الهيكليون (تمبلرز). وكانت مهمتهم المركزية مرافقة قوافل الحجاج وحمايتها. وبناء عليه ، فقد اتخذ هذا التنظيم طابعا عسكريا منذ البداية ، وتمركز في القدس (الحرم الشريف). وكان لباسهم عباءة بيضاء ، عليها صليب أحمر. وانتشروا في أوروبا أيضا ، واستحوذوا على أملاك واسعة ، كما قاموا بعمليات مالية ومصرفية كبيرة ، الأمر الذي أساء إلى سمعتهم ، وبالتالي أدّى إلى تصفيتهم. وعندما تضعضعت أحوال المملكة ، كان الهيكليون ، بالتعاون مع الإسبتاريين والتيوتون (التنظيم الثالث الألماني) ، يشكلون العمود الفقري لقوة المملكة العسكرية ، التي تحملت العبء الأكبر في الدفاع عن حدودها. ولذلك انتشر أعضاء هذه المنظمات في الحصون الحدودية. وكان مركز المنظمة التيوتونية في قلعة القرين (مونتفورت) في الجليل الغربي.

وحاول الصليبيون الاستيطان الزراعي في بعض المناطق ـ محيط الرملة وبيت جبرين وجبل الطابور والزيب وحيفا. وأحيانا تحولت القرى الزراعية إلى بلدات مسورة ـ غزة والشوبك ـ لكن النتائج على العموم ظلت ضئيلة. وكانت القرى الزراعية تقام في محيط المدن ، أو بالقرب من القلاع والحصون ، لتكون ملاذا للفلاحين الفرنجة في وقت الحرب. ومع أن الدولة ، أو المؤسسات الكنسية ، وحتى العائلات الإقطاعية ، منحت هؤلاء المستوطنين امتيازات كثيرة ، فأعطتهم نحو ٧٠٠ دونم للعائلة ، وخفضت عليهم الضرائب وشكلت لهم محاكم خاصة وأشركتهم في

٢١٠

المنهوبات من السكان المحليين ، إلّا إنهم آثروا المدن على الريف ، واشتغلوا بالتجارة والإدارة والخدمات. وفي القرن الثالث عشر ، عندما تقلصت مساحة المملكة اللاتينية ، تضاءل هذا الاستيطان إلى حد التلاشي.

وبذلك ، وطوال قرنين من الوجود الفرنجي في الشرق ، ظل الريف آهلا بالسكان المحليين بصورة عامة ، وبقيت الزراعة حكرا عليهم تقريبا. وبعد الموجة الأولى من الاحتلال والمجازر والتهجير والاستيلاء على الأراضي ، استقرت الأحوال بصورة عامة ، ولكن ما لبثت الحروب أن اندلعت وراحت وتيرتها تتصاعد ، والريف يتحمل النكبات. ومع ذلك ، كانت البلاد تنتج حاجتها من المحاصيل الزراعية ، وتوفر حتى فائضا محدودا للتصدير. غير أن الوضع تغيّر في القرن الثالث عشر ، وصار اعتماد الفرنجة على أوروبا أساسا. وإذ كان السكان المحليون في المدن مواطنين من الدرجة الثانية ، فإنهم في الريف كانوا أقرب إلى الأقنان ، لكن ليس بصورة رسمية ، كما في أوروبا. لقد اكتشف الصليبيون أهمية سكان الريف ، فتركوا لهم فلاحة الأرض ، وجبوا منهم الضرائب التي وصلت إلى ثلث المنتوج. وتركوا للطوائف محاكم الأحوال الشخصية. أمّا في المدن ، فإن المحاكم المختلطة التي سيطر عليها أصحاب الكومونات ، ابتلعت المؤسسات القضائية الأخرى للسكان المحليين.

سادسا : العصر الأيوبي

ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب (الملك الناصر ـ السلطان) في مدينة تكريت (العراق) ، لعائلة كردية سنة ١١٣٨ م. ثمّ انتقل مع والده إلى بعلبك (لبنان) ، حيث عين قائدا عسكريا فيها أيام عماد الدين زنكي. وبرز صلاح الدين على المسرح عندما رافق عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر (١١٦٤ م). وفي سنة ١١٦٩ م ، تولى الوزارة في القاهرة بعد موت عمه. وفي سنة ١١٧١ م ، ألغى الخلافة الفاطمية الشيعية ، وأعلن البيعة للخليفة العباسي السني المستضيء. ومنذئذ برز توتر بينه وبين نور الدين زنكي ، حسم بوفاة الأخير ، واقتسام ورثته ملكه. وبناء عليه ، كان على صلاح الدين أن يقاتلهم من أجل توحيد مصر وسورية تحت قيادته ، وذلك في سبيل تحقيق حلمه ومشروع حياته ـ تصفية الكيانات الصليبية في الشرق. وفي معركة حطين (١١٨٧ م) حقق صلاح الدين إنجازا ضخما على هذا الصعيد ، لكنه مات سنة ١١٩٣ م ، قبل أن يستكمل مشروعه وبقي الوجود الفرنجي في الشرق قرابة قرن من الزمن بعد وفاته. وكانت معركة حطين منعطفا تاريخيا بالنسبة إلى العلاقات بين الشرق والغرب ، انقلبت فيه موازين القوى ، وتبدلت المواقع. فبالنصر الساحق ، عسكريا وسياسيا

