الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

في المقابل ، كان العثمانيون في ذروة قوتهم ، ماديا ومعنويا. فقد حافظوا على روحهم القتالية المستمدة من تراث «الغازي» ، إلى حد كبير ، عبر حروبهم المستمرة مع أوروبا وآسيا الصغرى. كما ظلت مواردهم المالية تتزايد عبر الفتوحات التي توّجها دخولهم القسطنطينية. واستعان العثمانيون بخبرات متنوعة في تطوير إدارة الدولة ، تمثلت بعدد كبير من الوزراء والموظفين الأكفاء ، الذين توافدوا على الدولة الفتية. وعندما أحسّ بنو عثمان أن نظامهم العسكري القديم القائم على مبدأ الغازي ، لم يعد يلبي حاجاتهم ، عمدوا إلى تحديثه ، أولا عبر «النظام الجديد» (يني تشري) ، ولاحقا عبر «التجنيد العام» (الدفشرمي). هذا فضلا عن بناء أسطول ضخم ، وإدخال المدفعية والأسلحة النارية بكثرة ، وتطوير المعرفة بالعلوم العسكرية. وفي قمة الهرم ، وعلى الرغم من بشاعة التقليد العثماني بقتل السلطان إخوته لدى اعتلائه العرش ، أو حبسهم في «القفص» ، فقد وفر للدولة العثمانية سلسلة من السلاطين الأكفاء والطموحين ، جعلت دولتهم القوة الأولى في عالم ذلك الزمان ، خلال فترة قصيرة نسبيا.

لم يكن في قدرة المماليك الصمود أمام العثمانيين ، ولم يهب السكان المحليون لنصرة حكم المماليك الفاسد في حربه المصيرية. وكان الموقف الشعبي العام في بلاد الشام ومصر محايدا ، وذلك لكره الناس للمماليك وخوفهم من العثمانيين ، فلم يجد سليم الأول مقاومة تذكر في بلاد الشام بعد انتصاره على قانصوه الغوري وقتله في مرج دابق. ودخل السلطان قلعة حلب ، واستولى فيها على خزينة الغوري ، كما قبض على الخليفة العباسي ، المتوكل الذي كان الغوري حمله معه إلى المعركة. ومن حلب إلى دمشق ، فدخلها سليم من دون مقاومة ، وجاءته هناك الوفود لتقديم الولاء من جميع أنحاء بلاد الشام. ومن تخلف ، أو تردد ، جرى تطويعه. وفي السنة التالية (١٥١٧ م) ، تقدم سليم ، وفي الطليعة وزيره سنان باشا إلى مصر ، فاصطدم بكتيبة من المماليك في خان يونس ، وقضى عليها ، وتابع مسيرته إلى القاهرة. وهناك ، قاتل السلطان الجديد ، طومان بي لكن من دون جدوى ، فهزم ، وهرب ، وألقي القبض عليه ، وشنق على إحدى بوابات القاهرة ، وأجهز سليم على المماليك ، وأنهى دولتهم.

وفي طريق عودته من مصر إلى إستنبول خريف سنة ١٥١٧ م ، عرج سليم الأول على القدس. وكان يحمل معه الخليفة العباسي ، المتوكل. ولدى عودته اتهم سليم الخليفة باختلاس الأموال وأودعه السجن. وفي رواية عثمانية ، هناك شك في صدقيتها ، أن المتوكل تخلى عن الخلافة لمصلحة سليم. لكن العثمانيين لم يستعملوا اللقب بصورة رسمية حتى معاهدة كوتشوك كاينرجي (١٧٧٤ م) ، التي أنهت

٢٤١

حربا مع روسيا. وبموت سليم ، تولى السلطنة من بعده ابنه سليمان (١٥٢٠ ـ ١٥٦٦ م) ، الملقب «قانوني» ، نظرا إلى القوانين التي أصدرها في شؤون تنظيم الدولة ، والتي عمل على صوغها وتصنيفها إبراهيم الحلبي. وفي أيام سليمان ، بلغت الإمبراطورية العثمانية ذروة اتساعها وازدهارها. فقد امتدت على ثلاث قارات ، وورثت الخلافة العباسية والإمبراطورية البيزنطية على حد سواء ، وأصبحت «إسطمبول» ، بعد دمشق وبغداد والقاهرة ، مركز العالم الإسلامي. ولكن في هذه الفترة بالذات ، ومع اكتشاف أميركا ورأس الرجال الصالح ، وبداية النهضة الأوروبية ، راح مركز القوة الكوني يتحول إلى الغرب ، وراح الشرق يتراجع إلى الوراء.

وعلى العموم ، لم تلق القوات العثمانية مقاومة تذكر في زحفها على مصر ، عبر بلاد الشام وفلسطين. فنيابة صفد استسلمت للسلطان سليم وهو لا يزال في دمشق ، ولحقت بها نيابتا القدس وغزة. والتحركات التي قام بها بعض مشايخ البدو والزعماء المحليين ، بهدف تحسين أوضاعهم ، سحقت بسهولة ، كما حدث في نابلس ، حيث ثار أحد أمرائها على السلطان سليم عندما عزله. وبداية تبعت فلسطين ولاية الشام (شام شريف). وكان العثمانيون قد قسموا بلاد الشام إلى ثلاث ولايات : الشام وحلب وطرابلس. وجعلوا فلسطين أربعة ألوية ـ «سناجق» (جمع سنجق) ـ وهي : صفد ونابلس والقدس وغزة. وفي كل لواء (سنجق) عدد من الأقضية ـ «نواح» (جمع ناحية). فضم لواء صفد النواحي : صفد والشقيف وتبنين وصور وعكا وطبرية. ولواء نابلس ضم : جبل شامي (عيبال) وجبل قبلي (جرزيم) والقاقون وبني صعب وأحيانا اللجون. ولواء القدس ضم القدس والخليل. ولواء غزة ضم غزة والرملة واللد. وعلى العموم ترك العثمانيون على رأس هذه التقسيمات الإدارية أمراء وحكاما محليين ، الذين أقسموا الولاء للسلطان العثماني ، وتعهدوا بحفظ الأمن وجباية الضرائب وتسليمها لممثلي الدولة.

لكن خضوع سكان بلاد الشام للسلطان العثماني لم يكن يعني الاستكانة التامة للحكم الجديد. فهذا الحكم لم يغير الأوضاع كثيرا ، وخصوصا الاقتصادية. كما أن الحكام والزعماء المحليين ، الذين تعودوا على سلطة المماليك «المنفلشة» في أيامها الأخيرة ، لم تعجبهم قبضة العثمانيين القوية. فانتهزوا فرصة موت سليم الأول ، وصدور التنظيمات الإدارية الصارمة التي أصدرها سليمان القانوني ، وتمردوا على الباب العالي (دار السلطنة). وقام بأول تمرد والي دمشق ، الغزالي وهو من المماليك الذين قاتلوا سليم الأول ، ثم التحقوا به ، فكافأه السلطان بولاية بلاد الشام. ورأى هذا الفرصة ملائمة لرفع نير العثمانيين عن كاهله ، مستفيدا من حالة التذمر العامة بين

٢٤٢

الناس لسوء أحوالهم الاقتصادية ، وانضم إليه حاكما صفد والقدس. وبعد قمع التمرد ، وقتل الغزالي ، أحكم العثمانيون قبضتهم على الولايات وحكامها ، وراحوا يستبدلون الزعماء المحليين بآخرين عثمانيين ، وبالتالي رفدهم بحاميات عسكرية (سباهي) ، لحفظ الأمن وجباية الضرائب.

وبعد قمع هذا التمرد ، ساد الهدوء في البلاد ، وتمّ ضبط الأمن على الطرقات ، وخصوصا «طريق الحج». وجرى تنظيم الإدارة العسكرية والمدنية بالصيغة التي وضعها سليمان القانوني. وقسمت الأراضي إلى إقطاعات عسكرية. وأصحاب هذه الإقطاعات ، بحسب حجمها ودخلها ، كانوا ملزمين بتجنيد عدد معين من الفرسان (السباهي) ، للأمن وجباية الضرائب في الأحوال العادية ، وللالتحاق بجيش السلطان عند الحرب. وللسباهية في كل إقليم «علم» (لواء ـ سنجق) يجمعهم. وهم يخرجون إلى الحرب بقيادة «السنجقدار» (حامل اللواء) ، أو «أمير اللواء» ، الذي يعين بقرار من السلطان. والعلامة المميّزة له «الصولجان» ، الذي على رأسه كرة ذهبية ، وتحتها ذيل حصان. وخلال العقد الأول بعد احتلال البلاد ، استكمل العثمانيون ، في أيام سليمان القانوني ، التنظيم الإداري ـ العسكري للمناطق المحتلة. وقد أقرّ دستور ولاية الشام ، ومن ضمنها فلسطين ، في «القانونامة» ، الذي أصدره سليمان (١٥٤٨ م).

