الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

كما يبدو للتجارة مع الخارج.

وعلى طول الساحل الفلسطيني ، اكتشفت مواقع من عصر الكالكوليت ، اعتبرها البعض وحدة حضارية مستقلة ، بينما هي في السمات الأساسية لا تتباين كثيرا عن حضارة الغسول ، أو بئر السبع وغيرهما. لكن أصحابها مارسوا عادات دفن متباينة عن تلك المعروفة في الجبل والغور. وقد وجدت توابيت من الصلصال المجفف ، على صورة بيوت سكنية ، استعملت للدفن في كهوف كبيرة محفورة في الصخر. وقد وجد مثل هذه المقابر في منطقة يافا ، وبالقرب من الخضيرة ، وكذلك في يازور. كما اكتشف بناء كبير ، يبدو أنه استعمل كمعبد في خربة الشيخ ميصر ، وهو يشبه المعبد الذي اكتشف في تليلات الغسول.

٤١

المراجع

باللغة العربية

ـ أور ، فرنسيس. «حضارات العصر الحجري القديم». تعريب د. سلطان محيسن.

دمشق ، ١٩٨٩.

ـ شعث ، شوقي (محرر). «دراسات في تاريخ وآثار فلسطين (وقائع الندوة العالمية الأولى للآثار الفلسطينية)». ٣ مجلدات. حلب ، ١٩٨٧.

ـ كوفان ، جاك. «ديانات العصر الحجري الحديث في بلاد الشام». ترجمة د. سلطان محيسن. دمشق ، ١٩٨٨.

ـ محيسن ، سلطان. «آثار الوطن العربي القديم (الآثار الشرقية)». دمشق ، ١٩٨٨ ـ ١٩٨٩.

ـ ـ. «بلاد الشام في عصور ما قبل التاريخ (الصيادون الأوائل)». دمشق ، ١٩٨٩.

ـ ـ. «عصور ما قبل التاريخ». دمشق ، ١٩٩٠ ـ ١٩٩١.

ـ «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم العام. ٤ مجلدات. دمشق ، ١٩٨٤.

ـ ـ ، القسم الثاني (الدراسات الخاصة). ٦ مجلدات. بيروت ، ١٩٩٠.

باللغات الأجنبية

٤٢

الفصل الثاني

عصور التاريخ الأولى

مقدمة

يعتبر ابتكار الكتابة عتبة العبور من عصور ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية الأولى. ويتفق العلماء حاليا على أن هذا الحدث المهم في مسيرة الحضارات البشرية الطويلة ، وقع في بلاد ما بين النهرين (العراق) ، في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد ، ثم انتقل بتواتر سريع إلى مناطق الشرق الأدنى القديم الأخرى. وبابتكار الكتابة ، صار الناس يسجلون الأحداث المعاصرة ، وعبر الوثائق المكتوبة ، انتقلت المعرفة بهذه الأحداث من السلف إلى الخلف. وقد وصلت إلينا على صورة لوحات نقشت عليها رموز ، عمل العلماء على فكّها. وبقي الأقدم منها أكثر غموضا ، كما أنه الأكثر ندرة بطبيعة الحال.

لكن الكتابة ليست المركب الوحيد الذي آذن بدخول العصر الجديد ، وإنما تواكب ذلك مع ظاهرتين أخريين ميّزتا حضارة هذا العصر ، على الأقل في جانبها المادي ، وهما : بناء المدن الكبيرة ، وانتشار استعمال المعادن ـ بدلا من الصوان ـ إلى جانب الفخار. وبناء عليه ، يعتقد العلماء أنه كما يصح التقسيم إلى ما قبل التاريخ وما بعده ، على أساس ابتكار الكتابة ، يصح كذلك التقسيم على أساس التمييز بين ظاهرة بناء المدن وما سبقها. كما يمكن تقسيم التاريخ بحسب المواد الأولية التي استعملها الإنسان بصورة رئيسية في تشييد حضارته المادية ـ الصوان والفخار والمعادن ـ وكل منها في حينه ، وبحسب شيوع استعماله.

وإذا كانت الوثائق الأولى ، على قلتها ، لا تزال غير مفكوكة الرموز بالكامل ، وبالتالي فهي لا توفر لنا المعلومات الكافية ، فإن بقايا المدن الكبرى الأولى لا تزال مدفونة تحت طبقات سميكة من التراب والحجارة ، ومعلوماتنا عنها قليلة نسبيا. وبناء عليه ، فالباحثون في هذا العصر يعتمدون كثيرا على وثائق من فترات لاحقة ، تطرقت ، بصورة أو بأخرى ، إلى أحداث سابقة ، ولكنها خارج ذلك الزمان أو المكان ، وتستوجب التمحيص في مقدار دقتها وصدقيتها. أمّا أعمال التنقيب فمستمرة ، وهي كلما تقدمت قدمت المزيد من المعلومات ، وحفريات إبلا تشكل دليلا على ذلك.

٤٣

ويتفق العلماء على أن الكتابة ظهرت في مجتمعات المدن ، وأن الحافز على ابتكارها كان تطور المعاملات الاقتصادية ، في مجتمع مركب ، يقوم على اقتصاد منوّع ، فيه درجة عالية من التخصص ، وتؤدّي التجارة دورا متعاظما فيه. وبعض النصوص الأولى التي وصلت إلينا لا تعدو كونها سجلات لأمور تتعلق بالحياة اليومية ، مثل عدد رؤوس الحيوانات وأنواعها ، التي أودعها المالك في يد الراعي للعناية بها ، وما شابه. وراحت هذه النصوص تتطور ويتسع استعمالها وانتشارها بالتواكب مع تطور العلاقات ، الداخلية والخارجية ، لمجتمع المدن ، وفي المجالات جميعها ـ الاقتصادية والحضارية والبشرية ـ وبحسب مقتضيات ذلك التطور كمّا ونوعا.

ويبقى النمو السكاني العنصر الأساسي في قيام المدن وتطور اقتصادها وتنوعه ، ثم يليه التراكم الرأسمالي ، كعنصر رئيسي ثان في حضارة المدن. وهذان العنصران يحفزان على تطوير الكتابة ، كوسيلة فعلية لتسيير التعامل الاقتصادي والتفاهم الفكري ، بمواكبة التوسع في العلاقات المجتمعية كافة ، داخليا وخارجيا. ففي المدن ازداد نبض الحياة ، وبالتالي التفاعل الحضاري الداخلي ، الذي لم يلبث ، بفعل التخصص وفائض الإنتاج أن استنفد إمكاناته الداخلية. فراح يبحث عن آفاق جديدة ، وعلى نطاق أوسع وأشمل. وفي الشرق الأدنى القديم طال جميع أجزاء المنطقة ، الأمر الذي ينعكس في التأثيرات الحضارية المتبادلة ، مادّيا وروحيّا.

وفضلا عن العدد الكبير من السكان الذي تركز في المدن ، وما استتبعه من تغيير في نمط الإنتاج الاجتماعي وعلاقاته ، تميّزت المدن من القرى التي سبقتها بظاهرتين بارزتين : الأبنية العامة الشاهقة والضخمة ، والتحصينات الدفاعية. وإذ كانت الأولى عامل جذب سكاني إلى المدن في زمن السلم والازدهار ، فقد قامت الثانية بهذا الدور في زمن الحرب. والأكيد أن اكتشاف البرونز ، واستعماله على نطاق واسع ، ساعد مجتمعات المدن على تشييد هذه الأبنية والتحصينات. إلّا إنّ العامل الأساسي الذي مكّن من ذلك ، هو وجود مجتمع منظم ، تسوده علاقات متطورة ، وتحكمه سلطة مركزية فاعلة ، وهو يمتلك المعارف والأدوات اللازمة للقيام بالعمل المطلوب.

