الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

يونيو ١٩٤٧ م نحو ٤١٠ ، ١٥.

٥ ـ الحرس الشعبي ، الذي بلغ عدده ٠٠٠ ، ٣٢.

٦ ـ المنظمات الإرهابية «المنشقة» :

أ ـ إيتسل (الإرغون) ، التي وصل عدد أعضائها إلى ما بين ٣٠٠٠ و ٥٠٠٠ بحسب تقرير اللجنة الأنكلو ـ أميركية (١٩٤٦ م).

ب ـ ليحي (شتيرن) ، وعددها ٢٠٠ ـ ٣٠٠ بحسب التقرير نفسه. (١)

د) العمليات العسكرية

في إطار الخطة د

وقد جاء الانتقال المبكر لتطبيق الخطة د ، والتحول من الدفاع إلى الهجوم الإقليمي ، بهدف السيطرة على مناطق متصلة جغرافيا ، قبل الانسحاب البريطاني ، بكل ما ينجم عن ذلك من تغييرات في هيكلية الهاغاناه ، وزيادة أعدادها وتسليحها ، لسببين رئيسيين ـ الأول سياسي والثاني عسكري. فعلى الصعيد السياسي ، وقع تحوّل مفاجىء في موقف الدول الكبرى من التقسيم ، بعد أن تأكدت من استحالة تنفيذه سلما ، وعدم استعدادها لفرضه بالقوة. أمّا عسكريا ، فقد أدّى دخول جيش الإنقاذ المعركة (آذار / مارس ١٩٤٨ م) إلى إيجاد وضع صعب جدا بالنسبة إلى الهاغاناه والاستيطان عامة. فعمدت القيادة الصهيونية إلى تقديم شكوى في مجلس الأمن ضد الدول العربية ، مطالبة بتنفيذ التقسيم بالقوة على يد الدول الكبرى ، من جهة ، وإلى إيجاد واقع عسكري على الأرض ، إزاء انسحاب القوات البريطانية ، واحتلال مواقعها ، استباقا لدخول الجيوش العربية ، من جهة أخرى. وفي هذه المرحلة ، حدثت مناورات ومؤامرات ، وعلى أكثر من صعيد ، قلبت الأوضاع عشية الانسحاب البريطاني ، ووضعت الجيوش العربية لدى دخولها إلى فلسطين أمام أمر واقع صعب ، وتضاربت الآراء وتعاكست الخطط وعمت الفوضى واحتلت مدن وقرى ، فرحل أهلها ، وبدأت الهزيمة.

وبعد تقديم الشكوى الصهيونية في مجلس الأمن ، رفعت لجنة التقسيم إلى المجلس تقريرا يؤكد استحالة العمل وسط العنف ، وأنه ليس من سبيل أمام هيئة الأمم إلّا إرسال جيش دولي إلى فلسطين لتنفيذ التقسيم بالقوة ، أو إهماله. وأعلنت دول عدة عدولها عن قرارها السابق بتأييد التقسيم. واتخذ مجلس الأمن قرارا يقضي بأن

__________________

(٧٥) Khalidi ,op cit.,pp.١٦٨ ـ ٣٦٨.

٥٢١

تتشاور الدول الخمس الكبرى في وسيلة لتنفيذ التقسيم من دون استعمال القوة. وفي ١٩ آذار / مارس ١٩٤٨ م ، سحبت الإدارة الأميركية تأييدها لمشروع التقسيم ، واقترحت على مجلس الأمن وضع فلسطين تحت الوصاية ، وإعادة القضية إلى هيئة الأمم للنظر فيها على هذا الأساس ، ودعوة العرب واليهود إلى عقد هدنة سياسية وعسكرية بانتظار النتيجة. ووافق مجلس الأمن على المشروع ، ورفضته جامعة الدول العربية والوكالة اليهودية ، كل لأسبابه الخاصة.

ولم تتحقق الهدنة ، بسبب استمرار القوات الصهيونية في تنفيذ الخطة د. واتخذت اللجنة السياسية للجامعة العربية (١٢ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م) ، في اجتماعها بدمشق ، قرار «الزحف على فلسطين» في ١٥ أيار / مايو ١٩٤٨ م. واشتكت الوكالة اليهودية لمجلس الأمن ، فأصدر في ١٧ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م قرارا دعا فيه جميع الأشخاص والمنظمات إلى وقف العمليات العسكرية والعنف. وأخيرا بادرت الجمعية العامة ، قبل انتهاء الانتداب بيوم واحد ، إلى قبول اقتراح الولايات المتحدة بتعيين وسيط دولي للعمل مع لجنة الهدنة (من قناصل أميركا وبلجيكا وفرنسا في القدس) ، وإيقاف لجنة التقسيم عن العمل. وفي ٢٠ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، أي بعد الانسحاب البريطاني ، ودخول الجيوش العربية إلى فلسطين ، تمّ تعيين الكونت فولك برنادوت من السويد ، وسيطا دوليا ، لكن ساحة الفعل كانت في موقع آخر ـ المعركة العسكرية.

ففي ١ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م ، عقد في منزل بن ـ غوريون (تل أبيب) اجتماع ضم جميع قادة الهاغاناه لتدارس الوضع ، بعد اتضاح أن أسلوب مرافقة القوافل على الطرق الرئيسية لم يصمد في الاختبار العملي. وتقرر حشد ١٥٠٠ جندي لفتح الطريق إلى القدس. وكلف قائد لواء غفعاتي ، شمعون أفيدان بقيادة العملية ، التي أطلق عليها اسم نحشون. (١) وفي التمهيد لها ، جرت عمليتان خاطفتان ـ القسطل واللد. وفي القسطل ، التي كانت تحتلها قوات الجهاد المقدس ، وقعت معارك ضارية ، واحتلت الهاغاناه القرية ، ثم استعادتها القوات العربية ، واستشهد فيها عبد القادر الحسيني ، فاحتلتها الهاغاناه ثانية ، وفتح الطريق إلى القدس موقتا ، ثم قطع ثانية ، بعد دخول الجيش الأردني ، واستسلم الحي اليهودي في القدس القديمة ، كما جرى اجتياح غوش عتسيون ، وبقيت القدس محاصرة. وفي اللد ، نجحت مجموعة بالتسلل إلى مقر قيادة حسن سلامة ، ونسفته ، لكنه لم يكن في الموقع. وفي النتيجة ، يمكن اعتبار عملية نحشون فاشلة ، لأنها لم تحقق الهدف النهائي لها بفك الحصار عن

__________________

(٧٦) «حرب فلسطين ، ١٩٤٧ ـ ١٩٤٨» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٤٥٧.

٥٢٢

القدس. وكذلك فشلت عملية هرئيل (١٥ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م) ، التي كانت استكمالا لعملية نحشون ، باحتلال منطقة اللطرون ، وفتح الطريق إلى القدس. وظلت القدس نقطة الضعف الرئيسية للهاغاناه.

وفي مشمار هعيمك (٤ ـ ١٣ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م) ، فشل جيش الإنقاذ باحتلال المستعمرة ، واستطاع اللواءان ـ ألكسندروني وكرملي ـ احتلال عدد من قرى مرج ابن عامر الغربي وترحيل سكانها. وكذلك فشل جيش الإنقاذ في استثمار الفوز في معركة هوشة والكساير (رمات يوحنان). وشكلت الإنجازات التي حققتها الهاغاناه في هذه المعارك ، إضافة إلى النجاح الموقت في عملية نحشون ، وما عقبها في «مذبحة دير ياسين» ، منعطفا عسكريا. ومنذ ٨ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م بدأت المعركة على طبرية. وفي ليلة ١٣ ـ ١٤ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م وقعت «مجزرة ناصر الدين» ـ القرية الصغيرة بجوار طبرية ـ عبر عملية خداع ، قام بها أفراد عصابتي الإرغون وشتيرن. فدخلوا القرية وقتلوا أغلبية سكانها ، ودمروا بيوتها. وفي الليلة نفسها جرى تعزيز القوات الصهيونية في الحي اليهودي المحاصر في الجزء القديم من طبرية. واشتدت المعارك في ١٦ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م ، واحتلت طبرية في ١٩ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م ، وأعلن قائد لواء غولاني إقامة «حكم عبري مستقل في المدينة» ، ورحل سكانها العرب.

