الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

الوجود القومي ، الذي هو السبيل لإخراجهم من حالة الاغتراب التي يعيشونها بين ظهراني تلك الشعوب المحيطة بهم.

وفي ربيع سنة ١٨٨٢ م تشكلت في روسيا أول حركة استيطانية صهيونية ، هي حركة «بيلو» ، التي اشتق اسمها من الأحرف الأولى للكلمات العبرية «بيت يعقوف لخو فنلخا» (سفر أشعيا ٢ / ٥) ، والتي تعني «هيا يا بيت يعقوب لنمضي معا» ، والترجمة الرسمية لها في التوراة (العربية) «يا بيت يعقوب هلمّ فنسلك في نور الرب.» وكان أعضاء الحركة من طلاب جامعة خاركوف الروسية. ووصل فريق طلائعي منهم إلى يافا في صيف سنة ١٨٨٢ ، ثم تبعته جماعات أخرى. في المقابل ، انتشر عدد من أعضاء الحركة في أرجاء روسيا لتأسيس فروع أخرى لها. وأسست الحركة مكتبا رئيسيا في خاركوف ، كما أجرت اتصالا مع السير موزس مونتفيوري ولورنس أوليفانت في بريطانيا ، للحصول على دعمهما المادي والمعنوي والسياسي لمبادرة الاستيطان في فلسطين. ثم أقامت مكتبين آخرين في أوديسا وإستنبول ، الأول لتنظيم الهجرة ، والثاني للعمل في العاصمة العثمانية ، وعبر قناصل الدول الأجنبية ، وخصوصا بريطانيا ، على نيل الموافقة العثمانية على شراء الأراضي في فلسطين وتوطين المهاجرين الصهيونيين عليها.

بذلك بدأت الهجرة الصهيونية الأولى ، التي انطلقت تحت اسم بيلو ، ثم غيرته إلى أحباء صهيون (١٨٨٧ م) ، في روسيا ورومانيا وبولونيا. وفي سنة ١٨٨٢ م أسس المهاجرون ثلاث مستعمرات ، هي : ريشون لتسيون (الأولى في صهيون) ، بالقرب من عيون قارة في السهل الساحلي إلى الجنوب من يافا وزخرون يعقوف (زمارين) ، في سفوح جبال الكرمل الجنوبية الشرقية وروش بينا (رأس الزاوية) ، بالقرب من الجاعونة ، بين طبرية وصفد ، والتي بناها مستوطنون من رومانيا. وفي السنة التالية ، أقاموا يسود همعلا على شاطيء بحيرة الحولة ونيس تسيونا في الساحل الجنوبي ، وكذلك جددوا الاستيطان في بيتح تكفا (ملبّس). وفي سنة ١٨٨٤ م أقاموا مستعمرة غديرا (قطرة) في السهل الساحلي الجنوبي. وبعد توقف دام ستة أعوام ، عادت حركة الاستيطان ، وتجددت لفترة قصيرة (١٨٩٠ ـ ١٨٩١ م) ، إذ أسست مستعمرة رحوفوت (ديران) ، إلى الجنوب من يافا ، وموتسا بالقرب من القدس ، وحديرا (الخضيرة) بين يافا وحيفا (١٨٩٤ م). ولاحقا (١٨٩٦ م) ، أقيمت مستعمرة بئير طوفيا (قسطينة) في الجنوب ومتولا (المطلة) في أقصى الشمال.

وحركة أحباء صهيون ، التي كان العامل الخارجي ـ الاضطهاد الروسي ـ الأكثر فعلا في نشوئها ، تطلعت إلى إنشاء مركز قومي يهودي في فلسطين ، عبر الاستيطان.

٣٢١

وبإقدامها على الخطوة الأولى بالهجرة والاستيطان ، دشنت مرحلة جديدة في الصهيونية ـ انتقالها من حيز الفكرة إلى صعيد التطبيق العملي. وتتالت بعدها الهجرات في الفترات التالية : الثانية (١٩٠٤ ـ ١٩١٤ م) والثالثة (١٩١٩ ـ ١٩٢٣ م) والرابعة (١٩٢٤ ـ ١٩٣١ م) والخامسة (١٩٣٢ ـ ١٩٣٩ م) والسادسة (خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها إلى ١٩٤٨ م) والسابعة (بعد ذلك). وكل هجرة منها تحددت إنجازاتها بحسب أهدافها والأوضاع التي واكبتها وقدرة مؤسساتها على تجسيد المشروع الصهيوني ؛ أيديولوجيا بتجنيد اليهود للهجرة ، وسياسيا بالحصول على دعم القوى الكبرى ، وعمليا بتعزيز الاستيطان اليهودي في فلسطين. أمّا الهجرة الأولى ، فقد اصطدمت بعقبات كبيرة ذاتية وموضوعية ، وضعتها على حافة الانهيار ، الأمر الذي أحبط آمال المستوطنين ، ولكنه شجع النشاط السياسي في المراكز الإمبريالية ، عبر استغلال التطورات والأحداث الكبيرة على المسرح العالمي.

لقد بنت حركة بيلو آمالا كبيرة على نجاحها ، الذي لو تحقق لشكلت قدوة ليهود العالم ، كما اعتقدت ، وبالتالي يقوم «المركز القومي اليهودي». ولكنها ما لبثت أن انطلقت حتى تعرقلت ، سواء لأسباب ذاتية ـ قلة المهاجرين وندرة الموارد المالية وغياب الخبرة في العمل الجديد ـ أو لأسباب موضوعية ـ المعارضة العثمانية والمقاومة العربية. فانتقال المستوطنين إلى حياة جديدة متباينة جذريا ، وفي أرض غريبة عنهم ، أصابهم بخيبة أمل مريرة. وكان عليهم أن يبدأوا من الصفر ، في عمل تنقصهم فيه الخبرة ، وحتى الأهلية الجسدية والنفسية ، ولم يكونوا مهيئين ، لا جسديا ولا نفسيا أو معرفيا ، للصمود أمام متطلبات الواقع الجديد. لقد جاؤوا من المدن ، ومن أوساط البورجوازية الصغيرة ، ليعملوا في الزراعة في أوضاع مناخية وإقليمية لم يعتادوا عليها. ودبت فيهم الأمراض التي تنقصهم المناعة الذاتية ضدها ـ الملاريا. وفي المقابل ، فرضت السلطات العثمانية قيودا صعبة على تحركهم ، خوفا من ازدياد نفوذ الدول الأوروبية في أراضي السلطنة. فحظرت عليهم شراء الأراضي وبناء البيوت ، وكان عليهم الالتفاف على القوانين بأساليب ملتوية. وكذلك كان على المستوطنين أن يحموا أنفسهم وممتلكاتهم إزاء المقاومة العربية ، إذ رأى السكان المحليون فيهم عنصرا غريبا ، يسعى لإزاحتهم من أراضيهم والحلول مكانهم.

وبينما هذه المستعمرات على حافة الانهيار ، انبرى البارون إدموند دو روتشيلد لإنقاذها ، وبالتالي وضع اليد عليها. فاعتمد الموظفون الذين أرسلهم أسلوب عمل الفرنسيين في شمال إفريقيا «الكولون». وفي سنة ١٨٨٣ م أقام البارون مستعمرة عقرون ، وأرسل مرشدين لتدريب المستوطنين في فروع الزراعة. وقد تطور هذا

٣٢٢

الإرشاد والدعم المادي إلى تولي موظفي البارون المسؤولية عن عملية الإنتاج ، وتحويل المستوطنين إلى عمال مأجورين خاسرين ، يدفع لهم البارون مخصصات بحسب عدد أفراد العائلة ، وليس بحسب إنتاجها ، وبالتالي اتخذ هذا الاستغلال طابع العمل الخيري ، الذي لم يلبث أن كشر عن أنيابه ، بفعل فساد موظفي البارون. وانهارت المثل التي حملها المستوطنون من أحباء صهيون ، وخضع البعض إلى إرادة الموظفين ، وسلك سبيل التدليس لهم والانتهازية ، بينما تمرد البعض الآخر ، فقمع بقسوة. وقد حدث ذلك بعد زيارة البارون لهذه المستعمرات (١٨٨٧ م) ، وتوجيهه النقد الشديد للمستوطنين على تدني مستوى عملهم وإنتاجهم.