٢١١

ومعنويا ، الذي حققه صلاح الدين ، وضع الوجود الفرنجي في الشرق في موقع الدفاع عن النفس بصورة عامة ، وبالتالي أطاح بالجهود كلها التي بذلتها أوروبا في إقامة كياناتها في الشرق ، وجعل نتائجها هباء. وبامتلاكه القوة لفعل ذلك ، فقد جعل الحملات الصليبية التالية ، التي لم تتوقف ، لا تتعدى كونها غارات عقيمة. لقد حسم مصير الصراع بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي ، فالشرق لا يزال قادرا على القيام بما يلزم لدحر عدوان الغرب وأطماعه. وكانت الحملة الثالثة بعد سقوط القدس (١١٨٩ ـ ١١٩٢ م) تعبيرا عن موازين القوى بين صلاح الدين وأوروبا. وقد اتخذت فعلا هذا الطابع ، إذ من جهة ، كانت حرب دار الإسلام ضد دار الحرب ، ومن جهة أخرى ، حرب أوروبا المسيحية ضد الشرق المسلم. وبهذا المعنى ، كانت حملة ملوك أوروبا الكبار متواضعة النتائج جدا. وانتهت بصلح ، بقيت فيه مملكة الفرنجة على شريط من الساحل ، تصارع بشأن البقاء ؛ بينما انتقل الداخل كله إلى يد صلاح الدين. وبعد حطين أخذ صلاح الدين طبرية ، ثم تقدم إلى عكا ، فاستسلمت بعد مقاومة طفيفة ، وأذعنت مدن الجليل وحصونه ، ثم أخذ نابلس ويافا ، وكذلك بيروت وصيدا ، وظلت صور. وانتقل إلى فلسطين ، تاركا أنطاكيا وطرابلس ، فأخذ الرملة ويبنى ودير البلح وغزة وبيت جبرين وعسقلان. وكان بعض قادته يتحركون في طول البلاد وعرضها ، فأخذوا الناصرة وقيساريا وصفد وصفورية والشقيف وجبل الطور ومعليا وغيرها. وأخيرا جاء دور القدس ، فحاصرها ، ثم ما لبثت أن أذعنت ، وخرج الصليبيون منها بموجب اتفاق ، ودخلها صلاح الدين ، وصلى الجمعة في ٢٧ رجب ٥٨٣ ه‍ / ٢ تشرين الأول / أكتوبر ١١٨٧ م في المسجد الأقصى ، بعد أن أزيلت عنه وعن الصخرة المشرّفة المعالم النصرانية جميعها. وتجمع الصليبيون في ثلاث مدن ساحلية ـ أنطاكيا وطرابلس وصور. أمّا المواقع الصليبية الحصينة في شرق الأردن ـ الكرك والشوبك وغيرها ، فقد سقطت خلال العام التالي.

وإذ يسجل المؤرخون لصلاح الدين هذا الإنجاز الكبير ، وما واكبه من تضحيات ، وما رافقه من بطولات وفروسية ومكارم الأخلاق .. إلخ ، فإن البعض يأخذ عليه عدم انتهاز الفرصة واستكمال المهمة بإسقاط أنطاكيا وطرابلس وصور. ففي صور بالذات ، بدأت الحملة الصليبية الثالثة ، إذ وصلها كونراد دو مونتفرات ، وتولى الدفاع عنها ، فتجمع حوله خليط من المقاتلين ، جاؤوا من المدن التي سقطت في يد صلاح الدين ، ومن جميع أنحاء أوروبا ، جماعات جماعات. فصمد فيها حتى وصلت الحملة الصليبية الثالثة ، بقيادة ملوك أوروبا الأقوياء. وفي أوروبا ، بعد سقوط القدس ، تحرك البابا واستطاع استنهاض ثلاثة ملوك أقوياء : فيليب الثاني (أغسطس) ،

٢١٢

ملك فرنسا ؛ وريتشارد الأول (قلب الأسد) ، ملك بريطانيا ؛ وفريدريك الأول (بربروسا) ، ملك ألمانيا. وإذ استطاعت أوروبا أن تحشد قواها ، على الرغم من الخلافات بين ملوكها ، فإن صلاح الدين ظل وحيدا في الشرق ، بل زادت عداوة جيرانه له ، بينما استنزفت الحرب قواه البشرية وموارده المادية.

