الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

العسلي. لكن يوسف سرسق ، مالك الأرض ، استطاع بالرشاوى إبعاد العسلي من فلسطين ، ونقله من موقعه ، ليتسنى له تنفيذ الصفقة الكبيرة. وهكذا فعل آخرون من الملاكين الغائبين ، الذي وضعوا أيديهم على الأرض في فترة التنظيمات بأساليب متعددة من الاحتيال على الفلاحين ، والتآمر مع الموظفين الأتراك الفاسدين.

ثالثا : وعد بلفور

لم يجد المؤرخ الكبير أرنولد توينبي مناصا من إدانة بلاده على تقديم «وعد بلفور» للحركة الصهيونية ، معلنا أنه كإنكليزي يشعر بالخجل والندم الشديدين على ازدواجية المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك حكومة بلاده في الإقدام على هذه الفعلة المنكرة. (١) فقد قام وزير خارجية إنكلترا في أثناء الحرب العالمية الأولى اللورد آرثر جيمس بلفور ، بتقديم الوعد الذي حمل اسمه ، نيابة عن حكومته ، والذي تتعهد به العمل على إقامة «وطن قومي» لليهود في فلسطين. وذلك في رسالة وجهها إلى اللورد اليهودي الصهيوني ليونيل روتشيلد ، في ٢ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩١٧ م ، طالبا منه إبلاغ مضمونها إلى قيادة الحركة الصهيونية. وقد جاء هذا الوعد البريطاني تتويجا لمرحلة طويلة من العمل الصهيوني للحصول على البراءة الدولية للاستيطان في فلسطين ، كما كان فاتحة عهد جديد من الصراع بشأنها ، بين دعاة هذا الاستيطان وأعوانه ، وبين الشعب الفلسطيني والأمة العربية وأصدقائهما ، لا يزال مستمرا ، في صيغة أو في أخرى حتى يومنا هذا (١٩٩٦ م).

لكن وعد بلفور لم يكن الخديعة المزدوجة الوحيدة التي قامت بها بريطانيا بالنسبة إلى فلسطين والأمة العربية ، قبل الحرب العالمية الأولى ، وفي أثنائها وبعدها. فقد عمدت حكومتها إلى الخداع في محادثات مكماهون ـ الشريف حسين ، وكذلك في اتفاق سايكس ـ بيكو ، وإلى المناورة في مؤتمرات السلام التي انعقدت بعد الحرب. ومهما كانت الحجج والذرائع التي ساقتها بريطانيا ، فالحقيقة الساطعة تبقى أن الاستيطان الصهيوني ثبّت أقدامه في فلسطين تحت انتدابها ، وفي حماية جيوشها. وعلى أية حال ، فقد سبق بلفور بالدعوة إلى توطين اليهود في فلسطين وزيران بريطانيان آخران ، شافتسبري وبالمرستون ، منذ أيام حملة محمد علي. وفي الفترة نفسها ، قام رئيس بلدية لندن ، اللورد اليهودي مونتفيوري ، بزيارة لفلسطين ، عرج خلالها على مصر ، وطرح على محمد علي «استئجار الجليل» ، لإقامة استيطان

__________________

(٤) Robert John Sami Hadawi, The Palestine Diary) Beirut, ٠٧٩١ (, Vol. I, p. XV.

٣٤١

يهودي فيه ، فرفض الوالي الطلب. لكن مونتفيوري قام خلال الأربعينات والخمسينات من القرن التاسع عشر بزيارات متكررة لفلسطين وإستنبول للغرض نفسه. وقد نجح في بناء حي مونتفيوري في القدس ، أسكن فيه عددا من العائلات اليهودية التي كانت تقيم داخل أسوار ميئا شعاريم.

وقد صدر هذا الوعد الذي شكّل محطة رئيسية في تاريخ الاستيطان الصهيوني ، وبالتالي القضية الفلسطينية ، في سياق الحرب العالمية الأولى ، بأسبابها وأهدافها ، وعندما بانت نتائجها ، وبالانسجام مع المخططات البريطانية إزاء المنطقة. وكان نصّ الرسالة كما يلي :

وزارة الخارجية

٢ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩١٧ م

عزيزي اللورد روتشيلد

يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود الصهيونية ، وقد عرض على الوزارة وأقرته.

«إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية ، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين ، ولا بالحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلاد الأخرى.»

وسأكون شاكرا لو تكرمتم بإحاطة الاتحاد الصهيوني علما بهذا التصريح.

المخلص

آرثر جيمس بلفور

وفلسطين ، بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي ، راحت خلال القرن التاسع عشر تكتسب أهمية متزايدة ، بعد فترة طويلة من التهميش. فالعوامل التي تسببت باحتدام المسألة الشرقية ، أدّت بطبيعة الحال إلى تركيز اهتمام الأطراف المنخرطة في هذا الصراع على فلسطين. وقد أشعلت حملة نابليون على مصر الضوء الأحمر لدى دول أوروبا ، وخصوصا بريطانيا ، التي كانت طرق مواصلاتها إلى الهند شريان الحياة بالنسبة إليها. وجاءت حملة محمد علي لتركز الأضواء على فلسطين ، وبعد انسحابه ، لتحرك موجة من تهافت دول أوروبا على فتح قنصليات لها في القدس ، والبحث عن طوائف دينية تضعها تحت حمايتها ، كذريعة للحصول على موطىء قدم سياسي لها في

٣٤٢

البلد. لكن النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، أبرز أهمية فلسطين الاستراتيجية ، وخصوصا بعد حفر قناة السويس ، ومن ثمّ شراء بريطانيا أسهم مصر فيها ، وبالتالي احتلالها البلد بأكمله (١٨٨٢ م). ومنذئذ ، تعززت أطماع بريطانيا في فلسطين ، وراحت حكومتها ، وخصوصا وزارة المستعمرات فيها ، وتحت إلحاح موظفيها في القاهرة ، تنظر إلى فلسطين كخط دفاع عن مصر وقناة السويس.

وعبر العصور ، تبدلت الأسباب التي أعطت لفلسطين أهميتها في حسابات القوى المتصارعة للهيمنة على الشرق الأوسط. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، عادت المواصلات الدولية لتبرز أهمية فلسطين الاستراتيجية. وقد دفع تنامي الرأسمالية الأوروبية ، في مرحلتيه ـ التجارية والصناعية ـ إلى تطور وسائل النقل وطرق المواصلات. وحتى بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح ، لم تتلاش أهمية البحر الأبيض المتوسط ، وشرقه تحديدا ، في المواصلات الدولية. فقد ظلت السفن الصغيرة تفضل الإبحار في المتوسط الهادىء نسبيا ، على المغامرة في مياه الأطلسي المائجة. ولكن المنعطف الكبير وقع بعد حفر قناة السويس ، في فترة كانت فرنسا تتمتع بالأفضلية في مصر ، فتعزز موقعها هناك أكثر ، الأمر الذي أثار بطبيعة الحال قلق بريطانيا ، وصولا إلى الإقدام على احتلال مصر. ونظرا إلى ما جرّه ذلك من انعكاسات في إستنبول ، فقد تغيرت سياسة بريطانيا تجاه سلامة ووحدة أراضي السلطنة. وبعد فترة طويلة من استقرار السياسة البريطانية على مبدأ الحؤول دون تفتيت السلطنة العثمانية ، بدأت لندن تبدل وجهة نظرها ، وتضاعف جهودها لتوسيع مناطق نفوذها ، انطلاقا من اقتناعها بأن هذه المناطق ستصبح مستعمرات في المستقبل القريب.

وبعد أن احتلت بريطانيا مصر ، تبنت سياسة فرنسا أيام محمد علي بالنسبة إلى بلاد الشام ، أي السيطرة عليها ، أو على الأقل جنوبها ، كخط دفاع عن مصر. واصطدمت سياسة بريطانيا هذه بالوجود الفرنسي ، الذي ضرب جذورا عميقة في لبنان ، ومنه سعى للتمدد في الاتجاهات جميعها وبالتالي العمل على حصر النفوذ البريطاني في مصر ، وبذلك اكتسبت فلسطين مزيدا من الأهمية. وبريطانيا ، التي أرادت في أيام بالمرستون إقامة كيان سياسي يهودي في فلسطين لمحاصرة التمدد الفرنسي عبر محمد علي ، صارت الآن تريد إقامة هذا الكيان للدفاع عن قناة السويس ، أو لمحاصرة النفوذ الفرنسي في لبنان. وباقتراب نهاية القرن التاسع عشر ، اتخذت المنافسة بين بريطانيا وفرنسا طابعا ماليا اقتصاديا. وراحت الدولتان توظفان مبالغ كبيرة في المشاريع الاستثمارية داخل أراضي السلطنة. إضافة إلى القروض للخزينة

٣٤٣

العثمانية المفلسة. وكان أهم هذه المشاريع بناء خطوط السكك الحديدية. واحتدم هذا التنافس مع دخول ألمانيا على هذا الخط ، عبر علاقاتها مع الأتراك الجدد ، والعمل على بناء «خط الشرق السريع» ، بين إستنبول وبغداد ، مرورا بالإسكندرون.

