الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

ونشر مع الكتاب الأبيض الثاني ، الذي أصدره وزير المستعمرات ، اللورد باسفيلد ، (٢٠ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٠ م). وتقرير سمبسون هو وثيقة مهمة جدا ، لأنها تصف الأوضاع الاجتماعية والسياسية للفلسطينيين ، التي على أرضيتها نشبت ثورة البراق ، ومن بعدها الثورة العربية الكبرى (١٩٣٥ ـ ١٩٣٩ م). وكان سمبسون قد وصل إلى البلاد في فترة عصيبة ، إذ لم تكن العقوبات الجماعية توقفت ، وحالة البطالة والضيق الاقتصادي متفاقمة ، والأحكام العرفية مستمرة. وقد ترك إعدام الشهداء الثلاثة : عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي ، جوّا حزينا على البلاد كلها ، يوم «الثلاثاء الحمراء» (١٧ حزيران / يونيو ١٩٣٠ م) ، الذي تعالت فيه أصوات المؤذنين من الجوامع ، ودوّت أجراس الكنائس ، وعمت التظاهرات جميع أنحاء البلاد لدى إعلان الحكومة إصرارها على تنفيذ حكم الإعدام بهم.

وجاء في تقرير سمبسون ما يلي : «باستثناء منطقة بئر السبع ، فإن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة تبلغ ٠٠٠ ، ٥٤٤ ، ٦ دونم ، يملك منها اليهود مليون دونم ، أي أكثر من ١٤% ... وقد غدا أكثر من ٥٤ ، ٢٩% من العائلات العربية القروية دون أرض ، كما أن الأراضي الصالحة للزراعة لدى العرب لا تكفي لضمان معيشة السكان والمحافظة على مستواها. ونتيجة سياسة الحكومة في موضوع الأراضي ، اضطر قسم كبير من الفلاحين إلى أن يفقدوا عملهم وأرغموا على مغادرة أراضيهم.» (١) وعرض التقرير سياسة التهويد التي تتبعها المؤسسات الصهيونية الاستيطانية ، القائمة على مقاطعة العمل العربي ، الأمر الذي يتنافى مع صك الانتداب ، ويشكل خطرا دائما ومتزايدا على البلاد. وأوصى سمبسون بإلغاء هذه الشروط والقيود في عقود مؤسسات الاستيطان الصهيوني.

وأشار سمبسون إلى حرمان المزارع العربي من الامتيازات المتاحة لليهودي ، من رؤوس أموال وخبرات علمية ، وإلى أنه لم تقدم له المساعدة لتحسين زراعته ومستوى معيشته ، أسوة بالمزارع اليهودي. فهو يتزايد عددا وبسرعة ، في حين تتناقص الأراضي التي يعيش منها ، وهو يرزح تحت عبء الديون ، مثقلا بالضرائب ، ويتعذر عليه سدادها إلّا بمزيد من الاستدانة ، بفوائد لا تصدق. ونتيجة ذلك ، تدفق الفلاحون على المدن ، حيث تدنت الأجور ، وزادت البطالة لتشكل خطرا على حياة البلاد الاقتصادية. وقال : «إن واجب الإدارة الانتدابية أن تتأكد ألّا يلحق ضرر بالعرب من جرّاء الهجرة اليهودية ، وعليها أن تشجع اليهود على التجمع في الأراضي شريطة

__________________

(٣٨) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم الثاني ، المجلد الثاني ، مصدر سبق ذكره ، ص ١٠٢٥.

٤٤١

الخضوع للشرط الأول [الامتناع من مقاطعة العمل العربي] ، ولا يمكن التوفيق بين الواجبين المتناقضين إلّا بسلوك جدي وفعال ، وذلك لإيجاد نهضة زراعية تهدف إلى استقرار العرب في الأراضي وتوسيع زراعتهم ، أمّا في الوقت الحاضر فالبلاد لا تتسع لإنسان جديد.» (١)

إن الضجة التي أثارتها ثورة البراق ، وما عقبها من توصيات لجنة شو وتقرير سمبسون ، وكذلك التقارير الدورية التي كان يرسلها المندوب السامي عن الأوضاع غير المستقرة في البلاد ، وما تنشره الصحف في فلسطين وإنكلترا ، حملت حكومة مكدونالد على إصدار الكتاب الأبيض لسنة ١٩٣٠ ، ليشرح سياستها في فلسطين. وقد انطلق الكتاب من مبدأ الالتزام بصك الانتداب ، كونه يستوجب من الحكومة البريطانية الالتزام بتعهداتها إزاء الفريقين من سكان فلسطين ـ العرب واليهود. وادّعت الحكومة إمكان التوفيق بين وعد بلفور ، وصيانة حقوق العرب في فلسطين ، بالاستناد إلى التوصيات الواردة في تقريري شو وسمبسون. إلّا إنه سرعان ما ثبت أن حكومة مكدونالد كانت مفرطة في تفاؤلها ، وقدرتها على تنفيذ سياستها ، فاضطرت إلى التراجع المخزي عن بيانها ، وإدخال تقارير اللجان التي عينتها عالم النسيان.

وكون الكتاب الأبيض لسنة ١٩٣٠ جاء على خلفية الاضطرابات ، فقد بدأ بتناول قضية الأمن ، مشددا أن الحكومة ستعاقب بشدة كل من يخل بالأمن ، أو يحرض على أعمال العنف. وبناء عليه ، فهي ستعزز قوات الأمن ، وتدافع عن المستوطنين اليهود. في المقابل ، وعد البيان بمنح الفلسطينيين قسطا من الحكم الذاتي ، بما يتلاءم مع صك الانتداب ، ابتداء بإحياء مشروع المجلس التشريعي لسنة ١٩٢٢ م. كما تعرض لموضوع الأراضي ، فوعد بالعمل على تحسين أساليب الزراعة والريّ ، وحماية الفلاحين ، وضمان عدم طردهم من الأراضي التي يعملون فيها ، وإقامة جمعيات تعاونية زراعية. وتناول البيان موضوع الهجرة ، فرأى أنه يجب التأكد من عدد العمال العاطلين في البلاد قبل تحديد سقف الهجرة إليها. وفي مجمل الأحوال ، يجب النظر إلى قدرة فلسطين الاقتصادية عند الحكم على عدد المهاجرين إليها ، وقال : «وكانت مهاجرة اليهود تسبب حرمان السكان العرب الحصول على الأشغال ، وإذا كان انتشار البطالة بين اليهود انتشارا يؤثر في مركز العمال على العموم تحتم على الدولة المنتدبة خفض المهاجرة أو وقفها ريثما يتسنى للعاطلين إيجاد عمل.» (٢)

__________________

(٣٩) المصدر نفسه ، ص ١٠٢٦.

(٤٠) «فلسطين : تاريخها وقضيتها» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٥٩.

٤٤٢

وعلى الرغم من الإحباط وخيبة الأمل اللذين ألمّا بالقيادة السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية جرّاء تعاملها مع الحكومة البريطانية ، فقد استقبلت الكتاب الأبيض الثاني بارتياح مشوب بالحذر. فمع تشبثه بتعهدات بريطانيا إزاء الحركة الصهيونية ، وعد بإنصاف العرب وحماية حقوقهم المدنية. لكن مصير البيان لم يقرره الزعماء الفلسطينيون ، ولا حتى حكومة مكدونالد ، كما ثبت ذلك في الواقع ، وإنما الحركة الصهيونية وأنصارها في بريطانيا والولايات المتحدة. فغداة نشر البيان ، أثارت الحركة الصهيونية ضده موجة من الاحتجاج والتنديد في الأوساط الصحافية والسياسية ، في بريطانيا وأميركا. وانبرى فرسان الاستعمار البريطاني ، من حزبي المحافظين والأحرار ـ بلدوين وتشرشل وتشمبرلين ولويد جورج وسمتس ـ لمهاجمة الحكومة ودعوتها إلى العدول عن بيانها. وكذلك ، وبتظاهرة استعراضية ، قدم وايزمن ، المعروف في الحركة الصهيونية بعلاقاته البريطانية ، استقالته من رئاسة المنظمة وإدارة الوكالة اليهودية ، وتبعه فيلكس واربرغ واللورد ملتست ، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة.

