الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

الإمبراطورة آيرين على مصالحته لقاء جزية كبيرة تدفعها سنويا. وبعد الرشيد قام المأمون بعدد من الغزوات الوقائية ، كانت تحمل طابع الردع. وبعد موت المعتصم ، وتزايد تدخل الجيش التركي في شؤون الخلافة ، انتهز البيزنطيون الفرصة وانتقلوا إلى الهجوم.

وتخلي العباسيين عن المشروع الأموي في وراثة بيزنطة ، أدّى إلى أن تصبح بلاد الشام في نظرهم ولاية حدودية هامشية. وعندما دبّ الضعف في مركز الخلافة ، ازداد إهمال هذه الولاية ، فسادت فيها الفوضى ، الأمر الذي أغرى البيزنطيين باستعادتها. ويروى أن المتوكل (٨٤٧ ـ ٨٦١ م) عزم على الانتقال من سامرّاء إلى دمشق ، هربا من هيمنة العسكر الترك على شؤون الحكم ، لكنه عدل عن ذلك تحت ضغطهم. وفي الربع الأخير من القرن التاسع ، وبعد فترة من الصراع الداخلي ، تولت السلطة في بيزنطة سلالة جديدة من الأباطرة ـ المقدونية ـ (٨٦٧ ـ ١٠٨١ م). وبادر هؤلاء إلى فتح الصراع مجددا مع الخلافة العباسية. وبعد نجاحات أولية حققها الإمبراطور بازل الأول ، عادت الحرب لتتخذ طابع المراوحة والغزوات المتبادلة ، وذلك لأن هذا الإمبراطور ، الذي جعل الصراع مع الخلافة الإسلامية في أعلى سلم أولوياته ، لم يفلح في استنفاد الفرص المواتية التي توفرت له.

واستمر الصراع الحدودي بين بيزنطة (دار الحرب) ودار الإسلام خلال القرن العاشر الميلادي. وبرزت فيه منذ نحو منتصف هذا القرن إمارة الحمدانيين في شمال سورية. وهذه السلالة العربية التغلبية ، أقامت عاصمتها سنة ٩٢٩ م في الموصل ، ثم توسعت غربا ، وضمت جندا حلب وحمص إليها. واشتهر من أمرائها سيف الدولة (٩٤٤ ـ ٩٦٧ م) ، الذي قضى حياته في الصراع الحدودي مع بيزنطة. وإذ حقق نجاحا في البداية ، واحتل مرعش مسقط رأس الأباطرة السوريين ، الذين أداروا الصراع مع العباسيين في القرن الثامن الميلادي ، إلّا إن الكفة مالت لاحقا لمصلحة البيزنطيين. ففي سنة ٩٦١ م ، احتلّ نيسفوروس فوكاس مدينة حلب من دون القلعة ، ثم انسحب. وعندما أصبح إمبراطورا (٩٦٣ ـ ٩٦٩ م) احتل قبرص ، ثم كيليكيا ، ثم أنطاكيا ، التي ظلت في أيديهم حتى سنة ١٠٨٤ م. وفي سنة حكمه الأخيرة ، احتلت حلب ثانية ، وأجبر أميرها سعد الدولة (٩٦٧ ـ ٩٩١ م) على الرضوخ لشروط صلح مذل.

وبعد فوكاس ، تابع خليفته تسيمسكس (٩٦٩ ـ ٩٧٦ م) سياسته في توسيع المناطق التي احتلها في سورية. وأعدّ نفسه للقيام بحملة صليبية ، هدفها انتزاع القدس من أيدي الفاطميين. وتوغل في سورية مستغلا حالة الفوضى التي تسودها فدخل دمشق ، وتقدم منها إلى بيسان (٩٧٥ م). وتقول المصادر اليونانية إن الناصرة وقيساريا

١٨١

استسلمتا طوعا له ، وحتى القدس فاوضته على الصلح. أمّا الإمبراطور بازل الثاني (٩٧٦ ـ ١٠٢٥ م) فقد عقد صلحا مع الحاكم بأمر الله الفاطمي. وفي سنة ١٠٠٩ م ، أمر الحاكم بهدم كنيستي القيامة والصعود في القدس. وقد أعيد بناؤهما بعد موته ، كما ألغيت المراسيم التي أصدرها ضد المسيحيين ، كما يذكر بطريرك القدس ، نيسفوروس سنة ١٠٢٣ م.

وخلال القرن الحادي عشر الميلادي ، عادت الإمبراطورية البيزنطية لتشهد مرحلة من الهبوط. ومرة أخرى ، تضافرت الصراعات الداخلية مع هجوم من الخارج (السلاجقة) لتضييق الخناق على الإمبراطورية. وفي ساعة الشدة ، توجّه الإمبراطور البيزنطي إلى طلب المساعدة من أوروبا الغربية. وبدأت الحملات الصليبية في نهاية ذلك القرن. والإمبراطورية التي صمدت عبر القرون أمام الهجمات من الشرق والغرب ، راحت بعد الحملات الصليبية ، وبسببها ، تفقد عناصر صمودها ـ ماديا ومعنويا. وفي المقابل ، أصبحت الخلافة الإسلامية حالة اسمية فقط ، وأرضها مقسمة بين عدد من الإمارات والسلطنات في الشرق كما في الغرب. وكانت بلاد الشام عشية تلك الحملات تشهد حالة من التدهور ، وعلى جميع الصعد ، شكّلت عاملا أساسيا في تسهيل احتلالها على يد الفرنجة.

رابعا : العصر الفاطمي

منذ بداية القرن العاشر الميلادي (٩٠٩ م) ، كان الفاطميون قد أسسوا حكمهم في القيروان (تونس). وكان سعيد بن الحسين ، مؤسس السلالة الفاطمية ، قد طرد آخر الأغالبة من القيروان ، وأعلن نفسه الإمام عبيد الله المهدي ، وبالتالي البديل للخليفة العباسي في الشرق ، والأموي في الغرب. وخلال فترة قصيرة ، بسط سلطانه على الساحل الإفريقي الشمالي ، من حدود الإدريسيين في المغرب ، وحتى حدود الإخشيديين في مصر. وفي سنة ٩١٤ م ، احتل الإسكندرية. وخلال أكثر من خمسين عاما ، ظل مجال النشاط الفاطمي محصورا في الجزء الغربي من البحر الأبيض المتوسط ، بشاطئيه ـ الشمالي والجنوبي. وقد استند الفاطميون ، في نشاطهم هذا ، إلى أسطول بحري قوي.

وفي أيام المعز لدين الله (أبو تميم معد) ، الذي تولى الخلافة (٩٥٢ ـ ٩٧٥ م) ، غزا أسطول الفاطميين سواحل إسبانيا (٩٥٥ م) ، في أيام الخليفة الأموي الناصر (عبد الرحمن الثالث) ، الذي حكم في الفترة (٩١٢ ـ ٩٦١ م). فرد الناصر القوي بغزوة مضادة على أجزاء من شمال إفريقيا. وبعد صدامات غير حاسمة بين الفاطميين

١٨٢

في تونس ، والأمويين في الأندلس ، توجه الفاطميون شرقا. وبقيادة جوهر الصقلي (الرومي) ، دخل جيش المعزّ الفسطاط ، وبادر مباشرة إلى تخطيط مدينة جديدة في جوارها هي قاهرة المعز (٩٦٩ م) التي أصبحت عاصمة الفاطميين (٩٧٣ م). وبانتقال المعزّ إلى مصر ، أصبح الفاطميون جزءا من الصراع في الشرق ، وبالتالي أصبح الاستيلاء على بلاد الشام ، وبداية على فلسطين ، ركنا من استراتيجية عملهم لانتزاع الخلافة من أيدي العباسيين ، وتحقيق هدفهم المعلن بحقهم المطلق بالخلافة ، كونهم من نسل فاطمة ، ابنة الرسول (ص).

وفي الواقع ، فإن الفاطميين لم يتأخروا كثيرا في غزو فلسطين بعد انتزاعهم مصر من أيدي الإخشيديين ، كخطوة أولى في الطريق إلى بغداد ـ مقر الخلافة العباسية المنافسة ، ولو اسميا. ولم يجد جعفر بن فلاح ، قائد الحملة الفاطمية على بلاد الشام ، أيام المعز لدين الله ، صعوبة كبيرة في إلحاق الهزيمة بعامل الإخشيديين على فلسطين ، في معركة قرب الرملة (٩٦٩ م). وتوجّه بعد ذلك إلى طبرية ـ عاصمة جند الأردن ـ فدخلها صلحا. ومن هناك ، تابع مسيرته إلى دمشق ، التي كان وجهاؤها قد جاؤوا جعفر في طبرية لعقد الصلح معه ، فأساء معاملتهم ، الأمر الذي دعاهم إلى المقاومة ، ولكن من دون جدوى. ووقعت دمشق في يده ، وأقيمت الخطبة فيها للمعز في العام نفسه. وتجدر الإشارة إلى أن العوامل التي سهلت على الفاطميين فتح بلاد الشام ، هي نفسها التي حالت دون استقرار حكمهم فيها.