وانعكست التنظيمات الإدارية والعسكرية والأمنية التي وضعها سليمان القانوني ، إيجابا على بلاد الشام ، بعد الفوضى التي سادت فيها خلال المرحلة الأخيرة من حكم المماليك ، وامتدت إلى السنوات الأولى من الاحتلال العثماني. وتفيد الإحصاءات المتوفرة من العقد الأول للحكم العثماني ، أن عدد سكان فلسطين تضاعف ، ووصل نحو ٠٠٠ ، ٣٠٠ نسمة. وقد توزع ربع هؤلاء تقريبا على ست مدن ، هي : القدس والخليل وغزة والرملة ونابلس وصفد. أمّا بقية السكان فتوزعت على الريف ، سواء في القرى الزراعية ، أو مضارب البدو. ونتيجة الاستقرار ، وانتظام الإدارة وثبوت الأنظمة ، تحسن الإنتاج الزراعي ، النباتي والحيواني ، وتطورت بعض الصناعات الزراعية والحرفية. وكذلك ، نتيجة استتباب الأمن على الطرق ، تحركت التجارة ، ونشطت حركة الحج إلى الأماكن المقدسة. ولكن هذا كله لم يعمّر طويلا.

فعلى الرغم من الدستور (القانونامة) الذي أصدره سليمان ، والذي تناول تنظيم مجمل نواحي الحياة والحكم والتقسيمات الإدارية والمالية في الإمبراطورية المترامية الأطراف ، فإنه بعد موته ، راحت الأمور تتخذ منحى التراجع. لقد أصاب السلطنة العثمانية ما أصاب سابقاتها من الإمبراطوريات العسكرية ، المتعددة الأعراق والواسعة الأرجاء ، حيث عوامل الفرقة كانت أكبر من عناصر الوحدة. ولأسباب ذاتية

٢٤٣

وموضوعية ، استمرت فترة الهبوط في السلطنة أكثر من ثلاثة قرون ، الأمر الذي يضعها في مصاف سابقتها ، الإمبراطورية البيزنطية ، وفي مدينة القسطنطينية أيضا. وقد بدأ الفساد في القمة ، وراح يتغلغل في جسم الدولة إلى القاعدة. وبينما عوّض بعض الوزراء الأكفاء في البداية عن عجز السلاطين ، وغطوا بنشاطهم عورات بني عثمان ، فإنه في المرحلة الثانية ، كان بقاء السلطنة رهنا بالتوازنات الدولية ، وخصوصا الأوروبية. فاكتسبت السلطنة ، وبجدارة ، لقب «رجل أوروبا المريض» ، ولم تنفع معها محاولات الإصلاح عبر «التنظيمات» المتعددة.

لقد مرّت أيام سليم الثاني ، ابن سليمان (١٥٦٦ ـ ١٥٧٤ م) بسلام نسبي ، ليس بسبب قدراته الشخصية ، وإنما بفضل كفاءة وزيره محمد صقلّي. وفي أيام مراد الثالث (١٥٧٤ ـ ١٥٩٥ م) ، ومن بعده ابنه محمد الثالث (١٥٩٥ ـ ١٦٠٣ م) ، برز الاختلال في مركز السلطنة. فضعف السلطان شجع الإنكشارية على التمادي في طلب زيادة رواتبهم ومكافآتهم ، وبالتالي تواتر تمرداتهم. وهذا الاختلال في المركز أغرى الحكام المحليين والأمراء الإقطاعيين في الأطراف ، بانتهاز الفرصة ومحاولة الاستقلال ، أو على الأقل تحسين شروط العلاقة مع الباب العالي. وقد برز بين هؤلاء الأمير فخر الدين المعني الثاني (١٥٩٠ ـ ١٦٣٥ م) ، الذي انتهز الفرصة لتوسيع نفوذه ، وخصوصا في وقت كان الجيش العثماني مشغولا بالحرب مع الصفويين. واتجه فخر الدين إلى فلسطين ، فاحتل لواء صفد ، وأصبح على تماس مع الأمراء الحارثيين في اللجون ـ آل طراباي ـ من جهة ، ومع والي دمشق ، الذي ظل مواليا للباب العالي ، من جهة أخرى.

وكان المعنيون ، وهم قبيلة عربية درزية ، قد أقاموا سلطتهم الإقطاعية في جبل لبنان أيام المماليك. وفي المعركة بين سليم الأول والغوري ، وقف أميرهم ، فخر الدين الأول على الحياد حتى انجلى الموقف ، فسارع إلى الانحياز إلى المنتصر. وفي مقابل قسم الولاء ، ثبت السلطان العثماني الأمير المعني في إقطاعيته. أمّا فخر الدين الثاني ، الذي تميّز بقصر قامته وعظم طموحه ، فقد تطلع إلى إقامة دولة مستقلة في بلاد الشام. وبالدبلوماسية أخذ من الباب العالي سنجقي بيروت وصيدا ، ميناءين على البحر ، ومنفذين لتجارته وعلاقاته مع أوروبا. ثم انتهز الفرصة لضم طرابلس وبعلبك والبقاع. وما لبث أن توجه نحو فلسطين ، فأخذ صفد وطبرية والناصرة. وراح يتدخل في شؤون الحوران وشرقي الأردن. وعقد تحالفا مع حاكم غزة ضد حكام القدس ونابلس واللجون. ودارت بين الطرفين معارك غير حاسمة ، لم تكن في مصلحة فخر الدين ، لكنها لم تردعه.

٢٤٤

وكاد فخر الدين الثاني أن يحقق الأهداف الثلاثة التي وضعها نصب عينيه : إقامة دولة في لبنان الكبير والاستقلال عن السلطنة العثمانية وتطوير دولته وإعمارها. وقد لقي في سعيه للتوسع مقاومة شرسة من حكام فلسطين : أحمد بن طراباي (الحارثي) ، أمير اللجون ، ومحمد بن فرّوخ ، أمير نابلس ، وحسن باشا ، حاكم غزة. والتقى الطرفان في معركة بالقرب من يافا ، هزم فيها فخر الدين ، لكنه سرعان ما راح يستعد لقتال جديد. ولما تفاقم أمره ، استصدر والي دمشق ، أحمد باشا الحافظ فرمانا سلطانيا بالتحرك ضده وإخضاعه. وعندما شعر أن لا قبل له بمواجهة هذا التحالف ، سلم فخر الدين زمام الأمور لأخيه ، وهرب إلى إيطاليا ، وأقام عند حليفه ، فرديناند مديتشي ، دوق تسكانيا الأكبر ـ لمدة خمس سنوات (١٦١٣ ـ ١٦١٨ م). وخلال هذه الفترة كان فخر الدين يعد التحالفات مع بعض القوى الأوروبية ، لإقامة دولة مستقلة على الساحل السوري ، تكون لها علاقات تجارية وثقافية مع أوروبا. وفي غيابه أخذت من أخيه الأراضي جميعها التي احتلها ، وجعلت ولاية مركزها صيدا ، وتضم صور وبيروت وصفد.

لم تكن أوروبا في حينه مهيّأة لعمل عسكري في الشرق. وزيارة فخر الدين لفرسان مالطا (الصليبيين) ، لم تتمخض عن نتائج عملية لإعادة بناء دولة الفرنجة في فلسطين. لكن فخر الدين عقد معاهدات تجارية ، وخصوصا مع دوق تسكانيا ، الذي وعد بدوره بتقديم المساعدة لفخر الدين في سعيه للاستقلال عن الدولة العثمانية. وعاد فخر الدين إلى لبنان (١٦١٨ م) ، بوساطة حلفائه لدى الباب العالي. لكن هذا الأمير الطموح لم يلبث أن انتهز فرصة حرب السلطان مع الصفويين ، الذين احتلوا بغداد (١٦٢٣ م) ، وراح يوسع ممتلكاته ، فأخذ سناجق صفد ونابلس وغزة وعجلون. ومرة أخرى اصطدم بالمقاومة العنيدة التي أبداها أحمد بن طراباي. وزادت أهمية فخر الدين وهيبته بعد أن هزم حملة جردها ضده والي دمشق ، مصطفى باشا (١٦٢٣ م) ، وذلك في معركة عنجر (البقاع اللبناني).

