الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

الانتداب دوليا. وقد تمّ ذلك في ٢٤ تموز / يوليو ١٩٢٢ م ، إذ صادق عليه مجلس العصبة ، ليصبح نافذ المفعول رسميا في ٢٩ أيلول / سبتمبر ١٩٢٣ م ، بعد توقيع تركيا على معاهدة لوزان ، وتنازلها الرسمي عن الولايات العربية التي كانت تحت حكمها. ومع أن بريطانيا بادرت إلى ممارسة الانتداب على فلسطين عمليا منذ سنة ١٩٢٠ م ، فقد تأخر إقرار صك الانتداب لإتاحة الفرصة أمام الدول الكبرى لتسوية المسائل العالقة بينها في إطار اقتسام غنائم الحرب. وفي هذه الأثناء تمت تسوية الحدود بين الانتدابين ـ البريطاني والفرنسي ـ وفصل الأردن ليكون إمارة هاشمية. وكذلك سويت الخلافات بين لندن وواشنطن بشأن الانتداب على فلسطين. وكانت واشنطن تلوح بمعارضة الانتداب البريطاني ، على الرغم من دعمها للمنظمة الصهيونية. وبعد أن حصلت على اعتراف بمصالحها الاقتصادية والثقافية في المنطقة ، تمت الموافقة على وعد بلفور ، بقرار مشترك من مجلسي الشيوخ والنواب ، ووقّعه الرئيس هاردنغ (حزيران / يونيو ١٩٢٢ م). ووافقت واشنطن على الانتداب عندما تبلورت نتائج المفاوضات مع بريطانيا ، التي أدّت إلى «الاتفاق الأنكلو ـ أميركي» (١٩٢٤ م) ، إذ ضمنت الولايات المتحدة امتيازات لشركات أميركية ، أهمها امتياز التنقيب عن النفط في صحراء النقب لشركة ستاندارد أويل.

وصك الانتداب وثيقة مهمة في تاريخ فلسطين الحديث ، إذ أعطى للمؤامرة الصهيونية ـ البريطانية ، المتمثلة في وعد بلفور ، شرعية دولية في قرار عصبة الأمم. وبذلك وضع النضال الفلسطيني ، لصيانة وجود الشعب ولحماية حقه التاريخي في وطنه ، ليس ضد الاستيطان الصهيوني ، ومن ورائه الانتداب البريطاني ، فحسب ، بل في مواجهة عصبة الأمم ، وما تمثله على الصعيد الدولي ، أيضا. فقد اعترفت العصبة ، من خلال الصك ، بالمنظمة الصهيونية كهيئة سياسية ، ذات شخصية اعتبارية قانونية ، تمثل يهود العالم ، وباليهود كأمة على طريق إقامة وطن قومي لهم في ظل الانتداب ، بعد أن أقرت بدعواهم الحق التاريخي في فلسطين ، في وثيقة دولية ملزمة. وفي صك الانتداب مقدمة و ٢٨ مادة. وتضمنت المقدمة نصّ وعد بلفور ، ومصادقة عصبة الأمم على الانتداب البريطاني ، الذي مبرره المعلن تهيئة فلسطين لتصبح «وطنا قوميا يهوديا». وذلك ، بحسب الصك ، بالاستناد إلى «الصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين ، والأسباب التي تدعو إلى إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد.»

وصك الانتداب شكل الغطاء لسياسة بريطانيا الصهيونية في تهويد فلسطين. وفضلا عن المقدمة التي وضعت الصك في إطاره السياسي ، أعطت المادة ٢ الدولة

٤٢١

المنتدبة السلطة التامة في التشريع والإدارة ، واعتبرتها مسؤولة «عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي.» ونصت المادة ٤ على إنشاء «وكالة يهودية» معترف بها لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين ، والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء «الوطن القومي اليهودي». وورد في المادة ٦ أن «على إدارة فلسطين ، مع ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضع الفئات الأخرى من السكان أن تسهل هجرة اليهود إليها ... وأن تشجع حشدهم في الأراضي الأميرية والموات.» ونصت المادة ٧ على ضرورة أن يضمن قانون الجنسية «نصوصا تسهل اكتساب اليهود للجنسية الفلسطينية.» وأعطت المادة ١١ الحق للإدارة البريطانية في تكليف الوكالة اليهودية «بإنشاء أو تسيير الأشغال والمنافع العمومية وتطوير مرافق البلاد الطبيعية.» ونصت المادة ٢٢ على «أن تكون الإنكليزية والعربية والعبرية اللغات الرسمية في فلسطين.» (١)

وحددت المواد ١٣ و ١٤ و ١٥ و ١٦ مسؤولية الدولة المنتدبة عن المحافظة على الأماكن المقدسة ، وضمان الوصول إليها ، وكيفية الفصل في الحقوق الدينية ، وكفالة الحرية الدينية للجميع. والمواد ١ و ٣ و ١٢ و ١٧ أعطت بريطانيا السلطة التامة في التشريع والإدارة ، وتشجيع الحكم المحلي بقدر ما تراه ملائما ، والإشراف على العلاقات الخارجية لفلسطين ، وتنظيم القوات اللازمة للمحافظة على السلام والدفاع عن البلاد ، واستخدام طرق فلسطين وسككها الحديدية ومرافئها لتحركات القوات المسلحة. والمادة ٢٥ أعطت الدولة المنتدبة الحق بموافقة عصبة الأمم ، في أن ترجىء ، أو توقف ، تطبيق ما تراه غير قابل للتطبيق من هذه المواد على المنطقة الواقعة شرقي نهر الأردن. وقد وافق مجلس عصبة الأمم لاحقا على استثناء شرق الأردن من تطبيق مواد صك الانتداب المتعلقة بإنشاء «الوطن القومي اليهودي» ، كما وافق على تخويل بريطانيا المسؤولية الكاملة عن الانتداب على شرق الأردن. ويتضح أن السياسة البريطانية كانت ترمي إلى أن يستوعب شرق الأردن النتائج الناجمة عن تهويد فلسطين ، وتغييب سكانها عنها ، ومن هنا كان فصلهما ظاهرا ، وربطهما فعلا ، ووضعهما تحت حكومة انتداب واحدة.

ج) المقاومة الفلسطينية للانتداب

بعد إقرار صك الانتداب أصدرت الحكومة البريطانية في ١٠ آب / أغسطس

__________________

(٣١) الأمم المتحدة ، مصدر سبق ذكره ، ص ١١٧ ـ ١٢٥.

٤٢٢

١٩٢٢ م «دستور فلسطين» ، الذي تضمن وعد بلفور في مقدمته أيضا. وقد أعطى هذا الدستور المندوب السامي صلاحيات واسعة في الإشراف على الأراضي العمومية والتصرف بها ، وتعيين الموظفين وعزلهم ، وإعلان العفو العام ، وإبعاد المحكومين السياسيين ، والموافقة على القوانين لتصبح سارية المفعول بتوقيعه. وهو يترأس المجلس التنفيذي ، الذي يتولى أعضاؤه المناصب العليا كلها في الحكومة ، ويكون بمثابة هيئة استشارية للمندوب السامي ، وهم يعينون بمرسوم من ملك بريطانيا ، وبناء على التماس من المندوب السامي. كما تضمن الدستور تشكيل «مجلس تشريعي» ، حسبما ورد في الكتاب الأبيض. ومن أجل انتخابه ، أصدر سامويل مرسوما بإجراء إحصاء عام للسكان (١٤ آب / أغسطس ١٩٢٢ م). وهو يتألف من المندوب السامي رئيسا ، و ١٠ موظفين بالتعيين (هم المجلس التنفيذي) ، و ١٢ عضوا منتخبا بحسب الطوائف ـ ٨ من المسلمين و ٢ من المسيحيين و ٢ من اليهود. ويحظر على المجلس التشريعي أن ينظر في أية نقطة تخالف صك الانتداب ، كما أن قوانينه لا تصبح نافذة إلّا إذا وافق عليها المندوب السامي ، الذي يتمتع بحق تعطيل هذا المجلس في أي وقت يشاء. وكانت مسودة هذا الدستور قد عرضت على الوفد الفلسطيني في لندن فرفضه.