وهناك بالضرورة علاقة جدلية بين ازدهار المدن وارتقاء النظام الاجتماعي. ويتضح أن التطور على هذا الصعيد كان في اتجاه تبلور الملكية الاستبدادية ، المرتكزة على الآلة العسكرية ، وصولا إلى قيام الإمبراطوريات ، متعددة الأجناس والشعوب. والازدهار مرتبط بفائض الإنتاج ، وبالتالي تراكم رأس المال ، وتعزيز التخصص وتطور الحرف والتجارة. وباستثناء الظاهرة الفريدة في فلسطين ـ أريحا ـ كان جنوب العراق

٤٤

(بلاد سومر) ، هو السبّاق لقيام مثل هذه المدن ـ الدولة ، وتبعته مصر. أمّا بلاد الشام فقد تأخرت عنهما ، كمّا ونوعا. ومع أنها شهدت في هذا العصر قيام المدن ، إلّا إنها ظلت من حيث الحجم والموارد أصغر من أن تشكل الندّ لمدن كل من العراق ومصر.

ومن المتفق عليه عموما الآن ، أن الانتقال من مجتمع القرية إلى حضارة المدينة ـ الدولة وقع في وادي دجلة والفرات الأسفل. أمّا الأسباب التي أدّت إلى هذا التطور النوعي ، فيدور بشأنها نقاش واسع بين المؤرخين ، والطروحات عندهم متباينة. فهناك من يرى أن ظاهرة قيام المدن كانت النتيجة الطبيعية لتقدم القرى وازدياد عدد سكانها ، وامتلاكها الخبرات والأدوات والمؤسسات ... إلخ. ويذهب البعض إلى حدوث طفرة درامية ، أدّى استعمال المعادن دورا كبيرا فيها. وهناك من يعود إلى نظرية المناخ ، وبالتالي الجفاف ، وضرورة اللجوء إلى زراعة الريّ ، وتنظيم المجتمع على هذا الأساس. كما يطرح البعض هجرات جديدة من الشعوب ، حملت معها سمات حضارتها من مواطنها الأصلية.

وإذ توجد دلائل تدعم وجهات النظر أعلاه كلها ، فليس من المستبعد تضافر عوامل متعددة لإيجاد ظاهرة المدينة ـ الدولة. ومهما يكن الأمر ، فإنه نحو سنة ٤٠٠٠ ق. م. ، حدث انتقال مفاجىء في نمط حياة سكان وادي دجلة والفرات ، وخصوصا في الجزء الأسفل منه. ففي هذا الجزء توفرت أرض خصبة ، قابلة للاستصلاح بقليل من الجهد ، وكذلك تنظيم عملية الريّ ، أو صيانة الحقول من الفيضانات الجارفة. وفي الأرض الرخوة التي تخلفها مياه الأنهار لدى انحسارها بعد الفيضان ، إضافة إلى مناخ حار ، تنمو المزروعات بسرعة إذا توفرت مياه الري في أشهر القيظ. وكذلك ، ففي المستنقعات ثروة سمكية غنية ، كما أن التمور في جنوب العراق رفدت سلّة غذاء الناس في تلك المنطقة.

وتشير المعلومات المتوافرة إلى أنه نحو سنة ٤٠٠٠ ق. م. ، ظهرت في جنوب العراق مدن كبيرة ، لا تقل بحجمها عن المستوطنات التي تسقيها مياه الأمطار الغزيرة. وهذا يدل على أن الناس في تلك المنطقة ـ حيث معدل سقوط الأمطار يتدنى إلى حد الانقطاع ـ قد ابتكروا أساليب للريّ ، بدءا في جوار مجاري الأنهار ، ثم راحوا يوسعون الرقعة المروية ببناء سدود أكبر وأفضل ، وبطرق أكثر تعقيدا. ونحو سنة ٣٥٠٠ ق. م. ، كانت حضارة المدن السومرية قد تأسست ، وهو ما يدل على أن هذا الشعب قد امتلك القدرة ، عبر تنظيم المجتمع ، وتشكيل سلطة مركزية ، على بناء أنظمة ريّ متطورة ، سمحت له باستغلال الإمكانات الزراعية المتوفرة في وادي نهري دجلة والفرات الأسفل.

٤٥

إن معلوماتنا عن السومريين لا تعرفنا بأصلهم. ولغتهم ، بالقدر المعروف عنها ، لا تمت بصلة إلى أية لغة أخرى معروفة. ويستشف من أساطيرهم أنهم جاؤوا العراق من الخليج العربي (دلمون ـ البحرين). وحتى الاسم سومر ، الذي أطلق عليهم هو ترجمة أكادية (سامية ـ شرقية) للكلمة السومرية ساج ـ جيجا (Sag ـ giga) ، والتي تعني سود الرؤوس. ولعلهم وصلوا إلى العراق وهم يعرفون زراعة الريّ ، مع أن ديانتهم ، وكذلك تعبيراتهم الفنية ، تركز على عالم الحيوان ، الأمر الذي يشير إلى أصول كانت تعمل بالرعي. ولكن الحضارة السومرية ، كما تتكشف من خلال الحفريات ، هي حضارة مدن لا لبس فيها.

ويتضح من دراسة الوثائق المكتشفة أنه منذ بداية التاريخ المسجل ، عاشت في بلاد الرافدين شعوب متعددة ومختلطة. ولا شك أن ابتكار زراعة الريّ شكل عامل جذب إلى هذه الرقعة من الأرض ، فجاءها المستوطنون من جهات متعددة للإفادة من خيراتها. والوثائق الأولى المعروفة ، المكتوبة بلغة سومرية ، والتي جاءت من مدن متطورة في أقصى الجنوب ، تظهر أن السومريين كانوا يعيشون جنبا إلى جنب مع شعوب أخرى سامية ـ أبرزها الأكّاديون. وإذا كان السومريون هم الأكثرية في الجنوب ، فإن نسبتهم تقل كلما توجهنا شمالا ، لتصبح الأكثرية هناك من الساميين. وعلى الرغم من الاختلاط الواسع ، وصعوبة التمييز بين عناصر هذه الحضارة ، فقد جرت العادة على تسميتها الحضارة السومرية.

والتطور اللاحق لقيام مدن ـ الدولة السومرية في جنوب العراق ، تميّز بعدم الاستقرار السياسي ، وأساسا بسبب تضاريس المنطقة الجغرافية. فهي تتميز بغياب الحواجز الطبيعية ، أكان ذلك في وجه الغزاة من الخارج أم كعقبات في طريق الحملات العسكرية المنطلقة من الداخل. وبتفاعل جدلي متدرج ، تحولت مدن ـ الدولة إلى دولة ـ المدن ، وبمسار حتمي تقريبا نحو الدولة المركزية ، ومنها إلى الإمبراطورية. فلأسباب دفاعية ، صدّ الغزاة قبل دخولهم تخوم الدولة ، أو لأخرى هجومية ، بحافز التوسع والسيطرة على الموارد والهيمنة على السكان ، توجهت أنظار الدولة المركزية إلى الخارج. وبوجود سلطة مركزية ، ملكية استبدادية وراثية ، تستند في قوتها إلى آلة عسكرية نظامية ، أصبح قرار التوسع أكثر يسرا.

وفي المسار نحو تشكل الإمبراطوريات ، وبالتالي التوجه نحو التوسع والهيمنة عبر الحملات العسكرية ، سبق وادي الرافدين قرينه وادي النيل ، علما بأن الوادي نفسه أدّى دورا مركزيا في وحدة كل منهما ، بغض النظر عن الأسباب والحوافز والأساليب التي أدّت إلى تلك الوحدة. فالصراع بشأن الموارد في جنوب العراق ، فرض على

٤٦

المدن الأولى المزدهرة الصدام مع الغزاة ، ومن ثمّ ، بعد توسعها ، الصراع بين بعضها البعض. وعندما صارت الحرب نهجا ، تشكلت التحالفات ، وانتهت بانتصار هذا الطرف أو ذاك ، وبالتالي إخضاع الآخرين ، وما يستتبعه من تمرد على المحتل عندما تلوح الفرصة. وبسبب الانفتاح على المحيط ، سلبا أو إيجابا ، تبلورت في العراق مبكرا فكرة الإمبراطورية الكونية ، وتلقت بلاد الشام ـ التي بسبب تنوّع تضاريسها الطبيعية غابت عوامل الوحدة السياسية بين مدنها ـ الصدمة الأولى المعروفة تاريخيا لهذه النزعة لدى الكيانات السياسية الكبيرة التي قامت في العراق.

