الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

من قناصل الدول الأوروبية ، وتواطؤ بعض الموظفين العثمانيين ، قد سرعت في تنامي الشعور الوطني وتبلور الوعي القومي ، لدى قطاعات واسعة من سكان فلسطين. وقد عمّ هذا الشعور سكان الريف والمدن على حد سواء ، ولم تخرج عنه سوى فئة صغيرة من الملاكين ، الذين بأغلبيتهم كانوا غائبين عن الأرض ، وقد أغرتهم الأثمان العالية التي دفعها لهم السماسرة للتنازل عن ملكية الأرض. أمّا التجار والحرفيون والمثقفون ، فقد انحازوا إلى الموقف الوطني بدافع الشعور القومي ، ومن منطلق الحفاظ على المصالح الاقتصادية ، التي تتهددها الهجرة اليهودية الواسعة. وتحت ضغط الرأي الشعبي العام ، تقدم أعيان القدس بالتماس إلى الباب العالي في ٢٤ حزيران / يونيو ١٨٩١ م ، يطالبون فيه بوضع حد للهجرة اليهودية إلى فلسطين. واستجابت إستنبول للالتماس ، وأصدرت مرسوما يمنع بيع أراضي الدولة (الميري) لليهود ، من دون استثناء (١٨٩٢ م). ولم تجد نفعا احتجاجات اليهود العثمانيين ، الذين شكلوا غطاء للصهيونية للالتفاف على القوانين ، ولا اعتراضات قناصل الدول الأوروبية ، في زحزحة الباب العالي عن موقفه ، الذي دعمه السلطان عبد الحميد بحزم.

وأدّت الصحف العربية الناشئة حديثا دورا مهما في التعريف بالصهيونية وأهدافها ، والتحريض على مقاومتها. فقد كتبت «المقتطف» (١٨٩٨ م) مقالا مناهضا للصهيونية وأهدافها ، كما جرى التعبير عنها في مؤتمر بازل ، وأكدت تقديرها فشل المشروع الصهيوني ، ومعارضة الدولة العثمانية له ، ودعت إلى حل «المسألة اليهودية» في روسيا ورومانيا وبلغاريا محليا. وفي السنة نفسها ، تناول الشيخ محمد رشيد رضا الموضوع في «المنار» ، ونبّه إلى مخاطر الصهيونية على العرب ومستقبلهم. ويتضح من كتاباته اللاحقة أنه أدرك أبعاد المشروع الصهيوني ، وأن المسألة لا تتوقف عند إيجاد ملجأ لليهود المضطهدين في بعض دول أوروبا ، وإنما تتعدى ذلك إلى استملاك فلسطين وإقامة كيان سياسي يهودي فيها. وناشد محمد رشيد رضا العرب النهوض والتصدي للنشاط الصهيوني قبل فوات الأوان. وفي سنة ١٩٠٥ م أوضح نجيب عازوري ، في مقدمة كتابه «يقظة الأمة العربية» ، أخطار الصهيونية على الوطن العربي ، مشيرا إلى الصراع الدموي الذي سيتولد عن محاولات تجسيد المشروع الصهيوني في فلسطين.

وبعد انقلاب تركيا الفتاة (١٩٠٨ م) ، وبروز تعاطف قياداتها مع الصهيونية ، وانكفائها عن المواقف السابقة ، ازدادت حدة المقاومة العربية لها. وإضافة إلى الحملة في الصحف ، ظهرت كتابات ، أدبية وتاريخية ، تحرض العرب على مناهضة

٣٠١

الصهيونية. فكتب إسعاف النشاشيبي (١٩١١ م) كتاب «الساحر واليهودي» ، ومعروف الأرناؤوط كتاب «فتاة صهيون». ووضع محمد روحي الخالدي (١٩١١ م) مخطوطة كتاب «تاريخ الصهيونية» ، أوضح فيه أن الهدف الصهيوني هو إقامة دولة يهودية في فلسطين. وميّز الخالدي الصهيونية من اليهودية ، ونبّه إلى مخاطر نشاط المستوطنين في فلسطين. وشنت الصحف التي تأسست في فلسطين في تلك الفترة حملة على النشاط الصهيوني ، فكشفت مخططاته ، ودعت الناس إلى الوقوف في وجهه. وبذلك عمقت الوعي العربي بهذه المؤامرة الدولية ، وبأبعادها الخطرة على حاضر الأمة العربية ومستقبلها. وطالبت الصحف الحكومة العثمانية بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين ، وتشديد الرقابة على بيع الأراضي. وقد تعرضت تلك الصحف مرارا للإغلاق بأوامر السلطة العثمانية ، عقابا لها على نشر مقالات معادية للصهيونية وتنتقد سياسة الحكومة إزاء مخططاتها ونشاطاتها.

وبعد ثورة تركيا الفتاة ، تأسست في فلسطين أربع صحف ، جعلت التصدي للمشروع الصهيوني محور اهتمامها. وبذلك ساهمت هذه الصحف في تعزيز خصوصية الحركة الوطنية الفلسطينية ، ضمن إطارها القومي ، إذ راح البعد الصهيوني يحتل موقعا رئيسيا في مضمونها السياسي والنضالي. ففي سنة ١٩٠٨ م أسس حنا عبد الله العيسى صحيفة «الأصمعي» ، ونجيب نصار صحيفة «الكرمل». وفي سنة ١٩١٢ أسس سعيد جار الله صحيفة «المنادي» ، وعيسى العيسى صحيفة «فلسطين» ، التي تولى تحريرها يوسف العيسى. وقد تميّزت صحيفة «الكرمل» ، التي صدرت في حيفا ، بحمل لواء المقاومة العربية للصهيونية. وقدم مؤسسها نجيب نصار ، اللبناني الأصل (١٨٦٥ ـ ١٩٤٨ م) مساهمة نوعية في نشر الوعي عن الصهيونية ، والتعريف بنشاطاتها. فأكد عنصريتها ، وكشف الزيف في طروحاتها ، وركز على التعريف بمؤسساتها ، وأساليب عملها ، بالاستناد إلى «الموسوعة اليهودية». وكرس صحيفته للتصدي للمشروع الصهيوني بأبعاده كلها ـ الفكرية والسياسية والعملية. وطالب الحكومة بوقف الهجرة إلى فلسطين ومنع بيع الأراضي للحركة الصهيونية. وبنشاطه مع الصحف الأخرى ، أجبر الحكومة على التراجع عن بيع أراضي «الجفتلك» (الأميرية) في غور بيسان وأريحا (١٩١٣ م). وقد تعرض للمطاردة والاعتقال من قبل السلطات العثمانية ، والبريطانية لاحقا.

وكذلك ، قامت جريدة «فلسطين» بدور كبير في مقاومة الصهيونية والاحتجاج على نشاطها في فلسطين ، راح يتصاعد مع تصاعد وتيرة الهجرة اليهودية الثانية إليها ، قبل الحرب العالمية الأولى. ونظرا إلى تأثير تلك الصحف في الرأي العام ،

٣٠٢

الفلسطيني والعربي ، فقد نشطت الأوساط الصهيونية في العمل على توقيفها. فأغلقت الحكومة صحيفة «الكرمل» (١٩٠٩ م) بعد أشهر قليلة على تأسيسها. وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى جريدة «فلسطين» (١٩١٣ م) ، من دون محاكمة ، في إثر جولة قام بها السفير الأميركي في إستنبول ، مورغنتاو ، واطلع على النشاط الذي تقوم به الصحيفة. وفي الواقع ، فإنه نتيجة نشاط صحيفتي «الكرمل» و «فلسطين» تشكل رأي عام مناهض للصهيونية ، وانتقل تأثيرهما إلى الخارج. ففي دمشق هب محمد كرد علي ، وفتح صفحات جريدته «المقتبس» للكتابة عن الصهيونية والتعريف بأخطارها على الأمة العربية. وشارك معه في الكتابة عبد الله مخلص وعمر صالح البرغوثي ونجيب نصار ، وشكري العسلي. وكذلك فعلت صحيفتا «المقطم» و «الأهرام» في مصر ، والصحف المهجرية مثل «مرآة الغرب» في نيويورك.

وقبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى ، زار جورجي زيدان فلسطين ، وكتب عن مشاهداته هناك في مجلة «الهلال» في نيسان / أبريل ١٩١٤ م. وكذلك كتب إبراهيم سليم النجار في «الأهرام» في ٩ و ١٠ نيسان / أبريل ١٩١٤ م ، تحت عنوان «الإسرائيليون في فلسطين». كما قام محمد الشنطي ، صاحب صحيفة «الإقدام» القاهرية ، بجولة في فلسطين ، أجرى خلالها مقابلات مع المرشحين للبرلمان العثماني ، من أجل التعريف بمواقفهم من الصهيونية. وفي المقابلة مع المربي خليل السكاكيني ، في ٢٩ آذار / مارس ١٩١٤ م ، قال : «إن الصهيونيين يريدون أن يمتلكوا فلسطين قلب الأقطار العربية والحلقة الوسطى التي تربط شبه الجزيرة العربية بإفريقيا. وهكذا يبدو أنهم يريدون كسر الحلقة ، وتقسيم الأمة العربية إلى جزءين للحيلولة دون توحيدها. فعلى الشعب أن يكون واعيا ، إذ إنه يمتلك أرضا ولسانا. وإذا شئت أن تقتل شعبا ما ، فاقطع لسانه واحتل أرضه. وهذا بالضبط ما يعتزم الصهيونيون أن يفعلوه.» في المقابل ، فتحت صحيفة «المقطم» الباب أمام بعض الكتّاب الصهيونيين للتعبير عن وجهة نظر حركتهم.

ونقل الزعماء السياسيون الفلسطينيون معارضة الشعب إلى البرلمان العثماني والأوساط السياسية الدولية. فمبكرا ، ومنذ بداية الاستيطان الصهيوني ، عرض يوسف ضياء الخالدي ، ممثل القدس في البرلمان العثماني (مجلس المبعوثان) الذي شكّل سنة ١٨٧٦ م ، خطر الهجرة الصهيونية إلى فلسطين ، وطالب المجلس اتخاذ قرار بإيقافها. وعاد وجهاء القدس (١٨٩١ م) ، وقدموا عريضة إلى الصدر الأعظم يطالبون فيها بمنع هجرة يهود روسيا إلى فلسطين وامتلاك الأراضي فيها. وفي سنة ١٨٩٧ م ترأس محمد طاهر الحسيني (مفتي القدس) ، هيئة محلية للتدقيق في نقل ملكيات

٣٠٣

الأراضي ، لمنع الصفقات المزورة التي يعقدها المستوطنون ، والحؤول دون امتلاكهم أراضي زراعية جديدة. وفي سنة ١٨٩٩ ، كتب يوسف ضياء الخالدي كتابا مطولا إلى الحاخام الأكبر في فرنسا صادوق كاهان ، حثه فيه على إقناع صديقه هيرتسل ، بالعدول عن المشروع الصهيوني ، وترك فلسطين وشأنها. وفي البرلمان العثماني الجديد (١٩٠٨ م) ، برز موقف المندوبين العرب الموحد من الصهيونية. ونشرت «المقتبس» كتابا مفتوحا لهم من عبد الله مخلص ، محذرا من أخطار الصهيونية على الوطن العربي ، ويحثهم فيه على طرح القضية في البرلمان ، واتخاذ قرارات حازمة ضد هجرة اليهود إلى فلسطين.

وعاد النواب العرب في مجلس المبعوثان (١٩١١ م) إلى طرح مسألة الصهيونية وموقف تركيا الفتاة المتعاطف معها. وأنكرت الحكومة تعاطفها ، لكن المعارضة هاجمتها بشدة ، ودعتها إلى اتخاذ مواقف أكثر حزما من نشاط المستوطنين في فلسطين. وقد شجع ذلك النواب العرب على إثارة الموضوع بقوة. وبرز في مهاجمة المشروع الصهيوني نائب دمشق ، شكري العسلي الذي شغل في السابق منصب قائمقام الناصرة. وفي أثناء خدمته في فلسطين ، عرف العسلي بموقفه الحازم ضد بيع الأراضي للمستوطنين ، وتصدى بقوة للصفقة التي عقدتها عائلة سرسق البيروتية مع ممثلي الحركة الصهيونية لبيع مساحات واسعة في وسط مرج ابن عامر ، حيث أقيمت مستعمرة مرحافيا. ولكن وساطة سرسق لدى والي بيروت ، أدّت إلى نقل العسلي من موقعه ، وتمرير الصفقة. وقد عمد العسلي إلى استخدام شتى الوسائل ، القانونية والإجرائية ، لعرقلة بناء المستعمرة ، بما في ذلك اعتبار تلك الأراضي «سلطانية» ، لأنها تقع في جوار خط سكة الحديد الذي يمر هناك. ولكن محاولات العسلي جميعها باءت بالفشل إزاء فساد جهاز الدولة العثماني ، وتدخل قناصل الدول الأجنبية ، وجشع الملاكين الغائبين.

وكذلك كان موقف نائبي القدس ، محمد روحي الخالدي وسعيد الحسيني اللذين أكدا خطورة المشروع الصهيوني ، ليس على فلسطين فحسب ، بل على الدولة العثمانية بأكملها ، كونه يهدد كيانها. وانتقد النائبان في مداخلاتهما سياسة الحكومة المتهاونة إزاء النشاط الصهيوني ، ودعوا إلى تشديد القيود عليه. وأصبح الموقف من الصهيونية مسألة أساسية في البرامج الانتخابية للمرشحين إلى البرلمان ، تجاوبا مع الرأي العام للسكان ، من جهة ، وتحت تأثير الصحافة ، من جهة أخرى. وفي انتخابات سنة ١٩١٤ م ، تعهد سعيد الحسيني بمواصلة محاربة الصهيونية ، وانتقد سياسة الحكومة المتغاضية عن النشاط الاستيطاني في فلسطين. وكذلك فعل راغب

٣٠٤

النشاشيبي ، الذي دعا إلى وضع تشريع خاص ، يرمي إلى منع بيع الأراضي للمستوطنين. كما هاجم الامتيازات الممنوحة للدول الأجنبية ، والتي تغطي التفاف الحركة الصهيونية على القوانين السائدة في البلاد.

إلّا إنه على الرغم من مقاومة الفلاحين والبدو العنيفة ، وحملات الصحف التحريضية ، ونشاط القوى السياسية ، فقد استمر الاستيطان الصهيوني ، بل تعزز عبر «الهجرة الثانية» (١٩٠٤ ـ ١٩١٤ م). ولم تحل القيود على الهجرة ، وقوانين منع بيع الأراضي للمستوطنين ، دون استمرار تلك الهجرة وشراء الأراضي. وقد تضافرت عدة عوامل لجعل ذلك ممكنا : فساد جهاز الدولة العثماني وتواطؤ العثمانيين الجدد مع الأهداف الصهيونية ونشاط قناصل الدول الأجنبية لمصلحتها وغيرها. ويبقى من أهم عوامل استمرار الاستيطان تمكّن الحركة الصهيونية من شراء الأراضي. وقد أدّت طبيعة ملكية الأرض في البلاد دورا رئيسيا في ذلك. وبينما كانت الدولة تملك الجزء الأكبر من «الأرض الميري» ، فقد تركزت مساحات واسعة منها في أيدي ملاكين غائبين ، وضعوا يدهم عليها عبر الالتزام ، أو الشراء بالمزاد العلني من الدولة التي صادرتها لعجز الفلاحين عن دفع الضرائب المستحقة عليها. وتفيد المصادر أن ما باعه الفلاحون في الفترة ١٩٠١ ـ ١٩١٤ م لا يتجاوز ٣ ، ٤% من مجموع ما اشترته الحركة الصهيونية ، والباقي تم شراؤه من الدولة ، أو من الملاكين الغائبين.

