الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

وإضافة إلى ما قدمته من خدمات ، فإنها حفزت نشاطا مماثلا لدى الأتراك والسكان المحليين ، فازداد عدد المؤسسات المثيلة في نهاية القرن التاسع عشر. غير أن تلك البعثات كانت تتبع دولا متعددة ، وباحتدام التنافس بينها بشأن النفوذ في أراضي السلطنة ، انخرطت بعثاتها في النشاط السياسي المباشر ، فضلا عن التأثير المداور في نشر الأفكار والعادات والتقاليد.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، احتدم التنافس بين الدول الأوروبية بشأن الحصول على مناطق نفوذ عبر الامتيازات. ولما بدا واضحا مآل الإمبراطورية العثمانية إلى الزوال ، أصبح كل طرف يسعى لتأمين موطىء قدم له فيها ، يناور عبره للسيطرة على جزء من أراضيها عند تقسيمها. واستغلت هذه الدول البعثات التبشيرية للتمهيد لذلك ، ودعمت أعمال المبشرين بالمال. ومنذ معاهدة كوتشوك كاينرجي ، بسطت روسيا حمايتها على الروم الأورثوذكس في أراضي السلطنة ، ووضعت البطريركية الأورثوذكسية في القدس تحت تلك الحماية. كما استعانت حكومة روسيا القيصرية ب «الشركة الروسية ـ الأورثوذكسية» لتحقيق أهدافها السياسية. وبعثة الكنيسة الروسية في فلسطين ساعدت بأموالها على إقامة المدارس والكنائس والنزل وغيرها في البلاد. في المقابل طلبت فرنسا لنفسها حقا مماثلا بالنسبة إلى الروم الكاثوليك ، ولاحقا بالنسبة إلى الموارنة في لبنان ، الأمر الذي تكرس رسميا في معاهدة برلين (١٨٧٨ م). وتبعتها دول كاثوليكية أخرى تطالب بحقوق شبيهة.

وكان عمل البعثات التبشيرية البروتستانتية أكثر تعقيدا ، إذ لم تكن هناك طوائف كهذه تتذرع بها ، فكان عليها أن توجد مثل هذه الطوائف ، وعلى حساب الكنائس الشرقية ، أو أن تقيم مستوطنات لها في البلاد. وقد اشتركت بريطانيا وبروسيا في إنشاء مطرانية بروتستانتية في القدس (١٨١٤ م). ثم توقف الألمان عن دعمها (١٨٨١ م) ، فبقيت لبريطانيا وحدها. وفي أثناء التدخل الأوروبي في الحرب المصرية ـ العثمانية (١٨٣٩ ـ ١٨٤١ م) ، تذرعت بريطانيا بحماية اليهود والدروز ، بينما بسطت فرنسا حمايتها على الموارنة. وعمدت حركة الهيكليين الألمان إلى إقامة مستوطنات (١٨٦٨ م) في يافا وسارونة وحيفا والقدس ، استعملها الإمبراطور ويلهلم الثاني سلاحا متعدد الجوانب للاختراق السياسي. في المقابل أقامت مجموعات «ألفية» أميركية مستوطنات في أرطاس (قرب بيت لحم) (١٨٥٢ م) ، ثم في يافا (١٨٦٦ ـ ١٨٦٧ م) ، ثم في القدس (١٨٨١ م). وهذه الأخيرة ظلت قائمة ، وتحمل اسم المستوطنة الأميركية إلى ما بعد سنة ١٨٦٩ م ، عندما كانت أغلبية سكانها من السويديين.

٢٨١

كما نشطت في هذه الفترة الجمعيات الأثرية التي عنيت بالدراسات التوراتية ، وخصوصا بما سمي «علم الآثار التوراتي». وإذ كان علم الآثار هو السمة العلنية لهذه الجمعيات والمؤسسات التي أنشأتها ، فقد انطوت على أغراض سياسية ـ عسكرية. وأول هذه المؤسسات كان صندوق استكشاف فلسطين ، الذي تأسس سنة ١٨٦٥ م ، على يد الإنكليز وهدفه المعلن «البحث في الآثار والجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي لفلسطين.» وعندما أصدر هذا الصندوق العدد الأول من مجلته (١٨٦٩ م) كتب على غلافه «جمعية من أجل البحث الدقيق والمنظم في الآثار والطوبوغرافيا والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والتاريخ الطبيعي وعادات وتقاليد الأرض المقدسة لغاية التوضيح التوراتي». وقد وضع هذا الصندوق أول خريطة (كيتشنر) لفلسطين (غربي الأردن) ، قائمة على أعمال المساحة ، وذلك قبل أن يبدأ بالحفر في القدس والمواقع الأثرية الأخرى.

وفي سنة ١٨٧٠ م تأسست جمعية استكشاف فلسطين الأميركية ، التي وجهت عند قيامها نداء «إلى الضمير الديني ، مسيحيا كان أم يهوديا ، من أجل البرهنة على صحة الكتاب المقدس.» لكن هذه الجمعية لم تعمّر طويلا ، إذ توقفت سنة (١٨٨١ م) ، وحلت محلها (١٩٠٠ م) المدرسة الأميركية للأبحاث الشرقية في القدس. وكان الأسطول الأميركي قد أرسل بعثة برئاسة الضابط في البحرية ، وليام ف. لينش ، لدراسة البحر الميت وشرقي الأردن. وتجدر الإشارة إلى أن جمعية استكشاف فلسطين الأميركية ركزت نشاطها في شرقي الأردن ، قبل أن تتوقف عنه تماما. وفي سنة ١٨٧٠ م ، أنشئت جمعية بريطانية أخرى هي جمعية الآثار التوراتية. وأقام الفرنسيون (الرهبان الدومينيكان) المدرسة الفرنسية للدراسات التوراتية (١٨٩٠ م). كما أنشأ الألمان جمعيتين : الجمعية الألمانية للأبحاث الفلسطينية (١٨٧٧ م) ، والجمعية الألمانية للدراسات الشرقية (١٨٩٧ م).

وفي الثلاثينات من القرن التاسع عشر ، عندما بدأ استعمال السفن البخارية ، تأسست للمرة الأولى خدمات نقل بحري ثابتة بين فلسطين وأوروبا. وفي سنة ١٨٣٧ م ، حصلت النمسا وفرنسا على تصاريح لإقامة خدمات بريدية في المدن الرئيسية في بلاد الشام. وفي سنة ١٨٦٥ م أقيمت خدمات تلغرافية بين المدن الفلسطينية وإستنبول وأوروبا. وفي سنة ١٨٦٨ م عبد الطريق بين يافا والقدس ، وفي سنة ١٨٨١ م بين القدس وكل من الخليل ونابلس. وساعدت وسائل الاتصال والمواصلات على إنعاش حركة السياح والحجاج والرحالة إلى البلاد. ووصل عدد سكان فلسطين في بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر نحو ٠٠٠ ، ٤٥٠ نسمة ، بعد

٢٨٢

أن كان في مطلع هذا القرن يقدر بنحو ٠٠٠ ، ٣٠٠ نسمة فقط.

إن جملة التنظيمات الإدارية التي اتخذتها الحكومة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، مكنتها من إحكام قبضتها على فلسطين وبلاد الشام ، إداريا وماليا وأمنيا. وقد تضافرت لذلك عوامل عدة ، منها إشراك السكان المحليين في إدارة شؤون مناطقهم إلى جانب الحاكم التركي. وكذلك ، فإنه بفعل هذه التنظيمات استقرت إلى حد معين الإدارة في الولايات ، إذ جرى تحديثها وتطوير أسلوب عملها. واستوعبت الإدارة الزعماء المحليين في جهازها كموظفين خاضعين لقانون الدولة ، وليس كمتعاقدين معها. وقد تمّ ذلك بعد إضعاف هؤلاء الزعماء وخلخلة موقعهم الاجتماعي ، ولكن من دون إنهائهم ، فتعاونوا مع السلطة للحفاظ على ما تبقى لهم من تأثير. وتظهر أسماء هؤلاء في الوظائف الحكومية والمجالس الشعبية في الألوية والأقضية والمدن. كما تظهر في لوائح جهاز الدولة أسماء أبناء الطوائف الدينية ـ المسيحية واليهودية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه التنظيمات ، وخصوصا المتعلقة بحقوق الأفراد ، أدخلت تحت ضغط الدول الأوروبية التي تغلغلت في تدخلها في شؤون السلطنة إلى حد بعيد في هذه الفترة بالذات.