وتحركت القوى الصهيونية في الولايات المتحدة ، فأعلنت اللجنة اليهودية الأميركية أن حكومة بريطانيا قد ارتدت عن وعد بلفور ، وجندت كل قواها السياسية والمالية والإعلامية لتفعيل الضغط على حكومة مكدونالد. وكان الأشد تأثيرا عليها الضغط الاقتصادي في فترة الركود العالمي ، إذ دعت المنظمات الصهيونية وأنصارها إلى تشديد الضغط الاقتصادي على بريطانيا ، بما في ذلك مقاطعة بضائعها ، والتضييق عليها في تسديد فوائد ديونها لبيوت المال الأميركية. وإزاء الضغط الاقتصادي والسياسي والإعلامي ، من الداخل والخارج ، تراجعت حكومة مكدونالد عن الكتاب الأبيض ، وأرسلت إلى المنظمة الصهيونية رسالة (١٣ شباط / فبراير ١٩٣١ م) ، تؤكد فيها تمسكها بالموقف البريطاني التقليدي. وقد سماها العرب «الكتاب الأسود» ، إذ رضخت الحكومة البريطانية إلى الضغوط الصهيونية والأميركية. واعتبرت المنظمة الصهيونية تلك الرسالة تراجعا عن الكتاب الأبيض ، وإلغاء له. ولخص وايزمن في مذكراته أهمية تلك الرسالة ، بما يلي : «إن رسالة مكدونالد قد غيّرت سياسة الحكومة وإدارة فلسطين ، الأمر الذي مكننا من تحقيق مكاسب ضخمة في الأعوام اللاحقة. وبسبب هذه الرسالة سمح للهجرة اليهودية بالوصول إلى ٠٠٠ ، ٤٠ سنة ١٩٣٤ م و ٠٠٠ ، ٦٢ سنة ١٩٣٥ م ، وهي أرقام لم نكن نحلم بها سنة ١٩٣٠.» (١)

لقد حققت استقالة وايزمن الاستعراضية أغراضها ، وتراجعت حكومة مكدونالد ،

__________________

(٤١) John Hadawi ,op.cit.,Vol.I ,pp.٣٣٢ ـ ٤٣٢.

٤٤٣

بل انقلبت على بيانها ، وسلكت سبيلا مغايرا تماما. ومع ذلك ، لم تحز على رضى المنظمة الصهيونية ، التي رأت تيارات فيها الفرصة ملائمة لمزيد من الابتزاز. وفي المؤتمر الصهيوني السابع عشر (حزيران / يونيو ١٩٣١ م) ، طرحت مسألة العلاقة بين الحركة الصهيونية وبريطانيا ، بعد أن شعرت الأولى بقوتها إزاء الثانية. ورأى وايزمن أنه بعد رسالة مكدونالد ، التي نسخت الكتاب الأبيض ، يمكن العمل على تطوير العمل الصهيوني في إطار السياسة البريطانية ، ومن خلال التعاون مع حكومة الانتداب. لكن عددا كبيرا من أعضاء المؤتمر ، وعلى رأسهم التنقيحيون ، اتهم وايزمن بالمرونة ، وادّعى أن سياسته هذه هي التي شجعت حكومة لندن على إصدار الكتاب الأبيض. وأصرّ وايزمن على استقالته ، وانتخب ناحوم سوكولوف خلفا له ، وحاييم أرلوزوروف رئيسا للدائرة السياسية في فلسطين ، اللذان استمرا في سياسة وايزمن. أمّا التنقيحيون فانسحبوا من المؤتمر ، وأسسوا لاحقا المنظمة الصهيونية الجديدة ، الأمر الذي أدّى إلى توتر العلاقة داخل المنظمة والاستيطان ، بينهم وبين الأحزاب العمالية.

وفتح انكفاء حكومة مكدونالد الباب على مصراعيه أمام الابتزاز الصهيوني ، بالاستناد إلى الدعم الأميركي ، وبذريعة قطع الطريق على التطرف الذي يدعو إليه التنقيحيون. وبداية استبدل المندوب السامي تشانسلر ، الذي راح تحت ضغط المطالبة العربية يطرح مسألة المجلس التشريعي ، وحل محله بتوجيه من وايزمن سير آرثر واكهوب (١٩ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٣١ م). وعنه يقول وايزمن ، «ربما كان أفضل مندوب سام عرفته فلسطين ، وإنه كان مصداقا لظن مكدونالد ، وبرهانا على حسن اعتقاده به في تعطيل الضرر الناجم عن الكتاب الأبيض.» (١) وخلال الأعوام السبعة التي أمضاها واكهوب في فلسطين ، تطور الاستيطان الصهيوني كثيرا. فأزيلت القيود عن الهجرة ، وكذلك عن انتقال الأراضي ، ولم يحدث أي تقدم في تشكيل الحكم الذاتي التمثيلي ، الذي أصبح مطلب القيادة الفلسطينية الرئيسي ، وذلك بسبب معارضة الوكالة اليهودية له. وعلى الرغم من التراجع الذي شهده النضال الفلسطيني ، فقد راحت المنظمات الصهيونية الإرهابية تتسلح بمعرفة السلطة ، بل بتعاونها ، إذ وزعت كميات من السلاح على المستوطنين ، بحجة الدفاع ، كما ساهمت في تدريبهم على استعماله.

وفي ولاية واكهوب ، التي استمرت سبعة أعوام ، تصاعدت الهجرة اليهودية ،

__________________

(٤٢) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم الثاني ، المجلد الثاني ، مصدر سبق ذكره ، ص ١٠٣٠.

٤٤٤

وبلغت أرقاما لم تعرفها من قبل ، إذ ارتفع عدد المهاجرين من ٧٥٠ ، ١٠٤ حتى سنة ١٩٣٠ م ، إلى ٦٤٥ ، ٢٨٤ حتى سنة ١٩٣٦ م ، أي بزيادة ١٦٤% ، وهذا بحسب الإحصاءات الرسمية ، التي لا تتضمن الهجرة غير الشرعية ، التي تقدر بالآلاف. ولم تحاول الحكومة وضع أية قيود على هذه الهجرة الكثيفة ، التي بالتأكيد لا تتناسب مع «قدرة البلاد على الاستيعاب» ، كما كانت تؤكد دائما. في المقابل ، وما عدا العودة إلى طرح موضوع المجلس التشريعي لتهدئة الخواطر العربية كلما لاحت في الأفق بوادر التململ ، لم تقم حكومة الانتداب بأية بادرة تجاه الفلسطينيين ، من شأنها تطمينهم إلى صيانة حقوقهم وضمان أسباب معيشتهم في وطنهم ، إزاء ازدياد عدد المستوطنين ، وارتفاع نبرة الدعوة إلى إعلان فلسطين دولة يهودية ، ولو بالقوة ، التي راحت تستند أكثر فأكثر إلى منظمات إرهابية مسلحة ، وإلى مؤسسات استيطانية فاعلة. وفي كل مرة أثير موضوع المجلس التشريعي والحكم الذاتي ، استطاعت الوكالة اليهودية إحباطه ، وفرضت على حكومة الانتداب التراجع عن التعامل معه بجدية.

غير أن الأرقام التي وصلتها الهجرة اليهودية في الثلاثينات ، لم تكن نتيجة إلغاء الكتاب الأبيض لسنة ١٩٣٠ ، وتراجع حكومة مكدونالد عن موقفها من الاستنتاجات التي توصلت إليها لجان التحقيق البريطانية فحسب ، بل بسبب تصاعد النازية في ألمانيا ، وأثر ذلك في يهود أوروبا الوسطى أيضا. ففي سنة ١٩٣٣ م ، وبينما تولى أدولف هتلر السلطة الفعلية في ألمانيا ، تسلم الرئاسة في الولايات المتحدة فرانكلن روزفلت ، وبيده سلطات استثنائية للخروج من الأزمة الاقتصادية ، تحت شعارين : «النظام الجديد» داخليا ، و «الصفقة الجديدة» خارجيا. واعتمد روزفلت على مجموعة من المستشارين ، ضمت أبرز رموز العمل الصهيوني في الولايات المتحدة ، مثل : فيلكس فرانكفورتر والقاضي سامويل رونمان والأستاذ الفخري بيرنارد باروخ وناثان مريغولد وغيرهم. وهكذا تشكل وضع ملائم جدا للحركة الصهيونية لزيادة معدلات الهجرة ، مستغلة الإجراءات النازية إزاء اليهود في ألمانيا ، وأثرها في المحيط ، وخصوصا في بولونيا ، ومستفيدة من التأييد الذي توليها إياه إدارة روزفلت بتوجهاتها الجديدة ، وكل ذلك في وقت تراجعت به الحركة الوطنية الفلسطينية ، وقصّرت في أداء دور فاعل لدرء الخطر الداهم على البلد ، عبر السياسة التي انتهجتها حتى الآن.