وأثار ترسيخ أقدام فرنسا في لبنان وسورية ، وألمانيا في إستنبول نفسها ، مخاوف بريطانيا ، وخصوصا ممثليها في القاهرة ، إذ إن المندوب السامي اللورد كيتشنر ، اعتقد أن تركيا قد تقوم بهجوم لاسترداد مصر ، بمساعدة دولة حديثة ، مثل ألمانيا أو فرنسا. وحتى بعد «معاهدة الصداقة» (١٩٠٣ م) بين فرنسا وبريطانيا ، التي بموجبها اعترف كل طرف بمصالح الآخر ، ظلت العلاقة بين الطرفين تتميّز بالتنافس. ولذلك ، رأى كيتشنر ضرورة إقامة كيان سياسي يهودي في فلسطين ، بين عكا والعقبة. وقد زاد في مخاوفه بناء «سكة حديد الحجاز» (١٩٠٦ م) بين دمشق ومكة ، وخصوصا بعد أن طلب الأتراك من ألمانيا استكمال فرع درعا ـ حيفا ، ليصل إلى رفح ، ومن ثمّ بناء فرع بين معان والعقبة. ومن مقره في القاهرة ، أدار كيتشنر دعاية مضادة لفرنسا في سورية ، الأمر الذي أدّى إلى توتير العلاقة بين الدولتين. وإزاء هذه السياسة البريطانية جرى تقارب بين فرنسا وألمانيا ، واشترك الطرفان بإقامة خطوط سكك حديدية. فدخل الأطراف الثلاثة في تنافس محموم بشأن وضع مشاريع لبناء سكك الحديد.

إن الشرارة التي أشعلت نار الحرب العالمية الأولى ، حدثت في ساراييفو ـ البوسنة. ولكنها ، على خلفية التنافس بين الدول الرأسمالية بشأن بسط نفوذها على المستعمرات والموارد والأسواق ، وعلى أرضية التحالفات القائمة على المصالح وموازين القوى ، سرعان ما انتشرت إلى جميع بقاع الأرض ، فاستحقت بذلك عن جدارة اسم «الحرب العالمية الأولى». ومع اندلاع الحرب ، جرّ كل من المعسكرين إليها الأقطار العربية الواقعة تحت حكمه. وعلى العموم ، كان كل قطر عربي يقف ضد القوة التي تحكمه ، الأمر الذي يشير إلى نزعة الاستقلال القوية لدى شعوب الأمة ، التي أملت أن تناله في نهاية الحرب. ولعل التناقض الصارخ على هذا الصعيد كان في بلاد الشام ، إذ تمحورت الحركة القومية حول التخلص من الحكم العثماني. وعندما دخلت تركيا الحرب إلى جانب دول المحور ، وجدت نفسها في بلاد الشام تقاتل على أرض معادية ، كما وجد الشعب العربي هناك نفسه تحت حكم عسكري معاد. وكانت سنوات الحرب عسيرة على الناس ، ومدمرة للبلاد التي كانت مسرح عمليات الجيش الرابع العثماني ، بقيادة أحمد جمال باشا. ولم يدّخر هذا وسيلة للتنكيل بالقوى والشخصيات الوطنية ، أو الاعتداء على السكان ونهب ممتلكاتهم وأرزاقهم وتسخيرهم في الأعمال الإجبارية. ولسنين طويلة ظلت ذكريات أيام الحرب

٣٤٤

السوداء محور أحاديث الناس ، وأصبح «السفر برلك» (التجنيد) مرادفا للظلم والجوع والمرض والمطاردة والنهب والخراب.

وبانقسام الوطن العربي إلى منطقتي نفوذ للحلفين المتحاربين ، وبالتالي إلى مسرحين للعمليات العسكرية ، فقد سعى كل منهما لاستغلال حالة التذمر لدى السكان ضد القوة الحاكمة في الجانب الآخر ، وتوظيف كراهيتهم لاستعمارها في عمل عسكري ضدها. فاستغل الألمان والأتراك النضال ضد المستعمرين الإنكليز والفرنسيين والإيطاليين في شمال إفريقيا والسودان ، وقدموا له الدعم. وبلغ هذا النضال ذروته في المغرب ، الذي أطلقت عليه فرنسا اسم «الجبهة الثانية». وكذلك الأمر في ليبيا ، إذ لم يبق بيد الإيطاليين في بداية سنة ١٩١٥ م سوى شريط ضيق في الساحل. وقام رجال القبائل الليبية بغزوات ضد الإنكليز في مصر. في المقابل ، استغلت إنكلترا وفرنسا الحركة القومية العربية في المشرق والجزيرة ، ودعمتاها وحرضتاها على القيام بانتفاضة ضد الحكم التركي. وقد حققتا نجاحا كبيرا على هذا الصعيد ، إذ عبر الشريف حسين أقامتا اتصالات مع القوى القومية العربية ، التي شكّلت جيشا انضم إلى الحلفاء ضد تركيا.

وبحسب الخطة ، تولى الجيش التركي القتال على جبهتين ـ القفقاس وقناة السويس. وكان الجيش الرابع ، بقيادة أحمد جمال باشا ، يخطط لعبور قناة السويس إلى مصر ، ونقل ساحة العمليات إلى إفريقيا ، وذلك بالاستناد إلى دعم السكان المفترض ، استجابة لدعوة «الجهاد» التي أطلقها السلطان في تشرين الأول / أكتوبر ١٩١٤ م. وكانت القيادة الحقيقية لهذا الجيش بيد الكولونيل كريس فون كريسنشتاين ، الملحق العسكري الألماني في دمشق. وقد عسكر هذا الجيش في بلاد الشام ، التي لم تكن مهيّأة لذلك اقتصاديا ، فقاسى سكانها الأمرين من نزول هذا الجيش بين ظهرانيهم. ولتموينه ، صادرت السلطات المواد الغذائية والمواشي والمحاصيل. وللوقود اللازم له ، قطعت الأشجار ، حتى المثمرة. ولأعمال السخرة سحب الفلاحون من قراهم إلى خطوط الجبهة لحفر الخنادق وغيره من الأعمال. فساءت أوضاع البلاد الاقتصادية ، واختفت البضائع من الأسواق ، واستشرت أعمال السوق السوداء ، وصولا إلى المجاعة والأوبئة. وخلال أعوام الحرب الأربعة. هلك مئات الآلاف من الناس جوعا ومرضا في بلاد الشام والعراق.

وجاء دخول تركيا الحرب ، وبالتالي نقل مسرح عملياتها إلى الشرق ، وسلوك الجيش التركي المتسيب ، وسياسة القمع التي تبناها جمال باشا ، لتفاقم نقمة السكان العرب على الحكم العثماني. وكانت الحكومة التركية قد قلدت جمال باشا صلاحيات

٣٤٥

مطلقة في بلاد الشام. فأعلن الأحكام العرفية ، وألغى مجالس الولايات والمحاكم المدنية ، وأبطل الاستقلال الذاتي لجبل لبنان ، والامتيازات التي أعطيت للطوائف الدينية المتعددة بحسب الاتفاقات مع الدول الأوروبية. وانتهز حالة التململ العامة لقمع الحركة الوطنية والتنكيل بقياداتها ، وعمل على مكافحة النشاط السياسي والثقافي العربي ، وسعى لفرض التتريك بالقوة. واشتدت أعمال القمع بالتوازي مع تصاعد التذمر بين قطاعات السكان الواسعة ، وخصوصا بعد تجاهلهم دعوة السلطان إلى الجهاد ، بل مقاومة التجنيد ، والفرار من الخدمة وأعمال السخرة. وراحت ردات الفعل العنيفة تندلع بصورة عفوية على سياسة جمال باشا ، وسلوك جيشه ، وما يقوم به من أعمال السلب والاعتداء على السكان وحرماتهم ، ومصادرة محاصيلهم وأملاكهم ومواشيهم ودوابهم ، وقطع أشجار بساتينهم وكرومهم.