وكذلك ، بغض النظر عن الحملات الصحافية ، والنشاط السياسي المناهض لبيع الأراضي ، والدعوات المتكررة للملاكين إلى الكف عن عقد الصفقات العقارية مع الحركة الصهيونية ، مباشرة أو مداورة ، فقد استمر هذا البيع. ووجهت صحيفتا «الكرمل» و «فلسطين» انتقادات عنيفة إلى الملاكين الكبار ، الذين يتظاهرون بالحرص على المصلحة الوطنية ، ويتواطؤون مع السلطة العثمانية على بيع الأراضي ، وجني الأرباح الطائلة منه. وكان بعض العائلات ، من سكان المدن ، يملك مساحات واسعة من الأراضي في الريف ، تمّ وضع اليد عليها بوسائل شتى. كما ساعدت قوانين الإصلاحات العثمانية المتعلقة بملكية الأراضي في تمركز مساحات كبيرة إضافية في أيدي تلك العائلات ، إذ عمد الكثيرون من الفلاحين إلى تسجيل أراضيهم باسم تلك العائلات ، تهربا من الضرائب والجندية. وبسبب ديونهم ، باع الفلاحون تلك الأراضي ، أو صادرتها الدولة وباعتها بالمزاد العلني ، فاشتراها التجار والإقطاعيون وسماسرة العقارات ، أو المؤسسات الأجنبية.

وقد رضخ بعض العائلات ، ممن كانت الأرض بالنسبة إليها عبارة عن سلعة ، وخصوصا أنها لم تكن تقيم عليها ، لإغراءات العروض السخية التي قدمها إليها

٣٠٥

السماسرة العاملين لمصلحة الحركة الصهيونية. ويورد محمد روحي الخالدي في مخطوطة كتابه عن الصهيونية (١٩١١ م) أن البائعين كانوا من الملاكين الغائبين ، وبعضهم من أسر لبنانية ، أو فلسطينية من طبقة «الأفندية» ، أو الحكومة العثمانية التي كانت تبيع أراضي الفلاحين العاجزين عن دفع الضرائب بالمزاد العلني. وفي الواقع ، فإن ارتفاع أسعار الأراضي بصورة غير طبيعية ، وبالتالي ازدهار السمسرة بالعقارات ، شكلا حافزا للحكومة العثمانية على تشديد القيود على عمليات البيع ، وتشكيل اللجان للتدقيق في نقل الملكيات ، والأخرى العاملة في أوساط الرأي العام للتحريض ضد تلك العمليات. وقد بلغت مساحة الأراضي التي اشتراها الصندوق القومي اليهودي ، عشية الحرب العالمية الأولى نحو ٧٠٠ ، ٤٢٠ دونم ، أقيم عليها ٤٧ مستعمرة في مناطق متعددة من فلسطين.

وعلى الرغم من بروز «المسألة الصهيونية» ، وبالتالي «القضية الفلسطينية» في «الحركة القومية العربية» ، وخصوصا «الوطنية الفلسطينية» ، قبل الحرب العالمية الأولى ، فإن الأولوية في النشاط السياسي العربي كانت للعلاقة مع الدولة العثمانية ، من جهة ، ومع الدول الأوروبية ودورها في دعم الاستقلال العربي ، من جهة أخرى. في المقابل ، ففي الفترة إياها ، حسم الأمر داخل «الحركة الصهيونية» على اعتماد فلسطين قاعدة للمشروع الصهيوني ، ورفض الأمكنة الأخرى البديلة. وبناء عليه ، شكلت هذه المرحلة ، وعلى هذا الأساس ، بداية تمايز مضمون «الحركة الوطنية الفلسطينية» من «الحركة الأم» (القومية العربية) ، لما تميّز به ذلك المضمون من تركيز على الصهيونية. وقد وجهت صحيفتا «الكرمل» و «فلسطين» نقدا شديدا إلى المؤتمر العربي الأول (١٩١٣ م) في باريس ، لأنه ركز مداولاته على مسألة الاستقلال الذاتي ، ولم يول اهتماما كافيا للمسألة الصهيونية. هذا على الرغم من وحدة موقف القوى السياسية الفلسطينية من الصهيونية ، وتعاطف القوى القومية العربية مع هذا الموقف ، لكن القضية الملحّة في المؤتمر كانت تتمحور حول مصير العلاقة بين الأمة العربية والدولة العثمانية ، الأمر الذي حسمته الحرب العالمية الأولى.

٣٠٦

المراجع

باللغة العربية

ـ «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم العام. ٤ مجلدات. دمشق ، ١٩٨٤.

ـ ـ ، القسم الثاني (الدراسات الخاصة). ٦ مجلدات. بيروت ، ١٩٩٠.

باللغات الأجنبية

٣٠٧
٣٠٨

الفصل السادس

الصّراع بشأن فلسطين

أولا : بداية الاستيطان الصهيوني

«الصهيونية» اسم لحركة سياسية انتشرت بين يهود أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ، وتبلورت من فكرة مجردة إلى مشروع عمل استيطاني في فلسطين ، يرمي إلى إقامة كيان سياسي لليهود فيها. واللفظ مشتق من كلمة «تسيون» العبرية ، وهي اسم لجبل يقع جنوبي غربي القدس (جبل صهيون) ، يحج إليه اليهود لاعتقادهم أن الملك داود دفن هناك. وفي التراث الديني اليهودي أن «يهوى» يسكن هناك (مزامير ٩ / ١١) ، إذ يرد القول «رنّموا للرب الساكن في صهيون.» وبمرور الزمن صار الاسم يستعمل مجازا للدلالة على القدس ، واتسع ليشمل «الأرض المقدسة» (فلسطين) كلها ، بل اليهود عامة. وفي العصر الحديث ، طرحه كمصطلح ذي مضمون سياسي الصحافي اليهودي النمساوي الأصل ، ناثان بيرنباوم (١٨٦٣ ـ ١٩٣٧ م) ، ليصف به الحركة السياسية الداعية إلى تهجير يهود العالم إلى فلسطين ، وتوطينهم هناك ، بناء على الدعوى بالحق التاريخي لهم فيها ، وبالتالي الحق في إقامة كيان سياسي يهودي عليها.

وفي المنظور اليهودي للتاريخ ، وبالتالي لعلاقة الله بالكون وشعوبه ، تبرز فكرة «شعب الله المختار» (اليهود) ، الذي اصطفاه الله من بين شعوب الأرض الأخرى ، ليحمل رسالة متميّزة ، وسمات خاصة (عنصرية) ، تفصله عنها. وهذا «الاختيار الإلهي» يضفي على اليهود نفحة من القدسية ليست لغيرهم ، وبناء عليه ، فهم بهذا التخصيص «نور الشعوب» ، يفوقونها كما يتميّزون عنها. وورد في التوراة (سفر التثنية ١٤ / ٢) : «لأنك شعب مقدس للرب إلهك. وقد اختارك الرب لكي تكون له شعبا خاصا فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض.» وفي المنظور الطوباوي إياه ، يرتبط اختيار «الشعب» باختيار «الأرض» ، إذ إن للشعب المختار أرضه المختارة ، وبالتالي المقدسة. ولأن الجمع بين هذا الشعب والأرض هو إرادة إلهية ، فقد أصبحت «أرض إسرائيل» (فلسطين) هي «أرض الميعاد» ، التي وعد إله إسرائيل إبراهيم بها ، وعاهده أن تكون لنسله من بعده ، كما أنها «أرض الميعاد» التي سيعود

٣٠٩

إليها «أبناء إسرائيل» تحت راية «المشيح» في «آخر الأيام». وبناء عليه ، وعلى اعتبار أن التاريخ من صنع البشر ، فإن هذه المقولات الطوباوية لا تمت إليه بصلة.