لكن الأوضاع المواتية للعمل الصهيوني أوجدت توترا داخله ، بين تيار الوسط الذي رأى ضرورة انتهاز الفرصة وتصليب القاعدة الاستيطانية بالتعاون مع حكومة الانتداب ، وبين التيار اليميني المتطرف ، الذي طرح ضرورة انتهاز تلك الفرصة

٤٤٥

لإعلان الدولة اليهودية. وعندما اغتال المتطرفون رئيس الدائرة السياسية للوكالة اليهودية في فلسطين ، الدكتور حاييم أرلوزوروف (١٦ تموز / يوليو ١٩٣٣ م) ، وصلت الأمور بين الجناحين إلى حد الاقتتال. وفي المؤتمر الصهيوني الثامن عشر (١٩٣٣ م) ، احتل هذا الخلاف الموضوع الرئيسي في مداولات المؤتمر. وفي سنة ١٩٣٤ م ، توصل بن ـ غوريون إلى صيغة عمل مع جابوتنسكي ، تقوم على هدنة سياسية ، وتنظيم علاقات عمل بين الهستدروت ونقابة العمال القومية. إلّا إن هذه الاتفاقية رفضت في الاستفتاء الذي أجرته الهستدروت سنة ١٩٣٥ م ، وبقي الشقاق بين التيارين قائما ، وشكل التنقيحيون منظمتهم الخاصة. وفي المؤتمر الصهيوني التاسع عشر (١٩٣٥ م) الذي عقد بغياب التنقيحيين ، أعيد انتخاب وايزمن رئيسا للمنظمة الصهيونية ، كما انتخب موشيه شاريت (شرتوك) رئيسا للدائرة السياسية في الوكالة اليهودية ، وكان يشغل ذلك المنصب منذ اغتيال أرلوزوروف ، فاستمر فيه.

وتصاعدت الحملات المتبادلة بين ألمانيا النازية والمنظمة الصهيونية ، وتحركت الأخيرة بالدعوة إلى مقاطعة البضائع الألمانية ، وخصوصا في السوق الأميركية ، وعبر المؤسسات المالية والتجارية اليهودية. وفي حملتها هذه ، سعت المنظمة للحصول على دعم الولايات المتحدة وبريطانيا وعصبة الأمم لإزالة القيود المفروضة على هجرة اليهود إلى فلسطين. وفي نهاية سنة ١٩٣٣ م ، أعلنت الوكالة اليهودية أنها جمعت خمسة وعشرين مليون دولار لدعم الهجرة والاستيطان في فلسطين ، وخصوصا من بولونيا وألمانيا ، في حين عقد بعض أطراف المنظمة الصهيونية صفقة مع الحكومة الألمانية ، تقضي بالسماح للراغبين من اليهود بالهجرة ، على أن تعوضهم الحكومة عن أملاكهم ببضائع ألمانية الصنع. في المقابل ، وتحت ضغط هذه الحملة الإعلامية والاقتصادية ، وبذريعة الخطر الداهم على يهود أوروبا الوسطى ، رفعت الحكومة البريطانية سقف تصاريح الهجرة السنوية ثلاثة أضعاف ، وظلت تزيدها حتى وصلت سنة ١٩٣٥ م إلى ستين ألفا. وكان طبيعيا أن يثير كل هذا ردّة فعل في أوساط الشعب الفلسطيني ، فتطورت النشاطات المناهضة للهجرة اليهودية وإغراق البلد بالمستوطنين والسيطرة على اقتصادها والإمساك بزمام السلطة فيها ، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى اندلاع «الثورة العربية الكبرى».

سابعا : الثورة العربية الكبرى

دشّن ارتداد حكومة العمال البريطانية (شباط / فبراير ١٩٣١ م) مرحلة جديدة في الصراع بشأن فلسطين. ففي لندن هزم أنصار الكتاب الأبيض أمام التحالف المؤيد

٤٤٦

للصهيونية ، بدعم أميركي قوي. وكأنما للتكفير عن ذنب اقترفته ، راحت حكومة مكدونالد تغالي في استرضاء الصهيونية ، وتغدق عليها بالتسهيلات للوصول إلى «الوطن القومي اليهودي». أمّا على صعيد العمل الصهيوني ، فقد تغلب تيار الوسط ، الذي انتهج سياسة «خذ وطالب» على التيار المتطرف الذي دعا إلى «استثمار الفوز» بالإسراع في إعلان الدولة اليهودية ، خلافا للإرادة البريطانية. في المقابل ، فشلت سياسة القيادات الفلسطينية التقليدية ، ففقدت الكثير من رصيدها الشعبي ، من دون قيام البديل القادر على إدارة الصراع بصورة أكثر نجاعة. وبينما استطاعت المؤسسة الصهيونية تجاوز الشقاق داخلها ، ومتابعة عملها بنشاط ، فإن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية في المقابل ، بتركيبها ونمط عملها ، اللذين يخلوان من أية علاقات ديمقراطية ، أصيبت بالشلل ، وبالتالي تمّ تجاوزها تحت ضغط التطورات على الساحة.

ففي ولاية واكهوب ، التي تواكبت مع صعود النازية في ألمانيا ، تصاعدت معدلات الهجرة اليهودية بوتيرة متسارعة. فمن ٤٠٧٥ سنة ١٩٣١ م إلى ٩٥٥٣ سنة ١٩٣٢ م إلى ٠٠٠ ، ٣٧ سنة ١٩٣٣ م إلى ٠٠٠ ، ٤٣ سنة ١٩٣٤ م وإلى ٠٠٠ ، ٦٢ سنة ١٩٣٥ م ، عدا الهجرة غير الشرعية. وكذلك ، انتقل أكثر من ٠٠٠ ، ٣٣٤ دونم من الأراضي إلى المؤسسات الاستيطانية ، وأرغم الفلاحون على الجلاء عنها بالقوة ، كما حدث مع عرب وادي الحوارث (الزبيدات) في السهل الساحلي ، وأهالي العفولة في مرج ابن عامر ، وغيرهم. في المقابل ، ونتيجة الإحباط الذي أصاب قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية ، جراء تجاهل السلطة لمطالبها ، وذلك على الرغم من التراجع الذي جرى فيها ، فقد راحت فكرة العدول عن سياسة الاحتجاج على إجراءات حكومة الانتداب والتفاوض معها تتعزز ، وتتعالى الدعوة إلى توجيه النضال ضد بريطانيا ، كما ضد الصهيونية ، كونهما تشكلان جبهة واحدة. ومن خلال تجربة ثلاثة عشر عاما ، تعمق الوعي لدى جماهير الشعب الفلسطيني أن «الوطن القومي اليهودي» هو وليد السياسة البريطانية ، وأداة من أدواتها الاستعمارية ، كما تكرس الاقتناع باستحالة استتباب الأمن في البلاد ، ما دام فيها شعبان متنافران ، أحدهما يدافع عن بلده ، والآخر يريد اغتصابها.

وكان طبيعيا ، على أرضية الواقع الفلسطيني ، أن يحدث هذا التحول فرزا داخل الحركة الوطنية متأثرا بالبنية الاجتماعية للشعب الفلسطيني ، وبالتالي بمقدار استعداد الفئات المتعددة داخله لتحمل تبعات النضال المتوجب على احتدام التناقض المتولد عن الجمع بين الانتداب والاستيطان وأهالي البلد الأصليين. وإذ كانت القوى

٤٤٧

السياسية الفلسطينية متفقة إلى حد كبير بشأن الموقف من الصهيونية ، فإنها لم تكن كذلك بالنسبة إلى بريطانيا. ولعل في الرأيين اللاحقين ما يعبر عن هذا الافتراق في وجهات النظر. فقد كتب صبحي الخضرا ـ من حزب الاستقلال العربي ، الذي راح يحرض ضد الانتداب (جريدة «الجامعة العربية» ٣ آب / أغسطس ١٩٣٠ م) ـ مقالا بعنوان «بريطانيا أصل الداء وأساس كل بلاء» ، جاء فيه : «بريطانيا وحدها المسؤولة عن جميع ما أصابنا من النكبات. وما الصهيونية إلا واحدة منها ، بل إن شرّ المصائب وداهية النوائب هي هذه الحكومة الإنكليزية نفسها. إنها اعتداء صارخ على أقدس حقوقنا ، إنها ليست انتدابا ولا حماية ، بل هي حكم إنكليزي استعماري مباشر فوق العرب والمسلمين في هذه البلاد العربية المقدسة.»

