الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

الموقع ، استطاع يوناتان أن يستغل الأوضاع لمصلحته ، ويوسع سلطاته والأراضي الواقعة تحت حكمه. وظل الحشمونيون يمسكون بالكهانة الكبرى مدة ١١٥ عاما.

وبعد أن استتب الحكم ليوناتان في أورشليم ، استغل الصراعات الداخلية في دولة السلوقيين لتوسيع سلطانه وأراضيه. وبذلك دخل طرفا في المؤامرات بين المتنافسين على العرش ، ولقي حتفه غيلة على يد حليفه ، ترايفون ، وخلفه في الحكم أخوه شمعون آخر أبناء متتياهو الحشموني الخمسة. واقتفى هذا أثر سلفه في سياسته ، الداخلية والخارجية. وتحالف مع ديمتريوس الثاني ، الذي وافق على إعفائه من الضرائب المترتبة على مقاطعته. وبانغماس السلوقيين في صراعاتهم ، وسّع شمعون حكمه نحو الساحل ، فاحتل جيزر ، ومن ثمّ يافا ، وجعلها ميناءه على البحر. ثم احتل الحكرا في أورشليم. وبعد صدام محدود مع أنطيوخوس السابع (سيدتس) ، انتصر فيه شمعون ، كفّ السلوقيون عن التدخل في شؤونه ، ولو مرحليا فقط.

وسعى شمعون لتكريس موقعه حاكما لمقاطعة يوديا (إثنارك) ، وكاهنا أكبر ، وقائدا للجيش ، بإجماع ممثلي السكان (الجيروشيا) ، وبالتالي تثبيت الحكم في سلالته بالوراثة. وقد حصل على ذلك سنة ١٤٠ ق. م. ، فعيّن ابنه ، يوحنان هوركانوس حاكما على جيزر ، وسعى للتصالح مع معارضيه ، ومنهم تلمي بن حبوب (بطليموس) ، الذي كان معارضا للحشمونيين ، وحليفا للملك أنطيوخوس سيدتس ، فزوّجه أخته ، وعينه حاكما على أريحا. ولعل الأهم من ذلك ، أنه أرسل وفدا إلى روما ، يعقد معها تحالفا جديدا (١٣٩ ق. م.). فزوّده السينات الروماني برسالة إلى ملوك مصر وسورية وكابادوكيا وبريجيا وغيرها ، يحثهم فيها على عدم التعرض لشمعون ، أو إلحاق الأذى بيوديا. وبدا أن الأمر استتب لشمعون ، لكن الواقع كان عكس ذلك.

وإذ واجه شمعون مزيدا من المشكلات مع البلاط السلوقي وتقلب الأمور فيه ، واستطاع التغلب عليها ، بصورة أو بأخرى ، فإن الشرّ كان ينتظره في موقع آخر. فقد تآمر صهره تلمي بن حبوب مع الملك أنطيوخوس سيدتس على اغتيال شمعون وتولي حكمه. وفعلا استطاع هذا اغتيال شمعون ، وهو في ضيافته ، ومعه اثنان من أبنائه ، يهودا ومتتياهو سنة ١٣٤ ق. م. وأخذ زوجته رهينة. وأرسل سرا قتلة لاغتيال يوحنان هوركانوس ، الذي أخذ علما كما يبدو بالمؤامرة ، فاستبقها ، وقتل المبعوثين ، وأسرع إلى أورشليم لتولي الحكم فيها ، خلفا لوالده. وفشلت المؤامرة ، واستتب الحكم لهوركانوس ، واندلع الصراع مع تلمي ، الذي اضطر لاحقا إلى الهرب إلى شرقي الأردن.

١٢١

وانتهز سيدتس هذه الفرصة ، وغزا يوديا ، وحاصر أورشليم. ولم يجد هوركانوس مناصا من الخضوع الجزئي لطلبات سيدتس ، بإعادة المدن التي احتلها والده في الساحل ، وتقليص استقلاله السياسي. ومع ذلك ، وربما بضغط من روما ، توصل الطرفان إلى تفاهم ، وبالتالي إلى تحالف ، تعهد بموجبه هوركانوس أن يساند سيدتس في حربه ضد الفرثيين (١٢٩ ق. م.). لكن هذه الحملة هزت أركان المملكة السلوقية ، الأمر الذي أتاح الفرصة لهوركانوس لاستعادة استقلاله السياسي ، والتفرغ بنشاط لتوسيع الأراضي الواقعة تحت حكمه. وما عدا المدن الهلينية ، فقد استعاد معظم المناطق التي تشكلت منها مملكة داود وسليمان في حينه.

وغزا هوركانوس شرقي الأردن ، واحتل بلاد مؤاب ، بما فيها العاصمة مأدبا. ثم توجه شمالا فغزا السامرة ، واحتل شيكم ، ووصل جرزيم وهدم هيكل السمرة. ثم توجه جنوبا ، فاحتل أراضي الأدوميين ، وفرض عليهم اعتناق الديانة اليهودية. وفي ذروة نشاطه التوسعي في آخر أيامه ، وفي أيام ابنه ووارثه ، أرسطوبولوس (١٠٤ ـ ١٠٣ ق. م.) ، احتل مدنا هلينية مثل سماريا وسكيتوبولس (بيسان) ، ومن ثم الجليل ، الذي كان يسكنه الأيطوريون (عرب). وتابع هذه السياسة التوسعية ، وبصورة مغامرة ، ألكسندر يناي (١٠٣ ـ ٧٦ ق. م.) ، الذي ذهب بعيدا بمهاجمة المدن الهلينية ، وحتى الكبيرة منها ـ الديكابولس (المدن العشر الكبار). وكانت هذه طفرة الحشمونيين الأخيرة.

لقد كبح الحشمونيون السيطرة السلوقية السياسية في فلسطين ، لكنهم لم يقتلعوا التأثير الهليني الحضاري ، ولا الوجود الاستيطاني اليوناني الواسع. وعندما بادروا إلى فرض اعتناق اليهودية على شعوب البلاد الأخرى ، فقد أعطوها طابعا يهوديا في الأغلب. ولعل المثال الصارخ على ذلك هو تبني الأدوميين الجماعي اليهودية ديانة ، مع تمسكهم بالهلينية حضارة وثقافة. وإذ قامت الحركة الحشمونية على أساس مناوىء للهلينية ، إلّا إنهم سرعان ما تصالحوا مع أتباعها (الفرّيسيين) ، وراحوا هم أنفسهم يتبنون العادات اليونانية ، وحتى الأسماء الشخصية. وعندما أخذوا يحتكرون السلطتين ـ الدينية والمدنية ـ برزت معارضة من الفريسيين ، الذين مثلوا العائلات الغنية ، من معارضي الحشمونيين في البداية ، ثم تصالحوا معهم. واشتد هذا الصراع على الخصوص في أيام ألكسندر يناي (١٠٣ ـ ٧٦ ق. م.).

وكان حكم يناي فترة عاصفة من الصراعات ، داخليا وخارجيا. وقبل موته ، عين زوجته ، شلومتسيون ، وصية على الملك ، وأوصاها بالتصالح مع الفريسيين ، ففعلت. واستطاعت في بداية حكمها (٧٦ ـ ٦٧ ق. م.) أن ترضيهم وتستميلهم. أمّا في

١٢٢

النهاية ، فقد اندلع الصراع بين ابنيها ، هوركانوس الثاني وأرسطوبولوس الثاني ودخل الفريسيون على خط هذا النزاع ، فاجتاحت مملكة الحشمونيين حرب أهلية. وتحالف أنتيباتر الأدومي مع هوركانوس ، وسعى للتحالف مع أريتاس (الحارث الثالث) ملك الأنباط وبمساعدته غزوا يوديا ، واحتلوا أورشليم ، وحاصروا أرسطوبولوس في جزء منها. ولكن في هذه الأثناء وصل بومبي ، القائد الروماني إلى سورية ، وسارع الجميع إلى استرضائه وخطب ودّه ، طمعا في الولاية بمرسوم منه.