وفي القرن التاسع عشر ، تضافرت عوامل ذاتية في التجمعات اليهودية الأوروبية ، على قاعدة «المسألة اليهودية» ، وعوامل أوروبية عامة ، في إطار «المسألة الشرقية» لتحرك «الفكرة الصهيونية» ، وتنتقل بها من المجرد إلى الملموس في «المشروع الصهيوني» العملي. وقد تبلورت الفكرة الصهيونية في حاضنة «الأفكار الاسترجاعية» ، التي انتشرت في المناخ الحضاري الأوروبي منذ القرن السادس عشر الميلادي ، وترعرعت في الأجواء السياسية التي سادت أوروبا خلال القرن التاسع عشر ـ أجواء الإمبريالية ـ وخصوصا بعد سنة ١٨٧٠ م. والصهيونية صاغت منطلقاتها الفكرية ، وكذلك سبل ووسائل تجسيد مشروعها العملي ، مستغلة الأزمات الناجمة عن المسألتين ـ اليهودية والإمبريالية. ففي الشق اليهودي ، وظفت الفكر الاسترجاعي ، بطابعه اليهودي الغيبي ، لتطرح نفسها الوسيلة لإخراج اليهود من أزمتهم المتفاقمة داخل المجتمعات الأوروبية. أمّا في الشق الإمبريالي ، فقد طرحت نفسها سبيلا إلى تذليل العقبات الناجمة عن الهدف الإمبريالي في تطويع شعوب المنطقة العربية لإملاءاته ، عبر إقامة مشروع استيطاني ، يشكل مركزا إقليميا مناهضا لحركة شعوب المنطقة في مواجهة الغزو الإمبريالي.

ففي الجوهر ، الصهيونية حركة أوروبية الجذور ، فكرا وممارسة ، إذ نشأت وترعرعت في أجواء القوميات الأوروبية في القرن التاسع عشر. وفي الظاهر ، غطت مقولاتها بخطاب ديني يهودي استرجاعي. ولأنها حركة مفتعلة ومفبركة ، كان لا بدّ من التمويه على الجوهر فيها ، بمزاعم ومقولات زائفة ، سواء لناحية المضمون في الفكرة السياسية ـ «الدولة القومية تحل المسألة القومية» ـ أو لناحية تجسيدها في الواقع عبر الاستعمار الاستيطاني ، الذي سبقتها إليه الدول الأوروبية في بقاع متعددة من العالم. وقد تقدمت الصهيونية بمشروعها على قاعدة الاسترجاع ، من منطلق أسطورة «شعب الله المختار» ، و «أرض الميعاد» ، و «عودة الشعب المختار إلى وطنه». أمّا في الممارسة العملية ، فكان لا بدّ لحركة من هذا النمط أن تعتمد أسلوب «التآمر» السياسي والدبلوماسي ، واستغلال التناقض بين القوى ، لتمرير مشروعها ، ذي الطبيعة المزدوجة ـ اليهودية والإمبريالية.

وفي تقليدها للحركات القومية الأوروبية ، برزت الصهيونية كظاهرة مصطنعة ، إذ لم تتوفر لديها الشروط المسبقة ، أو المقومات الكيانية ، للادعاء بأنها «حركة قومية» ، تسعى لإقامة «دولة قومية» ، وتحقيق السيادة السياسية فيها ، أسوة بالقوميات الأخرى.

٣١٠

والدعوى الصهيونية بوجود «قومية يهودية» هي ضرب من البدعة ، لأنها بانطلاقها كانت تنقصها أهم مقومات الحركة القومية ـ الشعب الموحد والأرض المحددة. فاليهود المنتشرون في جميع أنحاء العالم ، لم تكن بينهم من روابط إلّا العقيدة الدينية ، مع وجود «مذاهب» متعددة بينهم. وفي مسار معاكس تماما لنشوء الدول القومية ، تحركت الصهيونية من «إعلان السيادة» ، وراحت تبحث عن «شعب» تسبغ عليه صفة «الأمة» ، ومن ثمّ عن رقعة أرض ، تجمع فيها بين الشعب والسيادة. وبهذا تكون الفكرة قد تبلورت خارج الشعب والأرض ، ولم تكن تعبيرا عن تطلعات ذلك «الشعب» ، ولا تجسيدا لإرادته القائمة على وعيه لذاته كوحدة ذات خصوصية ، وعلى أرض محددة ، يريد السيادة عليها أسوة بغيره من الشعوب.

وكان طبيعيا أن تعمد حركة من هذا النمط المفتعل ، تدعي الرابطة القومية بين تجمعات دينية مبعثرة في بقاع العالم كلها ، والحق التاريخي على أرض آهلة بسكانها الأصليين ، إلى اختلاق المزاعم ، وتشويه التاريخ والجغرافيا التاريخية في خطابها السياسي. أمّا على صعيد التخطيط والتنفيذ ، فكان لا بدّ من أن تعتمد التآمر والدسائس ، وبالتالي العنف الفاشي لتحقيق أهدافها. فالتجمعات اليهودية التي انتشرت في أنحاء العالم كلها ، لم يكن يجمعها ناظم اجتماعي ، أو اقتصادي ، أو لغوي ، أو تاريخي. والمسألة اليهودية ، التي تذرعت بها الصهيونية ، هي قضية اجتماعية أوروبية ، وبالتالي فحلها الصحيح هو في ذلك الإطار. والدعوى بعدم إمكان اندماج اليهود في مجتمعاتهم الأصلية ، وبغض النظر عن دواعي هذه الظاهرة ، وعن مقدار صحة تعليل أسبابها بالمنظور الصهيوني ، فهي تقود إلى البحث في الأوضاع التي أدّت إليها ، ومعالجتها في الواقع الذي أفرزها كظاهرة نابية في علاقة التجمعات اليهودية بمحيطها.

ولأن الصهيونية لم تتبلور في صفوف كتلة موحدة من اليهود ، مجتمعة في رقعة جغرافية محددة وتسودها أوضاع اجتماعية ـ اقتصادية متشابهة ، أو متكاملة ، فقد أدّت النخب اليهودية المندمجة فعليا في النظام الرأسمالي الإمبريالي ، دور «المبشر» بهذه الحركة ، وأولا وقبل كل شيء في أوساط اليهود أنفسهم ، الذين كانوا الأشد معارضة للأفكار الصهيونية ، ولمشاريع الاستيطان التي تنطوي عليها. ولم تكن تلك الأفكار ، ولا النخب التي تصوغها وتروجها ، تعبر بصورة حقيقية عن الاتجاهات السائدة في أوساط التجمعات اليهودية ، التي كانت لكل منها أوضاعها ومشكلاتها وتطلعاتها ونشاطاتها. وطرحت تلك النخب نفسها وسيطا بين الفئات السائدة في المراكز الإمبريالية ، وبين التجمعات اليهودية فيها ، التي كانت تعاني أزمة داخلية ، على صعيد

٣١١

العلاقات بين التيارات المتعددة فيها ، وخارجية ، على صعيد العلاقات مع الفئات الرأسمالية السائدة. وانتهزت تلك النخب الأوضاع المتوترة بين اليهود ومحيطهم ، لتطرح نفسها وسيطا ، يعمل على حل المشكلات المتفاقمة بين الجانبين ، عبر تجنيد اليهود وتهجيرهم وتوطينهم في مواقع تخدم مصالح الفئات الرأسمالية السائدة. وبالتالي تخفف من حدة التوتر القائم بين الطرفين ، من جهة ، وتبرر وجودها هي ، من جهة أخرى.