وكان طبيعيا أن يرفض الشعب الفلسطيني الانتداب البريطاني ، ويقاوم سياسته الرامية إلى تجسيد وعد بلفور ، بالصورة التي تؤهله لها أوضاعه الاجتماعية وتنظيمه السياسي ، وبالتالي قدرته على القيام بعمل اللازم للتصدي للمشاريع المضادة وإحباطها ، من موقع الدفاع. فصك الانتداب هو في الأساس برنامج لتغييب الشعب الفلسطيني عن وطنه ـ ماديا وحضاريا وسياسيا ـ بدءا بنفي حقه التاريخي فيه ، عبر الاعتراف لليهود بذلك الحق. وهو مخطط لقطع صلة الفلسطينيين بوطنهم ، عبر تهويده ، فجاء منذ البداية متجاهلا لوجودهم على أرضه ، متنكرا لحقهم الطبيعي فيه ، ومستثنيا إياهم من عائلة الشعوب ، حتى العربية الشقيقة. وقد فرض الانتداب عليهم قسرا ، ولم يؤخذ رأيهم به ، لا شكلا ولا مضمونا ، وإنما تمّ ذلك بالتنسيق بين حكومة بريطانيا والمنظمة الصهيونية ، وبدعم الدول الإمبريالية ، إلى حد أنه جاء متناقضا حتى مع ميثاق عصبة الأمم ذاتها. وملامح المشروع الصهيوني كانت واضحة منذ البداية ، فهو استيطاني إجلائي ، لا مكان فيه لأهل البلد الأصليين ، وبناء عليه ، فلا يمكن تجسيده من دون تغييبهم بشتى الوسائل. وكما وعى قادة العمل الصهيوني هذه الحقيقة ، وبرمجوا وخططوا لتجسيدها ، هكذا وعاها الشعب الفلسطيني ، فتصدى لمسارات تجسيدها بالأساليب التي أتاحتها أوضاعه الاجتماعية ، وحالة حركته الوطنية التنظيمية.

٤٢٣

وإذ لم يكن الشعب الفلسطيني مؤهلا ، لا ذاتيا ولا موضوعيا ، للقيام بعمل اللازم لدحر المشروع الصهيوني ، فإن هذا الأخير لم يكن أيضا قادرا على فرض نفسه واقعا على الأرض في أعوام الانتداب الأولى ، كما رغبت المنظمة الصهيونية. ولذلك ، اتخذ الصراع بشأن فلسطين نمطا من الاشتباك المستمر ، تشتد حدته أحيانا كردة فعل عربية على احتدام التناقض الناجم عن الفعل الصهيوني ـ البريطاني ؛ ثم لا تلبث أن تخبو عندما يتراجع الطرف الآخر تكتيكيا. ونظرا إلى طبيعة هذا المشروع الاستيطانية الإجلائية ، لم يكن هناك مجال للتوصل معه إلى حلول وسط. فهو كما طرح ، لا يدع مكانا لأهل البلد الأصليين فيه ، بل يرمي إلى اقتلاعهم ، وإحلال مستوطنين يهود مكانهم. وهو يفترق عن أنماط الاستعمار الاستيطاني الأخرى ، بأنه لا يستهدف استغلال الأرض بمن عليها من سكان أصليين ، وإنما يخطط لاغتصاب الأرض ، والتخلص من أصحابها. ومع ذلك ، وفي غياب قدرة أي من الأطراف المنخرطة في الصراع على حسمه لمصلحته ، فقد برزت داخلها تيارات واتجاهات ، تتفاوت تطرفا أو مرونة بالتكتيك ، غير أن الأساس التناحري ظل يحكم سلوك القوى المركزية في هذا الصراع على الجانبين.

إن التناقض الذي تشكل في فلسطين نتيجة الترتيبات التي اتخذت بشأنها بعد الحرب العالمية الأولى ، بعيدا عن مصالح سكانها ، كان جذريا يستهدف أساس وجود الشعب الفلسطيني في وطنه ، وبالتالي كان يستوجب حلا على هذا المستوى. لكن موازين القوى لم تكن تسمح بمثل هكذا حل. وإذ كانت حالة الوعي لأخطار المشروع الصهيوني متقدمة لدى جماهير الشعب الفلسطيني الواسعة ، كما لدى قيادته السياسية ، فإن أوضاعه الاجتماعية لم تكن مهيّأة لإيجاد الحركة النضالية القادرة على ترجمة هذا الوعي إلى ممارسة عملية ، ذات أداء عال ، يفرض الانكفاء على الطرف الآخر. ومع ذلك ، فأشكال النضال التي مارسها الشعب الفلسطيني ، وإن لم تكلل بالنجاح في دحر المشروع الصهيوني ، فإنها عرقلت تجسيده لأهدافه ، وأخّرته إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد راوحت تلك الأشكال النضالية بين العمل السياسي والدبلوماسي ، مرورا بالمقاومة السلبية ، ووصولا إلى الانتفاضات الثورية العنيفة ، كما تأرجحت بين مدّ وجزر ، تبعا لحركة الطرف الآخر ، الذي كان زمام المبادرة في يده ، وبلغت مستويات من الحدة ، تتأثر بدرجة احتدام التناقض المتولد عن تلك الحركة ، من جهة ، وبحالة الشعب الفلسطيني الاجتماعية والسياسية ، من جهة أخرى.

ولأن الحركة الصهيونية لم تستطع تهويد فلسطين باليهود ، كما طرح ماكس نوردو ، فقد عمدت ، بالتواطؤ مع الانتداب ، إلى الحؤول دون تكريس الواقع القائم

٤٢٤

من عروبتها. وكان نوردو ، بعد إعلان مجلس الحلفاء قرار انتداب بريطانيا على فلسطين سنة ١٩٢٠ م ، دعا إلى تكفير كل سياسي صهيوني يرضى بما هو أقل من دولة يهودية ، انطلاقا من الاقتناع بضرورة انتهاز الفرصة المواتية لإقامتها بأسرع ما يمكن. وطرح نوردو مشروعا بتهجير نصف مليون يهودي إلى فلسطين فورا ، «بغية تحقيق الاستيلاء السلمي على البلد» ، معتبرا ذلك الحد الأدنى اللازم لخلق أكثرية يهودية فيها ، تفي بالعهد الذي «قطعناه على أنفسنا في العقد المبرم مع بريطانيا وتضمن للاستعمار اليهودي القدرة على مجابهة الخطر العربي الذي يهددنا.» (١) وإذ لم يلتفت نوردو إلى العوائق الذاتية والموضوعية أمام مشروعه ، فقد هاجم قيادة المنظمة الصهيونية على تقاعسها في شراء الأراضي ، وتهيئة الأوضاع لاستيعاب المهاجرين اليهود فيها ؛ وبالتالي عجزها عن الاستجابة للتحديات التي يفرضها الاعتراف الدولي بالمشروع الصهيوني. لكن مشروع نوردو لم يتحقق ، وأساسا بسبب عدم استجابة اليهود لدعوة الصهيونية إلى الهجرة والاستيطان في فلسطين.

ولما كانت هجرة اليهود إلى فلسطين هي مفتاح نجاح المشروع الصهيوني ، فقد أصبحت بؤرة نشاط الوكالة اليهودية ، من جهة ، وعنوان المقاومة العربية ، من جهة أخرى. ولأن الوكالة اليهودية لم تحقق نجاحا كبيرا في تهجير يهود العالم وتمويل توطينهم في فلسطين ، بصورة تغير الواقع الديموغرافي فيها جذريا ، فقد عمدت ، وبالتعاون مع سلطات الانتداب ، إلى قطع الطريق على قيام مؤسسات حكم تمثيلية في البلد ، تعبر عن ذلك الواقع ، الذي تسود فيه أغلبية عربية ساحقة. هذا فضلا عن أن صك الانتداب كان يحول دون ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير ، إذ إن ذلك ينفي مبرر ذلك الانتداب ـ تجسيد وعد بلفور. وبناء عليه ، ولما جاء دستور فلسطين منسجما مع سياسة الانتداب ، فقد رفضه الشعب الفلسطيني ، ممثلا بالمؤتمر الخامس ، الذي عقد في نابلس في الفترة ٢٢ ـ ٢٥ آب / أغسطس ١٩٢٢ م ، بعد عودة الوفد من لندن. كما اتخذ المؤتمر قرارا بمقاطعة الانتخابات للمجلس التشريعي الذي ينص عليه الدستور ، والتي حدد المندوب السامي موعدها في شباط / فبراير ١٩٢٣ م.

وفي المؤتمر قدم «وفد لندن الأول» تقريرا عن زيارته الطويلة ، وكان رئيسه ، موسى كاظم الحسيني ، أكد في خطاب له في حيفا لدى وصوله «أن أبواب إنكلترا

__________________

(٣٢) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٧٧.