في المقابل ، وخلال فترة قصيرة بعد ازدهار حضارة وادي الرافدين ، وما نجم عن ذلك داخليا وخارجيا ، برزت حضارة مثيلة في وادي النيل. وبسبب الفوارق في الأوضاع الطبيعية ، وكذلك عوامل النشأة والتطور ، تباينت الحضارة المصرية ، شكلا ومضمونا ، عن الحضارة العراقية. وبناء عليه ، تباين أثر كل منهما في بلاد الشام ، الواقعة في الوسط بينهما ، فكانت تشكل أحيانا حاجزا يفصلهما ، وأخرى جسرا يجمعهما ، سلما أو حربا. وعزلة وادي النيل الخصيب ، التي فرضتها الصحارى الواسعة ، أكانت من الشرق أم من الغرب ، تركت آثارها الواضحة في سلوك الدولة المركزية المصرية ، داخليا وخارجيا ، بما في ذلك بلاد الشام. وإذ كان النيل العظيم عامل وحدة رئيسيا لواديه ، فإن رتابة دورة فيضانه ، وبالتالي انتظام الدورة الزراعية على ضفافه ، فضلا عن الحواجز الطبيعية التي قلصت فعل المؤثرات الخارجية فيه ، جعلت التطور السياسي في وادي النيل أكثر استقرارا منه في العراق.

ومع ذلك ، وعلى الرغم من الفوارق في أوضاع النشأة ، وبالتالي في مسالك التطور بين حضارتي العراق ومصر ، فإن ازدهارهما المتزامن في الشرق الأدنى القديم ، جعل الصراع بينهما حتميا ، كما جعل من بلاد الشام ساحة لهذا الصراع. وبناء على ذلك ، فإن تاريخ المنطقة ، ولعصور طويلة ، يجب أن يروى أساسا من مفهوم التفاعل ، سلبا أو إيجابا ، بين هذين المركزين الحضاريين ، بما يتركه ذلك من أثر في بلاد الشام ، بدويلاتها المتعددة ، وردات فعلها على حركة هذين القطبين. وفي الواقع ، قامت مدن كثيرة في بلاد الشام ، معاصرة للمدن في كل من العراق ومصر ، لكنها ظلت أصغر حجما وفعلا ، وأقل قوة وأثرا.

أولا : عصر المدن الأولى

يكشف علم الآثار أن الكثير من مدن فلسطين التاريخية المهمة قد بنيت في عصر البرونز القديم ، أي بداية الألف الثالث قبل الميلاد. لكننا لا نملك حتى الآن

٤٧

شهادة مكتوبة واحدة على ذلك. والوثيقة الأقدم المتوفرة تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد ، أي من عصر سلالات المملكة الوسطى في مصر ، التي كانت لها سيادة على أرض كنعان. إلّا إن الحفريات والمسوحات الأثرية تشير إلى أن منعطفا حضاريا حدث في فلسطين ، بموازاة التطورات الكبيرة في العراق ومصر ، وإن على مستوى أدنى. ويبرز هذا المنعطف من خلال كثافة الاستيطان المديني الجديد في فلسطين ، وذلك باستثناء أريحا ، التي تشكل ظاهرة فريدة ، سبقت عصرها بآلاف السنين.

وبقايا تلك المدن تقف اليوم في أغلبيتها على صورة تلال اصطناعية ، وتحمل في كثير من الأحيان الاسم تل. وهذه التلال منتشرة في جميع أنحاء فلسطين ، ولكل منها خاصيته الاقتصادية أو الاستراتيجية. وقد استمرت هذه المواقع فترات زمنية طويلة ، وشهدت تقلبات سياسية ، كانت في كثير من الأحيان عاصفة. فهدمت المدن بأسوارها ومبانيها ، ثم أعيد تشييدها في الموقع نفسه ، فتشكلت بذلك هذه التلال الاصطناعية. وعبر التنقيب في هذه التلال اكتشفت آثار الحضارة المادية والروحية لسكان تلك المدن القديمة. ويلفت الانتباه في نتائج التنقيب الغنى الأثري في مقابل الشحّ في الوثائق المكتوبة. ولعل الكتابة لم تكن منتشرة في هذا الجزء من الشرق الأدنى القديم ، على غرار مصر والعراق ، أو أن اللوحات المكتوبة قد اندثرت ، على عكس ما هو الحال في ماري وإبلا (سورية) وجبيل (لبنان).

وتكشف المسوحات الأثرية عن استيطان كثيف في جميع أنحاء فلسطين. ففضلا عن المدن (التلال) الكبيرة ، هناك عدد غفير من المستوطنات الصغيرة والمتوسطة. وعلى طول نهر الأردن مثلا ، تبرز كثافة هذه المواقع ، إذ لا يبعد أحدها عن الآخر مسافة كيلومتر واحد أحيانا. واللّقى الأثرية تكشف عن علاقات حضارية مع كل من مصر وسورية والعراق. وإذ يسمي المختصون هذه الفترة عصر البرونز ، فإن استعمال هذا المعدن لم يصبح شائعا إلّا بعد نحو ألف عام ، أي في بداية الألف الثاني قبل الميلاد. ومهما يكن الأمر ، فالباحثون يقسمون هذا العصر إلى ثلاث مراحل :

الأولى : وتمتد من سنة ٣٣٠٠ ق. م. إلى سنة ١٨٥٠ ق. م.

الثانية : وتمتد من سنة ١٨٥٠ ق. م. إلى سنة ١٥٥٠ ق. م.

الثالثة : وتمتد من سنة ١٥٥٠ ق. م. إلى سنة ١٢٠٠ ق. م.

ومن تباين صور الاستيطان يستخلص الباحثون تنوّع أنماط المجتمعات في فلسطين وسواها ، خلال هذه الفترة المهمة. فإلى جانب المدن ، التي تشكل الظاهرة الجديدة المميزة لهذه الحقبة التاريخية عن سابقتها ، كانت هناك قرى ومزارع صغيرة

٤٨

منتشرة ، كما عاشت جماعات حياة التنقل والرعي والصيد. وهم يستندون في هذا الاستنتاج إلى تنوّع عادات وتقاليد دفن الموتى ، وأشكال المقابر ، وهو ما يدل على وجهات نظر متباينة بشأن الحياة والموت وشخصية الإنسان وموقعه في المجتمع. ونظرا إلى تواتر تدمير المستوطنات ، وإعادة بنائها ، الأمر الذي يبرز من خلال تراتبية الطبقات في التلال ، يعتقد الباحثون أن هذا العصر شهد تحركات واسعة لجماعات بشرية ، دارت بينها حروب طاحنة على الأرض والموارد. وما التحصينات إلّا دلالة على ذلك ، إذ لا مدينة من دون أسوار.

ويستخلص الأثريون أن جماعات جديدة جاءت إلى فلسطين في عصر المدن الأولى ، وظلت الهجرات إليها تتوالى. ويؤيد علماء الأنثروبولوجيا ذلك ، من خلال التمييز بين أنماط متعددة من الهياكل العظمية المكتشفة في المدافن. ومع ذلك ، فهم يؤكدون أن العنصر السائد ظل إنسان حوض البحر الأبيض المتوسط ، أي العنصر الذي اصطلح على تسميته السامي ، والذي انتمى إليه النطوفيون ـ سكان فلسطين في العصور السابقة. ومن دراسة الحضارة ، المادية والروحية ، لسكان فلسطين في هذا العصر ، يستخلص الباحثون نتيجة مفادها أن فلسطين شهدت تمازجا ، عرقيا وحضاريا ، خلال الألف الثالث قبل الميلاد ، ليس له مثيل في تاريخ المنطقة. وهذا التمازج عمّ الشرق الأدنى القديم ، وأدّى دورا رئيسيا في صوغ حضارة هذا الجزء من العالم وتاريخه.