وعلى أرضية النزعات الاستقلالية لدى سكان الولايات العربية في السلطنة العثمانية ، والتناقضات التي برزت بين الحركتين القوميتين ـ العربية والتركية ـ جاءت الحرب لتزيد في تفاقم العداء العربي للحكم العثماني. وإزاء ردات الفعل العفوية العنيفة ضد سلوك الجيش التركي ، شدّد جمال باشا من إجراءاته القمعية على السكان ، فدخلت العلاقة بينهما في لولب متصاعد من احتدام التناقض وارتفاع حدة المواجهة. واضطر جمال باشا إلى فرز نصف جيشه لقمع المقاومة المحلية. لكن جزءا كبيرا من وحدات ذلك الجيش كانت من أبناء الولايات العربية ـ أكراد وعراقيين وسوريين ـ لم يلبثوا أن انحازوا إلى مواطنيهم. فبرزت الاتجاهات المعارضة للحرب داخل الجيش ، وبالتالي اتساع نطاق ظاهرة الفرار منه ، والتقاعس عن القيام بالمهمات ، وصولا إلى التمرد. ففي سنة ١٩١٥ م وقعت تظاهرات في المدن السورية والعراقية (النجف وكربلاء). وفي سنة ١٩١٦ م انتفضت حامية الموصل ، التي كان أفرادها من العرب ، كما نشطت مفارز مسلحة بالعمل ضد الجيش التركي في جبل العرب (الدروز) ، وشمالي لبنان ودمشق. وراح هذا الوضع يتطور نحو «الثورة العربية الكبرى».

أ) المشاركة العربية في الحرب

في بداية الحرب ، انقسمت الحركة القومية العربية بين معاد للدول الأوروبية ، وبالتالي منحاز إلى السلطنة العثمانية ، على أمل الحصول منها على الاستقلال بعد الحرب ، وبين معاد للسلطنة ، منحاز إلى الدول الأوروبية ، على أمل تحقيق الاستقلال بمساعدتها بعد الحرب أيضا. لكن هذا الانقسام تلاشى خلال الأعوام

٣٤٦

الأولى للحرب. فالقوى التي رأت دعم تركيا ، بغض النظر عن صوابية موقفها أو عدمها ، فقدت التأييد الجماهيري لها ، بعد الهزائم التي مني بها العثمانيون ، ونتيجة ردات فعل الناس على سلوك الجيش التركي في الولايات العربية. وبرز بين الداعين إلى مناصرة تركيا ، في إطار «الجامعة الإسلامية» ، وتحت شعار «الجهاد المقدس» ، كل من عبد الرحمن الشهبندر ومحمد كرد علي. وتقرب جمال باشا منهما ، ووعد بإعطاء الولايات العربية استقلالها بعد الحرب ، وصدرت الصحف الناطقة بلسانهما تناصر هذا الخط ، وتشكلت جبهة عربية ـ عثمانية معادية للدول الأوروبية. لكن هذه الجبهة تصدعت سريعا ، بعد اكتشاف مدى تغلغل ألمانيا في الحكومة العثمانية ، وردات الفعل الشعبية في الولايات العربية على هزيمة الجيش التركي ، وسوء تصرفه في الحرب التي خاضها ، وإدارته لها.

وكان واضحا منذ البداية أن أغلبية القوميين العرب كانت مع الاستقلال ، وبالتالي مناهضة الحكم العثماني. وجاءت الحرب ، بطرق إدارتها ونتائجها ، لتزيد في النقمة العربية على هذا الحكم. وقد أدّت سياسة جمال باشا القمعية إزاء الوطنيين العرب ، من جهة ، والنشاط الذي قام به الحلفاء لاستمالتهم ، من جهة أخرى ، دورا في تلبية روح الثورة على العثمانيين في الولايات العربية الواقعة تحت حكمهم. وإزاء الاستجابة الواسعة للدعاية المضادة للعثمانيين ، والتي كانت تصدر من القاهرة ، برعاية بريطانية ، تصاعدت وتيرة قمع جمال باشا للوطنيين العرب والتنكيل بقياداتهم. وراح يتجسس على نشاط المثقفين والضباط الوطنيين ، ووقعت في يده معلومات عن اتصالات يجريها بعضهم مع قناصل فرنسا ، توحي بالإعداد لثورة عربية ضد العثمانيين. فشنّ جمال باشا حملة عنيفة على الحركة الوطنية العربية ، برموزها وصحفها ومقرّاتها. وقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى الكثيرين من رجالاتها ، وأعدم بعضهم ، وأودع السجن آخرين.

وقبل دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا ، كانت بريطانيا قد أجرت اتصالات أولية مع الشريف الحسين بن علي ، أمير الحجاز. وبعض هذه الاتصالات تمّ عبر أحد أبنائه ، عبد الله بن الحسين ، (ملك الأردن لاحقا) ، الذي كان عضوا في البرلمان العثماني ، واستغل سفره بين إستنبول والحجاز لإجراء اتصالات مع الإدارة البريطانية في القاهرة. وعندما نشبت الحرب ، وأصبح الشرق الأوسط أحد مسارحها ، عاد البريطانيون إلى إحياء تلك الاتصالات ، وبصورة أكثر إلحاحا ، وطرحوا على الشريف الثورة ضد العثمانيين. وبينما رأى الشريف في ذلك فرصة لتحقيق أحلامه في الخلافة ، رأى فيه الإنكليز المرشح الأفضل لقيادة الحركة الوطنية العربية ، لما كانوا

٣٤٧

يعرفونه من موقف رموزها في بلاد الشام. وامتنع الشريف من إعلان الجهاد ، وسانده في ذلك الشريف إدريس في اليمن ، وابن سعود في نجد ، وابن رشيد في الكويت. وإذ راح الحسين بن علي يحرق جسوره مع العثمانيين ، فإن محادثات ابنه عبد الله مع الإدارة البريطانية في القاهرة ، لم تسفر عن اتفاق يلبي طموحاته ، وخصوصا بعد الاتصالات التي أجراها ابنه الآخر ، فيصل ، مع قادة الحركة الوطنية في دمشق.

وبينما استمر عبد الله بن الحسين في اتصالاته مع المندوب السامي البريطاني في القاهرة ، السير هنري مكماهون ، الذي حل محل اللورد كيتشنر ، والذي بدوره أصبح وزير الحرب البريطاني ، أجرى الشريف اتصالات مع القبائل في الجزيرة العربية ، ومع الحركة الوطنية في بلاد الشام. وفي ربيع سنة ١٩١٥ م ، أرسل ابنه فيصل إلى إستنبول ، في الظاهر لاستجلاء موقف العثمانيين من الشريف بعد الحرب ، وفي الباطن لإجراء اتصالات مع القوميين العرب في دمشق. وكان فيصل قريبا من هذه الأوساط ، إذ انتمى إلى جمعية العهد السرية ، وكانت له صلات مع جمعية العربية الفتاة. وفي اجتماعاته السرية مع قادة العمل القومي في دمشق ، نصحه هؤلاء بالتعاون مع الإنكليز ، إذا قبلوا بشروط «بروتوكول دمشق» ، الذي كانت النقطة المركزية فيه اعتراف الإنكليز باستقلال «الدولة العربية» في حدودها الطبيعية بعد الحرب. وإذا تمسّك الشريف حسين بهذه الشروط ، قبلت به الحركة القومية قائدا لها.

ويقضي بروتوكول دمشق بأن تكون حدود الدولة العربية المحيط الهندي في الجنوب ، وخط العرض ٣٧ في الشمال ، وبذلك تضم بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية ، ما عدا عدن. كما اشترط البروتوكول إنهاء نظام الامتيازات لقاء عقد حلف دفاعي مع بريطانيا ، ومنحها أفضلية اقتصادية لمدة خمسة عشر عاما. وشكّل هذا البروتوكول نقطة انعطاف في عمل الحركة القومية العربية ، إذ حسمت سياستها تجاه العثمانيين ، من جهة ، والبريطانيين من جهة أخرى. وعلى الصعيد العربي ، شكّل البروتوكول إعلانا بالتحالف بين قوى المثقفين والضباط والبورجوازية العربية الناشئة ، وبين الإقطاع الديني ـ السياسي ، الذي مثله الشريف حسين ، بل أكثر من ذلك ، قبول تلك القوى العمل تحت قيادة الشريف. وإذ شكّل ذلك ركيزة قوة عربية للشريف ، الذي قبل بشروط البروتوكول ، فإن تمسكه بها عقّد المحادثات مع مكماهون ، الذي رأت حكومته أن موقف الشريف هذا غير مقبول ، على خلفية المخططات التي رسمتها للمنطقة بعد الحرب ، وخصوصا ما يتعلق منها بفلسطين ، ومطالب الحركة الصهيونية العالمية فيها.