ب) المدن الهلنستية

شهدت فلسطين ، أسوة بغيرها من بلاد الشرق الأدنى القديم ، بعد حملة الإسكندر ، حركة استيطانية يونانية واسعة ، تركت آثارا واضحة في التركيب الديموغرافي لسكانها ، حيث تعزز العنصر اليوناني أو «المتهلين» (المعتنق للثقافة اليونانية من أبناء البلد الأصليين). فقد عقب العملية العسكرية الناجحة ، موجة من المستوطنين اليونان ـ مزارعين وحرفيين وإداريين وجنود وتجار ومثقفين وفنيين ... إلخ. وقد حمل هؤلاء معهم الحضارة الهلينية ، التي أرادوا نشرها وترسيخها. وبعد موت الإسكندر ، وانقسام إمبراطوريته بين قادته ، وقعت فلسطين تحت حكم البطالسة ، في مصر. وقد تصرف هؤلاء بحذر ، وكان همهم مصر ، أمّا في فلسطين فقد أرادوا الحفاظ على الوضع القائم ، ولم يغالوا بالاستيطان فيها ، بل سعوا للإفادة من موقعها الاستراتيجي لحماية حدود مملكتهم ، واستغلال مواردها الاقتصادية ، وخصوصا طرق التجارة فيها. في المقابل ، كان السلوقيون يعتبرون أنفسهم ورثة الإسكندر الشرعيين ، وبالتالي حملة لواء الهلينة ، التي أرادوا توحيد مملكتهم تحت رايتها. وتطلع السلوقيون إلى المستوطنين اليونان والمقدونيين لمساعدتهم في تحقيق هذه الغاية ، من جهة ، وإلى اعتناق الشعوب المحلية لمبادىء الحضارة اليونانية (الهلينة) ، من جهة أخرى. وقد اصطدمت هذه النزعة بمقاومة محلية ، كما أصابت نجاحا غير قليل ، فتركت بصماتها على المنطقة بمجملها ، ديموغرافيا وحضاريا وثقافيا ، الأمر الذي يميّز هذا العصر من غيره من العصور السابقة.

وبناء عليه ، توجه الملوك السلوقيون إلى تشجيع الاستيطان اليوناني ، بعناصره المتعددة ، وإلى نشر الثقافة اليونانية وأسلوب الحياة الإغريقي بين الشعوب الواقعة تحت حكمهم. وكانت المدن الهلنستية (بولس) هي وسيلتهم لتحقيق تلك الغاية ، فنشطوا في بنائها ، وشحنها بالسكان ـ اليونان والمتهلينين ـ الذين اجتذبوا إليها عبر الامتيازات التي منحت لتلك المدن ، من خلال الحكم الذاتي ، ورعاية المؤسسات

١٢٣

الاجتماعية والثقافية ذات الطابع اليوناني فيها. ولم يتوقف نشاط هؤلاء الملوك عند بناء المدن الجديدة ، بل أعادوا تنظيم مدن قديمة بتخطيط جديد ، أو إقامة أحياء يونانية فيها. وقد نسقت هذه المدن بنظام تقاطعي ، وشقتها شوارع عريضة وفيها ساحات عامة ، وأبنية وهياكل فخمة. ومن معالمها البارزة «الجمناسيوم» ، رمز الهلينة ، إلى جانب الهيكل اليوناني ، وكذلك قاعات الرياضة والمسارح وحلبات السباق ، وغيرها من المؤسسات التي تخدم السكان ، جسديا وفكريا وترفيهيا. وكانت لهذه المدن إدارات ومجالس محلية منتخبة ، تعنى برعاية شؤون المدينة ، من حيث العمارة والمؤسسات المدنية والثقافية. وكان يتبع كل مدينة ريف زراعي ، يوفر لها حاجاتها الغذائية.

ومن أهم المدن الهلنستية في فلسطين :

١) عكا (بطوليمايس). وهي مدينة قديمة ، وكانت لها علاقات تجارية واسعة مع أثينا ، أسوة بالمدن الفينيقية الأخرى (صيدا وصور) ، تحت الحكم الفارسي. وقد اهتم بها البطالسة ، وأطلقوا عليها الاسم بطوليمايس (٢٦١ ق. م.) ، وعمّرها المستوطنون اليونان ، الذين كان يشار إليهم أنهم «الأنطاكيون في بطوليمايس» ، نظرا إلى تبنيهم الهلينة. وأولاها السلوقيون عناية خاصة ، واعتبروها في البداية عاصمة الولاية ، ومركزا لنشر الحضارة اليونانية. وكانت عكا ميناء تجاريا مهما إذ كانت المنفذ لصادرات الجليل ومرج ابن عامر ، وخصوصا الزيت والزيتون والنبيذ والحبوب.

٢) جبع ، وتقع على منحدر جبل الكرمل في مدخل مرج ابن عامر. وقد كانت مدينة قديمة ، لكنها صغيرة في العصر الفارسي ، ثم ازدهرت أيام السلوقيين ، إذ أصبحت محطة رئيسية على الطريق بين عكا والسامرة ، وبالتالي ، ذات أهمية استراتيجية موازية لمدينة بيسان في الشرق.

٣) دورا (الطنطورة) ، وهي مدينة فينيقية على الساحل ، جنوب جبل الكرمل. وقد عمّرها السلوقيون لأهمية موقعها الاستراتيجي ، وجعلوها «قلعة ملكية».

٤) حصن ستراتون ، وأنشأه الفينيقيون أيام الحكم الفارسي ، واتخذوه حصنا للدفاع عن الساحل. وفي موقعه بنى هيرودوس (٣٧ ـ ٤ ق. م.) مدينة قيساريا (قيصرية) الكبيرة.

٥) أرسوف (أبولونيا) ، إلى الشمال من يافا ، وهي قديمة لكن اليونان عمّروها. وقد تكون اتخذت اسمها من «أبولو» ، الإله اليوناني ، الذي أقيم له معبد فيها.

٦) يافا (يوبي) ، وهي قديمة أيضا ، وقد وهبها الفرس للصيداويين. واحتلها

١٢٤

الحشمونيون وأسكنوا فيها يهودا ، وجعلوها ميناء مملكتهم الرئيسي ، إلى أن جاء الرومان ، فأعادوها إلى سابق عهدها ، مدينة هلنستية كبيرة ومزدهرة.

٧) يبنى (يمنيا) ، وهي قديمة أيضا ، وتقع جنوب يافا. وفي أيام السلوقيين أصبحت يبنى مدينة كبيرة قبل أن يدمرها الحشمونيون ويحرقوا أسطولها ، لكنهم لم يفلحوا في احتلالها. وبعد الاحتلال الروماني (٦٣ ق. م.) ، عادت وازدهرت كمدينة هلنستية.

٨) أسدود (أزوتس) ، وقد بناها الفلسطيّون ، وعمّرها اليونان ، كما تهلين سكانها ذوو الجذور اليونانية القديمة.

٩) عسقلان ، وكانت تابعة لمدينة صور أيام الفرس ، وأولاها البطالسة عناية خاصة. وكانت في القرن الثالث قبل الميلاد من أهمّ مراكز التجارة مع بلاد اليونان. وصمدت عسقلان في وجه الحشمونيين واعترف الرومان باستقلالها كمدينة هلنستية بعد حملة بومبي (٦٣ ق. م.).

١٠) غزة ، وهي مدينة قديمة ، اكتسبت أهمية أيام الفلسطيين ، وكانت لها تجارة واسعة مع بلاد اليونان في العصر الفارسي ، ويقول عنها هيرودوتس إنها أكبر من سارديس ـ عاصمة ليديا في آسيا الصغرى. وقاومت غزة الإسكندر بضعة أشهر قبل احتلالها ، فدمّرها ، وأمر بإقامة مدينة يونانية مكانها ، بعيدا عن الشاطىء. وقد لحق بها الدمار عدة مرات في أثناء الحروب السورية ، بين البطالسة والسلوقيين ، وخصوصا سنة ٣١٢ ق. م. ولكن بسبب أهمية موقعها كان يعاد بناؤها مجددا. وكانت غزة منفذا لتجارة الجزيرة العربية ، الآتية إليها عن طريق البتراء ، عاصمة الأنباط. ولأهمية تجارة الطيوب ، عيّن البطالسة موظفا خاصا (مراقب العطور) للإشراف عليها في غزة.

١١) أنتيدون ، وهي هلنستية أصلا ، وتقع على مقربة من غزة ، وتعتبر تابعة لها. ١٢) رفح ، وهي قديمة أيضا ، إلّا إن البطالسة أولوها العناية ، فوسعوها ، وأصبحت مدينة مهمة وجميلة ، وفيها أقام بطليموس الخامس حفل زواجه من كليوباترا ، ابنة أنطيوخوس الكبير (١٩٣ ق. م.). وقد دمرها الحشمونيون ، وأعاد الرومان بناءها.

١٣) السامرة (سماريا) ، وهي قديمة ، استسلم سكانها للإسكندر ثم ثاروا على الحاكم اليوناني وقتلوه ، فهدمها بردكاس ، وأقام مكانها أول مستعمرة مقدونية في فلسطين ، وأسكن فيها الجنود المتقاعدين. وكان الحشمونيون قد دمروها ، وهدموا هيكل السمرة فيها ، على جبل جرزيم ، قبل أن يعيد هيرودوس (٣٧ ـ ٤ ق. م.) بناءها ، ويسميها سبسطية ، وكانت أجمل ما بناه من مدن.