وإذ تتباين آراء الباحثين بشأن جنسية هذه الجماعات ، وأصولها العرقية ومواطنها الأصلية ، فإن أحدا لا ينكر الحضور المتميز للجماعات السامية ، التي يعتقد أن موطنها الأصلي هو الجزيرة العربية. ومن هذه الجماعات تفرعت الشعوب السامية القديمة المعروفة : الأكاديون والأشوريون والعموريون والبابليون والكنعانيون والأراميون وغيرهم. ولا يشك أحد في أن بين هذه الشعوب علاقات قربى ، عرقية ولغوية وحضارية. ومنهم من يقسم هذه الشعوب إلى سامية شرقية ، تبلورت شخصيتها ، وكذلك لغتها في العراق ، وأخرى سامية غربية ، تبلورت شخصيتها ولغتها في بلاد الشام. وهذه الأخيرة تدين باسم غربية إلى مصادر أكادية ، استعملت مصطلح عمورو ، أو أمورو ، للإشارة إلى الجماعات التي تعيش في بلاد الشام ، إلى الغرب من نهر الفرات.

ومن الواضح أن بلاد الشام ، وضمنها فلسطين ، لم تكن معزولة عن الثورة التي أحدثها قيام مدن ـ الدولة في مصر والعراق. وإن تأخرت عنهما بعض الوقت. وبينما سار العراق ومصر ، وكل منهما لأسباب خاصة ، على سكة الدولة المركزية

٤٩

فالإمبراطورية ، نتيجة ما ولّده ازدهار المدن من تحوّلات اجتماعية داخلية ، وما نجم عن هذه التحولات من صوغ للعلاقات الخارجية ، سلمية أو عدائية ، ظلت بلاد الشام ، ولأسبابها الخاصة أيضا ، تراوح في مرحلة مدن ـ الدولة. ولمّا كانت الكتابة ، وبالتالي الدخول إلى عصر التاريخ ، تعبيرا عن هذا التطور ، أولا في العراق ، ومن ثمّ في مصر ، فقد تخلفت بطبيعة الحال مدن ـ الدولة في بلاد الشام عنهما في هذا المضمار. ولكنه لا بدّ من الإشارة إلى أن حفريات جديدة في سورية وفلسطين ، كما هو الحال في إبلا ، قد تغيّر هذا الاستنتاج الشائع حتى الآن ، والمؤشرات في سورية واعدة أكثر منها في فلسطين.

وبناء عليه ، فإنه عدا ما تكشفه الحفريات عن أوضاع المدن الأولى في فلسطين ، هناك القليل من المعلومات التي توفرها الوثائق المكتوبة التي عثر عليها في العراق ومصر. وهذه الوثائق ، نظرا إلى طبيعتها ، وأولويات اهتمام كتّابها ، فضلا عن قلتها ، لا تساعد كثيرا على إيجاد الأجوبة للأسئلة التي تطرحها نتائج التنقيبات الأثرية ، كأعراض التغيّر الحضاري والحرب وتدمير المدن والقرى وإعادة بنائها ... إلخ. ولعل الوضع في شمال بلاد الشام أفضل حالا على هذا الصعيد من جنوبها ، وذلك بفضل الوثائق التي اكتشفت في ماري (تل الحريري) ولاحقا في إبلا (تل مرديخ) ، وكذلك في جبيل (بيبلوس) وأوغاريت (رأس الشمرا) وغيرها.

ومع ذلك ، فإن ما يتوفر لدينا من معلومات يؤكد أن ثورة عصر المدن قد طالت فلسطين بكل أبعادها ـ السكانية والمادية والروحية والعمرانية ... إلخ. وباستثناء الوحدة السياسية ، التي لم تتحقق قط خلال هذه العصور ، فإن المدن الفلسطينية امتلكت كل السمات الأساسية لتلك التي برزت في العراق ومصر. فقد راح عدد سكانها يزداد ، ورقعتها تتسع ، وتخطيطها يرتقي ، وتحصيناتها تعلو ، وأبنيتها المركزية تشمخ ، ومرافقها تتطور. والأكيد أنه جنبا إلى جنب مع هذه التحوّلات ، تطورت العلاقات الاجتماعية ، وتميّزت الطبقات ، واستقرت التراتبية السلطوية. ومعها تعمقت مركزية النظام السياسي ، وكذلك الاستقطاب الاجتماعي ، من قمة الهرم ـ النبلاء ـ إلى قاعدته ـ العبيد ـ وما بينهما ـ تجار وجنود ومزارعون وحرفيون ـ وفي موقع خاص ، الكهنة والكتبة والإداريون.

والصراع التناحري الذي نشب بين سكان هذه المدن ، الذين ينعمون باستقرار الحياة فيها وازدهارها ، وبين الجماعات البدوية ، المتجولة على أطراف مجالها الحيوي ، والمتربصة على الدوام بها ، تتحين الفرص للانقضاض عليها ، قد حفز بالضرورة سكان تلك المدن على إقامة التحصينات الدفاعية. ولمّا لم تعد الأسوار

٥٠

كافية ، عمدت مدن ـ الدولة هذه إلى بناء قوتها العسكرية ، وسرعان ما انتقلت بدورها من الدفاع إلى الهجوم مع احتدام التناقض ، سواء مع الجماعات الغازية ، أو مع المدن الأخرى المنافسة ، بشأن الأرض أو الموارد أو من أجل الهيمنة. وتحولت الآلة العسكرية إلى حاضنة للسلطة ، ومن صفوفها برز الملوك ، وبسيوفها فرضوا سلطانهم وهيبتهم ، وبدماء جنودها حققوا أحلامهم التوسعية.

والمدن السومرية ، التي قامت ورسالتها خدمة الإله ، مالك الأرض ، وواهب نعم السماء ، وبالتالي تمحورت حول الهيكل ، حيث يقيم وكلاء الإله ـ الكهنة ـ ويديرون شؤون ملكه ، تحولت مع الزمن ، وبتطور متدرج ، يحكمه التفاعل بين الذاتي والموضوعي ، إلى مراكز للسلطة ، تتمحور الحياة فيها حول بلاط الملك. وإذ لم يختف الهيكل وكهنته ، فإنهما أصبحا في خدمة الملك ، الذي صار نائب الإله على الأرض ، بل تجسيده المادي ، أو هو نفسه أحيانا. وهكذا تنازلت المدن السومرية ، بقيادة الكهنة ، وبمجتمعها القائم على استرضاء الآلهة بدلا من الحرب ، عن مكانها لمدن الدولة العسكرية ، لأنها لم تكن في موقع يؤهلها للتعامل الناجع مع الغزاة من القبائل الرحالة ، التي كانت تجيد مهنة القتال ، ولا تتورّع عن الحرب في سبيل العيش الرغيد كسادة لسكان المدن.

والنمط السياسي الذي ساد في فلسطين في بداية عصر المدن ، كان شبيها إلى حد كبير بذلك الذي قام في العراق ، لكنه تباين عن النمط المصري ، إذ كان الانقسام في البداية بين الشمال والجنوب ، مصر العليا في مواجهة مصر السفلى. لقد توحدت مصر في بداية الألف الثالث قبل الميلاد ، وقامت السلالة الأولى ، مبتدئة بذلك سلسلة طويلة من السلالات ، وكذلك جرى في العراق ، إذ تواكبت عملية التوحيد مع بدايات التوسع الإمبراطوري. وحتى في شمال سورية قامت مراكز مدينية كبيرة : ماري وإبلا ، وغيرهما ، بينما حافظت المدن الفلسطينية على استقلالها ، وبالتالي ، على تواضع دورها الحضاري بالنسبة إلى كل من العراق ومصر وسورية.