٤٢٥

لا تزال مفتوحة للمفاوضات وأن هنالك أنصارا كثيرين للقضية العربية في إنكلترا وفرنسا على استعداد للدفاع عن القضية العربية في أي وقت.» (١) وكان ذلك مؤشرا إلى الخط السياسي الذي مالت قيادة العمل الوطني الفلسطيني إلى سلوكه ـ المفاوضات مع بريطانيا لثنيها عن الانحياز إلى المشروع الصهيوني. ومع أن الوفد لم يحقق شيئا ملموسا في لندن ، فإنه امتنع من التحريض ضد بريطانيا ، ولم يدع إلى العنف في المؤتمر ، حيث تعالى الهتاف بحياة فلسطين العربية ، وسقوط الانتداب والصهيونية ووعد بلفور. وفي المقابل ، وعلى أرضية تجربته في لندن ، وإزاء المزاج العام في المؤتمر والبلاد عامة ، أوصى الوفد بإقامة تعاون أوثق بين فلسطين والبلاد العربية ، من خلال تطوير العلاقات الاقتصادية والثقافية. كما اقترح إرسال وفود إلى بعض الشخصيات والحكام العرب ، لإبلاغهم عن الأوضاع في فلسطين ، وطلب دعمهم في مواجهة الظلم الذي يتعرض له شعبها. ففي لندن ، تحقق الوفد ، كما يبدو ، من حجم المؤامرة التي تتعرض لها فلسطين ، ومقدار التزام الحكومة البريطانية بالمشروع الصهيوني ، وبالتالي التعقيدات التي تواجه العمل الوطني الفلسطيني.

وتبنى المؤتمر ١٨ قرارا ، منها : إقامة مكتب في لندن ، إرسال وفود إلى الشرق وأميركا ، تشكيل جمعيات إسلامية ـ مسيحية في جميع أنحاء البلاد ، تأليف لجان تحكيم للفصل في الخلافات بين القوى الوطنية ، وضع كتاب في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية ، إصدار طوابع وطنية ، تطبيق «مشروع القرشين» ، تبني النظام المالي الذي أقرته اللجنة التنفيذية للمؤتمر الرابع. كما قرر المؤتمر مقاطعة اليهود في البيع والشراء ، وعدم الاشتراك في مشروع روتنبرغ للكهرباء. إلّا إن أهم القرارات العملية كان رفض الدستور الذي أعلنه المندوب السامي ، وبالتالي مقاطعة الانتخابات للمجلس التشريعي الذي ينص عليه ذلك الدستور. وفي جلسته الأخيرة ، تبنى المؤتمرون ، تحت القسم ، «الميثاق الوطني الفلسطيني» ، ونصه :

نحن نواب الشعب العربي الفلسطيني في المؤتمر العربي الفلسطيني الخامس المنعقد في نابلس نعاهد الله والتاريخ والأمة على أن نواصل السعي في سبيل استقلال بلدنا وتحقيق الوحدة العربية بالذرائع المشروعة القانونية ، وإنّا لا نرضى بالوطن القومي اليهودي والهجرة الصهيونية. (٢)

__________________

(٣٣) عبد الوهاب الكيالي ، «تاريخ فلسطين الحديث» (بيروت ، ١٩٧٠) ، ص ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٣٤) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٢١٩.

٤٢٦

ثم أقسم رئيس المؤتمر وأعضاؤه على مقاطعة المجلس التشريعي الذي قررت الحكومة إنشاءه.

ومع أن اللجنة التنفيذية للحركة الوطنية الفلسطينية شجعت على إجراء إحصاء للسكان تمهيدا لانتخابات المجلس التشريعي ، بناء على قرار المندوب السامي (١٤ آب / أغسطس ١٩٢٢ م) ، إلّا إنها أصرّت على رفض المشاركة في الانتخابات بعد المؤتمر ، وصمدت في وجه الضغوط التي مورست عليها. وعندما تيقن المندوب السامي من فشل جهوده ، أعلن عن تعيين مجلس استشاري (أيار / مايو ١٩٢٣ م) ، بالنمط نفسه الذي شكّل فيه المجلس التشريعي ، ما لبث سبعة من أعضائه العرب أن استقالوا (حزيران / يونيو ١٩٢٣ م) ، وقبل أن يعقد جلسته الأولى ، وبذلك انهار المشروع. وتمسكت اللجنة التنفيذية بسياسة عدم التعاون مع حكومة الانتداب ، ورفضت عرضا تلقته في تشرين الأول / أكتوبر ١٩٢٣ م لتشكيل وكالة عربية كالوكالة اليهودية ، على ألّا تكون هيئة تشريعية ، بل محض استشارية ، يعينها المندوب السامي. وجاء هذا الرفض على قاعدة الالتزام بعدم التعامل مع حكومة الانتداب على أرضية وعد بلفور ، المتضمن في الدستور ، كما في صك الانتداب. وبناء عليه ، اتخذ المندوب السامي قرارا بتعطيل مواد الدستور المتعلقة بالمجلس التشريعي.

لقد توصلت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الاقتناع بأن سعيها للفصل بين الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني ، لن يكتب له النجاح. ونتيجة موازين القوى القائمة ، كانت ردة الفعل على التصلب البريطاني متفاوتة ، وراوحت بين اعتبار «بريطانيا أصل الداء ، وأساس كل بلاء» ، وبين النظر إلى الصهيونية على أنها الخطر الأساسي ، وبالتالي ضرورة التعامل مع بريطانيا بأساليب سلمية ، لحملها على العدول عن سياستها. واستغلت حكومة الانتداب هذا التباين في وجهات النظر داخل الحركة الوطنية الفلسطينية لتصديعها ، عبر الترهيب والترغيب والمناورة في استقبال الوفود وإقامة لجان التحقيق واتخاذ الإجراءات التكتيكية التي من شأنها تهدئة مخاوف السكان العرب من أخطار الصهيونية ، بما في ذلك تشديد القيود على الهجرة اليهودية. وقد نجحت هذه السياسة في استمالة اللجنة التنفيذية إلى فكرة إقامة حكومة تمثيلية ، الأمر الذي ضرب الإجماع الفلسطيني ، ولم يحقق النتائج المرجوة منه ، بسبب معارضة الوكالة اليهودية له ، ونجاحها في الحؤول دون تنفيذه ، انطلاقا من أن تشكيل هكذا حكومة ، نتيجة الأغلبية العربية الساحقة ، يفرغ الانتداب من مضمونه.

وفي تشرين الأول / أكتوبر ١٩٢٢ م ، سقطت حكومة لويد جورج ، وفقد تشرشل موقعه في الحكومة والبرلمان ، وحلّ محله في وزارة المستعمرات دوق ديفونشاير.

٤٢٧

ورأت اللجنة التنفيذية في ذلك فرصة لإرسال وفد آخر إلى لندن ، علّه ينجح حيث فشل الأول. وعقد المؤتمر الفلسطيني السادس في يافا في الفترة ١٦ ـ ٢٠ حزيران / يونيو ١٩٢٣ م وقرر إرسال الوفد الثاني. إلّا إن حكومة لندن الجديدة قررت الالتزام بتعهدات سابقتها للحركة الصهيونية ، وبالانتداب. فعاد الوفد من دون تحقيق نتائج تذكر ، لكن اللجنة التنفيذية ظلت ملتزمة بأسلوب عملها السلمي. وبناء عليه ، أرسلت وفدا آخر إلى مؤتمر لوزان (١٩٢٣ م) ، التقى هناك بالوفود العربية ، وقام بنشاط سياسي ـ إعلامي لدعم القضية ، ودعا إلى حلها «على وجه عادل يتفق مع العهود المقطوعة للعرب.» وقد شجع على إرسال هذا الوفد الاعتقاد أن النصر الذي حققه مصطفى كمال ، والذي استقبل بالترحاب في فلسطين ، سيغير الترتيبات الاستعمارية في المنطقة ، لكن هذه الآمال تبخرت ، عندما تنازلت تركيا عن الولايات العربية.

وفي الواقع ، فإن سياسة سامويل نجحت في تصديع الحركة الوطنية الفلسطينية ، التي كان الوجهاء وأبناء العائلات الكبيرة والغنية يشكلون عماد قيادتها. وهذه القيادة ، التي عملت على التهدئة بعد ثورة يافا ، ووقفت ضد ممارسة العنف ، لم تنجح في تحقيق نتائج تذكر بالوسائل السلمية والسياسية. ومنذ سنة ١٩٢٤ م ، بدأت فترة من الركود السياسي والشلل النضالي ، امتدت حتى سنة ١٩٢٨ م ، وشهدت المزيد من الشروخ في صفوف الحركة الوطنية ، واستشراء الصراعات الداخلية ، سواء على أرضية سياسية ـ الموقف من الانتداب ـ أو بسبب التنافس بشأن المناصب. وبينما راحت اللجنة التنفيذية تفقد رصيدها الوطني والشعبي ، على الرغم من تشبثها بموقفها من المشروع الصهيوني ، فقد أخذ الحاج أمين الحسيني ، مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى ، يبرز كزعيم للحركة الوطنية الفلسطينية. في المقابل ، راحت المعارضة له ، من قبل وجهاء مثل عارف الدجاني وسليمان التاجي الفاروقي وراغب النشاشيبي وغيرهم ، تشتد ، إلى أن شكّل هؤلاء الحزب الوطني في تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٢٣ م ، الذي كانت سياسته المعلنة التعاون مع حكومة الانتداب ، مع رفضه للمشروع الصهيوني.