فحالة التفتت التي سادت بلاد الشام عشية الحملة الفاطمية ، والصراعات بين القوى المحلية ـ الحمدانيين والإخشيديين والقرامطة والقبائل العربية المحلية الأخرى ـ في غياب قوة مركزية واحدة ، سهلت على الفاطميين احتلال البلاد عسكريا ، ولكنها في الوقت نفسه أثقلت عليهم ضبط الأوضاع فيها وإحكام السيطرة عليها. لقد كان القضاء على الإخشيديين سهلا. والحمدانيون الذين حشروا بين الفاطميين والبيزنطيين ، كانوا في وضع صعب نتيجة النشاط العسكري البيزنطي ، مع أن ميولهم كانت فاطمية ، إذ كانوا من الشيعة أيضا. أمّا العامل الأخطر ، فكان تحالف القبائل العربية المحلية مع القرامطة ، الذين عادوا إلى التمرد ومقاتلة الفاطميين ، المرة تلو الأخرى ، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الإمبراطور البيزنطي ، تسيمسكس للتوغل عميقا في بلاد الشام ، وصولا إلى بيسان بعد دمشق (٩٧٥ م).

ففي السنوات الأولى من حكم الفاطميين (٩٧١ م) ، استطاع القرامطة ، بقيادة الحسن الأعصم ، إلحاق الهزيمة بجيش الفاطميين ، وقتل قائده ، جعفر بن فلاح. وكان ذلك بالقرب من دمشق ، فسقطت في أيديهم. وطارد الأعصم جيش الفاطميين ،

١٨٣

ودخل الرملة ، فعقد حلفا مع بني الجراح (الطائيين) ، وتابع مسيرته إلى يافا ، ومن هناك إلى مصر ، حيث هزمه جوهر الصقلي بالقرب من القاهرة. وتراجع الأعصم إلى فلسطين ، وسار جوهر في إثره ، ودارت بين الطرفين معارك كرّ وفرّ ، كانت فلسطين ساحتها الرئيسية ، وانتقلت عاصمتها الرملة ـ من يد إلى أخرى. وظل الأمر كذلك مدة ثلاث سنوات تقريبا ، استطاع في نهايتها أبو محمود (ابن جعفر بن فلاح) إلحاق الهزيمة بالقرامطة واستعادة فلسطين ودمشق منهم ، ولكن لفترة قصيرة فقط.

فبعد أن استعاد الفاطميون السيطرة على دمشق ، عاث جنودهم (المغاربة) فسادا فيها. فثار الناس عليهم ، واستدعوا قائدا تركيا متمردا ، ألبتكين ، ليخلصهم من حكم الفاطميين ويلي الأمر في المدينة ، ففعل. وفي هذه الأثناء وصل تسيمسكس إلى أطراف دمشق ، فصالحه ألبتكين على أتاوة يدفعها ، وعدل الإمبراطور عن دخول دمشق ، وتقدم في اتجاه بيسان (٩٧٥ م). ولكن البيزنطيين انسحبوا في إثر اتفاق مع الفاطميين ، الذين تقدموا إلى دمشق للقضاء على ألبتكين ، وحاصروا المدينة ، وضيقوا عليها الخناق ، فاستعانت بالقرامطة ، وعاد الأعصم من الأحساء إلى الشام. واستطاع الحليفان دحر جيش الفاطميين ، بقيادة جوهر الصقلي ، ومطاردته إلى عسقلان ، حيث حاصراه ، وفرضا عليه صلحا ، أقر بموجبه الحكم لألبتكين على بلاد الشام.

لكن الخليفة الفاطمي الجديد ، العزيز بالله (٩٧٥ ـ ٩٩٦ م) رفض الاتفاق بين قائد جيشه ، جوهر ، وألبتكين ، وقرر أن يسير بنفسه إلى فلسطين للقضاء على تحالف القرامطة مع القبائل العربية والعسكر الترك. ومرة أخرى ، التقى الطرفان قرب الرملة (٩٧٧ م) ، وبعد قتال ضار حقق العزيز نصرا على التحالف ، لكنه لم يكن حاسما. وقدّر العزيز ، الذي عرف بحكمته الصعوبة التي ينطوي عليها تطويع هذه القوى بالحرب ، وخصوصا نتيجة التهديد البيزنطي. فاستمال بني الجراح الذين انتشروا في جوار الرملة ، وعفا عن ألبتكين ، وجعل له دارا للإقامة في القاهرة. أمّا الأعصم ، الذي انكفأ مرة أخرى في الأحساء ، فقد تعهد العزيز بدفع جعالة سنوية له ، لصرفه عن إثارة القلاقل ضد الفاطميين ، أسوة بما كان يفعله معه عمال الإخشيديين من قبل.

وبنو الجراح بطن من قبيلة «طيّىء» ، وهي بدورها فرع من كهلان القحطانية ، التي خرجت من اليمن وانتشرت في بلاد الشام والعراق ، قبل الإسلام وبعده. وقد حاربت طيّىء مع المثنى بن حارثة الشيباني أيام الفتح العربي للعراق. وفي العصر العباسي ، أصاب من نزل فلسطين من بطونها ما أصاب العرب جميعا في بلاد الشام ، ولم تكن راضية عن ذلك. وفي أيام الطولونيين (٨٩٨ م) ، قام صالح بن مدرك (الطائي) بعصيان على السلطة ، وهاجم قوافل الحج واستولى على أموالها. وفي

١٨٤

القرنين العاشر والحادي عشر ، برز فيهم بنو الجراح في محيط الرملة بفلسطين ، الذين حاولوا ـ أسوة بغيرهم من قبائل الشام في مرحلة تراجع الخلافة العباسية ـ استغلال الفرصة ، والإفادة ـ ماديا وسياسيا ـ من حالة الفوضى السائدة ، شأنهم في ذلك شأن القبائل العربية الأخرى ، فلم ينظروا بعين الرضا إلى الحكم الفاطمي الذي يهدد مصالحهم ، وظلوا يناوئونه.

وقد برز بنو الجراح في جنوب بلاد الشام غداة أفول نجم الحمدانيين في شمالها ، بعد موت سيف الدولة (٩٦٧ م). وكان العباسيون قد أهملوا بلاد الشام وعربها ، واعتمدوا بداية على الفرس ، ثم على الترك. أمّا الفاطميون ، فقد رأوا فيها جسرا للوصول إلى بغداد في البداية ، وعندما تخلوا عن فكرة دخولها عنوة ، صارت بلاد الشام خط الدفاع عن مصر ، الأمر الذي لم يرق لسكانها. وفي غياب سلطة مركزية موحدة في بلاد الشام ، تناحرت القبائل ، متعللة بذرائع متعددة على اقتسام الأراضي والموارد. وأدّت القوى المجاورة ـ الخلافة العباسية في بغداد والفاطمية في مصر والإمبراطورية البيزنطية ـ دورا في إذكاء الصراع بين القوى الصغيرة المحلية. ثم ما لبث القرامطة أن دخلوا بقوة على خط التكتلات المحلية والصراعات الإقليمية. فكانت النتيجة تدهور حالة البلاد الاقتصادية والاجتماعية.

وعلاقات بني الجراح بالفاطميين تقلبت بين التحالف معهم والتمرد عليهم. وكان الحمدانيون قد سبقوهم إلى إقامة إمارة مستقلة شمالي سورية والعراق. أمّا بنو الجراح ، فلأسباب ذاتية ـ التركيبة القبلية ـ وأخرى موضوعية ـ الانتشار في فلسطين ـ لم يستطيعوا بلوغ شأن الحمدانيين ، على الرغم من أن الفاطميين اعترفوا بزعامتهم المحلية. ويبدو أن بني الجراح أدّوا دورا محليا في أيام الطولونيين والإخشيديين ، كافأهم عليه ولاة مصر. وعندما ضعفت هاتان السلالتان ، عزز بنو الجراح موقعهم ونفوذهم في فلسطين. أمّا الفاطميون ، فقد سعوا لتحجيم هذا الدور بالقوة. وبناء عليه ، انتهز بنو الجراح كل فرصة مواتية للتمرد ، واستعادة دورهم ، كلما حجب عنهم الفاطميون الولاية ، وحرموهم من منافعها ، ولكنهم دخلوا في خدمتهم وتحالفوا معهم عندما أغدق الفاطميون العطاء عليهم.