والمدن (التلال) الفلسطينية من عصر البرونز المبكر المنتشرة في جميع أرجاء البلد ، كانت على العموم تقع في نقاط استراتيجية ، تسيطر على المروج ، أو على طرق التجارة الدولية القديمة. ويقدر عدد المواقع التي تعود إلى هذا العصر في فلسطين بنحو ٩٠٠ مستوطنة ، منها نحو ٢٠ مدينة كبيرة ، ويقدر عدد سكانها مجتمعة بنحو ٠٠٠ ، ١٥٠ نسمة. وتشير الدلائل المادية على أنها كانت مزدهرة ، وتمتعت بتنظيم محلي جيد ، وأدارت تجارة دولية ناجحة ، فضلا عن الزراعة والصناعة ، لكنها ، في مقابل مدن العراق مثلا ، تبقى صغيرة الحجم والأهمية. ففي الوركاء (أوروك)

٥١

السومرية ، تبلغ مساحة التل نحو ٤٠٠٠ دونم ، في حين لا تزيد مساحة تلال فلسطين بصورة عامة عن ٢٠٠ دونم ، وهي موزعة في الجبال والمروج ، بينما الكثافة تتمركز في غور الأردن ومرج ابن عامر والسهل الساحلي.

ولأنها لم تشكل وحدة سياسية ، مع إنها شكلت وحدة حضارية في إطار بلاد الشام ، مع تمايزات يفرضها الموقع ونمط الإنتاج الرئيسي ، فإن مدن ـ الدولة هذه في فلسطين لم تستطع الوقوف في وجه الحملات المتعاقبة ، إذ تناوب عليها كل من العراق ومصر منذ منتصف الألف الثالث قبل الميلاد. كما أن المدن الفلسطينية لم يكن في قدرتها دائما صدّ موجات القبائل التي توغلت في أراضيها ، بل غزتها واحتلتها ودمرتها أحيانا ، وهو ما تكشف عنه الحفريات الأثرية. ومع ذلك ، فالعلاقات مع مصر وسورية والعراق ، وحتى مع بلاد الأناضول ، لم تكن عدائية على الدوام ، إذ تخللتها فترات من العلاقات السلمية ، والتبادل التجاري والحضاري. وتبقى الأسوار العبيّة التي أحاطت بهذه المدن شاهدا على الهمّ الدفاعي الذي كان من نصيبها.

وهوية الجماعات التي بنت هذه المدن ، أو التي غزتها ودمرتها ، فتركتها خرابا أو شيّدت مدنا جديدة على أنقاضها ، لا تزال موضوع نقاش بين المؤرخين وعلماء الآثار والأنثروبولوجيا. وإذ لا يخلو الجدل الدائر بشأن هذه المسألة من نزعات قطرية أو قومية أو حتى عرقية ـ شوفينية أحيانا ، فإن غياب الوثائق المكتوبة ، التي تقطع الشك باليقين ، يترك الباب مفتوحا أمام الاجتهادات التي لا يخلو بعضها من الأغراض غير الموضوعية. وإذا كان التاريخ ليس كل الحقيقة أصلا ، فإن أكثر ما يسيء إلى الحقيقة التاريخية محاولة توظيفها في خدمة أهداف لا تاريخية. وهذا العصر من تاريخ فلسطين بالذات ، ولأسباب غير موضوعية ، لعلها تتصل بالصراع العربي ـ الصهيوني ، يثير جدلا ، صاخبا أحيانا ، بين الباحثين.

والأمر الذي يزيد في تعقيد مسألة الوصول إلى معرفة أصول هذه الشعوب ، هو أننا لا نعلم على وجه الدقة ، ماذا كان أبناؤها يسمون أنفسهم ، وبالتالي كيف كانوا يرون العلاقات بين بعضهم البعض ، أو مع الشعوب الأخرى المجاورة. وأغلبية الأسماء التي نستعملها اليوم للدلالة على تلك الشعوب ، هي بالتأكيد غير تلك التي استعملها أبناؤها للتعريف بأنفسهم وهويتهم. والكثير من هذه الأسماء ، التي تستند إلى وثائق قديمة وردت فيها ، هو أقرب إلى الكنى ، السلبية أحيانا كثيرة ، التي أطلقها أبناء الحضارات العالية ، في مصر والعراق ، على الشعوب والجماعات الأخرى. وفي كثير من الأحيان ، كانت هذه الأسماء ـ الكنى تشير إلى حالة اجتماعية أكثر من دلالتها على جماعة إثنية ، أو تنسب الجماعة إلى موقع سكناها الجغرافي ، وليس إلى أصولها ، أو انتمائها العرقي.

٥٢

والأكيد أن تعاقب وصول هذه الجماعات إلى السلطة ، بل غلبتها على غيرها والهيمنة على الآخرين ، في هذه المنطقة أو تلك ، لا يعكس بالضرورة تراتبية هجرتها زمنيا إلى المنطقة ، أو حتى دخولها والتوغل فيها حربا ، وبالتالي الاستيلاء بالقوة على السلطة. فجميع الدلائل المتوفرة تشير إلى أنه منذ أقدم العصور ، عاش السومريون في خلف والعبيد ، جنبا إلى جنب مع شعوب وجماعات أخرى ، تتباين عنهم لغويا وحضاريا ، أطلق عليها الباحثون اسم الشعوب السامية. ف «أكاد» ذاتها مأخوذة من اسم عاصمة ملكهم ، وكذلك الحال بالنسبة إلى أشور وبابل وغيرهما.

وفي غياب الوثائق التاريخية ، تبقى الفجوات تعتور معرفتنا بعلاقة الشعوب بعضها ببعض والتي ترد أسماؤها أو كناها ، في المصادر اللاحقة ، أي علاقة الأكاديين بالأشوريين والعموريين والكنعانيين والأراميين والعبرانيين ... إلخ. غير أنه مهما كانت أصول هذه الجماعات التي أقامت المدن الأولى بفلسطين في هذا العصر ، فالمعلومات الواردة إلينا ، أكانت من العراق أو مصر ، تؤكد أنه على المستوى الحضاري ، لم يكن سكان بلاد الشام أقلّ رقيّا. وقد زوّدت المدن في هذه المنطقة ، بما فيها فلسطين ، الممالك التي قامت في بلاد الرافدين ووادي النيل ، أكان ذلك عبر التجارة أو الجزية ، بالأخشاب والمعادن وغيرهما من المواد الأولية ، كما زودتها بالمصنوعات المتعددة كالعاجيات وسواها وبالمنتوجات الزراعية كالنبيذ وزيت الزيتون.

وتفيد الوثائق المسمارية أن السومريين كانوا يطلقون اسم عمورو أو أمورو على قبائل إلى الغرب من الفرات ، لم تكن مستقرة تماما. وكانوا يسمون جبل بشري (باسار) ، في بادية الشام ، مرتفعات العموريين ، إذ كانت تلك النقطة خط التماس بين منطقة نفوذ الدولة المركزية وسيطرة تلك القبائل. ولعل قلعة مدينة ماري العظيمة ، والتي تحولت إلى حامية متقدمة للحضارة السومرية ـ الأكادية ، حتى قبل عصر سرجون الأول ، قد أقيمت للتصدي لهذه القبائل ، في الشمال الغربي ، كما أقيمت قلعتا لا جاش وأوما في مواجهة القبائل الإيرانية في الجنوب الشرقي. ومع الزمن ، أصبح مصطلح عمورو (أمورو) يعني كل ما هو غرب الفرات ، جغرافيا وبشريا.

ومن هنا ، فمحاولات الباحثين إعادة بناء تاريخ فلسطين في هذه الفترة ، ومن مصادر متعددة ـ أثرية أو منقوشة أو مكتوبة ـ تبقى مليئة بالفجوات. ومع ذلك ، يتضح أن العموريين أدّوا دورا رئيسيا فيه. والإشارات إليهم ترد في الكتابات السومرية ـ الأكادية ، ويدّعي بعض ملوكهم أنه حارب قبائل عمورو وانتصر عليها. وأول من ادّعى ذلك هو ملك الوركاء (أوروك) ، واسمه لوجال زاجيسي ، الذي يتفاخر بأنه فتح البلدان

٥٣

كلها ، من البحر الأسفل (الخليج العربي) ، إلى البحر الأعلى (المتوسط) نحو سنة ٢٣٧٥ ق. م. ومع معرفتنا أن بلاد الشام ، وعلى الخصوص الشمالية ، كانت محط أطماع ملوك العراق لخيراتها ، وخصوصا الأخشاب والمعادن ، وكذلك بعض المنتوجات الزراعية ، فهناك شك في صحة هذا الادعاء.