في المقابل ، لم تكن المنظمة الصهيونية راضية تماما عن السياسة التي اتبعها سامويل ، واتهمته بالضعف ، وعملت على سحبه من فلسطين في الوقت الملائم. فمبكرا توصل سامويل إلى الاقتناع بأن الأوضاع في فلسطين لا تسمح بإنشاء «الوطن القومي اليهودي» ، بالسرعة التي تطالب بها المنظمة الصهيونية. فلا هي تمتلك الشروط الذاتية لذلك ، ولا السكان المحليون يسلمون به. وكان واضحا له أن اليهود لن يستجيبوا للدعوة الصهيونية بأعداد كافية لتغيير الواقع الديموغرافي في فلسطين ،

٤٢٨

ولا المنظمة تمتلك الموارد الكافية لتمويل مشاريعها الاستيطانية. وكانت المقاومة العربية أشدّ عنفا من توقعات المندوب السامي والكثيرين من قادة العمل الصهيوني. وسرعان ما تبين زيف الدعاية الصهيونية التي بنت إعلامها على تغييب الشعب الفلسطيني عن وطنه. وفي الواقع ، كان سامويل يشارك تشرشل في اقتناعه الذي عبّر عنه في أحد لقاءاته مع الوجهاء العرب في القدس ، «بأن أولاد أولادنا سيكونون قد رحلوا عن الدنيا قبل تحقيق الحكم الذاتي.» (١) ولذلك ، وإنقاذا للمشروع الصهيوني من المنظمة ذاتها ، ارتأى سامويل التعامل بمرونة مع الوضع الفلسطيني ، والعمل على تصليب الاستيطان ، حتى يتهيّأ لتسلم زمام الأمور في البلد. وكذلك كان على سامويل أن يأخذ في الاعتبار التوازنات السياسية في لندن ، وموقف القوى من الانتداب.

وعلى العموم ، احتجت المنظمة على تصريحات سامويل من أن «الوطن القومي اليهودي» لن يقوم على حساب العرب ، كما رأت في الكتاب الأبيض ، وفصل شرق الأردن عن فلسطين ، تراجعا بريطانيا عن وعد بلفور. ولم يعجب المنظمة سلوك سامويل تجاه المقاومة العربية ، إذ أرادت منه قمعها بشدة ، كما أخذت عليه دعمه للحاج أمين الحسيني في تولي منصب الإفتاء ورئاسة المجلس الإسلامي الأعلى. واحتجت على تحديد سقف للهجرة وتشديد القيود عليها بعد الاضطرابات. واعترضت المنظمة على كل محاولة لإقامة حكومة تمثيلية في ظل استمرار الأغلبية العربية بين السكان. وعلى أية حال ، فإن سلوك السلطات البريطانية إزاء التطلعات الصهيونية المغالية في استعجالها تهويد فلسطين ، قد وضع الوكالة اليهودية أمام أسئلة جذرية وملحة حول «ما العمل؟».

ومهما يكن الأمر ، فإن النصف الثاني من ولاية سامويل (١٩٢٠ ـ ١٩٢٥ م) ، تميّز بهدوء نسبي ، إذ أفلح ، لاعتبارات صهيونية وبريطانية ، في وضع طرفي الصراع بشأن فلسطين أمام مشكلاتهما الحالية ، وبالتالي إيصالهما ، على الأقل على صعيد القيادة ، إلى الاقتناع بعدم إمكان حسم هذا الصراع بالطريقة التي يطالب بها كل منهما ، وعلى أية حال ، فليس في الحاضر ، أو المستقبل المنظور. وبينما أدّى ذلك إلى نقل الصراع إلى داخل الحركة الوطنية الفلسطينية ، وتأزيم أوضاعها الذاتية ، فإنه على العكس من ذلك ، خفض حدة التوتر السياسي الداخلي في المنظمة الصهيونية ، ودفعها بقيادة تيار الوسط إلى التركيز على تحقيق إنجازات عملية استيطانية. ومع

__________________

(٣٥) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم الثاني ، المجلد الثاني ، مصدر سبق ذكره ، ص ١٠٠٩.

٤٢٩

ذلك ، وقبيل نهاية ولاية سامويل ، ولدى الاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية في القدس (آذار / مارس ١٩٢٥ م) ، بحضور بلفور ، قامت تظاهرات صاخبة ضده في جميع أنحاء البلاد ، الأمر الذي استعجل سفره إلى دمشق ، بناء على دعوة من صديقه المندوب السامي الفرنسي هناك ، حيث قوبل بتظاهرات ضخمة وعنيفة ، الأمر الذي حمل السلطات الفرنسية على الإسراع في نقله إلى بيروت ، تحت حراسة مشددة ، ليركب باخرة العودة إلى بلاده.

وعلى الرغم من العقبات التي ثارت في وجه المشروع الصهيوني ، سواء في فلسطين أو لندن ، أو حتى داخل المنظمة ذاتها ، فقد حقق الاستيطان ، بفضل السياسة التي انتهجها سامويل ، تقدما ملحوظا في ولايته. فزاد عدد المستوطنين من ٠٠٠ ، ٥٥ سنة ١٩١٩ م إلى ٠٠٠ ، ١٠٨ سنة ١٩٢٥ م. وارتفع عدد المستعمرات من ٤٤ سنة ١٩١٨ م إلى أكثر من ١٠٠ سنة ١٩٢٥ م كما حصل المستوطنون على الاعتراف بمؤسسات الحكم الذاتي الخاصة : المؤتمر الوطني والمجلس الوطني ومجالس الحكم المحلي. وسنّت قوانين متعددة تتعلق بالأراضي والهجرة ، تخدم المشروع الصهيوني. وعشية نهاية ولايته (تشرين الأول / أكتوبر ١٩٢٥ م) أصدر سامويل «قانون الجنسية الفلسطينية» (آب / أغسطس ١٩٢٥ م) ، الذي يمنح المهاجرين اليهود تلك الجنسية. وكذلك ، وضع مشروع النقد الفلسطيني (نيسان / أبريل ١٩٢٤ م) ، الذي تمّ إقراره في ٢ آب / أغسطس ١٩٢٦ م من قبل وزير المستعمرات آنذاك ، ليوبولد إيمري ، وتعيين مجلس النقد الفلسطيني وتحديد صلاحياته. وفي ٢١ شباط / فبراير ١٩٢٧ م أعلن أن النقد الفلسطيني سيحل محل النقد المصري المتداول ، اعتبارا من ١ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٢٧ م.

وكانت فترة ولاية المندوب السامي الثاني ، فيلد ـ مارشال لورد تشارلز بلومر (١٩٢٥ ـ ١٩٢٨ م) ، هي الأكثر هدوءا في فلسطين تحت الانتداب. وقد تضافرت لذلك عوامل عدة ، على رأسها بلومر نفسه ، الذي كان عسكريا محترفا ، لم يقبل بأي إخلال بالأمن ، من أية جهة كانت. وقد أجاب أعضاء وفد فلسطيني ، قابلوه وحذروه من أنهم لن يتحملوا مسؤولية النتائج الناجمة عن تظاهرات يقوم بها اليهود في القدس قائلا : «لا ضرورة لكم أنتم بتحمل المسؤولية عن النظام العام ، فأنا المسؤول عنه.» في المقابل تواكبت ولاية بلومر في فلسطين مع الأزمة الاقتصادية العالمية في نهاية العشرينات ، التي انعكست سلبا على المشروع الصهيوني ، بنضوب الموارد المالية للوكالة اليهودية ، وبالتالي تقلص الهجرة اليهودية وركود النشاط الاستيطاني. ومن جهة أخرى ، حدث تراجع في الحركة الوطنية الفلسطينية ، بسبب الصراعات الداخلية ،

٤٣٠

وخصوصا بين الحاج أمين الحسيني وراغب النشاشيبي ، الذي أصبح رئيس بلدية القدس. وشغلت القوى السياسية بهذا الصراع نتيجة انحسار النشاط الصهيوني ، وتضاؤل الهجرة ، بل تزايد النزوح إلى الخارج ، الذي بلغ ذروته سنة ١٩٢٧ م إذ زاد عدد النازحين عن القادمين.