وبعد معركتي مشمار هعيمك ورمات يوحنان ، أصبحت مدينة حيفا ـ ميناء فلسطين الأكبر ـ معزولة ، وفيها تفوق كبير للقوات الصهيونية على الحامية المحلية التي تعززها سرية لبنانية بقيادة النقيب أمين عز الدين. وفي ٢١ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م أخطر الجنرال ستوكويل ، قائد حيفا البريطاني ، العرب واليهود ، أن قواته ستنسحب ، وتتجمع في منطقتي الميناء والكرمل الغربي. فبادرت الهاغاناه إلى الهجوم على الأحياء العربية من ثلاثة محاور ، بعد أن مهدت لذلك بقصف عنيف. وقاتلت الحامية العربية ببسالة ، إلّا إن الذعر أصاب السكان ، وبدأت موجة من الرحيل عن المدينة ، وغادرها معظم سكانها ، باستثناء نحو ٣٠٠٠. ولم يستطع الجيش العربي الأردني ، المرابط في منطقة مصفاة البترول (آي. بي. سي.) تقديم المساعدة للمدينة. فسقطت ، وكانت الثانية خلال أسبوع ، وأعلنها موشيه كرمل ، قائد لواء كرملي ، مدينة تحت «الحكم العبري المستقل» ، السلطة الوحيدة فيها.

وفي ٢٢ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م ، صدرت الأوامر بتنفيذ عملية حميتس ، لاحتلال يافا وجوارها ، إلّا إنها تأجلت بسبب هجوم إيتسل عليها ، وتدخل القوات البريطانية. وكلفت بالعملية ثلاثة ألوية ، ألكسندروني وكرياتي وغفعاتي ، بقيادة دان إبشتاين

٥٢٣

(إيبن) ، قائد ألكسندروني. وبدأت العملية عند منتصف ليل ٢٨ نيسان / أبريل ١٩٤٨. وقاتلت كتيبة أجنادين من جيش الإنقاذ ، بقيادة ميشيل العيسى (فلسطيني) ، معركة شرسة ضد لواء غفعاتي ، الذي كان احتل تل الريش ، فطردته الكتيبة ، مكبدة إياه خسائر كبيرة ، ٣٣ قتيلا ، ونحو ١٠٠ جريح ، كما استولت منه على أسلحة كثيرة تركت في أرض المعركة ، حين هرب أفراد اللواء. ووقعت معارك شديدة في المناطق الأخرى ، إلّا إن القتال توقف بسبب تدخل القوات البريطانية. وجراء القصف العنيف ، بدأ السكان بالرحيل ، وبقي في يافا نحو ٥٠٠٠ شخص عند احتلالها في ١٣ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، وأعلنت منطقة عسكرية ، يحظر على المدنيين دخولها.

بعد السيطرة على يافا ، توجهت القيادة الصهيونية مرة أخرى نحو القدس ، ووضعت خطة لإسقاط المدينة ، في عملية يبوسي ، تتم عبر الهجوم من ثلاثة محاور ـ النبي صموئيل من الشمال وأريحا من الشرق ، وطريق بيت لحم من الجنوب. وعيّن يتسحاق ساديه (قائد البلماح) قائدا للعملية. وفي ٢٣ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م وقع الهجوم على النبي صموئيل ، لكنه فشل ، وتكبد المهاجمون خسائر كبيرة (٣٥ قتيلا ، بمن فيهم قائد المحور ، شموئيل بوزننسكي). وفي ٢٦ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م تحرك البلماح على حي الشيخ جراح ، من دون أن يحقق نتائج تذكر. وكذلك كان الحال (٢٩ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م) في منطقة القطمون. ولمّا فشلت الخطة ، عادت قيادة الهاغاناه للعمل على فتح طريق القدس من منطقة اللطرون. ووضعت خطة عملية مكابي يشارك فيها البلماح ولواء غفعاتي ، واستمرت من ٧ إلى ١٣ أيار / مايو ١٩٤٨ م لكنها فشلت في النهاية. وانتظرت قيادة الهاغاناه خروج القوات البريطانية من القدس ، بينما انتظرت القوات المحلية وجيش الإنقاذ دخول الجيش الأردني. واستغلت الهاغاناه الفرصة ، وقامت بعملية كلشون ، وسيطرت على القدس الجديدة ، وحاولت احتلال المدينة في عملية شفيفون ، لكنها فشلت ، ودارت معارك عنيفة مع الجيش الأردني ، وانقسمت القدس حتى سنة ١٩٦٧ ، وظلت الطريق إليها مقطوعة من الغرب حتى الهدنة (حزيران / يونيو ١٩٤٨ م).

وفي الجليل ، كانت قوات جيش الإنقاذ والفصائل المحلية بقيادة أديب الشيشكلي. وكان الحي اليهودي في مدينة صفد محاصرا ، والمستعمرات في الجليلين ـ الغربي والشرقي ـ في جيوب معزولة. وبدأ البريطانيون بالانسحاب من صفد في ٢٨ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م ، ومعه بدأت عملية يفتاح ، التي كلف قائد البلماح ، يغآل ألون ، بقيادتها. وفي ٣ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، جرى احتلال المنطقة بين الجاعونة ومجرى نهر الأردن ، في عملية مطأطي (مكنسة). وفي فجر ٦ أيار / مايو

٥٢٤

١٩٤٨ م ، بدأت معركة صفد ، بهجوم يقوده موشيه كالمان ، وصدّ بعد أن تكبد ٦ قتلى. وعاودت الهاغاناه الهجوم فجر ١١ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، واحتلت المدينة بعد معارك ضارية ، وانسحاب جيش الإنقاذ من مواقعه فيها وبجوارها ، واحتل عدد من القرى في المنطقة.

وفي هذه الأثناء ، جرت عملية غدعون ، في منطقة بيسان ، انتهت إلى احتلال المدينة (١٢ أيار / مايو ١٩٤٨ م). كما جرت عملية براك في النقب (١٢ أيار / مايو ١٩٤٨ م) ، واحتلت قرية برير ودمرت ، لكن العملية توقفت بسبب دخول القوات المصرية إلى فلسطين. وفي الجليل الغربي ، كانت مستعمرة يحيعام لا تزال محاصرة منذ الهجوم عليها في بداية السنة. ومستعمرات حانيتا وإيلون ومتسوبا ، وكذلك مدينة نهريا ، معزولة ، والطريق إليها مقطوع عند عكا. ووقعت عملية بن عمي في الفترة ٨ ـ ١٥ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، سقطت فيها عكا ، والقرى العربية إلى الشمال منها ، وصولا إلى الحدود اللبنانية. وفي الشرق توقفت العملية في الجليل الأعلى الغربي ، على مشارف قرية معليا ، التي ظلت في خط الدفاع الأول حتى ٣١ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ م ، عندما سقطت في نهاية الحرب.

وهكذا ، وعشية الانسحاب البريطاني من فلسطين ، وبالتالي دخول الجيوش العربية إليها (١٥ أيار / مايو ١٩٤٨ م) ، كانت الهاغاناه تسيطر على رقاع متعددة في البلاد ، تضم أغلبية المستعمرات اليهودية والمدن الرئيسية ، وهي كالتالي : ١) من المطلة إلى طيرت تسفي (الزراعة) في غور الأردن الشمالي والحولة ؛ ٢) من معوز حاييم في غور الأردن حتى حيفا ، بما يضم مرج ابن عامر ؛ ٣) السهل الساحلي من حيفا حتى رأس الناقورة ؛ ٤) السهل الساحلي من حيفا حتى نير عام في النقب الشمالي. وكانت منطقة القدس معزولة ، وكذلك نقاط الاستيطان في النقب ، وجنوب البحر الميت (سدوم). ومع ذلك ، وفي الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة ١٤ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، أعلن دافيد بن ـ غوريون ، أمام قيادة العمل الصهيوني ، قيام «إسرائيل» في اجتماع عقد لهذه الغاية في قاعة متحف مدينة تل أبيب. وبعد عشر دقائق من إعلان قيامها ، اعترف بها الرئيس الأميركي ، هاري ترومان ، بينما الأمم المتحدة تناقش مشروع قرار أميركي ، بوضع فلسطين تحت الوصاية الدولية ، وتتالت الاعترافات الدولية بها. وبينما كان المندوب السامي يعلن نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين ، أذاعت الحكومات العربية بيانها في تسويغ دخول جيوشها إليها ، وبدأت تلك الجيوش تعبر الحدود من كل ناحية.

