الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

سلما ، أو بالتراضي ، وخصوصا نتيجة التطرف الصهيوني ، فطرحت مسألة استعمال القوة العسكرية لفرض الحلول قسرا. لكن كلا من بريطانيا وأميركا كانت تتحاشى تولي الأمر بنفسها ، خشية انعكاس ذلك على مصالحها في البلاد العربية ، من جهة ، وإمكان أن يفتح ذلك الباب واسعا أمام التدخل السوفياتي في المنطقة ، من جهة أخرى. هذا في حين أصرّت المنظمات الصهيونية على أن لا ضرورة لهاتين القوتين بالتدخل العسكري ، ملمحة إلى أن القوات العسكرية الصهيونية ، بدعم من المتطوعين اليهود ، قادرة على تولي المسألة بنفسها. وبهذا أوجدت المخرج للرئيس الأميركي ، والإحراج لحكومة بريطانيا ، التي كانت لا تزال الدولة المنتدبة.

وبعد مغادرة اللجنة الأنكلو ـ أميركية فلسطين ، كثفت المنظمات الصهيونية أعمالها الإرهابية ضد حكومة الانتداب ، وكذلك ضد الأفراد والضباط ، بما في ذلك محاولة اغتيال المندوب السامي. وردت القوات البريطانية بعنف على تلك الأعمال ، وبدعم قوي من الفيلد ـ مارشال مونتغومري ، قائد عام القوات البريطانية في الشرق الأوسط. وقد تسبب ذلك بردات فعل غاضبة في الولايات المتحدة ، الأمر الذي شجع تلك المنظمات على تصعيد إرهابها ، وصولا إلى نسف فندق الملك داود ، مقر الإدارة البريطانية في القدس (٢٢ تموز / يوليو ١٩٤٦ م). وفي النتيجة ، شهدت سنة ١٩٤٦ م توترا عاليا بين المنظمة الصهيونية ، تدعمها الولايات المتحدة ، وبين الحكومة البريطانية ، بهدف دفع هذه الأخيرة لإنهاء الانتداب وتسليم فلسطين للاستيطان للصهيوني ، الذي صار يعتبر نفسه مؤهلا لإقامة كيانه السياسي فيها ، وبقوة السلاح إذا لزم الأمر.

إن تقويما شاملا للعمل السياسي المنسق بين الوكالة اليهودية والإدارة الأميركية ، وكذلك النشاط الإرهابي للعصابات الصهيونية ضد حكومة الانتداب ، والضغط السياسي والاقتصادي الذي مارسته إدارة ترومان على حكومة أتلي ، يظهر التآمر الأميركي ـ الصهيوني لإنهاء الانتداب البريطاني في فلسطين ، وتحويلها إلى قاعدة للنفوذ الأميركي في المنطقة ، عبر إقامة الكيان الصهيوني فيها. وكان أول من طرح فكرة الانسحاب من فلسطين علنا ، ونستون تشرشل ، الذي أصبح في سنة ١٩٤٦ م زعيم المعارضة. وتذرع بالضرر الذي تلحقه قضية فلسطين ببريطانيا ومصالحها في المنطقة والعالم ، وقابل بين التكلفة والمردود مستخلصا أن مصلحة بريطانيا تملي عليها إنهاء الانتداب ، ووضع القضية في أيدي الأمم المتحدة. وعرض تشرشل الأسباب التي أوصلته إلى هذا الطرح ، فأورد عجز بريطانيا عن معالجة الوضع المتفاقم في فلسطين ، والحرص على عدم إلحاق الأذى بالأهداف الصهيونية ، أو

٥٠١

تعريض علاقات بلاده بالولايات المتحدة إلى التوتر ، في حين تجد بريطانيا نفسها بحاجة إلى الدعم المالي الأميركي.

وفي المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين (كانون الأول / ديسمبر ١٩٤٦ م) برز التحول بنقل المشروع الصهيوني من مجال النفوذ البريطاني إلى الأميركي. وفي قرارات المؤتمر جرى التأكيد على «جعل فلسطين دولة يهودية مندمجة في البناء الديمقراطي العالمي» ، وفتح أبوابها للهجرة اليهودية ، وتولي الوكالة اليهودية المسؤولية عن ذلك. وتواكب ذلك مع تصاعد الدعوة إلى انسحاب بريطانيا من فلسطين والتخلي عن الانتداب ، حتى من قبل الأوساط العسكرية ، بمن فيهم الفيلد ـ مارشال مونتغومري نفسه. ونتيجة تصاعد الإرهاب الصهيوني ، من دون قرار حكومي بريطاني بقمعه لاعتبارات ردات الفعل الأميركية ، وحاجة بريطانيا إلى الدعم المالي الأميركي ، لم يبق من مخرج إلّا التخلي عن الانتداب. وهذا يفسح المجال أمام الولايات المتحدة لتحقيق أهدافها بذريعة «ملء الفراغ» ، والحؤول دون «التمدد الشيوعي» ، عبر الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط.

ومن خلال اللجنة الأنكلو ـ أميركية أصبحت واشنطن شريكا كاملا في تقرير مصير الانتداب في فلسطين ، وبالتالي الاستيطان الصهيوني فيها ، على قدم المساواة مع الحكومة البريطانية. ومن موقعها هذا ، راحت تناور بالتواطؤ مع الوكالة اليهودية لإنهاء الانتداب البريطاني ، وتهيئة الأوضاع لتسليم فلسطين للاستيطان. وقد استخدمت إدارة ترومان مسألة «هجرة المئة ألف يهودي إلى فلسطين فورا» ، أداة لنسف كل محاولات الحكومة البريطانية تدبر الأمور ، وخصوصا أنها كانت في خضم مفاوضات لعقد اتفاق مع الحكومة المصرية بشأن قناة السويس. وكان واضحا أن واشنطن كانت تسعى لإحباط مساعي لندن في هذا السبيل. وعندما ضاق ذرع الحكومة البريطانية ببيانات الإدارة الأميركية ، رد إرنست بيفن أن الإلحاح الأميركي ليس إلّا وسيلة للتغطية على قوانين الهجرة الأميركية «التي لا تحبذ دخول اليهود إلى الولايات المتحدة.» وقد أثار ذلك سخط إدارة ترومان ، واستدر عددا من الردود الأميركية القاسية. وعلى أية حال ، فإن الضغط الأميركي ـ الصهيوني ، مترافقا مع تصاعد العمليات الإرهابية ضد حكومة الانتداب ، ومع الرفض العربي للمشاريع المطروحة ، في مرحلة ما بعد الحرب ، وبينما الحكومة البريطانية تواجه مشكلات اقتصادية واجتماعية داخلية ، وسياسية خارجية ، بشأن موقعها في التشكيلات الناجمة عن نتائج الحرب ، قد دفعت جميعها تلك الحكومة إلى طرح قضية فلسطين على الأمم المتحدة ، الأمر الذي انتهى بفعل الموقف الأميركي إلى قيام الكيان الصهيوني ،

٥٠٢

والاعتراف بشرعية اغتصابه لفلسطين على الصعيد الدولي.

ب) القضية في الأمم المتحدة

في ٢ نيسان / أبريل ١٩٤٧ م ، تقدم المندوب البريطاني في هيئة الأمم بطلب من الأمين العام لوضع قضية فلسطين على جدول أعمال الدورة القادمة للجمعية العامة. ثم بعد التداول ، تقرر عقد جلسة خاصة للهيئة العامة لمناقشة الموضوع. وقد جاء ذلك ، إضافة إلى الضغط الأميركي ـ الصهيوني ، نتيجة الرفض العربي للطروحات البريطانية ، سواء من قبل الجامعة العربية ، أو اللجنة العربية العليا ، واتهام تلك الحكومة بالتراجع عن الكتاب الأبيض. وكانت توصيات اللجنة الأنكلو ـ أميركية قد خيبت آمال العرب ، وفي إثرها عمّت فلسطين والأقطار العربية موجة من التظاهرات والإضرابات والاحتجاج ، وطالبت الحكومات العربية باتخاذ موقف حاسم إزاء قضية فلسطين. كما ارتفعت أصوات تنادي بوجوب الاتجاه نحو الاتحاد السوفياتي والتعاون معه ، بعد ما «انكشف غدر البريطانيين والأميركيين ، ووضح تآمرهم على العرب.» كما طالبت بوجوب الاستعداد للمقاومة المسلحة الرسمية والشعبية ، والبدء بترحيل النساء والأطفال عن فلسطين تسهيلا لحركة الجهاد ، وتشكيل لجان طوارىء ... إلخ.