وفي المؤتمر الرابع لحركة أحباء صهيون (١٨٩٠ م) في أوديسا ، أخذ المؤتمرون علما بأمرين مهمين : ١) تخفيف السلطة العثمانية القيود المفروضة على هجرة اليهود إلى فلسطين والاستيطان فيها ؛ ٢) موافقة الحكومتين ، الروسية والرومانية على الترخيص القانوني لحركة أحباء صهيون ، وعلى دستورها ونشاطاتها. وقد تمّ ذلك عبر تدخل الولايات المتحدة النشط لدى الباب العالي وحكومتي روسيا ورومانيا ، دعما للحركة الصهيونية في توطين اليهود بفلسطين ، ودرءا لتوجه أعداد كبيرة منهم إلى الولايات المتحدة. فانتعشت حركة أحباء صهيون مجددا ، وشكلت لجنة مركزية بقيادة بنسكر ، وفتحت لها مكتبا لشراء الأراضي في يافا ، وعادت الهجرة اليهودية تتدفق على فلسطين (١٨٩٠ ـ ١٨٩١ م) ، الأمر الذي دعا السلطات العثمانية إلى إعادة النظر في قرارها تخفيف القيود على تلك الهجرة. وقد أدّى احتجاج السكان المحليين وممثليهم في البرلمان التركي ، دورا بالتأثير على الباب العالي لاتخاذ قرار العدول عن السماح بهجرة يهود روسيا إلى فلسطين.

وإزاء رفض الحكومة العثمانية السماح للمهاجرين اليهود بالاستيطان في فلسطين بحرية ، وإصدارها التعليمات إلى متصرف القدس بالعمل على منع وصولهم إليها والإقامة فيها ، سارعت قيادة العمل الصهيوني إلى الاتصال بالوزراء العثمانيين ، عبر قناصل الدول الأجنبية في إستنبول ومنهم السفير الأميركي ، لرفع القيود عن هجرة اليهود إلى فلسطين. وبوسائل شتى ، منها الرشاوى ، جرى الالتفاف على هذا الحظر العثماني ، وصار المهاجرون يصلون إلى فلسطين بصفتهم حجاجا. وهناك ، عبر تدخل القناصل الأجانب ، ومنهم الأميركي ، وباستغلالهم فساد الموظفين العثمانيين ، وقابليتهم للرشوة ، استطاع عدد كبير من هؤلاء «الحجاج» وسواهم ممن دخل البلاد خلسة ، البقاء فيها. ومع أن الموقف الرسمي العثماني بقي من سنة ١٨٨١ م إلى سنة ١٩١٧ م يعارض الهجرة اليهودية تحت لواء الصهيونية إلى فلسطين بصورة عامة ،

٣٢٣

إلّا إن التدابير العملية التي اتخذتها الإدارات المحلية ، وأحيانا بإيحاء من المركز ، لم تثبت فعاليتها في إيقاف تلك الهجرة.

وفضلا عن عامل التدخل الأجنبي في إستنبول وموسكو وبوخارست ، في تنشيط الهجرة اليهودية مجددا إلى فلسطين (١٨٩٠ ـ ١٨٩١ م) ، تضافرت عوامل أخرى لدفع هذه الظاهرة. فبفضل الإجراءات التي اتخذتها إدارة البارون روتشيلد في تحويل بعض المستعمرات إلى زراعة كروم العنب وتأسيس معصرتين للنبيذ ـ واحدة في ريشون لتسيون ، والثانية في زخرون يعقوف ـ وتحقيق إنتاج أفضل وأسعار أعلى ، انتعش قطاع من المستوطنين ، وأصبح عامل جذب للمزيد منهم. وقد تواكب ذلك مع تصعيد الحكومة الروسية لإجراءات القمع ضد اليهود ، وصولا إلى طردهم من موسكو ، من جهة ، والسماح لهم بالهجرة ، من جهة أخرى. وقام مكتبا أوديسا ويافا بدور كبير في تسريع الهجرة وتسهيل إجراءاتها. ونشط مكتب يافا ، بقيادة زئيف طيومكن ، في إعداد المشاريع الإنتاجية ـ شراء الأراضي وزراعة الأشجار المثمرة وانتاج النبيذ ... إلخ ـ فازدهر الاستيطان ، وبالتالي الهجرة. ولكن ذلك لم يدم طويلا ، إذ عادت السلطات العثمانية لوضع القيود على النشاط الصهيوني ، لكن الموظفين المحليين الفاسدين لم يكونوا حازمين في تنفيذ الأوامر والقوانين ، فبقيت الهجرة مستمرة بأساليب ملتوية وغير شرعية.

ونتيجة فساد الموظفين العثمانيين ، وتعاون حفنة من الزعماء المحليين ـ رؤساء عائلات وشيوخ قبائل ومتمولين ـ ازدهرت السمسرة بالأراضي ، وبيعت مساحات منها للحركة الصهيونية. فعقدت صفقات سرّية كبيرة لشراء أراض في مرج ابن عامر وسهل عكا ، لكنها عطلت قبل إنجازها ، وذهبت هدرا المبالغ الي دفعت رشوة. ومع ذلك ، حققت هذه النشاطات نجاحات معينة ، كما حدث مع السمسار الصهيوني يهوشوع خانكين ، الذي اشترى أراضي رحوفوت والخضيرة ، بأساليب ملتوية. غير أن الفشل ظل السمة العامة لكل المشروع الصهيوني. ولما باءت بالفشل جميع محاولات إدارة البارون روتشيلد لتحويل المستعمرات الصهيونية الزراعية إلى ظاهرة قابلة للحياة بقواها الذاتية ، عهد بإدارتها إلى الشركة الكولونيالية «بيكا». وكان البارون اليهودي الألماني هيرش ، قد أسس هذه الشركة (١٨٩١ م) لتعمل أصلا في الأرجنتين ، لكنها أسست لها فرعا في فلسطين أيضا. وكانت هذه الشركة استثمارية صرفة ، تحاكي في نمط عملها الشركات الأوروبية الأخرى.

وبإدارة شركة بيكا ، تحول المستوطنون إلى أصحاب مزارع ، يعتمدون في تشغيلها على العمال العرب المأجورين ، ويكسبون من استغلال طاقة عمل السكان

٣٢٤

المحليين ، أسوة بالمستوطنين الأوروبيين في إفريقيا. وقد حاولت هذه الشركة ، عبر حاييم مرغليت كالفارسكي ، شراء أراض في سهل عكا ، لكن الصفقة فشلت ، وضاعت الأموال التي صرفت عليها. ومع ذلك ، أقامت بيكا مزرعة للتدريب في الشجرة (١٨٩٩ م) ، وعددا من المستعمرات ، وخصوصا في الجليل الأسفل ، في الفترة (١٩٠١ ـ ١٩٠٩ م) ، مثل كفار طابور والشجرة ومنحمية ويبنئيل ومتسبيه وكنيرت ، عملت بزراعة الحبوب. ولكن على الرغم من النجاحات المحدودة ظلت هذه المستعمرات تعاني أزمة بنيوية ، تتلخص في عدم أهلية المستوطنين اليهود للعمل الزراعي ، وبالتالي اعتمادهم الكلي على العمل المأجور. فأصبح هؤلاء الصهيونيون ، الذين قدموا لإنشاء «دولة قومية» ، عبارة عن مقاولين لدى شركة بيكا الاستثمارية ، يقومون بالرقابة على العمال العرب وبيع المحاصيل ، تاركين العمل الجسدي الصعب لأبناء البلد. أمّا أبناء هؤلاء المستوطنين ، فلم يجدوا في الزراعة ما يلبي طموحهم ، وغادروا المستعمرات إلى المدن ، أو هاجروا من البلد إلى الخارج ، بنسبة كبيرة.

ثانيا : الصهيونية السياسية

لما كانت الحركة الصهيونية أوروبية الجذور ، سواء لناحية أسباب نشوء الفكرة ، أو تبلورها ، أو تطبيقها ، فإن مشروعها الاستيطاني ارتبط عضويا بالنشاط الإمبريالي في المنطقة ومراحل تجلياته. وكان طبيعيا لذلك أن يواكب العمل الصهيوني ، شكلا ومضمونا ، سيرورة التغلغل الإمبريالي في المنطقة ، وأنماط تجسيده. وبينما تمحور نشاط الدول الأوروبية في النصف الأول من القرن التاسع عشر على توسيع نفوذها في أراضي السلطنة العثمانية عبر الامتيازات ، التي تغطت ، بين تعبيرات أخرى ، بحماية الأقليات الدينية والطائفية ، فقد بادرت تلك الدول ، بداية فرنسا ، ثم بريطانيا بصورة أكثر إصرارا ، إلى دعوة اليهود إلى الهجرة والاستيطان في فلسطين تحت حمايتها. لكن ردة فعل اليهود العامة كانت متحفظة ، بل معارضة ، لهذه الدعوات. أمّا في النصف الثاني من ذلك القرن ، فقد احتدم التنافس بين دول أوروبا ، ومعه تصاعدت وتيرة العمل الصهيوني ، وصولا إلى نهاية القرن ، إذ راحت المخططات الإمبريالية تتخذ طابعا عمليا ، استعدادا لاقتسام أراضي السلطنة العثمانية ، وتحول معها المشروع الصهيوني إلى برنامج عمل مخطط ، على الصعيدين ، الخارجي الدولي ، والداخلي اليهودي.