ولعل من أهم الدلائل على تراجع الحركة الوطنية الفلسطينية ، توقفها عن عقد مؤتمراتها الدورية ، ليس لغياب القضايا الملحة ، وإنما بسبب الشقاق الداخلي. وقد جرت عدة محاولات لإزالة الخلافات بين التكتلين ـ الأول بقيادة الحاج أمين ، والثاني حول راغب النشاشيبي ـ لكنها باءت جميعا بالفشل. وفي أجواء المشاحنات الداخلية ، غابت القضية المركزية ، وسعت الأطراف المتخاصمة للتقرب من السلطة حماية لمواقعها. في المقابل ، كانت المؤتمرات الصهيونية تنعقد بانتظام ، ورئيس المنظمة يعمل على توسيع الوكالة اليهودية ، وضم غير الصهيونيين إليها ، بهدف توفير الموارد المالية اللازمة للاستيطان. أمّا حكومة الانتداب ، وإزاء انحسار الضغط العربي عليها ، فلم تبادر إلى طرح مسألة إقامة حكومة تمثيلية ، حتى عندما أبدت فئات عربية استعدادها للتعاون مع السلطة ، بينما تركت للوكالة اليهودية حرية العمل لتطوير مؤسسات الحكم الذاتي. وفي غياب القيادة السياسية القادرة على إدارة الصراع ، ومعاودة المنظمة الصهيونية نشاطها بدعم الانتداب ، وقعت حادثة استفزازية كانت كافية لتفجير العنف الشعبي ، الذي كان خارج قدرة الأطراف السيطرة عليه.

د) ثورة البراق

عندما عقد المؤتمر الفلسطيني السابع في القدس في الفترة ٢٠ ـ ٢١ حزيران / يونيو ١٩٢٨ م ، بعد محاولات متعددة فاشلة ، جاء ضعيفا ، ولا غرو أنه كان آخر المؤتمرات. ففي الأعوام الخمسة التي انقضت منذ المؤتمر السادس ، أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية الوهن ، وبالتالي الشلل السياسي. وتنامى عدد الزعماء الذين جنحوا نحو الاعتدال بالتعامل مع الانتداب ، تجاوزا لقرارات المؤتمرات السابقة عامة. ووصل التراجع حدّ تشكيل وفد من اللجنة التنفيذية والحزب الوطني وجمعية تعاون القرى (تموز / يوليو ١٩٢٦ م) ، للاجتماع مع ممثل للحكومة ، وتقديم اقتراح بالاستعداد للمشاركة في حكومة دستورية. ومع ذلك ، فالمندوب السامي لم يتعامل مع الاقتراح بجدية ، بل على العكس ، رأى في ذلك فرصة لاستغلال التناقضات بين الأجنحة المتصارعة داخل الحركة الوطنية. وانهمكت هذه الحركة ما بين تشرين الأول / أكتوبر ١٩٢٦ م ، وأيار / مايو ١٩٢٧ م بالانتخابات البلدية ، التي

٤٣١

خاضتها الكتل والأحزاب والأسر والزعامات ، وأسفرت عن فوز راغب النشاشيبي وكتلته في معظم مدن فلسطين. وعلى أرضية نتائج هذه الانتخابات ، لم يكن ممكنا عقد المؤتمر السابع ، ولم تنجح المحاولات المتعددة لرأب الصدع وحمل الأطراف على تجاوز الحزازات بينها.

وجاءت قرارات المؤتمر السابع هزيلة ، لا ترقى إلى مستوى التطورات في البلاد ، ولا تعبر عن المزاج الشعبي العام إزاءها. وإذ أيد المؤتمر المواقف السابقة ، فإنه وضع على رأس مطالبه تشكيل حكومة برلمانية ، الأمر الذي كان مرفوضا من قبل. كما احتج على كثرة الموظفين البريطانيين في الدوائر الرسمية ، وعلى منح شركة يهودية امتياز استخراج البوتاس من البحر الميت ، وتفضيل اليهود على العرب في الأشغال الحكومية. وانتخب المؤتمر لجنة تنفيذية موسعة من ٤٨ عضوا ، ليس لتغطية المهمات المطلوبة ، وإنما لإرضاء الكتل والأسر والأشخاص ... إلخ ، فأصبحت غير فاعلة. وانتخب موسى كاظم الحسيني رئيسا لها ، وظل يمارس ذلك حتى يوم وفاته (١٩٣٤ م) ، فانحلت اللجنة بعد ذلك بفترة قصيرة. وفي هذه الأثناء ، كان الحاج أمين قد برز كقائد للحركة الوطنية ، على حساب اللجنة التنفيذية. كما تجاوزت القيادات المحلية تلك اللجنة لعدم فاعليتها ، واستشراء الصراعات الشخصية والعائلية والحزبية داخلها. ولكن ، على الرغم من الشقاق في صفوف الزعامات السياسية ، فقد ظلت جماهير الشعب الفلسطيني متشبثة بقضيتها الوطنية ، وظلت روحها الكفاحية عالية ، واستعدادها للتضحية كبيرا على الرغم من النكسات.

لقد انعقد المؤتمر السابع على أرضية تأزم أوضاع العمل الوطني الفلسطيني ، ذاتيا وموضوعيا ، لكنه لم يحقق الآمال المعقودة عليه ، ولم يحلحل تلك الأزمة ، لما تميزت به تركيبته من تنافر ، وقراراته من هزال ، واللجنة التنفيذية المنبثقة منه من شلل. كما تواكب ذلك مع تردّي الأوضاع الاقتصادية للشعب الفلسطيني ، من جهة ، وبداية حالة من النهوض للمشروع الصهيوني ، بعكس ما كان متوقعا في منتصف العشرينات ، من جهة أخرى. فبعد توسيع الوكالة اليهودية زادت مواردها المالية ، فنشطت الهجرة ، وتكثف الاستيطان ، وبالتالي شراء الأراضي ، وطرد الفلاحين عنها. كما زادت الوكالة في ضغطها على حكومة الانتداب للإسراع في وضع برنامج للتطوير الاقتصادي يخدم الاستيطان ، عبر قرض بقيمة مليوني جنيه استرليني ، يجمع تحت رعاية عصبة الأمم ، وبضمانة الحكومة البريطانية ، وذلك لشراء المزيد من أراضي الدولة ، وتخصيصها للشركات اليهودية والمستعمرات الزراعية. وكانت الحكومة منحت عشرات آلاف الدونمات من الأراضي الأميرية للمؤسسات الصهيونية :

٤٣٢

٠٠٠ ، ٨٢ دونم للاستيطان و ٠٠٠ ، ٧٥ دونم لشركة البوتاس و ٠٠٠ ، ١٨ دونم لشركة الكهرباء ، كما حولت لها امتياز تجفيف سهل الحولة.

وزاد في الضيق الاقتصادي على السكان العرب سياسة الاستيطان الصهيوني بمقاطعة العمل العربي والمنتوجات العربية ، تحت شعار العمل العبري والسوق اليهودية ، الذي رفعته الهستدروت وعملت على تطبيقه. وحتى في أعمال الحكومة ، كان المقاولون اليهود ينحازون ضد العمال العرب ، وظهر ذلك جليّا في ميناء حيفا ، الذي بدأت الحكومة توسيعه في سنة ١٩٢٩ م. وجاء الإحباط السياسي ليفاقم الأزمة ، إذ في ٦ كانون الأول / ديسمبر ١٩٢٨ ، وصل المندوب السامي الثالث ، سير جون تشانسلر ، وهو من موظفي وزارة المستعمرات المؤيدين للصهيونية ، ولم يكن متحمسا لتشكيل حكومة تمثيلية ، فتابع سياسة سلفه في المماطلة والتسويف. وفي ٣٠ أيار / مايو ١٩٢٩ م ، نجح حزب العمال البريطاني في الانتخابات ، وتولى رامزي مكدونالد رئاسة الحكومة ، وعهد إلى الاشتراكي ، سدني وب (الذي أصبح لاحقا اللورد باسفيلد) ، بوزارة المستعمرات. وعلقت القيادة الفلسطينية الآمال عليه بتغيير السياسة البريطانية ، لكنه سارع إلى إعلان التزام حكومته بوعد بلفور. وفي المقابل ، حرك التغيير الوزاري المنظمة الصهيونية لاستباق أي تراجع عن سياسة الانتداب. فعقد المؤتمر الصهيوني السادس عشر (زوريخ آب / أغسطس ١٩٢٩ م) ، ووسّعت الوكالة اليهودية ، وارتفعت الدعوات إلى الإسراع في إعلان «الدولة اليهودية» ، وخصوصا من قبل التيار التنقيحي ، بقيادة جابوتنسكي ، الذي اعتمد سياسة الاستفزاز للعرب وحكومة الانتداب على حد سواء.

