الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

خيبر سنة ٧ ه‍ ، وبعدها مباشرة فدك ، ثم وادي القرى وتيماء ، وكلها قرى يهودية ، استسلمت للرسول (ص) ، فعقد معها صلحا بشروط محددة ، تسمح لأهلها الحفاظ على ديانتهم وشعائرهم لقاء جزية يدفعونها سنويا ، في مقابل الحماية التي يتمتعون بها في ظل «دولة الإسلام».

ومع أن اهتمام الرسول (ص) ببلاد الشام لم تكن له ترجمة عملية تذكر في حياته ، فقد ورثه عنه خلفاؤه ، وسارعوا بعد وفاته إلى تنفيذ وصيته. وفي حياته أنفذ الرسول (ص) ابنه (بالتبنّي) ، زيد بن حارثة إلى الشام ، فوصل مؤتة ، واصطدم سنة ٨ ه‍ بمقاومة عنيفة من تجمع القبائل العربية هناك ، ودارت معركة خسرها المسلمون ، واستشهد فيها زيد ، وكذلك جعفر (ذو الجناحين) ابن عم الرسول (ص). وبعد مؤتة ، بعث الرسول (ص) عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل ، إلى قبائل بلي وعذرة وبلقين ، يدعوها إلى الإسلام. وكانت أم عمرو بلوية ، وقصد الرسول الإفادة من صلة رحم البلويين لعمرو. ثم قاد النبي (ص) نفسه أكبر غزوة جهزها في حياته إلى تبوك سنة ٩ ه‍ وقد لقي صعوبات جمة في تجهيز الحملة ، فسماها لذلك «جيش العسرة». وجاءه في تبوك حاكم أيلة (العقبة) من قبل البيزنطيين ، يوحنا بن رؤبة ، ثم جاءت وفود جربا ومقنا وأذرح ، وسكانها من نصارى العرب ، فكتب لهم الرسول (ص) كتبا ، وصالحهم على دفع الجزية ، وأعطاهم الأمان واعتبرهم «ذمة الله ورسوله».

وبعد وفاة الرسول (ص) (١١ ه‍ / ٦٣٢ م) ، والقضاء على حركة الردّة في خلافة أبي بكر الصديق ، بدأت عملية الفتوحات ، التي انطلقت بسرعة البرق الخاطف ، فقضت على إمبراطورية الفرس ، وحجّمت بيزنطة إلى الحدود الدنيا. فغداة قمع الردّة ، دانت الجزيرة العربية لسلطة الخليفة في المدينة ، وأصبحت قاعدة آمنة للإسلام ، انطلق منها ـ بالطاقة البشرية التي وفرتها ، تحت لواء الإسلام ، وقيادة قريش والصحابة الأولين ـ لتحقيق فتوحات واسعة النطاق. وقد استهدفت العمليات العسكرية الأولى القبائل العربية في بلاد الشام وتخوم العراق ، لضمها تحت لواء الإسلام ، وتجنيدها في عملية الفتوحات التي راحت تتطور وتتقدم من نصر إلى نصر. وإذ تحرك الجيش العربي الأول من الجزيرة بقيادة خالد بن الوليد إلى تخوم العراق (غرب الفرات) ، فإن المعارك الحاسمة الأولى وقعت في بلاد الشام مع البيزنطيين ، وبداية في فلسطين ، ومن ثمّ انتقلت إلى مصر والعراق (شرق الفرات).

وتجدر هنا الإشارة إلى أن معلوماتنا عن مسار حركة الفتوحات في بلاد الشام عامة ، تستند بالأساس إلى مصادر أولية عربية ، كتبت بعد نحو ٢٠٠ عام من تاريخ الأحداث ، وقد تمّ تناقلها شفويا وكتابة خلال هذه المدة الطويلة. ولا ضير في ذلك

١٦١

لو لا التناقض في الروايات بين المصادر المتعددة ، وخصوصا حول التفصيلات. وكثيرا ما يعكس التناقض في الروايات وجهات نظر لتيارات سياسية ، تشكلت لاحقا ، وحاولت إثبات مواقفها من قضايا حالية استنادا إلى أحداث سالفة. ولكن الأساس يبقى واحدا ، وهو أن العرب ، تحت لواء الإسلام ، حققوا نصرا على القوتين العظميين في ذلك العصر. أمّا المصادر الفارسية فهي معدومة تقريبا ، والبيزنطية قليلة جدا ومبهمة. فكأنما أراد البيزنطيون تجاهل هذا الحدث الكبير تحاشيا للإحراج من الهزيمة النكراء التي حلت بهم ، والتي لم يرغبوا في تصديقها والإقرار بها ، بعد أن كانوا ، ولفترة طويلة ، مقتنعين بسرمدية إمبراطوريتهم ، وتحديدا عاصمتهم ـ القسطنطينية. وهناك مصادر سريانية مهمة عن الفتوحات العربية.

ويستفاد من المصادر التاريخية العربية عن سير الفتوحات أن خالد بن الوليد ، بعد أن أخمد حركة الردة في شرق الجزيرة العربية ، تابع مسيرته بأمر من الخليفة أبي بكر ، إلى العراق ، نحو الحيرة والأنبار وعين التمر ، أي نحو المناطق الآهلة بالقبائل العربية المتنصّرة. أمّا الخليفة نفسه ، ومن معسكره في ذي القصّة ، فقد استنفر قبائل العرب التي انضوت تحت لواء الإسلام ، وجهز منها ثلاثة جيوش ، بحسب الرواية ، وأنفذها إلى بلاد الشام. وبغض النظر عن التباين بالتفصيلات فقد كانت كالتالي : ١) جيش بقيادة عمرو بن العاص ، ووجهته المقاطعتان البيزنطيتان ـ فلسطين الأولى والثالثة ، أي وسط البلاد وجنوبها ؛ ٢) جيش بقيادة شرحبيل بن حسنة ، ووجهته فلسطين الثانية ، أي الغور الشمالي والجليل ومرج ابن عامر والجلعاد (شرقي الأردن) ؛ ٣) والجيش الثالث بقيادة يزيد بن أبي سفيان ، ووجهته دمشق وأطرافها. ويظهر أن الخليفة اختار هؤلاء القادة بناء على علاقات سابقة لهم بالمناطق التي توجهوا إليها.

وعلى كل حال ، فإن أي ترتيب مسبق قد يكون اتخذ في البداية ، لم يصمد على أرض الواقع بعد أن احتدمت الاشتباكات العنيفة. ويبدو أن كلا من الطرفين أخطأ التقدير بالنسبة إلى نوايا الآخر وسلوكه. فالبيزنطيون استخفوا في البداية بحجم الخطر الكامن في هذه الحركة العربية ، واعتبروها غزوة طارئة ، مثلها مثل سابقاتها من العمليات الحدودية بقصد النهب والمغانم ، ولم يسارعوا إلى اتخاذ الإجراءات والإعداد لمواجهة الخطر بما يستوجبه حجمه. أمّا العرب ، فقد أرادوا بداية حصر نشاطهم بالقبائل العربية ، وتحاشي الاشتباك بالجيش البيزنطي النظامي ، بالابتعاد عن مهاجمة المدن ومحاصرتها. غير أن حركة البيزنطيين العسكرية ، وحشد قوات كبيرة ضد عمرو بن العاص في فلسطين ، اضطر القادة العرب إلى التجمع وحشد القوات ،

١٦٢

خوفا من أن يستفرد البيزنطيون بكل منهم على حدة. وبذلك تغيّرت الخطط الأولية ، إن وجدت ، وفرض سير المعارك المسارات اللاحقة.

ولعل المتغيرات التي طرأت على الأرض في مسار القتال ، وما تطلّبه ذلك من تجاوز الترتيبات التي قد تكون اتخذت ، والتوجيهات التي تذكر المصادر أنها صدرت في المدينة قبل الانطلاق ، شكلت جزءا من عملية الإرباك لدى الرواة والمؤرخين التابعين. وكذلك ، فإن تشابك الأحداث وتسارعها ، في غياب الوثائق المعاصرة ، قد أدى إلى تضارب الروايات ، الأمر الذي فتح الباب أمام الرواة والمؤرخين التابعين للتعبير عن أهوائهم السياسية ، من خلال الأخذ الانتقائي عن السلف. ويكاد لا يمر حدث في هذه العملية من فتح بلاد الشام ، والتي دامت نحو خمس سنوات ، من دون أن نجد تباينا بالروايات بشأنه أكان ذلك من ناحية تاريخه ، أو دور الأشخاص فيه ، أو تفصيلاته ، كعدد المشاركين في المعركة مثلا ... إلخ. ولكن بغض النظر عن هذه الفروق الجزئية ، فهناك إجماع على أن الصدامات الأولى بين العرب والبيزنطيين وقعت في جنوب فلسطين ، ثم انتقلت إلى شمالها ، ومنها إلى سورية ـ جنوبها فشمالها. وكان هذا هو مسار عملية الفتوحات بصورة عامة ، ما عدا بعض المدن التي قاومت وطال حصارها قبل أن تستسلم ، مثل قيساريا وغيرها.