وبإلقاء نظرة عامة ، يتضح أن دعوة نابليون إلى توطين اليهود في فلسطين ، لم تحرك لديهم ردة فعل إيجابية ، بقدر ما حركت طروحات مثيلة في أوساط سياسية

٣٢٥

بريطانية ، التقطت الفكرة ، وحاولت توظيفها لمصلحة بريطانيا في مواجهة فرنسا. وعادت هذه الفكرة إلى البروز مرة أخرى بعد مؤتمر لندن (١٨٤٠ م) ، وفرض الانسحاب من بلاد الشام على محمد علي. وكان ذلك بالتأكيد كردة فعل على التهديد الذي انطوت عليه الحملة المصرية للمصالح البريطانية. ومع ذلك ، ظلت استجابة يهود أوروبا ـ الشرقية والغربية ـ فاترة جدّا للدعوة التي أطلقها بالمرستون. ومنذ الستينات من القرن التاسع عشر ، ازداد التدخل الأوروبي في شؤون السلطنة ، نتيجة ضعفها المتزايد. وقد جرى التعبير عن ذلك باتساع مجال الامتيازات التي طالبت بها ، وحصلت عليها ، دول أوروبا ، وخصوصا بعد حرب القرم (١٨٥٤ ـ ١٨٥٥ م) ، من جهة ، وباضطرار السلطان العثماني إلى إصدار الفرمانات (التنظيمات) الإدارية والسياسية والاجتماعية ، من جهة أخرى.

في المقابل ، وعلى الصعيد اليهودي ، ازدادت حدة المسألة اليهودية في أوروبا وخصوصا أوروبا الشرقية. وفي الوقت نفسه برزت الحركات القومية بين شعوب أوروبا الشرقية (الصرب واليونان وغيرهم) ، وراح تأثيرها يتغلغل بين اليهود ، الذين اعتقدوا أن لقضيتهم قوة إقناع أعلى من دعوى الشعوب الأخرى المطالبة بالانعتاق القومي. وفي خضم التحولات السياسية والاجتماعية الجارية في أوروبا ، وانعكاسها على التجمعات اليهودية هناك ، راحت الأفكار القومية تتنامى على حساب تراجع طروحات الاندماج كحل لمشكلات تلك التجمعات الاجتماعية. وليس مصادفة أن روّاد «الحل القومي اليهودي» في أوروبا الغربية ، جاؤوا من الأوساط التي كانت تقف فكريا على حدود الاندماج ، مثل موزس هس. أمّا في أوروبا الشرقية ، فقد جاء دعاة الصهيونية من أوساط المثقفين اليهود التقليديين ، الذين تأثروا بالنزعات القومية السلافية ، مثل كاليشر وألقلعي. وفي روسيا ، أخذت هذه الأفكار دفعة قوية من ممارسات الحكومة الروسية القيصرية تجاه اليهود في الثمانينات ، بعد اغتيال القيصر ، وتوجيه التهمة إلى اليهود بالمشاركة الفعالة في الحركات المناهضة للحكم هناك. ومع ذلك ، وحتى نهاية القرن ، وعلى الرغم من حالة التدهور التي أصابت السلطنة العثمانية ، واحتدام التنافس بين دول أوروبا ، إذ راحت كل منها تسعى لتأمين موطىء قدم لها في أراضي السلطنة ، فقد ظلت الصهيونية حركة معزولة ومحصورة في جيوب مبعثرة ، تعارضها الأغلبية من اليهود ، في غرب أوروبا وشرقها. والنشاط الاستيطاني الذي قامت به في فلسطين لم يكن يبشر بالنجاح. وبناء عليه ، ظل تيار الهجرة اليهودية الرئيسي يتجه من شرق أوروبا إلى غربها ، ومنه إلى الولايات المتحدة. وبينما يقدر عدد يهود أوروبا الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة وأوروبا

٣٢٦

الغربية ، في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ، وحتى الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ ـ ١٩١٨ م) بنحو ٥ ، ٢ مليون ، فإن الذين وصلوا منهم إلى فلسطين لا يزيد عن ٠٠٠ ، ٥٠ فقط ، أي ٢% من مجموعهم. وارتفع هذا العدد عشية الحرب العالمية الأولى إلى ٠٠٠ ، ٨٥ ثم تراجع إلى ٠٠٠ ، ٥٦ سنة ١٩١٨ م.

والمنعطف الكبير في العمل الصهيوني ـ الصهيونية السياسية ـ في مطلع القرن العشرين ، جاء تتويجا لمسار متدرج ، امتد على طول القرن التاسع عشر ، وأخذ يتصاعد بالتوازي مع ازدياد اهتمام الدول الأوروبية بالشرق الأوسط ، وبالتالي تصاعد نبرة الدعوة إلى إقامة كيان يهودي في فلسطين ، عبر الهجرة إليها والاستيطان فيها ، بحماية هذه الدولة الكبرى أو تلك. فبعد حملة نابليون ، ازداد اهتمام بريطانيا بحماية طرق مواصلاتها مع الهند ، ورأت في إقامة استيطان يهودي في فلسطين ، تحت رعايتها ، عنصرا في توفير تلك الحماية. وبعد حملة محمد علي ، كثفت الدول الأوروبية نشاطها للحصول على الامتيازات من السلطنة العثمانية المتهاوية ، وكانت الأقليات الدينية ذريعة لذلك. وبرزت الدعوة إلى توطين اليهود في فلسطين مرة أخرى. ومع تفاقم المسألة الشرقية ، والإعداد لاقتسام أراضي السلطنة ، نشطت الحركة الصهيونية عمليا. وبعد افتتاح قناة السويس (١٨٦٩ م) ، وشراء بريطانيا أسهم مصر فيها (١٨٧٥ م) ، ومن ثمّ احتلال مصر (١٨٨٢ م) ، برزت حيوية فلسطين الاستراتيجية للمصالح البريطانية ، ومعها أهمية الاستيطان الصهيوني كحلقة في شبكة القواعد لحماية الطريق إلى الهند.

وكان الصحافي اليهودي النمساوي تيودور هيرتسل (١٨٦٠ ـ ١٩٠٤ م) ، المعبر الأبرز عن هذا المنعطف في أوضاع اليهود والصهيونية ، على أرضية التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أوروبا ، وبالتالي علاقتها بالشرق الأوسط. وبناء عليه ، فهو يعتبر مؤسس الحركة الصهيونية السياسية ، كونه نقلها نقلة نوعية ، سواء على صعيد البرنامج النظري ، أو التطبيق العملي له. لقد التقط هيرتسل الخيوط المتعددة لنشوء الصهيونية ، وجمعها في منظمة عالمية ، قابلة للحياة في المناخات السائدة آنذاك في أوروبا ، وعلى المستويين ـ اليهودي الخاص والإمبريالي العام. وإذ أفاد هيرتسل من أفكار سابقيه من دعاة الصهيونية ، فإنه تفوق عليهم ببرنامجه التنظيمي والعملي ، الأكثر ملاءمة للواقع السياسي المحيط بالنشاط الصهيوني ، سواء في بلد المنشأ ـ أوروبا ـ أو في موقع المآل ـ فلسطين. وإذ لم يكن هيرتسل مفكرا بمستوى هس ، أو ضالعا بالتراث اليهودي مثل كاليشر أو ألقلعي ، أو رومانسيا مثل بنسكر ، فإنه بالتأكيد تفوق عليهم جميعا في براغماتيته ، وبالتالي إدراكه ألّا مجال

٣٢٧

لتجسيد المشروع الصهيوني من دون ربطه عضويا ومصيريا بالمشروع الإمبريالي العام إزاء منطقة الشرق الأوسط.

ولد هيرتسل في المجر ، وكان والده تاجرا ميسورا ، قطع في نمط حياته شوطا على طريق الاندماج بمحيطه ، فنشأ ابنه على الثقافة الألمانية. وعندما انتقلت العائلة إلى فيينا ، درس هيرتسل القانون ، وظلت ثقافته اليهودية ضئيلة. وعمل بالمحاماة ، ومن ثمّ بالصحافة. وفي سنة ١٨٩١ م ، سافر إلى باريس كمراسل لصحيفة «نيوفراي برس» ، ليغطي أحداث محاكمة درايفوس ، الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي ، الذي اتهمه أقرانه بالخيانة. وتأثر هيرتسل بمجريات المحاكمة وردات الفعل المتناقضة عليها ، فاستعاد وعيه اليهودي ، وشغل بإيجاد الحل للمسألة اليهودية. وبداية رأى الحل في الاندماج ، وطرح على اليهود اعتناق المسيحية بصورة جماعية ، أو الالتحاق بالتيارات الاشتراكية. ولكنه سرعان ما عدل عن هذه الأفكار وتحول إلى الصهيونية ، مقتنعا باستحالة اندماج اليهود في مجتمعاتهم ، أو استيعابهم جميعا في أميركا. وبذلك خلص إلى نتيجة مفادها ضرورة إقامة «دولة يهودية» لهم ، ليس بالضرورة في فلسطين ، ولكن بالتأكيد من خلال التعاون مع الدول الكبرى ، وفي ظل حمايتها ودعمها ، لقاء الخدمات التي ستقدمها تلك الدولة اليهودية لمصالح الدولة الراعية.