وبعد عودة فيصل من دمشق ، استأنف الشريف حسين المفاوضات مع

٣٤٨

مكماهون ، واقترح في رسالة بتاريخ ١٤ تموز / يوليو ١٩١٥ م التعاون بين العرب وإنكلترا على أساس بروتوكول دمشق. وبعد رفض أولي لشروط الشريف ، عاد مكماهون وبعث إليه برسالة في ٢٤ تشرين الأول / أكتوبر ١٩١٥ م ، صارت تعرف ب «اتفاقية مكماهون ـ الحسين». وقد اضطرت الحكومة البريطانية إلى الاستجابة ، ولو الجزئية ، لمطالب الشريف تحت ضغط الأوضاع على جبهات القتال. وتعهد المندوب السامي البريطاني في القاهرة ، باسم حكومته ، بالاعتراف باستقلال الدولة العربية ، تحت «العرش الهاشمي». إلّا إن هذا التعهد تضمن تعديلات أساسية على الحدود الواردة في بروتوكول دمشق. ففضلا عن المحميات البريطانية في جنوب الجزيرة العربية ، استثنيت الأراضي الواقعة غرب أقضية حلب وحماة وحمص ودمشق ، (الأراضي التي ادّعت عليها فرنسا). وبينما تكون ولايتا البصرة وبغداد ضمن الدولة العربية ، إلّا إنهما تبقيان تحت الإدارة الإنكليزية ، وطلبت بريطانيا حقا استثنائيا بإرسال مستشارين إلى الدولة العربية ، وكذلك «حمايتها» من هجوم خارجي.

ومع أن رسالة مكماهون لم ترض الشريف حسين ، لكنه إزاء تطور الأحداث اضطر إلى التنازل عن بعض مطالبه. وإذ كانت بريطانيا تواجه صعوبات على ساحة القتال ، وبالتالي بحاجة إلى التوصل إلى تفاهم مع العرب وكسبهم إلى جانبها ، فإن وضع الشريف حسين راح يتأزم. فقد رفض العثمانيون الاعتراف به حاكما مستقلا وراثيا في الحجاز ، كما رفضوا طلبه العفو العام عن القوميين العرب. وعلى العكس ، اتخذت المحكمة العسكرية التركية سلسلة متوالية من الحكم بالإعدام على شخصيات وطنية في نيسان / أبريل ١٩١٦ م. وبدا من الإجراءات أن دور الشريف نفسه قد جاء ، إذ أعدت الحكومة إمدادات لإرسالها إلى الحجاز ، يرافقها شريف آخر غير الحسين. فاضطر هذا الأخير إلى إعلان الثورة ، للحصول على المال والسلاح من بريطانيا (٥ حزيران / يونيو ١٩١٦ م). وعيّن الحسين أبناءه الأربعة قادة للفصائل العربية من المقاتلين ، وهم : علي وعبد الله وفيصل وزيد. واستطاع ، خلال فترة قصيرة ، مباغتة الحاميات التركية في مدن الحجاز ونجد ، وعزل الحاميات الموجودة في اليمن. لكن الأتراك استعادوا زمام المبادرة ، وصدّوا المقاتلين البدو ، فلجأ هؤلاء إلى حرب العصابات ، الأمر الذي اضطر الأتراك إلى الانسحاب من الجزيرة العربية.

وبعد إعلان الثورة ، سارع الشريف حسين إلى إعلان استقلال العرب في ٢٧ حزيران / يونيو ١٩١٦. وفي ٢ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩١٦ م ، دعا بعض الزعماء العرب إلى اجتماع ، حيث بويع ملكا على العرب ، وأقام حكومة ضمت ابنيه ، علي ، رئيسا للحكومة ، وعبد الله ، وزيرا للخارجية. وسارعت بريطانيا وفرنسا إلى إعلان

٣٤٩

رفضهما الاعتراف بالشريف حسين ملكا على العرب. وبعد مساومة ، اعترفتا به ملكا على الحجاز. وفي هذه الأثناء ، تقدم الجيش الإنكليزي عبر سيناء. وفي ٢١ كانون الأول / ديسمبر ١٩١٦ م وصل العريش. في المقابل ، تحصن الجيش العثماني ، بمن معه من قوات ألمانية ونمساوية ، في خط دفاعي بين غزة وبئر السبع. واستطاع هذا الجيش صدّ هجوميين بريطانيين في شهرين (آذار / مارس ، ونيسان / أبريل ١٩١٧ م). فقرّرت القيادة البريطانية نقل قوات عربية من الجزيرة ، بقيادة فيصل بن الحسين ، ومعه ضابط الاستخبارات البريطاني ، لورنس ، للقيام بحرب عصابات على طول خط سكة حديد الحجاز. وفي حزيران / يونيو ١٩١٧ م ، احتل لورنس العقبة ، وطهر شواطىء البحر الأحمر من الأتراك ، وأمّن الجناح الأيمن للقوات البريطانية التي كانت تستعد لهجوم على فلسطين.

بعد احتلال العقبة ، طالب زعماء الحركة الوطنية العربية الأمير فيصل بالتقدم نحو دمشق ، من خلال التقدير أن ذلك سيحرك ثورة شاملة في بلاد الشام ، وبالتالي يحرر العرب أنفسهم ، ويتولوا زمام أمورهم بأيديهم. ولكن لورنس رفض ذلك ، تمشيا مع الخطة الإنكليزية. وكانت تلك الخطة ترمي إلى حصر الدور العربي في تشكيل جناح أيمن للقوات البريطانية ، يعمل في الصحراء ، شرقي نهر الأردن. أمّا فلسطين ، وبقية أجزاء سورية ، فيجب أن تحتلها القوات البريطانية لتضمن تنفيذ الاتفاقات السرية المعقودة مع كل من فرنسا وروسيا. فبينما كانت بريطانيا تتفاوض مع الشريف حسين ، كانت تعد اتفاقات سرية مع فرنسا وروسيا ، بشأن تقسيم أراضي السلطنة العثمانية. وقد تبلورت هذه الاتفاقات ، عبر مسار طويل من المفاوضات ورسم الخرائط ، في اتفاقية سايكس ـ بيكو ، على اسم الممثلين ـ البريطاني والفرنسي ـ اللذين توصلا إليها ، ومن ثمّ عرضاها على روسيا ، وتمت الموافقة عليها في مذكرات سرية بين الأطراف الثلاثة في أيار / مايو ١٩١٦ م ، وهي اتفاقية تتناقض جذريا مع الوعود المقدمة للشريف حسين.

وبموجب الاتفاق ، قسمت الولايات العربية إلى مناطق ، لوّنت على خريطة بألوان متعددة : ١) منطقة زرقاء ، تضم غربي سورية ولبنان وكيليكيا والجزء الجنوبي الشرقي من أناضوليا ، وهي من نصيب فرنسا ؛ ٢) منطقة حمراء ، تضم جنوب ووسط العراق ، ومينائي حيفا وعكا في فلسطين ، وهي من نصيب بريطانيا ؛ ٣) منطقة بنية ، تضم الجزء الباقي من فلسطين ، حيث ستقوم إدارة دولية ؛ ٤) منطقة صفراء ، في شرق آسيا الصغرى ، وهي من نصيب روسيا ، إضافة إلى حقها في القسطنطينية ، والمناطق الأرمنية في آسيا الصغرى ، والحماية على الروم الأورثوذكس في المنطقة عامة ؛ ٥)

٣٥٠

منطقة خضراء ، ضمت الجزء الجنوبي الغربي من أناضوليا ، وهي لإيطاليا. وفضلا عن ذلك ، كانت هناك مناطق نفوذ : منطقة «أ» ، شرقي سورية وولاية الموصل ، تحت النفوذ الفرنسي ؛ منطقة «ب» ، شرقي الأردن وشمال ولاية بغداد ، تحت النفوذ البريطاني ؛ منطقة «ج» ، في غرب وأواسط أناضوليا ، تحت النفوذ الإيطالي. وفي مناطق النفوذ حصلت هذه الدول على الأفضلية في التجارة ومد السكك الحديدية واستيراد الأسلحة وتعيين المستشارين الأجانب ، وغير ذلك من الامتيازات.