ومنذ البداية ، حقق العرب انتصارات مهمة في المعارك التي وقعت في فلسطين (منطقة عمليات عمرو بن العاص) ، لكنها لم تحسم الصراع مع البيزنطيين ، كما لم تؤدّ إلى سقوط البلد بأكمله في أيدي العرب. فالصراع بشأن بلاد الشام حسم في معركة اليرموك (عند الواقوصة ، أو الياقوصة على نهر الرقاد في الجولان) ، وذلك في آب / أغسطس ٦٣٦ م ، إذ انهارت الجيوش البيزنطية ، وانسحبت تاركة شمال سورية مفتوحا أمام الجيوش العربية الظافرة. أمّا في فلسطين ، فبعد الصدامات الأولى بالقرب من غزة (داثن) ، حشد الطرفان قواتهما في أجنادين (بالقرب من بيت جبرين) ، ودارت معركة حقق فيها العرب نصرا كبيرا (٦٣٣ ـ ٦٣٤ م) وبعد ذلك انسحب البيزنطيون إلى بيسان (منطقة عمليات شرحبيل بن حسنة) ، تاركين وسط فلسطين وجنوبها مفتوحا أمام الجيش العربي. ومع سقوط الريف الفلسطيني عامة في أيدي العرب بعد أجنادين ، إلّا إن المدن الكبيرة المهمة ـ بيت المقدس وقيساريا وعسقلان وعكا وغيرها ـ بقيت في أيدي البيزنطيين إلى ما بعد معركة اليرموك.

وبعد أجنادين ، عمدت القوات العربية إلى تثبيت سيطرتها على الريف في فلسطين وشرق الأردن ، ثم ما لبثت ، بعد ستة أشهر ، أن هاجمت بيسان ، التي أخلتها الحامية البيزنطية ، بعد أن فتحت سدود المياه لإغراق الأرض وإعاقة تقدم العرب ،

١٦٣

وانسحبت إلى فحل ، شرقي النهر. فوقعت هناك معركة في كانون الثاني / يناير ٦٣٥ م ، شاركت فيها إمدادات جديدة أرسلها الخليفة من المدينة ، وانتصر فيها العرب ، وطاردوا فلول البيزنطيين إلى دمشق. وإزاء هذه التطورات ، اقتنع الطرفان كما يبدو بمصيرية الصراع ، فحشد كل منهما ما لديه من قوات. أمّا الخليفة ، فإضافة إلى الإمدادات التي أرسلها ، بعث إلى خالد بن الوليد في العراق ، يأمره بالتوجه إلى بلاد الشام. فجاز خالد الصحراء ، ووصل إلى أطراف دمشق ، واستسلمت له بصرى (٦٣٥ م). أمّا هيراكليوس (هرقل) ، فجمع جيشا كبيرا وأرسله لمقابلة العرب في موقعة اليرموك ، حيث هزم ، واضطر الإمبراطور إلى الإسراع بمغادرة سورية متوجها إلى عاصمته.

بعد اليرموك ، تتباين الروايات بشأن سقوط المدن الرئيسية في فلسطين ، وخصوصا بيت المقدس (إيلياء) وقيساريا. ففي سنة ٦٣٧ أو ٦٣٨ م ، وبعد حصار طويل ، هرب القائد البيزنطي من إيلياء ، فبقيت تحت سلطة البطريرك سوفرونيوس ، الذي اشترط تسليم المدينة المقدسة إلى الخليفة عمر بن الخطاب نفسه ، الذي كان قد وصل إلى الجابية للقاء القادة هناك ، وتنظيم الأراضي التي وقعت في أيديهم ، ودراسة خطط المستقبل. وجاء عمر إلى القدس ، وعقد مع البطريرك صلحا ، سلمت بموجبه المدينة للخليفة. وكتب عمر عهدا للمسيحيين من سكانها ، آمنهم به على أرواحهم وأموالهم وكنائسهم ، لقاء الجزية والولاء لدولة الإسلام. وتؤكد المصادر أن عمر حظر على اليهود الإقامة في القدس بين المسيحيين تحت طائلة العقاب الجسدي والمادي.

وتتباين الروايات كذلك بشأن سقوط قيساريا ، المدينة الكبرى في فلسطين البيزنطية. ومن الواضح أنها صمدت فترة طويلة أمام الحصار البري ، بفضل الأسطول البيزنطي الذي ظل يسيطر على البحر. وإذا صحّ أنها صمدت سبع سنوات ، فإنها تكون سقطت سنة ١٩ ه‍ / ٦٤٠ م. ويورد بعض المصادر أن العرب دخلوها عبر قنوات المياه المؤدية إليها ، بعد أن دلهم أحد سكانها اليهود على نفق سرّي. وتبالغ المصادر في عدد سكانها والجنود الذين تمركزوا فيها (٠٠٠ ، ٧٠٠ بيزنطي و ٠٠٠ ، ٢٠٠ يهودي و ٠٠٠ ، ٣٠ سامري). وبعد قيساريا سقطت عسقلان وغيرها. وفي الأغلب أن هذه المدينة ، سقطت في يد معاوية بن أبي سفيان ، الذي احتل موقع أخيه يزيد بعد موته ، ثم عينه عمر بن الخطاب واليا على كل بلاد الشام.

وسواء عن تخطيط مسبق ، مصادفة أو الحتمية التاريخية ، كان فتح بلاد الشام عامة وفلسطين خاصة ، على أيدي العرب المسلمين حدثا مهما في التاريخ العالمي.

١٦٤

فهذه الرقعة من غرب آسيا ، ذات التراث الحضاري الممتد عبر التاريخ البشري ، لم تفقد أهميتها بعد الفتح العربي ، بل على العكس. فالفتح ترك آثاره على الفاتحين ، كما على سكان البلاد الأصليين. ولا غرو ، فإن مركز الدولة الإسلامية سريعا ما انتقل إلى دمشق ، في قلب بلاد الشام. ونظرا إلى علاقة العرب التاريخية بهذه البلاد ، كما للآثار التي تركها انتزاعها عنوة من أيدي البيزنطيين على مسار الأحداث اللاحقة ، وخصوصا لناحية استمرار الصراع بين بيزنطة لقرون كثيرة ، فقد أصبح الهمّ الأول للدولة العربية ـ الإسلامية الناشئة حسم هذا الصراع ، وبالتالي وراثة موقع بيزنطة العالمي ـ حضاريا وسياسيا. وكان لهذا التحدي أثر فعّال على دور العرب في التاريخ العالمي ، كما في حضارة الجنس البشري.

وبالنسبة إلى فلسطين تحديدا ، فقد أضاف الإسلام ، وبالتالي الفتح العربي ، بعدا جديدا لأهميتها الدينية. فعلاوة على موقع القدس الديني في التراثين ـ المسيحي واليهودي ـ أضفى عليها الإسلام أيضا هالة من القدسية ، باعتبارها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، ومنطلق «المعراج» ، الأمر الذي نجم عنه لاحقا إقامة معالم دينية مهمة فيها : قبة الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما. وكذلك ، ففي فلسطين مقامات عدد كبير من الأولياء ، وأضرحة الصحابة الأولين ، وبعض قادة الفتح. وقد تعزز هذا الموقع في العصور اللاحقة ، الأمر الذي أدّى إلى شيوع اسم بيت المقدس بالنسبة إلى إيلياء أو أورشليم سابقا ، والقدس لاحقا ، وإطلاق كنية «الأرض المقدسة» على فلسطين كلها. وهذا الموقع الديني ظل عنصرا رئيسيا في الصراع بشأن فلسطين عبر العصور.

وعلى العموم ، فإن سكان بلاد الشام ، الذين شكّل العنصر العربي الأصلي نسبة عالية بينهم ، وكذلك غيرهم من المحليين ، لم يروا في الفتح العربي تسلطا أجنبيا بالمفهوم السائد. فمنذ زمن طويل قامت بينهم وبين سكان الجزيرة شبكة واسعة من العلاقات القومية والقبلية والدينية والاقتصادية .. إلخ. وزاد في تخفيف الوطأة عليهم السلوك المتسامح ، دينيا واجتماعيا وسياسيا ، الذي سلكه الفاتحون العرب المسلمون إزاءهم ، الأمر الذي جعلهم يرحبون بهؤلاء الفاتحين. والفاتحون بدورهم منحوا السكان المحليين حرية العبادة ، كما خففوا عنهم عبء الضرائب ، وأعطوهم الأمان على أرواحهم وممتلكاتهم ومعابدهم ، ما داموا يدفعون الجزية ويعلنون الولاء لدولة الإسلام ، أي أن الفاتحين جعلوا هؤلاء السكان على ذمتهم. ومن هنا ـ وعلى عكس العصور السابقة ـ فقد ساد الوئام بين الطرفين ، ودخل الكثيرون في الإسلام. لقد كان الفتح إلى حد كبير بمثابة تحرير وانعتاق للسكان المحليين ، قوميا واجتماعيا. ولا

١٦٥

غرو ، إن أصبحت بلاد الشام سريعا جزءا عضويا من الوطن العربي و «دار الإسلام» ـ شكلا ومضمونا.