وأسوة بسلفه من دعاة العمل الصهيوني ، توجه هيرتسل أولا إلى أثرياء اليهود لتمويل مشروعه الاستيطاني. واتصل بالبارون هيرش ، وكذلك بالبارون إدموند دو روتشيلد ، لإقناعهما باستثمار أموالهما في توطين اليهود في دولة مستقلة ، فلسطين أو الأرجنتين ، أو أي مكان آخر يتوفر حاليا ، ويتم ذلك عبر «شراء وطن» لهم. وكانت فكرة شراء فلسطين مسألة مطروحة بصورة جدية بين الصهيونيين. ولكن أفكار هيرتسل قوبلت بالاستخفاف من قبل الرأسماليين اليهود في أوروبا الغربية ، الذين اندمجوا تماما في الفئات السائدة ببلادهم ، وانخرطوا في مشاريعها الاستعمارية. وفي سنة ١٨٩٦ م ، جمع هيرتسل أفكاره واقتراحاته في كتاب بعنوان «دولة اليهود». وانطلق في أطروحته من أن معاداة السامية خصيصة حتمية لكل المجتمعات المعاصرة على تعدد نظمها. ولذلك انتهى إلى الاستنتاج بضرورة إقامة دولة لليهود. وحدد أدوات مشروعه : «جمعية يهودية» للإعداد السياسي والعلمي ؛ و «وكالة يهودية» للتنفيذ العملي ؛ و «براءة» من الدول الكبرى ، أو من إحداها على الأقل.

وكتاب هيرتسل «دولة اليهود» خليط عجيب من الأفكار القومية الغيبية ، والنظريات الاستعمارية الاسترجاعية ، والمشاريع الاستثمارية الاستغلالية ، مع ما يرافقها من طروحات عنصرية. فهو يجمع بين النزعة العرقية العنصرية

٣٢٨

والارتباط العضوي بالإمبريالية العالمية. وتبرز عنصريته في تجاهل كون فلسطين آهلة بالسكان ، ونظرته الدونية إليهم ، على الرغم من زيارته لها ووقوفه على الواقع الحضاري والعمراني فيها. ومع ذلك ، كرّس جل اهتمامه للتخلص من هؤلاء العرب الفلسطينيين ، تمهيدا لتهويد البلد عبر تغييب سكانها الأصليين ، وقطع صلتهم التاريخية بوطنهم. بل يذهب هيرتسل في عنصريته إلى أبعد من ذلك ، إذ يطرح توظيف هؤلاء السكان في التمهيد للاستيطان الصهيوني على أرضهم ، قبل نقلهم إلى أماكن أخرى ، فيقول : «إذا ما انتقلنا إلى منطقة توجد فيها حيوانات متوحشة لم يعتد عليها اليهود ـ أفاع كبيرة وغير ذلك ـ فسوف أستخدم سكان البلاد ، قبل ترحيلهم إلى الدول التي سينقلون إليها ، من أجل القضاء على هذه الحيوانات.»

ولأن هيرتسل كان يعي أن العقبة الرئيسية أمام مشروعه تكمن في إقناع التجمعات اليهودية الأوروبية ـ مادة المشروع ـ بقبوله ، فقد توجه إليهم بعدد من المقولات التبريرية والذرائعية. فادّعى أن المسألة اليهودية ليست قضية اجتماعية أو دينية ، إنما هي قومية. وعلى هذا الأساس يجب حلها ، عبر جعلها قضية سياسية عالمية. ودعا اليهود إلى اعتبار أنفسهم وحدة ، بغض النظر عن شتاتهم. ولتحريكهم للاستجابة لمشروعه ، دعا إلى استغلال حالة البؤس والعزلة التي يعيشونها ، ولم يتورع هيرتسل عن توظيف «اللاسامية» ، وردة فعل المحيط السلبية إزاء اليهود ، في هذا السبيل ، فيقول : «العداء للسامية ، الذي يؤلف قوة كبيرة ودعاية بين الجماهير ، لن يلحق الأذى باليهود ، وأنا أعتبره حركة نافعة للوجود اليهودي.» ويؤكد هيرتسل : «لا يوجد إنسان يملك من الثروة والسلطان ما يكفي لاقتلاع أمة ونقلها من بيئة طبيعية إلى أخرى. الفكرة وحدها تستطيع إنجاز ذلك ، وفكرة الدولة هذه تملك القوة اللازمة.» ويؤكد للتجمعات اليهودية أن هجرة أفرادها إلى فلسطين وإقامة دولة هناك ، سترفعان من مستواهم الاجتماعي والاقتصادي ، إلى جانب الروحي والمعنوي.

ولإقناع الدوائر الإمبريالية بتبني مشروعه ، فقد أسسه هيرتسل على نظرية «رسالة الرجل الأبيض التحضيرية» ، تقليدا للاستعمار الغربي. أمّا الدولة اليهودية فقد صوّرها على أنها «سوف تشكل هناك جزءا من متراس أوروبا في آسيا ، يكون مخفرا أماميا للحضارة ضد البربرية ، ويتوجب علينا ، كدولة محايدة ، أن نبقى على صلة بكل أوروبا التي سيكون عليها أن تضمن وجودنا.» وعندما أطلق هيرتسل ساقيه للريح باحثا عن دولة كبرى تتبنى مشروعه ، وتأخذ على عاتقها أن تشكل «البلد الأم» بالنسبة إليه ، راح يعرض على كل رئيس دولة أو حكومة الخدمات التي افترض أنه يرغب فيها. فعلى السلطان العثماني عرض المال والخبرة اليهودية لسداد ديونه ، وعلى

٣٢٩

إمبراطور ألمانيا أن تشكل «دولة اليهود» محمية ألمانية ، مرتبطة بما سماه «المجال الحيوي الشرقي» لألمانيا. وفي لندن عرض على تشمبرلين ، وزير المستعمرات آنذاك ، أن تقوم الدولة الصهيونية بحماية قناة السويس. وفي روسيا تعهد لوزير داخليتها ، بليفيه ، المعروف ببطشه باليهود ، أن يخلص روسيا من العناصر اليهودية المنخرطة في الحركات الاشتراكية والثورية ، والتي صارت تهدد حكومة القيصر.

وبعد عام من نشر كتابه ، نجح هيرتسل في عقد المؤتمر الصهيوني الأول برئاسته ، في مدينة بازل (بال) السويسرية (١٨٩٧ م) ، وبحضور ١٩٧ مندوبا عن الهيئات والمنظمات والجمعيات الصهيونية المتعددة في العالم. وكان المؤتمر منعطفا في العمل الصهيوني ، إذ تأسست به «المنظمة الصهيونية العالمية» وأقر نظامها الداخلي وهيكلها التنظيمي وشروط العضوية فيها ، التي فتحت الباب أمام كل يهودي يتبنى «برنامج بازل» ، ويدفع رسم الاشتراك (الشيكل). وبعد المؤتمر ، انصرفت المنظمة الصهيونية ، عبر هيئاتها المنتخبة ، إلى العمل على جبهتين : يهودية ، ترمي إلى استقطاب اليهود للمشروع الصهيوني ؛ ودولية ، تسعى لكسب التأييد الدولي له ، على قاعدة برنامج بازل. وكان القرار الأساسي الذي اتخذه المؤتمر ينصّ «أن غاية الصهيونية هي إيجاد وطن للشعب اليهودي في فلسطين ، يضمنه القانون العام.» وحدّد المؤتمر محاور العمل الصهيوني ، كما يلي : ١) العمل على استعمار فلسطين بالعمال اليهود ، الزراعيين والصناعيين ، وغيرهم ؛ ٢) تنظيم يهود العالم في منظمات محلية ودولية تتلاءم مع القوانين المتبعة في كل بلد ؛ ٣) تقوية المشاعر اليهودية والوعي القومي اليهودي ؛ ٤) اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على الموافقة الضرورية (البراءة) لتحقيق أهداف الصهيونية.