٥٢٥

ه) دخول الجيوش العربية المعركة

في بيانها المطول بتاريخ ١٤ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، سوغت الدول العربية دخولها المعركة في فلسطين كالتالي : «الآن وقد انتهى الانتداب البريطاني على فلسطين من دون أن تنشأ فيها سلطة دستورية شرعية تكفل صون الأمن واحترام القانون وتؤمن السكان على أرواحهم وأموالهم ... رأت حكومات الدول العربية نفسها مضطرة إلى التدخل في فلسطين لمجرد مساعدة سكانها على إعادة السلم والأمن وحكم العدل والقانون إلى بلادهم وحقنا للدماء.» (١) وأكد البيان حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، الأمر الذي حرم منه. وعرض مراحل الصراع بشأن فلسطين ، والعدوان الصهيوني على العرب ، وما نجم عنه من مجازر واحتلال للقرى والمدن وتشريد للسكان. وأشار إلى التهديد الذي يتعرض له أمن الدول العربية ، جرّاء قيام الكيان الصهيوني بصورة غير شرعية ، وتقصير الدول الكبرى والأمم المتحدة في إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. وأكدت الدول العربية اعترافها بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال ، ورأيها «أن الحل الوحيد العادل لقضية فلسطين هو إنشاء دولة فلسطينية موحدة وفق المبادىء الديمقراطية يتمتع سكانها بالمساواة التامة أمام القانون ، وتكفل للأقليات فيها جميع الضمانات المقررة في البلاد الديمقراطية الدستورية وتصان الأماكن المقدسة وتكفل حرية الوصول إليها.» (٢)

وكان دخول جيوش خمس دول عربية إلى فلسطين في آن معا ، بغض النظر عن تأهبها ، المنعطف الأخطر على الهاغاناه في حرب ١٩٤٨. فمع أن ميزان القوى العسكري ظل مائلا إلى جانب القوات الصهيونية ، وكذلك أفضلية تموضعها الاستراتيجي من حيث الانتشار ، إلّا إن مواجهة خمسة جيوش في الوقت نفسه ، وضعت الهاغاناه في حالة الدفاع. وقررت قيادتها امتصاص الاندفاعة العربية الأولى ، وتثبيت الخطوط ، ثم التحوّل إلى الهجوم ، ضمن خطة استفراد كل جبهة على حدة ، وتركيز القوة لمواجهة الوضع فيها ، ثم الانتقال إلى جبهة أخرى. واستطاعت الهاغاناه أن تحقق خطتها ، وأساسا لغياب خطة مضادة منسقة بين الجيوش العربية. ومع ذلك ، كان شهر القتال الأول هو الأصعب على الهاغاناه في الحرب ، إذ كانت المبادرة بأيدي الجيوش العربية ، وبصورة عامة ، لم تقم الهاغاناه بالمبادرة إلى الهجوم إلّا في حالات قليلة ، وباءت جميعها تقريبا بالفشل. وكان الملك عبد الله قد تولى القيادة العامة

__________________

(٧٧) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٧٨) المصدر نفسه ، ص ٢٦١.

٥٢٦

للجيوش العربية ، تساعده هيئة أركان شكلية ، وكان مستشاره الفعلي ، قائد الجيش الأردني ، الجنرال البريطاني جون باغوت غلوب. وعمل كل جيش بمفرده ، وأشرفت عليه حكومته ، كما تولت هي تزويده بصورة منفردة.

وبغض النظر عن قلة أعدادها ، وسوء تسليحها ، وضعف تدريبها ، فقد وضعت لهذه الجيوش خطة عامة ، كانت تفتقد عنصر التنسيق في تنفيذها ، واقتصرت على تحديد مهمات عامة كالتالي :

١ ـ الجيش اللبناني ، ١٠٠٠ مقاتل بقيادة الزعيم فؤاد شهاب ، يحتشد في رأس الناقورة ، ويتقدم على طريق الساحل ، يحتل نهريا ، ويواصل تقدمه إلى عكا.

٢ ـ الجيش السوري ، ١٨٧٦ مقاتلا ، بقيادة العقيد عبد الوهاب الحكيم ، يحتشد في منطقة بانياس وبنت جبيل ، ويتحرك في اتجاه صفد ـ الناصرة ـ العفولة.

٣ ـ الجيش العراقي ، ٢٥٠٠ مقاتل ، بقيادة الزعيم محمد الزبيدي ، يحتشد في منطقة إربد ، ويعبر نهر الأردن نحو غور بيسان ، ويتقدم في اتجاه العفولة.

٤ ـ الجيش الأردني ، ٤٥٥٠ مقاتلا ، بقيادة الجنرال غلوب ، وكلف بدفع لواء نحو نابلس ، بينما يتقدم الآخر نحو باب الواد ، ويتقدم اللواءان بعد ذلك لاحتلال الخضيرة ونتانيا ، فتنشطر القوات الصهيونية إلى شطرين.

٥ ـ الجيش المصري ، ٥٠٠٠ مقاتل ، بقيادة اللواء أحمد علي المواوي ، ويجتاز الحدود في رتلين ـ أحدهما من رفح ، والثاني من العوجا ـ ويتقدم لاحتلال المجدل وبئر السبع.

إلّا إنه إزاء إصرار القائد العام ، الملك عبد الله ، وبناء على توصية الجنرال غلوب جرى تعديل على هذه الخطة في ١٣ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، أي قبل الهجوم بيومين. وقد أربك هذا التعديل مهمات الجيوش ، ومحاور عملياتها ، الأمر الذي يضع علامة استفهام على المغزى منه ، وبالتالي على وحدة هدف دخول الجيوش العربية إلى فلسطين. وفي الخطة المعدلة ، انتقل محور عمليات الجيش السوري إلى جنوبي بحيرة طبرية ، وبقي الجيش اللبناني وحده في الشمال ، ونقل محور عملياته شرقا إلى المالكية ، وأصبحت وجهته صفد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجيش العراقي ، الذي انتقل محور عملياته إلى الجنوب بمحاذاة الجيش الأردني ، في منطقة جنين. أمّا جيش الإنقاذ العامل في منطقة عمليات الجيشين ـ الأردني والعراقي ـ فطلب منه الانسحاب ، وتحرك شمالا إلى محور عمليات الجيش اللبناني ، وظل هناك إلى آخر الحرب ، بقيادة القاوقجي.

ويمكن تقسيم وقائع حرب ١٩٤٨ على الجبهات المتعددة إلى أربع مراحل :

٥٢٧

١ ـ مرحلة القتال الأولى ، من ١٥ أيار / مايو ١٩٤٨ م إلى ١٠ حزيران / يونيو ١٩٤٨ م.

٢ ـ الهدنة الأولى ، من ١١ حزيران / يونيو ١٩٤٨ م إلى ٨ تموز / يوليو ١٩٤٨ م.

٣ ـ مرحلة القتال الثانية ، من ٩ تموز / يوليو ١٩٤٨ م إلى ١٧ تموز / يوليو ١٩٤٨ م.

٤ ـ الهدنة الثانية ، من ١٨ تموز / يوليو ١٩٤٨ م إلى ٧ كانون الثاني / يناير ١٩٤٩ م.