في ١٠ أيار / مايو ١٩٤٦ م ، قدم ممثلو خمس دول عربية ـ مصر والعراق وسورية ولبنان والسعودية ـ مذكرة احتجاج إلى نائب وزير الخارجية الأميركي ، دين أتشيسون ، بشأن توصيات اللجنة الأنكلو ـ أميركية ، فأكد لهم هذا في رده أنه قبل اتخاذ أية إجراءات عملية سيجري التشاور مع الزعماء العرب ، وأن توصيات اللجنة غير ملزمة للسياسة الخارجية الأميركية في شيء. كما بينت الحكومة البريطانية أنها ستعلن قرارها بعد التشاور مع الحكومة الأميركى ، وكذلك مع العرب واليهود. وعقد الملوك والرؤساء العرب مؤتمرهم الأول في أنشاص (مصر) لبحث القضية الفلسطينية من ٢٨ إلى ٢٩ أيار / مايو ١٩٤٦ م ، فأجمع في مقرراته على أن «فلسطين قطر عربي ، وهو القلب في المجموعة العربية ... وأن الأخذ بتوصيات لجنة التحقيق الأنكلو ـ أميركية تعتبره دول الجامعة عملا عدائيا موجها ضدها.» أمّا الإجراءات ، فقد أحيلت إلى مجلس الجامعة ، الذي تقرر عقده في بلودان (سورية) من ٨ إلى ١٢ حزيران / يونيو ١٩٤٦ م ، للنظر في تقرير اللجنة ، واتخاذ القرارات الملائمة بشأنه.

وفي اجتماع بلودان الاستثنائي ، اتخذ مجلس الجامعة قرارات علنية وأخرى سرية. ويمكن تلخيص العلنية منها كالتالي : ١) رفض توصيات اللجنة الأنكلو ـ أميركية ، واعتبار الأخذ بها عملا غير ودي موجها ضد العرب ؛ ٢) التفاوض مع

٥٠٣

الحكومة البريطانية بشأن قضية فلسطين ، وعرضها على هيئة الأمم المتحدة فيما لو تعذر الوصول إلى حل مرض ؛ ٣) إنشاء مكاتب مقاطعة الصهيونية ؛ ٤) وضع تشريعات لبيع الأراضي لليهود ؛ ٥) رفض التقسيم بجميع صوره ؛ ٦) إنشاء لجان دفاع عن فلسطين في كل دولة عربية ، وإصدار طابع بريد يرصد ريعه للقضية الفلسطينية ؛ ٧) تشكيل هيئة جديدة تمثل الشعب الفلسطيني وقضيته ، وتوصية الحكومات العربية بدعمها. كما اتخذ المجلس القرارات السرية التالية : ١) حثّ الشعوب العربية على التطوع لنصرة عرب فلسطين بجميع الوسائل ـ بالمال والسلاح والمجاهدين ؛ ٢) إذا قبلت توصيات اللجنة الأنكلو ـ أميركية ، وشرع في تنفيذها ، تتخذ الدول العربية التدابير التالية : أ) عدم السماح للدولتين ـ البريطانية والأميركية ـ أو لإحداهما ، أو لرعاياهما ، بأي امتياز جديد ؛ ب) عدم تأييد مصالح هاتين الدولتين في أية هيئة دولية ؛ ج) مقاطعتهما مقاطعة أدبية ؛ د) النظر في إلغاء ما يكون لهما من امتيازات في البلاد العربية ؛ ه) رفع الشكوى إلى مجلس الأمن وإلى الأمم المتحدة. وبعثت دول الجامعة العربية بمذكرات تتضمن هذه القرارات إلى كل من حكومتي بريطانيا والولايات المتحدة. (١)

واستجابت الحكومة البريطانية لطلب الحكومات العربية التفاوض لحل القضية الفلسطينية ، وحددت ١٠ أيلول / سبتمبر ١٩٤٦ م موعدا لعقد مؤتمر في لندن لهذه الغاية. وبناء عليه ، عقد وزراء خارجية الدول العربية اجتماعا في الإسكندرية ، قرروا فيه ألّا يجلس العرب مع ممثلي الوكالة اليهودية ، وألّا يعترفوا لهم بحق التفاوض ، ولا لأميركا بحق التدخل ، كما قرروا رفض كل مشروع يؤول إلى التقسيم. في هذه الأثناء ، توصلت الإدارة الأميركية مع الحكومة البريطانية إلى اتفاق على مشروع موريسون ، الذي تقدمت به الحكومة البريطانية إلى الوفد العربي. وهو يتضمن تقسيم فلسطين إلى أربع مناطق إدارية كالتالي : ١) منطقة يهودية ؛ ٢) منطقة عربية ؛ ٣) القدس وبيت لحم ؛ ٤) النقب. ورفض العرب المشروع ، فطلبت منهم حكومة بريطانيا تقديم مشروع بديل ، ففعلوا ، وقدموا مشروعا يتضمن النقاط التالية : ١) استقلال فلسطين دولة موحدة ، بحكم ديمقراطي ، وجمعية تأسيسية تضع الدستور ، وحكومة انتقالية برئاسة المندوب السامي ؛ ٢) إيقاف الهجرة اليهودية ؛ ٣) عقد معاهدة تحالف مع بريطانيا ؛ ٤) ضمان حماية الأماكن المقدسة وحرية زيارتها للجميع. وفي النتيجة لم تتمخض المفاوضات عن توافق بين الأطراف ، فعلقت المفاوضات لمدة شهرين.

__________________

(٦٥) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

٥٠٤

وفي الدورة الثانية من المؤتمر (٢٨ كانون الثاني / يناير ١٩٤٧ م) ، الذي دعيت إليه الهيئة العربية العليا بتشكيلها الجديد ، ترأس الوفد جمال الحسيني ، لأن السلطات لم تسمح للحاج أمين بدخول الأراضي البريطانية ، وبداية رفضت الحكومة البريطانية المشروع العربي ، وتقدمت بمشروع معدل عن مشروع موريسون ، الذي تراجعت عنه الإدارة الأميركية ، عرف باسم مشروع بيفن. وهو يقوم على مبدأ «الوصاية» البريطانية على فلسطين لخمسة أعوام ، يجري خلالها التمهيد للاستقلال ، عبر خطوات إجرائية معقدة. وكان واضحا أن الحكومة البريطانية تريد الخروج من المأزق ، وكسب الوقت ، أملا في حدوث تطورات تساعد على حلحلة الأزمة المستعصية. ورفضت الوفود العربية المشروع ، وكذلك فعلت الوكالة اليهودية ، لأنه لا يلبي المطالب العربية بالاستقلال ، ولا المطالب الصهيونية بإقامة الدولة اليهودية. وعند هذا الحد ، وصلت الحكومة البريطانية إلى الطريق المسدود ، فأعلنت في ١٤ شباط / فبراير ١٩٤٧ م عزمها على إحالة الموضوع بأكمله إلى الأمم المتحدة.

لقد كثرت التأويلات لقرار بريطانيا التخلي عن انتدابها على فلسطين والانسحاب منها ، ووجهت إليها اتهامات بالتآمر مع الولايات المتحدة والصهيونية لتسليم فلسطين للاستيطان ، لكي لا تتحمل مسؤولية ذلك منفردة. وفي المقابل ، جرى تبرير إقدامها على هذه الخطوة بعجزها عن التوفيق بين مطالب الأطراف المتعددة ، وإحجامها ، لأسباب ذاتية وموضوعية ، عن اللجوء إلى استخدام القوة لفرض إرادتها. ومهما يكن الأمر ، فلا بدّ من النظر إلى المسألة من زاوية الاعتبارات البريطانية للحفاظ على مصالحها ، في ظروف الزمان والمكان ، وحساب التكلفة والمردود في سياستها الخارجية ، وتحديدا إزاء فلسطين ، وأبعاد قضيتها عربيا وأميركيا. فبعكس مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى ، لم تعد بريطانيا بعد الثانية قوة مهيمنة ، وزاد اعتمادها على الولايات المتحدة ، وخصوصا إزاء تصاعد قوة الاتحاد السوفياتي. وفي هذا السياق ، كان الحفاظ على التحالف مع أميركا مصيريا ، وظل راسخا رسوخ اهتمام بريطانيا بصيانة موقعها الدولي ، والتباين في وجهات النظر بينهما بشأن فلسطين لم يكن من شأنه إحداث شرخ في العلاقات بين الدولتين.