إلّا إن سرجون الأول (٢٣٤٠ ـ ٢٢٨٤ ق. م.) ، ملك أكاد الأسطوري ، الذي أسس سلالة قوية ، وأقام أول إمبراطورية معروفة في العالم ، يكرر ادّعاء لوجال زاجيسي. فقد قام بحملات عسكرية في الجنوب والشرق ، لكن جلّ اهتمامه توجه إلى الغرب ، إذ «أحسّت عمورو بوقع سلاحه» ، مبكرا في سني حكمه. وهو يتفاخر بأنه لم يتوقف عند شواطىء البحر الأبيض المتوسط ، بل توغل أيضا في آسيا الصغرى ، وبأنه أقام سلطة دائمة في أرض عمورو. وبحسب المصادر الأكادية ضمت أرض عمورو كل المساحة الواقعة إلى الغرب من الفرات. وهي توازي ، بصورة أو بأخرى ، ما عرف لاحقا عبر النهر (عبر نهرا). ومن هنا اسم العموريين ، الذين تكلموا لغة سامية غربية ، متباينة عن السامية الشرقية ، التي استعملها الأكاديون والأشوريون.

لم يعثر بعد على آثار أكاد ، لكننا نعرف أنها كانت عاصمة إمبراطورية واسعة الأرجاء ، بناها سرجون ، وأوصلها ذروة قوتها وازدهارها حفيده نارام سين (٢٢٦٠ ـ ٢٢٢٣ ق. م.) ، الذي لقب نفسه «ملك أربع جهات الأرض» ، وحتى «إله أكاد». وفي الواقع امتدت مملكته من الخليج العربي (عمان ، دلمون) إلى البحر الأبيض المتوسط ، ولكن من دون فلسطين كما يبدو ، التي بقيت في منطقة نفوذ مصر ، في عهد المملكة القديمة. والمعروف أن نارام سين هذا هو الذي قضى على مملكة إبلا المزدهرة ، نحو سنة ٢٢٥٠ ق. م. وبعده بدأت فترة تراجع ، استمرت حتى سنة ٢١٥٠ ق. م. تقريبا ، إذ انهارت أكاد ، وسقطت في أيدي الجوتيين ، ولا شك أنه كان للعموريين دور في ذلك.

وحمل الأكاديون معهم حضارة بلاد الرافدين ، ونشروها في نطاق أوسع من مناطق حكمهم المباشر. وأبرز معالم ذلك الكتابة المسمارية التي انتشرت في غرب آسيا كلها ، إذ أصبحت اللغة الأكادية وسيلة التخاطب الرسمي بين المراكز الإقليمية وعاصمة الإمبراطورية ، إضافة إلى استعمالها في جميع العلاقات بينها. وقد جرت ملاءمة الخط المسماري ليعبر عن اللغات السامية المتداولة عبر الفرات. ومع ذلك انهارت هذه الإمبراطورية بعد أن عمّرت نحو ٢٠٠ عام. وبانهيارها المتزامن مع المملكة القديمة في وادي النيل ، أفسح في المجال أمام العموريين لملء الفراغ ، والتوسع شرقا في بلاد الرافدين ، وغربا حتى تخوم الدلتا في مصر. وهناك من يرجح

٥٤

أنهم الهكسوس ، كما يسميهم المصريون القدماء.

ويرى الكثيرون من المؤرخين وعلماء الآثار أن العموريين أدّوا دورا رئيسيا في التطورات التي وقعت في الشرق الأدنى القديم ، في نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد. ففي هذه الفترة بلور هؤلاء شخصيتهم الحضارية والسياسية في بلاد الشام ، ولمّا ضعفت قبضة السلطة المركزية في كل من العراق ومصر ـ الإمبراطورية الأكادية والمملكة القديمة على الترتيب ـ برز العموريون كقوة حاسمة في المنطقة ، وتوغلوا في أراضي الطرفين ، ليقوموا فيهما بدور كبير على مسرح الأحداث. وبذلك أرسى العموريون نمطا في جدل العلاقة المثلثة الجوانب ، راح يتكرر المرة تلو الأخرى ، بين مصر وبلاد الشام والعراق.

وإذا كانت المصادر العراقية توفر لنا معلومات أكثر عن الداخل السوري ، نظرا إلى الصلات الوثيقة بينهما ، فإن الوثائق المصرية تقدم مزيدا من المعلومات عن فلسطين والساحل السوري. فبعد انهيار الإمبراطورية الأكادية الأولى ـ سلالة سرجون ـ قامت سلالات عمورية متعددة ، ارتبطت بوحدة إثنية ـ حضارية ، على الرغم من التباين السياسي الذي ساد العلاقات بينها. ففي العراق قامت سلالات في كل من : إيسن ولارسا وبابل وأشور وأشنونا وكرانا. وفي سورية : ماري (تل الحريري) وإبلا (تل مرديخ) ويمحاض (حلب) والالاخ (تل عطشانة) وقادش (تل النبي مند) وقطنا (تل المشرفة) وحاصور (تل القدح أو تل وقاص) وغيرها في فلسطين.

وإذ تضيف التنقيبات المستمرة معلومات جديدة عن الحضارة المادية لفلسطين في هذا العصر ، فإنه لم يعثر حتى الآن على نص واحد مكتوب ، وبناء عليه ، فهناك القليل يمكننا قوله عن السياسة والمجتمع والدين واللغة. إلّا إنه منذ ظهور الكتابة في مصر ، وذلك في بداية المملكة الموحدة الأولى نحو سنة ٣٠٠٠ ق. م. ، هناك إشارات إلى فلسطين وغرب آسيا. فقد استعمل المصريون القدماء مصطلحات متعددة في تسميتهم جيرانهم إلى الشرق (سيناء) ، وإلى الشمال الشرقي (فلسطين). وفي هذه التسميات درجة من الاستخفاف والازدراء (وخصوصا تجاه الجماعات غير الحضرية) ، كما إنها تنم عن معرفة بدائية بالجغرافيا ، ووعي جنيني بالانتماءات الإثنية واللغوية لسكان هذه المناطق.

ولا شك في أن الفراعنة الأوائل تطلعوا إلى مدّ نفوذهم في سيناء وفلسطين ، فقد أولوا أهمية خاصة لمناجم النحاس ومقالع الفيروز في سيناء ، وإن لم يكن لشيء إلّا لحماية هذه الموارد ، فقد كان طبيعيا أن يسعوا لتأسيس قاعدة لنفوذهم في فلسطين. وفي الواقع ، فهناك دلائل على قيام فراعنة السلالات الأولى من المملكة

٥٥

القديمة بحملات عسكرية ورحلات تجارية إلى فلسطين والساحل السوري. وتظهر التنقيبات الأثرية معالم طريق في شمال سيناء ، تصل بين الدلتا وجنوب فلسطين ، وربما إلى عراد (شرق بئر السبع) ـ منذ بداية الألف الثالث قبل الميلاد ـ هي بالتأكيد حلقة من الطريق البري الشهير طريق البحر (Via Maris).

وأظهرت الحفريات في جبيل (بيبلوس) ، التي كانت تهيمن على مناطق أشجار الأرز في لبنان ، ومنذ بداية الألف الثالث قبل الميلاد ، أدوات نقشت عليها أسماء ملوك مصر منذ السلالة الثانية فما بعد. ويرد في نقش حجر باليرمو الشهير أن سنّفرو الأول ، من السلالة الرابعة (القرن السادس والعشرون قبل الميلاد) ، أرسل أسطولا تجاريا ـ عسكريا ، من أربعين سفينة لجلب الأخشاب من جبيل. وبالنسبة إلى جبيل ، فهناك أسطورة فينيقية ـ كنعانية ، تقول إنها أقدم مدينة في العالم ، بناها الإله أيل الأكبر. وهناك دلائل على تجارة واسعة ومزدرهة بين هذه المدينة ومصر.