إزاء تعاظم قوة فخر الدين ، من جهة ، وتفاقم الحرب مع الصفويين ، من جهة أخرى ، وفي غياب قدرة الحكام المحليين في بلاد الشام على التصدي له ، اعترف به مراد الرابع (١٦٢٣ ـ ١٦٤٠ م) واليا على عربستان ، من حلب إلى حدود العريش ، لقاء دفع الضرائب وحفظ الأمن (١٦٢٤ م). أمّا فخر الدين ، فقد عمد من جانب واحد وأطلق على نفسه لقب سلطان البرّ ، وبدأ يعارض المصالح العثمانية. ولم يقف عند هذا الحد ، بل عاد إلى فتح المفاوضات مع أوروبا ، إذ طرحت مسألة إقامة دولة مسيحية في الشرق ، مع ممثلي ملك إسبانيا. ولما استفحل أمر فخر الدين على الباب

٢٤٥

العالي ، استصدر والي دمشق ، أحمد كوتشوك ، فرمانا من السلطان مراد الرابع بتجريد حملة ضد فخر الدين وسحقه. وبينما توجهت القوات برّا ، فرض الأسطول العثماني ، بقيادة القابودان باشا (قائد الأسطول) جعفر ، حصارا على سواحل لبنان لقطع أية مساعدات أوروبية عن الأمير المتمرد.

وعندما أصبح وضع فخر الدين مهددا ، حاول المراوغة مع الباب العالي ، فعرض تسليم صيدا وبيروت ، بينما أرسل مطرانا مارونيا إلى أوروبا لتجنيد الدعم له. وعندما يئس ، هرب واختبأ في مغارة (١٦٣٣ م). وفي السنة التالية ، ألقي القبض عليه مع ولديه ، وحملوا إلى إستنبول ، حيث أعدموا (١٦٣٥ م). ولكن طموح خلفائه من المعنيين بالتوسع في فلسطين لم يتوقف. وعاد أخوه (١٦٥٣ م) واحتل سنجق صفد. ومع تقلص إمارة المعنيين ، عين الباب العالي حكاما عثمانيين من الإنكشارية في السناجق التي انتزعت منهم. وفي فلسطين ، ظل أبناء طراباي يحكمون اللجون ، وأبناء فروخ نابلس. وعلى العموم ، شهدت البلاد اشتداد قبضة السلطة المركزية ، عبر الإنكشارية والحاميات التركية التي أرسلت إليها ، أيام مراد الرابع والوزراء من آل كوبريلي. لكن الفساد كان قد تغلغل داخل الإنكشارية أنفسهم ، الأمر الذي أدّى إلى تغييرهم خلال فترات قصيرة من الحكم ، وبالتالي تفاقم حالة عدم الاستقرار في السناجق المتعددة.

وإزاء تدني قوة الإنكشارية وطغيان فسادهم ، راح الحكام المحليون يجندون جيوشا من المرتزقة ، من أجناس متعددة يستعملونها مداورة لفرض سلطتهم على الناس ولجباية الضرائب وحماية قافلة الحج. أمّا بالنسبة إلى السلطنة بصورة عامة ، فإن صدّ الإنكشارية على أبواب فيينا (١٦٨٣ م) ، في أيام محمد الرابع (١٦٤٨ ـ ١٦٨٧ م) ، كان مؤشرا واضحا على تراجع قوة العثمانيين إزاء أوروبا. وكان عقد معاهدة كارلوفيتس في ٢٦ كانون الثاني / يناير ١٦٩٩ م منعطفا خطيرا في موازين القوى بين أوروبا والعثمانيين ، تحت حكم مصطفى الثاني (١٦٩٥ ـ ١٧٠٣ م). ففي تلك المعاهدة ، اضطر السلطان إلى التنازل عن أراض واسعة في البلقان. لكن الأهم هو تحوّل الامتيازات التي منحها ملك فرنسا على يد سليمان القانوني (١٥٣٥ م) ، فمن موقع القوة ، أصبحت الآن لزاما على السلطان ، وحقا للدول الأوروبية المتعاظمة القوة. وفي تلك المعاهدة ، طالبت روسيا بإدخال الأماكن المسيحية المقدّسة تحت حمايتها ، وكذلك المسيحيين الأورثوذكس كلهم ، كما طالبت بأن يعفى هؤلاء من الضرائب ، وبأن لا يسري عليهم القضاء الشرعي الإسلامي.

ومنذ بداية القرن الثامن عشر ، راحت أوضاع السلطنة العثمانية تتدهور بوتيرة

٢٤٦

عالية ، ولم تنفع معها محاولات الإصلاح (التنظيمات والفرمانات السلطانية) ، سواء في الجيش ، أو في إدارة الدولة. وتضافرت عوامل خارجية وداخلية لوضع السلطنة في موقع الدفاع عن النفس إزاء الخارج ، و «انفلاش» السلطة في الداخل. فراحت تتراجع أمام أوروبا الناهضة ، في الغرب ، وكذلك في صراعها مع روسيا المحدثة في أيام القيصر بطرس الأكبر ، في الشمال الشرقي ، وتدافع عن أراضيها ضد الأفغان الذين تحركوا من إيران في اتجاه العراق. أمّا في بلاد الشام ، فقد برزت عائلة العظم (الشامية) في دمشق ، وتسلمت الولاية فيها ، برضى السلطان المشوب بالحذر. وفي فلسطين ، برز الزيادنة (ظاهر العمر) ، وبسطت هذه القبيلة البدوية سلطتها على فلسطين وأجزاء من لبنان. وفي مصر استعاد المماليك سلطتهم ، بشخص علي بك الكبير (١٧٦٠ ـ ١٧٧٣ م). وعلاوة على ذلك كله ، فتحت معاهدة كارلوفيتس الباب على مصراعيه أمام الدول الأوروبية لاستغلال التناقضات الداخلية عبر «نظام الامتيازات» ، التي اتسع نطاقها على جميع الصعد.

ثانيا : ظاهر العمر الزيداني

يمثل ظاهر العمر الزيداني ذروة حكم الأمراء المحليين في فلسطين ، واستقلالهم في إدارة شؤونهم الذاتية على رقعة واسعة من البلد ، وذلك تحدّيا للسلطنة العثمانية ، وبالتعاون مع قوى أوروبية ، وعبر سلسلة من التحالفات والصراعات ، مع الأمراء المجاورين أو ضدهم. لقد كرّر ظاهر العمر في القرن الثامن عشر ، ما فعله فخر الدين المعني في القرن السابع عشر. وفي الواقع ، لقي الاثنان في النهاية المصير نفسه ، إذ لم تكن السلطنة العثمانية ناضجة للتفتت بعد. وكان الزيادنة ، وهم قبيلة بدوية ، جاءت من الحجاز واستقرت في الجليل الأسفل ، قد برزوا عبر «الالتزام» ، أي ضمان جباية الضرائب من السكان في بعض المناطق ، لقاء مبلغ مقطوع للدولة. ومن هنا عرف الزعماء المحليون الذين عملوا به باسم «مقاطعجية». وهذا النظام الذي شاع في القرنين السابع والثامن عشر بديلا من الإقطاع العسكري بعد تدني فاعلية الإنكشارية وفسادهم ، أتاح لهؤلاء «الملتزمين» بناء جيوش خاصة مهمتها الحفاظ على أمنهم وجباية الضرائب واستخدامها في الصراع بين بعضهم البعض بشأن السلطة والنفوذ ، ولكن من دون أية فائدة للسلطنة في حروبها الخارجية.

واستحوذت ظاهرة الزيادنة ـ بروزهم وتوسعهم وصراعاتهم مع الجوار والسلطنة وسقوطهم ـ على تاريخ فلسطين في القرن الثامن عشر. وكان ظاهر العمر الشخصية

٢٤٧

المركزية في هذه الفترة ، التي ظلت على مسرح الأحداث أكثر من نصف قرن. وخلال هذه الفترة الطويلة نسبيا لظاهرة من هذا النمط ، تضافرت عوامل خارجية وداخلية على السلطنة ، استطاع ظاهر العمر أن يستغلها ويقوي سلطته ويوسع نفوذه. وكان طبيعيا أنه بقدر ما كرّس ظاهر العمر حكمه ، نتيجة الأوضاع القائمة آنذاك ، بقدر ما احتدم التناقض بينه وبين السلطنة ، التي لم تكن بعد ناضجة للانحلال الداخلي. ولذلك حسم الصراع بقتل ظاهر العمر وإنهاء الظاهرة (١٧٧٥ م). وفي ذروة قوته ، وبالتالي تناقضه مع الباب العالي ، تحالف ظاهر العمر مع صنو له في مصر ، هو علي بك الكبير ، المملوك الذي راودته تطلعات شبيهة بتلك التي بيّتها ظاهر العمر. واستطاع الحليفان احتلال دمشق (١٧٧١ م) ، بدعم من روسيا ، التي قصف أسطولها بيروت ، في استعراض للقوة إزاء الجيش العثماني.