١٢٥

١٤) صفورية (سبورس) ، وكانت مركزا إداريا للجليل ، احتلها الحشمونيون ، وهوّدوا سكانها (الأيطوريين) ، إلى أن تمّ تحريرها على أيدي الرومان ، فأعيد بناؤها كمدينة هلنستية.

١٥) بيسان (سكيتوبولس) ، وكانت أكبر المدن الهلنستية في فلسطين ، وهي مدينة قديمة ، أولاها البطالسة والسلوقيون اهتماما لموقعها الاستراتيجي على طرق التجارة الدولية ، فبنوا فيها مدينة هلنستية ، وأقطعوا سكانها أراضي واسعة. وقد احتلها الحشمونيون وأحرقوها ، إلّا إنه أعيد بناؤها بعد الاحتلال الروماني (٦٣ ق. م.).

وتجدر الإشارة إلى أن البطالسة والسلوقيين شيدوا الكثير من المدن في سورية وشرق الأردن ، كما بنوا أحياء خاصة في عدد منها ، مثلما فعلوا في أورشليم (الحكرا) ، إلّا إن الكثير منها أقيم على مواقع قديمة. ومن هذه المدن فيلادلفيا (عمان) وجرازا (جرش) وقناتا (قنوات) وديون (أيدون) وهبّوس (قلعة الحصن ـ الأردن) وجدرا (أم قيس ـ الأردن) وبيلا (طبقة فحل ـ الأردن) ، وغيرها. وقد دعيت هذه المدن ، التي استمرت في العصر الروماني بطابعها الهلنستي ، وحكمها الذاتي ، باسم ديكابولس (المدن العشر) ، التي تحالفت بين بعضها البعض. وكانت بيسان عضوا دائما في الحلف ، وانضمت إليه أحيانا دمشق وبصرى ودرعا وبيت راس. وقد أوكلت إلى هذه المدن في العصر الروماني مهمة دفاعية. والمرجح أن عمان (فيلادلفيا) هي الوحيدة التي يعود بناؤها إلى البطالسة. واستمر بناء المدن على الطراز الهلنستي في العصر الروماني ، وكانت لبعضها امتيازات خاصة ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر : قيساريا (قيصرية) التي كانت تضاهي الإسكندرية وروما ، وفاقت في ضخامتها أنطاكيا وسبسطية ، مدينة هيرودوس الجميلة ، وكذلك أنتيباترس (رأس العين) ، على اسم والده أنتيباتر الأدومي. أمّا أورشليم ، فقد تحولت إلى مدينة هلنستية ، باسم إيليا كابيتولينا ، في أيام الإمبراطور هدريان الروماني (١١٨ ـ ١٣٨ م).

ثالثا : العصر الروماني

لقد فشل اليونان ، ومعهم مدنهم الهلينية ، في إقامة نظام سياسي في شرق البحر الأبيض المتوسط لمدة طويلة ، مع أنهم تركوا في هذه المنطقة أثرهم الحضاري والثقافي ، وعلى شعوب متعددة. والفراغ السياسي الذي تركه هبوط الممالك اليونانية التي ورثت إمبراطورية الإسكندر ، فتح باب التدخل ، وبالتالي التحرك لملئه ، أمام قوة جديدة وحيوية ـ روما. وكانت هذه لدى بروزها على مسرح الأحداث (القرن الثالث

١٢٦

قبل الميلاد) متأثرة إلى حد كبير بالحضارة اليونانية. وفي اندفاعها لبناء إمبراطوريتها ، جمعت روما بين العبقرية السياسية والعسكرية ، ونمط الحياة اليوناني ، حضاريا وفكريا. وبذلك استطاعت أن تصوغ في حوض البحر الأبيض المتوسط عالما تسوده الحضارة اليونانية ـ الرومانية ، استمر قرونا متعددة.

وفضلا عن أنهم كانوا هم أنفسهم مشبعين بالثقافة اليونانية ، فإن الرومان عندما راحوا يبنون إمبراطوريتهم وجدوا أنهم يسيطرون على بلاد وشعوب تغلغلت فيها الحضارة الهلينية ، بتعبيراتها الفكرية والمؤسساتية. وعلى العكس من اليونان ، لم يبادر الرومان إلى الهجرة الواسعة من بلادهم والاستيطان الكثيف في الأراضي المحتلة ، وإنما حكموا تلك البلاد وشعوبها بالقوة العسكرية ، التي تميّزوا بها ، وكانت عنصرا أساسيا في تراثهم القديم. وبانتصارها على قرطاجنة في الحرب البونية (٢٦٤ ـ ٢٠١ ق. م.) ، ومن ثم على السلوقيين في معركة مغنيزيا (١٩٠ ق. م.) ، أصبحت روما عاملا رئيسيا في الصراع الدائر في شرق البحر الأبيض المتوسط. وبعد أن ضمت الممالك اليونانية في أوروبا ، زاد تدخلها في شؤون المملكتين السلوقية والبطلسية. وأخيرا تحرك بومبي (٦٥ ق. م.) إلى الشرق لإنهاء المملكة السلوقية.

ففي سنة (٦٥ ق. م.) ، أرسل بومبي طليعة من جيشه بقيادة سكاوروس إلى دمشق ، ثم تبعه في العام التالي ، وفي سنة ٦٣ ق. م. احتل أورشليم ، بعد أن عدل عن مهاجمة الأنباط. والاحتلال الروماني أوجد وضعا سياسيا جديدا ، وكان لا بدّ من أن يفرض حالة من الاستقرار. وواجه سكاوروس ، ومن بعده بومبي نفسه ، مشكلة السلطة في يوديا ، إذ تنافس عليها اثنان من بقايا الحشمونيين. وبينما سعى ، كل من هوركانوس وأرسطوبولوس (ابني ألكسندر يناي) ، للحصول على تعيين من بومبي للولاية في يهودا ، برز تيار ثالث ـ الفريسيّون ـ يطالب بإنهاء حكم الحشمونيين ، وإلغاء الملكية ، والاكتفاء بتعيين كاهن أكبر لرعاية شؤون اليهود الدينية والمدنية ، من دون السياسية ، بدعوى أن ملك الحشمونيين قد جلب الكوارث عليهم.

وعندما حزم بومبي أمره ، ألغى حكم الحشمونيين ، وعين هوركانوس كاهنا أكبر ، كمرتبة دينية ، وليس كمهمة سياسية. وهدم أسوار أورشليم ، وانتزاع الأراضي جميعها التي احتلها الحشمونيون في شرق الأردن والجليل والساحل ، وفصلها عن يهودا. وأعاد للمدن الهلينية التي سيطروا عليها أيام ألكسندر يناي حكمها الذاتي ، وألزم مقاطعة يهودا المقلّصة دفع الضريبة للخزينة الرومانية. وعين بومبي سكاوروس حاكما على ولاية سورية الرومانية ، التي امتدت من الفرات إلى مصر. وبعد مغادرة بومبي سورية ، لم يدخل سكاوروس أية تعديلات على الترتيبات التي وضعها القائد ،

١٢٧

كما لم يتدخل في الصراع الدائر بين التيارات المتخاصمة في يهودا ، بين الكاهن الأكبر هوركانوس وحليفه الأدومي المتهوّد ، أنتيباتر ، من جهة ، وحزب أرسطوبولوس ، بقيادة ابنه ألكسندر من جهة أخرى.

وفي سنة ٥٧ ق. م. ، عين غابينيوس واليا جديدا على سورية. وبادر هذا إلى ترميم المدن الهلنستية التي خربت ، وتوطين سكان جدد فيها ، وإلى تقسيم يهودا إلى خمسة ألوية منفصلة ، وتجريد الكاهن الأكبر من صلاحيات كانت في يده ، وخصوصا على صعيد السلطة المدنية. وفي هذه الأثناء ، اندلع الصراع في روما بين قادة الجيوش الكبار ، بومبي ويوليوس قيصر وأنطونيوس. فانتهز ألكسندر ، ابن أرسطوبولوس الفرصة ، وتمرد على غابينيوس ، لكنه هزم واستسلم. فهدم غابينيوس الحصون التي لجأ إليها ألكسندر ، وقسم المقاطعة إلى خمسة ألوية ، أعطيت تسمية دينية ـ سنهدريا ـ للدلالة على تجريدها من السلطة السياسية ، وهي : ١) أورشليم ؛ ٢) أريحا ؛ ٣) جيزر ؛ ٤) حماتا ؛ ٥) صفورية ، وذلك لتفتيت المقاطعة وتسهيل السيطرة عليها.