وقد سبق الحملة العسكرية نشاط دعاوي تحريضي ، وسياسي دبلوماسي ، على الجانبين ، الأمر الذي جعل هذه الحملة ، بفعل التعبئة المعنوية ، عملية منازلة بين المسيحية والإسلام ، فكان لكل طرف شعاراته ومقولاته ، وكذلك أبطاله ورموزه. وبفعل التحريض التحق بالملوك عدد كبير من النبلاء ، من جميع أنحاء أوروبا ، كما أن ملك صقلية النورماني ، ساهم في نقل الجنود والعتاد في سفنه إلى الشرق. وبدأت الحملة بنجاح ، على الرغم من غياب الخطة الموحدة والفكرة الموجّهة. وجرت اتصالات مع حكام البلاد التي ستمر بها الجيوش لتأمين الانتقال السلمي إلى الشرق. أمّا فيليب وريتشارد ، فقد اختارا طريق صقلية ، ولذلك توصلا إلى تفاهم مع ملكها النورماني. وفريدريك أخذ طريق البر عبر هنغاريا ، بعد أن طمأن إمبراطور بيزنطة ، ووادع سلطان نيقيا السلجوقي ، ليعبر آسيا الصغرى ، فقبل هذا بسبب عدائه لصلاح الدين.

وكان صيت هذه الحملة أكبر من نتائجها. ففريدريك بربروسا ، الذي لم يأل جهدا في تأمين طريقه إلى جبهة القتال ، سقط وغرق في النهر في أرمينيا الصغرى ، على مشارف أنطاكيا ، وقبل أن يشتبك مع العدو. وتفتت جيشه ، فمنه من عاد إلى بلاده ، ومنه من تابع طريقه إلى صور. وريتشارد (قلب الأسد) تلكّأ في قبرص لاحتلالها ، قبل أن يصل إلى فلسطين. وفقط فيليب (أغسطس) وصل بجيشه. وفي هذه الأثناء كان غي دو لوزينيان ، ملك أورشليم السابق ، ومعه فلول صليبيي الشرق ، وما جاءه من مدد أوروبي خليط ، قد توجه إلى عكا ، فحاصرها ، ثم انضم إليه كونراد دو مونتفرات. فما كان من صلاح الدين إلّا أن طوق وحدات الصليبيين التي تحاصر عكا ، ثم ما لبث الفرنسيون ، وفي إثرهم الإنكليز ، أن وصلوا ، ودارت معركة مواقع ، بين قوتين متكافئتين ، كانت الحامية الإسلامية داخل عكا في الوضع الأصعب. واستمر هذا الحصار المتبادل من آب / أغسطس ١١٨٩ إلى حزيران / يونيو ١١٩١ م ، سقطت في إثره عكا ، الأمر الذي فتح شهية الصليبيين إلى مزيد من القتال والاحتلال. بعد سقوط عكا ، ودخول الصليبيين إليها ، دب الخلاف بين ريتشارد وفيليب ، فغادر هذا الأخير عائدا إلى بلاده. وساورت ريتشارد أفكار استعادة أراضي مملكة أورشليم اللاتينية. فتقدم إلى حيفا ، ومنها إلى قيساريا فأرسوف. وهناك اشتبك

٢١٣

الطرفان في معركة شرسة في ٧ أيلول / سبتمبر ١١٩١ م ، كان النصر فيها للصليبيين. فاحتلوا أرسوف ، ثم يافا ، التي أعاد ريتشارد بناء مينائها ليكون الثالث بعد عكا وصور فى أرض ما تبقى من مملكة أورشليم ، إضافة إلى أنطاكيا وطرابلس. وبعد أرسوف توجه صلاح الدين إلى القدس لتحصينها ، بعد أن دمر وراءه اللد والرملة واللطرون. وتبعه ريتشارد ، إلّا إنه غير رأيه عند مشارف القدس لاقتناعه بعجزه عن أخذها عنوة. وفي ٢ أيلول / سبتمبر ١١٩٢ م ، توصل الطرفان ، بعد مفاوضات طويلة ، إلى اتفاق ، أقيمت بموجبه مملكة صليبية ، مركزها عكا (سان جان داكر) ، وحدودها في الشمال صور ، وفي الجنوب يافا ، وتضم الشريط الساحلي في السهل من دون الجبل ، ومنطقة الرملة مقسمة بين الطرفين ، وللمسيحيين الحق بزيارة الأماكن المقدسة في القدس والناصرة.