ومهما يكن الأمر ، فإن جملة المزاعم الصهيونية بشأن القومية اليهودية والحق التاريخي في فلسطين ، والدعوى الاسترجاعية في الأجواء الثقافية الأوروبية ، والمسألة اليهودية ومجمل عناصرها وردات الفعل عليها ، ما كان لها أن تشكل ظاهرة قابلة للحياة خارج إيقاعات المسألة الشرقية ، والصراع الإمبريالي بشأن المنطقة. والإنجازات العملية التي حققتها الصهيونية ، لا يمكن أن تعزى إلى الفعل اليهودي الذاتي ، انطلاقا من الطروحات المزيفة للتاريخ ، ولا إلى المزاعم الصهيونية والدعاوى الاسترجاعية ، ولا إلى التنظيم الداخلي ، فحسب ، بل إلى الديناميات الحقيقية لتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر ، أولا وقبل كل شيء. ومن هنا تبرز أهمية دراسة عناصر الفكرة الصهيونية ، وكيف تمت بلورتها ، ومن هي القوى صاحبة المصلحة في ترويجها والعمل على تجسيدها ، من أجل فهم شمولي للظاهرة الصهيونية. وعلى هذا الصعيد ، تبرز المراكز الإمبريالية ومخططاتها والتنافس بينها بشأن اقتسام أراضي السلطنة العثمانية ، وكذلك دور النخب اليهودية المندمجة في نسيج الفئات السائدة في تلك المراكز.

وإذا كانت منطلقات الفكرة الصهيونية ـ إقامة كيان سياسي يهودي عبر الهجرة والاستيطان ـ لا يستقيم فهمها بمعزل عن محيطها الأوروبي ، فإن التجسيد العملي للمشروع الصهيوني لا تتضح معالمه من دون الربط الجدلي بين بنائه ونشاط مؤسساته ، وكذلك بين بروزه والظواهر السياسية التي واكبت ذلك ، زمانا ومكانا. وبناء عليه ، فلا بدّ من الربط الجدلي بين الظواهر الرئيسية التي حكمت تاريخ الشرق الأدنى خلال القرن الأخير لفهم شمولي للمشروع الصهيوني. وعبر هذا الربط يمكن استنباط العلاقة الجدلية بين تلك الظواهر ، وبالتالي تحديد دور الإمبريالية الأوروبية ، والبريطانية منها تحديدا ، في صوغ المشروع الصهيوني ، فكرا وممارسة. وبناء عليه ، يمكن فهم الدور المنوط بالمشروع الصهيوني في المنطقة ، على أرضية التطورات الجارية فيها. وإذ لا شك في أن العامل اليهودي كان ذا أهمية في تشكل الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين ، فإن العامل الإمبريالي يبقى هو الحاسم

٣١٢

في تقرير مجرى الأحداث ، أي العامل القائد في جدل العلاقة بين أطراف الصراع الذي نشب في فلسطين جرّاء المشروع الصهيوني.

وبإلقاء النظر إلى مسار الأحداث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وبصورة خاصة في نهايته ، تبرز أربع ظواهر متفاعلة ومتشابكة. وتفاعل هذه الظواهر في عملية صراعية ، أنتج الوضع القائم في المنطقة عبر تجليات سيرورة الصراع. فعلى الصعيد الاستراتيجي الأعلى ، احتدم التناقض بين ظاهرتين تشكلتا عبر فترة زمنية طويلة ، وراحتا تقتربان من حسم هذا التناقض بصورة جذرية ، وهما : ١) انحلال السلطنة العثمانية ـ آخر الإمبراطوريات الإسلامية من القرون الوسطى ـ وأثر ذلك في الأراضي الواقعة تحت حكمها ، فعلا أو ظاهرا ، وعلى مصير الشعوب المنضوية في إطارها ، رغبة أو قسرا ؛ ٢) تكالب الاستعمار الأوروبي على تقسيم أراضي السلطنة ، بعد أن ظلت قواه لفترة طويلة تعمل على تكريس نفوذها في تلك الأراضي ، عبر الامتيازات أولا ، ومن خلال التدخل المباشر والفظّ لاحقا. ففي نهاية القرن التاسع عشر تفاقمت أزمة الرأسمالية الأوروبية ، ومعها راحت تتصاعد محاولات المراكز الإمبريالية لتصدير أزمتها إلى الخارج ، فاصطدمت هذه المحاولات على أرضية تناقض المصالح ، وأدّت إلى الحرب العالمية الأولى وانحلال السلطنة العثمانية.

وعلى أرضية الظاهرتين السابقتين ، وليس بمعزل عنهما ، بل بالترابط والتواكب مع تجليات مسار حسم التناقض بينهما ، برزت ظاهرتان أخريان ، دخلتا بطبيعة الحال في تناقض تناحري بينهما ، لتنفي إحداهما الأخرى ، وهما : ١) ظهور الحركة القومية العربية ، على خلفية انحلال السلطنة العثمانية ، من جهة ، وتبلور الوعي الذاتي العربي لخصوصية الأمة العربية ، وبالتالي ضرورة التعبير عن هذه الخصوصية في دولة قومية موحدة ، من جهة أخرى ؛ ٢) بروز الحركة الصهيونية السياسية ، ساعية لإقامة دولة يهودية في قلب الوطن العربي ، وبالتعاون مع الدول الاستعمارية ، وبالتالي من خلال المشروع الإمبريالي العام إزاء المنطقة. وفي هذا الإطار يبرز الدور الصهيوني الذي أوكلت إليه من خلال مشروعه ، ولاحقا عبر كيانه السياسي ، مهمة المساهمة في التصدي للحركة القومية العربية ، والعمل على ضربها وإحباط نضالها من أجل الاستقلال والوحدة ، وذلك عن طريق بناء الكيان الصهيوني الاستيطاني كقاعدة عدوانية ، همّها سواء بالتدخل المباشر أو المداور ، الحؤول دون تحقيق الحركة القومية العربية لأهدافها ، وبناء عليه ، ترسيخ واقع التفتت والتبعية في العالم العربي.

إن الربط بين هذه الظواهر الأربع ، أخذا في الاعتبار مجمل المتغيرات في تلك المرحلة على ساحة الوطن العربي ، سواء نتيجة التطورات الداخلية فيه ، أو المؤثرات

٣١٣

الخارجية عليه ، يؤدي إلى الاستنتاج أن الفكرة القائمة وراء إنشاء الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي ، هي أن يشكّل مركزا إقليميا مضادا للحركة القومية العربية ، يتخذ شكل «الثكنة» الاستيطانية ، ويكون قاعدة متقدمة لخدمة المصالح الإمبريالية في مواجهة حركة شعوب المنطقة. وبذلك تكون «القاعدة» الاستيطانية الصهيونية مكملة في دورها الوظيفي للمهمات التي أنيطت بالقواعد العسكرية ، متعددة الأنواع والصيغ ، التي أقيمت على امتداد الوطن العربي ، وعلى طول الطرق المؤدية إليه. وهذا الدور الوظيفي للمشروع الصهيوني هو مبرر وجوده ، على الأقل من وجهة نظر المراكز الإمبريالية التي رعته ، وجعلت تجسيده واقعا على الأرض ممكنا ، وبالتالي فهو الأساس في صوغ هذا المشروع وكينونته.