وحتى أيام السلالة الخامسة ، دعا المصريون سكان الأقاليم الواقعة إلى الشرق والشمال الشرقي بأسماء متعددة ـ هي في الأغلب أسماء صفة ، مثل سكان الرمال (جرير ـ شع) أو المنيتو أو الأوتيو ، التي لا تزال غامضة المعنى. أمّا منذ السلالة السادسة (القرن الرابع والعشرون قبل الميلاد) ، فيظهر الاسم عامو ، ذو الدلالة الإثنية ، والأصل السامي ، وقد يشير إلى العموريين. كما تبرز نقوش المدافن الفرعونية أسرى يمثلون أمام الملك نارمير ، وهم ذوو ملامح آسيوية ، يجثمون أرضا ؛ بينما الفرعون شاهرا عصاه كأنما يريد أن يهوي بها على رأس الأسير. وتتكرر هذه الصورة في مواقع أخرى ، إذ يظهر الفرعون وهو يهمّ بضرب آسيوي.

وعلى الرغم من ندرة الوثائق المكتوبة ، فإن النقوش والآثار تشير إلى أنه مع تبلور السلطة المركزية في مصر ، زادت العلاقات مع فلسطين والساحل السوري وثوقا. وبغض النظر عن المبالغات في النصوص والنقوش ، فهناك دليل واضح على تنامي الاهتمام المصري بغرب آسيا ، لأسباب دفاعية ، وخصوصا عن مناجم النحاس والفيروز في سيناء ، أو لأسباب اقتصادية تجارية كاستيراد الخشب والنبيذ والصوف والقطران (القار) والكبريت والعاجيات وصمغ الصنوبر (الذي يدخل في صناعة السفن) وزيت الزيتون ، الذي استعمل لأغراض طبية وفي التحنيط. وفي هذه العلاقات ، وحيث لم تنفع القوة ، عمد الفراعنة إلى دبلوماسية التحالفات والهدايا ... إلخ.

ونظرا إلى أهمية فلسطين بالنسبة إلى مصر ، عمد الفراعنة بداية إلى الحملات العسكرية لتأديب الجماعات التي تهدد طرق التجارة ، ومن ثمّ إلى إقامة حاميات عسكرية في مواقع استراتيجية على تلك الطرق ، وصولا إلى إخضاع المدن ، بحكامها

٥٦

المحليين ، للنفوذ المصري ، المداور أو المباشر. ومن أيام السلالة السادسة (القرن الرابع والعشرون قبل الميلاد) ، وصلتنا وثيقة مفصلة عن النشاط العسكري المصري في فلسطين. وهي عبارة عن سيرة ذاتية للقائد أوني ، الذي عمل عند الفرعون بيبي الأول ، وقام بعدة حملات عسكرية إلى فلسطين. وتحدث في ذكر إحداها عن جيشه «الذي عاد سالما بعد أن قطع أشجار تينهم وكرومهم.» وعن أخرى ، حيث وصل إلى أنف الغزالة (جبل الكرمل) على الساحل ، ومن هناك انتشر جيشه في البلاد ، ينهب ويخرب ويستعرض بقوته سطوة الفرعون على كل من يثير القلاقل.

إن تكثيف النشاط العسكري المصري في غرب آسيا ، وتحديدا في فلسطين ، في الربع الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد ، يوحي بحالة من عدم الاستقرار على الحدود الشمالية الشرقية. وهو يتزامن مع تعاظم قوة الأكاديين في العراق ، وتزايد نشاطهم العسكري إلى الغرب من الفرات. ويرى الباحثون أن هذه الحالة نتجت من حركة القبائل العمورية وتمركزها في هذه المنطقة ، ويعتقد البعض أن آثار الدمار التي تظهرها الحفريات في المواقع (التلال) ، لم تكن من فعل هذه القبائل ، وإنما قام بها المصريون في حملاتهم المتكررة. ومهما يكن الأمر ، فإنه ما أن بدأت السلطة المركزية في مصر تضعف (السلالة الثامنة) ، حتى أصبحت هذه القبائل تدق أبواب الدلتا. وفي الوقت نفسه كانت مدن جديدة تبنى على أنقاض القديمة ، مثل تل بيت مرسيم ، إلى الجنوب الغربي من القدس.

ثانيا : الهكسوس

قلة من المشكلات في تاريخ الشرق الأدنى القديم شغلت الباحثين كما فعلت هوية الهكسوس. واللفظ هو الصيغة اليونانية للكنية التي أطلقها المصريون على هذه الجماعة التي حكمت في الدلتا لمدة ٢٠٠ عام تقريبا ، من عاصمتها أفاريس. وإذ تتوفر ، من المصادر المتعددة ، معلومات عن حضارة الهكسوس المادية وعاداتهم ومعتقداتهم ومدنهم وتحصيناتهم وأساليب حربهم وتنظيمهم السياسي والاجتماعي ، يبقى أصلهم ـ مع ذلك ـ غامضا. فقد تضاربت آراء الباحثين المتعددين بهذا الشأن : حوريون أو حثيون أو قوقاز أو شعوب مختلطة هندية ـ أوروبية ، أو سامية غربية ، أي عمورية ، وبالتالي فهم الكنعانيون أو الفينيقيون ، كما يؤكد المؤرخ المصري مانيتو ، من العصر الهليني في مصر.

هناك أغلبية بين المؤرخين اليوم ، ترى أن الهكسوس هم بالأصل عموريون ، وقد تكون انضمت إليهم عناصر أخرى ، مثل الحوريين. ويستند هؤلاء في رأيهم هذا

٥٧

إلى دلائل مادية ولغوية ، فأسماء ملوكهم المعروفين هي من أصول سامية غربية في الأغلب. كما أن حضارتهم المادية شبيهة بتلك التي قامت في فلسطين وبلاد الشام في تلك الفترة ، والتي يطلق عليها اسم عصر البرونز الوسيط. ولأنهم جاؤوا إلى مصر من الخارج ، وفي مرحلة كانت السلطة المركزية ضعيفة ، السلالتان ١٣ و ١٤ ، فقد سمّاهم المصريون في كتاباتهم التي وصلتنا حيقا خاسوث (ملوك البلاد الأجنبية) ، ومنه اشتق الاسم اليوناني هكسوس في الكتابات من العصر الهليني ، وفي كتابات التابعين بعد ذلك.

وإلى درجة لا تقل عن قضية أصلهم وهويتهم ، تثير مسألة وصولهم إلى الحكم في مصر ، وكيفية حدوث ذلك ، نقاشا ساخنا بين المختصين. والطروحات تتأرجح بين الانقلاب ، وبالتالي الاستيلاء على السلطة من قبل عناصر آسيوية ، كانت تسللت بالتدريج إلى وادي النيل في فترات سابقة ، وبين الغزو العسكري العاصف ، وما بينهما من هجوم عسكري خارجي ، استفاد من مساندة عناصر محلية ، استغلت ضعف السلطة المركزية ، وتعاونت مع القادمين الجدد من أبناء جلدتها. ومهما يكن الأمر ، فالمعروف أن الهكسوس برزوا كقوة موحدة ، مستندة إلى آلة عسكرية مدربة جيّدا ، وإلى جهاز سلطة ذي كفاءة إدارية عالية ، الأمر الذي يشير إلى تجربة طويلة بالحكم في موطنهم الأصلي.