وفي الواقع ، فإنه بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول ، تزايدت وتيرة النشاط الصهيوني في المجالات الأربعة التي حددها برنامج بازل. فعلى صعيد الاستيطان ، انطلقت «الهجرة الثانية» (١٩٠٤ م) ، وأساسا من أوروبا الشرقية. وكان المهاجرون في الأغلب من أبناء الطبقة الوسطى ، الذين تأثروا بالأفكار الاشتراكية التي راجت في روسيا آنذاك ، وبالتحديد بصيغتها «اليهودية ـ الصهيونية» (البوند). وقد أدّت الاضطرابات التي اندلعت في كيشينيف (١٩٠٣ ـ ١٩٠٥ م) ، بما واكبها من اضطهاد لليهود ، دورا في تحريك هذه الموجة من الهجرة الصهيونية. كما استعمل هؤلاء الشعارات الاشتراكية التي تعلموها في روسيا كغطاء للتهويد الاستيطاني ، عبر طرح شعار «العمل العبري» ، الذي كان في الأساس يرمي إلى مقاطعة العمل العربي ، أي استبدال العمال العرب في المستعمرات اليهودية بمهاجرين

٣٣٠

يهود. وغلّف هؤلاء هذه النزعة العنصرية بمقولات فضفاضة عن الريادة والعمل الجسدي واحتلال سوق العمل ... إلخ. ولكنهم اصطدموا بعقبات كبيرة ، وخصوصا مع المستوطنين القدامى. وما كان لهم كسب المعركة من دون تدخل المنظمة الصهيونية العالمية ، التي راحت تقيم لها مؤسسات في فلسطين.

وفي الفترة بين مؤتمر بازل والحرب العالمية الأولى ، عقدت المنظمة الصهيونية عشرة مؤتمرات ، تمّ خلالها تشكيل عدد من الهيئات التنظيمية والمالية لتنفيذ برنامج بازل. ففي سنة ١٨٩٩ م أنشىء صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار ، لتمويل الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها. وفي سنة ١٩٠٣ م ، أقام له فرعا في يافا ـ الشركة الإنكليزية الفلسطينية ـ لشراء الأراضي وتمويل الاستيطان. وفي المؤتمر الخامس (١٩٠١ م) ، الذي عقد في لندن ، أنشىء الصندوق القومي اليهودي (هكيرن هكييمت) ، على أسس استيطانية عنصرية.

وفي سنة ١٩٠٨ م اتخذت المنظمة الصهيونية العالمية خطوة حاسمة لتطوير نشاطها الاستيطاني ، عبر إقامة «مكتب فلسطين» في يافا ، كممثل للمنظمة الصهيونية ، وذراع تخطيطي وتنفيذي لنشاطاتها في فلسطين. وشمل نشاط المكتب شراء الأراضي وبناء المستعمرات ومساعدة المهاجرين وتوطينهم ورعايتهم. ولأداء مهماته ، أنشأ عدة شركات تحمل أسماء متعددة للتمويه على عملياته غير الشرعية. وكان المدير الأول لهذا المكتب عالم الاقتصاد والاجتماع ، آرثر روبين (١٨٧٦ ـ ١٩٤٣ م) الذي نجح في إقامة علاقات تعاون وثيقة بين المنظمة الصهيونية والمستوطنين القدامى والمهاجرين الجدد ، على أساس مبادىء العمل العبري ، كما أراد أعضاء الهجرة الثانية ، فاصطدموا لذلك مع المزارعين في المستعمرات ، واحتدم الصراع عندما أراد هؤلاء تولي حراسة تلك المستعمرات إزاء المقاومة العربية. وقد أرسى روبين قواعد جديدة للاستيطان ، كما أدخل إلى المستعمرات عددا من فروع الزراعة الجديدة ، وساهم في إقامة مستعمرات جديدة على أسس تعاونية متعددة.

وكان الصندوق القومي اليهودي (هكيرن هكييمت) قد نفّذ بأساليب ملتوية مشترياته الأولى من الأراضي في الفترة ١٩٠٥ ـ ١٩٠٧ م ، إذ اشترى أراضي بن شيمن وخولدة بين الرملة والقدس ، وأراضي حطين في الجليل الأسفل. وبعد تأسيس مكتب فلسطين ، بادر إلى إقامة نمط جديد من الاستيطان ، يتمشى ونزعات أفراد الهجرة الثانية (١٩٠٤ ـ ١٩١٤ م) ، يتمثل بالقرى التعاونية (الكيبوتس) ، في الفترة (١٩٠٨ ـ ١٩١٣ م) ، فبنيت دغانيا وكنيرت على الطرف الجنوبي لبحيرة طبرية وبن شيمن

٣٣١

وخولدة بين الرملة والقدس ، ومرحافيا في مرج ابن عامر ، وغان شموئيل في السهل الساحلي. وكانت كل مستعمرة تمثل نمطا تجريبيا جديدا. ففي دغانيا (١٩٠٩ م) كانت بداية الحركة الكيبوتسية ، إذ أعطيت الأرض لعمال زراعيين بمسؤولية جماعية. وفي بن شيمن جرى التخطيط المسبق لإقامة مستعمرة تعتمد فروعا زراعية متنوعة ومتكاملة ، لضمان الاستمرار في حال فشل أحد تلك الفروع. وفي مرحافيا كانت تجربة الدمج بين الاستيطان الفردي والجماعي ، وفشلت التجربة ، لكن نقطة الاستيطان الأولى في مرج ابن عامر (١٩١١ م) بقيت.

وفي فترة ١٨٨٢ ـ ١٩١٣ م ازداد عدد المستوطنين اليهود في فلسطين من ٠٠٠ ، ٢٤ إلى ٠٠٠ ، ٨٥ نسمة ، وذلك من مجموع ٠٠٠ ، ٧٠٠ من سكان البلد. وقد أقام معظم هؤلاء المهاجرين في المدن ، وفقط ٠٠٠ ، ١٢ منهم استقر في المستعمرات الزراعية وملحقاتها ، والتي بلغ عددها ٤٤. وقد ارتفع عدد اليهود في القدس إلى ٠٠٠ ، ٤٥ في سنة ١٩١٤ م. وفي طبرية وصلوا إلى ٥٠٠٠ نسمة ، وفي صفد إلى ٧٠٠٠ وحيفا ٣٠٠٠ ويافا ٥٠٠ ، ١٠ بمن فيهم سكان تل أبيب ، التي أقيمت (١٩٠٩ م) كضاحية من مدينة يافا. ثمّ انخفض هذا العدد إلى ٠٠٠ ، ٥٥ في نهاية الحرب العالمية الأولى ، بسبب نزوح المستوطنين إلى الخارج. وفضلا عن مكتب فلسطين (ذراع المنظمة الصهيونية العالمية) ، والصندوق القومي اليهودي ، أقيم البنك الأنكلو ـ فلسطيني (١٩٠٣ م) في يافا ، كفرع لصندوق الائتمان اليهودي للاستعمار ، الذي أسسه هيرتسل في لندن (١٨٩٩ م).

أ) البراءة الدولية

لقد أدرك هيرتسل منذ البداية أن مشروعه الصهيوني لن يكتب له النجاح بالاستناد إلى القوة الذاتية اليهودية ، وخصوصا أن نسبة اليهود المتعاطفين مع الصهيونية كانت ضئيلة ، الأمر الذي شكّل همّا مقلقا لقادة العمل الصهيوني. وبناء عليه ، توجه هيرتسل للحصول على دعم القوى الإمبريالية ، أو إحداها على الأقل ، وبصورة علنية عبر إصدار «البراءة الدولية» ، أي وضع الاستيطان تحت الحماية ، سواء من هذه الدولة أو تلك. ولكي لا يستثير تلك الدول ، أو يتسبب بردة فعل سلبية من قبل السلطات العثمانية ، التي كانت تعارض هجرة اليهود إلى فلسطين على أية حال ، أصرّ على رفض فكرة التسلل إلى البلاد بصورة غير شرعية. وعلل ذلك ، وكان مصيبا ، بعدم جدوى مثل هكذا استيطان يجري خلسة ، ولن يلبي الطموحات الصهيونية المغرقة في التفاؤل بنجاح مشروعها ، وإقامة الدولة اليهودية

٣٣٢

بالسرعة القصوى ، وخصوصا في مقابل الضرر الذي قد يجلبه على الحركة الصهيونية ، جراء ردّات الفعل السلبية على ذلك التسلل غير الشرعي ، من قبل المراكز السياسية التي هي الركائز الأساسية التي يبني عليها هيرتسل آماله في تجسيد مشروعه ـ أي على الشراكة بين الصهيونية وتلك المراكز الإمبريالية.

وخلال الأعوام الستة الأولى لقيامها ، أصرّت الحركة الصهيونية ، بقيادة هيرتسل ، على التشبث بأولوية الحصول على البراءة الدولية ، قبل فتح باب الهجرة الواسعة إلى فلسطين ، وخصوصا نتيجة قرار الحظر العثماني عليها. وفي غياب دعم يهودي واسع للمشروع الصهيوني ، وانعدام الثقل السياسي للمنظمة الصهيونية في تلك المرحلة ، كان هيرتسل مقتنعا بأن مشروعه سيبقى حبرا على ورق ، إذا لم يستطع تسويقه في مركز إمبريالي ، أو أكثر. وهكذا انطلق هيرتسل في حملة دبلوماسية واسعة النطاق ، قادته إلى عدد من العواصم الأوروبية وإستنبول ، حيث عرض خدمات الحركة الصهيونية على كل منها ، بالصورة التي اعتقدها تلبي حاجاتها ومصالحها في الشرق الأوسط ، على الرغم من تضارب العروض. وفي الأساس ، كان يطرح على رؤساء تلك الدول ، أو على بؤر سياسية فاعلة فيها ، تعاونا على أساس المصالح المشتركة ، مؤكدا لكل منها أن الكيان الصهيوني المزمع إقامته سيكون حارسا أمينا لمصالحها. وبداية أراد توظيف وساطة ساسة تلك الدول لدى السلطان العثماني لرفع الحظر عن هجرة اليهود إلى فلسطين والاستيطان فيها.