في هذا الصلح بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد ، دخلت عوامل متعددة. فعدا العلاقات الشخصية التي نسجت بين الاثنين على ساحة المعركة ، كانت هناك عوامل موضوعية. فبالنسبة إلى صلاح الدين ، كانت الحرب التي خاضها طوال ما يقارب العقدين قد أنهكت جيشه ، وأفرغت خزائنه ، وخصوصا أن بقية الحكام المسلمين لم يقدموا له أية مساعدة تذكر ، بل على العكس. وأمّا ريتشارد ، فقد جرح في معركة أرسوف ، ثم مرض ، وبلغه خبر الانقلاب الذي قام به أخوه عليه في إنكلترا ، فاستعجل العودة. وقبل أن يغادر حسم مسألة الملك في عكا لمصلحة مونتفرات ، الذي ما لبث أن اغتالته الإسماعيلية ، فعين ريتشارد مكانه ابن أخته هنري دو شامبين. أمّا ملك أورشليم السابق ، غي دو لوزينيان ، فقد اشترى جزيرة قبرص من ريتشارد ، وأقام فيها ملكا صليبيا ، دام ثلاثة قرون تقريبا (١١٩٢ ـ ١٤٧٢ م) ، وظل نشطا في العمل ضد الشرق حتى سقط بأيدي العثمانيين.

وبعد الصلح الذي يبدو أنه كان مرغوبا فيه من الجانبين ، عاد صلاح الدين إلى دمشق ، ليأخذ استراحة المقاتل بعد عشرين عاما من الجهاد غير المنقطع. فوافته المنية في ٣ آذار / مارس ١١٩٣ م. وظل صلاح الدين رمزا لفروسية القرون الوسطى ، يشهد له بذلك أولياؤه وأعداؤه ، في الشرق كما في الغرب. ففضلا عن قدراته العسكرية والقتالية ، وتشبثه بالهدف وجلده على تحمل الأعباء في الصراع الطويل ، عرف صلاح الدين بالزهد في حياته ، وبمكارم الأخلاق والمروءة وحسن المعشر. وكان يميل إلى العلم والأدب ، ويرعى الحرمات ويخاف الله. ومن هنا ، ظل شخصية تاريخية مرموقة طوال القرون. وقد ذاع صيته في حياته ، كما أصبح أسطورة بعد مماته ، ليس في المشرق فحسب ، بل في المغرب أيضا. وكتب عنه الأوروبيون

٢١٤

وأنصفوه كما لم يفعلوا مع غيره في الشرق. لقد أعجبوا بصفاته ، فاستحوذ على خيال الشعراء والكتّاب ، كرمز للفروسية والمروءة والنبل.

ومثل الكثيرين من الرجال العظام في التاريخ ، مات صلاح الدين وترك وراءه فراغا ، لم يكن بين ورثته من يملؤه ، وتصارع الإخوة والأبناء بشأن اقتسام التركة المادية الكبيرة ، من دون اكتراث بالإرث المعنوي. وصار الجهاد بالنسبة إليهم مسألة سياسية دنيوية ، كما هي الحال بالنسبة إلى الفرنجة في الحملات المتعددة اللاحقة. فالحملة الرابعة كانت موجهة لاحتلال القسطنطينية ، والخامسة والسابعة ضد مصر. وفقط السادسة كانت لها علاقة ما بفلسطين ، وانتهت إلى تغيير بعض بنود المعاهدة التي أمضاها صلاح الدين مع ريتشارد قلب الأسد. وكانت هناك حملات عبثية ـ حملة الأطفال الذين بيعوا عبيدا في سوق النخاسة ، وحملة الرعاة الذين قتلوا في أوروبا ... إلخ. كما قام البابا بحملات ضد ملك إنكلترا وصقلية. وهكذا ظلت الحروب الصليبية مستعرة ، ولكن خارج فلسطين ومن دونها.

وتقاسم أبناء صلاح الدين وإخوته تركته ، واختلفوا عليها واقتتلوا من أجلها ، وانتقلت الولايات من يد إلى أخرى. فوقعت فلسطين بداية في يد الابن البكر ، الأفضل الذي احتفظ بدمشق وبعلبك والساحل وفلسطين ، ما عدا الشريط الصليبي بين صور ويافا. ثم ما لبثت أن انتقلت إلى يد العزيز ، الابن الذي احتفظ بداية بمصر. وخلال عام انتقلت إلى العادل ، أخي صلاح الدين الذي أخذ الأراضي التابعة للأفضل ، ثم بعد موت العزيز ، أخذ مصر كذلك ، ودمشق ، بعد قتال مع أبناء أخيه. وبذلك أصبح العادل رجل بني أيوب ، بعد صلاح الدين. وبهذه الصفة تولى إدارة الصراع مع الصليبيين ، الذين لم يتوقف تدفقهم على الشرق ، بصورة أو بأخرى. وفي أيام العادل برز الصليبيون الألمان (التيوتون) ، يحملون مشروع الإمبراطور هنري السادس (١١٩٠ ـ ١١٩٧ م) ، في حين اعتبروا أنفسهم غير ملزمين بالمعاهدات المعقودة سابقا.