وتفيد المصادر أن فلسطين تمتعت بعد الفتح بفترة من الازدهار لم تعهدها منذ زمن طويل. وفي التقسيم الإداري ، الذي يبدو أن عمر بن الخطاب وضعه وهو في الجابية ، عند قدومه لترتيب أوضاع الأراضي التي وقعت في أيدي المسلمين ، بقي التقسيم البيزنطي السابق على حاله إلى حد كبير. وقسمت فلسطين إلى جندين : ١) جند فلسطين ـ وهو يضم فلسطين الأولى والثالثة من عهد البيزنطيين ، وعاصمته اللد ، ثمّ انتقلت إلى الرملة. وفيه الكور التالية : إيلياء (القدس) وعمواس واللد ويبنى ويافا وقيساريا ونابلس وسبسطية وعسقلان وغزة وبيت جبرين والسبع وأريحا وعمان ؛ ٢) جند الأردن ـ وهو فلسطين الثانية سابقا ، ونقلت عاصمته من بيسان (التي قاومت وفتحت عنوة) إلى طبرية التي صالحت واستسلمت ، وفيه الكور التالية : فحل وجرش وبيت راس وجدرا وأبيل (شرقي الأردن) وصور (لبنان) ، وطبرية وبيسان وصفورية وقدس وعكا.

وامتدت الحدود بين الجندين من الغرب إلى الشرق ، وظلت ثابتة كما يبدو خلال العصر الإسلامي حتى دخول الصليبيين إلى الشرق. وكانت تمر في جبال الكرمل شرقا إلى مجدو ، التي كانت محطة حدود وبريد ، ومنها توجهت شرقا إلى جبال جلبوع ، ثم تنحرف جنوبا فتضم بيسان وأراضيها إلى نهر الأردن. وكانت فلسطين بجنديها جزءا من ولاية الشام ، التي مركزها في دمشق ـ دار الخلافة الأموية لاحقا.

ثانيا : العصر الأموي

في الواقع ، بدأ حكم بني أمية في بلاد الشام منذ أن تمّ فتحها ، لكن علاقاتهم بها كانت قبل ذلك بكثير ، نظرا إلى هيمنتهم على تجارة قريش معها. وفي التنظيم الإداري الذي وضعه عمر بن الخطاب ، قسّم هذه البلاد إلى أربعة أجناد (جمع «جند» ، وهو المقاطعة) ، وهي : فلسطين والأردن ودمشق وحمص (قنسرين). وبعد توجه الجيوش التي فرغت من فتوح بلاد الشام ، شرقا إلى العراق ، وغربا إلى مصر ، وبعد موت عدد من القادة البارزين في طاعون عمواس سنة ٦٣٩ م ، ومنهم أبو عبيدة بن الجراح ، ويزيد بن أبي سفيان ، وصل معاوية بن أبي سفيان ، بتعيين من الخليفة الثاني ، عمر بن الخطاب إلى ولاية بلاد الشام كلها. ومن موقعه هذا ، راح الوالي القدير ، معاوية ، يثبّت أركان حكمه في هذه الولاية المهمة ، داخليا ، عبر إحكام قبضته

١٦٦

على زمام الأمور فيها ؛ وخارجيا ، عبر متابعة الصراع مع البيزنطيين بنشاط كبير. ومعاوية ، الأموي النسب ، استند إلى قاعدة حكمه في بلاد الشام ، عندما دخل في صراع مع الخليفة علي بن أبي طالب على الخلافة ، وكسب المعركة.

وبعد أن قتل الخليفة القوي ، عمر بن الخطاب ، غيلة سنة ٦٤٤ م ، على يد أبي لؤلؤة (المجوسي) ، مولى المغيرة بن شعبة (الثقفي) ، انتقلت الخلافة من دون مشكلات تذكر إلى عثمان بن عفّان (الأموي). وقد تمّ ذلك عبر «مجلس شورى» ، سمّى أعضاءه عمر بن الخطاب قبل موته ، لانتخاب خليفة له. وفاز عثمان بن عفان على علي بن أبي طالب بالتزكية ، لكن مجلس الشورى اشترط على عثمان «ألّا يحمل بني أمية على رقاب الناس.» وقد أقرّ عثمان معاوية على بلاد الشام ، وأضاف إليه جند الجزيرة. وبعد مقتل عثمان في الفتنة الأولى (٦٥٦ م) ، تخندق معاوية في ولايته الشامية ، وتزعّم الحركة المطالبة بدم عثمان ، كونه أبرز بني أمية ، وامتنع من بيعة علي ، حتى يقتصّ من قتلة عثمان. وبذلك اندلع الصراع بين علي ومعاوية ، وانتهى بمقتل علي ، واستئثار معاوية بالحكم ، وبالتالي تأسيس سلالة أموية للخلافة ، سماها بعض المحدّثين المناهضين للأمويين «الملك العضوض» ، كما ورد في الحديث النبوي الشريف.

وما من شك في أن ولاية معاوية الطويلة في بلاد الشام (عشرون عاما في عهد ثلاثة خلفاء) كانت رصيدا قويا له في صراعه بشأن الخلافة ضد الإمام علي. وقد مكنته هذه القاعدة الشامية ، فضلا عن ما عرف عنه من شيمتي الحلم والدهاء ، من مناجزة علي والتغلب عليه. وفي صفّين ، وقفت أجناد بلاد الشام بحزم مع معاوية. ومن جند فلسطين نفرت لمساندته قبائل الأزد وكنانة ولخم وخثعم ؛ ومن جند الأردن : قضاعة ومذحج وهمدان وغسان. وبعد المواجهة العسكرية في صفّين ، ثم السياسية في «تحكيم أذرح» (جنوب فلسطين) ، مالت الكفة إلى جانب معاوية. وجاء اغتيال عليّ (على يد ابن ملجم الخارجي) ليحسم الصراع لمصلحة مؤسس ملك بني أمية ، معاوية بن أبي سفيان. واختار معاوية أن يأخذ بيعة الناس له بالخلافة في بيت المقدس سنة ٦٦٠ م ، نظرا إلى موقع المدينة الديني ، ولأن أرض الحجاز كانت لا تزال هاشمية الولاء ، وتفضل «آل البيت» على بني أمية.

وبسبب ميزاته الشخصية ، وكذلك موقع ولايته في بلاد الشام ، كان معاوية من أبرز الولاة في عصر الفتوح الأول ، وحتى في أيام الخليفة عمر بن الخطاب. وكان معاوية قد التحق بجيش أخيه يزيد ، وما أن تمّ فتح بلاد الشام ، واستقرت الأمور فيها ، حتى أصبح واليا عليها. فقد مات أبو عبيدة بن الجراح ، ومن بعده يزيد بن أبي

١٦٧

سفيان. وعبر عمرو بن العاص إلى مصر ، وغيره من المنافسين المحتملين ، مثل سعد بن أبي وقاص ، إلى العراق ، فبقيت ولاية الشام لمعاوية حتى نهاية الخلافة الراشدية. وقد أطلق الخليفتان ، عمر وعثمان ، يد معاوية في بلاد الشام ومتابعة الصراع مع البيزنطيين. وفي أيامه ، نزل الكثير من القبائل التي جاءت غازية بلاد الشام وفلسطين ، إضافة إلى من كان بهما من اليمانية قبل الإسلام. ولأن الصراع مع البيزنطيين استمر برا وبحرا ، إذ سيطر الأسطول البيزنطي على الشواطىء ، وكان يغير على المدن الساحلية ، ينهب ويخرب ، فقد استلزم ذلك من معاوية تحصين الساحل السوري ، وشحنه بالمقاتلين ، ريثما يبني الأسطول العربي.