ونتيجة الصداقة المترعرعة بين ألمانيا والسلطنة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر ، والتي تكثفت إلى حد التحالف في الحرب العالمية الأولى ، رأى هيرتسل أن وساطة قيصر ألمانيا لدى الباب العالي ، سترفع الحظر العثماني عن هجرة اليهود إلى فلسطين. في المقابل ، خطط هيرتسل لاستغلال الأطماع الألمانية في فلسطين ، من جهة ، ورغبة القيصر ويلهلم الثاني (١٨٨٨ ـ ١٩١٩ م) الدفينة في التخلص من الأعداد الكبيرة من اليهود في بلاده ، أو على الأقل ، إبعاد العناصر المشاركة منهم في الحركات اليسارية والثورية المناوئة له ، من جهة أخرى. وانتهز هيرتسل فرصة زيارة القيصر للقدس (١٨٩٨ م) ، وسافر للقائه هناك. واقترح هيرتسل على القيصر أن تتبنى ألمانيا الحركة الصهيونية ، وبالتالي تتوسط لدى السلطان لمنحها «الأرض الواقعة بين الفرات والنيل للاستيطان.» ولكن القيصر لم يتحمس للفكرة ، وكان رده فاترا ، إذ لم يشأ أن يتسبب في توتير العلاقة بين بلاده والسلطنة العثمانية ، بل على العكس ، كان يسعى لتطوير الصداقة بينهما ، في إطار المسألة الشرقية و «اندفاع الألمان إلى الشرق.»

٣٣٣

ولما تبخرت الآمال التي عقدها هيرتسل على وساطة قيصر ألمانيا لدى السلطان العثماني ، وبالتالي استجابة القيصر لتبني المشروع الصهيوني ، اهتز موقع المنظمة الصهيونية ، وتعالت داخلها الأصوات التي تساءلت عن صوابية السياسة التي ينتهجها هيرتسل في التركيز على استصدار البراءة الدولية من القوى الكبرى ، وحتى بشأن صحة الموقف المعارض للهجرة إلى فلسطين قبل الحصول على تصريح من السلطان العثماني. ولإنقاذ مشروعه وتبرير سياسته ، توجه هيرتسل إلى إستنبول لإجراء اتصال مباشر مع الباب العالي ، وعرض خدمات الحركة الصهيونية على السلطنة ، وخصوصا على صعيد سداد ديونها للدول الأوروبية. ولكنه فشل في إقناع السلطان عبد الحميد الثاني (١٨٧٦ ـ ١٩٠٩ م) بالاستجابة لطلبه. وفي إستنبول سعى هيرتسل لاستغلال فساد جهاز الدولة العثمانية ، وبمساعدة أنصار الصهيونية في العاصمة ، عرض الرشاوى على كبار الموظفين ، للالتفاف على موقف السلطان ، الذي كان حازما في هذه المسألة.

وبعد فشل مساعيه في إستنبول ، توجه هيرتسل إلى بريطانيا ، إذ كانت الحركة الصهيونية قد عقدت مؤتمرها الرابع (١٩٠٠ م) في لندن ، بقصد التأثير في الرأي العام البريطاني ، وتعريفه بالصهيونية وأهدافها. والتقى هيرتسل (١٩٠٢ م) وزير المستعمرات البريطاني ، جوزف تشمبرلين ، الذي أبدى تعاطفا مع المشروع الصهيوني كما طرحه هيرتسل ، مبينا الفوائد التي ستجنيها بريطانيا من توطين اليهود في فلسطين. لكن تشمبرلين اقترح توطينهم في سيناء والعريش ، لقربهما من قناة السويس. وقبل هيرتسل الاقتراح ، لكن الدراسات أثبتت نقص المياه اللازمة للاستيطان محليا ، في حين رفضت الحكومة المصرية جرّ مياه النيل إلى تلك المنطقة. وعاد تشمبرلين (١٩٠٣ م) وطرح على هيرتسل الاستيطان في أوغندا (كينيا) ، وقبل هيرتسل ، لكن المؤتمر الصهيوني السادس (١٩٠٣ م) انقسم بشأن الموضوع ، وتأجل تنفيذ المشروع. ودافع هيرتسل عن قبوله المشروع على أساس أنه محطة انتقالية ، تقرب اليهود من فلسطين ، وتنقلهم لاحقا إليها. وفي المؤتمر السابع (١٩٠٥ م) ، بعد موت هيرتسل ، رفض ذلك المشروع جملة وتفصيلا ، وانحصر التركيز على فلسطين كقاعدة للاستيطان الصهيوني. وعلى الرغم من قبوله المبدئي بالعرض البريطاني إقامة المشروع الصهيوني في سيناء أولا ، ومن ثمّ في أوغندا ، لم يهجر هيرتسل فكرة البراءة الدولية على فلسطين. ومن أجل ذلك ، سافر إلى روسيا ، وقابل هناك وزير الداخلية ، بليفيه ، المسؤول عن حملات مطاردة اليهود في حكومة القيصر. وتمّ التفاهم على صفقة بين الطرفين بسرعة : وساطة روسية لدى الباب العالي لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين ، في مقابل

٣٣٤

تشجيع صهيوني ليهود روسيا على النزوح منها ، وبالتالي إراحة حكومة القيصر من العناصر اليهودية المشتركة في الحركات اليسارية والثورية. وفي سنة ١٩٠٤ م ، توجه هيرتسل إلى إيطاليا لمقابلة البابا بيوس العاشر ، وملك إيطاليا عمانوئيل الثالث ، للغرض نفسه ، وكان استقباله هناك فاترا. وبينما أخبره البابا أن الكنيسة لا تستطيع دعم عودة «اليهود الكفرة» إلى الأرض المقدسة ، أجابه الملك الإيطالي ببرودة شديدة هذا يعني «البناء في منزل شخص آخر.» (١) وفي تلك السنة (١٩٠٤ م) مات هيرتسل من دون أن يحقق حلمه في الحصول على البراءة الدولية ، وتاركا وراءه مؤتمرا صهيونيا منقسما على نفسه بشأن المشاريع الاستيطانية المطروحة ، وقضايا أيديولوجية متعارضة.

وهلّل الصهيونيون لانقلاب سنة ١٩٠٨ م في تركيا ، الذي قام به حزب تركيا الفتاة (جمعية الاتحاد والترقي). وسارت تظاهرات في يافا ، ترفع العلم الصهيوني الذي أقرّ في مؤتمر بازل ، وهو «ترس داود» الأزرق على خلفية بيضاء. وفي الواقع ، فإن حكام تركيا الجدد كانوا أكثر تعاطفا مع الأهداف الصهيونية ، وقد خففوا القيود المفروضة على الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وحاولت القيادة الصهيونية استغلال التناقضات التي احتدمت في إستنبول بعد الانقلاب ، بين الإصلاحيين والتقليديين ، من أجل انتزاع الامتيازات. كما حاولوا استغلال التناقضات العربية ـ التركية ، التي تصاعدت على أرضية التصادم بين النزعات القومية العربية والتركية الطورانية وسياسة التتريك التي انتهجها ساسة إستنبول الجدد. لكن ذلك لم يدم طويلا ، فلا القيادة الصهيونية كانت راضية عن التسهيلات التي قدمها الحكام الأتراك الجدد ، ولا هؤلاء استطاعوا تقديم المزيد لاعتبارات تركية ، سواء في السياسة الخارجية ـ تنافس دول أوروبا بشأن مناطق النفوذ في أراضي السلطنة ـ أو لاعتبارات داخلية ـ تنامي المعارضة العربية للسياسة التركية ، وخصوصا تساهلها مع المشروع الصهيوني ، وكذلك معارضة الأوساط التقليدية في الإمبراطورية العثمانية من منطلقات دينية.

لقد مات هيرتسل (١٩٠٤ م) من دون أن يحقق حلمه بالحصول على البراءة الدولية ، وكان على المنظمة الصهيونية أن تنتظر نتائج الحرب العالمية الأولى ، وبالتالي صدور وعد بلفور (١٩١٧ م). وكذلك ، فالنجاحات التي حققها المشروع الصهيوني الاستيطاني كانت محدودة ، سواء بسبب العقبات الموضوعية في فلسطين ، أو الانقسامات الداخلية بشأن مسألة الهجرة قبل الحصول على الترخيص الدولي

__________________

(٢) المسيري ، مصدر سبق ذكره.