وفي مرحلة القتال الأولى ، حققت الجيوش العربية ، كل منها على جبهته ، ما يلي :

الجبهة السورية : بعد التعديل بالمهمات ، انتقل لواء المشاة الأول السوري من الجنوب اللبناني (١٤ أيار / مايو ١٩٤٨ م) ، إلى جنوب بحيرة طبرية ، مرورا بدمشق فالجولان ، وفي صباح ١٥ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، قامت كتيبتان منه بالهجوم على سمخ ، لكنهما فشلتا باحتلالها. وعاود اللواء الهجوم عليها في ١٨ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، واحتلها ، مهددا بذلك مستعمرة دغانيا. وقام هذا اللواء بمحاولتين على مستعمرتي دغانيا (أ) ودغانيا (ب) ، باءتا بالفشل. وبعد محاولة أولى فاشلة على مستعمرة مشمار هيردين ، وأخرى على مستعمرة دان ، نجح اللواء السوري الثاني باحتلال مشمار هيردين ، وكذلك سقطت مستعمرتا شاعر هغولان ومسادا (١٠ حزيران / يونيو ١٩٤٨ م).

الجبهة اللبنانية : تحركت القوات اللبنانية في اتجاه المالكية ، لتجد القوات الصهيونية قد سبقتها إليها (١٥ أيار / مايو ١٩٤٨ م) ، إلّا إن القوات اللبنانية استعادت المالكية وقدس ، ثم احتلتها القوات الصهيونية في ٢٩ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، ثم ما لبثت قوة مشتركة لبنانية ـ سورية ـ جيش الإنقاذ ، أن استعادتها في ٦ حزيران / يونيو ١٩٤٨ م.

الجبهة العراقية : في ١٥ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، تقدمت القوات العراقية من منطقة إربد في اتجاه مستعمرة غيشر ، واحتلت مشروع الكهرباء (روتنبرغ) في نهرايم ، لكنها فشلت باجتياز النهر. ولم يكن الملك عبد الله يرغب في إلحاق الأذى بالمشروع ، الذي كانت الشركة المالكة تدفع له رسوما على استثماره. وانتقل الجيش العراقي

٥٢٨

جنوبا ، وعبر عن طريق جسري أللنبي ودامية ، وتوجه إلى نابلس ، ومنها إلى منطقة طولكرم ، فأصبح على بعد ١٠ كلم من نتانيا ، حيث اصطدم بالقوات الصهيونية ، وتوقف. في المقابل ، قامت تلك القوات بهجوم على جنين ، فاحتلت المدينة وعدة قرى (٢٨ أيار / مايو ١٩٤٨ م) فقام الجيش العراقي بهجوم مضاد وطرد القوات الصهيونية من جنين ومحيطها.

الجبهة الأردنية : فجر ١٢ أيار / مايو ١٩٤٨ ، بدأت القوات الأردنية ، يساندها متطوعون محليون بهجوم واسع على كتلة مستعمرات غوش عتسيون. وبعد معارك ضارية استمرت يومين ، استسلم المستوطنون ، بعد خسائر كبيرة يوم إعلان قيام إسرائيل. ووقع ٣٢٠ منهم بالأسر ، ظلوا في المفرق (الأردن) إلى حين توقيع الهدنة الإسرائيلية ـ الأردنية (شباط / فبراير ١٩٤٩ م). وفي صباح ١٥ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، أصدر الجنرال غلوب أوامره للجيش الأردني بعبور جسر أللنبي والانتشار في مناطق واقعة داخل الجزء المخصص للدولة العربية في مشروع التقسيم. وتحركت الآليات الأردنية بسرعة نحو القدس ، واحتلت وحدة منها مستعمرة عطروت (شمال القدس) ، وبعدها مستعمرة نفي يعقوف. لكن المعارك العنيفة دارت داخل المدينة ، وعلى مداخلها الجنوبية والغربية ، وصولا إلى باب الواد واللطرون.

وانتهت المعارك العنيفة داخل القدس إلى تقسيمها لشطرين ـ البلدة القديمة بيد الجيش الأردني ، والحديثة بيد الهاغاناه ، واستسلم الحي اليهودي في البلدة القديمة في ٢٨ أيار / مايو ١٩٤٨ م. وقام لواء أردني في ١٧ أيار / مايو ١٩٤٨ م باحتلال منطقة اللطرون ، فأصبح على مسافة ٣٠ كلم من تل أبيب ، وقطع الطريق منها إلى القدس ، التي حوصرت مجددا. كما دخلت وحدة أردنية مدينة بيت لحم واستولت القوات الأردنية على معامل البوتاس شمالي البحر الميت وعلى مستعمرة بيت هعرفاه ، التي رحل سكانها إلى سدوم (جنوبي البحر الميت). وفي ١٩ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، احتلت القوات الأردنية محطة ضخ المياه قرب بيتح تكفا ، وصدت في اليوم التالي هجوما معاكسا ، وأصبح الوضع هناك يهدد تل أبيب ، فتوقف.

الجبهة المصرية : هاجمت القوات المصرية مستعمرة كفار داروم ، بينما كانت تتقدم في اتجاه غزة ، وفشل الهجوم باحتلالها ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى نيريم. إلّا إن القوات المصرية احتلت عراق سويدان ، النقطة الاستراتيجية المهمة ، وفي ٢٤ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، سقطت مستعمرة يد مردخاي في يدها. كما تقدمت كتيبة نحو

٥٢٩

المجدل وتموضعت فيها. وبذلك سيطرت القوات المصرية على الطريق المؤدية إلى المستعمرات في الجنوب. وفي ٢٩ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، تحرك اللواء المصري الثاني إلى أسدود ، واحتل مواقع شماليها ، وتخندق هناك بعد أن اصطدم بتعزيزات صهيونية ، جاءت من منطقة رحوفوت لصدّ الهجوم ، الذي أصبح على بعد ٣٢ كلم من تل أبيب ، الأمر الذي خفف الضغط على القوات الأردنية في منطقة اللد والرملة.

أمّا الرتل المصري الثاني ، الذي أخذ الطريق الداخلي في اتجاه بئر السبع ، فكان يتقدم بسرعة ومن دون مقاومة. فدخل بئر السبع بتاريخ ٢٠ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، وتابع تقدمه ، فوصلت طلائعه إلى بيت لحم ، حيث التقى مع الوحدات الأردنية ، بينما كانت قوات الفدائيين المصريين (الإخوان المسلمين) قد وصلت إلى مسافة ٧ كلم جنوبي القدس ، فأدّى ذلك إلى حدوث توتر مصري ـ أردني ، أثّر في مجرى الحرب ، واستفاد منه العدو.

وفي ليل ٢ ـ ٣ حزيران / يونيو ١٩٤٨ م ، قامت القوات الصهيونية بهجوم على أسدود لتدمير اللواء المصري ، بعد أن قصفته بالمدفعية الجديدة التي تسلمتها للتوّ من أوروبا ، وكذلك بالطيران الذي وصل حديثا ، وكان يعمل بطواقم من متطوعين جاؤوا من الخارج أيضا. وفشل هذا الهجوم على محوريه ـ الشمالي والجنوبي ـ بفعل صمود الجنود المصريين ، الذين توقعوا الهجوم ، وتصدوا له في الوقت الملائم ، وأنزلوا بالمهاجمين خسائر كبيرة اضطرتهم إلى الانسحاب. ومع ذلك ، فهذا الهجوم جعل اللواء المصري يتحول إلى الدفاع ، ويتخندق شمالي أسدود ، ولم يحاول التقدم شمالا في اتجاه تل أبيب. وبدلا من ذلك ، توجهت القوات المصرية لتأمين التواصل بين رتليها ، فتم احتلال مستعمرة نتسانيم ، وفشل الهجوم على نغبا ، ومع ذلك ، وقبل الهدنة الأولى ، كانت القوات المصرية قد عزلت النقب تماما ، ولاحقا أخليت مستعمرة كفار داروم.