سادسا : اليقظة القومية

خلال القرن التاسع عشر ، ظهر في بلاد الشام ، ومن ضمنها فلسطين ، الوعي القومي ، بمفهومه الحديث ، الذي تبلورت مرتكزاته في أوروبا بالتواكب مع مراحل تطور الرأسمالية هناك. ويتلخص هذا المفهوم بأن كتلة بشرية محددة ، تقيم على رقعة جغرافية معينة ، وتتكلم لغة واحدة ، ولها تراث مشترك ، وبالتالي مصير مشترك أيضا ، من حقها أن تتوحد سياسيا في دولة قومية ، تمشيا مع روح العصر. وإذ لم تكن الأرضية مهيّأة لمثل هذه الفكرة وتجسيدها عبر حركة قومية عربية ، أو مجموعة حركات وطنية ، في بداية القرن ، فإنها خلاله ، وإزاء نهايته ، وعبر التطورات التي شهدتها البلاد ، وانعكاساتها على السكان ، وما تمخضت عنه من نتائج ، سواء على الصعيد الذاتي أو الموضوعي ، تبلورت إلى ظاهرة سياسية فاعلة ، ذات أهداف محددة بخطوطها العامة. واستنادا إلى تلك الخطوط التي شكلت مضمون «الحركة القومية» ، برزت في أجزاء متعددة من الوطن العربي صيغ تنظيمية متأثرة بطبيعة الحال بالواقع المحيط.

ولقد تضافرت عوامل عدة لإنتاج ظاهرة القومية العربية في صيغتها الجديدة. وكان بعضها ذاتيا ، الوعي الذاتي لخصوصية الأمة العربية بين شعوب العالم ،

٢٨٣

والانتماء الوجداني إليها ، وهما قديمان قدم التاريخ العربي. أمّا البعض الآخر ، فكان موضوعيا ، يتعلق بتفاعل العوامل التي أوجدت الواقع المحفز على بروز حالة من الوعي للذات ، تتطلب إيجاد صيغ تنظيمية لتجسيدها في ذلك الواقع ، سواء للانسجام معه ، أو لتغييره. وفي جدل العلاقة بين الذاتي والموضوعي في بروز ظاهرة الحركة القومية العربية ، وفي إطارها الحركات الوطنية في الأقطار المتعددة أيضا ، أخذا في الاعتبار الواقع القائم في بلاد الشام في القرن التاسع عشر ، يتضح أن العامل القائد في بعث الوعي القومي من حالة الكمون الوجداني إلى الفعل السياسي العملي ، كان خارجيا. فلم يكن التبلور الذاتي لأوضاع الأمة هو الذي أنتج الوعي القومي ، وما ينجم عن تجسيده من نشاط ، كضرورة موضوعية لمواكبة مرحلة تاريخية في مسار الأمة ، وإنما الواقع الموضوعي المتناقض في حركته مع أهداف الوعي السائد للذات ، هو الذي حفز ردة الفعل على تجليات تفاعل عناصر الواقع ، وانعكاس تلك التجليات على الذات العربية ، وبالتالي ، البحث عن حلول للإشكالات الناجمة عن الجمع بين الأضداد في وحدة صراعية.

إن عهودا من الحكم الأجنبي (السلاجقة والصليبيون والمماليك والأتراك العثمانيون) ، وتفتت الوطن العربي ، قد أضعفت عوامل الوحدة العربية التي تنامت في عهد الخلافة الأول. غير أن الشعور بالانتماء إلى العروبة ، واستعمال اللغة العربية في الحديث والتعبير ، استمرا من دون انقطاع. فالوطن العربي ظل يعرف باسم «بلاد العرب» ، واللغة العربية ظلت أداة التعبير الأدبي والعلمي الرئيسية ، والمفتاح لمعرفة علوم الدين الإسلامي ، حتى في العصر العثماني. لكن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لتبلور وعي قومي ، بالمفهوم الحديث ، وبالتالي بروز حركة قومية تدعو إلى استقلال العرب ووحدتهم ، لم تنضج حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي النصف الأول منه ، تشكلت الممهدات الذاتية والموضوعية لبروز الظاهرة على أرضية حملة نابليون ، وما تمخضت عنه من تطورات ، وخصوصا في مجال العلاقات مع أوروبا ، وما نجم عنها من تفاعل سياسي واقتصادي وفكري وعلمي ، معها. ففي إطار التصادم مع أوروبا الحديثة ، وما استتبعه ذلك من تحولات في المفاهيم والعلاقات ، تبلور الوعي القومي العربي في مصر وبلاد الشام ، التي كانت جزءا من السلطنة العثمانية ، آخر الإمبراطوريات الإسلامية من القرون الوسطى. لقد أعطت حملة نابليون دفعة قوية لحركة العلاقات بين الوطن العربي وأوروبا ، بعد فترة طويلة من الركود. فنتيجة هذه الحملة ، عاد الشرق ليحتل موقعا مركزيا في اهتمام دول أوروبا الرأسمالية ، الأمر الذي حكم مسار الأحداث في المنطقة حتى

٢٨٤

يومنا هذا. وفي مصر ، وبعد الانسحاب الفرنسي ، استطاع محمد علي أن يثبت أقدامه في السلطة ، ويتجه نحو إقامة دولة عصرية ، بل ويتحدى السلطنة العثمانية. وهذا بدوره حرك مسار «التنظيمات» في تلك السلطنة ، بهدف تعزيز وحدتها في مواجهة عوامل تفتتها القوية. والتحولات في مصر ، كما في السلطنة ، وما نجم عنها من تفاعلات داخلية ، كانت تجري نتيجة تدخل أوروبي متصاعد الوتيرة. فمن موقع الدفاع عن الذات إزاء الهجمة الأوروبية على السلطنة العثمانية ، بما فيها الوطن العربي ، تحركت القوى والتيارات. ومن خلال الاشتباك كضرورة موضوعية ، تبلورت أدوات الصراع ـ المادية والفكرية. ومحمد علي (الألباني الأصل) ، عمد إلى استعمال العروبة كوسيلة لحشد القاعدة الشعبية في المناطق التي أراد إقامة حكمه الوراثي عليها. فقد اعتمد اللغة العربية في إدارة شؤون دولته ، ما عدا الجيش. وابنه إبراهيم أعلن في دمشق عزمه على توحيد البلاد الناطقة بالضاد في دولة مستقلة.

وفي خضم المواجهة الشاملة مع أوروبا ، وعلى أرضية التحولات الجارية في السلطنة في فترة التنظيمات وردات الفعل المتعددة عليها ، تبلورت ثلاثة اتجاهات فكرية في الوطن العربي ، تنطلق كلها في الأساس من موقع الدفاع عن الذات إزاء التغلغل الأوروبي ، من جهة ، وسياسة «التتريك» العثمانية ، من جهة أخرى ، والنتائج الناجمة عن ذلك اقتصاديا واجتماعيا وفكريا. ورأى الاتجاه المحافظ أن تحصين الذات إزاء المؤثرات الخارجية يتم بالتشبث بالقيم التقليدية ، واخضاع السلوك إزاء أوروبا لمقتضيات تلك القيم. في المقابل راح يتبلور ، عبر الثقافة الغربية المكتسبة من مؤسساتها ، سواء في الغرب أو الشرق ، تيار علماني ، رأى مواجهة أوروبا بسلاحها ـ العلم والمعرفة والانفتاح والديمقراطية ... إلخ. وبينهما تيار ثالث ـ الإصلاحي ـ القائل بتطوير التراث ، الديني والفكري والاجتماعي ، كي يتلاءم مع متطلبات العصر ، من دون التخلي عن مرتكزاته.

ومع أن هذه التيارات ـ المحافظ والإصلاحي والعلماني ـ كانت على العموم محصورة في النخب المثقفة ، ولم تكن ملك قطاعات الشعب الواسعة ، فإن الأقرب إلى الجماهير كان التيار المحافظ ، على الأقل خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. أمّا في النصف الثاني ، فقد تضافرت عدة عوامل أخلّت بميزان القوى بين هذه التيارات. وكان تأثير التيار المحافظ قويا في ردة الفعل التي أظهرتها القطاعات الشعبية على الإصلاحات التي أدخلها إبراهيم باشا في بلاد الشام ، وخصوصا ما يتعلق منها بحقوق الأقليات الدينية. فقد رأى قادة هذا التيار في منح حقوق مدنية لغير المسلمين أنه نقض للأساس الذي يقوم عليه المجتمع والدولة ، تحت تأثير الدول الأوروبية.

٢٨٥

ومن هنا كانت الأحداث الدامية في نابلس (١٨٥٦ م) ، والتي كانت موجهة ضد الحاكم العثماني وقناصل الدول الأجنبية والبعثات التبشيرية والمسيحيين المحليين. وكذلك كان الحال في جبل لبنان ، ومن بعده دمشق (١٨٦٠ م). واستمر عداء هذا التيار للإصلاحات التي سعى كل من السلطان عبد المجيد ، ومن بعده عبد العزيز ، لإدخالها.