وإذا كان هذا هو الجوهر في المشروع الصهيوني ، فمن الطبيعي أن يكون مجال نشاطه في أدائه لدوره الوظيفي خارج حدود استيطانه. فالثكنة ، التي هي امتداد للمركز ، ترمي إلى إقامة قاعدة آمنة لآلة عسكرية ، يكون دورها العدواني في محيطها. والحركة القومية العربية ، النقيض الأساسي للمشروع الإمبريالي في المنطقة ، وبناء عليه ، المستهدفة للضرب والتطويع ، لم يكن مركزها في فلسطين ، وإنما في العواصم العربية الكبيرة. ومن هنا ، فالتصدي لها لا يتم داخل الرقعة الاستيطانية ، ولا عند حدودها فحسب ، بل يتعدى ذلك إلى تلك العواصم ذاتها ، حيث يجري التعبير عن حركة الجماهير المكافحة من أجل أهدافها القومية. وبناء عليه ، يكون دور «الثكنة» (المركز الإقليمي المضاد) ، وبصور متعددة : أيديولوجية واقتصادية وسياسية وعسكرية ، المساهمة في عملية التحكم في المسارات السياسية في تلك العواصم. ومن هنا ، يبرز المبرّر الأساسي لإقامة المشروع الصهيوني ، وجعل فلسطين قاعدة آمنة له بالاستيطان ، وبالتالي تهويد فلسطين ـ الأرض والشعب والسوق ـ هو قيام هذا المشروع بدور في التصدي للحركة القومية العربية وإحباط نضالها ضد الاستعمار ومصالحه في المنطقة.

وفي إطار المسألة الشرقية ، كانت المراكز الإمبريالية تعي أن مشاريعها تصطدم بالمصالح الحيوية للأمة العربية. وبناء عليه ، كان لا بدّ من أن تبرمج عملها ، وتضع خططها ، وتبني أدواتها اللازمة ، لإحباط نضال الحركة القومية العربية ، المعبرة عن مصالح جماهير الأمة في الاستقلال والوحدة والتقدم الاجتماعي. ومن هنا ، رعت تلك المراكز ، وكل منها في حينه ، المشروع الصهيوني بعناية ، ليشكل القاعدة المتقدمة في عملية التصدي لنضال الحركة القومية العربية ، وإحباطه. ولو لا هذه الرعاية ، لما قام المشروع الصهيوني ، بل لعله ما كان تبلور كفكرة أصلا ، إذ لا يمكن

٣١٤

قط تصور إمكان نجاح هذا المشروع بالاعتماد على القوة اليهودية الذاتية. ومن هنا ، الصلة التاريخية بين المشروعين ـ الصهيوني والإمبريالي ـ في المنطقة. في المقابل ، وبغض النظر عن رغبات المراكز الإمبريالية ، وكذلك دور النخب اليهودية المنخرطة في مؤسساتها في بلورة الفكرة الصهيونية وترويجها ، والمشروع الاستيطاني الناجم عنها ، فإنه لو لا أن تهيأت أوضاع التجمعات اليهودية في أوروبا لتقبل الفكرة ، وللانخراط في المشروع عبر الهجرة والاستيطان على أساس القاعدة المطروحة ، لما نهض المشروع الصهيوني بالطريقة التي حدثت.

وهكذا ، ومنذ البداية ، كان للعمل الصهيوني في أساسه شقّان. الأول يهودي ، يقوم على قاعدة المسألة اليهودية كما استوعبتها النخب اليهودية ، وصاغت مقولاتها ، وراحت تبشر بها ، وتجند اليهود للانضواء تحت لوائها ، بقيادة تلك النخب ذاتها. وبذلك ، شكلت تلك النخب الوسيط بين التجمعات اليهودية ، التي تعيش حالة من التوتر والحراك الاجتماعي والجدل الفكري ـ الثقافي ، وبين المراكز الإمبريالية ، التي تعاني أزمة التناقضات الرأسمالية. وبدور الوسيط ، طرحت النخب اليهودية المتصهينة حلولا للأوضاع المتوترة التي تعيشها التجمعات اليهودية ، انطلاقا من مقولات الفكر الأوروبي السائد في القرن التاسع عشر ، وقدمتها لتلك التجمعات بلبوس يهودي ، يحمل طابعا دينيا أسطوريا ، وتهيمن عليه نزعة استرجاعية فريدة في نوعها. وعلى هذا الصعيد ، جرى تفسير المسألة اليهودية بمصطلحات قومية ، وطرح الحل لها من منطلقات قومية أيضا ، يذهب إلى إقامة دولة يهودية ، يتم بناؤها بالاستيطان. فالوعي الصهيوني الزائف للمسألة اليهودية ، أدّى بالضرورة إلى طرح الحل المزيف لها ، قياسا مع مقولة أن «الدولة القومية تحل المسألة القومية.» ولكن اليهودية ليست قومية ، وبناء عليه ، فالمسألة اليهودية ليست مسألة قومية ، وبالتالي فالحركة الصهيونية ليست حركة تحرر وطني كما تدعي لنفسها.

أمّا الشق الثاني للعمل الصهيوني فهو الإمبريالي ، المنطلق من قاعدة الأطماع الإمبريالية في ثروات الوطن العربي وأسواقه التجارية ومرافقه الاستراتيجية. وهذا الشق هو الذي يمد الآخر ـ اليهودي ـ بوسائل الحياة. وفي الواقع ، فإن الدعوات المبكرة إلى إقامة المشروع الصهيوني في فلسطين ، التي أطلقها ساسة أوروبيون ، سبقت تبلور الفكرة الصهيونية عند اليهود أنفسهم. وتفيد المصادر والوثائق أن استجابة اليهود لهذه الدعوات كانت فاترة جدا في النصف الأول من القرن التاسع عشر. أمّا في النصف الثاني منه ، عندما راحت المسألة اليهودية تتفاقم في شرق أوروبا ، وراح الفكر الإمبريالي ينتشر ، بدأ بعض المفكرين اليهود يتقبلون الفكرة بإيجابية أعلى. وتبع

٣١٥

هؤلاء المفكرين رجال السياسة اليهود ، ممن كانوا منخرطين في مؤسسات الدولة والعمل في مرافقها ، وممن رأوا في هذه الأفكار حلا للمسألة اليهودية ، وبالتالي إخراجا لهم من الإحراج الاجتماعي ، بسبب أصولهم اليهودية ، وفرصة يقدمون فيها خدماتهم «اليهودية» للمؤسسة الحاكمة في بلادهم ، تبريرا لمواقعهم فيها إزاء أترابهم من غير اليهود ، وخصوصا أنهم ، بسبب يهوديتهم ، لم يتمتعوا في نظر هؤلاء الأتراب باحترام كبير.

وبصمات الاستعمار واضحة في المشروع الصهيوني ، وعبر مراحله المتعددة ، سواء لناحية الفكر أو الممارسة. والنخب اليهودية الصهيونية في تقديمها هذا المشروع إلى التجمعات اليهودية أسبغت عليه حلة يهودية ، ليصبح مستساغا لسكانها. ونظرا إلى افتقار هذا المشروع إلى قاعدة شعبية في تلك التجمعات ، فقد استندت النخب الصهيونية في نشاطها إلى دعم بؤر محددة في المراكز الإمبريالية ، وتنقلت بين تلك المراكز ، تعرض عليها الخدمات ، عبر توطين اليهود المهجرين من مواطنهم الأصلية في المواقع التي تخدم مصالح المركز المعني. وعندما نالت تلك النخب الموافقة الرسمية على خططها ، توجهت إلى الجماعات اليهودية لتجنيدها في خدمة المشروع الصهيوني ، بحيث تكون عمليا مادته. وبذلك طال تآمر تلك النخب الجماعات اليهودية قبل أن يصل إلى غيرها. وحتى بعد أن تولت قيادة العمل الصهيوني ، ظلت مشكلتها الرئيسية مع اليهود أنفسهم لفترة طويلة ، ولذلك لم تتورع تلك النخب عن اللجوء إلى الأساليب الملتوية لإكراههم على الهجرة إلى فلسطين تحديدا ، والاستيطان فيها وفق البرنامج الصهيوني ـ الإمبريالي.