ولد ظاهر العمر في العقد الأخير من القرن السابع عشر. وكان والده عمر بن صالح الزيداني ، ملتزما (مقاطعجي) صغيرا في أعمال سنجق صفد ، في منطقة نفوذ الشهابيين ، الذين ورثوا إمارة المعنيين في لبنان. وبعد موت والده (١٧٠٣ م) ، تولى ظاهر جزءا من التزام والده ـ قريتي عرابة والدامون ـ في الجليل الأسفل. ثم راح يوسع هذا الالتزام ، عبر التحالف مع بعض القبائل البدوية ، في منطقة اللجون الواقعة على الحدود بين سنجقي صفد ونابلس ، ومنهم : بنو صخر وبنو صقر وعرب السردية ، الذين انتشروا في الجزء الشرقي من مرج ابن عامر. ودخل ظاهر العمر في تحالفات قبلية ، وبالتالي في صراعات حدودية ، بين حاكم صفد ، الموالي لأمير جبل لبنان الشهابي ، وبين حاكم نابلس وزعماء العشائر فيها ، الموالين لأمير دمشق ، من آل العظم. وانحاز ظاهر العمر إلى أمير مشايخ البدو في سنجق صفد ، رشيد جبر ، فدخل في صراع مع آل ماضي في منطقة نابلس وآل جرّار في منطقة جنين. وفي هذه الفترة ، وعبر المصاهرة ، اتخذ ظاهر له مقرا في الناصرة ـ البلدة الأكبر في الجليل الأسفل.

ولإثبات جدارته أمام والي صيدا ، تعهد ظاهر العمر بكبح حلفاء الأمس ـ مشايخ بني صقر ـ وردعهم عن الإخلال بالأمن. ولما نجح في ذلك ، استثار والي دمشق ، سليمان باشا العظم الذي هبّ لمساندتهم. وإزاء تفاقم خطر ظاهر العمر ، عزم الباشا الدمشقي على سحقه ، فجرد ضده حملة قادها بنفسه (١٧٣٧ م) ، وفشل في القضاء عليه ، لكنه لم ينكفىء عن متابعة هدفه. في المقابل ، عمد ظاهر العمر إلى احتلال طبرية وتحصينها. وعندما عاود الباشا الكرة (١٧٤٢ م) ، وحاصر طبرية ، فشل ثانية في أخذها والقضاء على الأمير البدوي الصلب ، وانسحب إلى دمشق مرة أخرى. وعندها توجه ظاهر العمر إلى القنصل الفرنسي ، الذي كانت لدولته مصالح تجارية في

٢٤٨

الجليل ، وطلب منه التوسط لدى الباب العالي ، لكبح سليمان باشا عن محاربته. لكن القنصل تردد لاعتبارات تجارية وسياسية. وعاد سليمان باشا على رأس حملة ثالثة (١٧٤٣ م) ، وهذه المرة قصد دير حنا ، في الجليل الأسفل ، لتطويق ظاهر العمر في طبرية ، لكنه مات في قرية لوبية بين طبرية ودير حنا ، ويقال إن ظاهر العمر دسّ له السم ، وفشلت الحملة.

وبعد موت سليمان باشا العظم ، خلا الجو لظاهر العمر ، فوطد علاقاته مع محاور السلطة في إستنبول ، عبر الوكلاء والسماسرة ، ونشاط الفرنسيين لمصلحته. وطور الزراعة في منطقته ، وخصوصا القطن في مرج ابن عامر ، فزاد في حجم تجارته مع الأوروبيين ، ومع الفرنسيين بصورة خاصة. وقوّى جيشه ووسع أراضيه وحصّن قلاعه. ثم أخذ من والي صيدا التزام عكا ، فحصنها وبناها وجعلها مقرّا له. وبفضل تجارة عكا ، زاد حجم التبادل بينه وبين دول أوروبا ، التي كانت لها وكالات في عكا ، يرعاها القناصل ، وتحسنت أوضاع ظاهر العمر كثيرا. وفي هذه الفترة ، ظل حريصا على دفع الضرائب المستحقة عليه إلى إستنبول بانتظام. في المقابل ، لم يول الباشا الجديد في دمشق ، أسعد باشا العظم ، الصراع مع ظاهر العمر اهتماما ، إذ وجّه نشاطه ضد أمراء لبنان الدروز. كما أن أسعد باشا شعر بأن إستنبول المشغولة بمشكلاتها الكثيرة ، بينما بلاط السلطان منقسم في موقفه تجاه ظاهر العمر ، ليست جادة في القضاء عليه ، فتحاشى الدخول في حرب مكلفة معه.

وفي غياب قوة رادعة ، مركزية أو محلية ، استفحل أمر ظاهر العمر في فلسطين. فالحكومة في إستنبول كانت مشغولة بحرب مع روسيا ، لم تكن تحقق فيها انتصارات ، بل على العكس. وبانكفاء والي دمشق عن الاشتباك معه ، لم يعد بين جيران ظاهر العمر من يهدده من الخارج بصورة مباشرة. وراح جميع أعدائه يستغلون الصراع الذي نشب بينه وبين أبنائه ، من جهة ، وبين بعضهم البعض بشأن اقتسام السلطة ، من جهة أخرى. وفي هذه الأثناء (ولاية أسعد باشا في دمشق ، ١٤ عاما) ، بلغ ظاهر العمر ذروة قوته ، ولاحقا أخذ حيفا ويافا واللد والرملة ، وفرض هيبته على منطقة نابلس. وعقدت فرنسا معه اتفاقا تجاريا (١٧٥٤ م). وبعد اغتيال أسعد باشا (١٧٥٧ م) ، وإزاء محاولات خلفه ، عثمان الكرجي ، التصدي لظاهر العمر ، همد الخلاف داخل العائلة ، بسبب التهديد الخارجي. وعندما تفاقم هذا التهديد ، تحالف ظاهر العمر مع علي بك الكبير ، حاكم مصر ، ومعا احتلا دمشق (١٧٧١ م) بتأييد روسيا ودعمها.

في ذروة قوته ، تصدى لظاهر العمر الوالي الجديد في دمشق ، عثمان باشا

٢٤٩

الكرجي (١٧٦٠ ـ ١٧٧١ م) الذي احتل موقع سيده أسعد باشا العظم ، مكافأة له من الباب العالي على الغدر بولي نعمته ، وحاول الكرجي إقناع إستنبول بضرورة القضاء على الشيخ الزيداني. لكن إستنبول لم تكن في موقع تقديم المساعدة اللازمة لذلك ، نظرا إلى كونها مشغولة بالحرب مع روسيا. واتبع الباب العالي سياسة زرع الشقاق بين أفراد عائلة الزيداني ، وحرضت ، عبر الكرجي ، أبناء ظاهر العمر على أبيهم ، كما فعلت في لبنان ، بين «الجانبلاطية» (الجنبلاطية) و «الأزبكية» (الأرسلانية) ، وكذلك بين الشيعة في جبل عامل ـ ناصيف النصار والشيخ قبلان. وتداخلت هذه الزعامات المحلية في الصراعات ، وشغلت بها. ولكن على الرغم من المشكلات الداخلية (تمرّد أبنائه عليه) ، والصراعات مع الجوار ، بما في ذلك مع والي صيدا ، الذي راح يخشى تزايد قوة ظاهر العمر ، استطاع هذا الأخير ، عبر التحالف مع حاكم مصر ، علي بك الكبير ، واستغلال التناقضات بين الجيران ، واحتواء الصراع بين أبنائه ومعهم ، عبر تخويفهم من الخطر الداهم عليهم جميعا ، أن يحمي نفسه ويحافظ على موقعه.

وكثافة تدخل والي دمشق في شؤون ظاهر العمر ، من دون القدرة على حسم الصراع معه بغياب دعم جدي من إستنبول ، دفعت ظاهر العمر إلى التحالف مع علي بك الكبير في مصر. وكان هذا المملوك قد تمرد على السلطان ، وفي سنة ١٧٧٠ م ، أرسل صهره وقائد جيشه ، محمد بك أبو الذهب ، فاحتل غربي الجزيرة العربية. وفي السنة التالية (١٧٧١ م) ، أرسل حملة إلى سورية ، وبالتعاون مع ظاهر العمر ، استطاع فيها احتلال دمشق بسهولة نسبية ، لما كانت تشهده بلاد الشام من تفتت وصراعات بين مراكز القوى ، وما يسود سكانها من حالة تذمر لسوء تصرف عثمان الكرجي. لكن الأهم هو استغلال علي بك الكبير فرصة انهماك السلطنة في الحرب مع روسيا ، فعزم على التوسع في سورية ، مستفيدا من الأوضاع فيها ، ومن التحالف مع روسيا ، الذي جرى التعبير عنه في اتفاق عقد مع الكونت أورلوف ، قائد الأسطول الروسي في البحر الأبيض المتوسط. وقد قدّم هذا الأسطول الدعم لعلي بك في أثناء الحملة ، فقصف بيروت ، وأنزل فيها بعض القوات (١٧٧١ م).