و) الهدنة الأولى

لم تكن الجيوش العربية بحاجة إلى هدنة ، والقطاعات المشاركة منها في الحرب كانت صغيرة ، وفي الإمكان تعزيزها أو تبديلها وتسليحها ، لو توفرت الجدية في تطبيق الأهداف المعلنة لدخولها إلى فلسطين. ولكن الهدنة كانت ضرورة حيوية للقوات الصهيونية ، إذ في مواجهة خمس جبهات مفتوحة ، تأخذ الجيوش العربية فيها زمام المبادرة ، وجدت تلك القوات نفسها في موقع الدفاع ، وبالتالي تشتيت القوى ،

٥٣٠

الأمر الذي يتنافى مع «خطة د» ، المعتمدة للوصول إلى الهدف الصهيوني المرحلي بإقامة إسرائيل ، وذلك بعد إعادة ترتيب هيكلية الهاغاناه لتصبح «جيش الدفاع الإسرائيلي» ، بكل ما ينجم عن ذلك شكلا ومضمونا. وبغض النظر عن الأسباب الذاتية الموجبة لذلك ، فإن قبول الدول العربية بالهدنة ، استجابة لقرار مجلس الأمن ، وضغط الدول الكبرى ، كان بمثابة الاعتراف بالأمر الواقع ، التقسيم ، على أقل تقدير. لقد أعلنت القيادة الصهيونية قيام إسرائيل ، واعترفت بها الدول الكبرى وغيرها ، وبالتالي فإن تطور الأحداث اللاحقة للتعامل مع هذا الواقع على أساس التهادن معه ، كان لا بدّ من أن يخدم تكريسه. وعلى افتراض صدقية البيانات العربية العلنية ، فإن القبول بالهدنة كان ينذر بعواقب وخيمة.

لقد أرادت القيادة الصهيونية الهدنة لالتقاط الأنفاس ، وتلافي الثغرات التي كشفها الهجوم العربي ، وذلك عبر توفير المستلزمات ، البشرية والمادية ، وخصوصا التسليحية ، لتطبيق خطة د. فعلى الصعيدين ـ السياسي والعسكري ـ وعلى المستويين ـ الاستراتيجي والتكتيكي ـ كانت الهدنة في مصلحة إسرائيل ، وضد العرب. وقبل دخول الجيوش العربية المعركة ، كانت إسرائيل في موقع الهجوم ـ السياسي والعسكري ـ أمّا بعده ، فقد تحولت أداتها العسكرية إلى الدفاع ، وبناء عليه ، سعت للهدنة لترتيب أوضاعها ، وللانتقال إلى الهجوم العسكري ، بما يتلاءم وخطها السياسي. في المقابل ، كان الموقف العربي في حالة الدفاع السياسي بعد قرارات الأمم المتحدة ، وجاء الهجوم العسكري ليفتح أمام الدول العربية المجال للانتقال إلى الهجوم السياسي ، لكنها بقبولها الهدنة أضاعت الفرصة ، فأصبحت في موقع الدفاع ـ سياسيا وعسكريا. وتحولت إسرائيل إلى الهجوم السياسي استنادا إلى «الشرعية الدولية» ، ثم العسكري بعد الهدنة ، بينما تحولت الجيوش العربية من المبادرة الهجومية ، إلى المرابطة الدفاعية ، في خطوط قريبة من خطوط التقسيم ، ما عدا الجبهة المصرية التي عزلت النقب ، الذي كانت إسرائيل تطمع فيه. ولما أصبحت الجيوش العربية مرابطة ، سهل الاستفراد بكل منها على حدة.

وما دامت القيادة الصهيونية لم تتراجع عن هدفها السياسي بإقامة الدولة اليهودية ، فقد كان طبيعيا أن تستغل الهدنة ، بغض النظر عن شروطها ، للتقدم نحو أهدافها. وفي الواقع ، فإن قبولها للهدنة كان مشروطا باعتبار إسرائيل قائمة فعلا ، وبالتالي كان قبول الحكومات العربية بالهدنة ، اعترافا ضمنيا بذلك. وفي الهدنة التي حددت بأربعة أسابيع ، قابلة للتجديد ، استطاعت إسرائيل أن تحوّل الهاغاناه إلى جيش الدفاع الإسرائيلي ، كما أراد بن ـ غوريون ، واستقدمت المتطوعين اليهود من بلادهم

٥٣١

المتعددة مع التركيز على النوعية والكفاءة القتالية. وبثت عملاءها في دول كثيرة لشراء الأسلحة المتنوعة ـ الطائرات والدبابات والمدفعية .. إلخ. وكانت «الصفقة التشيكية» ، من حيث الكم والنوع ، هي الأكبر والأجود ، وتمت بإيحاء من الاتحاد السوفياتي ، بما يتناقض مع بنود الهدنة المعلنة.

واستنفرت القيادة الصهيونية مؤسساتها وأنصارها لجمع الأموال ، وجندت طاقاتها للعمل السياسي ، في الأمم المتحدة وعلى الصعيد الدولي ، وقبلت بالهدنة ، والوساطة التي عيّن فولك برنادوت للقيام بها. ولما استنفدت أغراضها من مهمته ، اغتالته بتاريخ ١٧ أيلول / سبتمبر ١٩٤٨ م في القدس. وبقبول الجامعة العربية الهدنة ، دخلت حيز التطبيق العملي في ١١ حزيران / يونيو ١٩٤٨ م. وبينما الوسيط الدولي يعمل لوقف القتال ، كانت القيادة الصهيونية تعد لاستغلال الهدنة لاستئنافه. وقد وصف أحد قادة الهاغاناه الهدنة أنها «نزلت علينا كالندى من السماء.» وبعد سريان مفعول الهدنة ، عقدت القيادة العسكرية الإسرائيلية اجتماعا ، وكان تقديرها أن الهدنة جاءت في الوقت الملائم ، «فقد كانت الوحدات متعبة وخائرة القوى. وكانت الخسائر في كتائب سلاح المشاة عالية جدا. وكان من الضروري منح الرجال فترة استجمام لاسترداد القوى. كما كان من الضروري إرسال تعزيزات للكتائب.» (١)

وفي ختام المناقشات ، لخص بن ـ غوريون الوضع بقوله : «إننا قمنا بعمل جبار في الأسابيع الأربعة السابقة ، لكن العدو أحرز في أثنائها نقاط تفوق معينة. وإذا استؤنف القتال ، وينبغي الافتراض أنه سيستأنف ، فسندخل معركة الحسم.» ومن أجل الحسم ، وضع بن ـ غوريون خطته لاستغلال الهدنة من أجل : ١) إرسال التموين إلى القدس ؛ ٢) وقف النزوح من القدس ؛ ٣) رفع مستوى التدريبات والانضباط في الجيش ، وإعادة تنظيم بنيته ـ إنشاء قيادات جبهات .. إلخ ، وزيادة الإنتاج الحربي ؛ ٤) رفع مستوى الجهد القتالي للاستيطان برمته. (٢)

ز) مرحلة القتال الثانية

بعد الهدنة ، قدم برنادوت مشروعا توفيقيا لم يقبل به أحد ، فأصدر أوامره إلى المراقبين على الهدنة بالانسحاب من مواقعهم بتاريخ ٨ تموز / يوليو ١٩٤٨ م ، فانتهت

__________________

(٧٩) «حرب فلسطين ، ١٩٤٧ ـ ١٩٤٨» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٥٧١.

(٨٠) المصدر نفسه.

٥٣٢

الهدنة واستؤنف القتال ، الذي كانت القيادة الصهيونية تنتظره لتطبيق خطتها ، مستغلة حالة الإرباك في الصف العربي ، والجمود على جبهات القتال. وبدأت فترة من القتال استمرت عشرة أيام (٩ ـ ١٨ تموز / يوليو ١٩٤٨ م) ، على جميع الجبهات. وكانت القيادة الصهيونية قد أعادت ترتيب قواتها العسكرية ، واستوعبت صنوفا جديدة من السلاح ، وبكميات كبيرة ، وانطلقت بالهجوم مستغلة وضع الجبهات العربية الراكد. وكان واضحا لتلك القيادة أنها لا تستطيع العمل على جميع الجبهات معا ، فحددت هدفها لضرب أضعف الحلقات ، جيش الإنقاذ الذي انتشر في الجليل الأعلى والغربي ، وأخطر الجيوش بحسب تقديرها أي ، الجيش السوري. ومع ذلك ، فقد بادر الجيش المصري للعمل فتصدت له القوات الإسرائيلية. ووضعت خطة باروش لتصفية رأس الجسر السوري في مشمار هيردين (٩ تموز / يوليو ١٩٤٨ م) ، بهجوم على ثلاثة محاور. لكن الجيش السوري ، الذي كان في حالة تأهب ، أحبط الهجوم ، خلال يومين من القتال الضاري. وعاودت القوات الإسرائيلية الهجوم في ١٤ تموز / يوليو ١٩٤٨ م ، لكنها اضطرت إلى التراجع أمام صمود القوات السورية في مواقعها ، وحالة التأهب التي ووجه بها المهاجمون لدى انطلاقهم لتنفيذ العملية. وبعدها تحول الموقف هناك إلى حرب مواقع ، وعمليات إغارة متبادلة.