وجاءت الشرارة التي أشعلت أعمال عنف واسعة النطاق ، المعروفة باسم «ثورة البراق» ، من القدس ، في إثر صدام بين اليهود والعرب ، عند الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف ، الذي يعتبره المسلمون «حائط البراق» ، حيث ربط الرسول (ص) دابته ـ البراق ـ ليلة الإسراء والمعراج ، بينما يعتقد اليهود أنه جدار هيكل سليمان (حائط المبكى). وكان قد وقع الصدام الأول في ٢٤ أيلول / سبتمبر ١٩٢٨ م ، في يوم عيد «التاسع من آب» (عبري) ، الذي يقع في ذكرى خراب الهيكل الثاني ، إذ غيّر اليهود الوضع الذي كان قائما سابقا. فوقع صدام مع المصلين المسلمين ، الذين اعتقدوا أن اليهود يخططون للاستيلاء على الحرم الشريف وقبة الصخرة. وفي إثر الصدام ، انعقد المؤتمر الإسلامي ، الذي دعا إليه الحاج أمين الحسيني ، في القدس (٢ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٢٨ م) ، وحضره مندوبون من سورية ولبنان وشرق الأردن. وقرر المؤتمرون تشكيل جمعية حراسة الأماكن الإسلامية المقدسة ، وآلوا

٤٣٣

على أنفسهم الدفاع عن البراق والأقصى. كما طالبوا الحكومة ، وفقا لصك الانتداب ، المادة ١٢ ، بمنع اليهود من تغيير الوضع القائم ، فاستجابت للطلب ، مؤكدة بقاء الوضع على ما هو عليه. وفي المؤتمر برز الحاج أمين زعيما للحركة الوطنية الفلسطينية ، بديلا من اللجنة التنفيذية.

وفي السنة التالية ، في التاريخ العبري نفسه ، الذي وافق ١٥ آب / أغسطس ١٩٢٩ م ، قام أتباع جابوتنسكي بتظاهرة استفزازية قرب الحرم ، بعد أن قاموا بأخرى في اليوم السابق في تل أبيب ، وهتفوا «الحائط حائطنا» ، ولم يلتفتوا إلى تحذيرات الشرطة بعدم الذهاب إلى القدس ، بل على العكس ، تعمدوا ذلك. وفي اليوم التالي الجمعة ١٦ آب / أغسطس قام المصلون المسلمون بتظاهرة مماثلة أمام البراق ، ووقعت اشتباكات محدودة. لكنها تجددت في اليوم التالي ، وقتل يهودي ، وجرح ١١ شخصا من الجانبين. وفي يوم الجمعة اللاحق (٢٣ آب / أغسطس) ، وبعد أن تناقلت الأخبار أحداث الحرم ، تجمعت حشود مسلمة في المسجد الأقصى للصلاة ، لمناسبة المولد النبوي الشريف. وبعد الصلاة خرجت الجموع ، مسلحة بالعصي والهراوات والسكاكين وحتى السيوف ، واشتبكت بجمهرة من جماعة جابوتنسكي ، وصلت إلى المكان تحديا ، واتسعت الاشتباكات ، ووصلت إلى الحي اليهودي والمستعمرات المحيطة بالقدس. كما وصلت تعزيزات كبيرة من قوات الحكومة بالمصفحات ، وحلقت طائرات فوق المدينة ، وتمت السيطرة على الموقف ، وهدأت الحالة في القدس ، بينما انتقلت الصدامات إلى مدن فلسطين الأخرى وقراها.

وعمت ردات الفعل العنيفة جميع أنحاء البلاد. ففي الخليل ، هاجم السكان الحي اليهودي ، حيث قتل نحو ٦٠ شخصا ، وجرح ٥٠ آخرون ، وانتهى الاستيطان اليهودي في المدينة. وفي نابلس ، اشتبك الأهالي مع الشرطة لدى محاولتهم الاستيلاء على الأسلحة في أحد مراكزها. وفي بيسان ، كما في يافا ، هاجم السكان المستوطنين. واستمرت أعمال العنف يومي ٢٥ و ٢٦ آب / أغسطس في مناطق متعددة : حيفا ويافا والقدس وصفد وغيرها. وشهدت مدينة صفد ، والقرى المحيطة حالة من الغليان ، في إثر إشاعة خبر أن اليهود اعتدوا على الحرم الشريف ، وهدموه وأحرقوه ، فهاجم الجمهور الحي اليهودي وسيطر عليه ، ونقلت الشرطة سكانه إلى السراي ، حيث مكثوا ثلاثة أيام. ووصلت إلى المدينة تعزيزات عسكرية بريطانية ، اشتبكت مع الأهالي ، فسقط عدد من الشهداء. وبعد أن سيطرت قوات الحكومة على المدينة ، لجأ عدد من المطلوبين إلى الجبال ، وظلوا مطاردين فترة طويلة. وقد شكّل هؤلاء ، بقيادة أحمد طافش ، أول تنظيم عربي مسلح في فلسطين ضد الانتداب والصهيونية ، أطلقوا عليه اسم

٤٣٤

«الكف الأخضر» ، واستمر في القيام بغارات خاطفة مدة عام تقريبا.

واستمرت الاضطرابات حتى نهاية شهر آب / أغسطس ١٩٢٩ م ، ثم بدأت تجنح نحو الهدوء بصورة عامة ، وتمخضت عن مقتل ١٣٣ يهوديا وجرح ٣٣٩ ، واستشهاد ١١٦ عربيا وجرح ٢٣٢ ، معظمهم برصاص القوات البريطانية. ودمرت السلطات بعض القرى العربية مثل لفتة ودير ياسين. وقدمت للمحاكمة أكثر من ١٠٠٠ شخص ، بينهم ٩٠٠ عربي ، وأصدرت أحكاما بالإعدام على ٢٦ شخصا ، كلهم من العرب ما عدا واحد ـ شرطي يهودي قتل بسلاحه الحكومي أسرة عربية من ٧ أنفار. وأصرّت الحكومة على تنفيذ حكم الإعدام بثلاثة مناضلين ، هم : عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي ، وتمّ ذلك في سجن عكا ، يوم الثلاثاء في ١٧ حزيران / يونيو ١٩٣٠ م ، اليوم الذي خلدهم فيه الشاعر إبراهيم طوقان بقصيدة «الثلاثاء الحمراء» ، لرباطة جأشهم في مواجهة حبل المشنقة. كما فرضت عقوبات صارمة على القرى التي شاركت في الهجوم على مستعمرتي موتسا وهرطوف ، وكذلك على مدينة الخليل. سارع المندوب السامي في العودة من إجازة كان يمضيها في لندن لدى اندلاع ثورة البراق. وأصدر بيانا عنيفا ، حمّل فيه العرب مسؤولية الأحداث ، واتهمهم بارتكاب المجازر ، ووصفهم بالمتعطشين للدماء. فأثار حملة من الاستنكار ، اضطرته إلى التراجع. وفي الواقع ، فإنه قبل اندلاع أعمال العنف ، جرى لقاء في بيت القائم بأعمال الحكومة ، هاري لوك ، حضره ثلاثة من الزعماء العرب ، ومثلهم من قيادة العمل الصهيوني ، وقرروا العمل على تهدئة الأوضاع. لكن زمام الأمور أفلت من أيديهم جميعا ، وخصوصا أن القيادة الصهيونية الأولى كانت لا تزال في زوريخ ، بعد المؤتمر السادس عشر ، والقيادات العربية فقدت السيطرة على الشارع.

وكان من نتائج ثورة البراق تنشيط النضال الفلسطيني ، بعد فترة من الركود. فعقد اجتماع موسع (٣ أيلول / سبتمبر ١٩٢٩ م) في يافا ، عقبه اجتماع للجنة التنفيذية ، التي تبنت قرارات يافا بمقاطعة الشركات والمنتوجات اليهودية ، بما فيها شركة الكهرباء ـ روتنبرغ ـ ورعاية الجرحى وأسر الشهداء والاهتمام بالموقوفين والدفاع عنهم. كما عقد المؤتمر النسائي الفلسطيني الأول (٢٦ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٢٩ م) ، وحضره نحو ٣٠٠ سيدة ، وقررن تأييد المطالب الوطنية ، وتنشيط دور المرأة في النضال وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع الأقطار العربية المجاورة. وعلى صعيد الوعي ، تعمق الفهم لطبيعة العلاقة العضوية بين الانتداب والمشروع الصهيوني ، كما كشفت الأحداث عقم النهج الذي تتبعه القيادة السياسية الفلسطينية لتحقيق الأهداف الوطنية. وفي الواقع ، تجاوزت الجماهير ذلك النهج ، ولم تتصرف وفقا لإرادة

٤٣٥

القيادة التي عارضت أعمال العنف ، وخصوصا ضد الحكومة. ونتيجة شراسة القمع البريطاني ، وجور الأحكام التي أصدرتها السلطات ، ارتفعت نبرة الدعوة إلى اللجوء إلى الكفاح المسلح ، وراحت تتشكل مجموعات مقاتلة ، مثل عصابة الكف الأخضر وغيرها.