٣٣٥

بذلك. وكان الإنجاز الأكبر الذي حققه هيرتسل هو تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية ، بهيئاتها وأطرها التنظيمية والإدارية والمالية. ومن خلال المؤتمرات ، عينت المنظمة الصهيونية العالمية نفسها حكومة لليهود أينما وجدوا ، ومن دون التعبير عن موافقتهم على ذلك. وانطلقت تلك الحكومة تعمل على إقامة «دولة» ، لا يزال ينقصها الشعب ، كما أنها لا تملك الأرض. فقد ظلت أغلبية يهود العالم تعارض الصهيونية ، وظلت الأرض ـ فلسطين ـ بعيدة المنال نتيجة الأوضاع القائمة ، محليا ودوليا. وعلى هذه الأرضية وقعت خلافات حادة داخل المؤتمر الصهيوني ، أدّت إلى انقسامات أيديولوجية وعملية. وعلى العموم ، ظلت الإنجازات الصهيونية على صعيد «نشر الوعي القومي» ، كما طرح في برنامج بازل ، متواضعة جدا.

ب) الصراعات الداخلية

في المؤتمر الصهيوني الثاني (بازل ١٨٩٨ م) ، أثيرت مسألة ردة الفعل السلبية للجماعات اليهودية على المشروع الصهيوني ، واستمرار المهاجرين منها في تفضيل التوجه إلى الولايات المتحدة على فلسطين. وطرح هيرتسل شعار «كسب الجماعات اليهودية» في العالم إلى جانب الصهيونية والاستحواذ على ولائها لمشروعه. وإزاء استنكاف تلك الجماعات عن الصهيونية ، كان على قادة العمل الصهيوني تركيز اهتمامهم على القوى الإمبريالية ، وعبرها «الهجوم على تلك الجماعات من أعلى» ، واستغلال أزماتها لاختراق صفوفها إلى القاعدة. وفي المؤتمر الثالث (بازل ١٨٩٩ م) ، نوقش موضوع تأسيس «جمعية التخاطب بالعبرية ، ونشر الثقافة اليهودية بين يهود العالم». وفي المؤتمر الرابع (لندن ١٩٠٠ م) ، احتدم الخلاف بشأن المسألة الثقافية بين المتدينين والعلمانيين ، الأمر الذي حدا هيرتسل على مناشدة الجميع طرح الخلافات جانبا ، والتركيز على الأهداف المشتركة. وظلت مسألة استنكاف اليهود عن العمل الصهيوني قضية مؤرقة لنشطاء المنظمة الصهيونية ، وخصوصا في بريطانيا ، إذ تمتع المشروع الصهيوني بتعاطف مراكز قوى في الحكومة ، وبوجه خاص في أوساط موظفي وزارة المستعمرات ، الذين أقام هيرتسل معهم صلات وثيقة ـ فكريا وعمليا. وبقي غياب التأييد الشعبي اليهودي للصهيونية مسألة محرجة لقادة العمل الصهيوني الذين نصبوا أنفسهم معبرين عن تطلعات التجمعات اليهودية.

وتميّز المؤتمر الخامس (بازل ١٩٠١ م) باحتدام الخلاف بشأن مسائل متعددة ومنها المسألة الثقافية ، إذ طرح مشروع إنشاء جامعة عبرية. وبرز «تيار ديمقراطي» في الوسط بين العلمانيين والمتدينين ، تزعمه حاييم وايزمن ومارتن بوبر. وجرت المطالبة

٣٣٦

بالإفادة من رؤوس الأموال اليهودية غير الصهيونية ، في تمويل الصندوق القومي اليهودي لشراء الأراضي في فلسطين. وانشق المتدينون ، بزعامة الحاخام يتسحاق راينس ، احتجاجا على اشتداد النزعات الراديكالية والعمالية في المؤتمر الصهيوني ، وأقاموا «حركة همزراحي» (المركز الروحي) ، ولكن في إطار المنظمة الصهيونية العالمية. وفي المؤتمر السادس (بازل ١٩٠٣ م) ، احتدم الخلاف بشأن «مشروع أوغندا». وفي المؤتمر السابع (بازل ١٩٠٥ م) ، كان هيرتسل قد مات ، وانتخب دافيد ولفسون بديلا منه. وبغياب هيرتسل ، الشخصية القادرة على لملمة الأوضاع في المنظمة ، استعر الجدل بين أنصار مشروع أوغندا والمتشبثين بفلسطين. وهزم الأوغنديون ، وانشقوا بزعامة يسرائيل زانغويل ، وأسسوا «المنظمة الإقليمية اليهودية» التي حلّت نفسها سنة ١٩٢٥ ، بعد فشل مخططاتها.

ولعل أبرز أحداث المؤتمر الصهيوني السابع هو ظهور «التيار الصهيوني العملي» كقوة فاعلة ، وخصوصا في أوساط ممثلي روسيا ، الذين دعوا إلى التخلي عن المبدأ الذي وضعه هيرتسل ـ الحصول على البراءة الدولية قبل الشروع في الاستيطان. واشتد الصراع بين هذا التيار وأصحاب المنظور السياسي من أتباع هيرتسل ، ومنهم رئيس المنظمة الجديد ، ولفسون. وراح هذا التيار يقوى حتى استطاع إزاحة ولفسون ، واستبدله بالبروفسور أوتو واربرغ (١٩١١ م). وتحت تأثير هذا التيار اتخذ المؤتمر الثامن (لاهاي ١٩٠٧ م) قرارا بمباشرة النشاط الاستيطاني على نطاق واسع في فلسطين. وبداية أنشىء مكتب فلسطين (١٩٠٨ م) ، بإشراف وإدارة آرثر روبين. وفي هذا المؤتمر ، طرح ماكس نوردو ، أحد أبرز قادة العمل الصهيوني ، منظوره لهذا العمل بقوله : «الذهاب إلى فلسطين بمثابة الحملة المعتمدين للمدنية والتحضير ورسالتنا تقوم على توسيع الحدود الأخلاقية (الأدبية) لأوروبا حتى تصل إلى الفرات.» (١) وهدّأ نوردو روع اليهود الأوروبيين المتخوفين من تحوّل المهاجرين منهم في الشرق إلى آسيويين.

ومنذ سنة ١٩٠٨ م بدأ الصهيونيون العمليون النشاط الاستيطاني بوتيرة عالية ، تحت الشعار الذي أطلقه أوتو واربرغ ـ «سياسة التغلغل الاقتصادي». ودعاة هذه السياسة تطلعوا إلى انسجام أعلى مع المناخات الأوروبية السائدة من حولهم. ورأوا في مشروعهم الاستيطاني امتدادا لسياسة أوروبا العامة في الخارج. وقد اقتنع هؤلاء

__________________

(٣) وزارة الدفاع الوطني ـ الجيش اللبناني ، ومؤسسة الدراسات الفلسطينية ، «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» (بيروت ، ١٩٧٣) ، ص ٦٧ ـ ٦٨.

٣٣٧

بأن «الحق التاريخي» الذي تدعيه الصهيونية لليهود في فلسطين ، لا يكفي لحمل الدول الأوروبية على تبني مشروعهم. ولذلك ، لا بدّ من أن يكتسب صيغة عصرية تقربه من السياسة الأوروبية. وهذه الصيغة في نظرهم تقوم على إخضاع فلسطين للنفوذ الاقتصادي الصهيوني ، وإثبات أن كل تقدم حدث في فلسطين إنما يعود إلى المبادرة الصهيونية. وقد قوي هذا التيار بعد انقلاب تركيا الفتاة ، وما يحمله في ثناياه من إمكانات تعديل السياسة العثمانية إزاء المشروع الصهيوني. وفي المؤتمر العاشر (بازل ١٩١١) ، اضطر ولفسون إلى الاستقالة تحت ضغط العمليين ، وانتخب مكانه المعبر الحقيقي عن التيار العملي ، أوتو واربرغ ، وبانتخابه تسلم العمليون زمام الأمور في المنظمة الصهيونية العالمية.

وفي المؤتمر الحادي عشر (فيينا ١٩١٣ م) ، آخر المؤتمرات الصهيونية قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى ، وبالتالي توقفها عن الانعقاد ، كانت هيمنة العمليين واضحة. وزاد في تلك الهيمنة تحالفهم مع «التوفيقيين» ـ تيار حاييم وايزمن. وفي التقرير السياسي المقدم للمؤتمر يبرز الاهتمام بالتطورات السياسية التي من شأنها التأثير في مستقبل الشرق الأوسط. وقد ورد فيه التأكيد على أن نجاح المشروع الصهيوني لا يتوقف على البراءة الدولية. وبناء عليه ، تتوجه المنظمة الصهيونية إلى تحقيق هدفها في فلسطين عن طريق النشاط العملي. واندلعت الحرب العالمية الأولى والمنظمة الصهيونية تعمل على جبهتين : سياسية ، تسعى للحصول على الاعتراف الدولي بالصهيونية وأهدافها ؛ وعملية ، تنشط في حقل الاستيطان وتهويد فلسطين ـ الأرض والشعب والسوق ـ بكل ما ينطوي عليه ذلك من تغييب لأهل البلد الأصليين ـ ماديا ومعنويا ـ ونفي لحقهم التاريخي في وطنهم.