واندفاع الاستقلاليين من القوميين العرب ، والمتحمسين من جيل الشباب في الحركة الوطنية ، المتأثرين بالمزاج الشعبي الساخط ، وبالتالي الداعين إلى مقاومة الانتداب باعتباره احتلالا عسكريا مباشرا ، ومدخلا لإقامة الدولة اليهودية ، سبب إحراجا للجنة التنفيذية التي لم تكن متحمسة لفتح الصراع مع بريطانيا. وقد عبّر جمال الحسيني ، المقرب من الحاج أمين وموسى كاظم الحسيني ، عن موقف تلك اللجنة (٢ آذار / مارس ١٩٣١ م) بقوله : «إن القضية الفلسطينية ذات صبغة تختلف عن بقية القضايا الوطنية العربية. إذ لدينا في فلسطين خصمان : الأول الخصم الصهيوني ، وهو الذي يسعى سعيا حثيثا لاستيطان فلسطين وإخراج العرب منها ، وهذا خطر مفاجىء لا يمكن الصبر عليه ، وهو خاص بفلسطين .. أمّا الخطر الاستعماري وهو الثاني فإن المستعمرين يقولون بموجب صك الانتداب المعمول به والذي رفضته الأمة ، إنهم في هذه البلاد وقت محدود ، فلذلك اتجهت الأمة للخطر المفاجىء ، وهو الخطر الأكبر ، وأجّلت السعي لدفع الخطر الآخر بصورة جدية ... إن جهود الأمة بعد القضاء على الصهيونية ستنصرف إلى إنهاء الانتداب وضم فلسطين في حلف عربي وافقت عليه جميع الأمم العربية.» (١)

فاللجنة التنفيذية المنبثقة من المؤتمر السابع سنة ١٩٢٨ م ، ظلت على العموم متمسكة بقراراته ، وبناء عليه ، تابعت عملها في محاولة إقناع حكومة الانتداب بالعدول عن سياستها المؤيدة للمشروع الصهيوني ، والمبادرة إلى إقامة حكومة وطنية برلمانية ، تنفيذا للحكم الذاتي الوارد في صك الانتداب. وناشدت اللجنة حكومة الانتداب (٣ كانون الثاني / يناير ١٩٢٩ م) «اتباع سياسة رشيدة تخول العرب حقهم في إدارة بلادهم

__________________

(٤٣) المصدر نفسه ، المجلد الثالث ، ص ٥٣٤ ـ ٥٣٥.

٤٤٨

على يد حكومة نيابية تكون في صالح جميع العناصر في فلسطين.» كما اقترحت على المندوب السامي «أن تبدأ المفاوضات معه مباشرة ... لوضع الأسس التي تقوم عليها تلك الحكومة التمثيلية قياما بما عهد إلى الدولة المنتدبة من الواجبات.» وعادت اللجنة التنفيذية ، بعد ثورة البراق ، في كانون الأول / ديسمبر ١٩٣٠ ، وكررت هذا الطلب في بيانها السياسي ، حيث ورد «إن صك الانتداب يحتم على الحكومة الإنكليزية تأسيس حكومة وطنية في فلسطين حالا.» وبهذا لم تغير اللجنة التنفيذية نهجها نتيجة ثورة البراق ، بل رأت فيها حافزا على دفع مطالبها بالحكم الذاتي ، استنادا إلى حالة الغليان الشعبي ، وما قد يحدثه ذلك من أثر على السياسة البريطانية.

وتابعت اللجنة التنفيذية عملها ، محاولة توظيف أحداث سنة ١٩٢٩ لتدعيم مطالبها بالحقوق العربية والإسلامية في فلسطين ، وانتهجت سياسة «اللاتعاون» مع حكومة الانتداب ، ولكن من دون الدعوة إلى فتح الصراع معها. في المقابل ، وسعت اتصالاتها العربية والإسلامية ، لحشد الدعم للقضية الفلسطينية ، بعد أن فقدت الثقة ببريطانيا. وفضلا عن الدعوة إلى مقاطعة المنتوجات اليهودية ، وتشجيع الصناعات العربية ، فقد عقد في ١٨ أيلول / سبتمبر ١٩٣١ م مؤتمران لتنشيط العمل الفلسطيني. الأول في يافا ، وضم الكثيرين من الصحافيين الذين استنكروا تعطيل الصحف العربية ، بتهمة التحريض على الإضراب احتجاجا على تسليح الحكومة للمستعمرات اليهودية. والثاني في نابلس ، وحضره مناضلون من جميع أنحاء فلسطين ، للاحتجاج على تسليح المستوطنين ، وعلى قمع التظاهرات العربية ، التي انطلقت في نابلس (آب / أغسطس ١٩٣١ م) احتجاجا على ذلك التسليح ، إذ وقع صدام مع الشرطة ، وأصيب عدد من المتظاهرين وضابط بوليس ، بجروح. وفي المؤتمر جرى توجيه النقد إلى النهج الذي تتبعه القيادة الوطنية ، وتقرر التركيز في العمل على «الاستقلال ضمن الوحدة العربية» ، وتوسيع الدعاية في العالمين ، العربي والإسلامي ، والدعوة إلى عقد مؤتمر للشباب الفلسطيني ، ليقوم بدوره دعما للنضال الوطني.

وفي ٧ كانون الأول / ديسمبر ١٩٣١ م عقد المؤتمر الإسلامي الذي حضره ممثلون عن ٢٢ بلدا ، وترأسه الحاج أمين الحسيني ، الذي راح يتبوّأ الموقع الأول في الحركة الوطنية الفلسطينية ، ونجم عن ذلك اعتراض الزعماء التقليديين وتنافسهم. واتخذ المؤتمر قرارات متعددة بشأن الأماكن المقدسة وفلسطين والانتداب والمشروع الصهيوني .. إلخ ، إلّا إنه لم يتمخض عن نتائج ملموسة. وعلى هامش المؤتمر الإسلامي ، عقد بعض من حضره من قدامى القوميين العرب في جمعيتي العربية الفتاة والعهد ، اجتماعا في منزل عوني عبد الهادي ، وبحثوا قضايا متعددة ، وصاغوا ميثاقا

٤٤٩

للحركة القومية العربية ، بعد انقطاع دام عشرة أعوام. وقد جاء في البيان الصادر عن الاجتماع بتاريخ ١٣ كانون الأول / ديسمبر ١٩٣١ م التأكيد على وحدة البلاد العربية ورفض التجزئة والعمل من أجل الاستقلال ورفض الاستعمار بجميع صوره. وقرر المجتمعون عقد مؤتمر موسع في بغداد ، برعاية الملك فيصل ، إلّا إن ذلك لم يتحقق بسبب اعتراض السفير البريطاني هناك. وفي ٤ كانون الثاني / يناير ١٩٣٢ م ، عقد مؤتمر الشباب العربي برئاسة راسم الخالدي ، تحت شعار توحيد صفوف الشباب لمكافحة الصهيونية والانتداب. وتبنى المؤتمر شعارات القوميين العرب في «ميثاق الشباب الوطني» الذي وضعه ، مشددا على التصدي لبيع الأراضي للمستوطنين. وفي البداية ظل مؤتمر الشباب العربي تنظيما رديفا للجنة التنفيذية ، لكنه تحوّل إلى حزب برئاسة يعقوب الغصين ، بعد موت موسى كاظم الحسيني ، وتلاشي اللجنة التنفيذية (١٩٣٤ م).

وأدّى مؤتمر الشباب دورا نشيطا في التظاهرات العنيفة التي وقعت سنة ١٩٣٣ م. فبعد صلاة الجمعة في ١٣ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٣ م ، سارت من الحرم الشريف تظاهرة ضخمة ، على رأسها موسى كاظم الحسيني وأعضاء اللجنة التنفيذية ، من دون استئذان السلطة ، فاصطدمت بقوى الأمن ، وجرح عدد من الطرفين. وفي ٢٧ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٣ م قامت تظاهرة مثيلة في يافا ، بعد صلاة الجمعة ، شاركت فيها وفود من شرق الأردن وسورية. ووقعت خلالها صدامات عنيفة مع قوات الأمن البريطانية ، وسقط أكثر من ٣٠ شهيدا و ٢٠٠ جريح ، بمن فيهم موسى كاظم ، واعتقل الكثيرون من رجال الحركة الوطنية ، فامتدت الاضطرابات إلى سائر أنحاء البلاد ، واستمرت أسبوعا. وعادت اللجنة التنفيذية وقررت القيام بتظاهرة أخرى بعد شهرين ، في يوم عيد الفطر.