وفي الفترة ما بين سنة ٩٧٠ م إلى سنة ١٠٤٢ م ، أدّى بنو الجراح دورا مركزيا في تاريخ بلاد الشام. وبداية انضم مفرج بن دغفل بن الجراح إلى الحسن الأعصم القرمطي (٩٧٠ م) لقتال جيش الفاطميين وإلحاق الهزيمة به. وتولى مفرج بعد ذلك إمارة الرملة. ومرة أخرى يرد ذكر حسان بن الجراح في تحالف مع الأعصم سنة ٩٧٤ م ، في زحفه على مصر للمرة الثانية. ولكن المعزّ أغرى حسان بالمال ، فتخلى

١٨٥

عن الأعصم ، فهزم. وتعاون بعدها بنو الجراح مع الفاطميين في قتال القرامطة ودحرهم من بلاد الشام ، وبذلك تعاظمت قوتهم ، وامتد سلطانهم داخل البلاد ، بينما تمركز الفاطميون ، كقوة عسكرية ، في المدن الكبرى ، وخصوصا الساحلية ، وأصبحت عسقلان ركيزة حكمهم ، لقربها من مصر ، ولأن ميناءها قاعدة أسطولهم ، الحربي والتجاري ، الكبير.

وفي سنة ٩٨٨ م تمرد المفرج على حكم الفاطميين ، بالتحالف مع سعد الدولة الحمداني. وعندما تولى الحاكم بأمر الله الخلافة الفاطمية (٩٩٦ ـ ١٠٢١ م) ، ومات المفرج (١٠١٣ م) ، انتهز الخليفة الفرصة للقضاء على سلطة بني الجراح. فأوفد جيشا من مصر ، وأمر آخر بالتحرك من الشام ، والتقى الاثنان في الرملة ، وأوقعا بحسان بن المفرج ، لكنه هرب ونجا. وبعد موت الحاكم بأمر الله ، عاد حسان واحتل الرملة سنة ١٠٢٤ م ، وذلك بالتحالف مع صالح بن مرداس ، على أساس أن للمرداسيين أراضي الحمدانيين سابقا ، ولبني الجراح فلسطين ـ ما يلي الرملة إلى حدود مصر. لكن الفاطميين عادوا وهزموه في طبرية سنة ١٠٢٩ م ، فقام بنو الجراح بمحاولة أخيرة سنة ١٠٤٢ م ، وكان حكم الفاطميين قد اهتز ، وطلائع السلاجقة دخلت بلاد الشام. فرحل بنو الجراح عن فلسطين ، ونزلوا منطقة البحيرة من أرض مصر.

وفي الأربعينات من القرن الحادي عشر ، بدأ السلاجقة يتسللون بأعداد محدودة إلى شمالي العراق وسورية. وكان هؤلاء الأتراك الغز ـ الذين دعوا سلاجقة على اسم زعيمهم سلجوق ـ قد دخلوا بلاد الإسلام تحت قيادته من منطقة القيرغيز في تركستان (٩٥٦ م). واعتنق هؤلاء الإسلام (السني) ، وراحوا يتوغلون في أراضي الإمارات والسلطنات الشرقية ، إلى أن دخلوا بغداد سنة ١٠٥٥ م ، بقيادة السلطان طغرل بيك وبطلب من الخليفة العباسي القائم (١٠٣١ ـ ١٠٧٥ م) ، فهرب من وجههم القائد العسكري التركي في بغداد ، البساسيري في آخر حكم البويهيين. لكن جماعات صغيرة من هؤلاء الأتراك كانت قد وصلت إلى سورية ، وحتى إلى فلسطين ، قبل ذلك ، ودخلت طرفا في الصراعات بين القوى المحلية ، كما حدث مع المرداسيين في حلب (١٠٦٠ م).

وفي السبعينات من القرن الحادي عشر ، كانت تسود بلاد الشام حالة من الفوضى وتدهور في الأوضاع الاقتصادية والسياسية. فالصراع بين الولاة الفاطميين ، وبينهم وبين زعماء القبائل العربية ، تفاقم بدخول الجماعات الغزية (الخوارزمية) وانخراطها في الصراع كمرتزقة. وقد استعان بإحدى هذه الجماعات (الناوكية) بدر الجمالي ، والي الشام الفاطمي الذي يحمل لقب أمير الجيوش ، لإخضاع القبائل

١٨٦

العربية. ولكنه سرعان ما اختلف معهم على الأتاوة ، فانقلب إلى التحالف مع القبائل عليهم ، فهزم الخوارزمية القبائل بقيادة أطسيز (أتسيز) عند طبرية (١٠٧١ م). وبعد صراع مع الجمالي ، حاصروه في طبرية ، واستولوا على الداخل ، بما فيه دمشق والقدس ، في حين ظلت مدن الساحل مع الفاطميين. وانتقل الخوارزمية بعد ذلك إلى حصار عكا وفتحوها (١٠٧٤ م). وتوجهوا إلى مصر ، لكنهم هزموا هناك. وفي هذه الأثناء ، ثارت فلسطين ضدهم ، فقمعوا الثورة بعنف ، واحتلوا القدس ثانية (١٠٧٥ م) ، وخربوا فيها كثيرا.

ولم تكن بلاد الشام عامة ، وفلسطين خاصة ، في أعلى سلم أولويات السلاجقة. في المقابل تشبّث الفاطميون بالساحل ، لأهميته الاقتصادية ، وخصوصا من ناحية التجارة مع بيزنطة. ولما استفحل أمر أطسيز في داخلها ، أرسل السلطان ملكشاه (١٠٧٢ ـ ١٠٩٢ م) أخاه تتش لإخضاعه. وفي سنة ١٠٧٨ م احتل تتش حلب وحمص ، وبعدهما دمشق (١٠٧٩ م) ، حيث استلم أطسيز ، فقتله تتش. وهذا الأخير لم يبد حماسة لقتال الفاطميين ، وتلكّأ حتى سنة ١٠٨٢ م ليحتل القدس. وكانت عين تتش على السلطنة بعد أخيه ملكشاه. ولما مات هذا الأخير ، قام تتش على ابن أخيه برقياروق ، فحاربه وقتل (١٠٩٤ م). وانتهز الفاطميون الفرصة ، ووسعوا سلطانهم في فلسطين انطلاقا من قاعدتهم في عسقلان. وفي سنة ١٠٩٦ م ، احتلوا القدس ، وبقيت في أيديهم ثلاث سنوات ، إلى أن دخلها الفرنجة سنة ١٠٩٩ م.

خامسا : مملكة أورشليم اللاتينية

شغلت الحملات الأوروبية المسيحية على الشرق الإسلامي ، خلال القرنين ، الثاني والثالث عشر والتي حملت اسم الصليبية ، المؤرخين في أزمنة متعددة ، وذلك لاستجلاء طبيعتها وأسبابها والقوى التي اندفعت إليها ، وبالتالي آثارها ونتائجها ، المباشرة وغير المباشرة ، ماديا وروحيا. وبغض النظر عن الأطروحات المتعددة على هذه الصعد ، فهناك شبه إجماع على أهميتها في التاريخ العالمي. وخلال قرون طويلة ظل المنظور العام لهذا الصراع ، الذي راحت عناصره تتجمع في الربع الأخير من القرن الحادي عشر الميلادي ، يركز على الجانب الديني ـ أي على اعتباره صراعا بين المسيحية والإسلام. وفي القرن التاسع عشر ، بدأت الدراسات النقدية تظهر في أوروبا ، في فرنسا أولا ، ومعها راحت تتكشف العوامل المتعددة التي تضافرت لتجعل مثل هذه الظاهرة (الحملات الصليبية) أمرا ممكنا.

وكان كلما تقدمت هذه الدراسات وتعمقت ، برزت الأسباب الدنيوية على

١٨٧

حساب الدينية ، من دون إلغائها تماما. فالدين ، وطوال قرون في العصور الوسطى ، وذلك على الجانبين ، كان يؤدي دورا رئيسيا في حياة الناس ، كقاسم مشترك للشعوب المنضوية تحت لواء القوتين العظميين المتناحرتين ـ الخلافة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية. ولتحريك الناس على الجانبين ، قبل اندلاع الصراع وبعده ، لجأ القائمون على إدارته إلى استثارة العواطف الدينية لحشد القوى وزجها في المعركة. وهذا يبرز من خلال الوثائق على الجانبين أيضا. والأطروحات التبريرية ، من هذا الجانب أو ذاك ، لا تضيف كثيرا لتوضيح القضايا ، بقدر ما تلقي عليها ظلالا من الغموض. والبحث الموضوعي يشير إلى أنه حتى في الحملة الأولى اقترنت الأهداف الدينية بالدنيوية ، وإزاء الحزب الديني كان هناك آخر سياسي. وبالتأكيد فإنه بمرور الزمن وتعاقب الحملات ، نما الطابع السياسي على حساب الديني لهذه الحروب.