في المقابل كان طرح القضية الفلسطينية على الأمم المتحدة ، فرصة مواتية للولايات المتحدة لاحتضان المشروع الصهيوني ، وتأمين إقامة الدولة اليهودية ، بقرار من الهيئة الدولية ، فتحقق أهدافها من ذلك المشروع ، تحت غطاء الشرعية الدولية. وفي الأمم المتحدة ، تولت الإدارة الأميركية ، برئاسة ترومان ، تمرير القرارات اللازمة لتجسيد المشروع الصهيوني ، والاعتراف الدولي به ، لما كانت تتمتع به من تأثير

٥٠٥

ونفوذ في تلك المنظمة الدولية. وكذلك ، واستنادا إلى الدعم الأميركي ، توسمت الوكالة اليهودية الخير في نقل قضية فلسطين إلى أروقة الأمم المتحدة ، وراحت تعد العدة للاستيلاء على البلد بقرار دولي. في المقابل ، فالعرب الذين طالبوا بإنهاء الانتداب ، ونقل القضية إلى الأمم المتحدة ، وجدوا أنفسهم مرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية ، كما كانوا بعد الأولى ، في مواجهة تحالف دولي ، تقوده هذه المرة الولايات المتحدة ، ويعمل على استلاب فلسطين ، وتحويلها إلى إسرائيل ، بكل ما ينجم عن ذلك من نتائج ، وخصوصا لناحية تغييب شعبها عنها ، ماديا وسياسيا وحضاريا. وكان عليهم أن يخوضوا المعركة لصيانة حقوقهم مرة أخرى ، ولكن من دون نجاح كبير.

وعقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورة استثنائية لمناقشة الوضع في فلسطين بتاريخ ٢٨ نيسان / أبريل ١٩٤٧ م ، وقررت في ٧ أيار / مايو ١٩٤٧ م تشكيل لجنة تحقيق دولية. وتشكلت لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (أنسكوب) من أحد عشر عضوا ، بعد استبعاد الدول الخمس الكبرى عنها ، بذريعة «الموضوعية» ، وتداركا للانحياز الذي تتسم به مواقف تلك الدول ، انطلاقا من مصالحها. وشارك فيها مندوبو : استراليا وكندا وتشيكوسلوفاكيا وغواتيمالا والهند وهولندا وإيران وبيرو والسويد والأوروغواي ويوغسلافيا ، وترأسها القاضي السويدي ، إميل ساندستروم. ورفضت الدول العربية فكرة اللجنة وتركيبها. وصوتت ضد قرار تشكيلها ، وأيدتها تركيا وأفغانستان. وأعلن المندوب البريطاني في الأمم المتحدة ، سير ألكسندر كادوغان ، (٩ أيار / مايو ١٩٤٧ م) أن حكومته ، على الرغم من احترامها لأي قرار تصدره الجمعية العامة ، ترى ألّا تتحمل بريطانيا وحدها مسؤولية تطبيقه ، إذا رفضه اليهود والعرب.

وقرّرت الهيئة العربية العليا مقاطعة لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة ، ودعت إلى الإضراب يوم وصولها إلى القدس بتاريخ ١٧ حزيران / يونيو ١٩٤٧ م ، فاستجابت البلاد عامة. أمّا اللجنة السياسية للجامعة العربية فرأت ضرورة استقبال لجنة التحقيق ، لأن حكوماتها أعضاء في الأمم المتحدة ، واتفقت على تقديم مذكرة موحدة باسم الحكومات العربية جميعا. وأوكلت مهمة الإدلاء بالمذكرة أمام اللجنة لوزير خارجية لبنان. وورد في المذكرة الجماعية استنكار تشكيل لجان التحقيق المتكرر من دون جدوى ، والتأكيد على عروبة فلسطين ، وحقها في الاستقلال ، والتحذير من مخاطر إقامة دولة يهودية في المنطقة ، وأن الحل الوحيد هو قيام حكومة مستقلة يتمتع فيها العرب واليهود بالحقوق والواجبات الدستورية. وفي هذه الأثناء ، صعدت العصابات

٥٠٦

الصهيونية عملياتها الإرهابية ، وكان أهمها اقتحام سجن عكا ، وإطلاق سراح المعتقلين اليهود منه.

وأنهت اللجنة تقريرها ، وعرضته على الجمعية العامة في أيلول / سبتمبر ١٩٤٧ م. وقد اتفق أعضاؤها على التوصيات العامة التالية : ١) إنهاء الانتداب ومنح فلسطين الاستقلال ؛ ٢) تسبق الاستقلال فترة انتقالية بإشراف الأمم المتحدة ؛ ٣) يكون الحكم ديمقراطيا ؛ ٤) يتضمن الدستور المبادىء الأساسية للأمم المتحدة ؛ ٥) ضمان حرية العبادة ؛ ٦) المحافظة على الوحدة الاقتصادية للبلد ؛ ٧) احترام الأماكن المقدسة وحرية زيارتها ؛ ٨) صيانة تلك الأماكن ؛ ٩) وضع حل سريع لمشكلة ٠٠٠ ، ٢٥٠ يهودي أوروبي ؛ ١٠) وقف أعمال العنف. (١)

لكن اللجنة لم تتفق حول صيغة تنفيذ توصياتها. وطرحت الأكثرية ـ ٧ أعضاء من مجموع ١١ ـ مشروعا للتقسيم ، يقوم على إجراءات متدرجة ، برعاية بريطانيا ، وإشراف الأمم المتحدة. وتبقى القدس تحت الإشراف الدولي. أمّا مشروع الأقلية فيقوم على تطوير الانتداب إلى دولة اتحادية مستقلة خلال ثلاثة أعوام ، وتكون عاصمتها القدس ، وتشتمل على حكومتين مستقلتين ذاتيا. وفصّل المشروع الخطوات الإجرائية وطبيعة العلاقات بين الحكومتين. وقدم المشروعان إلى هيئة الأمم المتحدة بكامل أعضائها كلجنة خاصة. وردّ مندوب الهيئة العربية العليا على المشروعين ، فرفضهما ، معلنا التصميم على مقاومتهما بالقوة ، مؤكدا أن الحل الوحيد المقبول للعرب هو إقامة دولة ديمقراطية مستقلة ، تشمل كل فلسطين. في المقابل ، أعلن مندوب الوكالة اليهودية القبول المبدئي بمشروع الأكثرية ، مع التحفظ على التفصيلات.

واحتدم النقاش في أروقة الأمم المتحدة ، كما دخلت التحركات السياسية في نشاط محموم ، كانت الولايات المتحدة المحرك الرئيسي له. وتولت الإدارة الأميركية تخطيط المناورات الإجرائية وتجنيد الأصوات لدعم قرار التقسيم ، بشتى الوسائل ، من الإغراء والرشاوى إلى التهديد. وبعد أن أعلن المندوب الأميركي تأييد بلاده لقرار التقسيم ، عقبه المندوب السوفياتي ، بشخص وزير الخارجية ، أندريه غروميكو الذي كان خطابه مفاجأة دورة الأمم المتحدة تلك. وتوالى المتكلمون بين مؤيد للتقسيم ومعارض له ، وبرز الموقف البريطاني بحياده الظاهري. وفي التصويت على المشروعين سقط مشروع الأقلية (٢٤ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٤٧ م) ، كما سقط

__________________

(٦٦) John Hadawi ,op.cit.,Vol.II ,pp.٧٧١ ـ ٨٧١.

٥٠٧

اقتراح عربي بتحويل القضية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي. وبعد مناورات إجرائية أميركية لتأجيل التصويت على مشروع الأغلبية ريثما يتم تجنيد الأصوات اللازمة لإقراره ، جرى التصويت عليه في ٢٩ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٤٧ م فنال موافقة ٣٣ صوتا ، ومعارضة ١٣ ، وامتناع ١٠ ، فنجح المشروع وأصبح قرارا دوليا.

في هذه الأثناء اتفقت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي على دعوة بريطانيا إلى إنهاء الانتداب على فلسطين وسحب قواتها منها بحلول بداية أيار / مايو ١٩٤٨ م ، على أن تقوم الدولتان ـ العربية واليهودية ـ قبل مطلع تموز / يوليو ١٩٤٨ م ، وعلى أن تختار الجمعية العامة لجنة دولية ، من الدول المؤيدة للتقسيم ، تكون مسؤولة أمام مجلس الأمن ، لتتحقق من أن ميليشيا الدولتين تقوم بالمحافظة على القانون والنظام. وتوالت التصريحات البريطانية عن نية الانسحاب في ١٥ أيار / مايو ١٩٤٨ م.