ونتيجة احتدام التناقض المتولد عن حركة المشروع الصهيوني ، بتضافر جهود الاستيطان والانتداب في بداية الثلاثينات ، من جهة ، وتراجع فاعلية اللجنة التنفيذية العربية ، بحيث لم تعد قادرة على مواكبة عملية الصراع المتطورة ، وبالتالي تقصيرها في التعبير الحقيقي عن الروح الكفاحية العالية للشعب الفلسطيني ، من جهة أخرى ، كان طبيعيا أن تبرز تشكيلات سياسية ـ نضالية جديدة من إفرازات الواقع المتشكل. لقد هبط شكل من النضال ، قادته شريحة معينة من الزعامة الفلسطينية التقليدية ، واستنفدت طاقتها ، وأخذ أداؤها يخبو ، بينما أسباب الصراع لا تزال قائمة ، بل تتفاقم ، مولدة درجة أعلى من احتدام التناقض ، الأمر الذي يستلزم مستوى أعلى من حدة الصراع. وفي الواقع القائم ، تميّز الوضع الفلسطيني بحالة من الانفصام بين

٤٥٠

الذاتي والموضوعي. فالتطورات الجارية تستلزم فعلا نضاليا مضادا من جانب الشعب الفلسطيني الذي لم تكن أوضاعه العامة تؤهله للقيام بذلك ، ليس لغياب الطاقة ، وإنما لتبديدها في غير سبيلها الصحيح ، وعدم القدرة على حشد الجهد المبذول ، نظرا إلى الصراعات الداخلية. وفي غياب قدرة العدو على الحسم السريع ، فقد استمر الصراع ، ولمواكبته ، الأمر الذي يعتمد إلى حد بعيد على الوضع الذاتي ، افترقت سبل النضال الفلسطيني بين التشدد العفوي والاعتدال الطوباوي.

وعلى هذه الأرضية من تفاقم الأوضاع في فلسطين ، وحالة الانفصام على صعيد العمل الوطني بين الذاتي والموضوعي ، تشكلت عدة أحزاب في بداية الثلاثينات. وعلى العموم ، كثيرا ما كان التباين البرنامجي لهذه التشكيلات الحزبية ، غطاء للصراع القائم بين مؤسسيها بشأن النفوذ والزعامة. وباستثناء مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني وحزب الاستقلال ، اللذين تميزا في الطرح السياسي ذي البعد القومي ، فقد غلبت على الأحزاب الأخرى المسحة التقليدية ، وما تنطوي عليه من انحيازات عائلية وعشائرية ومناطقية .. إلخ. فلم تكن الخلافات البرنامجية في الواقع المتفجر تبرر تشكيل أحزاب سياسية منفصلة ، لو لا الخلافات الشخصية ، والتنافس بين الزعماء بشأن النفوذ ومراكز القوة. ولأنها كانت كذلك ، فكثيرا ما أدّت إلى استياء في أوساط الجماهير والرأي العام ، ولم تنجح في استقطاب قاعدة شعبية واسعة ، كما لم تتمتع على العموم بتأييد واسع. وقد أدّت المعارضة لشخصية الحاج أمين الحسيني وزعامته التي راحت تتعزز بعد المؤتمر الإسلامي ، دورا في حفز المنافسين له على تشكيل أحزاب معارضة لهيمنته على الحركة الوطنية. ومن جانبه ، عمد الحاج أمين إلى تشكيل حزب خاص به ، بينما تفرق معارضوه في أحزاب متعددة ، الأمر الذي أضعف فاعليتهم في التصدي له. ولأن المعارضة لم تكن ديمقراطية ، فقد غابت هذه عن العلاقات الداخلية في العمل الوطني الفلسطيني بمجمله.

وتشكل أولا (٤ آب / أغسطس ١٩٣٢ م) حزب الاستقلال على أيدي مجموعة من القوميين العرب ، الذين نشطوا في الجمعيات المناهضة للحكم العثماني ، ونادوا بالاستقلال ، الذي منه اشتق اسم الحزب. وتألفت الهيئة المركزية من عوني عبد الهادي (سكرتيرا عاما) ومحمد عزة دروزة ومعين الماضي وصبحي الخضرا ورشيد الحاج إبراهيم والدكتور سليم سلامة وعجاج نويهض وأكرم زعيتر وفهمي العبوشي ، وانضم إليهم لاحقا حمدي الحسيني وحربي الأيوبي. وكان الحزب نخبويا ، ومؤسسوه من أبناء العائلات الوجيهة ، ومن قدامى القوميين العرب ، واستمد دعمه من جيل الشباب المثقف من أبناء تلك العائلات ، ومن المتعلمين الذين حققوا نجاحا مهنيا عبر

٤٥١

تحصيلهم العلمي في البلاد والخارج ، بينما جذورهم في الطبقات الوسطى من المجتمع الفلسطيني. كما جذبت عقيدة الحزب العلمانية الوطنيين المسيحيين. ولكونه كذلك ، أولى الحزب اهتماما بالقضايا الفكرية والسياسية ، بغض النظر عن شعبية مواقفه ، واتساع قواعده الحزبية ، وبالتالي فاعليته السياسية ، وواقعية طروحاته جرّاء التطورات على الساحة العربية.

وبمعزل عن تأثير حزب الاستقلال في العمل الوطني الفلسطيني ، فإن وثائقه المهمة تقدم توصيفا عميقا لأزمة هذا العمل في النضال ضد المشروع الصهيوني والانتداب. فبيان تأسيسه يبرر تشكيله بحالة الترهل في الحركة الوطنية الفلسطينية ، والصراعات داخلها ، بعيدا عن جوهر القضايا المطروحة عليها. ولذلك فهو يرمي إلى بناء حزب سياسي ، يناضل ضد الاستعمار بلا مداورة ، ويعمل على نيل حقوق الأمة بإخلاص ونزاهة. وكذلك ، بصرف النظر عن الشرخ بين الذاتي والموضوعي في الواقع المحيط بتشكيل الحزب ، وعن حالة الانفصام بين مضمونه السياسي النظري وشكله التنظيمي ، الذي يفترض به أن يتحمل وزر برنامجه النضالي ، فقد طرح الحزب قضايا مهمة جدا ، وذلك على الصعيدين : القومي العربي والقطري الفلسطيني. فعربيا طرح استقلال الأمة ووحدتها ، مؤكدا على عروبة فلسطين وانتمائها القومي. وفلسطينيا ، دعا إلى التضامن مع الأمة ، والعمل من أجل الاستقلال وإنهاء الانتداب ورفض وعد بلفور ومقاومة الصهيونية ، وإنهاض البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ويتضح من سيرة الحزب القصيرة ، أن مبادئه لم تترجم في الواقع إلى برامج عمل يومية ، ولم تستند إلى تنظيم قادر على نقلها من حيز النظرية إلى التطبيق العملي ، وذلك لأسباب ذاتية وموضوعية ، إذ أصبحت الحركة الفلسطينية مستغرقة بالعمل القطري ، وكذلك الحال في الأقطار العربية الأخرى ، التي أصبحت مقسمة تحت الحكم الاستعماري. وبناء عليه ، وجد الحزب نفسه في نهاية سنة ١٩٣٣ م غير قادر على الاستمرار ، فاضمحلّ بالتدريج ، مع أن الأفكار التي طرحها لم تذهب أدراج الرياح تماما.

وفي ٢ كانون الأول / ديسمبر ١٩٣٤ م ، شكّل راغب النشاشيبي حزب الدفاع الوطني ، من الكتلة التي التفت حوله منذ بداية الانتداب ، عندما عينه المندوب السامي رئيسا لبلدية القدس ، بديلا من موسى كاظم الحسيني ، الذي أقيل من منصبه لنشاطه السياسي. وكان قصد سامويل من تعيين النشاشيبي ، أن يشكّل ندّا منافسا للحاج أمين الحسيني ، الذي عيّن بدوره مفتيا للقدس ، ورئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى. وبعد وفاة موسى كاظم (٢٦ آذار / مارس ١٩٣٤ م) متأثرا بالجروح التي أصيب بها في أثناء

٤٥٢

تظاهرة يافا (١٩٣٣ م) وبالتالي انفراط عقد اللجنة التنفيذية ، سارع النشاشيبي إلى تشكيل حزبه المعارض للحسينيين ، وخصوصا أنه خسر انتخابات رئاسة بلدية القدس لمصلحة حسين فخري الخالدي ، مرشح القائمة الوطنية. ويبرز حزب الدفاع نقيضا لحزب الاستقلال على الصعيد الفكري ، ومنافسا للحزب العربي بزعامة الحاج أمين. وانتسب إليه المعارضون للحسينيين ، وجلهم من رؤساء البلديات ، الذين بحكم مواقعهم كانت لهم صلات مع السلطة. وكانت له فروع في أكثر مدن فلسطين ، قوية بأشخاصها وليس بأعدادها. وفي برنامجه المعلن ، لم يخرج الحزب عن الإجماع الوطني ، لكنه في مسار الصراع ، اتخذ مواقف مخالفة لذلك الإجماع ، وصلت أحيانا إلى حد المجابهة العدائية للحركة الوطنية بزعامة الحاج أمين ، وإلى التعاون مع الأمير عبد الله في شرق الأردن. ودعا الحزب إلى الاستقلال بسيادة عربية ، وعدم الاعتراف بوعد بلفور ، والعمل في جميع المجالات لتحقيق ذلك ، وتأليف حكومة وطنية ، والسعي لتطوير البلاد اقتصاديا وعلميا واجتماعيا وزراعيا. وتألفت هيئته المركزية من : راغب النشاشيبي ويعقوب فراج والحاج نمر النابلسي ومغنم مغنم وحسن صدقي الدجاني وعبد الرحمن التاجي وسليمان طوقان وعادل الشوّا وعيسى داود العيسى.