وهذا التنظيم الألماني (التيوتوني) ، الذي تشكل أيام حصار عكا (١١٨٩ ـ ١١٩١ م) ، خرق الهدنة بين الأيوبيين وملك عكا (أورشليم اسما) ، فقاتلهم العادل وهزمهم بالقرب منها. ثم اصطدم مع ملك عكا ، آموري الذي كان يعد لاحتلال بيروت ، فهزمه في معركة تل العجول (قرب غزة) ، سنة ١١٩٧ م. وردّا على الهزيمة ، احتل آموري ، بمساعدة الألمان ، بيروت (١١٩٧ م). فأوجد بذلك تواصلا مع طرابلس وأنطاكيا. ثمّ حاول التيوتون التوسع شرقا ، فحاصروا تبنين (جنوب لبنان) ، ثم انسحبوا عندما وصلهم خبر وفاة هنري السادس. وبعدها توقف الطرفان عن القتال ، بعد أن

٢١٥

توصلا إلى هدنة. وعاد العادل إلى تنظيم أمور ملكه ، وترتيب البيت الأيوبي ، الأمر الذي أثار آمالا كبيرة بين الناس. لكنه ما لبث أن عقد معاهدة مع آموري (١٢٠٤ م) لمدة ست سنوات ، تنظم العلاقات السياسية والتجارية بين الطرفين ، وتعيد يافا إلى ملك عكا ، وكذلك بعض الأراضي في منطقة صيدا ، مع ممر إلى الناصرة.

وهذه المعاهدة (١٢٠٤ م) تشير بوضوح إلى تخلي الجانبين عن الفكرة الأساسية للحروب الصليبية. فهي تركز على العلاقات التجارية ، وعلى المصالح السياسية والاقتصادية المشتركة. وهي تنطلق من واقع التنافس بين القوى ، سواء في الشرق أو الغرب. وأوروبا التي دب الخلاف بين أقطابها ، لم تستطع استغلال تفتت الدولة الأيوبية بعد موت صلاح الدين. والألمان الذين تصدروا عمليات التوتير والتحرش في الشرق ، على أرضية مشروع هنري السادس ، انكفأوا بعد موته. وملك عكا ، آموري قطع كل أمل في إمكان استعادة الأراضي التي فقدتها مملكة أورشليم اللاتينية ، أيام صلاح الدين ، وخصوصا بعد أن غيرت الحملة الصليبية الرابعة وجهتها إلى القسطنطينية بدلا من فلسطين. ومنذ هذه الحملة ، راح يبرز دور المدن الإيطالية ، وخصوصا فينيسيا (جمهورية سان مارك) ، في تقرير أهداف النشاط الأوروبي في الشرق ، وتخضعه لخدمة مصالحها واعتباراتها التجارية.

وكان من نتائج الحملة الرابعة ، وإقامة مملكة لاتينية في القسطنطينية ، أن أصبحت هذه المدينة بؤرة استقطاب للفرنجة الذين كانت عيونهم على الشرق. كذلك ، وبعد احتلالها ، حازت أسواقها اهتمام المدن الإيطالية الرئيسي ، كونها ركزت أولوياتها على تطوير علاقاتها التجارية مع الشرق ، وبالتالي وراثة أسواق القسطنطينية. فعملت تلك المدن ، وفي مقدمتها فينيسيا (البندقية) على عقد معاهدات مع الأيوبيين في كل من مصر وسورية. ولكن ، بعد موت آموري (١٢٠٥ م) ، خلفه جون دو براين ، الذي كانت لا تزال تساوره أحلام استعادة القدس ، فتوجه إلى طلب المساندة من البابا إنوسنت ، فجاءه المدد من ملك هنغاريا ، الذي توجه على رأس جيش إلى عكا (١٢١٧ م) ، بالتعاون مع ملك قبرص. لكن هذه المغامرة ذهبت سدى ، لأنها عمدت إلى الغارات العشوائية للتخريب والنهب في الجليل وبيسان والطابور والجولان وبانياس وتبنين والشقيف وغيرها. وفي أثناء الحملة ، أعيد تحصين قيساريا ، وبنيت قلعة عتليت (شاتو بيليرين). وفجأة غادر الملك الهنغاري فلسطين عائدا إلى بلاده ، من دون تحقيق أية نتائج ذات طابع دائم.