إن الحكم على ظاهرة كالحملات الصليبية ، شكلا ومضمونا ، لا يستقيم من دون ربطها بالظواهر الأخرى التي واكبتها زمانا ومكانا ، لاستجلاء دوافعها ومسار تطورها وتبلور نتائجها. وفي هذه الحالة ، كثيرة هي الدراسات من منظور أحادي الجانب ، وبعضها ينطلق محكوما بموقف أيديولوجي مسبق ، يخرجها عن الجدية ، ويضعها في مصاف الأطروحات التبريرية. وإذا كان التاريخ ليس الحقيقة ، أو على الأقل ليس كلها ، فإنه بالتأكيد لا يستوي بتجاهلها ، وإنما على العكس ، يكتسب صدقية أكثر كلما توخاها وبحث عنها. وفي قضية خلافية كالحروب الصليبية ، وإذ تصعب معالجتها بتجرد ، فإن النزعة التبريرية ، أو التعبوية المنطلقة من اعتبارات آنية ، لا تصيب الهدف. لقد نشبت هذه الحروب بحركة تاريخية جدلية وذلك في ظروف الزمان والمكان ، وعلى المؤرخ الكشف عن عناصر هذه الحركة ، قدر المستطاع ، والتقليل قدر الإمكان ، من الإسقاطات الراهنة ، أو المواعظ الأخلاقية والتفسيرات التبريرية.

ويلفت النظر أنه في الكثير من الكتابات عن الحملات الصليبية يغيب دور بيزنطة فيها ، على الأقل في تبلور الفكرة ، ولاحقا في تجسيدها. ولأن الأطراف الفاعلة في الصراع كانت أوروبية غربية ، من جهة ، وشرقية إسلامية ، من جهة أخرى ، فقد جرى إغفال دور القوة الواقعة في الوسط ـ بيزنطة. كما تغيب عن الصورة العامة في معالجة هذه الحملات المقدمات التي مهدت السبيل أمامها. فطوال قرون كان هذا الصراع ، بصورة أو بأخرى ، مستعرا من إسبانيا في الغرب ، مرورا بالبحر الأبيض المتوسط وجزره المهمة ، وصولا إلى الشرق ـ بين بيزنطة والخلافة الإسلامية. وبناء على هذه الخلفية ، لم تكن الحملات الصليبية ظاهرة جديدة إلّا من حيث الإطار

١٨٨

العام. أمّا في الأساس ، فهي ، وبصورة عامة ، استمرار لصراع دام عدة قرون ، من دون أن يحسم لمصلحة أي من الطرفين.

والحقيقة التاريخية تفيد أنه منذ بروز العرب على مسرح التاريخ في الشرق الأدنى ، كقوة سياسية ذات وعي ذاتي بعروبتها ، كان ذلك على علاقة بالإمبراطورية الرومانية ووارثتها البيزنطية. فالأنباط والتدمريون والغساسنة ، وحتى اللخميون بمنظور معين ، خبروا علاقات صداقة وعداء مع هذه الإمبراطورية. وبظهور الإسلام ، وما تلا ذلك من حركة الفتوح ، تقدم العرب خطوة كبيرة نحو وراثة بيزنطة كدولة ذات منظور كوني. وقد تأرجحت هذه الفكرة في أفقها بين مدّ وجزر خلال العصور ، وبالتالي تقلب ردة الفعل البيزنطية على هذا التحدي. وكان الطابع الهجومي هو في الأغلب على الجانب الإسلامي ، بينما غلب على الجانب البيزنطي طابع الدفاع ، بعد النصر الذي حققه المسلمون في عصر الفتوح ، ولاحقا في أيام الأمويين. وفي فترات معينة من أيام العباسيين ، انتهز أباطرة بيزنطة الفرص المواتية للانتقال إلى حالة الهجوم بهدف استرداد ما فقدوه من أراض في الشرق. إلّا إن الحدود استقرت بصورة عامة بين دار الإسلام ودار الحرب.

وتعدد الكتابات المعاصرة أسبابا كثيرة للحملات الصليبية ـ دينية واقتصادية وسياسية ، واجتماعية .. إلخ. لكن أغلبية الكتّاب تكتفي بذكر الأسباب ، من دون تقديم بعضها على بعض ، أي ترتيبها بحسب الأهمية والأولوية ، وبالتالي أثرها المباشر في اندلاع الصراع. وعلى العموم ، فإن هؤلاء الكتّاب يتوجهون إلى دراسة التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في أوروبا ، من جهة ، وأوضاع المسيحيين في الشرق عامة ، والحالة في القدس خاصة ، من جهة أخرى. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الأسباب التي يرد ذكرها كانت في أغلبيتها قائمة منذ زمن طويل ، من دون أن تؤدي إلى حروب صليبية. وحروب الحدود ، وتعديلها في هذا الاتجاه أو ذاك ، ظلت مستمرة لفترة طويلة من دون أن تدفع إلى المواجهة العامة. وأوضاع المسيحيين في الشرق ، وكذلك الحالة في القدس ، لم يطرأ عليها تغيير جذري يستوجب مثل هذه الحرب الضروس. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصراع الاقتصادي والتطورات الاجتماعية في كل من أوروبا والشرق. ويبقى الحدث المهم الذي طرأ عشية تلك الحروب هو التهديد السلجوقي للقسطنطينية.

لقد سحق السلاجقة الجيش البيزنطي في معركة مانجكرت (ملازجرت) ، سنة ١٠٧١ م. وأقاموا سلطنة روم في قونيا (أيكونيوم ـ إزنك) ، في مقابل القسطنطينية (١٠٧٧ م). وفي السنة نفسها ١٠٧١ م ، دخل أطسيز القدس. أمّا إمبراطور بيزنطة

١٨٩

ألكسيوس كومنينوس (١٠٨١ ـ ١١١٨ م) الذي شعر بالخطر على عاصمته ، واقتنع بعجزه عن درئه ، فقد توجه إلى طلب المساعدة من البابا والغرب الكاثوليكي ، متذرعا بالقدس ، وإنقاذ الأمكنة المسيحية المقدسة فيها. ويلفت النظر أن ما تعرضت له القدس سابقا ، وحتى عندما أمر الحاكم بأمر الله بهدم كنيستي القيامة والصعود ، لم يحرّك أباطرة بيزنطة لتحرير قبر السيد المسيح. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصعوبات التي كان يلقاها الحجاج المسيحيون ، فقد ردّ عليها الأباطرة بأساليب أخرى تماما : مفاوضات وتهديد وضغوط وهدايا ومعاهدات .. إلخ. أمّا هذه المرة ، فقد أوقع الإمبراطور ألكسيوس كومنينوس ـ الضليع في مؤامرات البلاط البيزنطي ـ نفسه في الشرك الذي نصبه لغيره ، عندما حاول أن يحل مشكلاته على حساب البابا وحكام أوروبا الغربية ، فانقلب الأمر عليه.

كانت الكنيسة قد انقسمت رسميا سنة ١٠٥٤ م ، بعد فترة طويلة من الانقسام الفعلي إلى كنيسة شرقية (أورثوذكسية) ، وغربية (كاثوليكية) ، وبينهما عداء مستحكم.

وعندما توجه ألكسيوس كومنينوس إلى طلب المساعدة من البابا أربان الثاني ، انتهز الأخير الفرصة ، التي رأى فيها مناسبة لاستعادة وحدة الكنيسة تحت الكرسي الرسولي (الفاتيكان ـ روما). أمّا ألكسيوس ، فلم يكن يفكر بأكثر من دعم بالمقاتلين للصمود في وجه السلاجقة. ولذلك فوجىء عندما بلغه نبأ الدعوة إلى حملة صليبية ، والبدء بإعدادها. والفكرة التي دعا إليها البابا انطوت على حركة جماعية من شعوب غرب أوروبا ، تحت قيادة حكامهم ونخبة قادتهم العسكريين ، ولم تتوقف عند حدود الدفاع عن القسطنطينية ، بل تعدت ذلك إلى انتزاع القدس من أيدي المسلمين ، تحت شعار «هذه إرادة الله» ، وخلف راية «الصليب المقدس».

وكانت استجابة البابا لطلب النجدة من إمبراطور بيزنطة مزيجا من الواجب الديني والطموح السلطوي. فإلى جانب الشعور الديني تجاه مسيحيي الشرق وضرورة مساندتهم ، وكذلك إزاء استعادة السيطرة على الأمكنة المقدسة في الشرق ـ مهد المسيحية ـ كانت هناك رغبة جامحة لدى البابوات في تكريس سلطتهم على الكنيسة الموحدة. وكان الكرسي الرسولي ، أيام البابا غريغوريوس السابع ، قد عزّز موقعه إزاء حكام أوروبا خلال القرن الحادي عشر. وجاء بعده البابا أربان الثاني النشيط ، فعمل على تكريس الدور القيادي الذي تؤديه الكنيسة في أوروبا. وفي طلب المساعدة الذي تقدم به إمبراطور بيزنطة ، لاحت فرصة مواتية لتحقيق هذا الهدف. ورأى البابا أن اضطلاع الكنيسة الكاثوليكية الغربية بالدور المركزي في الحملات الصليبية ، سيمكنها من احتلال الموقع القيادي المرغوب ، دينيا وسياسيا ، في الشرق كما في الغرب ،

١٩٠

فانطلق للعمل بما أوتي من نشاط.