فالتوجهات التي تبناها محمد علي في مصر ، ومعاصره محمود الثاني في إستنبول ، والرامية إلى عصرنة الدولة ، حفزت تيار الإصلاح في الدولتين. وجاء عهد التنظيمات (١٨٤٠ ـ ١٨٧٦ م) في السلطنة العثمانية ليقوي هذا التيار ، ويدفع المعبّرين عنه إلى قمة السلطة. ولكن هذا التطور ، وبمقدار تصاعد وتيرته بدعم من المركز ، فقد ولّد ردة فعل محافظة ، راحت هي الأخرى تتصاعد بالوتيرة نفسها. وباعتلاء عبد الحميد الثاني العرش في إستنبول (١٨٧٦ ـ ١٩٠٩ م) ، وقعت الردة ، وانقلب السلطان على التنظيمات ، وعلى أدواتها ورجالها. فألغى الدستور ، وحل البرلمان ، وأبطل الإصلاحات التي أدخلها أسلافه. وقد استفاد عبد الحميد من فشل الإصلاحات في تحسين أوضاع السلطنة الاقتصادية ، أو في كبح التدخل الأوروبي الذي أدّى إلى إفلاس الدولة. واستبدل الحكم البرلماني بآخر استبدادي ـ فردي ومطلق. وجعل بطانته من أشد رجال الدين محافظة ، وأدوات سلطته من أكثر رجال الحكم رجعية. وبذلك دفع الإصلاحيين ، وجلهم من الأتراك ، إلى تشكيل الجمعيات السرية والعمل على قلب نظام الحكم ، أمّا رموز العلمانية ، وهم في الأساس من المثقفين ، وأغلبيتهم من المسيحيين ، فقد اضطر الكثيرون منهم إلى الهجرة والاستقرار بالخارج ـ مصر وباريس وجنيف ولندن ـ لمتابعة نشاطهم الأدبي والفكري والسياسي.

وكانت ردة فعل التيار المحافظ سلبية تجاه المؤثرات الفكرية والاجتماعية الأوروبية ، وبالتالي تجاه التنظيمات والإجراءات الناجمة عنها في نظام الحكم ، وخصوصا على صعيد التشريعات. وإذ رأى رموز هذا التيار خطر التدخل الأوروبي ، ماديا وروحيا ، فقد ذهبوا إلى أن إحياء قواعد الإسلام في الدولة والمجتمع كفيل باستنهاض السلطنة وصمودها في وجه أوروبا. وعلى العموم ، نظر هؤلاء إلى الماضي ، ومنه استنبطوا علاج أمراض الحاضر ، مؤكدين إمكان استعادة الماضي الزاهر بالعودة إلى مرتكزاته الفكرية والأخلاقية والمسلكية ... إلخ. فبالنسبة إليهم كان المخرج من المأزق الحالي يكمن في العودة إلى المنطلقات التي أدّت إلى امتلاك عوامل القوة في الماضي ، وليس بالتطلع إلى المستقبل واستنباط الوسائل التي تساعد على درء أخطاره. والحاضر بالنسبة إليهم غير مقبول ، لكن لا يجوز رفضه بالكامل ،

٢٨٦

لأنه الحلقة التي تربط الواقع الملموس بالماضي ، وبالتالي القادر على وصله بالمستقبل. ومن هنا ، وباستعمال أداة قياس من الماضي ، يجب تطهير الحاضر من الشوائب ، ليكون المستقبل مزدهرا كما في الماضي. وبناء عليه ، ضرورة العودة إلى التراث ، واستخلاص العبر منه ، ليمكن النهوض بالحاضر لمواجهة الخطر الأوروبي.

وشأنهم شأن المحافظين ، كان الإصلاحيون يعارضون المؤثرات الأوروبية الخارجية ، ويهدفون من نشاطهم إلى حماية الإسلام ودولته ومؤسساته ، ويرفضون الواقع الذي آلت إليه شؤون «الأمة» الإسلامية. ولكنهم على عكس المحافظين ، رأوا أن العلاج يتطلب الخروج من النهج التقليدي في رؤية القضايا والتعامل معها ، وبالتالي فتح باب الاجتهاد لما يجب عمله ، بينما أداة القياس هي «مصلحة الأمة». وتمحورت نقاشات رموز هذا التيار في الدين والسياسة ، والهدف المركزي لنشاطهم ، الفكري والعملي ، هو إحياء الإسلام ودولته. وينجم عن ذلك مواجهة الغرب ، بما تنطوي عليه من ضرورة تقوية الأواصر بين الشعوب الإسلامية ، وصولا إلى وحدة «الأمة».

وفي الواقع ، وبسبب عقلانيته ، أصاب هذا التيار نجاحا أكبر من المحافظين. وبرز فيه جمال الدين الأفغاني (١٨٣٩ ـ ١٨٩٧ م) ، وتلميذه محمد عبده (١٨٤٩ ـ ١٩٠٥ م) في مصر. أمّا في سورية فقد برز الشيخ طاهر الجزائري (١٨٥١ ـ ١٩٢٠ م). وتتلمذ على أيدي هؤلاء وغيرهم عدد كبير من علماء الدين الإصلاحيين ، كما كان لهم أتباع من أوساط واسعة خارج إطار المؤسسات الدينية.

وفي مقابل هذين التيارين ـ المحافظ والإصلاحي ـ راح يتبلور تيار أكثر جذرية ، من مثقفين علمانيين ، يحملون نظرة مستقبلية ، معزولة تقريبا عن الماضي. ورفض هؤلاء الواقع القائم ، أسوة بالآخرين ، لكنهم افترقوا عنهم بمنظورهم القائل إن علاج الأوضاع المتردية في الشرق ، يكمن في تبني الأفكار ومناهج العمل الأوروبية. وفي هذا التيار العام ، ظهرت مدارس متعددة بهذه النسبة أو تلك. وكان أبرزها اثنتان بصورة عامة : الأولى ، وأعضاؤها في الأغلب من أبناء الطوائف المسيحية ، اندفعت أكثر نحو التماهي مع الحضارة الأوروبية ، بأفكارها وأنماط عملها ، والثانية ، وأعضاؤها على العموم من المسلمين الذين تثقفوا بالغرب ، أرادت الاقتباس من هذا الغرب قدر الإمكان ، ولكن مع الحفاظ على الهوية الذاتية والتمايز عنه. وإذ راحت الفجوة تتسع بين هاتين المدرستين في نهاية القرن التاسع عشر ، فإنها عادت وتقلصت عشية الحرب العالمية الأولى ، عندما شارك أفراد هاتين المدرستين في الجمعيات السياسية السرية ، التي تشكلت حول شعارات وطنية ، تنادي بالاستقلال

٢٨٧

العربي عن السلطنة العثمانية ، وتعمل من أجله.

ومنذ منتصف القرن التاسع عشر ، بدأت تظهر في بلاد الشام ومصر صحف دورية ويومية ، التفت حولها مجموعات من المثقفين ، فأصبحت مراكز سياسية ـ ثقافية ، يؤمها الكثيرون من الوطنيين. ففي سنة ١٨٥٨ م ، صدرت الصحيفة الأولى في بلاد الشام ـ «حديقة الأخبار» ـ التي كان يحررها خليل الخوري. وفي سنة ١٨٦٠ م صدرت صحف أخرى في إستنبول وتونس وباريس ، كما في دمشق (١٨٦٥ م) ، وحلب (١٨٦٦ م). وفي سنة ١٨٧٠ م أسس بطرس البستاني صحيفة «الجنان» في بيروت ، والتي كان شعارها «حب الوطن من الإيمان». وفي سنة ١٨٧٦ م أنشأ فارس النمر ويعقوب صرّوف مجلة «المقتطف» ، واضطرا ، بسبب مطاردة نظام عبد الحميد لهما ، إلى الانتقال بها إلى القاهرة (١٨٨٣ م). وفي مصر كانت تصدر «الوقائع المصرية» منذ سنة ١٨٢٨ م كصحيفة رسمية. وفي سنة ١٨٦٧ م صدرت صحيفة «وادي النيل». وفي سنة ١٨٧٥ م تأسست في القاهرة صحيفة «الأهرام» ، على يد الأخوين سليم وبشير تقلا. وفي سنة ١٨٨٩ م أصدر صاحبا «المقتطف» جريدة «المقطم». وفي سنة ١٨٩٢ م صدرت في مصر مجلة «الهلال» الشهرية ، التي أسسها جورجي زيدان. إن النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر ، لم تتوقف عند الصحافة كتعبير عن التحولات الجارية في المجتمع والدولة ، وإنما تجاوزت ذلك إلى إحياء التراث ، الديني والأدبي ، عبر طباعة المخطوطات القديمة ونشر الكتب الجديدة ، مستفيدة من انتشار المطابع في الشرق. وقد ساعدت هذه المنشورات على زيادة التفاعل والتواصل بين المثقفين والمفكرين ، وحتى بين الحركات السياسية. والسياسة في الأساس كانت وطنية ، تتمحور حول الاستقلال الوطني ، وبدأت في مصر ، معبرة عن ردة فعل القوى المحلية على التدخل الأجنبي ، وخصوصا البريطاني ، في شؤون البلاد. وقد عبر عنها مصطفى كامل (١٨٧٤ ـ ١٩٠٨ م) فكرا وممارسة. ولضرورات المواجهة ، كان لا بدّ للحركة الوطنية من إعداد أدواتها وحشد قواها ، الأمر الذي قادها إلى صوغ حالة من الوعي الوطني ونشرها ، وكذلك إلى الاهتمام بشؤون الناس ، الذين هم مادة المشروع الوطني المناهض للاستعمار. وعبر المنشورات ووسائل الاتصال والنقل ، انتقلت الأخبار والأفكار ، وحتى الجماعات السياسية. وتعزز التفاعل بين مصر وبلاد الشام. وفي عهد السلطان عبد الحميد الاستبدادي ، كانت مصر موئل الهاربين من بلاد الشام ، بسبب ظلم الحكم وقمعه.