وبعد انتصار يوليوس قيصر على بومبي سنة ٤٨ ق. م. رفع يهودا إلى مقاطعة ذات حكم ذاتي (أثنارخيا) ، وضم إليها ميناء يافا على البحر ، وسمح بإعادة بناء أسوار أورشليم ، لأن هوركانوس ، وبناء على نصيحة أنتيباتر الأدومي ، وقف إلى جانبه في الصراع مع بومبي ، ودعا يهود مصر إلى مساندته. وعندما استتب الأمر ، برز أنتيباتر وابناه ، فصائيل وهيرودوس ، فأصبح الأول حاكما على أورشليم والثاني حاكما على الجليل. وبعد اغتيال يوليوس قيصر (٤٤ ق. م.) ، واندلاع الصراع مجددا ، وصل كاسيوس إلى سورية ، فمال إليه أنتيباتر وابناه ، ونشطوا في جمع المال له. وتميّز هيرودوس بالتقرب من كاسيوس. لكن هذا الأخير سرعان ما غادر سورية إلى مقدونيا ، واضطربت الأوضاع مرة أخرى. وعندما وصل أنطونيوس إلى سورية ، سارع هيرودوس وفصائيل إلى إعلان الولاء له ، فدعمهما ضد خصومهما ، الذين كانوا قتلوا والدهما ، أنتيباتر ، عبر دسّ السم له في الشراب.

وفي سنة ٤٠ ق. م. ، تقدم الفرثيون في سورية ، ووصلوا إلى فلسطين ، فانضم إليهم أنطيغونوس ، الأخ الأصغر لأرسطوبولوس ، وبمساعدتهم عزل هوركانوس عن الكهانة الكبرى ، وأسر فصائيل ، الذي انتحر. أمّا هيرودوس فقد هرب إلى روما ، واستقبل هناك على أنه الحليف المخلص لروما في يهودا ، ومنحه أكتافيوس وأنطونيوس ـ اللذان كانا انتصرا على مدبري مؤامرة اغتيال يوليوس قيصر ـ لقب ملك ، وحليف صديق لروما ، بينما أعلن أنطيغونوس عدوا لها. وكان على هيرودوس

١٢٨

أن ينتزع الأرض التي عين حاكما عليها ، بقرار من السينات الروماني. ففعل ذلك بمساعدة الفيالق الرومانية. وبعد هزيمة الفرثيين حسم مصير أنطيغونوس ، فألقي القبض عليه ، وأعدم سنة ٣٧ ق. م. وبذلك استتب الأمر لهيرودوس ملكا على يهودا.

أ) حكم هيرودوس (٣٧ ـ ٤ ق. م.)

هيرودوس وحكمه في فلسطين كانا من صناعة السياسة الرومانية في الشرق. فقد رأت فيه روما تابعا مخلصا ، ورجلا مناسبا لتجسيد سياستها ، التي لم يتردد لحظة في العمل على تنفيذها ، وبكفاءة عالية ، سياسيا وعسكريا. ومن خلال ملاءمة نشاطه ، شكلا ومضمونا ، مع الاستراتيجية الرومانية في الشرق ، بنى هيرودوس ذاته وبلاطه وسلطانه. فجهد على الدوام في الحفاظ على علاقة متميّزة مع مركز السلطة في روما. ومن أجل صيانة هذه العلاقة ، عمل بوسائل متعددة إلى قطع الطريق على أية منافسة محلية له على هذا الصعيد. فقضى على خصومه في الوقت الملائم ، لكن الأهم كان تفانيه في خدمة مصالح الإمبراطورية ، ودأبه أن تبقى حركته متطابقة مع الاستراتيجية العامة للمركز. في المقابل ، أطلقت روما يده في إدارة شؤونه الداخلية. ولعل أحد أهم العوامل في استتباب الحكم لهيرودوس كان الاستقرار الذي تحقق في روما بعد أن تغلب أكتافيوس على خصومه ، وكرس نفسه إمبراطورا بلا منازع. ففي أثناء هيمنة أنطونيوس على الشرق ، ساند هيرودوس بقوة ، الذي سعى بدوره لاسترضاء الأول بكل السبل. وبناء على إرادة أنطونيوس ، قاتل هيرودوس النبطيين ، ولخطب ودّه تنازل عن مزارع البلسم والتمور في أريحا لمصلحة كليوباترا ، عشيقة أنطونيوس. وبعد انتصار أكتافيوس على أنطونيوس في معركة أكتيوم (٣١ ق. م.) ، سارع هيرودوس إلى تقديم الطاعة للسيد الجديد. فقبلها هذا منه ، وأبقاه ملكا على يهودا. وبذلك استقرت علاقة هيرودوس مع روما ، إذ أثبت جدارته في نظرها ، وتغلب على خصومه المحليين.

وفي الواقع ، فإن هيرودوس بدهائه وحزمه ، أثبت جدارة فائقة في التعامل مع روما ، بالصورة التي تفي بأغراضها السياسية. وإذ أقام صلات وثيقة ومتميّزة مع المركز ، فإنه سعى على الدوام للحفاظ على علاقات جيدة مع والي سورية. وبينما تحاشى مناصبة أكتافيوس العداء ، فإنه بذل جهده لإرضاء أنطونيوس. وبينما كانت المعركة على أشدها بين القطبين ـ حليفي الماضي ـ شغل نفسه بمحاربة الأنباط ، بناء على طلب أنطونيوس ، وتحريض كليوباترا التي أرادت أن تصيب عصفورين بحجر. فقد طمعت بالسيطرة على تجارة الأنباط ، من جهة ، وتوخت إضعاف هيرودوس

١٢٩

واستنزافه من جهة أخرى. وقبل هيرودوس المهمة ، ودفع ثمنا غاليا ، لكنه أثبت قدرته في النهاية ، كما ظل بعيدا عن الانخراط المباشر في الصراع بين أكتافيوس وأنطونيوس.

وفي الحرب مع الأنباط ، هزم هيرودوس في معركة قنات (الحوران). وتواكبت الهزيمة مع هزة أرضية ضربت فلسطين وأحدثت خرابا كبيرا. فاضطر هيرودوس إلى طلب الصلح من مالكوس (مالك) ، ملك الأنباط الذي رفض فاستمرت الحرب ، وكسبها هيرودوس في النهاية. وعندما رأى هيرودوس أن الكفة تميل لمصلحة أكتافيوس ، سارع إلى تقديم المساعدة إلى ديديوس ، والي سورية من قبل أكتافيوس في قتاله مع عصابات المجالدين التابعين لأنطونيوس. وبعد حسم الصراع ، توجه هيرودوس إلى ملاقاة أكتافيوس في رودس ، ووضع نفسه في خدمته. ورضي عنه الإمبراطور ، وثبّته في ملكه ، بل زاده أرضا ونفوذا. لكن هيرودوس ، الذي كان يشك في نوايا أكتافيوس إزاءه ، عمد قبل سفره لمقابلة الإمبراطور إلى قتل هوركانوس العجوز ، الكاهن الأكبر وحليف أنتيباتر سابقا.

ومع أنه وصل إلى مقر أكتافيوس وهو يحمل أوراقا قوية : النصر على الأنباط وتقديم المساعدة إلى ديديوس والنجاح في ضبط أوضاع يهودا في أثناء الصراع بين أكتافيوس وأنطونيوس ، فقد ظل يخشى بقايا الحشمونيين الذين يتمتعون بتأييد شعبي. وعلى الرغم من أن أكتافيوس اعتمده ملكا ، وأعاد له الأراضي التي سلخها بومبي عن يهودا ، وأضاف عليها أراضي واسعة في شرق الأردن ، فقد استمر هيرودوس في مطاردة الحشمونيين وتصفيتهم. فأعدم زوجته مريم الحشمونية ، وأمها ألكسندرا ، التي كانت على اتصال مع كليوباترا ، ولاحقا أعدم ابنين له من مريم. وقضى على عائلة بابا القريبة من الحشمونيين ، وعلى غيرها من الأدوميين المعارضين. وظل هيرودوس حتى آخر أيام حياته لا يتهاون في أمر أية معارضة لسلطته المطلقة ، ولا يتساهل في تكريس نفسه حاكما وحيدا في يهودا ، وحليفا لا منافس له في العلاقة مع روما.

وبالاستناد إلى نفوذه الكبير في روما ، الذي قام على شبكة علاقات شخصية واسعة ، فضلا عن «الصك» الرسمي بتعيينه ملكا من قبل السينات (مجلس الشيوخ) ، جمع هيرودوس في يديه صلاحيات واسعة جدا في يهودا الموسعة. فقد كان قائد الجيش ورئيس الإدارة المدنية ، والمرجعية القانونية والقضائية ، وفي يده مقاليد المال والضرائب. وبالتدريج ألغى هيرودوس المؤسسات المشاركة في السلطة من أيام الحشمونيين ، وتحديدا «السنهدريا» ، التي حلت محل «الجيروشيا» (مجلس الأعيان).