وتحت غطاء الدعوة من قبل إمبراطور بيزنطة ـ رئيس الكنيسة الشرقية الرسمي ـ وبناء على المباركة ، بل التحريض ، من قبل البابا ـ رئيس الكنيسة الغربية ، الرسمي والفعلي ـ وجدت الفئات والقوى المتعددة في أوروبا التبرير الذاتي لانخراطها في الحملات الصليبية ، وكل منها بمنظوره الخاص ، فلم تكن هناك وحدة فكرية وتنظيمية بين تلك القوى ، إنما في أحسن الأحوال إطار عام. ولا بدّ من الإشارة إلى أن عملية الانتقال من الفكرة المجردة للقيام بحملات صليبية إلى التطبيق الفعلي ، كان يستلزم ظروفا موضوعية وذاتية في أوروبا. كما أن نجاح هذه العملية كان يستوجب الأوضاع ذاتها في الشرق ، وإلّا لما خرجت العملية إلى حيز التنفيذ. إن انتقال المواجهة بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي من حالة الحرب الباردة إلى الحرب الساخنة ، كان بالضرورة نتيجة احتدام التناقض بين الطرفين ، الأمر الذي أدّى إلى اندلاع الصراع بهذه الدرجة من الحدة ، بعد أن ظل فترة طويلة لا يتعدى المناوشات على الأطراف.

وبداية يجب التشديد على أهمية الدين في حياة الناس خلال القرون الوسطى. وكما سعى الإمبراطور البيزنطي لجعل المسيحية دين الدولة والقاسم المشترك بين شعوبها ، كذلك فعل العباسيون بالتشديد على أن الإسلام ، وليس العروبة ، هو الأساس لوحدة شعوب الخلافة. وعشية الحروب الصليبية ، كانت الأجواء العامة ، سواء في الشرق أو في الغرب ، مشحونة بالشعور الديني. فدخول السلاجقة إلى أرض الخلافة في القرن الحادي عشر ، عزز موقع السنّة إزاء الشيعة ، خلافا لما كان عليه الحال في القرن العاشر. في المقابل ، شهد القرن الحادي عشر في أوروبا حركة إحياء ديني واسعة النطاق ، وخصوصا بين الطبقات الشعبية ، شكّلت التربة الخصبة التي تنامت فيها الأفكار الصليبية. وعندما جاءت الدعوة إلى القيام بحملات عسكرية تحت راية الصليب ، كانت الاستجابة الشعبية واسعة أيضا.

وفي الجانب الديني ، التقت المشاعر الشعبية العفوية مع خطة البابوات المبرمجة لاستعادة الكنيسة الشرقية إلى أحضان الكرسي الرسولي في روما. وقد أدّى رهبان دير كليني (فرنسا) دورا مهما في حركة الإحياء الديني ، إذ عمق هؤلاء الشعور الذاتي بالذنب لدى الناس ، في واقع اجتماعي صعب ، ساد فيه الإحباط قطاعات شعبية واسعة. وللتكفير عن خطاياهم ، دعا الرهبان الناس إلى الزهد والعزلة والأعمال الروحية والحج. وحتى اللاهوت والفلسفة في تلك الفترة اكتسبا طابعا صوفيا ، وازدهرت الرهبنة. أمّا البابوات ، فقد شعروا بقوتهم في القرن الحادي عشر ، وخصوصا أيام غريغوريوس السابع. وجاء بعده أربان الثاني ليدفع مسيرة تعزيز موقع

١٩١

الكنيسة إلى الأمام. ولذلك رأى في الحملات الصليبية سبيلا إلى ذلك ، فكانت استجابته لطلب المساعدة من إمبراطور بيزنطة أقوى من توقعات هذا الأخير أو رغباته.

وفي الجانب الدنيوي ـ السياسي والاقتصادي والاجتماعي ـ تقاطعت مصالح شرائح طبقية متعددة للنظر بإيجابية عالية إلى فكرة الحملات الصليبية. ومع أن هذه الشرائح كانت شريكة بالعاطفة الدينية ، إلّا إن الحوافز الأخرى كانت قوية أيضا ، وأحيانا طاغية. فبالنسبة إلى الطبقات العليا ـ الملوك والبارونات والنبلاء والفرسان ـ كانت الحملات الصليبية فرصة مواتية لتلبية النزعات القتالية وميول المغامرة وحب الثروة والغنائم والطمع في تأسيس إقطاعيات جديدة ، إضافة إلى الاسم والجاه والسمعة ... إلخ. أمّا في الطبقات الدنيا ، التي اجتاحتها الغرائز الدينية ، فقد ساد الاعتقاد أن الحملات الصليبية هي مناسبة لتغيير أوضاعها الاجتماعية : التخلص من القنانة وتأجيل دفع الديون أو الإعفاء منها والحصول على ملكية جديدة والتحرر من الظلم الإقطاعي .. إلخ. وبالنسبة إلى هؤلاء لم يكن هناك ما يخسرونه في المغامرة والانضمام إلى حملة صليبية تحملهم إلى الشرق الذي تصوروه مصدرا للثراء ، واعتقدوا أن أرضه الخصبة «تدر اللبن والعسل».

خلاصة القول إن أوروبا القرن الحادي عشر كانت مهيّأة ـ ماديا ومعنويا ـ لقبول فكرة الحروب الصليبية والانطلاق لتجسيدها. فالأوضاع الاجتماعية الصعبة ـ الفقر وضيق رقعة الأراضي الزراعية وازدياد عدد السكان وتواتر الكوارث الطبيعية والأوبئة ـ والنزعات التوسعية والطمع في ثروات الشرق وطموح الأمراء والنبلاء الصغار في تأسيس إقطاعيات خاصة بهم وروح المغامرة لدى الفرسان ، كانت كلها عوامل فاعلة في تشكّل ظاهرة الحملات الصليبية ، فكرا وممارسة. وأعطت حركة الإحياء الديني حلا للمشكلات يتمثل بالتوبة والزهد والتصوف ، والمهم التكفير عن الخطايا بالعمل في سبيل الدين ، واستعادة السيطرة على الأمكنة المقدسة ـ كنيسة المهد والقيامة والصعود ـ المتعلقة بحياة «المسيح المخلص». ومن هنا التجاوب الواسع مع حرب دامية تحت شعار «هذه إرادة الله» وخلف لواء «الصليب المقدس» وبقيادة «الكرسي الرسولي». وجاء تهديد السلاجقة إلى القسطنطينية ليفجر هذه النزعات الكامنة ، ويحوّلها إلى حملات عسكرية تغزو الشرق الإسلامي.

في المقابل ، وخلال ما يزيد عن أربعة قرون ، ظل المسيحيون في أراضي الخلافة يمارسون حياتهم وشعائرهم الدينية بحرية ، ما عدا فترات قصيرة ، كانت بمثابة الشاذ وليس القاعدة. وقد احتفظ هؤلاء بأمكنتهم المقدسة ، ولم تتدخل السلطة كثيرا في شؤونها وإدارتها. والأمر بهدم كنيسة القيامة (١٠٠٩ م) من قبل الحاكم بأمر الله ،

١٩٢

جرى التخلي عنه سريعا وإصلاح نتائجه. وكذلك ، فالحجاج المسيحيون إلى القدس وغيرها ، ظلوا يقدمون من دون عقبات تذكر. ويلفت النظر أن قوافل الحجاج في القرن الحادي عشر ، راحت تتخذ صيغة مغامرات دينية وتجارية وعسكرية في آن معا. وتفيد المصادر أن السلاجقة زادوا في مضايقة هؤلاء الحجاج في طريقهم إلى فلسطين عبر القسطنطينية. وفي الإمكان تشبيه هذه القوافل برحلات قريش التجارية قبل الإسلام. وكما أفاد المسلمون من الخبرات التي تراكمت لديهم في حركة الفتوح ، هكذا أفاد قادة الحملات الصليبية من الخبرات التي اكتسبت عبر قوافل الحجاج.

ومنذ القدم كانت تجارة البحر الأبيض المتوسط موضوع علاقات بين الشعوب الواقعة على سواحله ، أو حروب بينها. والقسطنطينية كانت قبل الفتح العربي تهيمن على هذه التجارة ، فانتزعها العرب منها ، لكن العلاقات التجارية ظلت مستمرة. والاعتبار التجاري بين إسبانيا والهند عبر مصر ، كان من الأسباب التي دفعت الفاطميين إلى نقل عاصمتهم إلى القاهرة ، كما جعلتهم يتشبثون بالمدن الساحلية على الشاطىء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. في المقابل ، تشبث البيزنطيون بأنطاكيا كمحطة أخيرة لتجارة الشرق الأقصى عبر طريق الحرير. وفي القرن الحادي عشر ، نشطت المدن الإيطالية ـ فينيسيا وجنوة وبيزا ـ التي قامت على التجارة البحرية بالاعتماد على أساطيلها ، فكانت بينها وبين الفاطميين صدامات في شمال إفريقيا وجزر البحر الأبيض المتوسط. وانخرط النورمان في هذا الصراع ، فاحتلوا صقلية. وفي سنة ١٠٨٢ م عقد الإمبراطور ألكسيوس كومنينوس اتفاقا مع فينيسيا (جمهورية سان مارك) ، فتح أمامها المراكز البيزنطية للتجارة ، فأصبحت مصالحها حافزا قويا لها على الانخراط في الحملات الصليبية ، وخصوصا عبر أسطولها ، الذي أدّى دورا في نقل المحاربين الصليبيين إلى الشرق.