أمّا على الصعيد العربي ، فقد رفضت الهيئة العربية العليا تقرير لجنة الأمم المتحدة وتوصياتها ، وأعلنت عزمها على مقاومة المشاريع الناجمة عنهما ، وسارت تظاهرات في فلسطين والأقطار العربية تندد بهما ، وتدعو لإنقاذ فلسطين. كما اجتمعت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في صوفر (لبنان) في ١٦ أيلول / سبتمبر ١٩٤٧ م ، ودرست التقرير والتوصيات ، واتخذت مقررات يمكن تلخيصها كالتالي : ١) أن تنفيذ المقترحات يشكل خطرا محققا يهدد الأمن والسلام في فلسطين والبلاد العربية ، ولذا فقد وطدت العزم على مقاومة ذلك بجميع الوسائل العملية الفعالة ؛ ٢) ترى اللجنة مكاشفة الشعوب العربية بحقيقة المخاطر التي تهدد فلسطين ، ودعوتها إلى نصرة الشعب الفلسطيني ؛ ٣) إرسال مذكرات إلى حكومتي لندن وواشنطن ، تحذر من النتائج الناجمة عن تنفيذ التوصيات ؛ ٤) دعوة الجامعة العربية إلى تقديم ما يمكن من معونة عاجلة للشعب الفلسطيني ، من مال وسلاح ورجال ، وتشكيل لجنة فنية لهذا الغرض ، بإشراف مجلس الجامعة.

وعاد مجلس الجامعة إلى الانعقاد ، أولا في بيروت ، ثمّ في عاليه من ٧ إلى ١٥ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٧ م نتيجة تواتر التصريحات عن استعداد بريطانيا للانسحاب من فلسطين ، وضرورة مواجهة ما ينجم عن ذلك. ودرس المجلس تقرير اللجنة الفنية العسكرية عن القوة الصهيونية ، وبالتالي مستلزمات مواجهتها ، وكذلك حاجة الفلسطينيين إلى المال والسلاح والتدريب. وأوصت اللجنة العسكرية الدول العربية بحشد قوات على حدود فلسطين ، وتشكيل قيادة عسكرية موحدة ، ورصد ما لا يقل عن مليون جنيه كدفعة أولى لهذا الغرض. وفي اجتماع عاليه ، قرر

٥٠٨

مجلس الجامعة تنفيذ مقررات بلودان السرية في حال تطبيق أي حل من شأنه أن يمس حقّ فلسطين في أن تكون دولة عربية مستقلة. كما أشار إلى ضرورة اتخاذ دول الجامعة احتياطات عسكرية على حدود فلسطين ، وأن تؤدي ما يترتب عليها من مساعدات مادية ومعنوية لعرب فلسطين. كما قرر تشكيل لجنة عسكرية تساعد على تهيئة وسائل الدفاع وتنظيمها وتجنيد الفلسطينيين وتدريبهم. وتمّ الاتفاق على أن تبقى الجيوش العربية مرابطة على حدود فلسطين ، فلا تدخلها إلّا إذا تلقى اليهود مساعدة أجنبية ، وتعرض عرب فلسطين للخطر. وأشارت اللجنة العسكرية إلى وجوب تحمل الفلسطينيين عبء الدفاع عن بلادهم ، على أن تزودهم الحكومات العربية بالمال والسلاح والخبراء ، ولا مانع من الاستعانة بالمتطوعين العرب.

واتخذت اللجنة العسكرية من دمشق مقرّا لها ، وبدأت حركة واسعة للتطوع في الأقطار العربية ، واستخدم معسكر قطنا ، بالقرب من دمشق ، لتدريب المتطوعين من فلسطين والأردن وسورية ولبنان والعراق ومصر. وتشكلت اللجنة من : ١) أمير اللواء الركن إسماعيل صفوت (العراق) ؛ ٢) المقدم محمود الهندي (سورية) ؛ ٣) المقدم الركن شوكت شقير (لبنان) ؛ ٤) الأستاذ عزة دروزة (فلسطين) ؛ ٥) اللواء طه الهاشمي (العراق) كمفتش عام للمتطوعين. كما تشكلت لجنة أخرى للإشراف على إنفاق المال من : محمود الهندي وصبحي الخضرا (فلسطين) وإسماعيل صفوت وبهجت طبارة (الأردن) وشوكت شقير. وتوزعت الدول العربية المساهمة المالية بالنسب التالية : مصر ٤٢% ، والمملكة العربية السعودية ٢٠% ، وسورية ١٢% ، ولبنان ١١% ، والعراق ٧% ، والأردن ٥% ، واليمن ٣%. وفي البداية انحصر نشاط اللجنة العسكرية ، بعد اعتراض بريطانيا على خطتها ، كونها لا تزال الدولة المنتدبة على فلسطين ، في تزويد بعض المناطق الفلسطينية بالسلاح ، وتجميع المتطوعين وتدريبهم ، وتشكيل وحدات مقاتلة منهم. وفي الواقع ، لم تحصل هذه اللجنة على كل ما وعدت به من مجلس الجامعة من مال وسلاح.

وعندما اتخذ قرار التقسيم بتاريخ ٢٩ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٤٧ م ، أعلنت الحكومة البريطانية قبولها به ، ووعدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على تنفيذه ، شرط أن يتم ذلك بطريقة نظامية. أمّا في فلسطين والأقطار العربية ، فقد طغت موجة من الاستنكار والسخط ، جرى التعبير عنها بالإضراب الشامل والمسيرات الصاخبة ، التي تخللتها صدامات دموية. وأعلنت الهيئة العربية العليا يوم ٢٩ تشرين الثاني / نوفمبر يوم حداد ، كما أعلنت الإضراب ثلاثة أيام (٢ ـ ٤ كانون الأول / ديسمبر ١٩٤٧ م). وهاجم المتظاهرون السوق التجاري اليهودي (الشماعة) في القدس ، كما وقعت صدامات في

٥٠٩

مدن فلسطين الأخرى ، من أهمها ما وقع في يافا ، في الأحياء المجاورة لتل أبيب ، حيث دمرت بيوت. وقد شلّ الإضراب جميع مرافق الحياة ، وشكل نقطة انعطاف في الصراع نحو المقاومة المسلحة لقرار التقسيم.

وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر ، عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية دورة اجتماعات في القاهرة في الفترة ٨ ـ ١٧ كانون الأول / ديسمبر ١٩٤٧ م ، حضرها رؤساء الحكومات ، للبحث بما يجب عمله. وفي نهاية الدورة ، أصدر مجلس الجامعة بيانا استنكر التقسيم وأكد العزم على مقاومته. وبعد عرض للقرار ومثالبه ، ورد في البيان أن

حكومات دول الجامعة العربية تقف صفا واحدا في جانب شعوبها في نضالها لتدفع الظلم عن إخوانهم العرب وتمكنهم من الدفاع عن أنفسهم وتحقيق استقلال فلسطين ووحدتها. وقد قرر رؤساء وممثلو هذه الحكومات ... أن التقسيم باطل من أساسه وقرروا كذلك عملا بإرادة شعوبهم أن يتخذوا من التدابير الحاسمة ما هو كفيل بإحباط مشروع التقسيم الظالم ونصرة حق العرب فإنهم قد وطدوا العزم على خوض المعركة التي حملوا عليها وعلى السير بها حتى نهايتها الظافرة ...» (١)

ج) الحسم العسكري

في المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرين (١٨ كانون الأول / ديسمبر ١٩٤٦ م) ، قال بن ـ غوريون ، الذي تولى مسؤولية دائرة الأمن في الوكالة اليهودية ، إضافة إلى منصبه كرئيس لها ، وذلك في جلسة مغلقة للجنة السياسية ، ما يلي : «إن المشكلة الرئيسية هي مشكلة الأمن ... وإلى فترة قريبة ماضية كانت المسألة هي فقط كيف نحمي أنفسنا من عرب أرض ـ إسرائيل الذين لم تكن لديهم ، مثلنا ، أجهزة رسمية ، وكانوا من فترة إلى أخرى يهاجمون تجمعات سكانية يهودية ... لكننا نقف الآن في مواجهة وضع مختلف تماما. إن أرض ـ إسرائيل محاطة بدول عربية مستقلة ... دول يحق لها أن تشتري السلاح وتصنعه ، وأن تنشىء الجيوش وتدربها ... إن هجمات عرب أرض ـ إسرائيل لا تشكل خطرا على الاستيطان اليهودي ، لكن هناك خطر يتمثل في أن ترسل الدول العربية المجاورة جيوشها لمهاجمة الاستيطان وإبادته ... ولا يجوز لنا الانتظار حتى يصبح الخطر جاثما. علينا أن نبدأ بالإعداد فورا ، بأقصى ما لدينا من قدرة تقنية ومالية ... إن مشكلة الأمن تحتل مكان الصدارة ، لأن وجودنا

__________________

(٦٧) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٢٥١.