وفي أيام ولايته قاد معاوية حربا مع البيزنطيين على جبهتين : الأولى برية في الشمال ، على طول جبال طوروس ، ووجهتها آسيا الصغرى ، بدأت دفاعية ثم تحولت إلى هجومية ؛ والثانية بحرية على طول الساحل السوري ، وهي الأخرى بدأت دفاعية ثمّ انقلبت إلى هجومية. ولتحصين خطي الجبهة ، أقام الحصون في الشمال (العواصم والثغور) ، وعلى الساحل رمم دفاعات المدن التي تتعرض لغارات الأسطول البيزنطي. وشحن معاوية هذه الحصون والقلاع والمدن المسوّرة بالمقاتلين ، وأنزل عائلاتهم بالقرب منهم. وبنى في عكا دارا لصناعة السفن ، واستخدم فيها أصحاب المهن من السكان الأصليين ، وكذلك البحّارة والمقاتلين من العرب وسواهم. وفي أيام عثمان استكمل معاوية بناء الأسطول العربي ، بعد أن أقام دارا أخرى لصناعة السفن في مدينة صور.

ومنذ عصر الفتوح الأول ، راحت تتضافر عوامل موضوعية وذاتية تهيّىء ولاية الشام لاحتضان الخلافة الإسلامية بدلا من المدينة. فالفتوحات الواسعة تركت المدينة عمليا بعيدة عن مسرح الأحداث ، التي انتقلت بثقلها ومضمونها السياسي والإداري ، كما بمادتها البشرية ، إلى الأراضي التي فتحت حديثا. وولاية الشام ، شكلا ومضمونا ، كانت مؤهلة أكثر من سواها لانتقال الخلافة إليها. ففيها غلب العنصر العربي بين السكان ، سواء بمن كانوا فيها قبل الإسلام ، أو بمن وصلوا إليها واستقروا في نواحيها بعده. وكذلك ، وبينما انهارت الإمبراطورية الفارسية ، وراحت الفتوحات العربية في أراضيها تتخذ نمط التوسع المستمر وترتيب الأوضاع الذاتية ، بما يواكب ذلك من صراعات داخلية ، فإن ولاية الشام ، وبفضل سياسة معاوية ، إلى حد كبير ، استقرت أوضاعها الداخلية ، وتوجه نشاطها الرئيسي إلى الصراع المصيري مع البيزنطيين ، الأمر الذي أعطاها موقعا متميّزا.

وإلى فترة طويلة ، لم يسلم البيزنطيون بفقدان بلاد الشام ، وظلوا ينتهزون كل

١٦٨

فرصة مواتية لاستعادتها. وحتى عندما أصبحوا في موقع الدفاع على الجبهة البرية ، وأوغلت غارات المسلمين في آسيا الصغرى وصولا إلى مشارف القسطنطينية ، ظل البيزنطيون سادة البحر ، يهددون بأسطولهم الضخم مدن الساحل السوري والمصري. وإزاء تصميم أباطرة بيزنطة هذا ، لم تعد السياسة الدفاعية التي اتبعها معاوية ، ببناء التحصينات وإقامة الحراسات والدفاعات ، تنفع في وجه الغارات البيزنطية. فعمد معاوية إلى تبنّي سياسة هجومية ، وراح يبني أسطولا بالتعاون مع والي مصر ، ثمّ أخذ يهاجم قواعد الأسطول البيزنطي في شرقي البحر الأبيض المتوسط (قبرص) ، وفي جزر بحر إيجة (كريت) ، وصولا إلى معركة ذات الصواري البحرية سنة ٦٥٥ م ، التي دمر فيها أسطول معاوية البحرية البيزنطية.

ويلفت النظر أنه بينما كان معاوية منخرطا في الصراع المصيري مع البيزنطيين ، من موقعه في ولاية الشام ، كانت الفتنة تطل برأسها في الولايات الأخرى جميعها. وفي عام ذات الصواري (٦٥٥ م) ، ومعاوية يبني جيوش الشام ، بقيادة نخبة لامعة من الأمراء ، في البر والبحر ، خرجت جماعات من الأمصار ، فيها عدد من أبناء الصحابة الأولين ، إلى المدينة لخلع الخليفة عثمان بن عفان ، فرفض الخليفة وقتل. وكان معاوية ، استنادا إلى قاعدته الصلبة في الشام ، وإلى تطلعاته الذاتية لخلافة عثمان ، قد دعا الخليفة الشيخ إلى مغادرة الحجاز والقدوم إلى دمشق. وبعد مقتل عثمان ، انقسم الناس بين مؤيد للخليفة الجديد ، علي بن أبي طالب ، ومعارض له ، وذلك في الولايات جميعها ، حتى في الحجاز ، ما عدا بلاد الشام. فقد وقفت قبائل الشام إلى جانب معاوية ، ونفرت معه لمقاتلة المتهمين بدم عثمان. وبذلك عزز معاوية موقع ولايته كمركز للدولة الإسلامية بدلا من المدينة المنورة ، التي اضطر عليّ أيضا إلى مغادرتها بسبب الفتنة ، وبالتالي إلى الاقتتال بين المسلمين أنفسهم.

وبصورة ما ، تحوّل النزاع بين عليّ ومعاوية إلى صراع بين الشام والعراق ، إذ في مساره اتخذ عليّ من العراق مرتكزا له ، بينما تخندق معاوية في الشام. وإذ كانت قاعدة معاوية آمنة إلى حد كبير ، بالاستناد إلى القبائل اليمانية ، وعلى رأسها قبيلة كلب ، فلم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى عليّ في العراق. ولضرورات المواجهة الداخلية بشأن الخلافة ، اضطر معاوية إلى موادعة الروم (البيزنطيين) ، الذين قبلوا عرضه عليهم المهادنة ، ولم يحسنوا انتهاز الفرصة لاستعادة ما خسروه من الأراضي ، بسبب صراعات البلاط في القسطنطينية ، وللوهن الذي أصابهم بعد الهزائم التي ألحقتها بهم جيوش معاوية الشامية. ومع ذلك ، ثارت أرمينيا على الولاة المسلمين ، وحققت استقلالها ثم وقعت في أيدي بيزنطة ، إلى أن فرغ معاوية من الصراع

١٦٩

الداخلي ، وضمن الخلافة لنفسه ، وعاود الصراع مع الروم ، واستعاد أرمينيا.

وبعد أن استتب أمر الخلافة لمعاوية ، استقرت أوضاع بلاد الشام وازدهرت ، بما فيها فلسطين التي لا يرد ذكر اضطراب فيها. وحتى بعد موت معاوية ، وانتقال الخلافة إلى ابنه يزيد ، ظلت الشام على ولائها لبني أمية. ومات يزيد ، ولحق به بعد فترة قصيرة ابنه معاوية. وبرزت الفتنة الثانية ، واختلت الأمور ، وانحازت بلاد الشام إلى عبد الله بن الزبير ، ما عدا جندي فلسطين والأردن. ثم انحاز جند فلسطين إلى ابن الزبير أيضا بقيادة ناتل بن قيس (الجذامي ـ نسبة إلى قبيلة جذام) الذي وثب على روح بن زنباع (الجذامي أيضا) الذي كان عامل الأمويين في الجند ، وطرده ، بعد أن غادر حسان بن مالك (الكلبي) الجندين ـ فلسطين والأردن ـ متوجها إلى الجابية ، حيث احتشد أنصار بني أمية. وكان حسان رأس قبيلة كلب الكبيرة وتربطه بالأمويين علاقات نسب وولاء سياسي. وبعد مؤتمر الجابية ، وما تلاه ، أي معركة مرج راهط (٦٨٤ م) ، وهزيمة الضحاك بن قيس ، نصير عبد الله بن الزبير ، استعاد الأمويون زمام الأمور ، بقيادة مروان بن الحكم ، كبير بني أمية في حينه ، لكنه ليس من سلالة أبي سفيان.

وبنشاط كبير ، سيطر مروان بن الحكم على الأوضاع في الشام ومصر ، مضيقا الخناق على ابن الزبير في الحجاز. ثم ولّى ابنه عبد العزيز مصر ، وعبد الملك جندي فلسطين والأردن ، وعيّن روح بن زنباع نائبا لعبد الملك. وهرب ناتل بن قيس إلى الحجاز ، وحشد هناك جيشا عاد به إلى فلسطين ، فلقيه عبد الملك بن مروان ، وهزمه وقتله في أجنادين ، الأمر الذي ردع مصعب بن الزبير عن مواصلة مسيرته إلى فلسطين على رأس جيش آخر ، وتحوّل إلى العراق ، حيث هزمه عبد الملك وقتله أيضا. وتفرغ عبد الملك للحجاز ، فأرسل إليها الحجاج بن يوسف (الثقفي) ، فهزم ابن الزبير وقتله ، واستتب الأمر لعبد الملك كخليفة في الدولة الإسلامية الموحّدة بعد الفتنة الثانية. وفي بداية خلافة عبد الملك ، أغار الروم على مدن عسقلان وقيساريا وعكا ، فنهبوها وخربوها ، ثم عاد هذا الخليفة القوي وبناها وحصّنها ، وشحنها بالرجال ، وأنزل فيها المرابطة.