ومنذ تولى دمشق (١٧٦١ م) ، لم ينفك عثمان الكرجي عن محاولة انتزاع الأراضي والمدن التي أخذها ظاهر العمر بالقوة من يده. وجرى الصدام الأول بعد شهرين من تعيينه ، إذ احتل الطنطورة ، وتقدم نحو حيفا ، لكنه فشل في احتلالها. وفي السنة نفسها ، قام بحملة أخرى على عكا ، واحتل قلعتها لمدة عام. لكن ظاهر العمر لم يلبث أن استعادهما ، وعمد إلى تحصينهما ، وخصوصا عكا. وخلال

٢٥٠

الستينات ، ظلت الحرب سجالا بين الاثنين. وبينما اشتد ضغط عثمان الكرجي على ظاهر العمر ، في نهاية الستينات ، لاحت في الأفق حركة علي بك الكبير في مصر ، فسارع إلى التحالف معه ، على الرغم من علمه بنوايا حاكم مصر المملوكي بسط سلطته على بلاد الشام. واستفاد ظاهر العمر وحليفه علي بك من حالة التململ في بلاد الشام ، سواء أكان ذلك على صعيد الحكام المحليين ، أو على صعيد السكان عامة ، من سلوك عثمان الكرجي وعسفه. وعلى الصعيد الشعبي ، فقد ذاق الناس الأمرّين من الحرب المستمرة ، من جهة ، ومن الكوارث الطبيعية التي تواترت من جهة أخرى.

وعندما طلع جيش علي بك الكبير على فلسطين (١٧٧١ م) ، استسلمت له غزة والرملة من دون قتال. وتراجعت قوات الكرجي إلى يافا ، وتحصنت فيها. ومن هناك ، قامت بهجوم مفاجىء على الجيش المصري وهزمته. لكن جيش الكرجي لم يلبث أن انسحب من يافا ، إزاء الحشد العسكري الكبير ضده ، من قوات ظاهر العمر وحلفائه المحليين ، وخصوصا مشايخ الشيعة في جبل عامل ، والقوات المصرية ، بقيادة إسماعيل بك ، مملوك علي بك الكبير. ثم وصلت تعزيزات كبيرة من مصر ، بقيادة المملوك محمد بك أبو الذهب ، فهيمن هذا على الوضع بشخصيته وسمعته وكبر جيشه ، الأمر الذي أدخل الشكوك في نفس ظاهر العمر. ولم يخرج هذا الأخير لملاقة محمد أبو الذهب ، ولا رافقه في حملته على دمشق ، وإنما توجه إلى عكا ، وعمل على تحصينها تحسّبا لكل طارىء. ويبدو أن ظاهر العمر أعاد حساباته في التحالفات التي وضعته في تناقض محتدم مع إستنبول لم يكن يرغب في إيصاله إلى هذه الحدود. ولكن سبق السيف العذل.

وتقدم أبو الذهب إلى دمشق واحتلها (١٧٧١ م) ، لكنه ما لبث أن انقلب على سيده علي بك. وانحاز إلى إستنبول ، وعاد بجيشه إلى مصر ، وطرد منها علي بك ، الذي لجأ إلى ظاهر العمر ، وتولى أبو الذهب ولاية مصر مكانه (١٧٧٢ م). وبانقلاب أبي الذهب هذا ، انقلبت موازين القوى ، واختلت التحالفات ، وفتح الصراع بين الزعماء المحليين ، وسارع كل منهم إلى وضع يده على منطقة معينة لدى شعوره بالفراغ السياسي الذي حدث ، فعمت الفوضى. وحاول علي بك العودة إلى مصر واستعادة حكمه فيها ، لكنه هزم ومات (١٧٧٣ م). وبعد ذلك ، تقدم أبو الذهب إلى فلسطين ، فأخذ غزة والرملة ويافا ، وهرب ظاهر العمر من عكا. فأخذها أبو الذهب ، لكنه ما لبث أن مات ، ودبت الفوضى في جيشه ، فعاد ظاهر العمر إلى عكا وحصنها (١٧٧٥ م). وفي هذه الأثناء دبّ الصراع ثانية في عائلة الزيادنة ، وهذه المرة بين

٢٥١

الشيخ وابنيه ، أحمد وعلي اللذين تحصن كل منهما في قلعة ، ورفض الانصياع لوالده. وبدا واضحا أن نهاية الزيادنة أصبحت قريبة.

في الوقت الذي كانت السلطنة مشغولة بالحرب مع روسيا (١٧٦٨ ـ ١٧٧٤ م) استشرى التناحر في بلاد الشام ، وخصوصا بين والي دمشق وحاكم الجليل ، ظاهر العمر ، واستقطب القوى المحلية على تعدد أنواعها ، إلى هذا الجانب أو ذاك. وتفاقم الوضع بدخول المماليك المصريين طرفا في هذا الصراع. ولكن الحرب انتهت وخسرتها السلطنة. ووقعت معاهدة «كوتشوك (كجك) كاينرجي» (١٧٧٤ م) ، التي بموجبها تنازلت السلطنة عن جزيرة القرم لروسيا. وبعدها تفرغ الباب العالي لبلاد الشام ومصر ، وعلى رأس جدول أعماله ضبط الأوضاع فيهما ، وبداية إخضاع ظاهر العمر ، الذي كانت قوته قد ضعفت. وحاصره الأسطول العثماني ، بقيادة القبطان حسن باشا من البحر ، بينما زحف ضده جيش كبير من البر ، فأنزلا بظاهر العمر ضربة قاصمة. وقتل الشيخ خارج عكا ، هاربا مع بطانته ، بعد أن رفضت عساكره من المرتزقة الصمود في الحصار. وبمقتل ظاهر العمر ، انتهى عمليا حكم الزيادنة ، لأن أبناءه لم يكونوا مؤهلين ، لا ذاتيا ولا موضوعيا ، لتشكيل ظاهرة سلطوية قابلة للحياة ، فأجهز عليهم أحمد الجزّار (آغا).

ثالثا : أحمد باشا الجزار

إن الفترة الصاخبة التي مرت بها بلاد الشام ، وخصوصا فلسطين ، خلال الفترة (١٧٦٠ ـ ١٧٧٥ م) ، تمخضت عن بروز مملوك (بوسني الأصل) مغامر على مسرح الأحداث في عكا ، الآغا أحمد ، الملقب «الجزار». فقد أدى انصراف الباب العالي إلى فرض هيبته في بلاد الشام بعد معاهدة كوتشوك كاينرجي ، إلى تصفية كل من علي بك الكبير ومملوكه المتآمر عليه ، محمد أبي الذهب ، وظاهر العمر الزيداني. وكانت الصراعات قد أرهقت القوى المحلية جميعها ، الأمر الذي نشأ عنه فراغ سياسي ، عمد الباب العالي إلى ملئه بمماليك من نمط الجزار. وكان هذا ، قبل تعيينه حاكما على عكا لقاء دوره في القضاء على ظاهر العمر ، قد تنقل كمملوك في أقاليم متعددة ، ومواقع كثيرة ، وتقلب في نشاطه العسكري بين الأطراف المحلية المتصارعة ، بما تمليه عليه مصالحه الذاتية ، وطموحه الشديد إلى السلطة ، وجشعه للمال. ومن قاعدته في عكا ، راح يوسع نفوذه ليصبح واليا على دمشق ، متمردا على الباب العالي.

وأسوة بغيره من المماليك ، بدأ أحمد الجزار نشاطه في إستنبول ، ومنها انتقل

٢٥٢

إلى مصر في خدمة علي بك الكبير ، ثمّ إلى بلاد الشام ، حيث تحوّل إلى خدمة واليها. وعهد إليه ، مع مماليكه ، حماية بيروت (١٧٧٢ م) ، بإمرة يوسف الشهابي ، أمير جبل لبنان. لكنه ما لبث أن تفرد بحكمها ، من دون أن يبالي بضغط الباب العالي عليه للانضباط. ثم هرب من بيروت عندما هاجمها الأسطول الروسي ، ولجأ إلى ظاهر العمر موقتا ، وسريعا انتقل إلى دمشق. وكان في عداد القوة العثمانية التي قضت على حكم الزيادنة. ومكافأة له على قتل ظاهر العمر ، عيّن حاكما على عكا. واكتسب الجزار شهرته بصموده داخل أسوار عكا المنيعة أمام حملة نابليون على بلاد الشام ، وبالتالي دوره في إفشال تلك الحملة. ونتيجة ذلك ، زاد في تحديه للباب العالي ، وعمل على توسيع نفوذه في بلاد الشام ، فإصبح واليا على دمشق ، في فترات متقطعة ، بفضل قوته العسكرية وجبروته ، وبالتالي نجاحه في فرض هيبته على الحكام المحليين في بلاد الشام.