وبعد أخذ ورد ، التقى الشريكان ـ الصهيونية العالمية والاستعمار ـ وكل منهما لأسبابه الخاصة ومن زاوية نظره إلى المشروع المشترك ، على اختيار فلسطين قاعدة للاستيطان الاستعماري. فبالنسبة إلى الشريك الأصغر ـ الحركة الصهيونية ـ كان للتراث اليهودي وعلاقته بفلسطين الأثر الحاسم في تحديد الرقعة الجغرافية التي سيقوم عليها الاستيطان (الثكنة) ، بينما أدّى موقع فلسطين الاستراتيجي ، وخصوصا بعد العبر المستخلصة من حملتي نابليون ومحمد علي ، وحفر قناة السويس ، دورا حاسما في ذلك الاختيار. وبينما أرادها الشريك الأصغر والأضعف لبناء دولته اليهودية ، بحيث تكون باليهود ومنهم وإليهم ، أرادها الشريك الأكبر والأقوى قاعدة للعدوان على الأمة العربية. ولكي تكون قاعدة ملائمة للمشروع الصهيوني ، كان لا بدّ من إجلاء سكانها الأصليين وتهويدها ـ أرضا وشعبا وسوقا. وبذلك يتباين الاستيطان الصهيوني عن أترابه في روديسيا وجنوب إفريقيا ، كونه إجلائيا ، لا يرمي إلى استغلال

٣١٦

رقعة الأرض التي يقوم عليها اقتصاديا ، بما في ذلك سكانها الأصليين ، وإنما إلى انتزاع رقعة الأرض تلك من يد أصحابها الشرعيين واقتلاعهم منها ، لاستخدامها للأغراض التي من أجلها وجد المشروع الصهيوني.

وللمشروع الصهيوني كما جرى تصوره منذ انطلاقه أبعاد ثلاثة ـ فلسطيني وعربي ودولي. أمّا البعد الفلسطيني فهو المتعلق ببناء «القاعدة الآمنة» للمشروع ، سواء للاستيطان أو لآلة العدوان ، في فلسطين ، قلب الوطن العربي ، والواقعة على تقاطع طرق المواصلات العالمية ، ولما لها من علاقة بالتراث اليهودي القديم. وبناء عليه ، فإذا كان لهذه القاعدة أن تقوم وتؤدي مهمتها ، فلا بدّ من تهويد فلسطين ـ الأرض والشعب والسوق. وهذا يعني اقتلاع شعب فلسطين من وطنه ، وقطع صلته التاريخية بأرضه. أمّا البعد الثاني فهو العربي ، المتعلق بصلب المشروع الإمبريالي العام إزاء المنطقة والهيمنة على شعوبها والسيطرة على مواردها ، ودور «الثكنة الاستيطانية» في ذلك. والبعد الدولي هو المتعلق بالصلة التاريخية بين الصهيونية العالمية والاستعمار الدولي ، إذ نشأت الأولى في حاضنة الثاني ، وظلت مرتبطة عضويا به ، ولا فكاك لها منه ، وبالتالي تسخيرها في خدمته على الصعيدين ـ الشرق الأوسطي والكوني.

وتؤكد المصادر التاريخية أن منظّري الإمبريالية وقادة مشاريعها ، السياسيين والعسكريين ، قد سبقوا النخب اليهودية في طرح المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. ولعل أول الصهيونيين في العصر الحديث هو نابليون بونابرت ، الذي قام بحملته على مصر وفلسطين في إطار الصراع بين فرنسا وبريطانيا بشأن التوسع الإمبريالي. وفي ٢٠ نيسان / أبريل ١٧٩٩ م ، وجه نابليون نداء إلى يهود آسيا وإفريقيا كلهم ، يحثهم فيه على السير وراء القيادة الفرنسية ، «حتى تتسنى استعادة العظمة الأصلية لبيت المقدس.» (١) ووعد بأنه سيعيد اليهود إلى «الأرض المقدسة» ، إذا ساعدوا قواته على إنجاز مهمتها. وفي سنة ١٨٦٠ م ، والتدخل الاستعماري الغربي في بلاد الشام على أشده ، طرح إرنست لاهاران ، سكرتير نابليون الثالث ، ملك فرنسا ، ضرورة «إعادة الدولة اليهودية إلى الحياة» ، لفتح طرق عامة ، وأخرى فرعية ، أمام الحضارة الأوروبية ، وأسواق جديدة أمام منتوجاتها الصناعية.

وكانت بريطانيا هي الأخرى مرتعا للأفكار الاسترجاعية ، وبالتالي لطرح الدعوات الرامية إلى توطين يهود أوروبا في فلسطين ، لما يوفره ذلك من حماية

__________________

(١) عبد الوهاب المسيري ، «الأيديولوجية الصهيونية» ، سلسلة عالم المعرفة (الكويت ، ١٩٨٨) ، ص ٣٦ فما بعد.

٣١٧

لخطوط المواصلات الحيوية بين أجزاء إمبراطوريتها. فمبكرا طرح الكولونيل جورج غاولر (١٧٩٦ ـ ١٨٦٩ م) توطين اليهود في فلسطين ، التي بحسب أقواله تقع على الطريق بين بريطانيا وأهم المناطق الاستعمارية والتجارية الخارجية لها. وقبل ظهور الصهيونية بين اليهود بفترة طويلة ، طرح وزير خارجية بريطانيا ، اللورد بالمرستون (١٧٨٤ ـ ١٨٦٥ م) ، استخدام اليهود مخلب قط لقمع العرب. ففي رسالة بعث بها إلى سفير بلاده في إستنبول (١١ آب / أغسطس ١٨٤٠ م) ، يقول إنه إذا عاد أفراد الشعب اليهودي إلى فلسطين ، تحت حماية السلطان العثماني ، وبناء على دعوة منه ، فإنهم سيقومون بكبح جماح أية مخططات شريرة قد يدبرها محمد علي ، أو من سيخلفه بالمستقبل. وبذلك ، كان بالمرستون يعبر عن الدور الوظيفي الذي تريده بريطانيا للاستيطان الصهيوني في فلسطين. وقد عبر عن هذا التوجه كثيرون عدا بالمرستون ، وخصوصا من موظفي وزارة المستعمرات والساسة الكبار في وزارة الخارجية.

الهجرة الصهيونية الأولى

في هذه الأجواء الاستعمارية ، الفكرية والسياسية ، وبعد فترة من الدعوات إلى توطين اليهود في فلسطين ، جاءت على العموم من خارج صفوفهم ، وتوخت توظيفهم في خدمة المصالح الإمبريالية ، بدأت تبرز دعوات يهودية فردية إلى اعتناق الصهيونية ، عقيدة وممارسة. وقد تزعم هذه الدعوات بعض المفكرين اليهود العلمانيين والحاخامين الإصلاحيين ، انطلاقا من البحث عن حل للمسألة اليهودية ، التي راحت تتفاقم في المناخات الأوروبية السائدة ، وما تنطوي عليه من تناقضات في مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الإمبريالية. وقد سبقت هذه الدعوات الصهيونية اليهودية حركة الاستيطان العملي ، حتى في مراحلها الأولى ، إذ لم تكن قد تبلورت كحركة سياسية واضحة المعالم. ففي هذه الفترة بدأ الحاخام يهودا ألقلعي (١٧٩٨ ـ ١٨٧٨ م) ، المولود في ساراييفو ، يدعو إلى إقامة مستعمرات يهودية في فلسطين «من دون انتظار مجيء المسيح.» ووضع ما سمّاه «برنامج الخلاص الذاتي» ، الذي ينطلق من فكرة قيام اليهود أنفسهم بتحقيق العودة الجماعية إلى فلسطين. لكن دعوات ألقلعي لم تحقق نتائج ملموسة ومباشرة.