لكن أكبر الأحزاب التي تشكلت في حينه وأهمها ، كان الحزب العربي الفلسطيني ، الذي شكله أنصار الحاج أمين الحسيني (٢٥ آذار / مارس ١٩٣٥ م). وبنى الحزب دستوره على الميثاق الوطني الفلسطيني. وكان الحزب ، بصورة أو بأخرى ، استمرارا للجنة التنفيذية ، وإحياء لعملها ، بزعامة جديدة. فطالب باستقلال فلسطين ورفع الانتداب ، كما دعا إلى صيانة عروبة فلسطين ، ومقاومة «الوطن القومي اليهودي» ، وشدد على ارتباط فلسطين بالأقطار العربية المجاورة. وبينما كانت قيادة الحزب الحقيقية في يد الحاج أمين ، فقد انتخب في مؤتمره الأول جمال الحسيني ، اليد اليمنى للحاج أمين ، رئيسا وألفرد روك نائبا للرئيس وإميل الغوري (أمينا عاما). ومن أعضاء مكتب الحزب : خالد الفرخ وكامل الدجاني ووجيه البشتاوي وفريد العنبتاوي وإبراهيم درويش والشيخ محمد علي الجعبري ويوسف ضياء الدجاني. كما تمّ انتخاب لجنة تنفيذية موسعة تمثل جميع أقضية فلسطين وعشائرها. وفي الواقع ، تولى هذا الحزب قيادة العمل الوطني ، وصار الحاج أمين القائد الأول لهذا العمل. وبرز ذلك في تشكيل اللجنة العربية العليا لفلسطين (٢٥ نيسان / أبريل ١٩٣٦ م) ، التي تولى المفتي رئاستها ، وضمت جمال الحسيني وألفرد روك. وأنشأ الحزب فروعا له في أنحاء البلاد ، وأقام دوائر متعددة لتغطية مهماته في قيادة الحركة الوطنية. وأسس «منظمة الفتوة» للشباب ، التي أصبحت نواة جيش

٤٥٣

الجهاد المقدس ، بقيادة عبد القادر الحسيني ، ابن موسى كاظم. وعندما حلت الحكومة المجلس الإسلامي الأعلى ، وأقالت المفتي ، كما حلت اللجنة العربية العليا ، وغيرها من اللجان ، وحاولت إلقاء القبض على القيادات الوطنية (١٩٣٧ م) ، واصلت اللجنة قيادة الحركة الوطنية من بيروت ، ثم من بغداد ، ولاحقا من أوروبا التي تمكن المفتي وبعض زملائه من الفرار إليها ، وأخيرا من القاهرة.

كما تشكّل في الفترة نفسها حزبان آخران : ١) حزب الإصلاح (١٨ حزيران / يونيو ١٩٣٥ م) ، أسسه الدكتور حسين فخري الخالدي وإسحاق البديري ومحمود أبو خضرا وشبلي الجمل وفهمي الحسيني والدكتور سعد الله قسيس والحاج نمر حماد والمحامي جورج صلاح وحسني خليفة وعيسى البندك وسعد الدين الخليلي. وقد وصفه البعض أنه حزب الأعيان ، وسيطرت عليه المنافسة مع راغب النشاشيبي ، وبالتالي القرب من الحزب العربي. وأسوة بالآخرين ، دعا إلى استقلال فلسطين ، واعتبار قضيتها جزءا من القضية العربية الكبرى ، ومقاومة الاستيطان الصهيوني ، وتنمية العلاقات مع الأقطار العربية. وعندما تشكلت اللجنة العربية العليا ، كان الخالدي عضوا فيها ، من موقعه كرئيس حزب الإصلاح ؛ ٢) حزب الكتلة الوطنية (٤ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٥ م) ، أسسه المحامي عبد اللطيف صلاح (نابلس). وضم مكتبه عبد الله مخلص وعبد الله متري وحمدي النابلسي وشفيق عسل. ولم يتمتع الحزب بقاعدة واسعة ، كما لم يتميز بطرحه السياسي ، أو نشاطه النضالي. ومع أنه وافق على مشروع المجلس التشريعي ، خلافا للإجماع الوطني ، فإنه عاد وانضم إلى اللجنة العربية العليا ، ممثلا برئيسه.

لكن انتظام القيادات السياسية في أحزاب ، لم يحسن أداءها النضالي كثيرا ، إذ ظلت الانقسامات مستشرية بينها ، الأمر الذي انعكس في التباين في الموقف من الانتداب. وبينما ظل الحزب العربي أكثر تصلبا إزاء التعاون مع السلطة ، فإن مواقف المعارضة ، بقيادة راغب النشاشيبي ، تميّزت بالمرونة في هذه المسألة. واستغلت السلطة الصراعات بين الأشخاص والأحزاب. وبينما الأعيان في تناحر بينهم بشأن النفوذ والسلطة ، كانت البلاد تغلي نقمة على الأوضاع السياسية والاقتصادية الصعبة ، التي تفاقمت في منتصف الثلاثينات. فنتيجة تدفق الهجرة اليهودية ، وتطور المؤسسات الصهيونية ، بما فيها العسكرية ، وبالتالي هيمنتها على اقتصاد البلد ، بما ينطوي عليه من حصار للاقتصاد العربي ، ومقاطعة المنتوجات واليد العاملة العربية ، وطرد الفلاحين من الأراضي التي تملكتها الحركة الصهيونية ، فقد زاد الضيق الاقتصادي على جماهير الشعب الفلسطيني ، وبالتالي التململ السياسي والاجتماعي.

٤٥٤

في المقابل ، فهذه التطورات زادت في الفوارق الطبقية بين السكان العرب ، إذ أصبح الأثرياء أكثر ثراء ، والفقراء فقرا. وفي هذه الأوضاع نما وعي شعبي نضالي ، يتسم بدرجة عالية من العفوية والتلقائية ، جرى التعبير عنه باستعداد قطاعات واسعة من جماهير الشعب الفلسطيني ، ومعها شريحة من المثقفين ، للعمل خارج حسابات القيادات التقليدية ، بل ضد إرادتها.

أ) ثورة القسام

في هذه الأجواء المشحونة بتفاقم التناقض بين الاستيطان والانتداب ، من جهة ، والحركة الوطنية الفلسطينية ، من جهة أخرى ، وتعمق أزمة العمل السياسي الفلسطيني واختلال أوجه نشاطه ، نشبت ثورة الشيخ عز الدين القسام ، مدشنة مرحلة جديدة من النضال الوطني الفلسطيني. فعلى خلفية الإحباط الذي أصاب الحركة الوطنية ، من نهج قيادتها التقليدية ـ المفاوضات والتمرد السلبي والتظاهر والاحتجاج .. إلخ ـ أسس الشيخ القسام حركته على الكفاح المسلح ، سبيلا لمقاومة الاستعمار والصهيونية. وباتباعه أسلوب الهجوم المسلح التكتيكي ، من موقع الدفاع الاستراتيجي ، دشّن القسام الكفاح المسلح في الحركة الوطنية الفلسطينية ، مجسدا بذلك عروبة النضال ضد الصهيونية والاستعمار ، كونه من أبناء شمال سورية. وكان طبيعيا في الأوضاع القائمة آنذاك ، أن يعتمد القسام أسلوب التنظيم السرّي الخلوي ، وأن يحيط عمله بستار كثيف من الكتمان ، ويختار الأعضاء بدرجة عالية من الحذر. ومع ذلك ، وفي غياب الشروط اللازمة لنجاح الكفاح المسلح ، ذاتيا وموضوعيا ، وتحت ضغط التطورات ، عمد الشيخ إلى البدء بعمله المسلح ، كوسيلة لاستنهاض الجماهير ، فأصيبت حركته بنكسة في مستهل نشاطه ، واستشهد هو نفسه ، وتبعثرت مجموعاته ، لتعود وتظهر في «الثورة العربية الكبرى» (١٩٣٦ م).