٥١٠

بالذات عرضة هنا للخطر. والمطلوب الآن هو موقف جديد من المشكلة ، وإمكانات أكبر ، وإعادة تنظيم قواتنا لتأهب من نوع جديد تماما.» (١)

ومن موقعه ، راح بن ـ غوريون يهيّىء الاستيطان الصهيوني للمعركة القادمة ، ويعد الهاغاناه للحسم العسكري فيها ، ويعمل على توفير الإمكانات المادية والتسليحية لذلك. وبعد أن كان القوة الدافعة وراء برنامج بلتمور والانحياز إلى الولايات المتحدة ، والقرار بإنشاء الدولة اليهودية ، حتى في إطار التقسيم كمرحلة أولى ، كان بن ـ غوريون يعمل على إخراج بريطانيا من فلسطين. وقبل إعلان بريطانيا نيتها الانسحاب ، قال بن ـ غوريون في ٢٦ آب / أغسطس ١٩٤٧ م ، أمام اللجنة التنفيذية الصهيونية ، ما يلي : «علينا أن نبذل كل الجهود السياسية لإبعاد الحكم البريطاني ، بأسرع ما يمكن ، ومن دون أدنى تحفظ ، وألّا نسعى لتجميله و (إصلاحه) فحسب وإنما لإبعاده فعلا عن البلد إبعادا ماديا فلا يبقى له أي أثر أو ذكر في أرض ـ إسرائيل.» (٢) وتابع بن ـ غوريون قائلا : «فالمسألة المركزية والأكثر حيوية للييشوف والصهيونية على حد سواء ـ إذ إن مستقبلنا القريب والبعيد متعلق بها ، وبناء عليها ينبغي أن نقرر الاستراتيجية الصهيونية إزاء الخارج والداخل معا ـ [هي] مسألة أمن الييشوف وإنشاء قوة يهودية مسلحة.» (٣)

ويتضح من الذي تقدم ، وغيره من الشهادات والأدلة الكثيرة ، أن القيادة الصهيونية بزعامة بن ـ غوريون ، بعد أن حزمت أمرها بحسم المعركة عسكريا ، عمدت بنشاط محموم لإعداد الأداة العسكرية الصهيونية لأداء المهمة. ويؤكد تقرير اللجنة الأنكلو ـ أميركية أن القوات اليهودية في فلسطين وصلت في بداية نيسان / أبريل ١٩٤٦ م ، إلى نحو ٠٠٠ ، ٦٨ رجل ، موزعين كالتالي : ١) قوة ثابتة من سكان المدن والمستعمرات وعددها نحو ٠٠٠ ، ٤٠ ؛ ٢) جيش ميدان قوامه ٠٠٠ ، ١٦ ؛ ٣) قوات ضاربة (بلماح) وعددها ٦٠٠٠. وهذه القوات الثلاث شكلت الهاغاناه. وفضلا عنها كانت عصابتا الإرغون وشتيرن تضمان نحو ٦٠٠٠. وقد حصل أكثرهم على التدريب في صفوف الجيش البريطاني ، سواء في فلسطين ، أو الخارج ، في أثناء الحرب العالمية الثانية. وكثيرون منهم كانوا في جيوش الدول الأوروبية الشرقية الحليفة ،

__________________

(٦٨) مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، «حرب فلسطين ، ١٩٤٧ ـ ١٩٤٨» (الرواية الإسرائيلية الرسمية) ، ترجمه عن العبرية أحمد خليفة ، قدّم له وليد الخالدي ، راجع الترجمة سمير جبور (نيقوسيا ـ قبرص ، ١٩٨٤) ، ص ١٦٧.

(٦٩) المصدر نفسه ، ص ١٧٣.

(٧٠) المصدر نفسه ، ص ١٧٤.

٥١١

ورابطوا مع وحداتها في الشرق الأوسط ، وفرّوا منها ، وانضموا إلى العصابات الصهيونية. وتؤكد المصادر أن نحو ٣٦٠٠ مجند يهودي من الذين تدربوا في بولونيا ، وجاؤوا إلى فلسطين ، ضاع أثرهم فيها بعد الحرب. ومنهم مناحم بيغن ، الذي عمل في قوات الجنرال أندرز ، وسرعان ما تولى إعادة تنظيم عصابة الإرغون بعد موت جابوتنسكي.

وقد استفادت الوكالة اليهودية من الخبرات الفنية والمتطوعين ، من اليهود وسواهم ، الذين جرى استقدامهم إلى فلسطين للعمل على بناء الأداة العسكرية الصهيونية. وكان من أبرز هؤلاء الضابط البريطاني الموالي للصهيونية ، أورد وينغيت الذي عمل على تدريب كتائب الهاغاناه ، والأميركي ، ماركوس الذي كان يعمل في هيئة أركان الجنرال أيزنهاور في أوروبا ، وانتقل منها إلى فلسطين ، وعمل في صفوف الهاغاناه ، وتولى قيادة منطقة القدس ، حيث قتل ، ونقل إلى الولايات المتحدة ليدفن في المقابر العسكرية ، بمراسم الشرف. وفي مجال التسليح والإنتاج الحربي ، عملت الوكالة اليهودية على سدّ بعض حاجاتها من الورشات التي أقامتها في أثناء الحرب ، وكانت تمد الجيش البريطاني ببعض العتاد ، كما تقوم بأعمال الصيانة لمصلحته ، واستمرت في عملها بعد الحرب ، ولكن لمصلحة الهاغاناه. أمّا القسم الأكبر من السلاح فقد وصل إلى العصابات الصهيونية عن طريق الشراء والتهريب والسرقة من مستودعات الجيش البريطاني ، وكذلك التجميع من مخلفات الجيوش الحليفة بعد الحرب مباشرة.

وفي مقابل وحدة الموقف السياسي إلى حد كبير ، إذ أجمعت الأحزاب الصهيونية على إقامة الدولة اليهودية ، ووحدة القرار المركزي ، الذي أصبح بيد دافيد بن ـ غوريون ، ووحدة الهدف ـ الحسم العسكري ـ ووحدة الأداة وتوفير مستلزماتها وتنظيمها ، وتخطيط عملها وبرمجته ، كان كل شيء تقريبا على الجانب العربي يظهر العكس ، ما عدا الحماسة الجماهيرية. وبغض النظر عن بيانات الجامعة العربية التي كانت تصدر باسم حكوماتها جميعا ، فإن موقفها الحقيقي ، أو بعضه على الأقل ، لم يكن متطابقا مع تلك البيانات ، لا نصّا ولا روحا. هذا فضلا عن أنها كانت جميعا حكومات حديثة العهد بالاستقلال ، وتسود بينها خلافات قسمتها إلى محاور ، ولديها من المشكلات الداخلية ، والارتباطات الخارجية ، ما يعيقها عن تنفيذ تعهداتها العلنية. وقد غاب عن عملها القرار المركزي ، بل القيادة المركزية ، على الرغم من تشكيل الجامعة العربية ، التي لم تكن قراراتها ملزمة لأعضائها ، وحتى في حال الإجماع ، ترك لكل طرف التنفيذ كما يرتئي. ولعل الأهم كان غياب وحدة الهدف

٥١٢

والأداة ، وبالتالي تأهيل الأداة وتسليحها وتوفير مستلزماتها وتوحيد قيادتها وخططها ... إلخ. وبينما عادت الهيئة العربية العليا وتشكلت (١٩٤٦ م) بتدخل من الجامعة العربية ، إلّا إنها لم تكن مؤهلة ، لا شكلا ولا مضمونا ، لإدارة مثل هذه المعركة. وعندما طرح الحاج أمين في اجتماع عاليه تشكيل حكومة فلسطينية ، اعترض بعض الدول العربية ، فأرجىء الأمر. ومع أن اللجنة العسكرية ، التي تشكلت بقرار من الجامعة ، أوصت بإيلاء الفلسطينيين مسألة الدفاع عن بلدهم ، إلّا إنه لم تتخذ إجراءات تمكنهم من ذلك ، لا ذاتيا ولا موضوعيا.

ومع ذلك ، فمنذ بداية سنة ١٩٤٧ م ، بدأت مجموعات عربية مسلحة تغير على المستعمرات في وسط البلاد ، ومع حلول الربيع ، اتخذت وضعا أكثر تنظيما ، وعقدت اجتماعا (٥ نيسان / أبريل ١٩٤٧ م) للتنسيق بينها وتكثيف نشاطها. وبلغت هذه الأعمال ذروتها في أحداث يافا ـ تل أبيب (٣ آب / أغسطس ١٩٤٧ م) ، إذ جرت اشتباكات عنيفة في الأحياء المتجاورة بين المدينتين ، قتل فيها عدد من الأشخاص ، وأحرقت منازل ومتاجر ومستودعات ، وتواصلت بعدها الأعمال الانتقامية بين الجانبين وتصاعدت. أمّا البريطانيون ، فبعد إجلاء عائلاتهم ، أصبحوا يعيشون في المعسكرات ، ولا يتجولون إلّا في مهمات محددة. وبناء على أوامر صارمة من لندن ، تصرف الجيش البريطاني إزاء الإرهاب الصهيوني بدرجة عالية من ضبط النفس ، حتى عندما قتل جنود بريطانيون ، وجلد ضباط ، وشنق رقباء.