كما أصدر الحاخام البولوني تسفي هيرش كاليشر (١٧٩٥ ـ ١٨٧٤ م) كتابه «مطلب صهيون» (دريشات تسيون) ، وهو أول كتاب باللغة العبرية في العصر الحديث (١٨٦٢ م). ودعا فيه المحسنين والمتمولين اليهود إلى تقديم المساعدات المادية

٣١٨

لإنشاء المستعمرات الزراعية في فلسطين. وبادر كاليشر إلى النشاط العملي في تجسيد أفكاره. فخاطب عميد الأثرياء اليهود في العالم آنذاك ، روتشيلد ، في برلين ، ليشرح له نظريته الجديدة عن خلاص اليهود من دون انتظار مجيء المسيح. وقام برحلات متعددة في أوروبا ، يحث فيها اليهود على شراء الأراضي في فلسطين والاستيطان هناك. وقد نجح في إقناع بعضهم ، ممن اشترى مساحات صغيرة في ضواحي مدينة يافا (١٨٦٦ م). كما دفع جمعية الأليانس الإسرائيلية العالمية ، التي تأسست في فرنسا (١٨٦٠ م) ، إلى إقامة المدرسة الزراعية ـ مكفي يسرائيل (١٨٧٠ م) ـ بالقرب من يافا ، وهي أول معهد زراعي يهودي في فلسطين. وقد تأثر بكتاباته المستوطنون من الهجرة الجماعية الأولى إلى فلسطين ـ «أحباء صهيون» (حوففي تسيون).

وتبنى المفكر اليهودي الألماني ، موزس هس (١٨١٢ ـ ١٨٧٥ م) ، أفكار الحاخام كاليشر وطورها إلى «نظرية قومية يهودية ، تقوم على الدين والعرق ، أي على الجنس اليهودي» ، وذلك في كتابه «روما والقدس» ، الذي نشر سنة ١٨٦٢ م. وربط هس بين منظوره لهذه القومية المبتدعة ، وبين الأفكار الرائجة في المراكز الأوروبية الإمبريالية ، وخصوصا في فرنسا. وطعّم خطابه بالألفاظ الاشتراكية العمالية ، التي اكتسبها من صداقته مع كارل ماركس. ولكن هس انقلب على الأفكار الإصلاحية اليهودية ، وهاجم أصحابها بوصفه إياهم ضحية الأوهام العقلانية والخيرية التي اعتمدوها في البحث والتفكير. ولذلك يرى أنهم أخفقوا في إدراك المغزى القومي للديانة اليهودية ، وخصوصا لأنهم أرادوا الفصل بين عنصريها ـ السياسي والديني ـ فحاولوا في رأيه تحقيق المحال. ورأى هس أن الوضع العالمي يشجع الانصراف إلى بناء المستعمرات اليهودية ، عند قناة السويس ، وعلى ضفتي الأردن ، إذ تأتي هذه المستعمرات كخطوة أولى على طريق استرجاع الدولة اليهودية. وأفكار هس هذه أثرت في تيودور هيرتسل (١٨٦٠ ـ ١٩٠٤ م) ، مؤسس الصهيونية السياسية ، والذي صاغ مضمونها ، ووضع أسس هيكليتها ، وبالتالي تجسيدها.

وفي بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر ، حدث الانعطاف الحاسم في العمل الصهيوني ، إذ بدأت هجرة المستوطنين اليهود الجماعية إلى فلسطين ، وراحت أعدادها تتزايد ، وموجاتها تتوالى ، قبل قيام إسرائيل (١٩٤٨ م) وبعده. وعرفت الموجة الأولى (١٨٨٢ ـ ١٩٠٣ م) باسم «أحباء صهيون» ، وانطلقت بين يهود روسيا ، ومن ثمّ انتشرت في دول أوروبا الشرقية. ويعتبر مؤرخو الصهيونية سنة ١٨٨٢ م نقطة تحوّل في تاريخ الصهيونية ، إذ تضافرت عوامل عدة لحفز هذه الحركة ، أهمها موجة

٣١٩

الاضطرابات التي حركها اغتيال القيصر الليبرالي ، ألكسندر الثاني ، على يد نفر من القوميين الروس في آذار / مارس ١٨٨١ م ، الأمر الذي نجم عنه اندلاع أعمال العنف والاضطهاد ضد اليهود في المدن الروسية ، لاتهامهم بالمشاركة في عملية اغتيال القيصر ، واستمرت حتى سنة ١٨٨٣ م. وقد لبّت النزعات المعادية لليهود في روسيا ، لأسباب اجتماعية ـ اقتصادية كانت تعاني منها روسيا في تلك المرحلة ، أعمال التنكيل بهم ، وصولا إلى حصر أماكن إقامتهم وفرض القيود عليها. وموجة الاضطهاد هذه حفزت النزعات الصهيونية لدى يهود روسيا ، ودفعتهم إلى الهجرة والاستيطان في فلسطين ، من جهة ، وإلى الولايات المتحدة من جهة أخرى.

فإزاء إجراءات القمع الروسية ضد اليهود ، وجد بعض المثقفين منهم الفرصة المواتية للخروج ضد طروحات الاندماج التي ينادي بها مثقفون يهود آخرون مثل المؤرخ دوفنوف ، ويتبناها يهود نشيطون في الحقل السياسي. وأصدر الكاتب الصهيوني موشيه ليب ليلينبلوم (١٨٤٣ ـ ١٩١٠ م) كراسا بعنوان «بعث الشعب اليهودي في أرض أجداده المقدسة» (١٨٨٣ م) ، دعا فيه إلى اعتناق الصهيونية ، ورفض الاندماج كحل دائم للمسألة اليهودية. وتبعه الحاخام شموئيل موهيلفر (١٨٢٤ ـ ١٨٩٨ م) ، فقام بتأسيس أول جمعية لأحباء صهيون (١٨٨٢ م). ثم ما لبثت هذه الجمعيات أن انتشرت في رومانيا وألمانيا وبريطانيا والنمسا ، وحتى في الولايات المتحدة الأميركية. وتتلخص أهداف هذه الجمعيات بالتالي : ١) تحقيق استعمار فلسطين على يد اليهود ؛ ٢) نشر الفكرة القومية بين اليهود وتعزيزها ؛ ٣) رفع شأن اللغة العبرية باعتبارها لغة قومية ؛ ٤) رفع مستوى الجماهير اليهودية من جميع النواحي.

وكان الطبيب اليهودي والكاتب الصهيوني ليو بنسكر (١٨٢١ ـ ١٨٩١ م) الأكثر تعبيرا عن النزعة الصهيونية الاستيطانية كحل للمسألة اليهودية في روسيا. وفي مواجهة طروحات الاندماج المتعددة ، التي راجت في تلك الفترة ، أصدر بنسكر كراسا بعنوان «التحرر الذاتي» (١٨٨٢ م) ، أصبح دليل عمل للمستوطنين من أحباء صهيون. وكان بنسكر جازما في طرحه بعدم إمكان اندماج اليهود في مجتمعاتهم ، وعلل ذلك بأسباب موضوعية متعلقة بتلك المجتمعات التي ترفض التعامل مع اليهود على قدم المساواة ، وبأخرى ذاتية تتعلق بعدم آهلية اليهود أنفسهم للاندماج. فاليهود في نظره عنصر مميّز ، لا يمكن دمجه في غيره من الأمم ، كما يعسر على أية أمة هضمه واستيعابه ، وبانعدام الوعي القومي لديهم ، يستحيل على اليهود تحقيق الوجود القومي. ومن هنا ضرورة خلق هذا الوعي ، كما يطرح بنسكر ، كخطوة أولى نحو

٣٢٠