في المقابل ، تسببت أحداث سنة ١٩٢٩ بتغييرات ملحوظة في العمل الصهيوني ، فبرزت فيه ثلاثة أجنحة ، راحت تصارع على مواقفها ، داخليا وخارجيا ، بشأن السياسة التي يجب أن يتخذها هذا العمل ، بما في ذلك إزاء الانتداب. ففي الوسط ، وقف حزبا هبوعيل هتسعير (العامل الفتي) وأحدوت هعفودا (وحدة العمل) ، اللذان توحدا (١٩٣٠ م) ، في «مفليغت بوعالي إيرتس يسرائيل ـ مباي» (حزب عمال أرض إسرائيل). وحصل الحزبان في انتخابات مجلس النواب (أسيفات هنفحاريم) الثالث على ٣١ مندوبا من مجموع ٧١. ومنذئذ ، احتل هذا الحزب المقام الأول في إدارة أمور الاستيطان ، كما في الحركة الصهيونية ، وبرزت فيه زعامة دافيد بن ـ غوريون. وتشكلت المعارضة الرئيسية من التيار التنقيحي بزعامة جابوتنسكي ، التي انتقدت بشدة السياسة البريطانية ، وأساليب عمل المنظمة الصهيونية المتوافقة معها. وفي برنامجها : معارضة التنازل عن شرق الأردن والمطالبة بإعلان أكثرية يهودية في فلسطين ، وتحويلها إلى دولة يهودية كأهداف نهائية للعمل الصهيوني. وقد حصل هذا التيار في الانتخابات على ١٦ مندوبا.

وعلى يسار حزب مباي ، تشكلت مجموعة صغيرة من المثقفين الليبراليين ، ذوي الماضي الصهيوني والنفوذ السياسي ، مثل يهودا ماغنس ، الرئيس الأول للجامعة العبرية ، وحاييم كالفارسكي ، من قدامى قيادة العمل الصهيوني ، وآرثر روبين ، مسؤول مكتب يافا ، وغيرهم. وكانت النقطة المركزية في برنامج هذه المجموعة السياسي ، هي التنازل عن مشروع تحويل فلسطين إلى «دولة عبرية» ، تقوم على أكثرية سكانية يهودية. وشكّل هؤلاء حركة بريت شالوم (عصبة السلام) ، وبعدها حركة إيحود (الوحدة) ، بالاستناد إلى أفكار الفيلسوف أحاد هعام (آشر غينزبرغ) ، التي أكدت على أولوية «المركز الروحي اليهودي» ، وليس على الاستيطان الجماعي والاستقلال السياسي. ورفعوا شعار «الدولة ثنائية القومية» ، القائل بموقع متكافىء لكل من «القوميتين» ـ الفلسطينية والإسرائيلية ـ بغض النظر عن النسبة العددية لكل منهما بين السكان. ووافقوا لاحقا على ألّا يزيد عدد اليهود عن ٥٠% من مجموع السكان في البلاد. ولم تتمتع طروحات هذه الجماعة باستجابة كبيرة ، لا بين اليهود ولا العرب. وقد تبنى حزب هشومير هتسعير (الحارس الفتي) موقفهم من «الدولة ثنائية القومية» ،

٤٣٦

لكن من دون وضع سقف للاستيطان اليهودي عدديا. وكانت هناك مجموعات صغيرة أخرى ، مثل الصهيونيين العموميين والمزراحي ، التي دعمت بصورة عامة سياسة وايزمن وتيار الوسط.

وخلال الأحداث ، أدّت الهاغاناه دورا هامشيا إلى جانب القوات البريطانية. وبرز ذلك في القدس وتل أبيب وحيفا ، أمّا في المناطق الأخرى فكان دورها ضئيلا أو معدوما. ونتيجة هذا الوضع ، واتهام القيادة الصهيونية حكومة الانتداب بالتقصير في حماية المستوطنين ، والتقاعس في قمع الانتفاضة الجماهيرية العربية ، فقد ارتفعت أصوات تنادي بضرورة تطوير الهاغاناه ، لتصبح أداة للعمل العسكري الصهيوني الذاتي. وكان التوجه الأول نحو تشكيل قيادة قطرية ، تنسق العمل العسكري في البلاد كلها. واشترك في هذه القيادة ممثلون مدنيون محليون ، لكن هذه الشراكة لم تدم طويلا. فاعتراضا على هيمنة الهستدروت ، وبالتالي حزب مباي ، على الهاغاناه ، انقسمت المنظمة ، وشكّل التنقيحيون منظمة موازية هي «التنظيم ب». كما انقسمت اللجنة القيادية ، ومالت الأحزاب غير العمالية إلى جانب التنقيحيين ومنظمتهم. ومع أنه كان هناك تنسيق بين المنظمتين ، توصل إليه بن ـ غوريون مع جابوتنسكي ، لكن الانقسام ظل قائما حتى سنة ١٩٣٧ م. ومع ذلك ، فقد راحت كل منظمة تطور ذاتها ، وتسلح نفسها ، وتحسن من تدريب أعضائها وكوادرها القيادية.

ه) الكتاب الأبيض الثاني

شكلت أحداث سنة ١٩٢٩ حافزا على تحوّل نسبي في سياسة حكومة لندن العمالية تجاه المشروع الصهيوني ، اعتبرته الوكالة اليهودية ارتدادا عن وعد بلفور ، فهبت لمقاومته. والواقع أن اللورد باسفيلد (سدني وب) ، وزير المستعمرات (١٩٢٩ ـ ١٩٣١ م) ، أدخل خطا جديدا تجاه مسألة فلسطين في وزارته ، وجعله سياسة رسمية للحكومة ، برئاسة رامزي مكدونالد. وفي هذه الفترة ، برز اتجاهان مناوئان للمشروع الصهيوني : الأول عمالي ، يرى فيه مشروعا استعماريا ، يقوده أغنياء اليهود في إنكلترا والولايات المتحدة ، لاستغلال فلسطين وسكانها اقتصاديا ؛ والثاني محافظ ، يساوره القلق من النزعات الشيوعية لدى المهاجرين اليهود من روسيا. وكلاهما دعا إلى وضع قيود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وإزاء هذه التوجهات لحكومة العمال في لندن ، تحركت المنظمة الصهيونية ، في بريطانيا والولايات المتحدة ، لممارسة أنواع الضغوط جميعها على حكومة مكدونالد ، وإجبارها على التراجع عن خطها السياسي ، ونجحت بذلك. وفي ١٦ أيلول / سبتمبر ١٩٢٩ م ، اقترح مجلس عصبة الأمم على

٤٣٧

الحكومة البريطانية جمع المعلومات اللازمة عن أحداث فلسطين ، حتى آذار / مارس ١٩٣٠ م ، بهدف عقد جلسة استثنائية للجنة الانتداب التابعة لها ، تدرس أسباب الاضطرابات ، والإجراءات الواجب اتخاذها لمنع تكرارها.

وإزاء الضجة التي أثارتها الوكالة اليهودية على أحداث سنة ١٩٢٩ ، وسلوك حكومة الانتداب فيها ، عينت الحكومة البريطانية لجنة للتحقيق في أسبابها ووقائعها. وترأس اللجنة القاضي ، سير والتر شو ، فعرفت باسمه ، واشترك معه ثلاثة أعضاء من مجلس العموم البريطاني ، يمثلون الأحزاب الثلاثة فيه (١٣ أيلول / سبتمبر ١٩٢٩ م). وكان المندوب السامي ، تشانسلر ، اعترف في تقاريره إلى وزارة المستعمرات (تشرين الأول / أكتوبر ١٩٢٩ م) ، بأن الحالة لم تهدأ ، وبأن السكان العرب يقتربون من حافة اليأس بسبب تجاهل الحكومة مطالبهم ، وحالة التململ تعم جميع طبقات الشعب. وعزا تشانسلر ذلك إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعانيها العرب ، وخصوصا مع تفاقم المشكلة الناجمة عن انتقال المزيد من الأراضي إلى مؤسسات استيطانية صهيونية. ومعلوم أن هذه الأراضي كانت من أملاك الدولة ، أو تخصّ ملاكين غائبين ، منهم من يقيم خارج فلسطين ، وعند بيعها يطرد الفلاحون منها ، فيصبحون من دون مورد رزق ، وبالتالي عامل تفجير للاضطرابات.