وكما أثار نشاط العمليين ردات فعل داخل المنظمة الصهيونية ، وأدّى إلى حالة من الاستقطاب فيها ، بما انطوى عليه ذلك من انعكاسات على صعيد العلاقات السياسية مع القوى الأوروبية ، كذلك فعل في فلسطين واستنبول. فالنشاط الصهيوني المكثف في إستنبول لاستغلال التعاطف الحذر الذي أبداه حكام تركيا الجدد مع المشروع الصهيوني ، ودفع الأمور إلى أبعد الحدود ، وبالسرعة القصوى ، نحو حسم القرار التركي بمنح المنظمة الصهيونية الامتياز المطلوب للاستيطان في فلسطين ، أدّى إلى نتائج عكسية. فهؤلاء الحكام الجدد وضعوا على رأس جدول أعمالهم صيانة وحدة الأراضي العثمانية ، وتوحيد شعوبها على قاعدة التتريك ، وأدخلوا نظام حكم دستوري ، يستند إلى برلمان يتمتع بدرجة من التعددية السياسية وحرية التعبير والمناقشة. وتحولت القضية الصهيونية إلى موضوع نقاش حاد في البرلمان ،

٣٣٨

وخصوصا من جانب النواب العرب والأوساط التقليدية العثمانية. في المقابل ، سرعان ما اكتشف الحكام الجدد أن الأهداف الصهيونية المطروحة تتناقض مع توجهاتهم السياسية بالحفاظ على وحدة الأراضي العثمانية ، كونها تشكّل عامل تفتت إضافي ، سواء على صعيد الأرض ، أو السكان ، أو وحدة الموقف من التدخل الأجنبي ، وبالتالي تفتح مدخلا جديدا لتوسيع النفوذ الأوروبي في أراضي السلطنة.

وفي فلسطين ، حرّك النشاط الاستيطاني الصهيوني المكثف مقاومة السكان ، من القطاعات الاجتماعية المتعددة ، وبدرجات متفاوتة من الحدة. فعلى خلفية الوعي القومي العربي الذي كان يتبلور منذ منتصف القرن التاسع عشر ، ويعبر عن نفسه بصور متعددة ، جاء النشاط الصهيوني ليحرك مقاومة السكان العرب الفلسطينيين لهجرة اليهود إلى بلدهم وشراء الأراضي فيها ، وخصوصا من الملاكين الغائبين ، وبناء المستعمرات عليها ، بعد طرد الفلاحين منها. وكذلك ، فسياسة التغلغل الاقتصادي الصهيونية ، وبالتالي تهويد اقتصاد البلد ، حرّك قطاعات اقتصادية ـ اجتماعية أخرى. وبتسارع وتيرة الاستيطان تفاقمت الأزمة ، واحتدم التناقض ، فانفجر الصراع ، بأشكال عنيفة أحيانا. وطالت أعمال العنف المستوطنين وممتلكاتهم ، وتذرع المستوطنون بتقصير السلطة في حمايتهم لانتزاع موافقة بعض الموظفين الأتراك الفاسدين على إقامة منظمات شبه عسكرية للدفاع عن المستعمرات وممتلكاتها. وقد ألزم أعضاء الهجرة الثانية المستوطنين القدامى بتوظيفهم كحراس ، وبالتالي توليهم أمن المستعمرات ، عبر منظمة «الحارس» (هشومير) المسلحة بصورة شبه علنية.

لقد حمل أعضاء الهجرة الثانية معهم من روسيا فكرة العنف المسلح لفرض وجودهم القسري على السكان العرب الفلسطينيين. وكان هؤلاء قد مارسوا مثل هذا النشاط في أوديسا وهومل وغيرهما ، في أثناء الاضطرابات في روسيا. وكان نشطاء العمل المسلح بين طلائع المهاجرين ، ومنهم : يحزقئيل خانكين ويتسحاق بن ـ تسفي ويسرائيل شوحط وإسكندر زايد وغيرهم. ومنذ وطئت أقدامهم أرض فلسطين ، ونزلوا المستعمرات القائمة كعمال ، راحوا يتآمرون لفرض حمايتهم على المستوطنين القدامى. وانتهزوا فرصة فشل ترتيبات الحراسة التي وضعها هؤلاء المستوطنون في زخرون يعقوف ورحوفوت وبيتح تكفا وريشون لتسيون ، لطرح أنفسهم حراسا على أرواح المستوطنين وممتلكاتهم. وكان هؤلاء قد وضعوا بعض الترتيبات للحراسة ، قام بها «نواطير» خيالة. ولما فشل هؤلاء النواطير في صيانة أمن المستعمرات ، استبدلوا بنواطير محليين. وانتهز المهاجرون الجدد هذا الوضع للتآمر والتحريض ، من منطلق شعار العمل العبري ، الذي حملوه معهم من

٣٣٩

مواطنهم الأصلية. وعلى الرغم من معارضة المستوطنين القدامى ، استطاع هؤلاء المهاجرون الجدد فرض إرادتهم ، وتسلموا مهمة الحراسة في المستعمرات.

وبذلك وضع أعضاء الهجرة الثانية حجر الأساس للمنظمات الإرهابية الصهيونية المسلحة في فلسطين. فالحراس كانوا أحد أذرعة حزب بوعالي تسيون (عمال صهيون) لتنفيذ خططه الاستيطانية وفقا للنهج العملي الذي تبناه وشرع بتطبيقه. وبداية ، سعى هؤلاء لاحتلال العمل ، بما في ذلك الحراسة ، في المستعمرات اليهودية ، وطرد العمال العرب منها ، بمن فيهم النواطير ، وبالقوة إذا لزم الأمر. وكانت كل واحدة من تلك المستعمرات قد عهدت بشؤون حراستها إلى إحدى القبائل البدوية المحيطة ، أو القرى الشركسية القريبة. وبعد محاولات مبعثرة وعفوية ، وإزاء ازدياد معارضة المستوطنين القدامى ، عقد (١٩٠٩ م) المؤتمر التأسيسي لمنظمة هشومير (الحارس) ، في مستعمرة مسحة (الجليل الأسفل). وتقرر في المؤتمر إنشاء منظمة تتولى حراسة المستعمرات وإعداد الحراس وتدريبهم على ركوب الخيل واستعمال السلاح. لكن أعمال المنظمة تعثرت في البداية ، نظرا إلى قلة عددها ، وعدم خبرة أفرادها ، وسلوكهم الاستعلائي ، سواء إزاء المستوطنين ، أو الفلاحين العرب في الجوار. وقد أدّى ذلك إلى نتائج عكسية للهدف الذي أقيمت المنظمة من أجله ـ حماية المستعمرات ـ فعاد سكانها إلى استخدام نواطير من القبائل والقرى المجاورة.

ولعل النجاح الأكبر الذي حققته منظمة هشومير ، كان على صعيد طرد الفلاحين المرابعين من أراضي الملاكين الغائبين ، الذين باعوا تلك الأراضي إلى الصندوق القومي اليهودي. فقد ساهم مسلحو تلك المنظمة (١٩٠٩ م) في السيطرة على أراضي مستعمرة دغانيا (جنوب بحيرة طبرية) ، وتثبيت المستوطنين فيها ، على الرغم من مقاومة الفلاحين العرب. وكذلك فعلوا في الخضيرة مع سكان القرى المجاورة ، إذ نشبت معركة بشأن أرض يقيم عليها فلاحون عرب. ونجح المستوطنون ، يدعمهم مسلحون من منظمة هشومير ، في طردهم منها ، بعد وقوع عدد من الإصابات في الجانبين. وفي النهاية استولى مستوطنو الخضيرة على الأرض. وكان الحادث الأبرز في مرج ابن عامر ، إذ باعت عائلة لبنانية من الملاكين الغائبين ، سرسق ، الأراضي التي أقيمت عليها مستعمرة مرحافيا (١٩١١ م) ، بالقرب من الفولة. وقاوم الفلاحون انتزاع الأرض من أيديهم بشدة ، لكن مسلحي منظمة هشومير تغلبوا في النهاية ، وفرضوا سيطرتهم على الأرض. وكان حاكم طبرية التركي يدعم المستوطنين في مسألة هذه الأرض ، التي دار بشأنها صراع طويل ، قاده حاكم الناصرة ، شكري

٣٤٠