وفي بلاد الشام ، وبينما التدخل الأجنبي على قدم وساق ، تمحورت الحركة الوطنية على العلاقة مع الدولة العثمانية ، وبالتالي المطالبة بالاستقلال عنها ، حتى لو

٢٨٨

كان ذلك عبر التعاون مع الدول الأوروبية. ورأى المعبرون ، فكريا وسياسيا ، عن الحركة الوطنية في بلاد الشام ، أن استمرار الحكم العثماني يكبح تطور الأقطار العربية ، اقتصاديا وحضاريا وثقافيا. وتعزز الشعور المعادي للحكم العثماني مع طغيان الاستبداد في عهد عبد الحميد ، من جهة ، وتنامي النزعات «الطورانية» (القومية التركية) في أوساط الإصلاحيين الأتراك ، ودعوتهم إلى توحيد شعوب السلطنة على أساسها ، الأمر الذي يعني إلغاء الخصوصية العربية ، من جهة أخرى. في المقابل ، وتحت تأثير الأفكار الأوروبية عن حرية الفرد والديمقراطية ، ازداد التذمر والتململ بين العرب تحت نير الحكم العثماني المستبد. وساعد على تنامي الشعور بالغبن والظلم تردي الأوضاع الاقتصادية ، وسوء تصرف الجهاز الحكومي ، وإلغاء الدستور ، وتعليق البرلمان ، وطرد أعضائه العرب من إستنبول ، ومطاردتهم. ولكن الوطنيين في بلاد الشام تعاطفوا مع «ثورة عرابي باشا» في مصر ، ومع «حركة المهدي» في السودان.

ونتيجة الاستبداد الحميدي والردة على الإصلاحات وكبت الحريات ، الخاصة والعامة ، والإرهاب على أصحاب الفكر ونشطاء العمل السياسي ، تشكلت جمعيات سياسية سرية ، من مثقفين ورجال حكومة وضباط في الجيش ودبلوماسيين ، تعارفوا في النوادي الأدبية التي أقيمت في تلك الفترة. وفي هذه الجمعيات تركز النقاش حول السياسة والوطنية والحكم ، ومن خلال النشاط فيها تحول المثقفون إلى ثوريين ، يعنون بالجانب العملي من السياسة ، وليس النظري فقط. وبينما تبلور حزب سياسي في مصر بزعامة مصطفى كامل (الحزب الوطني) ، فإن هذه الجمعيات في بلاد الشام لم تتحول إلى أحزاب ، لكنها مهدت الطريق أمام تشكل أحزاب متعددة لاحقا. وقد عبرت المنشورات التي وزعتها جمعية سرية صغيرة (١٨٧٨ ـ ١٨٨٠ م) ، تأسست من حلقة حول بطرس البستاني (١٨٧٥ م) ، عن أهداف الحركة الوطنية في بلاد الشام. ودعت المنشورات إلى وحدة «سورية الكبرى» ، وإلى حصولها على الحكم الذاتي ، والاعتراف باللغة العربية لغة رسمية ، ورفع القيود عن حرية التعبير والمعرفة ، واقتصار النشاط العسكري للمجندين السوريين على حدود بلادهم ، من دون إرسالهم إلى جبهات القتال البعيدة ، وخصوصا مع روسيا ، إذ نشب القتال بينها وبين السلطنة في نهاية السبعينات.

واضطر الإرهاب الحميدي رموز هذه الجمعيات من الكتّاب والمفكرين إلى الهجرة إلى مصر ، مثل الدكتور فارس نمر وجورجي زيدان وإبراهيم اليازجي والأخوين تقلا وغيرهم. وازدادت الرقابة على المنشورات والنشاطات

٢٨٩

والاجتماعات. وإذ استطاع القمع أن يكبح تطور الحركة الوطنية والثقافية ، فإنه لم يجهز عليها بالكامل. فقد استمرت هذه الحركة في إنتاج الكتّاب والمفكرين. ويبرز بين هؤلاء الكاتب والمفكر السوري (الحلبي) عبد الرحمن الكواكبي (١٨٤٩ ـ ١٩٠٣ م). وكان الكواكبي من مناهضي ظلم عبد الحميد ، والمعارضين لمعاصره ، وابن بلده ، أبو الهدى من بطانة عبد الحميد ، والذي كان «نقيب الأشراف». ودعا الكواكبي إلى إحياء الحضارة العربية وتعزيزها. وميّز الحركة الوطنية من الدين ، وقاوم التعصب الطائفي ، ودعا إلى محاربة الأمية. وفي سنة ١٨٩٨ م ، طاله القمع الحميدي ، فرحل إلى مصر وأمضى بقية حياته هناك. وللكواكبي كتابان : «طبائع الاستبداد» و «أم القرى». وقد ضمّن الأول منظوره الاجتماعي ، بينما عبر الثاني عن وجهة نظره السياسية. ورأى إحياء الخلافة ، وإيداعها في يد خليفة عربي قرشي ، تنتخبه «الأمة الإسلامية» ، وتعيّن إلى جانبه مجلسا استشاريا. ويتمتع الخليفة بحكم الحجاز ، يعينه في ذلك مجلس منتخب. وأكد الكواكبي على خصوصية العرب في إطار السلطنة العثمانية.

في المقابل ، كان الظلم الحميدي ، الذي طال معارضيه من العرب والعثمانيين على حد سواء ، حافزا للوطنيين العرب على التعاون مع «الثوريين» العثمانيين ، من جمعية الاتحاد والترقي (تركيا الفتاة) ، من أجل إسقاط حكم عبد الحميد. وقد تشكلت هذه الجمعية (١٨٩٤ م) بعد أن فشلت سابقتها حركة العثمانيين الجدد ، بقيادة مدحت باشا ، في تحقيق نظام حكم دستوري في السلطنة. والعثمانيون الجدد ، الذين أوصلوا عبد الحميد إلى السلطة ، كانوا أول ضحايا قمعه. ومدحت باشا ، الذي أصبح الوزير الأول (الصدر الأعظم) ، أبعد إلى الحجاز ، واغتيل هناك. وإزاء تدهور أوضاع السلطنة ، وبالتالي إعلان إفلاسها الاقتصادي ، بسبب ضخامة ديونها ، راحت تتشكل تيارات ليبرالية في تركيا ، في مواجهة الاستبداد الحميدي. واعتقد الوطنيون العرب أنهم بالتعاون مع جمعية تركيا الفتاة ، يستطيعون تحقيق الحكم الذاتي للأقطار العربية (بلاد الشام) ، في إطار السلطنة العثمانية ، أو بالاستقلال عنها ، ولو بمساعدة دول أوروبا. وكان أعضاء تركيا الفتاة من الضباط والمثقفين الأتراك ، الذين أرادوا تحويل السلطنة إلى دولة دستورية. وقد تميّز عملهم ، بسبب مواقعهم في السلطة ، من جهة ، والقمع الحميدي من جهة أخرى ، بالتآمر والسرية ، والعمل على تحقيق أهدافهم عبر انقلاب في المركز. لكن أجهزة عبد الحميد اخترقت صفوفهم ، ونكلت بهم ، واضطر الكثيرون منهم إلى الهرب إلى الخارج ، وخصوصا إلى باريس.