أ) الحملة الأولى

لقد طلب إمبراطور بيزنطة مساعدة عسكرية هي جيش من المرتزقة للدفاع عن عاصمته. ولم يفكر في مسيحيي الشرق ، ولا في الأماكن المقدسة في فلسطين ، إذ غابت هذه المسألة عن أذهان أباطرة بيزنطة منذ زمن طويل. وجاء الرد الأوروبي غير متوقع ، حملة صليبية ، الأمر الذي أربك الإمبراطور ، طالب المساعدة ، ووضعه في موقف حرج إزاء ما يجب عمله. ففي كليرمونت (وسط فرنسا) عقد المجمع الشهير في تشرين الثاني / نوفمبر ١٠٩٥ م ، حيث ألقى البابا البليغ أربان الثاني ، خطابا حماسيا ألهب المشاعر الدينية لجماهير غفيرة تجتاحها العواطف الدينية. وانتهى إلى

١٩٣

الدعوة إلى حمل السلاح «لحماية المسيحيين في الشرق من الاضطهاد ، وتحرير كنيسة القيامة والمسيحية الشرقية عامة.» وتعالت الصرخات العفوية «هذه إرادة الله» ، واندفع الناس نحو البابا مؤيدين دعوته. ووعد هؤلاء بمحو الخطايا والإعفاء من الديون وحماية الممتلكات ورعاية الأسر في أثناء الغياب. لم يكن هناك إلزام ، لكن التراجع غير مقبول ـ المرتدون سيحرمون من الكنيسة. ومن فرنسا انتشرت الحماسة إلى بقية أجزاء أوروبا. لقد كانت فرنسا السبّاقة ، فأعطت الحملات اسمها ـ حملات الفرنجة.

وفكرة الحملة الصليبية كانت غريبة على بيزنطة ، قمة وقاعدة شعبية على حد سواء. فقد كان الهم الوحيد لديها مواجهة الخطر السلجوقي. وبيزنطة نظرت إلى الصليبيين بارتياب وازدراء ، ورأت فيهم برابرة ، شأنهم في ذلك شأن السلاجقة الذين يهددون الإمبراطورية من الشرق أو قبائل السلاف من الشمال الشرقي. وزاد في اقتناعهم بهذا المنظور طلائع الحملة الصليبية الأولى ، التي قادها الراهب بيتر (من أميين). فقد بادر هذا بعد مجمع كليرمونت بحماسة شديدة إلى حشد المقاتلين من الفلاحين الفقراء والطبقات الرثة من المدن واللصوص والمتسولين وصغار الفرسان المغامرين. وتحركت هذه الجموع من دون تدريب أو تموين أو قيادة حقيقية ، أو حتى سلاح. وفي طريقها من فرنسا إلى ألمانيا ـ هنغاريا ـ بلغاريا ـ القسطنطينية ، عاثت فسادا ، جعل السكان على طول الطريق يهاجمونها. وعندما اقتربت من القسطنطينية ، وكانت سمعتها السيئة قد سبقتها ، سارع الإمبراطور المعروف بدهائه إلى نقلها عبر المضيق إلى شاطىء آسيا الصغرى ، حيث تركها طعمة لسيوف السلاجقة في سلطنة روم ، لأنها لم تتجاوز حدودها.

وتركت حملة بيتر آثارا سلبية على الجانبين. فسلوكها الفوضوي على طول الطريق إلى القسطنطينية أثار ردات فعل عنيفة ضدها من قبل سكان المناطق التي مرت بها ، ووقعت بين الطرفين اشتباكات دموية. وفي القسطنطينية ، سارع الإمبراطور إلى نقل أفرادها إلى آسيا الصغرى من دون إعداد ، فوقعوا فريسة سهلة في أيدي السلاجقة. وفي الجانب الآخر ، أدّت السهولة التي تمّ فيها القضاء على هذه الحملة إلى اقتناع السلاجقة بالقدرة على سحق الحملات الصليبية اللاحقة ، ما دام هذا هو طرازها ، فلم يتخذوا الاستعدادات اللازمة لمواجهة الخطر الداهم. وعندما جرت المواجهة الحقيقية ، كان النصر حليف الصليبيين ، كونهم أخذوا كل إمارة سلجوقية على حدة. وفي الواقع ، فإن نجاح الصليبيين بصورة عامة كان نتيجة مباشرة لحالة التدهور السياسي التي عاشها الشرق الإسلامي في حينه.

وفي صيف سنة ١٠٩٦ م ، أي بعد مرور عام على مجمع كليرمونت ، وبعد فناء

١٩٤

حملة بيتر الراهب ، بدأت قوات الحملة الصليبية النظامية الأولى تتجمع في غرب أوروبا. لم يشارك فيها ملوك أوروبا ، وإنما الكونتات والدوقات والأمراء فقط. ويبرز بين هؤلاء : غودفري دو بويون (دوق لورين) ، وأخوه بولدوين ، اللذان أصبحا لاحقا ملكين في مملكة أورشليم اللاتينية ، وروبرت (دوق نورماندي) ، أخو ملك بريطانيا وهيو (كونت فيرماندوا) ، أخو ملك فرنسا وروبرت الثاني (كونت فلندرز) المعروف ب «الفظ» وريموند (كونت طولوز) وبوهيمند (النورماني) وقريبه تانكرد ، من جنوب إيطاليا. وكان هذان الأخيران الأقل حماسة دينية ، والأكثر طمعا ماديا ، وكانت لهما عداوة مع إمبراطور بيزنطة ، وقد راودتهما أحلام احتلال القسطنطينية. وكان جيشهما هو الأكبر في هذه الحملة متعددة القادة. وإلى جانب القادة العسكريين ، انضم إلى الحملة بطرس الناسك والأسقف أديمار ، ممثلين الكنيسة.

وكان على هذه الجيوش أن تتجمع في القسطنطينية قبل الدخول إلى أراضي السلطنة السلجوقية ، فأخذ بعضها طريق البر ، والآخر طريق البحر. ولم تكن لتلك الجيوش المتعددة قيادة موحدة ، أو خطة شاملة. وكانت فرنسا تشكّل الثقل الرئيسي في الحملة. وتركت هذه الجيوش أيضا أثرا سلبيا في سكان المناطق التي عبرتها ، لكنها كانت أكثر إزعاجا للإمبراطور ألكسيوس. لقد أراد هذا اعتبارهم مرتزقة ، وطالبهم أن يقسموا يمين الولاء له ، بصفته الحاكم الأعلى ، لكن ذلك لم يحدث ، وحتى الاتفاقات التي تمّ التوصل إليها ، بإعادة أملاك الإمبراطور التي أخذها منه السلاجقة عند انتزاعها منهم ، لم يجر الوفاء بها. ومع ذلك ، وعلى الرغم من الاتهامات والشكوك المتبادلة بين الأطراف جميعها المنخرطة في العملية ، فقد تمّ نقل القوات إلى آسيا الصغرى ، بمساعدة أسطول بيزنطة ، وبدأت الحرب ، بمشاركة اسمية من جيش الإمبراطور ، مع السلاجقة في سلطنة روم ، التي لم يأت أحد لنصرتها من الإمارات الأخرى.

وبداية في حزيران / يونيو ١٠٩٧ م ، وبعد حصار قصير ، استسلمت نيقيا ، فأعيدت إلى بيزنطة بحسب الاتفاق مع الإمبراطور. وبعدها في تموز / يوليو ١٠٩٧ م سقطت دوريليوم ، وبالتالي سقط غرب آسيا الصغرى وأعيد إلى البيزنطيين ، وانسحب السلاجقة إلى الداخل. ثم توجه جزء من الصليبيين ، بقيادة بولدوين ، في اتجاه إديسّا (الرها) وفتحها (١٠٩٨ م) وأقام فيها أول إمارة لاتينية في الشرق ، فأصبحت بواقع الجغرافيا خط الدفاع الأول عن الإمارات الصليبية الأخرى في مواجهة السلاجقة. أمّا الجزء الآخر ، وهو الأكبر ، فقد تقدم لحصار أنطاكيا في تشرين الأول / أكتوبر ١٠٩٧ م ، وطال الحصار تسعة أشهر ، حاول في أثنائها الفاطميون

١٩٥

التوصل إلى معاهدة مع الصليبيين ، يقتسم بموجبها الطرفان الساحل السوري. لكن المفاوضات التي أفادت الصليبيين ، ومكنتهم من احتلال أنطاكيا في حزيران / يونيو ١٠٩٨ م لم تؤدّ إلى اتفاق. وفي أنطاكيا ، وعلى الرغم من معارضة قادة الجيوش الأخرى ، أقام بوهيمند النورماني إمارة ثانية ، أثارت غضب الإمبراطور ألكسيوس ، الذي رأى فيها خطرا يهدد بيزنطة نفسها.