وانتهز الجيش العراقي الفرصة (١٠ تموز / يوليو ١٩٤٨ م) ، وقام بهجوم على خطوط القوات الإسرائيلية شمال جنين ، فاخترقها واضطر تلك القوات إلى الانسحاب بعيدا عن المدينة ، إلى الخط الذي ظل ثابتا حتى سنة ١٩٦٧. وكذلك قام جيش الإنقاذ بهجوم على مستعمرة الشجرة (إيلانا) ، التي تتحكم بمفصل استراتيجي مهم شمال الناصرة. وانضمت إلى الجيش وحدات من القرى العربية ، واستمرت المعركة أكثر من أسبوع ، ولم تسقط المستعمرة. وبينما جيش الإنقاذ يركز جهده ، بالهجوم تلو الآخر على الشجرة ، قامت قوات إسرائيلية بهجوم على الجليل الغربي ، فصدت في معارك عنيفة على مشارف مجد الكروم ومعليا ، إلّا إنه تم اختراق الجبهة في شفاعمرو. ومن هناك تحركت قوة مؤللة في اتجاه الناصرة ، بينما تحركت قوة أخرى من نهلال (في مرج ابن عامر) ، وأطبقت على المدينة في عملية ديكل بتاريخ ١٦ تموز / يوليو ١٩٤٨ م. وبعد سقوط الناصرة ، انهار الجليل الأسفل عمليا ، بينما ظل الأعلى صامدا.

وفي جبال الكرمل ، وحتى بعد سقوط حيفا وضواحيها ، وكذلك الطريق الساحلي ، صمدت القرى العربية بقواها الذاتية. وفي مرحلة القتال الثانية ، سقطت طيرة الكرمل (١٦ تموز / يوليو ١٩٤٨ م) ، إلّا إن مثلث جبع وعين غزال وإجزم ظل

٥٣٣

صامدا ، على الرغم من الهجمات المتكررة عليه. وكان بدوره قد استغل الهدنة لتحصين المواقع على الطرق المؤدية إليه. وانتهزت القوات الإسرائيلية الهدنة الثانية (١٨ تموز / يوليو ١٩٤٨ م) لمهاجمتها ، تحت يافطة عملية شوطير (الشرطي) ، ادعاء بأنها عملية داخلية ضد متمردين في الدولة اليهودية (٢٤ تموز / يوليو ١٩٤٨ م). وصمدت المقاومة المحلية في تلك القرى ، وصدت خلال يومين متواصلين من القتال هجمات متعددة ، مكبدة العدو خسائر كبيرة ، وفرضت عليه الانكفاء عن الهجوم الأرضي. لكن هذه القرى راحت تتعرض لقصف متواصل بعيد المدى ، الأمر الذي اضطر رجال المقاومة إلى الانسحاب منها بسلاحهم ، والتحاقهم بالقوات العراقية في منطقة جنين ، واستكمل احتلال الكرمل.

وفي الجبهة الوسطى ، ضد الجيش الأردني أصلا ، خططت القيادة الإسرائيلية لعملية داني ، وتحددت أهدافها كالتالي :

«أ) إزالة التهديد عن منطقة تل أبيب من جانب قوات الفيلق المعسكرة في الرملة ـ اللد ـ اليهودية وذلك بإبادة العدو في هذا القطاع.

«ب) توسيع الممر إلى القدس الذي نشأ بفضل طريق (بورما) وبفضل احتلال قرى العدو في كل القطاع الواقع شرقي اللطرون.

«ج) إيقاف الضغط على القدس عن طريق إشغال الفيلق في كل القطاع الممتد من الرملة إلى القدس.

«وبصورة عامة ، أخذ زمام المبادرة من يد العدو في هذا القطاع وإلحاق الضرر به وإلغاء تفوقه الطوبوغرافي.» (١)

وحشدت للعملية قوات كبيرة ، من أنواع متعددة ، وعين قائد البلماح ، يغآل ألون قائدا لها ، واتخذ مقر قيادته في قرية يازور المهجورة. وفي ليل ٩ ـ ١٠ تموز / يوليو ١٩٤٨ م ، بدأ التنفيذ على مراحل. ودارت في إطار العملية ، التي استمرت أسبوعا ، معارك ضارية ، دافع فيها الجيش الأردني والمقاتلون الفلسطينيون عن مواقعهم بشجاعة ، وحالوا دون تحقيق أهداف العملية كاملة ، وهي أكبر عملية بادرت إليها القوات الإسرائيلية في ذلك الوقت. ومع ذلك ، احتلت مدينتا اللد والرملة ، وفتح طريق جديد إلى القدس (أشوع ـ كسلة ـ صوبا) ، وتم الاستيلاء على جزء من خط سكة الحديد إلى القدس ، وسقطت قرى كثيرة ، وطرد أهلها منها. إلّا إن القوات الإسرائيلية فشلت في احتلال اللطرون ، ومداخل القدس ، وظل الطريق إليها مقطوعا ،

__________________

(٨١) المصدر نفسه ، ص ٥٨٤ ـ ٥٩٦.

٥٣٤

على الرغم من الخسائر الكبيرة التي دفعتها ثمنا لذلك.

وعلى الجبهة الجنوبية ، بادر الجيش المصري قبل انتهاء الهدنة (٨ تموز / يوليو ١٩٤٨ م) إلى احتلال مفترق الطرق الرئيسي في الجنوب (بيت دراس وجولس ونغبا) ، وحقق نجاحا جزئيا باحتلاله النقطة ١١٣ ، وكذلك كوكبا وحليقات ، إلّا إنه أخفق في احتلال نغبا ، كما فشل هجومه على بئيروت يتسحاق. ومع ذلك تمّ إخلاء كفار داروم. فبادرت القوات الإسرائيلية إلى عملية مافت لبوليش (الموت للغازي) ، التي كانت ترمي إلى فتح طريق النقب ، وقطع التواصل بين انتشار القوات المصرية ، لكن العملية فشلت في تحقيق أهدافها ، وظل طريق النقب مقطوعا ، والمستعمرات فيه معزولة ، وعشية إعلان الهدنة الثانية (١٨ تموز / يوليو ١٩٤٨ م) ، وفي مقابل موقع كرتيا ، الذي احتلته القوات الإسرائيلية ، احتل الجيش المصري سبعة مواقع ، الأمر الذي ترك النقب معزولا ، بينما ظلت طرق مواصلات الجيش المصري مفتوحة.

ح) الهدنة الثانية

اجتمع مجلس الأمن في ١٥ تموز / يوليو ١٩٤٨ م ، وأصدر قرارا يقضي باعتبار الحالة في فلسطين تهديدا للسلم ، وأمر الطرفين بوقف إطلاق النار في الموعد الذي يحدده الوسيط الدولي ، مهددا باتخاذ إجراءات ضد أي طرف لا يمتثل لأوامره. وبدأت الهدنة الثانية بتاريخ ١٩ تموز / يوليو ١٩٤٨ م ، من دون تحديد موعد لنهايتها. وتوقف القتال بداية ، ليعود متقطعا في ظل الهدنة الثانية إلى نهاية الحرب. وفي ردّها على قرار مجلس الأمن ، قالت اللجنة السياسية للجامعة العربية (١٩ تموز / يوليو ١٩٤٨ م) : «إن الحكومات العربية لا ترى تعليلا لموقف مجلس الأمن إلّا رغبة بعض الدول الكبرى في تمكين اليهود من فلسطين على حساب العرب والإنسانية تحقيقا لمآربها الخاصة.» وجاء في بيان اللجنة السياسية أن الجيوش العربية ستظل مرابطة في مراكزها داخل الحدود الفلسطينية ، حاضرة لاستئناف عملها ، إلى أن تتحقق الغاية التي دخلت فلسطين من أجلها. (١) وبينما برنادوت يعد مشروعا جديدا للتقسيم ، والدول العربية مربكة جرّاء الحالة التي تشكلت بعد معارك «الأيام العشرة» ، واحتلال المدن وتهجير سكانها ، كانت القيادة الإسرائيلية تعد لاستكمال خطتها ، وتهيّىء مستلزمات المرحلة اللاحقة من القتال. فاستقدمت آلاف المتطوعين من ذوي الخبرات والكفاءات ، كما استوردت كميات كبيرة من الأسلحة المتعددة ـ زوارق

__________________

(٨٢) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٢٦٧.