وفي باريس التقى الكاتب السياسي الفلسطيني النشيط ، نجيب عازوري ، مع

٢٩٠

أعضاء تركيا الفتاة. وكان هو نفسه موظفا عثمانيا سابقا في القدس ، ثم رحل إلى باريس. وفي سنة ١٩٠٤ م أسس رابطة الوطن العربي ، ونشط في عمله السياسي والدعاوي. وفي سنة ١٩٠٥ م ، طبع كتابه «يقظة الأمة العربية» بالفرنسية. وفي سنة ١٩٠٧ م أصدر مجلة «استقلال العرب» بالفرنسية أيضا. وكان شعاره «بلاد العرب للعرب». وفي ندواته دعا إلى الثورة ، وإلى إقامة دولة عربية من الولايات الواقعة تحت الحكم العثماني (بلاد الشام). ولم تدخل مصر وشمال إفريقيا في حسابه. وتركز نشاط عازوري ضد العثمانيين ، وليس ضد دول أوروبا. وعلى العكس ، فقد توقع مساعدة أوروبا في النضال ضد العثمانيين ، والتزم باحترام مصالحها في الشرق العربي. ولكن عازوري التقط مبكرا أخطار المشروع الصهيوني ، وانعكاساته على العلاقة مع أوروبا. ونشط في دحض المزاعم الصهيونية ، وفي الدعوة إلى منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وبسبب وجوده في الخارج ، ظل أثره محصورا ، لكن أفكاره شكلت معلما مهما في تطور الحركة الوطنية العربية عامة ، والفلسطينية خاصة.

وكتابات عازوري تنضح بوعي وطني عميق ، وانتماء للعروبة لا لبس فيه.

وفي سنة ١٩٠٦ م ، نقلت تركيا الفتاة مقرها إلى سالونيكا (مقدونيا) ، وشرعت في تأليف شبكة واسعة من المنظمات الثورية. وفي سنة ١٩٠٧ م ، عقدت مؤتمرا في باريس ، حضره القوميون العرب ، وعدد من المنظمات الثورية الأخرى. واعترفت جمعية تركيا الفتاة بحق تقرير المصير السياسي والثقافي للعرب. وسرّعت الأحداث اندلاع الثورة ، فانطلقت من مقدونيا إلى إستنبول (١٩٠٨ م). وخضع السلطان إلى مطالب الثوار ، فأعاد الدستور ، وحدد موعدا للانتخابات ، وألغى القيود على حرية الكلام والمطبوعات والاجتماعات ، وأزيلت الرقابة على الصحف ، وأعلن العفو العام عن السجناء. وقوبل انتصار الثورة بالابتهاج في بلاد الشام ، واعتبر القوميون العرب نجاح الثورة انتصارا لهم ، وتطلع الناس إلى عهد من الحرية والمساواة والأخوة بين شعوب السلطنة. وانتقل مركز الحركة القومية العربية إلى إستنبول ، حيث تجمعت أكثرية العناصر النشطة ، من ضباط وطلاب وموظفين. وقد علقت هذه العناصر آمالا كبيرة على الثورة في تحقيق الأهداف القومية ، عبر التعاون مع تركيا الفتاة ، فسعت لتوطيد العلاقة معها.

وفي السنة نفسها (١٩٠٨ م) ، عقد المتحمسون العرب في إستنبول اجتماعا موسعا ، وأسسوا فيه منظمة عربية جماهيرية هي جمعية الإخاء العربي ـ العثماني. وفتحت لها فروعا في الولايات العربية ، وأصدرت صحيفة خاصة بها. وكان رئيس الجمعية ، صادق باشا العظم ، ضابطا سوريا كبيرا في أركان الجيش العثماني ، وأحد

٢٩١

المشاركين البارزين في تركيا الفتاة. وبفعله سار الإخاء العربي ـ العثماني في ركاب تركيا الفتاة. ودعا إلى توحيد السلطنة على قاعدة «الجامعة العثمانية» ، التي تقول بوجود «أمة عثمانية» ، تضم عددا من «الملل» و «الأمة العربية» واحدة منها. وجرى التخلي عن المطالبة بالاستقلال العربي ، أو بالحكم الذاتي على الأقل. واعتبر الإخاء العربي ـ العثماني مهمته الرئيسية مساعدة تركيا الفتاة على تسيير أمور الدولة. وتقصلت مطالبه إلى المساواة بين القوميات ونشر الثقافة واللغة العربيتين والمحافظة على العادات والتقاليد. وبارتباطه بتركيا الفتاة ، فقد الإخاء العربي ـ العثماني قاعدته الشعبية ، وخصوصا بعد انكفاء قادة الثورة عن مواقفهم السابقة بشأن حقوق القوميات في السلطنة لدى تسلمهم زمام السلطة.

وخاب أمل القوميين العرب من تركيا الفتاة في الانتخابات البرلمانية التي جرت تحت إشرافها (١٩٠٨ م) ، إذ إنها في برنامجها ، كما في سلوكها ، تجاهلت التعهدات التي قطعتها على نفسها إزاء حركات التحرر قبل تسلمها السلطة في إستنبول. فإضافة إلى أن تمثيل العرب في البرلمان لم يكن متوازيا مع نسبتهم سكانيا داخل السلطنة ، لم يكن المرشحون معبرين حقيقيين عن تطلعات قطاعات الشعب العربي الواسعة. والنواب المنتخبون كانوا أكثر حرصا على مسايرة تركيا الفتاة من طرح قضايا الناس الذين يفترض أنهم يمثلونهم. وانحاز الكثيرون من الإقطاعيين العرب ، وكذلك بعض القوميين الذين خابت آمالهم من تركيا الفتاة إلى حزب الأحرار ، الذي يمثل ملاكي الأراضي وأصحاب رؤوس الأموال. وتعاون هذا الحزب مع السلطان عبد الحميد للقيام بانقلاب مضاد على حكومة تركيا الفتاة ، واندلع القتال في الشوارع ، وقتل فيه محمد أرسلان ، أحد أقطاب الإخاء العربي ـ العثماني. لكن ضباط تركيا الفتاة ، محمود شوكت ومصطفى كمال وغيرهما ، استطاعوا إنقاذ الموقف بعمل عسكري سريع وحازم ، وخلعوا السلطان عبد الحميد ، وعينوا مكانه محمد الخامس رشاد سلطانا اسميا فقط.

وبعد سحق الانقلاب المضاد ، استأثر قادة تركيا الفتاة بالسلطة ، وشكلوا حكومة بأنفسهم ، وتخلوا عن تحالفاتهم السابقة ، واتجهوا إلى التصالح مع المحافظين ، من جهة ، وإلى تبني الطروحات الشوفينية بشأن القومية التركية من جهة أخرى. وفتحوا المعركة مع الحركات الثورية التي تحالفوا معها سابقا ، كما تراجعوا عن مواقفهم السابقة بشأن ملكية الأراضي ، فتركوها بأيدي الإقطاعيين ، وامتنعوا من إصلاح النظام الضريبي لمصلحة الفلاحين ، وسنّوا «قانون الإضراب» ضد العمال (١٩١٠ م). وفي السياسة الخارجية ، دخلوا في «لعبة الدول الأوروبية» ، وشجعوا العلاقات مع ألمانيا ،

٢٩٢

التي كان نسجها عبد الحميد وبطانته. وأسوة بسياسة عبد الحميد ، واصلوا التنكيل بالأرمن والأقليات العرقية. وحظروا نشاط المنظمات الوطنية ـ العربية والألبانية وغيرها. وفي سنة ١٩٠٩ م حرّموا نشاط الإخاء العربي ـ العثماني. وتسلح قادة تركيا الفتاة بسلاح الجامعة العثمانية ، بمفهومه التركي ، وانتهجوا سياسة التتريك القسري ، وأغلقوا المدارس القومية ، وأدخلوا اللغة التركية كلغة رسمية وحيدة في السلطنة.

أ) المنظمات العربية السرية

إزاء ارتداد تركيا الفتاة عن الشعارات التي رفعتها قبل تسلمها السلطة ، كان طبيعيا أن يتحوّل القوميون العرب ، من حلفائها السابقين ، إلى المعارضة ، فانتهى بذلك الإخاء العربي ـ العثماني ، وحلت محله المقاومة السافرة. وعندما لجأ حكام تركيا الجدد إلى تحريم النشاط السياسي العلني ، عمدت المنظمات العربية إلى تكتيكات جديدة ، تجمع بين النشاط العلني والعمل السري ، كما انتقل جزء منهم إلى الخارج لمتابعة نشاطه من هناك. وفي صيف سنة ١٩٠٩ م أسسوا المنتدى الأدبي في القسطنطينية ، بديلا من جمعية الإخاء العربي ـ العثماني. واتخذ هذا المنتدى في الظاهر صفة ثقافية ، واتسعت عضويته ، وفتح له فروعا في المدن السورية والعراقية فأصبح مركزا لتجمع المثقفين العرب الوطنيين. وسريعا أقام هؤلاء اتصالات مع أقرانهم في مصر والولايات المتحدة ، وأدخلوا المطبوعات الممنوعة إلى المنتدى.