وإذا كان معاوية مؤسس ملك الأمويين ، فعبد الملك بن مروان هو الذي وطّد أركانه. وهو يكنى «أبا الملوك» ، لأنه ورّث الملك لأربعة من أبنائه من بعده ، وهم : الوليد وسليمان ويزيد وهشام. وقد عرف عبد الملك بشدة شكيمته وشخصيته الجبارة ، فاستطاع سحق الفتن في أيامه وتنظيم أمور الدولة وتعريب الديوان وصك الدنانير العربية. ومن أجل التفرغ للشؤون الداخلية ، هادن الروم ، وذهب إلى حد دفع

١٧٠

أتاوة كبيرة للإمبراطور جوستنيان الثاني. واستمر ملكه أكثر من عشرين عاما (٦٨٥ ـ ٧٠٥ م) ، قضاها في قمع الفتن وإخضاع الأقاليم المتمردة على حكمه. وبعد أن استعاد أرمينيا ، باشر في فتوح جديدة ، في الشرق والغرب. ولدى موته (٧٠٥ م) ، ورث ابنه الوليد بن عبد الملك ملكا وطيد الدعائم ، أتاح له التوجه إلى الإصلاح والعمارة ، بصورة لم يسبق لها مثيل في دولة الإسلام.

وبعد خلافة هشام بن عبد الملك (٧٢٤ ـ ٧٤٣ م) ، آخر خلفاء بني أمية الأكفاء ، راحت أوضاع الدولة الأموية تتدهور بوتيرة متسارعة. وبينما اندلع الصراع بين المتنافسين من أبناء الخلفاء على الحكم ، تفاقمت دعوة العباسيين ضدهم واشتعلت الفتن في جميع أنحاء البلاد. وكان مركز «الدعوة الهاشمية» (نسبة إلى بني هاشم) في جنوب فلسطين (الحميّمة ـ جنوب البحر الميت). وفي خضم الصراع المتعدد الأطراف ـ بين الأمويين أنفسهم ، كما بينهم وبين أعدائهم ـ ضربت وحدة قبائل بلاد الشام ، التي رعاها الخلفاء الأولون من بني أمية ، فكانت ركيزة حكمهم. وثارت العصبية القبلية ، ولحق البلاد خراب كثير ، كما قتل الكثيرون من وجوه القبائل النافذة ، الأمر الذي مهّد السبيل أمام سقوط الأمويين (٧٥٠ م) ، وبالتالي صعود العباسيين ، ونقل مركز الخلافة إلى العراق ، وبناء عليه ، تهميش بلاد الشام ، ومن ضمنها فلسطين.

السكان والعمران

إن معلوماتنا عن الوضع السكاني في فلسطين بعد الفتح العربي ضئيلة ، ومصادرها في الأغلب عراقية متأخرة ، وهي متحاملة على الأمويين بصورة عامة ، إذ كتبت تحت حكم خصومهم ـ العباسيين. والمعروف أن الفاتحين الجدد لم يقيموا في بلاد الشام أمصارا (مدنا عسكرية) ، كما فعلوا في العراق وغيره (البصرة والكوفة وعسكر مكرم والقيروان مثلا). وإذ تجمعت الجيوش بداية في الجابية ، ومن ثمّ في الرملة (اللد) ، فإنهما لم تصلا إلى ما وصلت إليه الأمصار الأخرى المعروفة من أيام الخلفاء الراشدين. والمقاتلون الذين نزلوا بلاد الشام استقروا بالمدن القائمة ، وهي كثيرة من العصر البيزنطي ، دمشق وحمص وحلب وطبرية وبيسان والقدس وغيرها على الساحل. وتفيد المصادر أن الكثيرين من سكان المدن رحلوا عنها مع الجيش البيزنطي ، بينما الريف ظل عامرا بسكانه المحليين (السوريين) ، وكذلك بالقبائل العربية الكثيرة التي استقرت بالمنطقة قبل الإسلام. وقد انتقلت أملاك النازحين وبيوتهم إلى الفاتحين ، الذين أدخلوا في معاهدات الصلح التي عقدوها مع

١٧١

سكان المدن بنودا تنصّ على إخلاء بعض المواقع والمنازل لإقامة القادة وجنودهم ، أو لإقامة المساجد.

وقد طبّق الفاتحون نصوص تلك المعاهدات ، فنزل القادة في المدن ومعهم الجنود الذين قاتلوا تحت إمرتهم ، وعائلاتهم وأتباعهم. وفي فلسطين ، نزلوا في بيسان وطبرية والقدس والرملة (اللد) والمدن الساحلية. ويذكر أن عمر بن الخطاب أسكن الجنود في القدس ، بعد أن عقد الصلح مع أهلها. وكان الخليفة قد قدم إلى الجابية ليقسم الأرض بين الفاتحين ، فأولى أمور فلسطين إلى قائدين ، لكل منهما الإمرة على نصفها. فجعل علقمة بن حكيم في الرملة (اللد) ، وعلقمة بن مجزّر في القدس ، ومع كل منهما جنوده. ومنذ البداية ، أقطع عمر ، ومن بعده عثمان ، المقاتلين أراضي في فلسطين. وتفيد المصادر أن الأراضي التي جلا عنها أصحابها أقطعت للمسلمين على اعتبار أنها ملك دولة الإسلام ، لأنها فتحت عنوة. وبينما دفع أصحاب الأراضي من غير المسلمين الذين بقوا عليها الخراج ، فإن الملّاك المسلمين الجدد دفعوا العشر فقط.

ومن القبائل العربية التي يرد ذكرها في فلسطين بعد الفتح ، ومعظمها من كهلان وقضاعة ، ما يلي :

١) غسان : وهي من أهم القبائل التي نزلت فلسطين قبل الفتح ، ثم انتشرت وتوسعت فيها بعده. وكانت غسان قد ظهرت كقوة فاعلة في المنطقة خلال العصر البيزنطي ، وانتشرت في ذروة قوتها من حدود الحجاز حتى الفرات ، ومن فلسطين حتى البادية في الشرق. وكانت منازلها في معان والبلقاء واليرموك والجولان. وقد وقفت مع معاوية في معركة صفين ، وعلى رأسها زيد بن الحرث.

٢) جذام : وكانت منازلها تمتد من شمال الحجاز إلى أيلة فالبلقاء وجنوب فلسطين وسيناء. ومنهم بنو الضبيب الذين اعتدوا على دحية بن خليفة الكلبي ، مبعوث الرسول (ص) إلى قيصر الروم. وبعد ظهور الإسلام ، قبل فروة بن عمرو الجذامي دعوة الرسول (ص) إلى الإسلام ، وكان عاملا للروم على قبيلته ، فقتلوه وصلبوه. وفي معركة مؤتة قاتلت جذام مع الروم ، وكذلك فعل بعضها في معركة اليرموك. وبعد الفتح ، انتشرت بطون جذام ما بين طبرية واللجون ، وما بين اليامون وعكا ، وكذلك ما بين القدس والرملة ، وما بين بيت جبرين وعبسان (بالقرب من غزة).

٣) لخم : وكانت قد تنصّرت في عهد البيزنطيين ثم اعتنقت الإسلام بعد

١٧٢

ظهوره. وانتشرت بطونها في مواقع متعددة من فلسطين وجوارها ـ من تبوك وشرق البحر الميت إلى الشراة والبلقاء وإلى جنوب القدس والخليل والمغار إلى رفح. ويذكر أن الرسول (ص) أقطعهم الخليل وما حولها من قرى وبساتين. وقد وقف بعضهم مع الروم في مؤتة واليرموك ، ثم انحازوا إلى المسلمين ، وانتشروا بعد الفتح بين نابلس والرملة.

٤) عاملة : وكانت في جنوب شرق البحر الميت عند ظهور الإسلام ، وأسوة بغيرها وقفت بداية مع الروم ، ثم انحازت إلى المسلمين. وانتقلت بعد الفتح إلى جبال الجليل الأعلى الشمالية ، فعرفت باسمها جبال عاملة (عامل). وكانت من أنصار بني أمية ، ورئيسها ثعلبة بن سلامة العاملي ، ولي جند الأردن أيام مروان بن محمد ، آخر خلفاء الأمويين ، وقتله العباسيون معه.

٥) كندة : وكانت منازلها (أيام ملكها) في دومة الجندل (الجوف) وتبوك ، ثم انتشرت في البلقاء وشرق الأردن. ومن كندة الشاعر امرؤ القيس ، وأكيدر بن عبد المالك ، صاحب دومة الجندل الذي صالح الرسول (ص) في غزوة تبوك ، والحصين بن نمير السكوني ، الذي حاصر مكة أيام الصراع بين يزيد بن معاوية وعبد الله بن الزبير ، ورجاء بن حيوة فقيه الشام ، ووكيل عبد الملك في بناء قبة الصخرة في القدس ، وكان له دور في تأمين البيعة للخليفة الورع عمر بن عبد العزيز (٧١٧ ـ ٧٢٠ م) ، وذلك بعد موت سليمان بن عبد الملك وتصاعد التململ بين الناس على حكم بني أمية.