٥٣٥

حربية وطائرات ومدفعية وغيرها.

بعد الهدنة الثانية ، تقدم برنادوت بمشروع جديد ، نشر في باريس في ٢٠ أيلول / سبتمبر ١٩٤٨ م ، بعد اغتياله على يد عصابة ليحي بثلاثة أيام (١٧ أيلول / سبتمبر ١٩٤٨ م) ، فكان بمثابة وصية سياسية. وجاء في مشروع برنادوت الجديد ما يلي : ١) اعتراف الدول العربية بقيام إسرائيل ؛ ٢) تنفيذ الحدود بحسب قرار التقسيم مع تعديلات ؛ ٣) ضم الأراضي العربية إلى شرق الأردن ؛ ٤) ميناء حيفا ومطار اللد مرافق حرّة مفتوحة للدول المعنية ؛ ٥) القدس تحت إشراف دولي ؛ ٦) حق المشردين بالعودة إلى بيوتهم ؛ ٧) يتولى مجلس فني من الأمم المتحدة وضع الحدود ، ومن ثمّ توثيق العلاقات بين الدولتين. (١)

عند هذا الحد ، كان الموقف العربي قد تدهور سياسيا وعسكريا. ولم يعد قادرا حتى على الانسحاب المنظم ، إذ ساءت العلاقات بين أطرافه ، ليس بين الحكومات فحسب ، بل بين الجيوش العاملة في فلسطين أيضا. وواضح أن مشروع برنادوت كان يعني إلحاق الجزء المخصص للعرب بشرق الأردن ، ولم يكن ذلك مصادفة ، وكان طبيعيا أن يزيد في عدم الثقة بين الأطراف العربية ، وخصوصا بين الهيئة العربية العليا والملك عبد الله. ومع ذلك ، لم تكن القيادة الإسرائيلية راضية عن ذلك المشروع تماما ، وجاء ردها عليه بقتل صاحبه ، إذ كانت قد حسمت أمرها لتحقيق أهدافها بالقوة العسكرية ، وفرض الأمر الواقع على جميع الأطراف المعنية. ورأت القيادة الرسمية في اغتيال برنادوت عملا معرقلا لخططها العسكرية ، وليس مرفوضا مبدئيا ، كونها كانت قد وضعت خطة عملية يوآف ، الهادفة إلى «تحطيم القوات المصرية ...

والسيطرة على المنطقة [النقب].» (٢) ويبدو أن القيادة الإسرائيلية قد توصلت في هذه المرحلة إلى ضرورة اقتسام فلسطين مع الملك عبد الله ، كمحطة على طريق إنجاز المشروع الصهيوني بتهويد فلسطين وتغييب شعبها.

ولذلك ، وبعد سريان مفعول الهدنة الثانية ، برز التفكك في الصف العربي. وإزاء اتضاح نوايا الملك عبد الله في ضمّ الجزء العربي من فلسطين على أساس التقسيم ، تحرك الحاج أمين الحسيني من القاهرة إلى غزة ، بتأييد الحكومة المصرية بتاريخ ٢٨ أيلول / سبتمبر ١٩٤٨ م. وأقام هناك حكومة عموم فلسطين ، برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي ، بينما احتفظ لنفسه بمنصب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني.

__________________

(٨٣) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم العام ، المجلد الأول ، مصدر سبق ذكره ، ص ٣٧٩ ـ ٣٨١.

(٨٤) «حرب فلسطين ، ١٩٤٧ ـ ١٩٤٨» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٦٢٩.

٥٣٦

وفي جلسته بتاريخ ١ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ م ، أقرّ المجلس استقلال فلسطين بحدودها الطبيعية «استقلالا تاما ، وإقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة ، يتمتع فيها المواطنون بحرياتهم وحقوقهم ، وتسير وشقيقاتها الدول العربية متآخية في بناء المجد العربي وخدمة الحضارة الإنسانية ، مستلهمين في ذلك روح الأمة ، وتاريخها المجيد ، ومصممين على صيانة استقلالنا والذود عنه.» وواضح أن البيان كان بمثابة إعلان نوايا ، وتبرئة ذمة إزاء ما وصلت إليه الأمور. وفي أثناء انعقاد المجلس في غزة ، كان مؤتمر فلسطيني وطني آخر يعقد في عمان ، يستنكر تشكيل حكومة عموم فلسطين ، ويعلن الولاء للملك عبد الله ، ويناشده «بسط حمايته على فلسطين.» (١)

ط) مرحلة القتال الثالثة والأخيرة

كانت خطة عملية يوآف تنطوي على مرحلتين :

«أ) دق وتد في اتجاه الساحل ، من داخل النقب ، بهدف تهديد وعزل القوات المصرية الموجودة في شمالي هذا الوتد ، والتي كانت المجدل مركزها.

«ب) اختراق شريط المجدل ـ بيت جبرين لتحقيق الاتصال بالقوات في النقب ، وبالتالي تصفية جزء كبير من قوات العدو المعسكرة في هذا الشريط بالتحديد.» (٢) وفضلا عن عمليات صغيرة ذات قيمة تكتيكية ، كلف لأول مرة سلاح الجو الإسرائيلي بضرب الطائرات المصرية وهي جاثمة على أرض المطار ، وغير ذلك من الأهداف. وانطلقت العملية في ١٥ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ م ، وقاتلت القوات المصرية معارك دفاعية ضارية ، وصدت الهجوم الكبير على عراق المنشية (١٦ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ م) ، مكبدة المهاجمين خسائر كبيرة بالأرواح والعتاد ، الأمر الذي طرح على القيادة الإسرائيلية مسألة العدول عن استكمال العملية. وجرى تعديل على الخطة ، وتحوّل الهجوم عن عراق المنشية إلى النقطة ١١٣ ، بقصد إحراز نجاح معنوي بعد الهزيمة ، وفتح طريق فرعي إلى النقب. وحققت القوات الإسرائيلية نجاحا مكلفا باحتلال هذا الموقع ، لكن الطريق إلى النقب ، ظل مغلقا ، إذ فشل الهجوم على حليقات. وعادت تلك القوات (١٩ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ م) واحتلتها في معارك ضارية ، وفتح الطريق إلى النقب.

وفي ٢٠ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ م تمّ احتلال بئر السبع ، بعملية مفاجئة من

__________________

(٨٥) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٢٧٤.

(٨٦) «حرب فلسطين ، ١٩٤٧ ـ ١٩٤٨» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٦٣٠.

٥٣٧

الغرب ، طريق غزة ـ بئر السبع ، بعد السيطرة عليها من دون علم القائد المصري في المدينة ، إذ وقع الهجوم من ناحية لم يكن يتوقعها. وفي ٢١ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ م احتلت مواقع كان يتمركز فيها جنود مصريون ومتطوعون محليون في منطقة بيت جبرين وعجور والولجة وبيت نتيف ، وقطع الطريق إلى بيت لحم ، شريان المواصلات المهم للقوات المصرية هناك. وفي ٢٢ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ م ، الساعة الثالثة بعد الظهر ، صدر الأمر بوقف إطلاق النار ، وانتهت عملية يوآف بعد أسبوع من القتال الصعب.