ويعبر بروز الجزار واتساع نفوذه عن هبوط قوة الحكام والزعماء المحليين في بلاد الشام ، وحلول المماليك محلهم ، أسوة بما جرى في مصر والعراق. وتفرد هؤلاء المماليك بالسلطة في مناطق ولايتهم ، هو تعبير عن ضعف الدولة المركزية ، التي في صفوف جيشها نشأوا ، وعبره وصلوا إلى مواقع متقدمة. وقد اضطرت السلطة المركزية إلى الاعتراف بهم ، لأنهم كانوا أقدر منها على التصدي للقوى المحلية النازعة إلى الاستقلال والانفصال عن السلطنة. وتميّز حكم هؤلاء الماليك بالعسف والبطش. وكطبقة عسكرية حاكمة ، أعادوا البلاد إلى الحالة التي كانت ترزح تحتها في نهاية حكم المماليك البرجية في القرن الخامس عشر. ولأنهم أقاموا جيوشا خاصة من المرتزقة ، فقد احتاجوا إلى أموال طائلة لتسديد نفقاتهم واسترضاء عساكرهم ، فأسرفوا في فرض الضرائب واستعمال القوة لجبايتها ، الأمر الذي أرهق كاهل الناس وأفقرهم. والإيجابية الوحيدة لحكمهم كانت التصدي للغزو الخارجي ، ومن موقع المصلحة الذاتية ، كما فعلوا في مصر وفلسطين في أثناء حملة نابليون ، وكما فعل أقرانهم القفقازيون في العراق تجاه حكام إيران.

وما لبث الجزار أن استقر بعكا (١٧٧٥ م) ، حتى راح يوسع نفوذه. ففي سنة ١٧٧٦ م أخذ ولاية صيدا ، وتوجه فورا إلى تصفية بقايا الزيادنة ، فأخذ قلاعهم ، الواحدة تلو الأخرى ـ شفاعمرو وصفد ودير حنا .. إلخ. وكان أشدّ أبناء ظاهر العمر صلابة في مقاومة الجزار ، علي ، الذي تحصن في قلعة دير حنا ، إلى أن هزم. ثم تحرك الجزار ضد مشايخ الشيعة في جبل عامل ، فقتل الشيخ ناصيف نصار ، وأخذ منه مدينة صور ، ثم أخذ بيروت من أمير جبل لبنان ، يوسف الشهابي ، وعزله ، ونصّب

٢٥٣

مكانه الأمير بشير الشهابي الثاني ، فأدخل البيت الشهابي في الصراعات الداخلية لإخضاعه لنفوذه وإضعافه. وفي ذروة قوته ، انتزع ولاية طرابلس ، وأخيرا حقق حلمه في ولاية دمشق أربع مرات (١٧٨٥ و ١٧٩١ و ١٧٩٨ و ١٨٠٣ م). ولم تجد معه محاولات الباب العالي كلها لعزله ، فقد أصبح له أعوان في إستنبول ، كما أن السلطنة كانت مشغولة بالصراع مع حاكم إيران الأفغاني ، كريم خان زند الذي حاول التوسع غربا في العراق.

واتخذ الجزار من مدينة عكا ، التابعة لولاية صيدا ، مقرا له. وبانتزاعه مدن الساحل كلها من جيرانه ، وضمها إلى ولايته ، انتقل مركز الثقل في بلاد الشام إلى الساحل ، فتراجع الداخل ، بما فيه دمشق ذاتها. وقد تزامن حكم الجزار في بلاد الشام مع تفاقم «المسألة الشرقية» ، وبالتالي الصراع الأوروبي ـ أولا ، بشأن الامتيازات والنفوذ في أراضي السلطنة العثمانية المتهاوية ، ولاحقا على اقتسامها. وفي أيامه ، وقع الحدث الأهم في العلاقة بين الشرق الأدنى وأوروبا ، منذ الحملات الصليبية قبل سبعة قرون تقريبا ، وهو حملة نابليون بونابرت على مصر ، ومنها على بلاد الشام. ونظرا إلى تمركزه على الساحل ، عقد الجزار علاقات تجارية ، وبالتالي سياسية مع أوروبا. وإزاء حملة نابليون ، توصل الجزار إلى اتفاق مع بريطانيا. فكان للأسطول البريطاني دور في صموده بعكا ، وإحباط الحصار الذي فرضه نابليون عليها. وعدا السمعة السيئة ، وما عرف عنه من عسف وبطش ، فقد ترك الجزار آثارا باقية في عكا حتى اليوم ـ الأسوار الضخمة والقلعة والمسجد والحمام والأسواق ، وغيرها.

في إطار المسألة الشرقية ، وبالتالي العلاقات بين الشرق الأوسط وأوروبا ، والتنافس بين دول أوروبا بشأن مناطق النفوذ وموارد المواد الخام والأسواق ، وذلك بعد الثورة الفرنسية ، تعتبر حملة نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام (١٧٩٨ ـ ١٨٠١ م) منعطفا حادا. فمعها انتقل التنافس بشأن تقسيم السلطنة من الإطار التآمري ، السياسي والدبلوماسي ، وعقد الصفقات السرية ، وتفعيل الضغوط الاقتصادية وغيرها ، واستغلال المشكلات الداخلية والتناحر بين الكيانات المتجاورة ، إلى الاحتلال المباشر. وفي هذه الفترة ، وبعد بسط نفوذها على الهند ، وتعاظم قوتها العالمية ، أصبحت بريطانيا القوة النافذة في أوروبا ، فاحتدم التناقض بينها وبين فرنسا ، التي بعد الثورة (١٧٨٩ م) ، راحت تطمح إلى القيام بدور مميّز في أوروبا والعالم. وبعد فشلها في التصدي لبريطانيا في أوروبا ، وعدولها عن مشروع غزو بريطانيا ، الذي أوكل أمر تنفيذه لنابليون نفسه ، تبلورت في فرنسا فكرة الحملة على مصر وبلاد الشام. وقد

٢٥٤

تضافرت عوامل داخلية فرنسية ، وخارجية أوروبية ، وشرق أوسطية ، لقيام هذه الحملة ، بهدف معلن هو فصل بريطانيا عن مستعمراتها ، عبر قطع طرق المواصلات البحرية بينهما.

وكانت أوروبا بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح (١٤٩٨ م) قد حوّلت تجارتها مع الشرق الأقصى إلى هذا الطريق البحري الذي يدور حول إفريقيا ، الأمر الذي ألحق ضررا كبيرا بطرق البحر الأبيض المتوسط ، وبالتالي بالدول المحيطة به ، ومنها فرنسا. وفي إطار التنافس بشأن تجارة الشرق الأقصى ، عاد الفرنسيون وفكروا بإحياء الطرق القديمة ، فأصبحت مصر بؤرة اهتمام القوى المتنافسة ، وخصوصا أن الطريق عبرها أقصر بكثير من طريق رأس الرجاء الصالح. وحتى في فترة الاحتلال القصيرة ، أجرى الفرنسيون دراسة ، عبر البعثة العلمية الكبيرة التي حملها نابليون معه ، حول حفر قناة تصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر ، تلك الفكرة التي تطورت لاحقا وانتهت بحفر قناة السويس. وإذ فتحت حملة نابليون عيون أوروبا على البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط ، وخصوصا على مصر ، فإنها في حينها لم تحقق الأهداف المعلنة لها. لقد فشلت الحملة ، لكنها تركت أثرا عميقا في المنطقة. وفي الواقع ، فإنها دشنت دخول المنطقة العصر الحديث. فبعد حملة نابليون ، بدأت في الشرق الأوسط مرحلة جديدة في العلاقة مع الغرب الاستعماري ، لا تزال مستمرة حتى الآن (١٩٩٦ م).

وكان نابليون قد أعد حملته على مصر بسرية تامة ، ولعل الإشاعات عن عزمه غزو بريطانيا كانت تمويها على خطته الحقيقية. فأبحر من طولون في أيار / مايو ١٧٩٨ م ، وهمّه التملص من مواجهة بحرية مع الأسطول البريطاني ، الذي كان يتعقبه. وفي الطريق ، قام بهجوم مفاجىء على قلعة مالطا ، التي أخذها من دون صعوبة تذكر. ومن هناك ، سارع إلى أبي قير ، على الساحل المصري في حزيران / يونيو ١٧٩٨ م ، الميناء الذي كان الأسطول البريطاني قد زاره قبل بضعة أيام ، وقفل راجعا يبحث عن نابليون في عرض البحر لتدمير سفنه. وفاجأ نابليون المماليك في الإسكندرية ، وأخذها من دون مقاومة. ومنها تحرك إلى القاهرة ، وفي معركة بالقرب من الأهرامات ، هزم جيش المماليك من الفرسان ، بفضل تفوق قواته ، عددا وعدة وعتادا وتدريبا وتكتيكا ميدانيا. ودخل القاهرة ، وأعلن أنه جاء مجدّدا للإسلام وتراثه. لكنه سرعان ما فقد أسطوله في أبي قير ، الذي دمره الأميرال البريطاني هوراشيو نلسون ، في هجوم كاسح. فأصبح نابليون محصورا في مصر ، ومعزولا عن فرنسا. فعدل عن خطة التقدم إلى الهند ، أسوة بالإسكندر المقدوني ، واكتفى بحملة على بلاد الشام ، توقفت عند عكا.