١٣٠

ولأنه من أصل أدومي ، ولم يكن مؤهلا لتولي الكهانة الكبرى ، فقد جرّد المنصب من الصلاحيات جميعها المدنية والسياسية ، وحصرها في المسائل الدينية ، واستبعد منها العائلات التي كانت لها صلات بالحشمونيين ، واستبدلها بأخرى مغمورة وموالية له ، وأوقف نهج تعيين الكاهن الأكبر مدى الحياة.

وقد بنى هيرودوس جيشا نظاميا كبيرا على النسق اليوناني ، عماده المرتزقة ، الذين ارتبطوا به شخصيا ، وشكلوا ثقلا موازيا للعنصر اليهودي فيه ، لأن هيرودوس الأدومي لم يأمن جانب اليهود في الجيش. وبعد تسريح هؤلاء المرتزقة ، وطّنهم في المدن الهلنستية ، واستعملهم في مهمات مدنية. كما قسم البلاد إلى ألوية (طوبارخيات) ، لكل منها مركز إداري ، على رأسه مسؤول هو الطوبارخوس ، وهي في يهودا : أورشليم وجفنا وعقربا وتمنا واللد وعمواس وبيت نطوفا وأدوم وعين جدي وهيروديون وأريحا. وفي الجليل خمسة ألوية ، هي : أربيل ومجدل وصفورية وعرب والجليل الأعلى. وفي شرق الأردن ثلاثة ألوية ، هي : بيت هرمتا وآبل وجادير (جدرا). وعلى كل من هذه المقاطعات حاكم (استراتيجوس) ، تميز بينهم حاكم أورشليم. وترك المدن الهلنستية في مناطق حكمه تتمتع بالإدارة الذاتية ، وكانت له فيها مصالح اقتصادية واسعة.

ووردت على خزينة هيرودوس مداخيل كبيرة ، سواء من أملاكه ومرافقه الخاصة ، أو من الضرائب وموارد الدولة. وإذ ظلت الزراعة الركيزة الاقتصادية الرئيسية في مملكته ، فقد ازدهرت فيها التجارة والصناعة. وملك هيرودوس عقارات واسعة ، ورثها من عائلته في أدوم ، وضم إليها المصادرات الكثيرة من الخصوم السياسيين الذين صفاهم ، وعلى رأسهم الحشمونيون وأنصارهم. وجبى هيرودوس ضرائب دائمة على «الرأس» ، وعلى الأرض ، وأخرى موسمية مثل «ضريبة التاج». كما فرض المكوس على السلع التجارية ، وضريبة على استعمال الطرق والجسور والموانىء ، وعلى البيع والشراء ، كما على البيوت. وعلى العموم ، فإن هيرودوس سار على النهج اليوناني ، ولم يتورع عن أية وسيلة تزيد في مداخيله الضخمة ، فكان العبء المالي على رعاياه كبيرا ، وكثيرا ما سبب حالة من التذمر ، لكن هيرودوس استطاع معالجتها بوسائل متعددة ـ الترهيب طورا والترغيب حينا.

وبهذا الثراء أتاح هيرودوس لنفسه الإقلاع في حركة بناء ناشطة. فأقام بلاطا فخما في أورشليم ، وعددا من الحصون إضافة إلى القلعة (أنطونيا) ، على اسم ماركوس أنطونيوس ومسرحا ومدرجا. وأعاد بناء الهيكل بصورة فخمة ، لم يسبق لها مثيل. وفضلا عن عدد من الحصون والمنتجعات ـ الهيروديون وفصائيل وأنتيباترس

١٣١

ومسّادا والمكوّر وغيرها ، فقد بنى مدينتين كبيرتين ، هما : قيساريا (قيصرية) على موقع حصن ستراتون ، وسبسطية على موقع السامرة. وبلغت قيساريا على الساحل شأنا عظيما في ضخامتها وأهميتها الاقتصادية ، إذ أصبحت الميناء الرئيسي لمملكة هيرودوس. وسبسطية ، التي أحب الملك موقعها ، بناها على النمط الهليني ، بإذن من الإمبراطور ، ودعاها على اسمه ، فحسنها وزينها ، ووطّن فيها أعدادا من جنوده المسرحين وأقطعهم الأراضي. كما أقام لنفسه فيها قصرا فخما ، وبنى منتجعا في أريحا ، وملاذا في مسّادا ، على البحر الميت.

واهتمامات هيرودوس العمرانية لم تتوقف على المباني الفخمة والقصور الجميلة فحسب ، بل تجاوزتها إلى القلاع والحصون في المواقع الاستراتيجية ، ومنها : المكور (شرقي البحر الميت ، حيث سجن وأعدم يوحنا المعمدان) وحشبون وألكسندرون ومسادا وهوركانيا (السجن الرهيب الذي أعدم فيه الكثيرون من خصوم هيرودوس). وعدا البناء ، اهتم بتطوير الزراعة واستصلاح الأراضي ، وبناء قنوات الري ، وخصوصا في غور الأردن ومنطقة أريحا. وكذلك أولى عناية خاصة لتحسين الطرق وبناء الجسور والموانىء ، وضبط الأمن على خطوط التجارة. فقد اهتم بطرق التجارة الشرقية (طريق الملك) ، التي كانت تمر عليها التوابل والعطور العربية إلى دمشق وغزة ، وبالقرب من غزة جدّد ميناء أنتيدون.

لقد أمّن هيرودوس نفسه على صعيد العلاقة مع روما. وكذلك ، وبوسائل متعددة ـ قمع وقبضة حديدية وإرهاب وشرطة سرية ودسائس وجهاز رقابة ضخم ... إلخ ـ حال دون تبلور معارضة محلية فاعلة. وإذ أخذ احتياطات واسعة لحماية نفسه ـ حصون وملاذات وحرس شخصي غير يهودي وبطانة مخلصة .. إلخ ـ فقد جاءته المفاجأة من داخل بيته. ففي السنوات الثماني الأخيرة من حكمه ، دبّ الصراع بين أبنائه ، من زوجات متعددات بشأن الميراث. وكان الأخطر عليه ابنا مريم الحشمونية ، ألكسندر وأرسطوبولوس ، فأعدمهما ، أسوة بوالدتهما وجدتهما من قبل ، لتآمرهما عليه بهدف إعادة الحشمونيين إلى الملك. وسرعان ما برز ابنه البكر ، أنتيباتر فأعدمه أيضا. ثم عين ابنا صغيرا ، أنتيباس وليا للعهد. لكنه على فراش الموت تراجع ، وكتب وصية فتحت باب الصراع بين الباقين من أبنائه بشأن الميراث.

وقبل أيام من موته ، وبعد أن أعدم أنتيباتر ، عيّن أرخيلاوس ملكا مكانه ، وأنتيباس واليا على الجليل وفيلبّس على الجولان وتراخونيا والباشان وبانياس ، لكن الوصية كانت معتمدة على موافقة القيصر الروماني. وأمام أكتافيوس في روما طرحت دعاوى متعددة. وبينما سعى كل واحد من أبناء هيرودوس للحصول على تعيين من

١٣٢

القيصر ، جاءت وفود تطالب بخلع هذه العائلة من الملك ، ووضع يهودا مباشرة تحت الحكم الروماني. وتلكأ أكتافيوس (أغسطس) عن إصدار القرار ، وانفجرت الاضطرابات في جميع أنحاء مملكة هيرودوس. فقمعها والي سورية الروماني ، فاروس ، بمساعدة الأنباط. وأخيرا أقرّ القيصر وصية هيرودوس بصورة عامة ، ولكن مع تعديلات ذات دلالة ، أبرزها تقسيم المملكة الموحدة إلى ثلاث ولايات منفصلة ، وسلخ مناطق مهمة عنها ، وخصوصا على الساحل ، وضمها مباشرة إلى مسؤولية الوالي الروماني في سورية.

وخلال الأربعين عاما اللاحقة لموت هيرودوس ، تهاوت الولايات الثلاث ، الواحدة تلو الأخرى. وكان أولها ولاية أرخيلاوس في أورشليم ، الذي عرف بقساوة والده من دون كفاءته. فاحتج الناس على ظلمه ، وطلبوا إبعاده ، فقبل القيصر ، ونفاه إلى غاليا (في فرنسا) ، وعيّن مكانه حاكما رومانيا سنة ٦ م. وبقيت ولاية فيلبّس إلى سنة ٣٤ م ، وبعد موته ألحقت بسورية. أمّا ولاية أنتيباس ، فبقيت في يده حتى سنة ٣٩ م ، عندما أجلي هو الآخر إلى غاليا ، وألحقت ولايته بسورية أيضا. وفي أيام أنتيباس وقعت اضطرابات كثيرة ، في خضمها ظهرت المسيحية ، وفي سياقها أعدم يوحنا المعمدان ، ولاحقا صلب المسيح بحسب الرواية المسيحية. وبذلك انتقلت مملكة هيرودوس كلها إلى الحكم الروماني المباشر.