وكانت حصيلة عملية يوآف ، بالنسبة إلى القوات الإسرائيلية ، وبحسب مصادرها الرسمية ، كالتالي : «فتح الطريق إلى النقب وهزم العدو المصري. أربك نظام تمركز الجيش المصري تماما. بتر الشريط العرضي الممتد من المجدل إلى بيت جبرين ، ونشأ جيب الفالوجة الممتد من مركز شرطة عراق سويدان في الغرب حتى عراق المنشية في الشرق. الشريط الساحلي بيت حنون ـ أشدود كان في قيد الإخلاء. وفي الأيام التالية للعملية ، احتلت قوات الجيش الإسرائيلي كل هذا الشريط. وفي ٢٧ / ١٠ دخلت قواتنا أشدود والتل ٦٩ ونتسانيم. وفي ٥ / ١١ دخلت المجدل ويد مردخاي. وتجمع الجيش المصري بعد هذا التاريخ في قطاع غزة ـ رفح ، على طول طريق العوجا ـ بير عسلوج الصحراوي ، وفي جيب الفالوجة.» (١)

وفور انتهاء عملية يوآف ، بدأ الإعداد لعملية حيرام ، التي تهدف إلى ضرب جيش الإنقاذ في وسط الجليل واحتلاله ، وبالتالي استكمال التقدم إلى حدود الانتداب بين فلسطين ولبنان. وخلال أسبوع حشدت القوات اللازمة ، والتي قاتلت أغلبيتها في النقب ضد القوات المصرية. وكانت الخطة أن تقوم القوات الإسرائيلية بعملية كماشة ، تطبق على قلب الجليل من ثلاثة اتجاهات : الشرق ، من صفد والغرب ، من نهريا والجنوب ، من الجليل الأسفل. وبدأت العملية ليلة ٢٨ ـ ٢٩ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ م ، واستطاعت القوات على المحور الشرقي التقدم نحو سعسع ، بعد معركة عنيفة في منطقة الصفصاف ـ الجش ، حيث كانت قد وصلت لتوها كتيبة سورية جديدة ، لم تتح لها فرصة الانتشار واتخاذ مواقع لها ، وفوجئت بالهجوم في قرية الجش. أمّا في الغرب ، على محور ـ يانوح ـ ترشيحا ـ معليا ـ فقد صدّ الهجوم الأول ، وصمدت الجبهة ، إلى أن بلغها وصول القوات الإسرائيلية إلى سعسع ، فانسحب جيش الإنقاذ والمقاتلون المحليون ، خشية الوقوع في الطوق. وفي هذه

__________________

(٨٧) المصدر نفسه ، ص ٦٤٦.

٥٣٨

الأثناء تحركت قوات إسرائيلية على طريق الناصرة ـ عيلبون ـ المغار شمالا ، واستكمل احتلال الجليل إلى حدود الانتداب مع لبنان (٣١ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٨ م). وكانت عملية حيرام أكبر عملية للقوات الإسرائيلية في الشمال ، شاركت فيها أربعة ألوية عسكرية ، كما كانت الأخيرة في المنطقة ، وفي نهايتها احتلت ١٤ قرية في الجنوب اللبناني.

وبانتهاء عملية حيرام ، عادت القوات الإسرائيلية بكامل زخمها إلى الجنوب في عملية حوريف. ففي ٩ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٤٨ م ، احتلت عراق سويدان ، بعد معركة عنيفة ، بدأت بقصف مدفعي مركز على الموقع. وطوقت الفالوجة ، وفيها لواء مصري ، بقيادة سيّد طه ، الذي رفض الاستسلام. وجرت محاولة لتصفيته في أثناء عملية حوريف ، ففشلت ، مكلفة المهاجمين خسائر كبيرة بالأرواح في عراق المنشية ، إذ استبسل الجنود المصريون في القتال دفاعا عن كرامتهم. وكان هؤلاء رفضوا العروض التي قدمها عدة مرات قائد البلماح يغآل ألون في لقاءاته مع سيد طه وجمال عبد الناصر ، للتفاوض على الاستسلام. وظل هذا اللواء يقاتل بشراسة ، إلى أن وقعت اتفاقية الهدنة الدائمة بين مصر وإسرائيل ، فانسحب محافظا على شرفه العسكري. وبدأت عملية حوريف في ٢٢ كانون الأول / ديسمبر ١٩٤٨ م ، وكان هدفها «طرد العدو المصري نهائيا من أراضي إسرائيل وإبادته» ، كما ورد في المصادر العسكرية الإسرائيلية. (١) وحشدت للعملية خمسة ألوية ، كما شارك فيها سلاحا الجو والبحر الإسرائيليان. واستمرت المعركة حتى ٧ كانون الثاني / يناير ١٩٤٩ م. وصمدت القوات المصرية في بعض المواقع ، بينما توغلت القوات الإسرائيلية في سيناء حتى أبو عجيلة. وانتهت عملية حوريف من دون تحقيق أهدافها كاملة ، إذ صمدت القوات المصرية في قطاع غزة وجيب الفالوجة ، بينما سقطت المواقع الأخرى. وبعد العملية بدأت مفاوضات الهدنة الدائمة بين مصر وإسرائيل.

بعد عملية حوريف اعتقدت القيادة الإسرائيلية أن النقب أصبح تابعا لدولتها ، فاكتشفت أن المملكة الأردنية تنوي الاحتفاظ بمواقع لها فيه ، من ضمنها أم رشرش (إيلات) ، وكان ذلك في أثناء المفاوضات على الهدنة الدائمة ، فقررت استكمال احتلال النقب ، وطرد القوات الأردنية منه ، قبل التوقيع على الهدنة. ووضعت لهذا الغرض خطة عملية عوفدا ، التي تقضي بالتقدم نحو إيلات على محورين : الأول في وسط النقب ، والثاني في وادي عربة. وكلف بالعملية لواءان ، وانطلقت في ١٥ آذار /

__________________

(٨٨) المصدر نفسه ، ص ٦٨١.

٥٣٩

مارس ١٩٤٩ م وحققت أهدافها من دون قتال يذكر ، وانتهت باحتلال إيلات في ١٩ آذار / مارس ١٩٤٩ م. واستكملت المفاوضات مع المملكة الأردنية على الهدنة الدائمة. وكان القتال قد توقف على هذه الجبهة منذ مرحلة القتال الثانية. وبعد عملية عوفدا ، اعترفت المملكة بسيادة إسرائيل على النقب حتى إيلات. وقرر الجيش العراقي الانسحاب من دون مفاوضات مع إسرائيل ، واحتل الجيش الأردني مواقعه ، وبالتالي المفاوضات على الهدنة في قطاعه. وفي المفاوضات وافقت المملكة الأردنية على تعديلات في الخطوط ، فتنازلت عن المثلث الصغير لإسرائيل ، التي تنازلت في المقابل عن شريط في منطقة الظاهرية (الخليل) للمملكة.

وتم الاتفاق على خطوط الهدنة في رودس في ٣ نيسان / أبريل ١٩٤٩ م ، وفك الحصار عن القدس ، التي انقسمت إلى شطرين ، وتشكلت «الضفة الغربية» من المملكة الأردنية الهاشمية ، من الأراضي الفلسطينية التي ظلت في يدها حتى حرب ١٩٦٧.

وفي رودس أيضا ، تمّ التوقيع على اتفاقية الهدنة الأولى مع دولة عربية ـ مصر ـ في ٢٤ شباط / فبراير ١٩٤٩ م ، وبنتيجتها أخلي جيب الفالوجة ، وظل قطاع غزة بيد السلطة المصرية ، من رفح حتى بيت حنون ، وأيضا حتى حرب ١٩٦٧.

وفي رأس الناقورة ، وقعت اتفاقية الهدنة مع لبنان في ٢٣ آذار / مارس ١٩٤٩ م. وفي المفاوضات طلبت إسرائيل انسحابا سوريا من مشمار هيردين ، في مقابل انسحابها من القرى ال ١٤ التي احتلتها في الجنوب اللبناني ، إلّا إنها عادت وتراجعت ، وثبت خط الهدنة على طول حدود الانتداب بين فلسطين ولبنان. وكانت المفاوضات على الهدنة مع سورية هي الأطول والأكثر تعقيدا ، بسبب الوضع الاستراتيجي الخاص للمنطقة الحدودية في هذا القطاع. وأخيرا توصل الطرفان إلى توقيع اتفاقية الهدنة في ٢٠ تموز / يوليو ١٩٤٩ م ، وانسحب الجيش السوري من مشمار هيردين ، وحددت منطقة منزوعة السلاح على الحدود.

٥٤٠