ومهما كانت شروط الاتفاقات على الورق ، فالواضح أن الدول التي عقدتها لم تكن جادة في تنفيذها ، وتميّزت بريطانيا في خداعها للأطراف الأخرى جميعا. فقد احتلت العراق (١٩١٧ م) ، وأقامت فيه إدارة عسكرية ، بقيادة بيرسي كوكس ، ثم خلفه آرنولد ولسن. فأثار ذلك قلق فرنسا ، وسعت لضمان المناطق المخصصة لها ، عبر الاتصال بالمهاجرين السوريين واللبنانيين في الخارج ، وطرح الحماية على البلدين معهم ، الأمر الذي أثار قلق القوميين العرب. كما طالب مندوب فرنسا في القاهرة ، بيكو ، حكومته بإرسال قوات عسكرية إلى الشرق ، قبل أن تبتلعه بريطانيا. ومع ذلك ، ظلت الدولتان ـ فرنسا وبريطانيا ـ تقدمان الوعود الكاذبة للعرب. ففي أيار / مايو ١٩١٧ م ، عندما بدأ الإعداد للهجوم على فلسطين ، وصل سايكس وبيكو معا إلى الحجاز ، وأجريا مفاوضات مع الشريف حسين. ومرة أخرى عاد الاثنان ، اللذان وضعا بنود الاتفاق السرّي ، إلى تقديم وعود كاذبة إلى الشريف ، وعاد هذا الأخير ووافق على الاستمرار في القتال إلى جانب الحلفاء.

ومنذ منتصف سنة ١٩١٧ م بدأت القوات البريطانية على جبهة قناة السويس تعد للهجوم على فلسطين ، بعد أن استكملت احتلال سيناء إلى العريش ، وتأمين خطوط إمدادها من مصر. وتولى الجنرال أللنبي قيادة الجبهة ، بما في ذلك الجيش العربي ، بقيادة فيصل ـ لورنس. ووضعت الخطة بحيث يقوم الجيش البريطاني ، تسانده سفن وطائرات بريطانية وفرنسية ، باحتلال الجزء الواقع غربي نهر الأردن. أمّا الجيش العربي ، فيقوم بعمل مواز شرقي النهر ، ويتقدم في اتجاه دمشق ، حاشدا في طريقه كتائب الأنصار العربية ، والجنود الفارين من الجيش العثماني. وسارع أللبني إلى الهجوم قبل وصول تعزيزات تركية وألمانية حسنة التدريب وعالية المعنوية ، جيش المغاوير (يلدرم) من قوات الصاعقة التركية ، والفيلق الألماني الآسيوي. وفي ٣١ تشرين الأول / أكتوبر ١٩١٧ م اخترق أللنبي خطوط الجبهة العثمانية بين غزة وبئر السبع. وفي ١٦ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩١٧ م احتل يافا ، وفي ١١ كانون الأول / ديسمبر ١٩١٧ م دخل القدس.

٣٥١

في هذا الوقت بالذات ، أصدرت حكومة بريطانيا وعد بلفور ، الذي يتناقض مع تعهدها للشريف حسين بأن تكون فلسطين جزءا من الدولة العربية المزمع إقامتها ، كما يتعارض مع ما قطعته على نفسها إزاء فرنسا وروسيا في اتفاق سايكس ـ بيكو ، بوضع فلسطين تحت إدارة دولية. وحتى قبل استكمال احتلال البلد أقام الإنكليز فيها إدارة عسكرية. وقد أثار نشر وعد بلفور سخط القوميين العرب ، وطفح الكيل عندما نشرت حكومة الثورة الروسية ، برئاسة لينين ، نصّ اتفاقية سايكس ـ بيكو. وارتفعت الأصوات تنادي بقطع التعاون مع الإنكليز ، والبحث عن سبل التفاهم مع العثمانيين. وبينما بدأت الاتصالات مع جمال باشا ، الذي بسبب صلفه لم تؤدّ إلى نتائج ، فقد قامت حكومة بريطانيا بحملة من الأكاذيب والخداع. فأرسلت الخبير بالشؤون العربية ، البروفسور هوغارت ، لتهدئة خواطر الشريف حسين والقيادات العربية. ونفى وزير خارجيتها ، بلفور ، وجود مثل هذه الاتفاقية ، مؤكدا أن ما نشر هو تلفيق من الحكومة الشيوعية الروسية. وعلى أية حال ، فإن ردة الفعل في أوساط المثقفين والسياسيين العرب ، وكذلك في صفوف الجيش العربي ، لم تثن الحسين ، وابنه فيصل ، عن استكمال المسيرة مع بريطانيا حتى نهاية الحرب.

وعلى الرغم من اكتشافها الخداع الذي تمارسه حكومة بريطانيا ، واحتجاجها على المراوغة التي تنتهجها تلك الحكومة في حسم الموقف من مطالبها ، فقد ظلت الحركة القومية العربية ، بوجه عام ، تقف إلى جانب الحلفاء. وفي المرحلة الأخيرة من الحرب ، أدّت القوات العربية دورا مهما في هزيمة الجيش العثماني الرابع الذي كان في وضع يدعو إلى اليأس في بداية سنة ١٩١٨ م. وكان جمال باشا قد عزل من قيادته ، ووضع تحت القيادة الألمانية مباشرة ، ولكن من دون فائدة كبيرة. وبغض النظر عن افتضاح أمر الخداع البريطاني ، ظلت رغبة العرب القوية في التخلص من الحكم العثماني تحفزهم على القيام بانتفاضة ضد الجيش الرابع ، مستفيدين من أوضاعه المتدهورة. ونشطت أعمال الثوار في الحوران وغوطة دمشق وجبال بعلبك. ثم انتقلت إلى حوض الفرات الأعلى والأوسط ، مهددة خطوط المواصلات لذلك الجيش. وهجرت الوحدات العربية والكردية مواقعها ، وانضمت إلى الجيش العربي. وبانقطاع المؤن والعتاد عن هذا الجيش ، وانتشار أعمال المقاومة ضده في جميع أنحاء بلاد الشام ، عمت الفوضى صفوفه ، وهبطت معنويات أفراده ، وأصبح على شفا الانهيار.

ومنذ منتصف سنة ١٩١٨ م ، بدأ الإعداد لاستكمال احتلال بلاد الشام. فتقدم الجيش العربي وأخذ معان ، وراح يعد للتقدم شمالا ، وإشعال الثورة في سورية. لكن

٣٥٢

أللنبي اعترض بشدة ، وطلب تأجيل ذلك إلى أن يتقدم الجيش البريطاني ، فتواكب الانتفاضة دخوله هو إلى سورية ، ذلك لأن أللنبي لم يكن يريد أن يحرر العرب أنفسهم. وجرى الإعداد للانتفاضة في جبل العرب (الدروز) على يد سلطان باشا الأطرش ، وفي غوطة دمشق على يد محمد البكري ، مندوبا عن الأمير فيصل. وفي ١٩ أيلول / سبتمبر ١٩١٨ م ، بدأ الهجوم البريطاني من القدس في اتجاه نابلس فالناصرة. في المقابل تقدم الجيش العربي إلى درعا ، وقطع طريق الانسحاب على الجيش العثماني المتراجع بصورة فوضوية. ووقع في أسر أللنبي ٠٠٠ ، ٧٢ جندي تركي و ٤٠٠٠ ألماني. ودخل الجيش العربي دمشق في ٣٠ أيلول / سبتمبر ١٩١٨ م ، قبل الجيش البريطاني بيوم واحد. وفي ٨ تشرين الأول / أكتوبر ١٩١٨ م ، احتل الإنكليز بيروت ، وبعدها طرابلس في ١٨ تشرين الأول / أكتوبر ١٩١٨ م ، ومن ثمّ حلب ، كبرى مدن شمال سورية في ٢٦ تشرين الأول / أكتوبر ١٩١٨ م.