وزاد في قلق حكومة الانتداب انتقال حالة الهيجان الشعبي إلى الأقطار العربية المجاورة ، وتهريب الأسلحة إلى فلسطين ، واستعداد المتطوعين للانضمام إلى أية ثورة محتملة هناك. وتفيد التقارير الأمنية للحكومة عن تشكيل عصابات مسلحة في المدن والريف ، هدفها مهاجمة الموظفين ـ اليهود والبريطانيين ـ في نواحي عكا وحيفا ونابلس ، فضلا عن المطاردين في منطقة صفد. ومع استمرار التوتر ، ظلت إدارة تشانسلر متشبثة بسياستها القمعية وفرض العقوبات الجماعية لتشمل البلاد كلها. ودعت اللجنة التنفيذية إلى الاجتماع العربي العام (تشرين الأول / أكتوبر ١٩٢٩ م) ، وحضره فضلا عن زعماء محليين ، شيوخ البدو من جميع أنحاء فلسطين ، ومندوبون من سورية وشرق الأردن ولبنان. وأرسل المؤتمر برقية إلى وزير المستعمرات ، أعلن فيها «عدم ثقة الأمة» بالمندوب السامي ، بسبب سياسته المنحازة إلى اليهود ، وأقسم الأعضاء على منع بيع الأراضي للاستيطان ، ومقاطعة المصنوعات والمتاجر اليهودية ، وتنشيط الصناعة والتجارة العربية ، كما قرروا إعلان الإضراب العام لمناسبة وعد بلفور.

وباشرت لجنة شو عملها في أواخر تشرين الأول / أكتوبر ١٩٢٩ م ، فعقدت ٤٧ جلسة علنية ، و ١١ أخرى سرية ، واستمعت إلى ١١٠ شهود ـ موظفين حكوميين

٤٣٨

وعرب ويهود ـ ووضعت تقريرها وقدمته إلى وزارة المستعمرات (٣٠ آذار / مارس ١٩٣٠ م). وبرّأت اللجنة حكومة الانتداب من المسؤولية عن الاضطرابات ، كما ادعت الوكالة اليهودية. وعلى العموم ، كان تقرير اللجنة متناقضا مع الادعاءات الصهيونية ، إذ إنه أرجع أسباب الاضطرابات إلى سياسة «الوطن القومي اليهودي» ، والتي تشترك فيها الحكومة البريطانية مع المنظمة الصهيونية. ورأت اللجنة أن الأسباب المباشرة في اندلاع العنف تكمن في سلوك اليهود إزاء الأماكن المقدسة. وورد في التقرير أن شعور العرب بالعداء تجاه اليهود يعود إلى خيبة أمانيهم السياسية والوطنية وخوفهم على مستقبلهم الاقتصادي ، وخشيتهم من أن يسيطر اليهود عليهم سياسيا ، بسبب الهجرة وانتقال الأراضي إليهم ، ولاعتقاد العرب أن حكومة الانتداب منحازة إلى مصلحة اليهود. وأوضح التقرير بجلاء الآثار السلبية للاستيطان الصهيوني على أهل البلد الأصليين ، وعلى الصعد كافة ، وخصوصا ما يتعلق باستملاك الأراضي ، وطرد الفلاحين منها ، وبالتالي ، نشوء طبقة ناقمة لا أرض لها ، هي مادة لتفجير الاضطرابات. كما أكد أن أوضاع البلد الاقتصادية لا تحتمل المزيد من الهجرة اليهودية إليها.

ولم تكن للجنة صلاحية التطرق إلى صك الانتداب ، لكنه طلب منها تقديم توصيات ، فجاء فيها : ١) ضرورة أن تصدر الحكومة البريطانية بيانا صريحا وواضحا عن سياستها في فلسطين ، يفسر ويبرز ما ورد في صك الانتداب عن صيانة حقوق الطوائف غير اليهودية ؛ ٢) أن تعيد الحكومة النظر في أنظمة الهجرة والرقابة عليها ، بغية وقف الهجرة الزائدة ، أخذا في الاعتبار مصالح السكان المحليين ؛ ٣) إجراء تحقيق علمي حول إمكانات البلد الزراعية والإسكانية لتحديد قدرتها على استيعاب المهاجرين من دون إلحاق الضرر بسكانها ؛ ٤) إيجاد السبل لحماية المزارعين العرب ، والحيلولة دون إجلائهم عن الأرض ، ووضع القيود على انتقالها إلى اليهود ؛ ٥) ضرورة توضيح أن المركز الخاص للجمعية الصهيونية بموجب صك الانتداب لا يخولها المشاركة في حكم فلسطين ؛ ٦) ضرورة الأخذ في الاعتبار شعور العرب بالاستياء ، الناجم عن حرمانهم من الحكم الذاتي ؛ ٧) تعيين لجنة دولية من قبل عصبة الأمم للفصل في حقوق الطرفين في البراق. (١)

وفعلا ، وبعد صدور تقرير لجنة شو ، أوفدت عصبة الأمم لجنة ثلاثية لدراسة أوضاع البراق ، وتقديم توصية بشأنه (حزيران / يونيو ١٩٣٠). وبعد الاطلاع على

__________________

(٣٦) John Hadawi ,op.cit.,Vol.I ,p.٢١٢.

٤٣٩

الوثائق والأدلة ، قررت اللجنة أن حائط البراق ملك للوقف الإسلامي ، ويجب أن يبقى كذلك ، مع المحافظة على الوضع الذي كان قائما في السابق ، من إقامة الطقوس الدينية اليهودية عنده. وصدر في إثر ذلك قانون عن مجلس الملك الخاص ، يقضي بوضع توصيات لجنة البراق موضع التنفيذ ، ففعلت الحكومة ذلك. ويذكر أن لدى قدوم اللجنة إلى فلسطين ، توافد عليها رجالات من مصر وسورية ولبنان والعراق وجاوة والهند وإيران وتركيا ، لتقديم شهاداتهم وتدعيم موقف الفلسطينيين في مسألة البراق ، الذي كان جزءا من «وقف حيّ المغاربة» ، أوقفه الملك الأفضل ، ابن صلاح الدين الأيوبي ، على مدرسة «الأفضلية» ، التي أنشأها في ذلك الحي.

ومع أن أحداث سنة ١٩٢٩ عززت موقع القوى والشخصيات التي دعت إلى نبذ التفاوض غير المجدي مع بريطانيا ، واللجوء إلى استعمال العنف ضدها لضلوعها في المشروع الصهيوني ، فإن نشر تقرير لجنة شو شجع اللجنة التنفيذية على إرسال وفد إلى لندن ، لملاحقة القضية هناك عن كثب. ووصل الوفد في ٣٠ آذار / مارس ١٩٣٠ م ، وقدّم إلى حكومة رامزي مكدونالد مذكرة بوقف الهجرة اليهودية ، ومنع انتقال الأراضي من أيدي العرب ، كما طالبت بتأليف حكومة وطنية نيابية. لكن رئيس الحكومة ردّ على الوفد في بيان أمام مجلس العموم ، أكد فيه التزام حكومته نحو «الشعب اليهودي ونحو الجماعات غير اليهودية» ، وقال «إن حكومة جلالته لن تتأثر بالضغط والتهديد ، ولن تحيد عن الطريق المرسوم في صك الانتداب.» وبلّغت الحكومة الوفد أنها سترسل خبيرا إلى فلسطين لدراسة مسألتي الهجرة والأراضي. وقطع الوفد المفاوضات ، وأذاع بيانا أكد فيه اقتناعه باستمرار الحكومة في هضم حقوق العرب ، إكراما للسياسة الصهيونية ، «مما يؤدي إلى إبادتنا كأمة وإجلائنا عن ديارنا. وبما أن أهل البلاد العربية والإسلامية شركاء في فلسطين بات واجبا علينا أن نخطرهم بالحالة الخطيرة التي تهدد كيان بلادهم المقدسة وإخوانهم الساكنين فيها.» (١)

وبناء على توصية لجنة شو ، أوفدت الحكومة الخبير العالمي بمسائل الهجرة والإسكان ، سير جون هوب ـ سمبسون ، إلى فلسطين للتحقيق في أوضاعها على هذين الصعيدين (أيار / مايو ١٩٣٠ م). وأمضى سمبسون شهرين يطوف في القرى العربية والمستعمرات اليهودية ، وقدم تقريره إلى الحكومة (آب / أغسطس ١٩٣٠ م) ،

__________________

(٣٧) مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، «فلسطين : تاريخها وقضيتها» (المرحلة الثانوية) ، (نيقوسيا ـ قبرص ، ١٩٨٣) ، ص ٥٧.

٤٤٠