وخلافا لما كان عليه الحال أيام السلالتين المصريتين ١٣ و ١٤ ، فإن النصف الثاني من القرن الثامن عشر قبل الميلاد شهد حالة من الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي ، ليس في مصر فحسب ، بل في الهلال الخصيب الغربي أيضا. ويعزى ذلك إلى قوة السلطة المركزية التي أقامها ملوك الهكسوس في عاصمتهم أفاريس (تل اليهودية) ، في الدلتا الشرقية. وقد برز بين هؤلاء اثنان ، هما : حيان ، الذي يشير اسمه إلى أصله العموري ، وعا أو سير رع أبو فيس ، الذي حكم ٤٠ عاما ، ويبدو أنه اتخذ اسما مصريا. وترد كذلك أسماء أخرى سامية الأصل ، مثل : يعقوب هار وعنات هار وحور وغيرها لم تعرف أصولها حتى الآن.

وفي هذه الفترة التي دامت قرابة قرنين ، حكمت في مصر سلالتان غير واضحتي المعالم في الكتابات الهيروغليفية ، وخصوصا ما يتعلق بأصولهما ، وهما السلالتان ١٥ و ١٦. وأغلبية ملوك السلالة ١٥ تحمل أسماء غير مصرية ، وإنما سامية. ويذكر منها حيان ، الذي كما يبدو هو مؤسس هذه السلالة ، وبالتالي الإمبراطورية الهكسوسية. وفي أيامه ازدهرت التجارة بين مصر وبلاد الشام ، وصولا إلى بلاد الرافدين ، من جهة ، وإلى جزر بحر إيجة وكريت ، من جهة أخرى. أمّا ملوك السلالة ١٦ ، التي

٥٨

تولت الحكم في بداية القرن السادس عشر قبل الميلاد ، فقد غلب على أسمائهم الطابع المصري ، الأمر الذي يشير إلى محاولتهم التقرب من السكان المحليين ، وحتى الاندماج فيهم.

وفي الفترة الأخيرة ، يميل عدد من الباحثين المرموقين في دراساتهم الحديثة إلى الاقتناع بأن الهكسوس يتحدرون من الأرومة العمورية. وبناء عليه ، فهم ينتمون إلى عائلة الشعوب التي أطلقت عليها المراكز الحضارية في مصر والعراق ، حيث ابتكرت الكتابة ، وبالتالي سجلت الأحداث ، أسماء متعددة ، ليست هي بالضرورة ما كانت تلك الشعوب تعرّف نفسها بها ، وخصوصا أنها لم تترك ، أو لم تصلنا منها ، وثائق مكتوبة بلغتها. ومن هنا ، فهم الكنعانيون في فلسطين ، والفينيقيون في لبنان ، والعموريون في سورية وشرق الأردن ... إلخ. وهناك من يدخل العبرانيين في هذه المجموعة.

وبناء عليه ، فتشكيلة الأسماء المتعددة مثل عمورو وغامو وكنّخنا وخابيرو وريتنو وحيقا خاسوث وغيرها ، هي كنى وصفات أطلقها أهل المدر على أهل الوبر ، في مرحلة كان الأولون في هبوط ، والأخيرون في صعود. وفضلا عن الدلائل اللغوية ، التي يستند إليها الباحثون في تحديد الأصول السامية للهكسوس ، فإنهم يدعمون مقولتهم بالمكتشفات الأثرية. فالحضارة المادية التي ظهرت معالمها في حفريات مواقع الهكسوس في الدلتا ـ تل الضبعة وتل المسخوطة وتل اليهودية (الذي يعتقد أنه موقع عاصمتهم أفاريس) ـ تبرز علاقة وثيقة بالحضارة الكنعانية في فلسطين ، والفينيقية على الساحل السوري.

ومهما يكن الأمر ، فالواضح أن الهكسوس ، لدى انتزاعهم السلطة في مصر ، كانت لهم تجربة في ممارستها ، الأمر الذي يدل على أنهم كانوا على تماس مباشر مع أصحاب الحضارة العالية في مصر ، أو سواها ، ومنذ زمن طويل. فحتى لو كانت أصولهم بدوية ، فإنهم لم يتأخروا طويلا في استيعاب أنماط الحياة الحضرية ، وتوظيف إنجازات الحضارة المدينية في إدارة شؤون إمبراطوريتهم ، داخليا وخارجيا. وكذلك ، ففي تعبيراتهم الفنية وممارسة شعائرهم الدينية والروحية ورقي عمارتهم وتحصيناتهم وأسلحتهم وأدواتهم المنزلية وزينتهم ، كان الهكسوس لا يقلون عن الشعوب التي حكموها.

وهناك توافق عام بين الباحثين على أن النجاح الباهر الذي حققه الهكسوس في حروبهم ، وبالتالي فرض سيطرتهم وإقامة إمبراطوريتهم ، يعود بالأصل إلى الآلة العسكرية التي بنوها ، ونظموا الفئة السائدة في مجتمعهم بالارتكاز إليها. وإذ ظل

٥٩

البرونز المعدن الرئيسي في صناعة الأسلحة ، فالاعتقاد السائد الآن هو أن الهكسوس كانوا أوّل من أدخل الحصان والمركبة الخفيفة السريعة ، ذات الدولابين ، إلى ساحة المعركة في الحرب. وبذلك أوجدوا قوات عسكرية صاعقة ، لم تستطع جيوش المشاة التي واجهتهم الصمود أمامها.

وبناء مثل هذه القوات العسكرية تطلّب إنشاء جيش نظامي ، لما يستلزمه ذلك ، سواء لناحية التدريب المستمر أو أداء الواجب. فكان طبيعيا أن تتشكل طبقة من العسكريين ، والنبلاء من قادتهم ، أعطوا إقطاعات ، يعمل فيها عبيد ، يحكمهم الفرسان. وكان هؤلاء يعرفون باللقب مريان ، أي أبطال شجعان ، ويعتقد بعض الذين يردون الهكسوس إلى أصول هندية ـ أوروبية ، أن هذا المصطلح مشتق من لغة هندية ـ إيرانية. غير أنه ليس كذلك بالضرورة ، فالكلمة مار تعني السيادة والشجاعة في اللغات السامية ، والمصطلح ذو مرّة لا يزال يستعمل في اللغة العربية حتى الوقت الحاضر.

ويستفاد من المعلومات المتوفرة أن النظام السياسي ـ الاجتماعي الذي ساد إمبراطورية الهكسوس كان إقطاعيا. فالملك منح النبلاء العسكريين إقطاعات ، أداروها بأعوانهم من الفرسان ، واشتغل فيها أهلها المحليون أو عبيد من أسرى الحرب. وقد انتشر هذا النظام في غرب آسيا كلها في تلك الفترة ، وفي شمال مصر ، واستوجب بطبيعته بناء حاميات عسكرية ، كانت بمثابة مقرات للنبلاء وأعوانهم وجنودهم. وتدل على هذه الحاميات بقاياها المنتشرة في بلاد الشام ، وخصوصا في فلسطين ، وكذلك في مدن الهكسوس في الدلتا المصرية الشرقية ، مثل تل اليهودية (موقع عاصمتهم أفاريس).

وتتميز هذه الحاميات ـ المدن بنمط مستحدث من التحصينات ، فريد في نوعه. فحول الحصون أقيمت منحدرات ملساء هائلة من الردم واللبن المجفف (طمم) ، تحيط بها خنادق عميقة وشديدة الانحدار من الخارج. وفي الداخل ، قلعة مسوّرة ، هي مقام القائد ، وحولها الربض ، حيث أقام الفرسان ومعهم عدتهم وخيولهم ، ومستودعات سلاحهم ومؤنهم ... إلخ. وقد كشف عن مثل هذه التحصينات في مواقع كثيرة ، منها : تل الفارعة الجنوبي (شاروحين) وتل العجول (بيت عجلايم؟) وتل الدوير (لاخيش) وتل الجريشة (قرب يافا) وتل وقّاص أو تل القدح (حاصور) وتل كيسان (في سهل عكا) ، وكذلك في قادش (تل النبي مند) وقطنا (تل المشرفة) وحماة ، في سورية الوسطى ، وغيرها.

وما يتوفر لدينا من معلومات عن الهكسوس لا يؤيد كلام المؤرخ المصري

٦٠