٢٥٥

وبعد نجاحه الأولي في حملته ، وخصوصا التملص من كارثة مؤكدة في حال المواجهة البحرية مع الأسطول البريطاني ، ومن ثمّ دخول القاهرة بسهولة نسبية ، راحت الكوارث تنهال على نابليون في مصر. فهناك وجد نفسه محاصرا ـ الإنكليز في البحر والمماليك في مصر العليا والشعب المصري في القاهرة والعثمانيون في بلاد الشام. وحاول نابليون عقد صفقة مع الجزار ، ولكنه فشل. فقرّر التحرك إلى فلسطين ، استباقا لقدوم الجيش العثماني منها. ودامت حملته في فلسطين ثلاثة أشهر من ٧ شباط / فبراير إلى ٢٠ أيار / مايو ١٧٩٩ م ، وانتهت عند أسوار عكا المنيعة ، وصلابة الجزار في الدفاع عنها ، بمساعدة من البحرية البريطانية ، بقيادة سدني سميث. وكان نابليون بعد تسيير مشاته ، أرسل عدة الحصار ـ المدفعية وغيرها من العتاد والمؤن ـ بحرا إلى الساحل الفلسطيني لتصله بعد احتلال الموانىء. لكن البحرية البريطانية اعترضت السفن المحملة واستولت عليها ، وأخذت العتاد الذي عليها ، وقدمته دعما للجزار ، الذي خيب آمال نابليون بصموده ورفضه الاستسلام واستعداده للقتال.

وتقدمت فرق نابليون إلى فلسطين تباعا ، وتجمعت عند العريش وحاصرتها ، وبعد قتال ضار احتلتها. ومن بعدها سقطت خان يونس وغزة من دون قتال يذكر ، لأن المماليك فيهما انسحبوا إلى يافا. ورفضت يافا الاستسلام ، لكنها احتلت في قتال شرس بعد اختراق أسوارها ، وقتل فيها أكثر من ٢٠٠٠ أسير ، (وفي رواية أخرى أكثر من ثلاثة آلاف) ، بأمر من نابليون نفسه ، الأمر الذي أثار تململا في صفوف جنوده ، تحسّبا لردات فعل السكان ، سواء في فلسطين أو مصر. وأصاب الطاعون جيوش نابليون وهي في منطقة يافا والرملة ، لكنه ، مع ذلك ، تقدم نحو عكا ، بينما كانت تناوشه في الطريق جماعات مسلحة من المماليك والقوى المحلية. وبعد احتلال حيفا ، حاصر عكا من البر ، لكن البحر ظل مفتوحا يؤمن الاتصال مع الأسطول البريطاني. وصمدت عكا ، والجزار فيها ، وأغارت عساكره على الفرنسيين وأوقعت فيهم الخسائر. وباءت محاولات نابليون اختراق أسوار عكا بالفشل ، وبدأ التذمر يتفشى في صفوف جيشه ، لعدم كفاية وسائله لفتح الثغرات في الأسوار ودخول المدينة.

وبينما قواته تحاصر عكا ، بعث نابليون فرقة من جيشه إلى صور ، فاحتلها ، ونصّب فيها حاكما محليا مواليا له ، ومعه حامية صغيرة. وكذلك أرسل نابليون فرقة احتلت صفد ، وأخرى إلى الناصرة فاحتلتها ، وذلك لتأمين الطريق بين عكا ودمشق ، واستباقا لدخول جيش عثماني من الشام في اتجاه عكا. وعندما بلغه عبور هذا الجيش

٢٥٦

نهر الأردن ، بإمرة والي دمشق ، عبد الله باشا ، وأنه انقسم إلى رتلين ، أحدهما تقدم في اتجاه صفد ، والآخر احتل طبرية ، وهو يتقدم في اتجاه الناصرة ، سارع نابليون إلى مواجهة هذا الجيش بعيدا عن عكا. وفي الصدامات الأولى ، قبل أن يحشد نابليون قواته ، حقق العثمانيون انتصارات تكتيكية ، كما حدث في لوبية وغيرها. وسحب نابليون جزءا كبيرا من قواته التي تحاصر عكا ، وتوجه هو بنفسه إلى نجدة حاميتي الناصرة وصفد ، اللتين أحدق بهما خطر الهزيمة أمام الجيش العثماني الكبير. والتقى الجيشان في معركة حاسمة في مرج ابن عامر ، بين جبل طابور والفولة ، وانتصر نابليون بفضل مدفعيته الثقيلة ، وتراجع العثمانيون واستعاد الفرنسيون صفد ، واحتلوا طبرية ، ونهبوا وأحرقوا عددا من البلدان ـ الفولة ونورس وجنين وغيرها.

وعاد نابليون لتضييق الحصار على عكا ، وحاول اختراق أسوارها المرة تلو الأخرى (سبع مرات) ، ولكن من دون جدوى. وفي الهجمات الفرنسية والأخرى المضادة من عساكر الجزار ، وقعت إصابات كثيرة في الطرفين ، ولكن عكا لم تكن على وشك السقوط. وعاد الطاعون للانتشار في جيش نابليون ، فقرر الانسحاب والعودة إلى مصر. وفي طريقه قافلا إليها ، تعرض جيشه لهجمات متتالية من جماعات محلية مسلحة ، وردّ عليها الفرنسيون بتخريب القرى والمدن وأعمال النهب وفرض الغرامات. وترك نابليون وراءه بضع مئات من الجرحى والمرضى برعاية زعماء محليين ، محتفظا لديه برهائن من أقارب هؤلاء. ويقدر عدد الإصابات في جيش نابليون في أثناء الحملة على فلسطين بنحو النصف ، من مجموع ٠٠٠ ، ١٢ جندي ، بين قتيل وجريح ومريض. وما عدا أعمال التخريب والنهب والقتل ، ودرء الهجوم العثماني على مصر ، فإن الحملة كانت فاشلة بكل المعايير ، حتى التكتيكية منها ـ إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحملة العامة على مصر ، في إطار الصراع مع بريطانيا ، والعمل على قطع طرق مواصلاتها مع الهند والشرق الأقصى.

وبعد عودته إلى مصر ، أيقن نابليون بعدم جدوى بقائه هناك. فالأحلام التي راودته في بداية الحملة تبخرت ، سواء ما يتعلق بفرنسا أو به شخصيا. والأنباء التي راحت تتوارد عليه عن التطورات في باريس لا تبشر بالخير له ، فقرّر العودة إلى فرنسا ، وانسلّ نابليون سرّا إلى فرنسا ، تاركا جيشه في مصر بقيادة الجنرال كليبر (١٧٩٩ م). وظل هذا الجيش في مصر إلى أن هزمه الإنكليز (١٨٠١ م) ، وأعادوا مصر إلى السلطان العثماني. وبذلك انتهت مغامرة نابليون هذه ، من دون نتائج مباشرة لفرنسا ، أو لنابليون نفسه ، لكنها فتحت عهدا جديدا من النشاط الأوروبي في الشرق الأوسط ، كان انعكاسا مباشرا للتطورات السياسية في أوروبا ، وللتحالفات التي

٢٥٧

تشكلت على خلفية حملة نابليون إلى الشرق ، بأهدافها ومنطلقاتها. وإذ كانت بداية موجة جديدة من التوسع الأوروبي الإمبريالي في الشرق الأوسط ، فقد شكّلت بطبيعة الحال ، بداية ردة فعل «نهضوية» في المنطقة إزاء أوروبا وأطماعها فيها. وتعتبر فترة حكم محمد علي باشا في مصر محطة رئيسية في هذا المسار.

رابعا : حملة محمد علي

شهدت فلسطين خلال القرن التاسع عشر تطورات مهمة أدّت دورا أساسيا في تقرير مصيرها في القرن العشرين. فبعد انسحاب نابليون مباشرة ، عادت البلاد إلى حكم الجزار وخلفائه في عكا. لكن سرعان ما بدأ محمد علي (١٨٠٥ ـ ١٨٤٩ م) ، باشا مصر ، بعد انسحاب الجيش الفرنسي منها ، يتدخل في شؤونها ، فعادت مرة أخرى لتصبح بؤرة اهتمام في المسألة الشرقية. وبعد مؤتمر لندن (١٨٤٠ م) ، الذي فرض على محمد علي الانسحاب من بلاد الشام ، وإعادتها إلى السلطان العثماني ، زاد تدخل الدول الكبرى في شؤون البلاد ، عبر ممارسات قناصلها على أساس الامتيازات التي حصلت عليها من الباب العالي. وبعد حفر قناة السويس ، وعودة شرق البحر الأبيض المتوسط لاحتلال موقع مركزي في طريق المواصلات الدولية ، ازدادت أهمية فلسطين الاستراتيجية. وفي هذا الوقت بالذات ، ومع تنامي الحركة القومية العربية ، شهدت فلسطين بداية الاستيطان اليهودي الصهيوني (١٨٨٢ م).