وبعد البيانات العربية بشأن مقاومة قرار التقسيم بالقوة ، أعادت الهاغاناه تنظيم قواتها. فقسمت إلى تشكيلين قطريين : ١) الجيش (هحايل) ، الذي اشتمل على كتائب البلماح وقوة الميدان ، وكان يتعين عليه مواجهة الأخطار الخارجية ؛ ٢) الحرس (همشمار) ، الذي ضم قوة الحراسة ، وكان مخصصا للدفاع تجاه الأخطار المحلية. وتقرر أن يتشكل الجيش من أربعة ألوية : لواء الشمال من ٥ كتائب ، لواء الوسط من ٣ كتائب ، لواء الجنوب من ٥ كتائب ، ولواء القدس من كتيبتين. أمّا الحرس فيرابط في ١٤ منطقة ، منها ٣ مدينية ، و ١١ ريفية. وتكون كل منطقة وحدة إدارية لأغراض التدريب والإعداد والدفاع المحلي. واتّخذ قرار أن يكون الجيش كله خاضعا مباشرة لرئيس هيئة الأركان العامة ، الذي يصدر أوامره مباشرة إلى قادة الألوية. وكذلك كان الحرس في أوقات السلم ، أمّا في الحرب ، فتتبع المناطق لقيادة الجيش العامل فيها.

في المقابل ، لم تتخذ في الجانب العربي إجراءات منسجمة مع القرارات السياسية المعلنة. وفي فلسطين ذاتها ، حيث الإحساس المباشر بالاستعدادات الصهيونية للمعركة ، كانت الخطوات المضادة مبعثرة ، ولا ترقى إلى المستوى

٥١٣

المطلوب. كان العرب الأكثرية ، وكذلك انتشارهم هو الأوسع على الأرض ، وبالتالي الأكثر ملاءمة لعزل التجمعات اليهودية ومحاصرتها وضربها. إلّا إنه كانت تعتور ذلك ثغرات على الصعيد الذاتي لناحية وحدة الموقف والمركز والقرار ، وبالتالي التنظيم والتخطيط والتنفيذ ، وخصوصا ما يتعلق بتوفير مستلزمات المعركة. والبدايات التي برزت منذ مطلع سنة ١٩٤٧ م ، وراحت تتصاعد في نهايتها ، كانت على العموم تكرارا للنهج الذي تبلور سنة ١٩٣٦ م ، إلّا إن المعطيات الحالية كانت قد تغيرت كثيرا.

وفي الواقع ، فإنه على عكس ما كان عليه الحال سنة ١٩٣٦ م ، إذ بادر الفلسطينيون إلى الهجوم العسكري التكتيكي ، من موقع الدفاع السياسي الاستراتيجي ، فقد كانوا في سنة ١٩٤٧ م في موقع الدفاع على الصعيدين. فبغض النظر عن العمليات المحدودة الهجومية ، وخصوصا في وسط البلاد ، كانت السمة العامة لاستعدادات العرب منذ منتصف سنة ١٩٤٧ م دفاعية. لقد قامت المنظمة الصهيونية بالهجوم ، سياسيا وعسكريا ، وإلى جانب العمليات ضد السلطات البريطانية ، قامت بأعمال استفزازية ضد العرب. ولذلك ، وقبل صدور أية قرارات بشأن العمل العسكري العربي ، كان الفلسطينيون يشترون السلاح ، على الرغم من الحظر البريطاني الصارم على اقتنائه ، ويقومون بأعمال الحراسة على قراهم ، خوفا من الهجمات الصهيونية التي راحت تتكرر على قرى ومواقع معزولة. وبين التشكيك في صدق نية بريطانيا الانسحاب ، الأمر الذي كان مشتركا مع الوكالة اليهودية ، والترقب لما ستتمخض عنه قرارات الجامعة العربية والهيئة العربية العليا ، دوهم عرب فلسطين بالنشاط العسكري الصهيوني وهم غير مستعدين له ، فكان همهم الأول الدفاع عن أنفسهم وأحيائهم وقراهم إزاء الغارات الليلية من قبل القوات الصهيونية.

وباحتدام الصراع السياسي في الأمم المتحدة ، وتصاعد الضغط العسكري الصهيوني ، على أرضية تواتر التصريحات البريطانية التي تؤكد العزم على الانسحاب من فلسطين ، أصبح الأمن هاجس الناس الأول. فازداد البحث عن السلاح ، ونشط قادة محليون في تشكيل مجموعات مسلحة ، وتنظيم أعمال الحراسة ، كل على أطراف قريته ، أو حيّه في المدينة. واشتدت الصدامات ، التي كان أكبرها في يافا ـ تل أبيب في ١٠ آب / أغسطس ١٩٤٧ ، والذي تصاعد ليبلغ الذروة في ٢٨ كانون الأول / ديسمبر ١٩٤٧ م في الهجوم الكبير على الحيّ الجنوبي من تل أبيب (هتكفاه) ، بقيادة الشهيد حسن سلامة. ثم وقع الانفجار الكبير خلال الإضراب بعد صدور قرار التقسيم ، إذ وقعت صدامات مسلّحة في القدس ، وراحت تتصاعد ، وانتقلت إلى جميع أنحاء البلد. وسارعت القرى والمدن إلى تشكيل اللجان القومية استعدادا

٥١٤

للقتال ، وإلى شراء السلاح وتنظيم الجماعات المقاتلة. وخلال سنة ١٩٤٧ م ، وإلى أن دخلت طلائع «جيش الإنقاذ» في بداية سنة ١٩٤٨ م ، ومن ثمّ الجيوش العربية في ١٥ أيار / / مايو ١٩٤٨ م ، تحملت القوى المحلية وجيش الجهاد المقدس وزر القتال ، ولم تحقق القوات الصهيونية عليهما انتصارات تذكر.

وبينما الوكالة اليهودية تهيّىء لاحتلال فلسطين كلها وطرد سكانها منها ، وتخطط لمواجهة الجيوش العربية مجتمعة ، مستغلة الانسحاب البريطاني بمراحله ، بعد أن تعهدت بريطانيا بالتعاون مع الأمم المتحدة بتنفيذ قرار التقسيم ، كان التخطيط في الجانب العربي معدوما تقريبا. ونظرا إلى تذبذب مواقف الجامعة العربية من الهيئة العربية العليا ، بين اعتمادها قيادة للشعب الفلسطيني ، ومعارضة ذلك لأسباب متعددة ، فيما التوجه العام عدم دخول الجيوش العربية ما دام الانتداب قائما ، تمخضت المداولات عن تشكيلين عسكريين ، يقومان بالتصدي للنشاط الصهيوني المتصاعد ، إلى جانب الجماعات المحلية المسلحة ، ريثما ينتهي الانتداب. ولأن التوجه العربي كان ينطلق من تولي الفلسطينيين أصلا الدفاع عن «أرضهم وعرضهم» ، بدعم من الدول العربية المجاورة ، ولكن من دون وضع هذا الدعم بإمرة قيادة فلسطينية ، وفي المقابل رفض الهيئة العربية العليا التنازل عن دورها وموقعها ، فقد تشكلت الأرضية للازدواجية منذ البداية. وبموازاة جيش الجهاد المقدس الفلسطيني ، بقيادة عبد القادر الحسيني ، وبالتالي بإمرة الحاج أمين الحسيني ، ودعم مصري ، فقد شكلت اللجنة العسكرية التابعة للجامعة العربية جيش الإنقاذ ، من متطوعين عرب وفلسطينيين.

وعندما عاد عبد القادر الحسيني سرّا من القاهرة (٢٢ كانون الأول / ديسمبر ١٩٤٧ م) ، كانت اللجان القومية قد تشكلت في جميع أنحاء فلسطين بجهد ذاتي. لكن دخول عبد القادر لم يكن برضى اللجنة العسكرية في دمشق. وبعد وساطات سكتت عنه بشروط : ١) أن يخضع نشاطه لأوامرها ؛ ٢) أن يحصر نشاطه في منطقة القدس فقط ؛ ٣) ألّا يجمع أموالا من السكان. ولم يتلق جيش الجهاد المقدس مساعدات تذكر من اللجنة العسكرية. وفي ذروة قوته ، كان هذا الجيش يضم فئتين : ١) قوة ضاربة قوامها ٥ ـ ٧ آلاف رجل ؛ ٢) مجاهدين مقيمين في قراهم وعددهم نحو ٠٠٠ ، ١٠. ولم يلتزم عبد القادر بشروط اللجنة العسكرية ، وكانت لجيشه امتدادات في جميع أنحاء فلسطين ، لكن مركزه بقي في منطقة القدس. وظل يعاني شح الموارد المالية المتوفرة للهيئة العربية العليا ، وقلة السلاح والعتاد ، وضعف التنظيم والإدارة.