ب) ظهور المسيحية

شهدت فلسطين بعد موت هيرودوس حدثا تاريخيا مهما ، كان من شأنه أن يؤدّي دورا مركزيا في الحضارة العالمية لاحقا ، وهو ظهور الديانة المسيحية ، بشخص مؤسسها يسوع المسيح. ومن بداية متواضعة في مطلع القرن الأول الميلادي ، جعل أتباع المسيح عقيدتهم الديانة الرسمية للإمبراطورية البيزنطية في بداية القرن الرابع الميلادي. ومن جماعة مطاردة ، متهمة بالخروج على الديانتين ـ اليهودية والرومانية ـ صار في عداد المسيحيين الإمبراطور البيزنطي نفسه ، قسطنطين الأول ، (٣٠٦ ـ ٣٣٧ م). وعلى الرغم من الاضطهاد الذي لقيه أتباع المسيح ، فقد ثابروا على نشر رسالته ، جيلا بعد جيل ، وتوسعت دائرة تأثيرهم في النواحي جميعها ، إلى أن حققوا النصر بعد ثلاثة قرون. وكان من نتائج ذلك اعتبار فلسطين «الأرض المقدسة» ، وهي الكنية التي لا تزال تعرف بها حتى يومنا هذا.

ولقد تواكب ظهور يسوع المسيح مع فترة من التناقض الحاد بين يهود فلسطين وروما ، بعد فترة من الوئام ، قام فيها هيرودوس بالدور الرئيسي. ففي روما ، حكم

١٣٣

السياسي البارز أكتافيوس (أغسطس) ، وعمل على نقل الدولة الرومانية إلى إمبراطورية كونية راسخة ، الأمر الذي نجم عنه اتخاذ إجراءات متعددة ، تمكّن من توحيد أراضي الإمبراطورية وشعوبها حول المركز في روما. وانقسم اليهود بشأن هذه الإجراءات ، بين معارض ومؤيد ومحايد. ودبّ الخلاف بين هذه التيارات المتعارضة في ظل حكم روماني مباشر ، فتحول إلى صراع مع روما. وبغياب هيرودوس ووسائله المتعددة ، اعتمد الولاة الرومان القوة العسكرية وسيلة لقمع التمرد. وراح الوضع يتفاقم ، والأحوال العامة تسوء. وفي هذه الأجواء المحتقنة بالتوتر ، ظهر المبشر بالديانة الجديدة ، «المسيح المخلص».

وفي خضم الأزمة ، وحالة الاختلال في أوجه النشاط بغياب قيادة موحدة ، برزت أربعة تيارات بين اليهود : تيار سعى للمساومة مع الرومان ، وعمل للسلام والحرية الدينية ، وكان قوامه أبناء الطبقات العليا ، الذين اكتفوا بالحفاظ على اليهود كجماعة دينية في إطار الإمبراطورية ؛ وتيار آخر ، أكثر اتساعا ، عارض التأثيرات الخارجية ، ودعا إلى تفسير تعاليم التوراة وتطويرها بحيث تواكب روح العصر. في المقابل ، كانت هناك جماعتان أخريان ، على طرفي نقيض ؛ الأولى ، متطرفة في مقاومتها للإجراءات الرومانية ، سياسيا ودينيا ، ودعت إلى التصدي لها بحمل السلاح ، وكان قوامها سكان الريف ؛ والثانية ، زاهدة ، صوفية ، انعزالية ، رأت الخلاص الذاتي في التطهر الروحي. وقد خرجت إلى أطراف الصحراء لتقيم تجمعاتها الخاصة ، ويبدو أن يوحنا المعمدان لم يكن بعيدا عن هذه الجماعة الأخيرة. وقد بشّر بالخلاص القريب ، عبر المسيح المخلص.

في هذه الأجواء المشحونة ، ولد يسوع الناصري في بيت لحم. ولعل ذلك كان سنة ٤ ق. م. ، أي عام مات هيرودوس ، الأمر الذي اعتبر أنه جاء مواكبا ل «قدوم الساعة» ، وبالتالي وقع بحسابات وإرادة إلهية. وبشّر به يوحنا المعمدان الزاهد على أنه المخلص. ومنذ أن شرع في التبشير برسالته ، أعلن يسوع المسيح أن ملكوت الله الموعود أصبح قريبا ، وبناء عليه ، دعا الناس إلى المباشرة حالا بإعداد أنفسهم للتوبة وإحياء الروح ، عبر رفض متاع الدنيا ، والتوجه إلى حب الله والناس. وإذ لم يطالب الناس في البداية بترك ديانتهم ، فإنه دعاهم إلى تجاوز الطقوس الشكلية ، وفتح قلوبهم إلى الله. ولم يدع المسيح إلى الصدام مع روما ، بل أكد على ضرورة إعطاء «ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله.»

وعندما راح يسوع الناصري ، وهو يناهز الثلاثين من العمر ، يجوب البلاد ويبشّر بتعاليمه ، أثار اهتماما بين الناس من مواقع متعددة. فهناك من رأى فيه مجدّدا لملك

١٣٤

اليهود ، ومن رأى فيه ثائرا على حكم روما ، أو مصلحا دينيا ـ اجتماعيا ... إلخ. ولكن عندما أوضح المسيح أن رسالته ليست موجهة لإقامة مملكة على الأرض ، أو لحمل السيف ضد روما ، وراح يدين ممارسات الطبقة العليا المادية ، وينتقد التزمت الديني ، والتشبث بحرفية النصوص ، ويمتنع من التحريض على حكم الولاة الرومان ، انقلبت عليه أغلبية اليهود في فلسطين. ونظرا إلى الخطورة التي شكّلها عليهم بتعاليمه ، فقد تضافرت التيارات الرئيسية بينهم تطالب بإعدامه صلبا. ووافق الحاكم الروماني ، بيلاطس بونطوس ، على الطلب ، فجرى تنفيذه في أورشليم ، على جبل الجلجلة ، بحسب الرواية المسيحية.

ولكن المسيح بموته منح الحياة لرسالته. فأتباعه أكدوا أنه قام من بين الأموات ، وصعد إلى السماء. وبذلك أعطى البرهان على أنه «ابن الله» ، الذي ولد في الأرض ـ إنسانا ، وضحى بنفسه من أجل خلاص البشر. وبناء عليه ، فقد ولدت ديانة جديدة متمايزة عن اليهودية ، وراحت تنتشر في الخارج ، بفعل الرسل الذين كرسوا حياتهم للدعوة إلى اعتناق المسيحية. وقد لاقت هذه الدعوة قبولا أوسع خارج فلسطين ، لأنها طرحت نفسها ديانة عالمية ، وليس عقيدة خاصة باليهود ، أو بغيرهم فقط. وبرز في العمل على نشر المسيحية المتمايزة عن اليهودية بالعقيدة والشعائر الرسولان ، بطرس وبولس. وهذا الأخير ، الذي كان معاديا للمسيحية في البداية ، ثم اعتنقها ، اجتهد في نشرها على أساس الخلاص البشري على يد «ابن الله» ، والحاجة إلى الانبعاث الأخلاقي عبر الإيمان ومحبة الله والإنسان ، والخلاص كمكافأة على الإيمان بالمسيح ، والطهارة الأخلاقية والمسلكية.

وقد حققت التعاليم المسيحية ذات التوجه العالمي ، كما صنّفها بولس الرسول ، تقدما ثابتا ، لكنه كان بطيئا ، ومثقلا بالآلام والاضطهاد. ومع ذلك ، ثابر الرسل وأتباعهم ، ونشروا رسالتهم في المدن ، وخصوصا بين الطبقات الفقيرة. وبولس نفسه اعتنق المسيحية بصورة عجائبية في طريقه إلى دمشق. ومن هناك رحل إلى آسيا الصغرى ، فبلاد اليونان ، ومنها إلى روما ، حيث «استشهد» دفاعا عن المسيحية (نحو سنة ٦٧ م). واشتدت أعمال القمع ضد المسيحيين خلال القرن الثاني ، وبلغت الذروة في القرن الثالث ، وخصوصا أيام الإمبراطور ديوقلتيان. ويعود السبب في هذا الاضطهاد إلى رفض المسيحيين عبادة الآلهة الرومانية ، وإقامة الطقوس التي تفرضها الدولة. ثم ما لبثت المسيحية أن حققت انتصارها الكبير في أيام قسطنطين الأول.