٦) كلب : وكانت حليفة للغساسنة ، وانتشرت من تبوك إلى دومة الجندل وبادية السماوة وأطراف الشام. وبرز منها في الإسلام زيد بن حارثة ، مولى الرسول (ص) ، وابنه أسامة بن زيد ، وكذلك دحية بن خليفة ، مبعوث الرسول (ص) إلى قيصر الروم. وقد علا شأن كلب أيام الأمويين ، فكانت لها الغلبة في جنوب الشام وجند الأردن. فتزوج معاوية ميسون بنت بحدل الكلبية ، وهي أم ابنه يزيد ، وكانت شاعرة. ومن أبرز قادتها حسان بن مالك بن بحدل الذي ولي جند فلسطين أيام معاوية ويزيد ، وإليه يعود الفضل في البيعة لمروان بن الحكم ولأولاده من بعده. وينسب إلى كلب بنو عامر الذين نزلوا المرج فعرف باسمهم ، مرج بني عامر.

ومن القبائل الأخرى التي دخلت فلسطين واستقرت بها جزئيا أو كليا : بهراء وبلي والقين وجرم وعذرة والأزد وخثعم وهمدان ومذحج والأشعريون والسكاسك وكنانة وثقيف وهذيل وغيرها.

١٧٣

وتذكر المصادر عددا كبيرا من الصحابة ـ مهاجرين وأنصار ـ ممن وفد إلى فلسطين بصورة فردية ، واستقر بها مع مواليه. فنزل بعض بني هاشم في أذرح ؛ وبني عبد الله بن عباس في الحميّمة ، كما أقام عدد من بني أمية في أيلة ومعان والبلقاء ووادي الأردن والساحل وبئر السبع. وكذلك نزلت جماعة من بني مخزوم في منطقة غزة. وإلى جانب كل قبيلة عربية كان هناك الموالي المنتسبون إليها ، بسبب إسلامهم ، وهم من غير العرب ، أي من السكان الأصليين الذين استقروا بالبلاد قبل الفتح ، ومعظمهم من الأراميين والسريان ، الذين أسلموا ، ودخلوا في حلف مع القبائل العربية لتثبيت موقع لهم في التركيب الاجتماعي ـ السياسي الجديد ، فأصبحوا ينتسبون إلى تلك القبائل بالولاء. وكان منهم التجار والكتّاب والفلاحون والحرفيون والعمال .. إلخ. وقد برز بعضهم وتولى مناصب مهمة في الدولة والجيش. ومنهم من تفرغ للعلم ، وبلغ مرتبة رفيعة فيه ، وحتى في العلوم الإسلامية والعربية ، فضلا عن العلوم الأخرى.

أمّا من لم يعتنق الإسلام فقد ظل في عداد أهل الذمة ، وكان عليه أن يدفع الجزية لقاء الحماية التي تؤمنها له دولة الإسلام. ويصعب تقدير عدد هؤلاء ، إلّا إن الإشارات إليهم متوفرة. وإضافة إلى حرية العبادة التي ضمنتها لهم الخلافة ، فقد تمتعوا بحق العمل ـ الزراعي والصناعي والتجاري ـ وحتى في دواوين الدولة ، وخصوصا في المرحلة الأولى ، قبل أن يعرّب عبد الملك بن مروان الديوان (الخراج بصورة خاصة). وهذا يعني أنه إلى ذلك الحين ، ظلت سجلات الدولة (وخصوصا الشؤون الضريبية) باللغة السريانية ، وظل موظفو مثل هذه الإدارات من أهل البلد الأصليين. وقد استعمل بنو أمية عمالا من النصارى ، وصلوا إلى أعلى المراتب ، ومنهم سرجون بن منصور ، رئيس الديوان أيام معاوية وابنه يوحنا بن سرجون (يوحنا الدمشقي) وكانا في خدمة معاوية وابنه يزيد. وكانت قبائل العرب النصرانية تتمتع بموقع متميّز عن أهل الذمة ، ومنها من تشبث بديانته لفترة طويلة ، كقبيلة تغلب مثلا ، مع أن رجالها شاركوا في الفتوحات.

ونعمت فلسطين في عهد الأمويين ، وخصوصا في أيام عبد الملك ، بالرخاء والازدهار ، كما أقيمت فيها العمارات الجميلة والفخمة. ففي أيام صراعه مع ابن الزبير ، بنى عبد الملك قبة الصخرة المشرفة في القدس سنة ٦٩١ م. ويقال إنه أراد بها صرف الحج عن مكة والمدينة إليها. ثم تبعه ابنه الوليد ، فأقام المسجد الأقصى ، بجوار قبة الصخرة. كما أقام المسجد الأموي مكان كنيسة القديس يوحنا في دمشق ، وأعاد بناء الكعبة والمسجد الحرام ، وكذلك مسجد النبي (ص) في المدينة المنورة.

١٧٤

ففي أيام الوليد بن عبد الملك ، أقوى خلفاء بني أمية ، أقيمت أجمل العمارات وأفخمها ، وفي النواحي جميعها من الديار الإسلامية. وهذه الديار بلغت في أيامه ذروة اتساعها ، إذ وصلت بفعل نشاط الحجاج بن يوسف الثقفي إلى حدود الصين في الشرق ، وإلى الأندلس في الغرب ، بفعل نشاط موسى بن نصير (الذي يعود نسبه إلى آل نصير ، وهم من سبي الخليل ، أعتقهم الأمويون ، فصاروا من مواليهم).

وفي أيام الوليد ، ولي فلسطين أخوه وولي عهده ، سليمان بن عبد الملك. فاختطّ فيها مدينة الرملة ، بالقرب من اللد ـ عاصمة الجند ، ونقل عاصمته إليها ، وبنى فيها قصرا ومسجدا وحفر آبارا وبنى قنوات تجر إليها المياه ، فانتقل إليها الناس من بعده ، فعمرت الرملة على حساب اللد. وبقي سليمان فيها ، حتى عندما أصبح خليفة ، إذ لا هو أحب الشام ، ولا أهلها أحبوه. وفي نواحي فلسطين المتعددة ، أقام الأمويون ، أسوة بالغساسنة ، القصور والمشاتي في أطراف البوادي وغور الأردن ، للاستراحة والاستجمام والصيد واللهو. فبالقرب من بحرية طبرية ، أقام معاوية المشتى الجميل ، ونزله ابنه يزيد. وأقام الوليد قصر عمرة الفاخر بالقرب من البحر الميت ، كما بنى هشام قصرا له في أريحا ، وغير ذلك كثير في سورية والأردن والجزيرة.

وتميّزت هذه القصور بفنها المعماري الجميل ، الذي مزج بين التراث البيزنطي والشرقي العربي.

ثالثا : العصر العباسي

بسقوط الدولة الأموية ، وقيام الدولة العباسية على أنقاضها ، فقدت بلاد الشام ، ومعها فلسطين ، مجدها. لقد انتقل مركز الخلافة إلى الشرق ـ العراق ـ وتحوّل المركز السابق إلى ولاية مغمورة ، همّ السلطة الجديدة اقتلاع كل مظاهر سؤددها الماضي ، وقمع كل محاولة لاستعادة شيء منه. ولأن بلاد الشام كانت عضد الأمويين ، وحتى في ساعة محنتهم ، فقد قسا عليها العباسيون ، وعملوا على تحطيمها ، وضرب القاعدة المادية والبشرية التي استند إليها الأمويون. فحتى آخر أيامهم ، ولأسباب ذاتية وموضوعية ، ظل الأمويون متمسكين بمشروعهم في ميراث الدولة البيزنطية ، وجعلوا بلاد الشام قاعدة انطلاقهم لتجسيد هدفهم المركزي ، بينما رأوا في بقية الولايات ، بما فيها القطبين التقليديين في الشرق ـ مصر والعراق ـ موارد مداخيل تسخّر في خدمة الهدف الذي تقوده بلاد الشام. وبسقوط بني أمية سقط مشروعهم ، وبالتالي فقد تدهورت أوضاع قاعدة ذلك المشروع ـ بلاد الشام.

وبقيام دولة العباسيين تغيّر المشروع ، شكلا ومضمونا ، فتبدلت القاعدة وتغيّرت

١٧٥

الأدوات ، وفي الحالتين على حساب بلاد الشام ، أرضا وشعبا. وقد استفاقت هذه البلاد على الانقلاب بعد فوات الأوان ، وباءت المحاولات اليائسة لاستعادة الموقع المرموق ، ولو جزئيا ، بالفشل ، ولم تجدها الطفرات العفوية المتكررة في هذا السبيل فتيلا. وفي الشرق ، كما في الغرب ، قدمت طروحات متعددة لأسباب هذا الانقلاب ومغزاه. فكان من رأى فيه انتصارا للفرس على العرب ، أو حلولا للإسلام محل العروبة كأساس للعلاقات بين الناس ، كما بينهم وبين الدولة ، أو ثأرا للعراق من سورية على ما لحقه منها أيام الأمويين ... إلخ. ومهما يكن الأمر ، فالواضح أن قيام الدولة العباسية لم يكن مجرد تبدل في السلالة الحاكمة فحسب ، ولا انتقالا لعاصمة الخلافة ، بل تجاوز ذلك بكثير.