ولد القسام سنة ١٨٧١ م في مدينة جبلة السورية ، ودرس في الأزهر ، حيث تلقى العلم عن الإمام الشيخ محمد عبده ، واشتغل بعد تخرجه بالتدريس في بلده. وبعد الانتداب الفرنسي على سورية ، انضم إلى عصبة عمر البيطار للجهاد ضد المستعمرين. ثم شارك في ثورة الشيخ صالح العلي (١٩٢٠ ـ ١٩٢١ م) ضد الفرنسيين. وبعد انتهاء الثورة ، لجأ إلى حيفا (٥ شباط / فبراير ١٩٢٢ م) ، هربا من السلطات الفرنسية التي أصدرت حكم الإعدام بحقه. وفي حيفا ، اشتغل بالتدريس في جامع النصر والمدرسة الإسلامية ، التي كانت معقلا للحركة الوطنية الفلسطينية. ثم عينه المجلس الإسلامي الأعلى خطيبا لجامع الاستقلال في حيفا ، ومأذونا شرعيا

٤٥٥

فيها. ومن خلال عمله هذا ، أتيحت للقسام فرصة كبيرة للاتصال بقطاعات واسعة من السكان ، في مدينة كانت تتطور بسرعة ، وتجتذب أعدادا كبيرة من الريف ، وخصوصا من الفلاحين الذين أجلوا عن أراضيهم ، وذهبوا إلى المدينة بحثا عن العمل المأجور. وكانت حيفا في تلك الفترة قد أصبحت ميناء فلسطين الأول ، بما يفتحه ذلك من مجالات أمام الأيدي العاملة الرخيصة.

وحركة القسام ، شكلا ومضمونا ، لا تنسجم مع نمط عمل الأحزاب السياسية التي تشكلت على الساحة الفلسطينية في تلك الفترة. وإذ لم يسارع القسام إلى فتح الصراع مع تلك الأحزاب ، فإنه بالتأكيد لم ينسق عمله معها. فالإعداد للكفاح المسلح ، عبر تنظيم خلايا سرّية ، وفي قاعدة شعبية يسودها التململ ، كالتي نشط القسام في أوساطها ، لا يترك مجالا للتعاون مع الهيئات الحزبية القائمة ، بما يسود العلاقات بينها من تناحر ، وما يعتري تركيبتها من هشاشة. ومن ناحية ثانية ، وبغض النظر عن الإجراءات التنظيمية الصارمة التي اتخذها القسام في بناء حركته ، فإن حيفا ، في الأوضاع القائمة آنذاك ، لم تكن قاعدة آمنة لإدارة مثل هذا النمط النضالي ، الذي يرفع حدة الصراع إلى أعلى مستوياتها. وسرعان ما استخلص القسام هذه النتيجة ، بعد العمليات الأولى التي قامت بها مجموعاته ، والتي كانت بمثابة «إعلام مسلح» ، هدفه استنهاض الحالة الجماهيرية. واضطر القسام إلى الانتقال إلى الريف ، إذ وجد نفسه في مجابهة مفتوحة مع قوات السلطة ، قبل استعداده لمثلها ، فانتكست الحركة. ويبدو أن القسام اضطر إلى البدء بالعمليات العسكرية تحت ضغط التطورات على الساحة الفلسطينية ، وعلى جانبي الصراع ، ومن أجل استنهاض الحالة الجماهيرية للثورة. وكذلك ، فإن انتقاله إلى الريف ، كان تحت ضغط مطاردة قوات السلطة لتنظيمه ، واعتقال عدد من قادة المجموعات ومحاكمتهم. فقد قبض على صالح أحمد طه ومصطفى علي الأحمد وخليل محمد عيسى (أبو إبراهيم الكبير) وأحمد الغلاييني وأحمد التوبة. وحكم على مصطفى الأحمد بالإعدام ، وعلى الغلاييني بالسجن ٢٥ عاما. وبرّىء الآخرون لعدم وجود أدلة ضدهم.

واستشهد القسام في معركة غير متكافئة ، لا عددا ولا عدة ، مع القوات البريطانية في أحراج يعبد (قرب جنين) بتاريخ ٢٠ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٣٥ م. فبعد سلسلة من العمليات العصابية ، خرج الشيخ بنفسه لقيادة النضال الميداني ، فحاصرته القوات البريطانية مع أصحابه ، الذين استبسلوا في القتال ، واستشهد القسام مع عدد من رجاله ، منهم : الشيخ يوسف عبد الله وأحمد الشيخ سعيد وسعيد عطية أحمد وأحمد مصلح الحسين كما جرح عدد آخر. ونقل جثمان الشيخ إلى حيفا ، وشيع إلى مثواه

٤٥٦

الأخير في مقبرة «بلد الشيخ» ، في موكب مهيب وضخم ، حضره الكثيرون من زعماء البلاد وجماهير غفيرة. وبعد استشهاد القسام ، تولى خليل محمد عيسى قيادة الحركة ، وبعد فترة من إعادة التنظيم ، عاودت نشاطها في جبال شمال فلسطين ، وقامت بهجمات متعددة على المستعمرات اليهودية ومراكز الشرطة والجيش. وظل رجالها معتصمين في الجبال مدة ستة أشهر ، إلى أن نشبت «الثورة الكبرى» (أيار / مايو ١٩٣٦ م) ، فانضم القساميون إليها ، وأبلوا فيها بلاء حسنا. ومن أبرزهم : خليل محمد عيسى (أبو إبراهيم الكبير) ومحمد صالح الحمد والشيخ عطية أحمد عوض ويوسف سعيد أبو درّة والشيخ فرحان السعدي وتوفيق إبراهيم (أبو إبراهيم الصغير) وغيرهم.

وأهمية حركة القسام ليست في إنجازاتها المباشرة ، وإنما في دلالاتها وآثارها على مسار النضال الفلسطيني اللاحق. ففي عملية المواجهة الشاملة ، التي احتدم التناقض فيها ، بين المشروع الصهيوني ، المدعوم من حكومة الانتداب ، وبين الحركة الوطنية الفلسطينية ، كانت الأخيرة تفتقد إلى عنصر أساسي يمتلكه الأول ، وهو القوة العسكرية. ففضلا عن التشويه الفكري الذي نشره بشأن طبيعته والتزييف الإعلامي بشأن أهدافه والتطويع السياسي الذي مارسه لإخضاع الحركة الوطنية الفلسطينية لإملاءاته ، كان المشروع الصهيوني يستند إلى أداة عسكرية ، يهودية وبريطانية ، مهيّأة عند الحاجة لاستعمال القوة لسحق تلك الحركة. والأكيد أنه في الصراع التناحري ، عندما يعمد أحد الطرفين إلى استخدام القوة ، فإنه لا يترك مجالا للآخر غير اللجوء إليها أيضا ، وإلّا حسم الصراع لمصلحة من يمتلكها. ومن هنا أهمية حركة القسام في دلالتها ، مع أنها ، في الأوضاع الفلسطينية القائمة ، لم يأت نشاطها مكملا لعمل الحركة الوطنية بفصائلها الأخرى ، ولم يكن جزءا عضويا من العمل الوطني الفلسطيني العام ، بل لعل بعض أطرافه اعتبر حركة القسام بديلا منه. وفي هذا تكمن نقطة الضعف الرئيسية لحركة القسام ، التي لم تعمر طويلا. ومع صحة منطلقاتها النظرية ، إلّا إنه اعتورها الشرخ بين النظرية والتطبيق. فإدارة الكفاح المسلح على الساحة الفلسطينية آنذاك ، كانت تستلزم أكثر من النية الصادقة للشيخ عز الدين القسام وأعضاء حركته الثورية.