١٣٥

ج) حكم الولاة الرومان

بعد عزل أرخيلاوس ابن هيرودوس (٦ م) ، أصبحت فلسطين مقاطعة رومانية ، جزءا من ولاية سورية ، التي لم تكن ولاية عادية. فحاكمها كان المسؤول الأول في الشرق ، نظرا إلى أهميتها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. وزاد في أهمية حاكمها أنه قاد المواجهة المستمرة مع الفرثيين. وحاكم المقاطعة (فلسطين) ، الذي كان يعيّنه الإمبراطور ، ويحمل لقب «بروكيوراتور» ، كان يدير شؤون البلاد الأمنية والقضائية والمالية ، ويستند إلى حاكم سورية في الدعم العسكري عند الحاجة. أمّا الشؤون الدينية لليهود فقد أودعت في يد الكاهن الأكبر ، ومعه مجلس من الحاخامات ـ سنهدرين. وفي المدن الأخرى ما عدا أورشليم ، لم تكن هناك مشكلة ، إذ كانت تتمتع بحكم ذاتي يتولى المسائل المدنية ، وخصوصا أن أغلبية سكانها كانت من غير اليهود ، أو من اليهود ذوي النزعة للاندماج في الثقافة اليونانية ـ الرومانية.

ويبدو أن الحكام الأولين في فلسطين رأوا دورهم الرئيسي إداريا ـ اقتصاديا ، ولم يحتفظوا بقوات عسكرية رومانية نظامية (لجيون) ، واكتفوا بتشكيل نوع من «الميليشيا» (أوكسيليا). وتفيد المصادر أنهم لم يتدخلوا في شؤون اليهود الدينية ، ولم يحاولوا إجبارهم على إقامة الطقوس الرومانية السارية في جميع أنحاء الإمبراطورية. وفي أيام جايوس كاليغولا (٣٧ ـ ٤١ م) ، الذي آمن بألوهيته ، طلب من رعاياه جميعهم تكريما إلهيا. وعندما أقام سكان يبنى مذبحا للقيصر ، هدمه اليهود من سكان المدينة ، فأمر القيصر بإقامة تمثال له في هيكل أورشليم. وتوتر الوضع ، وبتدخل من حاكم سورية ، بترونيوس ، تمّ تلافي سفك الدماء. وبعد موت القيصر ، تمّ إلغاء الأمر ، وخلفه كلوديوس عيّن أغريبا ، حفيد هيرودوس ، ملكا على يهودا حتى سنة ٤٤ م. وعندما مات الملك ، أعيدت يهودا مقاطعة تابعة لولاية سورية.

وبعد موت أغريبا ، أخذت العلاقات بين اليهود والحكام الرومان تسوء ، وكذلك علاقاتهم بالسكان غير اليهود ، كما حدث في قيساريا ، إذ طلب اليهود امتيازات خاصة ، لأن هيرودوس ، ملكهم ، هو الذي بنى المدينة. فأصدر الإمبراطور أمرا يخرج اليهود من عداد السكان ذوي الحقوق المدنية فيها. وشهدت هذه الفترة (٥٢ ـ ٦٠ م) توترا متزايدا مع الحاكم الروماني ، فيلكس الذي رفض تعيين الكاهن الأكبر ، يوناتان بن عنان حاكما. وفي أيام فلوريوس (٦٤ ـ ٦٦ م) تفاقم الوضع وعمّت الفوضى. ففضلا عن بروز ظاهرة أدعياء النبوة ، وأصحاب الرؤى ، فقد ساء الوضع الأمني. فلا السلطات الرومانية ، ولا المؤسسات اليهودية صاحبة الحكم الذاتي ،

١٣٦

استطاعت السيطرة على الفوضى والإمساك بزمام الأمور.

وقد أدّى التذمر الديني والتململ الاجتماعي الاقتصادي إلى الانفجار سنة ٦٦ م. وكان السبب المباشر للصدامات مع الجيش الروماني ، هو نهب خزينة الهيكل على يد فلوريوس. وقاد أعمال الشغب المتطرفون ، ليس ضد السلطة الرومانية فحسب ، بل ضد الطبقات اليهودية العليا أيضا ، لأنها كانت تتعاون مع الحاكم الروماني. وعندما انفجر الصراع ، دارت اشتباكات بين التيارات اليهودية المتناحرة ، كما بين اليهود وغيرهم من سكان المدن المختلطة ، مثل قيساريا وبيسان. وعندما عجزت القوات الرومانية المحلية عن التصدي للمتمردين ، جاءت قوات من سورية لأداء المهمة ، ولكنها فشلت هي الأخرى في قمع الاضطرابات التي راح نطاقها يتسع. وإزاء هذه التطورات ، أرسل الإمبراطور ، نيرون ، جيشا كبيرا إلى الشرق ، بقيادة فسبسيان سنة ٦٧ م لسحق التمرد.

ووصل قائد الجيش المجرب ، فسبسيان ومعه ابنه ، تيطس ، في ربيع سنة ٦٧ م ، إلى عكا ، وتوجه إلى الجليل الأسفل ، الذي أوكلت مهمة الدفاع عنه إلى يوسف بن متتياهو (يوسيفوس فلافيوس ـ المؤرخ). وهرب الجيش اليهودي أمام فيالق روما المدربة ، ولجأ إلى قلعة يودفات (خربة جيفات ـ الجليل الأسفل) ، وتحصن فيها. فحاصرها فسبسيان ودخلها. وهرب المدافعون ، ولجأت قيادتهم ، ومنها يوسف بن متتياهو إلى مغارة. وعندما ضاق عليها الخناق ، قرر أفرادها الانتحار ، غير أن يوسف عمد إلى الحيلة ، وسلم نفسه إلى الرومان ، بعد أن خدع رفاقه. (وقد ارتد يوسف بن متتياهو عن اليهودية ، ومنح المواطنية الرومانية لدوره في تسليم الجليل ، وغيّر اسمه إلى يوسيفوس فلافيوس ، وتفرغ لكتابة تاريخ اليهود). وعندما انتهى فسبسيان من قمع التمرد في الجليل ، بدأ يعد نفسه لاحتلال أورشليم.

وبعد سقوط الجليل وشرق الأردن الشمالي ، دبّ الصراع بين الفئات المتناحرة في أورشليم ، وتغلب المتطرفون بمساعدة الأدوميين ، من دون حسم الأمور تماما. وصبر فسبسيان على مهاجمة المدينة ، فاتحا المجال أمام القوى المتصارعة لاستنزاف بعضها بعضا ، واستكمل احتلال بقية أجزاء فلسطين وشرق الأردن الجنوبي. وفي ربيع سنة ٦٨ م ، خرج لاحتلال أورشليم ، وتقدم إلى عمواس (نيكوبولس) ، وراح يحتل أطراف يهودا ليعزل المدينة عن محيطها ، ويقطع عنها المدد ، ويزيد في تفاقم الأوضاع فيها. وعندها جاءه خبر موت الإمبراطور نيرون ، فعاد إلى قيساريا لمراقبة التطورات في روما. ثم أعلن نفسه إمبراطورا ، وعاد إلى روما ، تاركا ابنه تيطس لاستكمال المهمة.

١٣٧

وفي ربيع سنة ٧٠ م ، فرض تيطس الحصار على أورشليم ، وكانت الأوضاع فيها قد تدهورت إلى حد أن الحصار لم يردع المتصارعين عن الاستمرار في القتال بين بعضهم البعض. وبعد حصار استمر خمسة أشهر ، شاركت فيه أربعة فيالق رومانية ، سقطت المدينة. فهدمت أسوارها ، وحرق هيكلها ، واستبيحت. فقتل الكثيرون من المتمردين ، وبيع غيرهم عبيدا ، كما حمل تيطس عددا منهم إلى روما ، ليساق في موكب النصر الكبير الذي أقيم له لدى عودته. وكان تيطس قد ترك استكمال مهمة إخضاع قلعة مسادا الحصينة على البحر الميت إلى القائد باسوس ، الذي دخلها سنة ٧٣ م ، بعد حصار طويل ومرير ، عمد في نهايته المدافعون إلى الانتحار الجماعي. (وإشارة إلى هذه الحادثة ، صيغ مصطلح «عقدة مسادا»).

بعد سحق التمرد وتدمير أورشليم ، بقيت فلسطين عموما تحت سيطرة الفيلق العاشر الروماني ، وبالتالي فقائد الفيلق كان الحاكم ، وأقام في قيساريا ، بعد خراب أورشليم الكامل. واعتبرت الأراضي كلها ملكا للإمبراطور ، تجب عليها الضريبة ، إضافة إلى «ضريبة الرأس». وفي هذه الفترة ، أقيم عدد من المدن الرومانية ، على النمط الهلنستي ، ومنح حكما ذاتيا خاصا في مواقع جديدة ، أو على أنقاض مدن قديمة في فلسطين ، مثل : عمواس (نيكوبولس) ونابلس (نيابولس) وإيليا كابيتولينا (على أنقاض أورشليم) وصفورية (ديوسيزارية) ويبنى (يمنيا) وأسدود (أزوتس) ورأس العين (أنتيباترس) وأرسوف (أبولونيا) وجبع (جباتا) ويافا (فلافيا يوبي) وطبرية.