فوصول بني العباس إلى الخلافة لم يكن نتيجة انقلاب في القمة ، أو صراع محصور في الطبقة الحاكمة ، بل جاء تتويجا لعمل طويل من الدعوة في جميع أرجاء أرض الخلافة ، وخصوصا في الأطراف الشرقية ، مع أن الرأس المدبر كان في فلسطين ـ الحميّمة. وقد استغل الدعاة الثغرات في الحكم الأموي والأزمات التي انتابته ، داخليا وخارجيا. وعندما رفع أبو مسلم الخراساني ـ داعية العباسيين في خراسان ، في الطرف الشرقي من أرض الخلافة ـ العلم العباسي الأسود ، اندلعت معارك دموية ، واكبت مسيرة الثورة من خراسان إلى مصر ، وكانت فلسطين إحدى محطاتها الدرامية. ولدى اقتراب ساعة الحسم ، اتخذت المعارك طابع الإبادة. وغالى العباسيون في مطاردة فلول بني أمية وأعوانهم وتصفيتهم. وصولا إلى أعالي مصر لقتل آخر خلفاء بني أمية ، الأمير المقاتل ، مروان بن محمد ، الملقب «الحمار» لصبره على الشدائد ، سنة ٧٥٠ م.

ومن مركز الدعوة الهاشمية في الحميّمة من أرض فلسطين ، التي كان عبد الملك بن مروان أقطعها إلى علي بن عبد الله بن عباس ، وبينما حبل الأمن في بلاد الشام يضطرب كنتيجة مباشرة للصراع بين أدعياء الخلافة من بني أمية ، وحالة من التمرد تجتاح الكثير من الولايات ، بفضل الخوارج أصلا ، نشط محمد بن علي العباسي في الدعوة ضد الأمويين. وبعد وفاته تابع ابنه إبراهيم عمله ، لكن الخليفة مروان بن محمد قبض عليه وأعدمه ، بعد أن وقع في يده كتاب من إبراهيم إلى داعيته أبي مسلم الخراساني ، يحثه فيه على الثورة. وكان إبراهيم قد أوصى بخلافته إلى أخيه أبي العباس (السفاح). وعندما وصلت جحافل خراسان ، بقيادة أبي مسلم ، إلى الكوفة سنة ٧٤٩ م ، بويع أبو العباس خليفة فيها. وبدأت مرحلة الحسم العسكري ، إذ أصبح هناك خليفتان ـ أحدهما في الكوفة ، والآخر في دمشق. وكانت معركة الزاب

١٧٦

(٧٥٠ م) ، وهزم مروان بن محمد ، واتّجه إلى الأردن ، ففلسطين ، فمصر ، حيث قتل في صعيدها.

فبعد معركة الزاب ، انسحب مروان ، المعروف بجلده على تحمل مكاره القتال إلى حرّان ، ومنها إلى دمشق فالأردن ، حيث واثبه هاشم بن عمر العنسي ، ومعه بنو مذحج ، بينما انضم إليه ثعلبة بن سلامة العاملي. ثم قدم فلسطين ، فثار عليه ضبعان بن روح بن زنباع الجذامي ، وانتصر له يزيد بن روح بن زنباع الجذامي ، ونزل مروان بجيشه في أبي فطرس (أنتيباترس ـ رأس العين) ، ومنها هرب إلى مصر حيث قتل. وسار عبد الله بن علي العباسي في إثره ، فاستسلم له جند الأردن ، ثم تبعه جند فلسطين ، من دون قتال يذكر. ومع ذلك ، أعمل عبد الله السيف في رقاب فلول بني أمية وأنصارهم. ويروى أنه ذبح ثمانين (وفي رواية اثنين وسبعين) من وجوه بني أمية في رأس العين ، بعد أن دعاهم إلى مقابلته ، وطمأنهم على أرواحهم وأملاكهم ، لكنه غدر بهم ، وفرش بساطا على جثثهم ، وجلس عليه مع صحبه يتناول طعامه وشرابه. ويتضح من المصادر المتوفرة ، وهي كلها بالطبع عربية عراقية المنشأ ، وفيها تباين في الروايات ، أن عرب الشام لم يقفوا كلهم بحزم إلى جانب الأمويين في ساعة محنتهم ، ولعل جملة من الأسباب تكمن وراء ذلك. فالمشروع الأموي للقضاء على بيزنطة لم يتحقق ، وإنما راوح مكانه بعد النجاحات الأولى. والهزيمة التي ألحقها الروم بجيش مسلمة بن عبد الملك ، في أيام أخيه سليمان (٧١٥ ـ ٧١٧ م) ، على أسوار القسطنطينية كانت عالية الكلفة بالمال والرجال. وكان من نتيجتها ازدياد حدة التململ بين الناس ، وبالتالي مبايعة عمر بن عبد العزيز خليفة ، لامتصاص النقمة. ولكن أبناء عبد الملك عادوا إلى الحكم ، وبعد موت هشام ، استشرى الفساد في جهاز الدولة ، ودبت الفوضى في البلاط الأموي ، وانفضّ الناس من حولهم. وهناك أيضا سبب موضوعي ، وهو انتقال ثقل الدولة الإسلامية إلى الشرق ، ذي التراث الفارسي ، بعد زوال الإمبراطورية الساسانية ، واعتناق شعوبها الإسلام ، فأصبحوا الأغلبية الساحقة من السكان. والدولة العباسية ، شكلا ومضمونا ، هي تعبير عن هذه التحوّلات.

والتحوّلات التي واكبت قيام الدولة العباسية ، جعلت من بلاد الشام ولاية يجب تطويعها ، بعد أن كانت قاعدة لسلطة تسعى لتطويرها. وإضافة إلى سياسة البطش والعسف التي سلكها العباسيون في بداية حكمهم لاقتلاع أثر الأمويين وإخضاع بلاد الشام ، فقد عمدوا إلى استغلال التناقض بين القبائل فيها ، وإذكاء النعرات بين اليمانية والقيسية. وفي البداية قربوا اليمانية ، كونهم الأقوى ، ثمّ ما لبثوا أن انقلبوا عليهم لإضعافهم ، فاستمالوا القيسية. والولاية التي فقدت امتيازاتها السابقة ، عانت كثيرا من

١٧٧

التضييق السياسي والاقتصادي ، الأمر الذي أدّى إلى التململ ، وتحيّن الفرص للتمرد والثورة. وقد شهدت بلاد الشام ، بما فيها فلسطين ، عددا من الثورات منذ بداية العصر العباسي ، كان طابعها العام محاولات القبائل العربية استعادة موقعها في الدولة ، الذي فقدته بزوال الأمويين.

لقد استطاع عبد الله بن علي إخضاع بلاد الشام بيد من حديد ، وبالتالي تثبيت حكم العباسيين فيها ، وإكراه الناس على بيعة أبي العباس السفاح (٧٥٠ ـ ٧٥٤ م). ولكن ما أن توفي الخليفة حتى قام في فلسطين أحد أحفاد روح بن زنباع الجذامي ، يدعو بالخلافة إلى أمير أموي ، هشام بن يزيد ، فقمعها صالح بن علي ، عامل أبي جعفر المنصور (٧٥٤ ـ ٧٧٥ م) على مصر. ثمّ نشبت ثورة أخرى أيام هارون الرشيد (٧٨٦ ـ ٨٠٨ م) ، قادها في جنوب فلسطين أبو النداء (٨٠٥ م) ، فقمعت أيضا. وفي خلافة الأمين (٨٠٨ ـ ٨١٣ م) ، نشبت ثورة السفياني في دمشق ، وامتدت إلى فلسطين. وفي خلافة المأمون (٨١٣ ـ ٨٣٣ م) اندلعت ثورة نصر بن شبث العقيلي (٨١٣ م) ، ودامت ١٣ عاما ، قبل أن تسحق (٨٢٥ م). وفي أيام المعتصم (٨٣٣ ـ ٨٤١ م) ، الذي أسقط عرب الشام من ديوان العطاء ، قامت ثورة المبرقع اليماني الفلاحية ، لأسباب سياسية واقتصادية.