وبعد تلكؤ دام عدة أشهر ، بسبب الخلافات الداخلية ، والتي انتهزها سلطان الموصل ، برقياروق ، لمحاصرة الصليبيين في أنطاكيا ، إذ ضيق الخناق عليهم من دون القدرة على دحرهم ، واصلوا تقدمهم جنوبا في اتجاه فلسطين. فأخذوا معرّة النعمان ، وقاموا بمذبحة كبيرة فيها ، ومنها انتقلوا إلى شيزر ، فوادعهم صاحبها ، ثم إلى عرقة ، فحاصروها ، وكانت وجهتهم الطريق الساحلي. وجاءهم وفد فاطمي للتفاوض مرة أخرى ، ولكن من دون جدوى ، فسارع هؤلاء إلى تعزيز مواقعهم الدفاعية في صور وعكا والقدس (١٠٩٨ م). وأخذ الصليبيون طرابلس ، وأقاموا فيها لاحقا إمارة ثالثة ، على رأسها ريموند دو طولوز. وتابعوا تقدمهم جنوبا مرورا ببيروت من دون احتلالها ، وكذلك صيدا وصور ، لأن هذه المدن لم تبد مقاومة ، بل قدمت لهم المؤن والتسهيلات. واختار القادة الصليبيون التقدم نحو القدس ، تحت ضغط جموع المقاتلين لاستكمال الحج إلى الأماكن المقدسة.

وتخلف عدد من المقاتلين في الإمارات التي تأسست حديثا ـ إديسا وأنطاكيا وطرابلس ـ ولم يبق كثيرون منهم للزحف على القدس. واستجاب ريموند دو طولوز لنداء غودفري دو بويون وتابعا طريقهما إلى القدس. وفي أيار / مايو ١٠٩٩ م ، ظهر هذا الجيش على الطريق الساحلي المؤدي إلى فلسطين من لبنان. وأفزع ظهوره حكام المدن الساحلية ، فوافقوا على تقديم المؤن والمال للصليبيين في مقابل تخطي هؤلاء مدنهم من دون حصار. وسار الجيش الصليبي أمام عكا وحيفا وأرسوف ، ووصل إلى قيساريا. ومن هناك انعطف إلى الرملة ، عاصمة فلسطين ، فهجرها أهلها ، واحتلها الصليبيون ، وتابعوا مسيرتهم إلى القدس. وامتنعت عليهم المدينة ، فحاصروها من ٧ حزيران / يونيو إلى ١٥ تموز / يوليو ١٠٩٩ م. وسقطت في أيديهم ، وقاموا بمذبحة رهيبة بالسكان المحليين ، الذين يقدر عددهم ما بين ٢٠ إلى ٣٠ ألف نسمة. واستنكف ريموند ، لأسباب دينية ، عن تولي الملك في القدس ، وقبل به غودفري ، وحمل لقب «بارون ـ حامي كنيسة القيامة المقدسة». أمّا ريموند فعاد لإقامة إمارته في طرابلس ، بلقب كونت.

وبعد تأسيس مملكة أورشليم اللاتينية ، توجه قادتها إلى استكمال احتلال ساحل

١٩٦

البلاد وداخلها. وفي الواقع ، فإنهم حتى قبل دخول القدس كانوا قد قطعوا شوطا على هذا الصعيد. وكانت بيت لحم قد استسلمت ، وكذلك فعلت أريحا ونابلس ، عندما استولى تانكرد ، قريب بوهيمند ، على طبرية وبيسان ، وجعل طبرية عاصمة لإمارة الجليل ، التي لم تعمّر طويلا. وبعد أن سيطروا على الداخل ، وجد الصليبيون أنفسهم في موقف حرج ، ذلك لأن الساحل لم يكن بأيديهم ، الأمر الذي عزلهم عن أوروبا ـ مصدر تزويدهم بالعتاد والمؤن والرجال والخيل والمال. وصحا الفاطميون على هذه الحقيقة ، ولو متأخرا ، وحاولوا استغلال هذا الواقع ، لكنهم لم يفلحوا كثيرا ، في غياب النية الجادة ، بل القدرة العملية ، على اقتلاع الصليبيين من الشرق. لقد كانت أولوية الفاطميين تتمحور حول الصراع الداخلي والتنافس مع السلاجقة ، فسعوا للتفاهم مع الصليبيين. وبذلك فوتوا على أنفسهم فرصة جيدة لاجتثاث الخطر الصليبي في المهد ، وهو يعاني حالة الضعف والعزلة.

وعندما حاول الفاطميون مواجهة الصليبيين ، هزموا في معركة برية بالقرب من عسقلان في آب / أغسطس ١٠٩٩ م ، انتقل بعدها الصليبيون لاستكمال احتلال مدن الساحل : فسقطت يافا ، بعد أن هجرها سكانها ، وتحولت إلى الميناء الرئيسي الذي عبره جرى تزويد المملكة الجديدة بوسائل الحياة من أوروبا. وفي هذه الأثناء مات غودفري ، واحتل مكانه أخوه بولدوين ، الذي انتقل من إديسا إلى القدس. وباعتلائه عرش المملكة ، تحرك بنشاط كبير. وخلال عشر سنوات أصبحت أغلبية مدن الساحل في يده ، الأمر الذي مكّن أساطيل المدن الإيطالية التجارية من التصدي للأسطول الفاطمي القوي ، والحؤول دون تمكنه من إقامة رأس جسر على الساحل لمقاتلة المملكة اللاتينية. وفي المقابل ، تعهدت تلك الأساطيل بنقل أنواع الدعم اللازم جميعها لهذه المملكة ، التي لا تزال في طور التكوين ، من أوروبا ، لقاء امتيازات تجارية تمنح للمدن الإيطالية في مدن الساحل السوري التي تقع في أيدي المملكة. وبمساعدة أساطيل المدن الإيطالية ، جرى احتلال مدن الساحل ، وبالتالي إقامة الصلة مع الإمارات الأخرى في الشرق ـ أنطاكيا وطرابلس. ففي آب / أغسطس ١١٠٠ م سقطت حيفا ، وكان ميناؤها يضم دارا لصناعة السفن ، أقامه الفاطميون. وبعدها أرسوف في نيسان / أبريل ١١٠١ م ، ثم قيساريا في السنة نفسها. أمّا عكا فصمدت بفضل أسوارها القوية إلى أيار / مايو ١١٠٤ م. وبقيت بيروت حتى سنة ١١١٠ م ، وكذلك صيدا. أمّا صور فقد قاومت حتى سنة ١١٢٤ م ، الأمر الذي اضطر الصليبيين إلى إقامة قلعتين للدفاع عن الطريق المؤدي منها إلى الداخل : الأولى في تبنين (١١٠٧ م) ، والثانية إسكندرون (١١١٦ م). أمّا عسقلان ، فقد ظلت قاعدة

١٩٧

فاطمية ، تشكل خطرا على المملكة الصليبية حتى سنة ١١٥٣ م ، وعندما سقطت أصبح الساحل بأكمله تحت سيطرة الصليبيين. وخلال أكثر من خمسين عاما ، ظلت المناوشات مستمرة بين الفاطميين ومملكة أورشليم اللاتينية.

لكن الصراع بشأن السلطة في القاهرة ، من جهة ، والعداء بين الفاطميين الشيعة في مصر ، والسلاجقة السنّة في دمشق ، من جهة أخرى ، قد حالا دون تعاون الطرفين على القضاء على المملكة الصليبية ، الأمر الذي يبدو أنه كان ممكنا في حينه ، أخذا في الاعتبار موازين القوى. ومع ذلك ، استمر الفاطميون ، من قاعدتهم في عسقلان ، في مهاجمة أراضي المملكة الصليبية. وبدا أحيانا أن الفاطميين كانوا قريبين جدا من تحقيق نصر حاسم ، وخصوصا أن قوات المملكة كانت صغيرة ، إذ يقدر عددها ب ٣٠٠ فارس و ١٢٠٠ جندي مشاة. لقد هاجم الفاطميون مدينة الخليل سنة ١١٠٧ م والقدس في سنتي ١١١٠ و ١١١٣ م. وقاموا بغارات وإنزالات بحرية على يافا في السنوات ١١٠٣ و ١١٠٦ و ١١١٥ و ١١٢٣ م. وكذلك فعلوا في صيدا وبيروت في السنوات ١١٠٨ و ١١٢٦ و ١١٥٠ و ١١٥٩ م. وفي إحدى الحملات على القدس دمروا حصن بيت نوبا الاستراتيجي على الطريق من الرملة إليها ، وفي مرة أخرى دمروا البيرة (١١٢٤ م) على الطريق بين القدس ونابلس.