إلّا إنه على الرغم من العقبات الخارجية والثغرات الداخلية ، فإن جيش الجهاد المقدس أدّى دورا بارزا في القتال قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين (١٥ أيار.

٥١٥

مايو ١٩٤٨ م). وتركز نشاطه في منطقة القدس ، وبفعله ، وعملياته الجريئة ، واستناده إلى متطوعين محليين ، أصبحت هذه المنطقة نقطة الضعف الرئيسية في العمل الحربي الصهيوني. كما تحمل هذا الجيش وأنصاره ، ولفترة طويلة ، وزر الصمود في مواجهة التمركز الأقوى للقوات الصهيونية في تل أبيب ، إذ تولى الدفاع عن يافا واللد والرملة وجوارها ، بقيادة حسن سلامة. وعوض الجيش عن نقص الإمكانات بالتفاف القوى المحلية حوله ، واستبسال رجاله بالدفاع عن أنفسهم وأهلهم وأملاكهم. ولعل الإنجاز الأكبر لهذا الجيش كان عزل القدس ومحاصرتها وإجبار الحي اليهودي في البلدة القديمة على الاستسلام.

في المقابل ، شكلت اللجنة العسكرية جيش الإنقاذ من متطوعين عرب ، جاؤوا من فلسطين وسورية ولبنان والعراق والأردن ومصر والسعودية واليمن ، وعدد قليل من تركيا ويوغسلافيا وألمانيا وإنكلترا. وقد بدأ تجميع المتطوعين في معسكر قطنا (سورية) ، بعد قرار التقسيم ، حيث كانوا يجتازون دورة تدريب قصيرة ، بإشراف ضباط من الجيش السوري ، ثم يتوجهون إلى فلسطين تباعا. وتشكل جيش الإنقاذ من ثمانية أفواج ، وأربع سرايا منفصلة ، كانت كالتالي :

١) فوج اليرموك الأول ٣ سرايا ٥٠٠ مقاتل

٢) فوج اليرموك الثاني ٣ سرايا ٤٣٠ مقاتلا

٣) فوج اليرموك الثالث ٢ (سريتان) ٢٥٠ مقاتلا (تقريبا)

٤) فوج حطين ٣ سرايا ٥٠٠ مقاتل

٥) فوج الحسين (العراق) ٣ سرايا ٥٠٠ مقاتل (تقريبا)

٦) فوج الدروز (جبل العرب) ٣ سرايا ٥٠٠ مقاتل

٧) فوج القادسية ٣ سرايا ٤٥٠ مقاتلا (تقريبا)

٨) فوج أجنادين ٢ (سريتان) ٢٥٠ مقاتلا (تقريبا)

٩) ٤ سرايا منفصلة ٤ سرايا ٤٥٠ مقاتلا

٣٨٣٠ مقاتلا (تقريبا) (١)

ودخلت أفواج (كتائب) جيش الإنقاذ إلى فلسطين بالتتابع ، واتخذت مواقع لعملياتها ، كالتالي :

١) فوج اليرموك الثاني (٩ كانون الأول / ديسمبر ١٩٤٧ م) ، بقيادة المقدم أديب الشيشكلي (سوري) ، وتحرك قبل استكمال استعداداته ، ودخل الجليل الغربي عن

__________________

(٧١) Walid Khalidi) ed. (, From Haven to Conquest) Washington, ٧٨٩١ (, p. ٠٦٨.

٥١٦

طريق جنوب لبنان ، وتولى العمل في أقضية عكا وصفد والناصرة ، على جبهة طولها ٦٠ كلم.

٢) فوج اليرموك الأول (٢٢ كانون الثاني / يناير ١٩٤٨ م) ، بقيادة المقدم محمد صفا (سوري). وتموضع في منطقة جنين ـ بيسان.

٣) فوج القادسية (شباط / فبراير ١٩٤٨ م) ، بقيادة المقدم مهدي صالح العاني (عراقي) ، وكان بتصرف قيادة الجيش في جبع ، ثم انتقل إلى العمل في قطاع رام الله ـ باب الواد.

٤) فوج حطين (آذار / مارس ١٩٤٨ م) ، بقيادة النقيب مدلول عباس (عراقي) ، وعسكر في طوباس ، ثم تمدد إلى السامرة وطولكرم.

٥) فوج الحسين (العراق) ، بقيادة المقدم عادل نجم الدين (عراقي) ، وتولى (آذار / مارس ١٩٤٨ م) قيادة منطقة يافا بمن فيها من وحداته والحامية المحلية.

ودخلت الأفواج والسرايا الأخرى لاحقا.

وكان على رأس الهرم العسكري لجيش الإنقاذ المفتش العام ، اللواء طه الهاشمي (عراقي) ، وعلى رأس اللجنة العسكرية اللواء إسماعيل صفوت (عراقي) ، وفيها العقيد محمود الهندي (سوري) ، والمقدم شوكت شقير (لبناني) ، وعزة دروزة (فلسطيني) ، حل محله لاحقا صبحي الخضرا (فلسطيني). ولم تشارك مصر والأردن والسعودية واليمن في هذه اللجنة. وقررت اللجنة أن يتولى فوزي القاوقجي (لبناني) القيادة الميدانية ، فدخل إلى فلسطين في ٥ آذار / مارس ١٩٤٨ م ، وأقام مقر قيادته في قرية جبع ، بين نابلس وجنين. وبعد دخول القاوقجي أعيد تنظيم الجيش على أساس ثلاثة ألوية : اليرموك الأول ، بقيادة محمد صفا ؛ اليرموك الثاني ، بقيادة أديب الشيشكلي ؛ اليرموك الثالث ، بقيادة مهدي صالح العاني. كما ظل «الفوج العلوي» بقيادة غسان جديد. وفضلا عن هذه التشكيلات ، كانت هناك مجموعات من المتطوعين ، مثل «كتائب الإخوان المسلمين» المصرية ، التي عملت في النقب والعريش وغزة ، بعد أن سمحت لها السلطات المصرية بالتطوع ، وزودتها ببعض الأسلحة والضباط للتدريب (شباط / فبراير ١٩٤٨ م). كما كانت هناك مفارز شبه مستقلة : عراقية وحموية وشركسية وإدلبية وأردنية وسورية نظامية ولبنانية وبدوية وحامية عكا ومفرزة مجدل شمس ومفرزة يوغسلافية وسرية لبنانية بقيادة النقيب حكمت علي وسرية الفراتين بقيادة النقيب خالد مطرجي. وعمل مع المتطوعين المصريين أفراد من تونس وليبيا والسودان. كما شكلت جمعية مصر الفتاة مجموعة «القمصان الخضراء».

٥١٧

لقد دخلت وحدات جيش الإنقاذ إلى فلسطين والانتداب البريطاني لا يزال قائما فيها ، ولم تعترض السلطات ، التي كانت تعد نفسها للرحيل ، على هذا الانتشار العسكري ، إذ جاء بناء على تفاهم مع الجامعة العربية. ويستدل من انتشاره أنه تموضع في المناطق المحددة للدولة العربية في مشروع التقسيم. وفي الواقع ، فإنه ابتداء من شباط / فبراير ١٩٤٨ م ، اعتبرت قيادة الجيش البريطاني جيش الإنقاذ مسؤولا رسميا عن الأمن في المناطق التي انتشر فيها ، وتركزت مسؤولية الجيش البريطاني في المناطق اليهودية لحمايتها من أي هجوم عربي. وميدانيا ، انقسم جيش الإنقاذ إلى ساحتي عمل مستقلتين : المنطقة الوسطى ، حيث تمركزت أغلبية الوحدات ، بقيادة فوزي القاوقجي ؛ والمنطقة الشمالية ، حيث عملت عدة وحدات منه ومفارز مستقلة إداريا وجيش الجهاد المقدس ومجموعات محلية وسواها ، بقيادة أديب الشيشكلي. وبقي الأمر كذلك إلى ما بعد دخول الجيوش العربية ، إذ أنعم الأمير عبد الله على القاوقجي بلقب «باشا» ، وطلب منه الانسحاب ، ففعل في ١٧ أيار / مايو ١٩٤٨ م ، وسلم مواقعه للجيشين ـ الأردني والعراقي ـ وعاد إلى سورية ، ومنها إلى جنوب لبنان ، ثم فلسطين في حزيران / يونيو ١٩٤٨ م ، فانسحب الشيشكلي ، وتولى القاوقجي القيادة الميدانية في الشمال.