وانضمت بقايا هذه الحملة إلى المغامرة التي قام بها جون دو براين إلى مصر (الحملة الخامسة) ، فقد حشد هذا ما استطاع من جنود وسفن ، وما جاءه من مدد

٢١٦

أوروبي ، وقصد دمياط (١٢١٨ م) ، فحاصرها في بداية سنة ١٢١٩ م ، وسقطت في يده بعد تسعة أشهر. وفي هذه الأثناء مات العادل (١٢١٨ م) ، وتولى الملك من بعده ابنه الكامل (١٢١٨ ـ ١٢٣٨ م) ، الذي كان يلي مصر في حياة والده. فعرض الكامل على جون دو براين الصلح في مقابل إعادة أراضي مملكة أورشليم اللاتينية جميعها ما عدا الكرك والشوبك ، للحفاظ على طريق المواصلات مع سورية. لكن مبعوث البابا ، الكاردينال بلاجيوس ، الذي ادّعى تفويض البابا له بقيادة الحملة ، رفض العرض. وبما توفر لديه من جند ، وبعد أن انتظر المدد من أوروبا طويلا من دون جدوى ، تقدم إلى القاهرة ، فهزم عند المنصورة (١٢٢١ م) ، وانسحب من مصر ، بعد أن عقد الطرفان معاهدة لمدة ثماني سنوات. وخلال حصار دمياط قام المعظم ، ملك دمشق ، والأشرف ، ملك الجزيرة ، وهما أخوا الكامل ، بهجمات على فلسطين ، أدّت إلى إخلاء قيساريا ، لكن عتليت صمدت أمامها.

وبعد هذه الحملة الفاشلة ، توقع الصليبيون في الشرق حملة جديدة ، بقيادة فريدريك الثاني هوهنشتاوفن. وكان فريدريك ، قيصر ألمانيا وملك صقلية الذي يجيد العربية ويتذوق آدابها ، يجري اتصالات مع العادل في القاهرة ، وبعده مع الكامل ، منذ سنة ١٢٠٦ م. وكان على خلاف مع البابا لموقفه من الكنيسة ، ولأنه وعد بالقيام بحملة صليبية إلى الشرق ، ولم ينفذ ذلك. ومع أن القيصر ، الذي نشأ في صقلية ، ودرس علوم العرب ، أرسل بعض المدد إلى الشرق (١٢٢٧ م) ، لكنه تلكأ عن الخروج حتى سنة ١٢٢٨ م ، متوجها إلى عكا ، في حملة المفارقات. فهو يقود حملة صليبية ، بينما يطارده «الحرمان الكنسي» الذي فرضه عليه البابا. واتخذت الحملة طابعا عسكريا ، بينما لم تقع فيها معركة واحدة ، بل اعتمدت الدبلوماسية والسياسة. ووصل فريدريك إلى عكا بصفته وارثا لملك القدس ، بعد أن تزوج ابنة جون دو براين. وتوصل إلى معاهدة بالمفاوضات مع صديقه الكامل ، حصل بموجبها على ما لم يستطعه ريتشارد قلب الأسد بالقتال مع صلاح الدين قبل أربعين عاما.

وقبل وصول فريدريك إلى عكا ، كانت طلائع الحملة بالتعاون مع ملك عكا قد وسعت حدود المملكة في مقاطعة صيدا وجوارها ، وأعادت بناء أسوار قيساريا ، وكذلك يافا وبيروت. وحصنت قلعة القرين (مونتفورت). وبفضل العلاقات الجيدة بين القيصر والكامل ، من جهة ، والخلافات الحادة بين الكامل وأخيه المعظم ، الذي أراد الاستيلاء على أراضي الأخ الثالث ، الأشرف ، من جهة أخرى ، استطاع فريدريك أن يحصل من الكامل على معاهدة يافا في شباط / فبراير ١٢٢٩ م. وكان المعظم قد استعان بالسلطان جلال الدين الخوارزمي ، سيد إيران ضد أخيه الأشرف ، ثم خلع

٢١٧

الكامل ، ودعا في خطبة الجمعة إلى جلال الدين. وهبّ الكامل لنصرة الأشرف ، وكاتب ريدريك يعده بتسليم أراضي المملكة اللاتينية له ، وكلها من أملاك المعظم ، طمعا في كسب تأييد القيصر له ، ورغبة في الحؤول دون وقوع الأراضي الأيوبية في بلاد الشام بين فكي كماشة ـ الصليبيون من الغرب ، والخوارزميون ، ومن ورائهم المغول ، من الشرق.

وبموجب معاهدة يافا ، أخذت مملكة عكا (أورشليم) مقاطعة صيدا (من دون قلعة بوفور ـ الشقيف) ، وكذلك صفورية والناصرة واللد والرملة وبيت لحم ، فضلا عن الحق باستعمال طريقين يؤديان إلى الجيبين ـ الناصرة والقدس. وفي القدس ، استعاد الفرنجة المدينة ، ولكن من دون الحرم (المسجد الأقصى وقبة الصخرة) ، الذي بقي في أيدي المسلمين. وتوج فريدريك نفسه ملكا على أورشليم ، ثم سلمها لممثلين عنه ، وغادر إلى صقلية. وإجراءات فريدريك هذه جرّت وراءها مشكلات في أوروبا ، كما في الشرق. وتصدر الصراع ضده في الشرق ، النبلاء من بيت إبلين (يبنى) ، الذين أقاموا في قبرص ، وادّعوا الحق في ملك أورشليم. واستمرت الحرب من سنة ١٢٣١ م إلى سنة ١٢٤٣ م ، فأضعفت قوة الصليبيين. وبينما الأيوبيون يتصارعون ، كذلك كان الحال بين الفرنجة. فالجاليات الإيطالية (الكومونات) انتزعت لنفسها حكما ذاتيا ، وأدارت سياسة خاصة بها ، كما اندلع الصراع بين المنظمات الصليبية (الهيكليين والإسبتاريين والتيوتون).