ولم يلبث المنتدى ، انسجاما مع أساس كينونته أن تحوّل إلى ستار للنشاط السياسي السري. وخلال الحرب العالمية الأولى ، شنق حكام تركيا الجدد أربعة من أعضاء لجنته الستة ، بتهمة النشاط المعادي لتركيا.

وفي نهاية سنة ١٩٠٩ م أسس عبد الكريم الخليل ، رئيس المنتدى الأدبي ، جمعية سرية هي القحطانية لتعمل بالسياسة ، بموازاة النشاط الثقافي للمنتدى. وكان أعضاء القحطانية من الضباط العرب في الجيش العثماني ، وعلى رأسهم عزيز علي المصري ، الذي أدّى دورا في انقلاب تركيا الفتاة ، ثم تخلى عنها ، وعمل على تنظيم الضباط العرب في مواجهتها. وكان المصري يتمتع باحترام كبير بين أقرانه ، ومنهم : سليم الجزائري وأمين وعادل أرسلان وعلي النشاشيبي وشكري العسلي. وكانت أهداف القحطانية لا تفترق كثيرا عن أهداف الإخاء العربي ـ العثماني. فقد اعتبرت العرب أمة واحدة قائمة بذاتها. وبناء عليه ، تجب إعادة صوغ السلطنة العثمانية لتعبر عن دولة ثنائية القومية ـ عربية وتركية ـ ويكون السلطان التركي هو ملك العرب ، الذين يتمتعون بدورهم بحكم ذاتي في بلادهم ، ولكن في إطار السلطنة. ويكون لهم برلمان

٢٩٣

خاص ، وحكومة محلية ، ولغة رسمية ، هي العربية. وكان مركز القحطانية في إستنبول ، ولها فروع في مدن عربية أخرى. لكن نشاط هذه الجمعية السرية انكشف للسلطات. فسارعت قيادتها إلى حلها ، تداركا للتنكيل التركي بأعضائها.

ونظرا إلى سياسة القمع التركية ، فقد أسس بعض أعضاء المنتدى الأدبي ، الذين سافروا إلى فرنسا لطلب العلم ، جمعية العربية الفتاة في باريس (١٩١١ م) ، التي أدّت دورا كبيرا في تبلور الحركة القومية العربية. واستشهد الكثيرون من أعضائها خلال الحرب العالمية الأولى ، بينما تولى الناجون من سيف الجلادين الأتراك مناصب سياسية مهمة في الوطن العربي لاحقا ، مثل جميل مردم وعوني عبد الهادي. وفي فرنسا ، بعيدا عن الاعتبارات المحلية واليومية ، تبلور موقف القوميين العرب ، واستقرّ على ضرورة الاستقلال عن الحكم التركي ، أو الأجنبي الأوروبي. وكانت العربية الفتاة منظمة سرية للغاية ، تضم ثلاث مراتب تنظيمية : القيادة والأعضاء العاملون والمرشحون. ومنذ سنة ١٩١٣ م ، ازداد نشاط الجمعية ، وبادرت بالدعوة إلى توحيد نشاط كافة الأحزاب والمنظمات العربية الوطنية. وبتضافر جهودها مع حزب اللامركزية عقد المؤتمر العربي الأول ، في باريس في ٤ نيسان / أبريل ١٩١٣ م. وقد رعت حكومة فرنسا المؤتمر ، فوفرت له المكان ، وكذلك نشر المقررات. ومن أعضاء الجمعية البارزين : جميل مردم ومحمد المحمصاني وعوني عبد الهادي ورستم حيدر وتوفيق الناطور ورفيق التميمي وعبد الغني العريسي. وكان هؤلاء جميعا من الطلاب الدارسين في فرنسا ، والمؤسسين للجمعية.

والقمع الذي مارسته حكومة تركيا الفتاة لم يوفر لها النجاح ، لا في الداخل ولا في الخارج. وقد أدّت سياستها إلى المزيد من تقويض دعائم السلطنة العثمانية ، إذ فشلت في الحرب مع إيطاليا (١٩١١ ـ ١٩١٢ م) ، وكذلك في البلقان (١٩١٢ ـ ١٩١٣ م). وداخليا ، وقعت بين مطرقة اليسار ـ الحركات الثورية ـ وسندان اليمين ـ حزب اللامركزية (الائتلاف والحرية). وكان هذا الحزب يعكس مصالح الأوساط الإقطاعية والكومبرادورية. وعلى العكس من حكومة تركيا الفتاة ، التي مالت نحو ألمانيا ، اتجه هذا الحزب نحو «الحلفاء» (فرنسا وبريطانيا) ودعا إلى اللامركزية كحل للقضية القومية ، ورفع شعار الاستقلال الذاتي للشعوب على أراضيها ، ضمن إطار الإمبراطورية العثمانية. واستطاع الائتلافيون الإطاحة بحكومة تركيا الفتاة بانقلاب (١٩١٢ م) ، وتولوا الحكم. لكنهم فشلوا في حل مشكلات تركيا المستعصية ، فعادت تركيا الفتاة إلى السلطة بانقلاب مضاد (١٩١٣ م) ، وبقيادة ثلاثي الباشوات المنحاز كليا لألمانيا ـ أنور وطلعت وجمال. وهذا الثلاثي هو الذي أدخل تركيا الحرب

٢٩٤

العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا.

وشهدت فترة ١٩١٢ ـ ١٩١٤ م حالة من النهوض القومي العربي ، أفاد من الأزمة العميقة التي راحت تلف الحكم في إستنبول ، وتشير إلى حالة من الانهيار العام تحيق بالسلطنة. فالفشل العسكري في ليبيا (مع إيطاليا) ، وفي البلقان ، وبالتالي استقلال الشعوب البلقانية ، والانقلاب ، والآخر المضاد في إستنبول وحالة التململ العامة ، كانت عوامل ساعدت على ذلك النهوض. وعلاوة على ذلك ، فإن انحياز الثلاثي ـ أنور وطلعت وجمال ـ إلى ألمانيا ، دفع فرنسا وبريطانيا إلى تعزيز دعمهما للقوى المناوئة لحكمهم. وتشكلت أحزاب وجمعيات جديدة ، وكذلك منظمات ثورية. ففي غضون الحرب البلقانية ، شكّل القوميون العرب في القاهرة حزب اللامركزية الإدارية العثماني. وكان على اتصال وثيق بالحزب التركي ـ الائتلاف والحرية. وقد ترأس الكاتب السياسي ، والعالم الاجتماعي السوري ، رفيق العظم ، هذا الحزب. وكان من المشاركين في حلقة الكواكبي في القاهرة. كما كان نائب الرئيس ، الشيخ الزهراوي ، من تلاميذ الكواكبي ، ومن الكتّاب المرموقين ، وقد مثل حماة في البرلمان العثماني. وانتشر الحزب في البلاد العربية ، وحتى في العراق. وبلغ أعضاؤه قرابة ٠٠٠ ، ١٠ ، موزعين على فروع في مدن بلاد الشام والعراق. ومن البارزين بين أعضائه : فؤاد الخطيب ، ورشيد رضا وسليم عبد الهادي وحافظ السعيد. وعندما تسلم حزب الائتلاف والحرية الحكم في إستنبول ، كثف حزب اللامركزية الإدارية العثماني نشاطه في الولايات العربية. فدعا إلى زيادة المشاركة العربية في الحكومة والمجلس ومؤسسات الدولة ، والاعتراف باللغة العربية لغة رسمية في الدولة العثمانية ، وطرح فصل الأقاليم العربية وإعطاءها الاستقلال الذاتي ، وإقامة حكومات محلية وإقليمية فيها. وأكد الحزب على التعاون مع الدول الأوروبية ، فطالب بإعطاء الأقاليم حق استقدام المستشارين الأجانب بصورة مستقلة ، وكذلك عقد القروض الخارجية ، ومنح الامتيازات للدول الأجنبية. وعلى العموم ، كان هذا الحزب يعلق آمالا كبيرة على دعم أوروبا لمطالبه ، ووافق على أن تتولى فرنسا الإشراف على سورية ولبنان ، بينما تتولى بريطانيا الإشراف على العراق وفلسطين. وبالتعاون مع المنتدى الأدبي ، والمنظمات الوطنية الأخرى ، وخصوصا مع الجمعيات الإصلاحية السورية والعراقية ، ساهم الحزب في عقد المؤتمر العربي الأول (١٩١٣ م) في باريس. وعندما عادت تركيا الفتاة إلى الحكم ، واجه نشطاء الحزب موجة من القمع والتنكيل ، فاندلعت الاضطرابات في جميع أنحاء السلطنة ، وخصوصا في الولايات العربية ، واضطرت حكومة تركيا الفتاة إلى التراجع التكتيكي ، الذي لم يؤدّ

٢٩٥

إلى تهدئة الأوضاع.