في ٣٠ تشرين الأول / أكتوبر ١٩١٨ م استسلمت تركيا ، ووقّع ممثلوها صك الاستسلام على ظهر السفينة الحربية البريطانية «أغاممنون» ، التي رست في مودروس (ميناء جزيرة ليمنوس في بحر إيجة). وبموجب هذا الصك ، استسلمت القوات العثمانية جميعها في الولايات العربية للحلفاء ، وأنهيت الإدارة العثمانية فيها. وبذلك وصل الحكم العثماني في الوطن العربي إلى نهايته ، بعد أربعة قرون ، وبدأت مرحلة جديدة ، سمتها الحقيقية الاحتلال ، تحت يافطة «الانتداب». ففي ٣٠ أيلول / سبتمبر ١٩١٨ م ، يوم دخل الجيش العربي دمشق ، وقّعت بريطانيا وفرنسا في لندن اتفاقية تحدد نظام احتلال البلاد. فكانت القيادة العليا بيد الجنرال أللنبي. أمّا الإدارة المدنية ، فقد قسمت بين الحلفاء. وتولت فرنسا شؤون لبنان وغرب سورية بصورة مباشرة ، وداخل سورية بصورة مداورة. واحتفظت بريطانيا بإدارة فلسطين مباشرة ، وشرق الأردن مداورة. وعهد إلى فيصل ، بصورة غامضة ، إدارة الداخل في بلاد الشام ، بينما ظل والده ، الشريف حسين ، أميرا على الحجاز. ولكن هذا الوضع ما لبث أن تغير أيضا ، ليصبح أكثر انسجاما مع مخططات فرنسا وبريطانيا الاستعمارية. وهكذا ، وبينما كان العرب يحاربون إلى جانب الحلفاء ، ويقومون بدور فعال في تصفية الحكم العثماني بالوطن العربي ، كان ساسة دول أوروبا ، وخصوصا بريطانيا وفرنسا ، يتآمرون عليهم لحرمانهم من الاستقلال الذي تطلعوا إليه عبر هذا التحالف. وقد عبرت اتفاقية سايكس ـ بيكو ، ومن بعدها وعد بلفور ، عن عملية الخداع الكبرى التي مارستها هاتان الدولتان الإمبرياليتان. فبموازاة المفاوضات التي كانت تجريها مع الشريف حسين ، وتقدم له من خلالها العهود ، كانت بريطانيا تتقدم

٣٥٣

في تجسيد فكرتها القديمة الرامية إلى إنشاء كيان يهودي في فلسطين تحت حمايتها. وجاء وعد بلفور بمثابة البراءة الدولية التي سعى لها هيرتسل ، وعمل من أجلها ، لكنه لم يحصل عليها في حياته ، وإنما تحقق ذلك أيام خلفه حاييم وايزمن. فقد رأى هذا الأخير في الحرب العالمية الأولى الفرصة لتحقيق الهدف الصهيوني ، عبر العمل على محورين ـ بريطاني وأميركي. ومن أجل العمل على الساحة الأميركية ، جند وايزمن قاضي محكمة العدل العليا في الولايات المتحدة ، اليهودي الصهيوني لويس براندايس ، الصديق الحميم للرئيس الأميركي آنذاك ودرو ولسون.

ب) الدور الأميركي في

استصدار وعد بلفور

إزاء فشل الحركة القومية العربية في تحقيق الأهداف التي توختها من دخول الحرب إلى جانب الحلفاء ، تضافرت عوامل عدة لنجاح الحركة الصهيونية في استصدار وعد بلفور ، الذي شكّل حجر الزاوية للمشروع الصهيوني في فلسطين. وكان هذا المشروع يترنح ويقترب من الانهيار في أثناء الحرب ، فجاء وعد بلفور لينفخ فيه الحياة من جديد ، ويزرع الأمل في نفوس قادة العمل الصهيوني بإمكان تحقيق مشروعهم. وفضلا عن النشاط الصهيوني المتاح لتحقيق برنامج بازل ، كان هناك عمل كبير لمصلحة الحلفاء ـ سياسيا وعسكريا وماليا. وقد تم ذلك على أرضية الرغبة البريطانية الدفينة في إقامة كيان يهودي في فلسطين. وجاء الدعم الأميركي للمشروع الصهيوني ، وتأييد الدول الحليفة الأخرى له ، ليحسما الأمر بالنسبة إلى إصدار وعد بلفور. ولعل الدور الذي أدّته الصهيونية في جرّ الولايات المتحدة إلى الحرب ، كان العامل المباشر الأكثر أهمية في استصدار هذا الوعد ، مكافأة لها على جهودها في هذا المجال ، بما قلب موازين القوى في الحرب ، وأدّى إلى حسم نتائجها لمصلحة الحلفاء.

عندما نشبت الحرب العالمية الأولى ، كان مركز العمل الصهيوني في برلين ، وله محطة مهمة في لندن ، ومكاتب فرعية في عدد من الدول الأخرى ، وذلك للوزن الكبير الذي كان ليهود ألمانيا في العمل الصهيوني ، من جهة ، وحجم هؤلاء المادي والمعنوي بين يهود العالم ، من جهة أخرى. وكان طبيعيا أن ينحاز عدد من زعماء الصهيونية إلى جانب ألمانيا بالحرب في البداية ، سواء بسبب عدائهم لروسيا القيصرية ، أو طمعا في نيل تأييد ألمانيا للمشروع الصهيوني ، وما ينجم عن ذلك من تأثير على الحكومة العثمانية في إستنبول. والأكيد أن هؤلاء كانوا مقتنعين بأن

٣٥٤

النصر في الحرب سيكون من نصيب ألمانيا ، التي عبر تحالفها مع السلطنة العثمانية ستحقق للصهيونية أهدافها في فلسطين. وبينما وقف يهود ألمانيا إلى جانب بلدهم في الحرب ، برز في بريطانيا حاييم وايزمن ، الروسي الأصل ، كزعيم الأمر الواقع في الحركة الصهيونية ، متحالفا مع لويس براندايس في الولايات المتحدة. واستطاع هذان أن يجندا دعما كافيا في بريطانيا والولايات المتحدة لاستصدار وعد بلفور ، عندما بانت نتائج الحرب العالمية الأولى ، ومن ثمّ ضمان أن توضع فلسطين تحت «الانتداب» البريطاني في مؤتمر السلام الذي سوّى المسائل الناجمة عن تلك النتائج.

وكان انحياز زعماء الحركة الصهيونية في ألمانيا إلى بلدهم في الحرب قد أزعج زعماء آخرين في بلدان أخرى ، وخصوصا أولئك الذين أرادوا التروي قبل إعلان موقف محدد ، قد ينعكس سلبا على العمل الصهيوني ، ورأوا من الأفضل الانتظار وقراءة موازين القوى بدقة ، ومن ثمّ تحديد الموقف في ضوء المعطيات المتوفرة. وكان على رأس هؤلاء حاييم وايزمن ، الذي سارع إلى اقتراح نقل المركز الصهيوني موقتا إلى الولايات المتحدة ، متذرعا بحيادها في الحرب خلال الأعوام الأولى ، كما طرح تشكيل لجنة طوارىء تنفيذية ، تكلف بإدارة العمل الصهيوني إلى أن تنتهي الحرب ، وخصوصا نتيجة انعدام إمكان عقد المؤتمر الصهيوني في مواعيده. ومع أن اقتراح وايزمن لم يقبل ، إلّا إنه أقيمت لجنة برئاسة لويس براندايس في الولايات المتحدة (١٩١٤ م) ، وذلك بعد أربعة أعوام على استقطابه للحركة الصهيونية. ونشط براندايس ، بمساعدة أثرياء يهود أميركا ، في الترويج للأهداف الصهيونية على الساحة ، والحصول على دعم الحكومة الأميركية في إقناع الدول الكبرى بقبول البرنامج الصهيوني بالنسبة إلى فلسطين. وقد أصاب نشاط براندايس نجاحا كبيرا في أوساط يهود أميركا ، لكنه اصطدم بمعارضة قطاعات أحست بخطر الصهيونية عليها في أميركا. أمّا النجاح الأكبر الذي حققه براندايس فكان على الصعيد السياسي ، والمساهمة في إقناع الرئيس ودرو ولسون بدخول الحرب.

ولدى اندلاع الحرب ، أولى المعسكران المشتبكان أهمية كبرى لكسب يهود العالم ، كل إلى جانبه ، مستفيدا من وعود يقدمها للحركة الصهيونية. وكان يهود الولايات المتحدة محطّ أنظار الجانبين ، إذ طمع كل منهما في انحيازهم إليه. وتنافست بريطانيا وفرنسا وألمانيا بشأن خطب ودّ اليهود ، وخصوصا على صداقة بيوت المال التي يسيطرون عليها ، نظرا إلى حاجة حكوماتها للأموال والقروض. وكانت المؤسسات المالية اليهودية ـ لازار وماير وسليغمان وسباير وواربرغ وروتشيلد ـ تدير عمليات كبيرة في الولايات المتحدة وأوروبا. كما أراد

٣٥٥

المعسكران استغلال تأثير اليهود في السياسة الداخلية الأميركية ، وبالتالي حسم موقف أميركا من مسألة الدخول في الحرب ، أو عدمه. وكان طبيعيا أن تستغل الصهيونية هذا التنافس بين الأطراف المتحاربة لمصلحة مشروعها الاستيطاني في فلسطين. واستطاعت قيادة العمل الصهيوني في برلين حمل الحكومة الألمانية على ممارسة نفوذها في إستنبول لمصلحة المشروع الصهيوني وحماية المستعمرات في فلسطين ، كما عملت على الساحة الأميركية بتوظيف المنظمات الصهيونية في إبعاد أميركا عن دخول الحرب إلى جانب الحلفاء. في المقابل ، سعت كل من فرنسا وبريطانيا لكسب الموقف الصهيوني إلى جانب الحلفاء ، وتوظيفه في تشجيع أميركا على دخول الحرب في معسكرهم. لكن نقطة الضعف في تحركهما كان تحالفهما مع روسيا ، التي كان جمهور يهود الولايات المتحدة يكن لها العداء ، الأمر الذي دعاهما إلى تقديم العروض المغرية للصهيونية تعويضا عن ذلك.