وبموازاة الصراع بين الصليبيين ، دخل الأيوبيون في اقتتال بينهم. وكان الكامل قد نزل فلسطين (١٢٢٨ م) ، وانتزع القدس ونابلس من ابن أخيه ، الناصر داود بن المعظم ، صاحب دمشق. ثم سلم القدس إلى فريدريك في المعاهدة. وبعد أن اطمأن إلى نوايا القيصر ، تحرك برفقة الأشرف ، فحاصرا دمشق وأخذاها ، فأعطيت للأشرف ، إضافة إلى طبرية. وأمّا الناصر داود ، فبعد خضوعه ، أعطي شرق الأردن ـ الكرك والبلقاء والسلط والأغوار. وأخذ الكامل الشوبك ، ليبقى الطريق بين مصر وسورية تحت سيطرته. وهكذا أصبحت فلسطين مقسمة بين حكام أربعة : ١) الصليبيون في عكا ، ولهم الساحل والقدس والناصرة ؛ ٢) الكامل في مصر ، وله الجنوب إلى اللد والرملة والشوبك ؛ ٣) الأشرف في دمشق ، وله طبرية والجليل ونابلس ؛ ٤) الناصر في شرقي الأردن ، وله الأغوار وما وراء القدس في وسط البلاد.

وكان الخوارزميون ، الذين تحركوا غربا تحت ضغط المغول ، قد أصبحوا قوة في إيران ، تهدد الخلافة العباسية وأرمينيا والجزيرة. وفي سنة ١٢٣٠ م ، احتل جلال الدين منكوبرتي ، سلطان الخوارزمية ، خلاط من أرض الجزيرة التابعة للأشرف.

٢١٨

فتحالف الأيوبيون مع سلاجقة روم ، وهزموا جيش جلال الدين. وفي السنة التالية (١٢٣١ م) ، قتل جلال الدين وهو هارب من وجه المغول. فتفرق أتباعه ، يعيثون فسادا في أرض الخلافة ، والتحق الكثيرون منهم كمرتزقة في جيوش الأيوبيين. واستمر الأيوبيون في التناحر ، على الرغم من الخطر المغولي الداهم من الشرق. وانفصل الأشرف عن الكامل ، فانتهز السلاجقة الفرصة ، وأخذوا آمد وخرتبرت وحران والرها (١٢٣٥ م). ومات الأشرف (١٢٣٧ م) وخلفه ابنه ، عماد الدين إسماعيل فتابع صراعه مع عمه الكامل ، ونزل هذا الأخير على دمشق ، وأخذها ، ونقل إسماعيل إلى بعلبك ، وله البقاع وبصرى والسواد (الجولان). ثم ما لبث الكامل أن توفي (١٢٣٨ م) ، فدخل ملك بني أيوب مرحلة التدهور السريع.

وبينما الأيوبيون في صراعاتهم ، وتناوبهم على ولاية هذه المدينة أو تلك بعد قتال ، وصلت إلى عكا حملة صليبية جديدة ، بقيادة ثيبو الرابع (كونت شامبين وملك نافاريا) ، وذلك في سنة ١٢٣٩ م ، أي في تمام معاهدة يافا (١٢٢٩ م). وتعرقلت الحملة بسبب الانقسام داخل صفوف قادتها بشأن مسألة التحالف التكتيكي مع الأيوبيين ـ أيكون مع مصر ضد دمشق ، أو العكس؟ ثم استقر رأيهم على تحصين عسقلان ، لتكون خطا دفاعيا في وجه المصريين. لكنهم هزموا في معركة بالقرب من غزة (١٢٣٩ م) ، وانسحبوا إلى عكا. وانتهز الناصر داود ، صاحب الكرك ، الفرصة ، متذرعا بخرق الصليبيين المعاهدة ، وأخذ منهم القدس ، وخرب أسوارها وحصونها ، وطردهم منها. وإزاء ذلك ، تحالف إسماعيل ، صاحب دمشق ، مع الصليبيين ، ضد تحالف الناصر والصالح أيوب ، صاحب مصر. ولكن هذا التحالف لم يثمر كثيرا ، لأن جنود إسماعيل رفضوا القتال ضد أيوب ، إلى جانب الفرنجة.