وعلى الرغم من محاولات حكومة تركيا الفتاة (١٩١٣ م) امتصاص النقمة العربية على سياستها في العودة إلى مركزية الدولة ، بإصدار «قانون الولايات» الجديد ، الذي وسع من حقوقها السابقة ، إلّا إن حركة مناهضة الحكم التركي لم تتوقف. وفي ٢٨ تشرين الأول / أكتوبر ١٩١٣ م ، عاد عزيز علي المصري ، وأسس جمعية العهد ، من ضباط عرب ، ولكن على قواعد وأسس أكثر سرّية وانضباطا من القحطانية. ووصل أعضاء الجمعية إلى نحو ٤٠٠٠ ضابط ، وكان لها فروع في بغداد والموصل وحلب ودمشق ، ومن أعضائها نوري السعيد وجميل المدفعي. وكانت الجمعية على اتصال ببريطانيا ، بعد أن قطعت الأمل في إصلاح النظام العثماني ، فتحولت إلى العمل على إسقاط السلطة التركية بالقوة ، وجعلت من العراق قاعدة لها. وفي سنة ١٩١٤ م ، ألقي القبض على عزيز علي المصري ، واتهم بالخيانة ، وحكم عليه بالإعدام ، لكن الحكم لم ينفذ بسبب تدخل السفارة البريطانية لمصلحته ، فأطلق سراحه ، وأبعد إلى مسقط رأسه ـ مصر. وبعد تشتت جمعية العهد في إستنبول ، تشكلت جمعيات متعددة في الولايات العربية ، واصلت النضال ضد الحكم العثماني.

وعشية اندلاع الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ م) ، كانت أغلبية الجمعيات والمنظمات العربية قد تخلت عن فكرة التوفيق بين أهدافها والحكم التركي ، واقتنعت بضرورة اللجوء إلى الثورة للفكاك من ذلك الحكم المستبد. فالسياسة الشوفينية لحكومة تركيا الفتاة ، لم تترك مجالا للاتفاق. ودخل الطرفان في مسلسل من التصعيد ، زاد في تنامي التوجهات الانفصالية العربية. ففي كانون الثاني / يناير ١٩١٤ م قررت الحكومة التركية إغلاق المنظمات العربية السياسية جميعها ، وعمدت إلى تشتيت الضباط العرب في الوحدات العسكرية لمنع تكتلهم. وكان لذلك أثر عكسي ، إذ قويت المعارضة ، وانتقلت إلى طور الانتفاضة المسلحة. وأجرى قادة الحركة العربية اتصالات بمندوبين بريطانيين وفرنسيين. واتصل شفيق المؤيّد بالسفير الفرنسي في إستنبول ، وطلب تقديم الدعم للثورة العربية. وأجرى عبد الله الهاشمي اتصالات بالمندوب السامي البريطاني في مصر ، كيتشنر ، وطلب تزويد الثوار العرب بالأسلحة ، ومساندة الثورة العربية المقرر تفجيرها في الحجاز. وقد قوبلت هذه الاتصالات بمعارضة أوساط غير قليلة من القوميين العرب الذين رأوا أن التعامل مع الدول الأوروبية لا يقل خطورة عن التعامل مع الحكم التركي. وفضّل هؤلاء الوقوف إلى جانب تركيا ، لأنهم رأوا ، أن الثورة عليها بمساعدة دول أوروبا ، ستؤدي إلى احتلال تلك الدول للبلاد العربية.

٢٩٦

ب) مقاومة الاستيطان الصهيوني

وكان طبيعيا نتيجة تبلور الوعي القومي ، من خلال اليقظة الفكرية والثقافية في الوطن العربي ، وبالتالي تشكل الحركة القومية العربية ، التي تناضل من أجل الحرية والاستقلال والوحدة والتطور الاجتماعي ، أن تتصدى القوى السياسية والشعبية للصهيونية ، فكرا وممارسة. وفي الواقع ، وبحدود القدرة الذاتية على القيام بما يلزم لذلك ، واكبت المقاومة العربية الاستيطان الصهيوني منذ بدايته. لكن تلك المقاومة ، ولظروف ذاتية وموضوعية ، لم تستطع الحؤول دون تجسيد المشروع الصهيوني في فلسطين. فعلى الصعيد الموضوعي ، كانت المقاومة العربية تنطلق من قاعدة إمبراطورية متهاوية ـ السلطنة العثمانية ـ بينما الصهيونية تنطلق من قاعدة إمبريالية صاعدة. وإذ كانت الحركة العربية مستنزفة في الصراع داخل معسكرها ، سواء بين التيارات المتعددة فيها ، أو مع النظام العثماني الحاكم ، كانت الحركة الصهيونية ترتب أوضاعها لتكون على أعلى درجات الانسجام مع الإمبريالية الأوروبية. وبينما تمحور صراع الحركة القومية العربية حول التخلص من نير الحكم التركي ، كان النشاط الصهيوني يتركز على دعم الدول الأوروبية للإجهاز على السلطنة العثمانية ، وتقسيم أراضيها ، وتخصيص فلسطين قاعدة للمشروع الصهيوني ، في مواجهة الحركة القومية العربية. ومن سخرية القدر أن تجد الحركة القومية العربية نفسها متحالفة ، من أجل تحقيق أهدافها ، مع الدول الإمبريالية الأوروبية ، التي تشكل «البلد الأم» للصهيونية.

وعلى الصعيد الذاتي ، فإن الموقف السياسي النظري ، المعادي للصهيونية في الجانب العربي ، لم يترجم نفسه في حركة سياسية منظمة وفاعلة. وذلك على العكس من الحركة الصهيونية ، التي راحت بعد مؤتمر بازل (١٨٩٧ م) تصوغ منظمتها بالشكل الذي يحقق أهدافها. ومنذ البداية ، وفي مقابل تمركز النشاط الصهيوني ، وتحديد أهدافه العملية ، وبالتالي حشد مقوماته لإنجاز تلك الأهداف ، ظلت المقاومة العربية مبعثرة ، وتعاني الانفصام بين النظرية والتطبيق. فحالة الوعي التي كانت في طور التشكل ، والتي تمحورت حول القضية الضاغطة ـ العلاقة مع الحكم العثماني ـ مع أنها لم تكن غافلة عن الخطر الصهيوني ، وكذلك الوضع الاجتماعي ـ السياسي للشعب العربي عند انطلاق الصهيونية كحركة سياسية ، تمتلك مشروعا استيطانيا ، لم يكن من شأنهما تأهيل الحركة القومية العربية لبناء التنظيم السياسي ، وبالشكل المطلوب ، القادر على مواجهة الحركة الصهيونية ودحرها. وكان واضحا أن الحركة القومية العربية لم تكن تمتلك برنامجا ـ فكريا أو سياسيا أو عمليا ـ موحّدا في مواجهة

٢٩٧

الصهيونية ، فظلت النشاطات التي قامت بها تتسم بطابع العفوية والارتجال وردّات الفعل.

وتجدر الإشارة إلى أن الوعي المناهض للمشروع الصهيوني ، بصيغة جميعها : فكريا وسياسيا أو صراعا عنيفا ، لم تطبقه الحركة القومية العربية على اليهود ، لأنهم يهود ، وإنما انطلق من قاعدة سياسية ، ليست اجتماعية ولا دينية ، كما كان الحال في أوروبا. وكذلك كان موقف السلطة العثمانية ، التي لم تقف مكتوفة الأيدي إزاء النشاط الصهيوني الذي يستهدف قطعة أرض معينة من أراضي السلطنة. فمنذ البداية ، أصدر الباب العالي التعليمات إلى قناصله في الدول المتعددة ، بإبلاغ اليهود الراغبين في الهجرة إلى فلسطين ، بأنه لن يسمح لهم بالاستيطان في فلسطين كأجانب ، وبأن عليهم اكتساب الجنسية العثمانية ، والالتزام بالقوانين السارية في الولايات التي يرغبون الإقامة الدائمة فيها. ومن ناحية مبدئية ، لم تكن السلطات العثمانية تعارض إقامة اليهود في أراضيها ، فقد كانت أعداد منهم منتشرة فيها ، واعتبرتهم إحدى «الملل» المعترف بها في السلطنة ، ولكنها كانت تعارض هجرتهم إليها من الدول الأخرى ، والتوجه إلى فلسطين تحديدا ، في إطار الامتيازات الممنوحة للدول الأجنبية ، أو على أساس «براءة» خاصة تقدم للمنظمة الصهيونية من قبل السلطان.

كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن الأوساط المحافظة (الرجعية) العثمانية والعربية ، كانت أكثر تشبثا بمبدأ عدم السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين ، وتصلبا في مواجهة محاولات الصهيونية اختراق هذا الحاجز ، عبر الأوساط الإصلاحية (التقدمية). وبذلك كان المحافظون أكثر انسجاما مع المزاج الشعبي من الإصلاحيين النخبويين. ولعل التعبير الأبرز عن ذلك يتمثل بموقف السلطان عبد الحميد الثاني المستبد ، الذي لم يتزحزح عن معارضته للأهداف الصهيونية في فلسطين ، وذلك على الرغم من الإغراءات كلها التي قدمت له من الصهيونية وأعوانها ، في مقابل الموقف المائع لحزبي تركيا الفتاة والحرية والائتلاف. وعلى العموم ، ظل الموقف الرسمي العثماني ، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ، مناهضا للمشروع الصهيوني ، وثابتا في وجه المحاولات الصهيونية كلها لتغييره ، أو التخلي عنه. كما أقدمت السلطات العثمانية على اتخاذ إجراءات لمنع المهاجرين اليهود من الدخول إلى فلسطين بالوسائل الملتوية. فأصدرت تعليمات إلى متصرف القدس ببذل كل الجهود للحؤول دون وصول المهاجرين من روسيا ورومانيا وبلغاريا إليها. وجرى اتخاذ إجراءات مماثلة في بيروت واللاذقية وحيفا. ولكن الموظفين العثمانيين لم يتقيدوا دائما بالتعليمات ، كما استغل عملاء الصهيونية فسادهم وجشعهم للمال ، فقدموا لهم

٢٩٨

الرشاوى للتغاضي عن الهجرة اليهودية غير الشرعية.

لكن الموقف العثماني الرسمي لم يحل دون وصول المهاجرين اليهود إلى فلسطين والاستيطان فيها. فقد أفاد هؤلاء من الثغرات في القوانين والإجراءات ، واستغلوا فساد الموظفين بالرشاوى ، واستندوا إلى دعم قناصل الدول الأوروبية ، للدخول إلى البلاد والإقامة فيها. وفي الواقع ، فإن قناصل الدول الأجنبية كثيرا ما احتجوا على القيود المفروضة على هجرة اليهود إلى فلسطين ، واعتبروها خرقا للامتيازات التي تتمتع بها دولهم. وعبر تدخل هؤلاء القناصل ، كثيرا ما رضخ الموظفون العثمانيون إلى الضغوط ، أو أغروا بالرشاوى ، فتغاضوا عن التجاوزات الصهيونية بالهجرة والاستيطان. وكذلك ، وعلى الرغم من القوانين الصادرة بمنع بيع الأراضي للمهاجرين الجدد ، فقد استطاع هؤلاء ، وعبر السماسرة ، أو عن طريق العقود الوهمية ، من ابتياع مساحات من الأراضي لإقامة المستعمرات. وبنسبة عالية جدا ، كانت تلك الأراضي تخص ملاكين غائبين ، ممن استولى عليها عبر الالتزام ، أو سجلها باسمه لقاء دفع الضريبة المستحقة عليها ، نيابة عن الفلاحين الذين لم تتوفر لديهم الأموال اللازمة لذلك ، وخصوصا بعد صدور القوانين الضريبية على الأراضي ، في إثر مسحها وتسجيلها في عهد التنظيمات ، فتركزت في أياديهم أملاك واسعة. وإزاء فشل الإجراءات العثمانية في إيقاف الهجرة اليهودية ، وبالتالي ازدياد النشاط الصهيوني الاستيطاني ، برزت المقاومة المحلية لهذه الظاهرة. وإذ لم تكن أعمال المقاومة منسقة ومنظمة ، فإنها تفجرت بصورة عفوية ، وبالتواكب مع عمليات شراء الأراضي من الملاكين الغائبين وطرد الفلاحين أو المرابعين عنها ، وإقامة المستعمرات عليها. وكان كلما توسعت عملية الاستيطان وانتشرت في الريف ، عمت المقاومة واتسع نطاقها. فشراء الأراضي عبر السماسرة ، وفي صفقات مشبوهة وسرية ، جعل المواجهة حتمية بين الفلاحين المقيمين عليها ، والمستوطنين الذين عمدوا إلى طردهم منها ، وبالتالي قطع أسباب معيشتهم فجأة ، ومن دون سابق إنذار. فكان طبيعيا أن يقاوم الفلاحون هذه الظاهرة ، ويعمدوا إلى العنف في مواجهة لجوء المستوطنين ، تدعمهم السلطة ، إلى إخلائهم بالقوة. وكانت يد السلطة ثقيلة على الفلاحين في تنفيذ العقود المشبوهة وخفيفة على المستوطنين في تنفيذ تعليمات الدولة وأوامرها. وكما اصطدم المستوطنون مع الفلاحين ، كذلك كان الحال مع القبائل البدوية التي حرمت من مراعي قطعانها. وقام الطرفان ـ الفلاحون والبدو ـ ومن دون تنسيق ، بعمل متكامل في مهاجمة المستعمرات وحرق المزارع ، وتخريب المرافق. وتنضح يوميات المستوطنين الأوائل بأخبار هذه المقاومة ، التي يسمونها أعمال نهب وتخريب.

٢٩٩

وفي الواقع ، وبغض النظر عن الدعاية الصهيونية التي تروج غياب الوعي الوطني لدى العرب الفلسطينيين ، وتركز على انتمائهم الطائفي ، وتبرز خلو الأرض من السكان ، وصولا إلى مقولة الزعيم الصهيوني ، يسرائيل زانغويل ، «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» ، فإنه ما من مستعمرة صهيونية قامت في فلسطين ، ومنذ البداية ، من دون صراع مع جوارها ـ من الفلاحين أو البدو. والدعاية الصهيونية الموجهة ، الرامية إلى تغييب سكان فلسطين الأصليين ، لتبرير منح الحركة الصهيونية «البراءة الدولية» ، تفضحها محاضر جلسات لجان المستعمرات ، ومذكرات المستوطنين الأوائل ، التي أبرزت شكواهم من المقاومة العربية. وهذه الدعاية المضللة والكاذبة تفضحها بصورة صارخة الذرائع والتبريرات التي ساقها المستوطنون لإنشاء وحدات مسلحة لحماية المستعمرات. كما يدحضها الجدل بين المستوطنين الأوائل ورجال الهجرة الثانية ، بشأن ضرورة استبدال الحراس العرب بمهاجرين يهود للقيام بالدفاع عن المستعمرات أمام هجمات المقاومين العرب. كما تكشف مراسلات القناصل الأجانب زيف هذه الدعاية ، إذ دأب هؤلاء على الطلب من السلطة العثمانية إبعاد الفلاحين العرب عن الأرض بالقوة ، وتثبيت المستوطنين الجدد عليها ، وحمايتهم.

ولعل تدخل قناصل الدول الأوروبية ، وخصوصا البريطاني ، كان من أهم عوامل إحباط المقاومة العربية ، إضافة إلى فساد جهاز الحكومة التركي. ففي مقابل الضغط الروسي على السلطنة لمنع هجرة يهودها إلى فلسطين ، خوفا من الإخلال بالوضع القائم حول الأماكن المقدسة ، وبالتالي بالامتياز الذي تتمتع به بحسب معاهدة كوتشوك كاينرجي لحماية المسيحيين الأورثوذكس ، تحرك قناصل الدول الأخرى لدعم الهجرة اليهودية. والقيود التي فرضتها السلطنة على هجرة يهود روسيا منذ بداية الثمانينات ، حركت ردة فعل قناصل الدول الأوروبية (١٨٨٤ م). واضطرت السلطنة إلى تخفيف تلك القيود ، استجابة لادعاء تلك الدول بأنها تخالف مبادىء الامتيازات التي يتمتع بها مواطنوها. وكان المهاجرون اليهود يحتفظون بجنسياتهم الأصلية ، أو يدخلون لدى وصولهم تحت حماية إحدى الدول ، الأمر الذي يعطي الذريعة الشكلية لقنصلها للتدخل لدى السلطات العثمانية وتأمين إقامتهم في البلد. كما كان القناصل يستغلون فساد الموظفين الأتراك ، ويجعلونهم بالرشاوى يلتفون على أوامر الدولة ، ويختلقون الذرائع لمعاقبة المقاومين العرب ، وإخلاء سبيل المستوطنين المعتدين ، أو المخالفين للأنظمة والقوانين.

ومع ذلك ، تشير الدلائل كلها ، إلى أن حركة الاستيطان الصهيوني ، المدعومة

٣٠٠