وبادر فوج اليرموك الثاني ليلة ٢١ ـ ٢٢ كانون الثاني / يناير ١٩٤٨ م بهجوم مفاجىء على مستعمرة يحيعام (جدين) في الجليل الغربي. ونجح جنود الجيش بمساندة محلية قوية من مسلحي القرى المجاورة ، بالتسلل إلى داخل سياج الأسلاك الشائكة المحيط بالمستعمرة ، ومفاجأة المدافعين عنها ، الذين سارعوا إلى التحصن داخل أسوار القلعة الصليبية الضخمة الموجودة هناك. وتدخلت قوات بريطانية ، فأوقف الهجوم ، لكن المستعمرة ظلت محاصرة حتى ربيع تلك السنة. وقام فوج اليرموك الأول بهجوم مماثل على طيرت تسفي (الزرّاعة) ، في غور بيسان ليلة ١٦ ـ ١٧ شباط / فبراير ١٩٤٨ م ، وفشل الهجوم بسبب سوء التخطيط والأحوال الجوية. ومرة أخرى تدخلت القوات البريطانية ، وانسحب المقاتلون العرب ، لأنهم حملوا تعليمات بعدم الصدام مع الإنكليز. وسقط في المعركة ٣٧ شهيدا. وبعد انتشاره ، ركز جيش الإنقاذ على قطع طرق المواصلات بين التجمعات اليهودية ، وعزلها ، ونجح في ذلك ، في القدس والجليل والنقب. وقد وقعت معارك ضارية من أجل السيطرة على الطرق ، وخصوصا في باب الواد ، بالقرب من القدس.

وفي آذار / مارس ١٩٤٨ م ، تكثفت عمليات الكمائن على طرق المواصلات ، شارك فيها إلى جانب جيش الإنقاذ متطوعون محليون ، وخصوصا في منطقتي القدس

٥١٨

والجليل. وخلال الأسبوع الأخير من ذلك الشهر ، على سبيل المثال لا الحصر ، قتل أكثر من ١٠٠ جندي صهيوني ، في خمس قوافل كانت تنقل السلاح والتموين إلى مناطق يهودية معزولة ، وهي : عطروت ١٤ قتيلا وهرطوف ١١ قتيلا والنبي دانييل ١٢ قتيلا ويحيعام ٤٦ قتيلا وخولدة ٢٤ قتيلا. وكانت مستعمرات غوش عتسيون محاصرة ، والطريق إلى القدس مقطوعا ، ومستعمرات الجليل الغربي معزولة.

وفي تلخيص الوضع القتالي ، الذي أعده رئيس شعبة العمليات في هيئة أركان الهاغاناه ، يغئيل سوكنيك (يادين) ، وقدم إلى بن ـ غوريون (١ نيسان / أبريل ١٩٤٨ م) ، ورد ما يلي : «يجب أن نذكر أن كل مراحل المعركة حتى الآن أملاها علينا العدو. ولم نتمكن ـ حتى الآن ـ من التأثير على المجرى الاستراتيجي والعملياني للمعركة التي تطورت من أحداث إلى حرب بين قوتين شبه نظاميتين ... والحل الوحيد هو أخذ زمام المبادرة العمليانية بأيدينا متطلعين إلى إحراز حسم عسكري ضد العدو.» (١) لقد حققت القوات العربية الانتصار في المعركة على طرق المواصلات ، ودافعت حتى تلك اللحظة عن مواقعها بنجاح ، ولكنها لم تحقق إنجازات في أعمالها الهجومية على المستعمرات.

لقد أخفق جيش الإنقاذ في الهجوم على يحيعام ، وكذلك على طيرت تسفي. وكان الهجوم الكبير على مشمار هعيمك ، الذي قاده القاوقجي بنفسه ، فاشلا في النتيجة ، إذ استمر عدة أيام من دون جدوى. وتدخلت القوات البريطانية ، وفرضت على جيش الإنقاذ الانسحاب ، وبالتالي الحؤول دون تواصل قواته مع حامية حيفا ، والسيطرة على منطقة مصفاة البترول ، التي يحرسها الجيش العربي (الأردني) ، بقيادة بريطانية. فعززت الهاغاناه قواتها هناك ، واحتلت عددا من القرى في المنطقة ، وأرغمت سكانها على الجلاء عنها. وكذلك ، وعلى الرغم من استبسال جنود فوج جبل العرب في معركة رمات يوحنان (هوشة والكساير) ، بين شفاعمرو وحيفا ، والتي وقعت لمساندة الهجوم على مشمار هعيمك ، فإنه لم يفلح في استثمار الفوز الأول ، ولم يحقق في يومين من القتال نتائج تذكر.

إلّا إنه على الرغم من محدودية إنجازات جيش الإنقاذ ، فقد حفزت قيادة الهاغاناه على تغيير خطتها ، والتسريع في وضع «خطة د» موضع التنفيذ. وهذه الخطة هي تطوير للثلاث التي سبقتها ، لناحية الأهداف والمنطلقات وأسلوب القتال ، وبالتالي تنظيم القوات بما يتلاءم مع مهماتها. وهي تهدف إلى «مواجهة حالة غزو قوات نظامية

__________________

(٧٢) «حرب فلسطين ، ١٩٤٧ ـ ١٩٤٨» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٣٢٥.

٥١٩

من الدول المجاورة» ، وتنطلق من الفرضية «أنه في أثناء تنفيذ الخطة ، لن تكون قوات السلطة (البريطانية) موجودة في البلد» ، كما لن تكون فيه «قوة دولية قادرة على العمل بصورة فعالة.» وأخذت الخطة بعين الاعتبار احتمال عزل مناطق يهودية ، والسيطرة العربية على مناطق الجليل الشرقي والغربي والنقب ، والتغلغل في السهل الساحلي في اتجاه قلقيلية ـ طولكرم ـ نتانيا ، لعزل المدن الثلاث الكبرى ـ القدس وتل أبيب وحيفا ـ والإضرار بالتموين والخدمات الحيوية الأخرى ، مثل الماء والكهرباء ، وكذلك احتمال استخدام أسلحة ثقيلة ومدفعية ميدان ومركبات مدرعة وطائرات ، بينما تقوم عصابات محلية بحرب مشاغلة. وبناء عليه ، وضعت خطة لمواجهة هذه الاحتمالات ، وتطوير الهاغاناه لتكون قادرة على أداء مهماتها. (١)

وعدا قوة الحراسة ، وفضلا عن البلماح ، تقرر بناء على الخطة تشكيل ستة ألوية ميدانية هي : ١) غولاني ، في الجليل ومرج ابن عامر ؛ ٢) كرملي ، في حيفا وجوارها ؛ ٣) ألكسندروني ، في السهل الساحلي ؛ ٤) كرياتي ، في تل أبيب وجوارها ؛ ٥) غفعاتي ، في منحدرات جبال القدس الجنوبية الغربية ؛ ٦) عتسيوني ، في منطقة القدس ؛ ٧) شيفع ، الذي تشكل لاحقا ، عشية الانسحاب البريطاني. كما تشكلت خدمات طبية وسلاح مدفعية ومدرعات وبحرية وبداية قوة جوية. ونشط عملاء الموساد في شراء السلاح وتهريبه.(٢)

أمّا بالنسبة إلى الأعداد في هذه الألوية ، فهناك بعض التضارب في المصادر ، ولكن النصاب المكتمل لها ، وهو ما يؤكده الكثيرون من الخبراء ، كان كالتالي :

١ ـ البلماح (الكتائب الضاربة) ، وفيها ثلاثة ألوية : يفتاح وهرئيل وهنيغف. وفي كل منها ٢٧٥٠ جنديا ، وهو ما يجعل مجموعها ٨٢٥٠.

٢ ـ الألوية السبعة التي شكلت لتنفيذ الخطة د ، وفي كل منها ٢٧٥٠ جنديا ، فيكون مجموعها ٢٥٠ ، ١٩ ؛ ويصبح مجموع قوات الميدان (حيس) نحو ٥٠٠ ، ٢٧.

٣ ـ الحاميات المحلية والاحتياط العام (حيم) ، الملحقة بقوات الميدان ، وتقاتل معها بحسب الحاجة ، وعدا ذلك تقوم بأعمال الدفاع والنشاطات الإقليمية. وكانت قد وصلت في خريف سنة ١٩٤٧ م نحو ٠٠٠ ، ٣٢ ، وقسمت إلى كتائب في كل منها ٦٠٠ رجل.

٤ ـ شرطة المستعمرات ، التي شكلها البريطانيون ، وبلغ عددها في حزيران /

__________________

(٧٣) المصدر نفسه ، ص ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٧٤) المصدر نفسه ، ص ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

٥٢٠