عندما استتب الحكم لأكتافيوس (أغسطس) ، بدأت مرحلة في تاريخ الإمبراطورية عرفت باسم «السلم الروماني» (باكس رومانا) ؛ وفيها فترة من الاستقرار (٩٦ ـ ١٨٠ م) ، هي فترة «الأباطرة الخمسة الصالحين» ، وهم : نرفا (٩٦ ـ ٩٨ م) وتراجان (٩٨ ـ ١١٧ م) وهدريان (١١٧ ـ ١٣٨ م) وأنطونيوس بيوس (١٣٨ ـ ١٦١ م) وماركوس أوريليوس (١٦١ ـ ١٨٠ م). في هذه الفترة ، استغل الأباطرة الهدوء على حدود الإمبراطورية لتكريس الاستقرار الداخلي ، ورأوا أن ضمّ المناطق الحدودية مباشرة يخدم ذلك. فعمد تراجان إلى إخضاع البتراء ، عاصمة الأنباط ، وضمها. واستمر الأنباط يؤدون دورا مهما في تجارة الشرق ، مستفيدين من «الطريق الجديد» (فيانوفا) الذي بناه تراجان شرقي الأردن. وجعل هذه المنطقة «الولاية العربية» ، التي رابط فيها «الفيلق الثالث» الروماني.

أمّا الإمبراطور هدريان ، فقد أقام سلاما مع الفرثيين ، وخطط لبناء مدينة فخمة على خرائب أورشليم ، التي كانت منذ أيام تيطس عبارة عن معسكر ومستودعات للجيش. فأثار ذلك تمردا بين اليهود ، استمر ثلاث سنوات (١٣٢ ـ ١٣٥ م) ، وقاده

١٣٨

شمعون باركوخبا (باركوزبا). وبعد قمع التمرد واجتياح آخر معاقله ـ بيتار (بتير) ـ بالقرب من أورشليم ، أمر هدريان بمنع اليهود من ممارسة شعائرهم الدينية ، وحظر عليهم دخول المدينة ، وأجلاهم من جوارها ، وهدم الكثير من القرى في محيطها ، وباع أعدادا منهم عبيدا ، كما هرب كثيرون إلى البلاد المجاورة. ومنذئذ ، صار الرومان يسمون المدينة الجديدة «إيليا كابيتولينا» ، والبلد «فلسطين السورية». ونشر هدريان فيلقا رومانيا آخر (الفيلق السادس) في مرج ابن عامر (مجدو) ، التي أصبح اسمها ليجيو (اللجون).

وبعد موت آخر الأباطرة الخمسة الصالحين ، ماركوس أوريليوس (١٨٠ م) ، بدأت مرحلة من التدهور السريع في أوضاع الإمبراطورية الرومانية ، تضافرت على صنعها مشكلات داخلية وخارجية. أمّا داخليا ، فقد راحت روما تعاني المشكلات التي تصيب الإمبراطوريات الكبيرة في زمن الشيخوخة ـ علاقات متردية بين السلطة والناس ومراكز قوى داخل السلطة ذاتها وفساد جهاز الدولة وعلاقات متوترة بين المركز والأطراف وتراجع اقتصادي وعسكرة الدولة .. إلخ. وخارجيا ، انقلبت حالة الهدوء على الحدود إلى حالة حرب مع الجرمان ، من جهة ، ومع الفرس ، من جهة أخرى. فبعد سقوط الفرثيين ، وتولي الساسانيين مكانهم (٢٢٦ ـ ٦٤١ م) ، سارع حكام إيران الجدد إلى تسخين الجبهة مع روما ، نقضا للاتفاق الذي عقده هدريان مع الفرثيين.

وكان طبيعيا أن تترافق مرحلة التراجع الروماني مع حالة من اختلال الأمن والعلاقات الداخلية في أنحاء الإمبراطورية جميعها ، وعلى أكثر من صعيد. فالأباطرة الذين توالوا على العرش ، دانوا بسلطانهم للجنود الذين رفعوهم إلى هذا المنصب. فكان عليهم أن يعوضوا الجيش عن خدماته بالامتيازات التي منحوه إياها. والتناحر بين فئات الجيش ترافق بالعنف والقمع وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية ، فانهار السلم الروماني ، واندلعت الحروب الأهلية وعمّ التمرد والفوضى. وقد لقي المسيحيون مزيدا من الاضطهاد والمطاردة. ومع ذلك ، انتشرت المسيحية وتغلغلت في طبقات متعددة من المجتمع. وكأنما التطورات السلبية في الإمبراطورية كانت تستدعي بروز ديانة جديدة ، فتقدمت المسيحية لتقدم المطلوب.

إن هبوط المستوى الأخلاقي لجهاز الدولة ، من القمة إلى القاعدة ، أضعف الديانة المدنية الرومانية في نظر الناس. والفوضى التي عمت أنحاء الإمبراطورية ، دفعت الكثيرين إلى البحث عن الخلاص عبر ديانة تشكل قاسما مشتركا بين الشعوب

١٣٩

المتعددة في الإمبراطورية. والمسيحية اقتربت أكثر فأكثر لتشكل ذلك القاسم المشترك ، أكان على صعيد الفرد أو الجماعة. وعلى الرغم من العقبات التي واجهها التنظيم الكنسي ، خلال قرنين ، وخصوصا على صعيد التباينات ـ العقائدية والتنظيمية ـ بين الجماعة المسيحية ، فقد استطاع أن يشكل إطارا قادرا على استيعاب الجماهير الواسعة ، وتوجيه حياتها الروحية. وقد أفادت الكنيسة في بناء تنظيمها الشامل من وحدة أراضي الإمبراطورية الواسعة ، التي كانت مفتوحة أمامها من دون قيود على حرية تنقل رجالها.

وباقتراب نهاية القرن الثالث الميلادي ، كانت روما ، وما بنته كله ، على وشك انهيار سريع ؛ فوضى سياسية وهجمات من الخارج وهبوط اقتصادي واضطراب اجتماعي والبحث عن ديانات غير رومانية ، تضافرت كلها لتضيق الخناق على البنية الإمبريالية إلى أقصى الحدود. وفي سنة ٢٨٦ م ، برز قائد باسم ديوقلتيان ، حاول أن يضع حدا لهذا المسار ، فاستطاع إلى حد معيّن أن يوقف التدهور ، لكن المسار العام ظل مستمرا. وفي سنة ٣٠٦ م مات ديوقلتيان ، وحل محله قسطنطين ، وبذلك بدأت مرحلة جديدة ، أدّت إلى انقسام الإمبراطورية إلى شطرين : شرقي ، وعاصمته القسطنطينية (بيزنطة) ؛ وغربي ، يتقلص ويتهاوى بفعل النشاط الجرماني ، وعاصمته روما. وراحت عصور التاريخ القديم تفسح المجال أمام العصور الوسطى ، فبرزت الإمبراطورية البيزنطية ، ومعها المسيحية ، بمنظور كوني جديد ، تحتل فيه «فلسطين السورية» (الأرض المقدسة) موقعا خاصا.

رابعا : العصر البيزنطي

يعتبر تدشين القسطنطينية (٣٣٠ م) عادة ، بداية التاريخ البيزنطي. وكما أرسى أغسطس (أكتافيوس) ، قبل ثلاثة قرون ونصف تقريبا ، أسس الإمبراطورية الرومانية بعد أن أخرجها من الفوضى التي اجتاحتها لجيل من الزمن ، هكذا فعل قسطنطين (٣٠٦ ـ ٣٣٧ م) بالنسبة إلى ما صار يعرف لاحقا باسم الإمبراطورية البيزنطية ، التي أرسى قواعدها على الديانة المسيحية. ومع أن الإمبراطورية الرومانية لم تنقسم إلى شطرين ـ شرقي وغربي ـ في أيامه ، لكن المسار نحو الانفصال كان واضح المعالم. فالولايات الشرقية من الإمبراطورية كانت متقدمة على الغربية ، اقتصاديا وحضاريا وثقافيا ، بينما أخذت الغربية تتراجع تحت وطأة التأثير الجرماني على جميع الصعد. وأدرك قسطنطين ذلك ، فنقل عاصمته إلى الشرق ، إلى بيزنطة ، حيث بنى عاصمته ، ودعاها على اسمه ـ القسطنطينية.

١٤٠