وطالما ظلت عسقلان في أيدي الفاطميين ، ظل خطرها على مملكة أورشليم اللاتينية ماثلا. ولذلك حاول الصليبيون مرارا احتلالها ، واجتثاث هذا الخطر ، ولكن من دون جدوى. ومع أنهم دخلوها لمدة عام (١١١٠ ـ ١١١١ م) ، إذ سلمها لهم قائد الحامية الفاطمية ، إلّا إن السكان ثاروا عليهم وطردوهم ، وأعادوا تحصين المدينة. وعلى الرغم من تراجع التهديد الفاطمي بعد معركة يبنى في أيار / مايو ١١٢٣ م ، فإن المناوشات ظلت مستمرة. ولجأ الصليبيون إلى إقامة عدد من الحصون الدفاعية لصد الهجمات الفاطمية. فأعادوا ترميم قلعة بيت نوبا (أرنول) ، بين اللطرون والقدس (١١٣٢ م) وبنوا قلعة بيت جبرين (جبلين) ، على الطريق إلى الخليل (١١٣٧ م) ، وقلعة يبنى (يبلن) على الطريق إلى يافا والرملة (١١٤٤ م). كما بنوا قلعة تل الصافي (بلانشغارد) على الطريق إلى القدس (١١٤٤ م). وفي سنة ١١٥٠ م أقاموا قلعة في غزة ، وأخرى في دير البلح (دارون) ، فقطعوا طريق عسقلان البري إلى مصر ، وضيقوا الخناق على القاعدة الفاطمية ، إلى أن سقطت سنة ١١٥٣ م.

وبعد تأسيس مملكتهم في القدس ، راح الصليبيون يوسعون أراضيها في الاتجاهات جميعها ، سواء لأسباب دفاعية أو عدوانية. فاتجهوا إلى الجولان والحوران ، حيث اصطدموا مع حكام دمشق ، وتوصلوا معهم إلى اتفاق على

١٩٨

اقتسام خراج الأرض ، فكان للصليبيين الثلث. وأقاموا في هذه الناحية عدة حصون ، منها البردويل (على اسم بولدوين) وحبيس جلدك وبانياس (١١٢٩ م). وكانت بانياس ذات أهمية لموقعها الذي يهيمن على الطريق بين دمشق ومينائها الطبيعي ـ صور. فلذلك استردها حكام دمشق سنة ١١٣٢ م ، وعاد الصليبيون فانتزعوها منهم سنة ١١٤٠ م. وفي الجنوب ، توسعوا في أدوم ومؤاب ، واحتلوا أيلة (العقبة) سنة ١١١٣ م. وفي شرقي الأردن ، سيطروا على وادي موسى (١١٠٧ م) ، وبعده أخذوا الشوبك (١١١٣ م) وبنوا فيها حصن مونتريال. وأخيرا استولوا على الكرك (١١٤٢ م) ، وحصنوها ، وبذلك سيطروا على تقاطع الطرق الاستراتيجي بين سورية وكل من مصر والجزيرة العربية (طريق الحج).

والحملة الصليبية الأولى ، التي انتهت بتأسيس مملكة أورشليم اللاتينية ، وعدة إمارات أخرى ، أهمها ثلاث ـ أنطاكيا وإديسا وطرابلس ـ أوجدت مشكلة معقدة الجوانب ومتعددة الأطراف في الشرق. فإضافة إلى الخلافات بين هذه الكيانات ، على التراتبية الإقطاعية والموارد والتجارة والأراضي .. إلخ ، فقد تفاقمت علاقاتها مع بيزنطة ، من جهة ، ومع الفاطميين والسلاجقة ، من جهة أخرى ، بسبب نزعتها التوسعية العدوانية. وبداية أدارت هذه الكيانات ظهرها إلى بيزنطة ، ولم تعترف بسيادة الإمبراطور عليها ، كما أنها اعترفت بقيادة اسمية فقط لملك أورشليم. وفي خضم هذا الصراع ، تبدلت التحالفات بين عشية وضحاها ، فأصبح حلفاء الأمس أعداء اليوم ، أو العكس. وكان الأخطر على بيزنطة إمارة أنطاكيا ، التي شكّل حكامها النورمان عنصر توتير مستمر ، سواء مع بيزنطة ، أو مع السلاجقة ، عبر مغامراتهم التوسعية. وانحازت إمارة طرابلس إلى بيزنطة ، وهذه الأخيرة تحالفت أحيانا مع بعض السلاجقة ضد أنطاكيا ، التي بدورها تحالفت مع البعض الآخر من السلاجقة ضد بيزنطة وحلفائها. والتطورات التي عقبت هذه الحملة نفت عنها كل سمات بدايتها كحملة صليبية هدفها المعلن تخليص الأماكن المسيحية المقدسة من أيدي المسلمين.

ب) الحملة الثانية (١١٤٦ ـ ١١٤٩ م)

إن الصراعات بين الكيانات الصليبية ذاتها ، وبينها وبين الإمبراطورية البيزنطية ، جعلت الفرصة مهيّأة أمام السلاجقة لاستعادة الأراضي التي خسروها. وفي مغامراته العسكرية ، وقع بوهيمند أسيرا في يد القائد أمير مالك غازي ، من سلالة دانشمند التركية. ولاحت أمام الإمبراطور (ألكسيوس) فرصة لانتزاع أنطاكيا منه. وجرى

١٩٩

التفاوض على افتداء بوهيمند ، وبعد أن تمّ ذلك ، رفض تسليم أنطاكيا للإمبراطور. ثم ألحق به السلاجقة هزيمة منكرة في حرّان سنة ١١٠٤ م ، إذ خسر معظم الأراضي التي احتلها في سورية. وفي إثر الهزيمة تحقق بوهيمند من عبثية محاولاته إقامة مملكة نورمانية قوية في الشرق ، وهو بين مطرقة السلاجقة وسندان بيزنطة. فعاد إلى إيطاليا ليجمع جيشا يحتل به القسطنطينية ، وقوبل بحماسة في إيطاليا ، لكن الحملة فشلت ، وهزم بوهيمند ، وأجبر على قسم الولاء للإمبراطور. لكنه عاد ونقض القسم ، ثم مات ، كما مات الإمبراطور ألكسيوس ، وانفتح الصراع بين الطامعين بالميراث.

في المقابل كانت مملكة أورشليم اللاتينية تتوسع في محيطها ، وفي الاتجاهات جميعها. وقد حرك ذلك ردات فعل ، ولّدت حالة من النهوض في الموصل ، شجع عليها عدد من الانتصارات التي حققها حكام المقاطعات ضد إمارات الشمال الفرنجية ، وكذلك الصراع بين هذه الإمارات وبيزنطة. ففي الموصل بدأت حركة (١١١٣ م) لتوحيد الإمارات الإسلامية في العراق وسورية ، من أجل عمل مشترك ضد الفرنجة. ووصلت هذه الحركة ذروتها أيام عماد الدين زنكي (أتابك عساكر الموصل) ، الذي برز (١١٢٧ ـ ١١٤٦ م) واستطاع فرض سلطته على حكام المقاطعات في العراق وسورية ، ما عدا دمشق ، التي تشبث حاكمها باستقلاله ، فظل موضوعيا في الخندق المعادي لعماد الدين ، وبالتالي إلى جانب الصليبيين. وبعمله هذا فتح عماد الدين زنكي مرحلة جديدة من الاشتباك مع الفرنجة ، امتدت إلى أيام ابنه نور الدين زنكي ، ومن بعده صلاح الدين الأيوبي وصولا إلى المماليك ، الذين على أيديهم تمت تصفية مملكة أورشليم اللاتينية في مدينة عكا (سان جان داكر).

وكانت النتيجة الأولى والمباشرة لتوحيد المقاطعات السلجوقية بقيادة عماد الدين زنكي تصفية إمارة إديسا الصليبية (١١٤٤ م). وبذلك انكشفت الحدود الشمالية ـ الشرقية للإمارتين الأخريين ـ أنطاكيا وطرابلس ـ بينما ظلت دمشق تقف حاجزا بين زنكي في الموصل ، ومملكة أورشليم اللاتينية. وحتى في ظل هذه الأوضاع دأب الفرنجة على التحرش بحاكم دمشق ، والعمل على انتزاع بعض الأراضي منه ، وإقامة إمارات جديدة في بصرى وصلخد (١١٤٧ م). ثم ارتكبوا الخطأ القاتل في الحملة الثانية ، إذ هاجموا دمشق ، فدفعوها إلى أحضان نور الدين زنكي ، الذي دخلها سنة ١١٥٤ م. فأصبح على تماس مع مملكة أورشليم ، بينما هو يستند إلى دولة قوية موحدة في سورية والعراق ، ما عدا الشريط الساحلي وفلسطين. وبذلك دخل الصراع مرحلة جديدة ، قادها نور الدين زنكي بنشاط ، وراح يعد لتصفية الوجود الصليبي في الشرق.

٢٠٠