وإزاء المعسكر الصهيوني المنحاز إلى ألمانيا ، عمل تحالف وايزمن ـ براندايس على تجنيد كل الطاقات الصهيونية والصديقة لها ، وزجها في المعركة إلى جانب الحلفاء لكسب الحرب ، على أساس وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني بعد انتهائها ، وفتح أبوابها لهجرة يهودية واسعة ، وتسليمها للمستوطنين الصهيونيين عندما تصبح الأوضاع ملائمة لذلك. ولعل أهمّ ما قام به براندايس في الولايات المتحدة هو المساهمة الفعّالة في حمل الإدارة الأميركية على دخول الحرب إلى جانب الحلفاء. وكان صدور وعد بلفور ثمرة للنشاط الصهيوني في أثناء الحرب ، ولما أخذته الصهيونية على عاتقها من تسخير مشروعها الاستيطاني في خدمة المصالح الإمبريالية في المنطقة. وبينما أدّت بريطانيا الدور الأساسي في نقل الفكرة الصهيونية إلى حيز التطبيق ، فإن الولايات المتحدة ، في تلك المرحلة المبكرة من العمل الصهيوني ، ساهمت مساهمة كبيرة على هذا الصعيد. وتفيد المصادر البريطانية نفسها (تقرير اللجنة الملكية لفلسطين) ، نقلا عن رئيس حكومة جلالة الملك ، لويد جورج ، قوله إن زعماء الصهيونية حصلوا على وعد بلفور لأنهم برّوا بوعدهم في عمل ما بوسعهم لإيقاظ عاطفة اليهود في أنحاء العالم كافة وتأليبهم لمعاضدة قضية الحلفاء. (١)

وعلى أرضية الحسابات السياسية لحكومة بريطانيا في حينه ، قام النشاط السياسي والدبلوماسي الصهيوني ، بقيادة حاييم وايزمن ، خلال الحرب. وقبل نهايتها ، نجح في استصدار وعد بلفور. وكان البيان قد عرض على الرئيس الأميركي ، ودرو

__________________

(٥) John Hadawi ,op.cit.,Vol.I ,p.٨٧.

٣٥٦

ولسون ، قبل صدوره ، فنال موافقته السرية ، التي لم يلبث أن أتبعها بأخرى علنية بعد الصدور ، مع التأكيد على دعم حكومته لما ورد فيه. وكذلك فعل وزير خارجية فرنسا (١٤ شباط / فبراير ١٩١٨ م) وسفير إيطاليا في لندن (٩ أيار / مايو ١٩١٨ م) ، نيابة عن حكومتيهما. وقبل سقوطها ، أخبرت الحكومة الموقتة في روسيا زعماء الصهيونية هناك ، أنها تؤيد وعد بلفور ، كما أعلمت بموقفها هذا حكومة بريطانيا. وكذلك فعلت الصين واليابان واليونان وسيام. في المقابل ، قامت حكومتا ألمانيا وتركيا بإجراء اتصالات مع مبعوثين عن الحركة الصهيونية ، وأجرتا مفاوضات معهم بشأن مستقبل فلسطين. لكن حاييم وايزمن ، وبمساندة براندايس ، قد حسم الموقف لمصلحة الحلفاء.

وفي الواقع ، فإن وايزمن وبراندايس كانا يعملان في أجواء ملائمة. فسنة ١٩١٦ م حملت الكوارث على الحلفاء في الحرب ، إذ إنه إضافة إلى الهزائم التي لحقت بجيوشهم ، نضبت مواردهم المالية ، بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدوها نتيجة نشاط الغواصات الألمانية ، وبالتالي إغراق عدد من السفن المحملة بالبضائع المستوردة من الولايات المتحدة وغيرها ، عن طريق الشركة المالية ـ مورغان ـ التابعة لمجموعة روتشيلد. وفي هذا الجوّ الملبّد بغيوم الهزيمة على الحلفاء ، أصبح الأمل بالخروج من المأزق معلقا على دخول الولايات المتحدة الحرب ، وبالتالي قلب موازين القوى. ولكن الأمل بذلك كان ضئيلا ، وخصوصا أن الرئيس الأميركي ولسون ، كان لتوه قد كسب معركة الرئاسة الانتخابية على أساس إبقاء الولايات المتحدة خارج الحرب. وكانت محاولات المعسكرين المتحاربين لجر أميركا ، كل إلى الموقف الذي يرغبه ، قد باءت بالفشل ، وظلت على الحياد. ومن هنا تبرز أهمية الدور الصهيوني ، الذي كان قد حسم موقفه إلى جانب الحلفاء بعد إخفاق ألمانيا في إقناع تركيا بالاستجابة للمطالب الصهيونية ، بترجيح الكفة في واشنطن لمصلحة قرار دخول الحرب إلى جانب الحلفاء. وقد أدّى لويس براندايس دورا أساسيا في إقناع الرئيس ولسون بذلك ، مستندا إلى مجموعات الضغط السياسي والاقتصادي ، الخاضعة للتأثير الصهيوني. وبذلك أصبح الطريق مفتوحا أمام استصدار وعد بلفور من قبل حكومة بريطانيا ، وبتأييد قوي من الإدارة الأميركية.

وبعد تهيئة الأرضية لدخول أميركا الحرب ، جاءت الذريعة في آذار / مارس ١٩١٧ م ، حين أغرقت الغواصات الألمانية عددا من السفن التجارية الأميركية ، التي كانت تحمل البضائع إلى الحلفاء. وفي ٦ نيسان / أبريل ١٩١٧ م ، أعلنت الولايات المتحدة الحرب على ألمانيا ، من دون تركيا. فما لبثت بريطانيا أن أصدرت بيانا بشأن

٣٥٧

أهداف الحرب في الشرق الأوسط ، عبر مندوبها إلى لقاء مع بعض الزعماء الصهيونيين ، سايكس الذي صاغ اتفاق سايكس ـ بيكو. وكان البيان موجها إلى يهود الولايات المتحدة لنيل دعمهم ، من جهة ، وللوفاء بالتعهدات التي قطعتها الحكومة البريطانية للقيادة الصهيونية إذا أفلحت في جرّ الولايات المتحدة إلى الحرب ، من جهة أخرى. وعلى الرغم من التعهدات التي قطعتها حكومة بريطانيا للشريف حسين في مراسلاته مع مكماهون ، فقد ورد في «بيان سايكس» اعتبار فلسطين «وطنا قوميا يهوديا» ، ومنح المستوطنين اليهود فيها الحقوق القومية والسياسية والاجتماعية ، والسماح للمهاجرين إليها بالاستيطان فيها ، بغض النظر عن موطنهم الأصلي ، وإعطائهم هناك حكما إداريا ذاتيا.

وبالتواصل والتنسيق بين قيادتي العمل الصهيوني ـ البريطانية بزعامة وايزمن ، والأميركية بزعامة براندايس ـ بدأ إعداد مسودة الإعلان الذي عرف باسم وعد بلفور. ولدى الاتفاق على الصيغة ، بعد أخذ ورد ، تم التغلب على العقبات ، سواء داخل الحكومة البريطانية ، أو التي شكّلها موقف بعض الشخصيات اليهودية المعارضة للصهيونية ، مثل : لوسين وولف وكلود مونتفيوري وماثيو ناثان وإدوين مونتاغو. وأرسل بلفور نصّ الإعلان إلى البارون اليهودي الصهيوني روتشيلد وذلك بعد أن تمّت الموافقة عليه من قبل الرئيس الأميركي ولسون على الرغم من أن أميركا لم تكن قد أعلنت الحرب على السلطنة العثمانية ، التي كانت لا تزال تحكم فلسطين. ويعود الفضل في ذلك إلى نشاط براندايس إلى حد كبير ، وإلى تعاونه الوثيق مع مستشار الرئيس الأميركي هاوس. وقد صدر وعد بلفور في اليوم نفسه الذي بدأ فيه الهجوم البريطاني على فلسطين. واعتبره قادة العمل الصهيوني بمثابة البراءة الدولية التي سعوا للحصول عليها منذ أيام هيرتسل.