بعد فشله في تحقيق نصر على الصالح أيوب في مصر ، وذلك بالتحالف مع إسماعيل في دمشق ، عقد ثيبو هدنة مع أيوب ، وغادر إلى فرنسا. وبموجب الاتفاق ، اعترف أيوب للفرنجة بملكية قلعة الشقيف وصفد وتبنين وهونين وطبرية والطور (الطابور) وكوكب الهوى ، فضلا عن القدس وبيت لحم ومجدل يابا وعسقلان. ولكن ما لبث ثيبو أن غادر عكا ، حتى وصلها ريتشارد كورنوول (أخو ملك إنكلترا). وكان هذا يميل إلى التحالف مع الصالح أيوب في مصر ، بدلا من إسماعيل في دمشق. وتوصل كورنوول إلى تعديل المعاهدة مع أيوب ، فأعيدت بموجبها للفرنجة الأراضي جميعها التي تضمنها الاتفاق بين الكامل وفريدريك. وعاد كورنوول إلى بلاده ، بعد أن وصل وفد من قبل فريدريك إلى القاهرة ، استقبل بتظاهرة تعبر عن الصداقة بين الطرفين. ولكن هذا الترتيب لم يدم طويلا.

٢١٩

ففي محاولاتهم استغلال التناقض بين دمشق والقاهرة ، نقل الفرنجة الصراع إلى داخلهم أيضا. وبينما مال الهيكليون إلى التحالف مع دمشق ، فضل الإسبتاريون التحالف مع مصر ، ووقف معهم التيوتون الألمان. وعندما اندلع الصراع مع فريدريك الثاني في أوروبا ، وامتد إلى قبرص وفلسطين انحاز إلى الهيكليين مناهضو القيصر ، وسعوا لعقد حلف مع دمشق ضد مصر ـ الحليفة التقليدية لفريدريك. وقاموا بغارات على الخليل ونابلس. وتصدى لهم أيوب ، من دون أن يكسر المعاهدة. ولكن عندما اندلع الصراع بين أيوب وكل من إسماعيل والناصر داود والمنصور إبراهيم ، صاحب حمص ، انضم الفرنجة إلى أعداء أيوب ، الذين وعدوهم بنصيب من ملك أيوب في مصر. وكان إبراهيم قد زار عكا ، حيث استقبل بحفاوة ، وأبرم الاتفاق. وإزاء هذا التحالف القوي ، توجه أيوب إلى عصابات الخوارزمية ، ودعاها إلى الدخول في خدمته ، وقتال تحالف دمشق ـ الفرنجة.

والتقط الخوارزميون هذه الفرصة السانحة ، إذ كانت كتائبهم تهيم على وجهها في المشرق ، تسطو وتنهب وتخرب ، وهي هاربة أمام زحف المغول. وفي طريقهم إلى مصر ، أغاروا على المدن والقلاع والحصون. ولما قاومت دمشق وصمدت في الحصار ، تجاوزوها وتقدموا إلى الجليل ، فأخذوا طبرية ، ومنها تقدموا إلى نابلس فالقدس. ولم يسارع أحد من التحالف إلى نجدة القدس ، فسقطت في تموز / يوليو ١٢٤٤ م في أيدي الخوارزميين ، فنهبوها وخربوها ، وأحرقوا كنيسة القيامة ، وطردوا الفرنجة منها ، ضمن اتفاق مع الناصر داود ، لم يلبثوا أن نقضوه وانقضوا على قافلة المطرودين وقتلوا الكثيرين من أفرادها ، واستكمل البدو في المنطقة المهمة. وبذلك خرجت القدس نهائيا من أيدي الفرنجة ، فلم يعودوا إليها بعد ذلك. وعندما التحق الخوارزميون بأيوب ، خرج هذا لمقاتلة أعدائه في قرية هربيا (قرب غزة) ، ودارت معركة طاحنة في تشرين الأول / أكتوبر ١٢٤٤ م ، كسبها أيوب ، وأنزل بأعدائه هزيمة ساحقة. وهناك من يعتبر معركة هربيا حطين ثانية ، ويرى في أيوب أحد الثلاثة العظام من بني أيوب ـ صلاح الدين والكامل وأيوب. واستبشر الناس خيرا ، لكن الأمر لم يدم طويلا.

وتفرغ الملك الصالح نجم الدين أيوب لتصفية الحساب مع باقي أفراد بني أيوب الذين تحالفوا مع الفرنجة ضده. فأخذ أملاك الناصر داود جميعها في فلسطين (الخليل وبيت جبرين والقدس والأغوار). ونزل دمشق فحاصرها ، واستسلم له عمه إسماعيل والمنصور إبراهيم ، الذي انضم إليه في دمشق. وبوساطة تجار دمشق وعلمائها ، أعطى أيوب بعلبك وبصرى لإسماعيل ، وحمص وتدمر لإبراهيم ، وبقي

٢٢٠