وهذه الثورات وغيرها في فلسطين وبلاد الشام عامة ، خلال القرن الأول من حكم العباسيين ، تشير إلى حالة التململ التي سادت هذه الولاية بعد سقوط الأمويين. وقد ألصق الكثير من هذه الثورات باسم أحد أفراد البيت الأموي ، حقيقة أو زيفا ، لما كان يتمتع به هؤلاء من ولاء بين عرب الشام. لقد عاد عرب الشام ، بعد أن استفاقوا على تدهور أوضاعهم نتيجة الحكم العباسي ، محاولين استعادة موقعهم الذي فقدوه ، ولكن من دون جدوى. فدخلت الولاية في مسار من تردّي الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية ، وساءت الحالة على تلك الصعد جميعا. وتواكب ذلك مع تراجع هيبة الخلافة في بغداد ، بعد بروز العنصر التركي العسكري ، الذي استقدمه المعتصم ، واستند إليه في حكمه. كما تزامن مع بروز نزعة الاستقلالية في الولايات البعيدة ، في الشرق كما في الغرب. وبالنسبة إلى فلسطين ، تكتسب التطورات في مصر أهمية قصوى ، أيام الطولونيين والإخشيديين ولاحقا في أيام الفاطميين.

فمنذ البداية ، فقد العباسيون الأندلس ، إذ فرّ إليها صقر قريش ، الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية ، الملقب الداخل ، وأسس الخلافة الأموية المزدهرة هناك. ثمّ ما لبث الإدريسيون أن أسسوا دولتهم في المغرب (٧٨٨ ـ ٩٧٤ م) ، واستقلوا عن

١٧٨

بغداد. وتبعهم الأغالبة (٨٠٠ ـ ٩٠٩ م) في تونس ، إلى أن قامت الدولة الفاطمية هناك. وفي الشرق قامت عدة إمارات وسلطنات ، منها من فرض هيمنته على دار الخلافة نفسها. أمّا في مصر ، فقامت دولة الطولونيين (٨٦٨ ـ ٩٠٥ م) ، ومدت سلطانها على فلسطين وبلاد الشام. ثم تلا سقوطها قيام سلالة أخرى ، هي الإخشيدية (٩٣٩ ـ ٩٦٩ م) ، وسيطرت على فلسطين ، إلى أن قضى عليها الفاطميون.

وكان أحمد بن طولون تركي الأصل ، ولاه الخليفة العباسي مصر ، ثم ما لبث في أيام المعتمد (٨٧٠ ـ ٨٩٢ م) أن أعلن استقلاله برفضه إرسال خراج مصر إلى بغداد. وبعد أن استتب له الأمر هناك ، عمل على توسيع سلطانه في بلاد الشام. وانتهز فرصة اندلاع الفوضى في فلسطين ، إذ نشب قتال بين قبيلتي لخم وجذام ، وخرج واليها (ابن الشيخ) على إرادة الخليفة ، فاحتل ولاية الشام إلى حدود الجزيرة. وبعد موته (٨٨٤ م) ، خلفه ابنه خمارويه ، فثار عليه بعض أعوان أبيه ، واندلع القتال بتحريض من الخليفة العباسي عليه. لكن خمارويه ، بعد هزيمة لحقت به في دمشق ، استطاع أن يصمد في فلسطين (الرملة) ، وأن يصد أعداءه ، ويستعيد سلطته على ولاية الشام ، فأقرّه الخليفة الموفّق عليها سنة ٨٨٦ م.

واشتهر خمارويه بالبذخ ، فزوّج ابنته قطر الندى للخليفة المعتضد. وبعد مقتله في دمشق سنة ٨٩٥ م دبّ الخلاف في أسرته ، وعمت الفوضى بلاد الشام ومصر ، وانتهزت القبائل الفرصة وتمرّدت على السلطة. كما استغل القرامطة حالة الفوضى ، ونشطوا في نشر دعوتهم في بلاد الشام ، واستقر بعض دعاتهم بقصبة فلسطين ـ الرملة. وخلال أربعين عاما تقريبا ، ظلت فلسطين ساحة قتال ، تارة بين الولاة الأتراك ، وأخرى بين القبائل العربية ؛ وتارة بين السلطة والقرامطة ، وأخرى بين السلطة والخارجين عليها من ولاتها. وجرّاء الفوضى لحق بالبلاد الخراب واختلال الأمن ، إلى أن استطاع الإخشيديون (٩٣٥ ـ ٩٦٩ م) السيطرة على الوضع ، واستلام السلطة في مصر وبلاد الشام ، بعهد من الخليفة.

والإخشيديون من الأتراك الذين استقدمهم المعتصم. ثم دخلوا في خدمة الطولونيين أيام خمارويه. وبرز منهم محمد بن طغج المعروف بالإخشيد ، وكان قد ولي طبرية ، فهزم جمعا من لخم وجذام تعرض لقافلة حجاج شامية ، فعلا شأنه. وولاه الخليفة الراضي مصر والشام سنة ٩٣٥ م ، فاستطاع فرض سلطته عليهما بعد فترة من الفوضى عمّتهما. ثم ما لبث أن اصطدم بمحمد بن رائق ، أمير الأمراء السابق في بغداد الذي وصل إلى دمشق وأعلن سلطانه عليها. ثم تصالحا على أن تكون الشام لابن رائق ، ومصر للإخشيد. وبعد مقتل ابن رائق في معركة مع الحمدانيين سنة

١٧٩

٩٤٢ م سار الإخشيد إلى دمشق وفتحها. ووقعت بينه وبين الحمدانيين معارك ، انتهت إلى الصلح. وتزوج سيف الدولة الحمداني ابنة أخي الإخشيد ، واتفقا على أن تكون حلب وأنطاكيا وحمص لسيف الدولة ، وبقية بلاد الشام للإخشيد ، الذي مات سنة ٩٤٦ م ، ودفن في القدس ، بوصية منه.

وولي على الشام ومصر بعد الإخشيد ابنه أبو القاسم أنوجور (٩٤٦ ـ ٩٦٠ م). وفي أيامه وقعت معارك بينه وبين سيف الدولة الحمداني ، دارت في فلسطين ، أولا بالقرب من الرملة ، ثم في اللجون ، وهزم سيف الدولة ، ودعا إلى الصلح ، فتم على الشروط التي كانت قائمة أيام الإخشيد. ومات أنوجور ، وحمل إلى القدس ودفن هناك. وتولى الحكم بعده كافور الإخشيدي (أستاذه) ، بداية كوصي على ابنه ، ولاحقا كوال. ومات كافور سنة ٩٦٨ م ، ودفن في القدس أيضا. وبعد موته بفترة قصيرة ، دخل الفاطميون مصر ، بقيادة جوهر الصقلي ، أمير جيوش الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله وقضوا على حكم الإخشيديين هناك (٩٦٩ م).

ومن الواضح أن بلاد الشام عامة شهدت حالة من التراجع الكبير بعد قيام الدولة العباسية. غير أن عرب الشام لم يسلّموا بهذا المصير ، وحاولوا الحفاظ على مكتسباتهم من أيام الأمويين ، ولكن بعد أن فقدوا الشروط الموضوعية والذاتية لذلك. وبناء عليه ، فقد بذلوا جهودا مضنية من دون مردود يذكر ، الأمر الذي عمق أزمة الولاية. وعندما كان العباسيون في ذروة قوتهم ، قمعوا تحركات أهل الشام بعنف ، فضعف هؤلاء ، ولم يكن عرب الشام في وضع يسمح لهم بتشكيل البديل ، وإنما انصرفوا إلى الصراعات الداخلية التي قامت بين ولاة الأجناد أو القبائل وغير ذلك. ومنذ أن بدأت نزعة الاستقلال تبرز في مصر ، وقعت بلاد الشام ، وخصوصا الجزء الجنوبي منها ـ فلسطين ـ بين مطرقة مصر وسندان العراق مرة أخرى ، وساءت أحوالها أكثر.

ومبكرا في حكمهم الطويل ، تخلى العباسيون عن فكرة استكمال المشروع الأموي باحتلال القسطنطينية. وفي الواقع ، فإنه بعد حملة مسلمة الشهيرة ، وحصار القسطنطينية في أيام الإمبراطور ليو الثالث ، السوري الأصل ، وفشل العرب في احتلالها واضطرارهم إلى الانسحاب (٧١٨ م) ، لم تجر محاولات جادة لإسقاط المدينة «التي يحرسها الله» ، كما يقول البيزنطيون. وعلى العكس ، فقد انتهز هؤلاء فرصة الانقلاب العباسي ، وراحوا يعملون على توسيع حدودهم في الشرق ، الأمر الذي اضطر العباسيين إلى الرد. ففي أيام المهدي (٧٧٥ ـ ٧٨٥ م) ، قام ابنه هارون الرشيد سنة ٧٨٢ م بغزوة كبيرة ، وأوغل في بلاد الروم ، وحاصر القسطنطينية ، وأجبر

١٨٠