وصدر وعد بلفور قبل نهاية الحرب ، بعد أن كشفت قيادة الثورة البلشفية في روسيا أمر اتفاقية سايكس ـ بيكو ، وتسبب ذلك في إحراج الإدارة الأميركية التي لم تكن أعلنت الحرب على تركيا ، بل سعت فعلا للتوسط وإيجاد حل سلمي معها. وفي حزيران / يونيو ١٩١٧ م ، أوفد ولسون الصهيونيين ـ مورغنتاو (السفير السابق للولايات المتحدة في إستنبول) ، وفيلكس فرانكفورتر (صهر براندايس وذراعه الأيمن) ـ لإجراء مباحثات في إستنبول بشأن إنهاء الحرب. لكن وايزمن قطع عليهما الطريق في جبل طارق ، وأقنعهما بالعودة إلى واشنطن ، ذلك لأن الصهيونيين أرادوا احتلال فلسطين على يد الحلفاء ، الأمر الذي من دونه يبقى وعد بلفور حبرا على ورق. ومن هنا كان اعتراض قادة العمل الصهيوني على اتفاقية سايكس ـ بيكو ، كونها لم تحدد وضع

٣٥٨

فلسطين تحت الانتداب البريطاني المباشر ، لتسليمها للحركة الصهيونية في الوقت الملائم ، بل وضعتها تحت إدارة دولية. وكان وايزمن يستشعر حرج الإدارة الأميركية في تبني موقف حكومة بريطانيا بشأن فلسطين ، من دون أن تكون واشنطن في حالة حرب مع تركيا ، ومن دون أن تكون شريكة في الاتفاقات السرية التي تمّ التوصل إليها بين فرنسا وبريطانيا (اتفاقية سايكس ـ بيكو).

وزاد في حرج الرئيس الأميركي ، ولسون ، دعمه لمضمون وعد بلفور ، في حين انتشرت أصداء إعلانه مبادئه بشأن «تقرير المصير» للشعوب الواقعة تحت الاحتلال الأجنبي. وبعد احتلال الجزء الجنوبي من فلسطين ، قرر وايزمن القيام بزيارة لها ، تمهيدا لإقامة هيئة صهيونية فيها ، تؤمن تجسيد وعد بلفور ، لكن الإدارة العسكرية البريطانية لم تستجب لطلبه. وحثّ وايزمن براندايس على العمل على توفير الدعم الأميركي لوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني ، فرد براندايس مؤكدا أن الأوضاع الدولية الحالية لا تسمح بذلك. ولتمرير عملية الخداع الكبرى ، التقى وايزمن بفيصل بن الحسين في العقبة في أيار / مايو ١٩١٨ م لتطمينه من أن الأهداف الصهيونية في فلسطين لا تشكل خطرا على الدولة العربية المزمع إقامتها. وفي الواقع ، وبعد الحرب ، ومن خلال المفاوضات على الترتيبات اللاحقة ، استطاع قادة العمل الصهيوني تحقيق أغراضهم ، سواء في انقلاب الحلفاء على الوعود التي قطعوها للقوى العربية التي ناصرتهم ، أو في تجنيد الدعم الأميركي لمساعيهم في تمهيد الطريق أمام تجسيد وعد بلفور ، عبر وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني.

ج) النشاط الصهيوني العسكري في الحرب

إن النشاط الصهيوني خلال الحرب لم يتوقف عند حدود العمل السياسي والدبلوماسي ، بل تعداه إلى العسكري والتجسّسي. فمع اندلاع الحرب ، وانقسام أوروبا إلى معسكرين ، توقف انعقاد المؤتمر الصهيوني ، وبالتالي فقدت القيادة الصهيونية وحدة القرار والعمل. وتحرك منظّر «الصهيونية التنقيحية» اليمينية ، زئيف جابوتنسكي ، لتجنيد ما سماه «الكتائب العبرية» ، لاقتناعه بأن المشروع الصهيوني في فلسطين لن يرى النور إلّا بتفكيك السلطنة العثمانية ، وانتصار الحلفاء في الحرب. وفي سنة ١٩١٤ م ، سافر إلى مصر ، وبدأ تنظيم بعض المستوطنين الذين هربوا من فلسطين إليها. واستعان بالضابط اليهودي الفارّ من الجيش الروسي القيصري ، جوزف ترومبلدور الذي قدم بدوره إلى مصر ليعرض خدماته على الجيش البريطاني في جبهة قناة السويس. ولما قوبل العرض ببرودة شديدة ، عمد ترومبلدور وجابوتنسكي إلى

٣٥٩

تشكيل «كتيبة البغالة» ، التي أرسلت إلى غاليبولي ، ومهمتها نقل المؤن والذخائر إلى الجبهة ، في إطار الخطة العسكرية الرامية إلى إنزال قوات عسكرية على شواطىء البحر الأبيض المتوسط الشرقية. لكن هذه الخطة فشلت ، واستبدلت بأخرى ـ الهجوم على فلسطين من سيناء. وحلّت هذه الوحدة في أيار / مايو ١٩١٦ م ، وانتقل ١٢٠ من أفرادها إلى لندن.

لكن جابوتنسكي لم يتراجع عن فكرته ، حتى إزاء المعارضة الصهيونية الشديدة لتشكيل مثل هذه الكتائب. فمن جهة ، خشيت القيادة الصهيونية ردة فعل السلطات التركية على المستوطنين في فلسطين بسبب ذلك ، ومن جهة أخرى ، رأى الكثيرون من يهود أوروبا ـ وخصوصا في ألمانيا ـ في تشكيل كتائب يهودية ، وزجها في الحرب إلى جانب الحلفاء ، انتحارا للحركة الصهيونية ، نظرا إلى اقتناعهم بأن ألمانيا ستكسب الحرب. لكن جابوتنسكي أصرّ على موقفه ، وهدّد بالانسحاب من المنظمة الصهيونية ، وسافر إلى إيطاليا ليعرض فكرته على قادتها العسكريين. وهناك التقى بنحاس روتنبرغ ، الذي شاطره الفكرة. ولما فشلا بمهمتهما في إيطاليا ، توجها إلى بريطانيا ، وثابرا على جهودهما هناك. وقد استفادا من وجود بقايا كتيبة البغالة في لندن ، وعملا على إعادة تشكيلها ، لكنهما اصطدما بمعارضة شديدة ، ومن أوساط متعددة ، بما فيها المنظمة الصهيونية نفسها. وانبرى لتأييدهما وزير الداخلية في الحكومة البريطانية ، اليهودي الصهيوني هربرت سامويل (الذي أصبح لاحقا أول مندوب سام على فلسطين بعد الانتداب البريطاني). وبفضل جهود سامويل ، تشكلت «كتيبة القناصة الملكية» ، بقيادة الكولونيل باترسون (آب / أغسطس ١٩١٧ م) ، وانتقلت إلى فلسطين عبر فرنسا ومصر ، وشاركت في الحرب في حملة أللنبي.

وفي الولايات المتحدة ، وبعد إعلانها الحرب على ألمانيا ، تشكلت كتيبة أخرى ، ضمت نحو ٥٠٠٠ نفر (كانون الثاني / يناير ١٩١٨ م). وقام بتشكيلها دافيد بن ـ غوريون (الذي أصبح لاحقا أول رئيس حكومة لإسرائيل) ويتسحاق بن ـ تسفي (الذي أصبح بدوره ثاني رئيس دولة في إسرائيل). وكان الاثنان قد طردا من فلسطين ، ووصلا إلى الولايات المتحدة للعمل على دفعها إلى دخول الحرب. وانضم إلى هذه الكتيبة متطوعون من كندا والأرجنتين ، ووصل قسم منهم إلى فلسطين ، وشارك في القتال مع جيش أللنبي ، والقسم الآخر وصلها بعد الحرب. كما تشكلت كتيبة ثالثة في فلسطين بعد احتلال الجزء الجنوبي منها (١٩١٧ م) ، إذ قام قائد الفرقة الإسكتلندية ، الجنرال هيل ، بعرض الفكرة على بعض قادة المستوطنين ، فقبلوها. وكان بين هؤلاء راحيل ينئيت (زوجة بن ـ تسفي لاحقا) وإلياهو غولومب (من مؤسسي الهاغاناه

٣٦٠