فبعد انسحاب نابليون ، عاد الجزار وفرض سلطته على البلاد. وزاد في عسفه وبطشه ، فأرهق كاهل السكان بالضرائب لتعويض خسائره في الحرب ، وفرض عليهم أعمال السخرة لإعادة بناء ما تهدم من تحصيناته ، الأمر الذي ألحق بهم أشدّ الضرر. لكنه ما لبث أن مات (١٨٠٤ م) ، وخلفه مملوكه سليمان باشا (١٨٠٤ ـ ١٨١٩ م) ، الذي لقب «العادل» ، بالنسبة إلى الجزار ، إذ كفّ عن الجور الذي مارسه سلفه. وتزامن حكم سليمان في ولاية صيدا ، التي كانت عكا قصبتها ، مع حكم مصلحين كبيرين : محمد علي ، في مصر ؛ ومحمود الثاني (١٨٠٨ ـ ١٨٣٩ م) ، في إستنبول. فحاول سليمان محاكاتهما في ولايته ، ونعمت البلاد بفترة من الهدوء النسبي والازدهار والإعمار. في المقابل ، زاد في هذه الفترة تهديد «الوهابيين» لبلاد الشام ، من مركزهم في الجزيرة العربية (نجد) ، الأمر الذي دفع واليي صيدا ودمشق إلى تجاوز خلافاتهما إزاء الخطر الداهم عليهما معا. وبانهماكهما في صدّ هذا الخطر ، أفسح المجال أمام عدد من الملتزمين ، من أبناء العائلات والعشائر الفلسطينية ، للتمرد على الواليين ، فنشبت في أنحاء فلسطين انتفاضات متعددة.

٢٥٨

اعتمادا على دعم محمد علي له ، ثار محمد أبو مرق (باشا) ، متسلم (ملتزم) سنجق غزة ، على الجزار ، ومن بعده على سليمان باشا. فبطش به هذا الأخير (١٨٠٧ م) ، واستولى على «متصرفيته» في غزة ويافا. كما قمع سليمان تمردا في القدس. وبنشاطه وقدرته على لجم الحكام المحليين ، غطى على والي دمشق ، يوسف كنج آغا الكردي ، وخصوصا بعدما برز في تصديه للوهابيين ، الذين وصلوا (١٨٠٩ م) إلى المزيريب (في جوار درعا / سورية). فولاه السلطان على دمشق وطرابلس ، إضافة إلى صيدا. واستعان سليمان بالزعماء والمشايخ المحليين في صراعه مع الوهابيين. وهبّ لنجدته الأمير بشير الشهابي الثاني من جبل لبنان والشيخ فارس ناصيف من جبل عامل والشيخ سعد القعدان من بني صخر والتركمان ومشايخ منطقة صفد ورؤساء العشائر في منطقة نابلس. وفي سنة ١٨١٣ م ، قمع تمردا قام به شيخ ناحية بني صعب ، أبو عودة الجيوسي ، ونصّب مكانه ملتزما آخر من آل طوقان ، الذين كان زعيمهم ، موسى بك طوقان ، يتولى التزام ناحية نابلس.

وعندما كان السلطان محمود الثاني مشغولا بتنظيم شؤون الولايات التركية الأكثر أهمية في بلاد روميلي (الجزء الأوروبي من أراضي السلطنة) ، وفي آسيا الصغرى ، حيث واجه صعوبات جمّة ، زاد تدخل محمد علي (والي مصر) في شؤون بلاد الشام. وباندلاع التنافس بين واليي دمشق وصيدا ، بعد صد الخطر الوهابي ، انتهز الزعماء المحليون في فلسطين ـ جبل نابلس وجنين والقدس والخليل ـ الفرصة للفكاك من سلطة والي دمشق ، الذي كانت هذه المناطق تتبع له. واندلع الصراع بين هؤلاء الزعماء ، من جهة ، ومع الوالي في دمشق ، من جهة أخرى. وانخرط في الصراع آل طوقان (الموالين لباشا دمشق) ، يؤيدهم آل البرقاوي ، ضد آل عثمان والجماعيني ، وسرعان ما استقطب هذا الصراع آل جرار وعبد الهادي والجيوسي. وتدخل سليمان باشا لفض الصراع (١٨١٥ م) ، الأمر الذي عزّز مكانته إزاء والي دمشق ، ورفع من شأنه في إستنبول. وفي أيامه ، رمّم سليمان باشا أسوار عكا ، وأقام سبيلا عند بوابتها ، وكذلك قام بترميم قبة الصخرة والمسجد الأقصى في القدس ، وأقام جامعا في الناصرة ، وعين عليه الشيخ عبد الله الفاهوم ، قاضي البلدة.

وبعد موت سليمان باشا ، خلفه مملوكه ، عبد الله باشا (١٨١٩ ـ ١٨٣١ م) ، فعاد هذا إلى سياسة الجزار ، الأمر الذي أثار الزعماء المحليين عليه ، ثمّ ما لبث أن تمرد على أمر السلطان بعزله عن ولاية صيدا ، معتمدا في رفضه قرار محمود الثاني على دعم محمد علي. وكان هذا الأخير قد دخل مرحلة الصراع المفتوح مع السلطان ، الذي وعده ببلاد الشام الجنوبية ، لقاء دوره في معركة نفارينو البحرية ،

٢٥٩

وتراجع عن وعده. واستغل الزعماء المحليون التناقضات بين الباب العالي ومحمد علي ، وبين واليي صيدا ودمشق ، لزيادة دورهم السياسي ، فقاموا بعدد من التمردات ، بسبب الضرائب الإضافية التي فرضها والي دمشق ، بذريعة تمويل قافلة الحج. وبينما السلطان محمود الثاني مشغول بتصفية الإنكشارية ، ومن ورائهم «الطريقة البكتاشية» الصوفية ، التي كان شيوخها بمثابة المرشدين الروحيين للإنكشارية ، كان محمد علي يعد لحملة على بلاد الشام.

فبعد معركة الإسكندرية (١٨٠١ م) ، وهزيمة بقايا الجيش الفرنسي الذي خلفه نابليون في مصر ، وذلك على يد تحالف إنكليزي ـ عثماني ـ مملوكي ، رابطت في مصر قوات من هذا التحالف. وعلاوة على التوتر الذي أحدثه وجود أفراد هذه الجيوش وسلوكها مع السكان ، فقد اندلع الخلاف بين حلفاء الأمس. وكانت السلطنة العثمانية ، أيام سليم الثالث (١٧٨٩ ـ ١٨٠٧ م) ، تريد استعادة مصر والقضاء على حكم المماليك فيها. في المقابل ، أراد الإنكليز الاحتفاظ بها ، وبالتعاون المرحلي مع المماليك. وعندما أوقع الجيش العثماني بالمماليك ، تدخل الإنكليز ، وفرضوا على الباشا التركي إطلاق الأسرى ، وإعادة ممتلكات المماليك إليهم ، وكذلك سحب الأسطول العثماني من مصر ، وأذعن الباشا للمطالب البريطانية. لكن الإنكليز اضطروا إلى الانسحاب بموجب معاهدة آميين (١٨٠٢ م) ، وتركوا حلفاءهم المماليك تحت رحمة الجيش العثماني ، الأكبر عددا والأفضل عدة. لكن الفرقة بين قادة الجيش العثماني ، سمحت للمماليك بالصمود لفترة ، غير أنهم اضطروا لاحقا إلى الانسحاب إلى مصر العليا ، على حدود النوبة.

وكان في صفوف الكتيبة الألبانية ، من الجيش العثماني الذي أرسله الباب العالي إلى مصر ، ضابط من أصل ألباني ، (ولد سنة ١٧٦٩ م ، في قولة ، من مقاطعة مقدونيا) ، هو محمد علي الذي أظهر في المعارك كفاءة ومواهب ، فأصبح قائد كتيبة. وعندما انخرط في الصراع في مصر ، تطلّع إلى السلطة. فانحاز بداية إلى المماليك ، وبالتعاون معهم هزم الباشوات الأتراك (١٨٠٤ م). وفي انتفاضة القاهرة الشعبية ضد المماليك ، انحاز محمد علي إلى الثوار ، عندما أدرك قوة الحركة الشعبية. ثمّ وقف في الانتفاضة الثانية (١٨٠٥ م) ، ضد خورشيد باشا التركي ، فأصبح سيد مصر الأول. ثم ما لبث أن انقلب على المماليك (١٨٠٨ م) وهزمهم. وفي سنة ١٨١١ م ، قضى عليهم في مذبحة القلعة ، وصادر أملاكهم وأوقافهم لمصلحته ، كرأس دولة. وبذلك أنهى محمد علي حكم المماليك الذي دام أكثر من خمسة قرون. وتبعه بعد فترة محمود الثاني (١٨٢٦ م) بالقضاء على الإنكشارية.

٢٦٠