لكن دم الشهيد القسام ورفاقه لم يذهب هدرا ، إذ شكّل عمله ، بل موته ، عاملا إضافيا لتفجير الثورة الكبرى (١٥ نيسان / أبريل ١٩٣٦ م). فالأسباب التي حفزت القسام على إعلان الكفاح المسلح لم تختف ، بل على العكس تفاقمت ، وزاد فيها استشهاد الشيخ ، وما حركه من مشاعر النقمة بين الجماهير. كما أن المجموعات التي نظمها استمرت في حرب العصابات على السلطة ، واستقطبت إليها مناضلين آخرين ،

٤٥٧

انضموا إلى صفوفها لاستكمال مسيرة الشيخ الشهيد البطولية. وحالة التوتر التي سادت البلاد بعد استشهاد القسام ورفاقه ، شكّلت كابحا قويا للأحزاب السياسية عن التعامل مع السلطة ، التي كانت أيديها ملطخة بدمائهم. وظهرت سريعا تشكيلات جديدة في أنحاء متعددة من البلاد ، تدعو إلى تصعيد النضال ضد الانتداب والصهيونية ، وبرز فيها أعضاء حزب الاستقلال : أكرم زعيتر وحمدي الحسيني وميشيل متري وسليم عبد الرحمن وعارف نور الله. كما ساندهم عزة دروزة وعجاج نويهض ، من زعماء هذا الحزب. وفي مقابلة مع واكهوب ، بعد ستة أيام على استشهاد القسام ، تقدم ممثلو الأحزاب الخمسة ، بغياب حزب الاستقلال الذي امتنع من المشاركة ، بمذكرة جاء فيها : «إنهم إذا لم يتلقوا عن مذكرتهم جوابا يمكن اعتباره بصورة عامة مرضيا ، فإنهم سيفقدون كل ما يملكونه من نفوذ على أتباعهم. وعندئذ تسود الآراء المتطرفة غير المسؤولة ، وتتدهور الحالة سريعا.»

وفي الواقع ، فقد صدق حدس لجنة الأحزاب ، إذ راحت الأوضاع تتأزم ، وتنذر بالانفجار العفوي الوشيك. فعلى أرضية الأزمة العامة ، التي تراكمت عناصرها منذ بداية الاستيطان الصهيوني ، وتعمقت أسبابها تحت الانتداب البريطاني ، وتفاقمت في الثلاثينات مع تدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، نشبت أزمة دورية حادة في العلاقات بين الحركة الفلسطينية وحكومة الانتداب ، أدّت إلى وجود حالة ثورية عامة. وإذ لم تستطع قيادة الحركة الوطنية الإمساك بزمام الأمور ، ونقل هذه الحالة إلى ثورة ، مبرمجة ومخططة ، فقد انفجرت بصورة تلقائية تحت الشعارات الوطنية العامة ، ولكن من دون برنامج عمل محدد ، أو إطار تنظيمي ، يتسق شكله مع المضمون الذي انطوت عليه الثورة ، فغلب عليها الارتجال والعفوية. وما كان لها أن تستعر ، لو لا الروح الكفاحية العالية لدى جماهير الشعب الفلسطيني ، المنبثقة من حدة الأزمة التي تعيشها البلاد ، وبالتالي استعداد الجماهير للتضحية في سبيل الشعارات التي رفعتها الثورة. وفي النتيجة ، فإن الميزات الذاتية للثورة ـ الروح الكفاحية والوفرة العددية والانتشار الجغرافي والقدرة على تحمل الأعباء .. إلخ ـ لم تغن عن التنظيم والبرمجة والتخطيط ، وبالتالي إدارة الصراع بالأسلوب الذي يقارب بين الذاتي والموضوعي ، ويدفع نحو حل التناقض لمصلحة الثورة.

فعلى صعيد الأزمة العامة ، كانت جميع عناصرها تتفاقم ، وبالتالي تزيد في حدتها. فالمشروع الصهيوني يتطور بخطوات سريعة والانتداب البريطاني يسانده من دون مواربة ، بينما الحركة الوطنية ينتابها الإحباط لفشلها في تحقيق الحد الأدنى من أهدافها المعلنة. لقد توطدت مرتكزات المشروع الصهيوني على الصعيدين ، الداخلي

٤٥٨

والخارجي. فالمؤسسات الاستيطانية قد تصلب عودها ، وهي تتقدم بثبات نحو تحقيق أهدافها ، والهجرة على قدم وساق ، بصورها المتعددة ، والاستيعاب يتعاظم بتوفر الإمكانات المادية بعد توسيع الوكالة اليهودية. ومؤسسات الحكم الذاتي اليهودي تمارس نشاطها من دون هوادة ، كما أنها أصبحت تمتلك ذراعا عسكرية (الهاغاناه) ، تتسلح وتتدرب تحت سمع الحكومة وبصرها ، بل بالتعاون والتنسيق معها. والمهم أن الركيزة الأساسية للمشروع الصهيوني ـ العلاقة مع المركز الإمبريالي (بريطانيا) ـ قد تكرست بدعم أميركي قوي. وكان طبيعيا أن ينعكس كل ذلك سلبا على الحركة الوطنية الفلسطينية ، إذ إنه من البديهي أن كل نجاح يحققه المشروع الصهيوني لن يكون إلّا على حساب الشعب الفلسطيني.

في المقابل ، فالحركة الوطنية الفلسطينية ، وبسبب تركيبتها ، وبالتالي نمط عملها ، أصيبت بالشلل السياسي والتفتت التنظيمي ، تحت وطأة احتدام التناقض مع جبهة أعدائها ، من جهة ، وعجزها عن الارتقاء بإدارة الصراع إلى المستوى الذي يستوجبه الاستمرار في النضال ، من جهة أخرى. فالهجرة اليهودية تقلص بصورة مستمرة الأغلبية السكانية العربية ، وتهويد الأرض المتزايد ينزع الملكية العربية عنها بصورة نهائية ، وتهويد السوق يفاقم الأوضاع الاقتصادية لقطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني ، واحتضان الانتداب للاستيطان يعرقل تقدم أهل البلد نحو الحكم الذاتي ، وبناء القوة العسكرية الصهيونية يهدد القدرة العربية على المقاومة ، وينذر بإخضاعها قسرا. وعلاوة على ذلك ، وعلى العكس من الوكالة اليهودية ، كانت الحركة الفلسطينية تفتقر إلى أي دعم خارجي فعلي بعد تقسيم البلاد العربية ، وإلى آلية عمل تنظيمية تؤهلها لتجاوز الصراعات الداخلية. وفي ظل هذا الواقع ، الذي رفضت جماهير الشعب الفلسطيني الاستسلام لإملاءاته ، كان طبيعيا أن تنفجر الثورة تلقائيا ، وبعفوية تؤدي الروح الكفاحية الشعبية دورا أكبر فيها من قرار القيادة وتوجيهها.

ولامتصاص حالة التوتر التي عقبت استشهاد القسام ، تقدمت حكومة الانتداب بطرح مشروع المجلس التشريعي مجددا. واستجابت لجنة الأحزاب العربية ، بينما رفضته الصهيونية ، كما عارضه البرلمان البريطاني ، فجمد. وإمعانا في المناورة ، دعا وزير المستعمرات ، جيمس هنري توماس ، الزعماء العرب إلى إرسال وفد عنهم إلى لندن ، يعرض وجهة نظرهم. وقبل هؤلاء الدعوة ، لكن انفجار الأوضاع سبق موعد سفرهم ، فرفع الموضوع من جدول الأعمال. وبينما لجنة الأحزاب تعمل على التهدئة وتسعى لإعادة الاتصال مع لندن ، كانت اللجان القومية ، التي تشكلت في جميع أنحاء البلاد ، تعمل على تفجير الثورة ، وقطع الطريق على الزعامة التقليدية للعودة إلى خطها

٤٥٩

السابق في العمل. وقد تشجعت هذه اللجان من النتائج التي حققتها الحركة الوطنية في كل من مصر وسورية ، عبر التصعيد في النضال ضد الاستعمار. كما قدرت أن حالة التوتر الدولي ، التي عقبت احتلال إيطاليا للحبشة ، قد تنتهي إلى حرب ، تفتح المجال أمام العرب لتحقيق الاستقلال الذي فاتهم في الحرب الأولى. وقد عمل تضافر الأحداث على خدمة أهداف اللجان القومية ، فتفجرت الثورة ، واضطرت القيادات التقليدية إلى السير في ركابها.

ب) الإضراب العام

في هذه الأجواء المشحونة بالتوتر ، حدثت الشرارة التي أشعلت الثورة. فقد قتلت مجموعة مسلحة بالقرب من عنبتا ، بين طولكرم ونابلس ، يهوديين ، وجرحت ثالثا ، كانوا في طريقهم إلى تل أبيب (١٥ نيسان / أبريل ١٩٣٦ م) ، وكان قد قتل يهودي آخر بالقرب من قلقيلية قبل خمسة أسابيع. وفي اليوم التالي (١٦ نيسان / أبريل) قتل عربيان على أيدي عصابة الهاغاناه ، في بيارة بالقرب من يافا. واشتد التوتر في منطقة يافا ـ تل أبيب ، التي كانت تسودها حالة من الاحتقان ، فوقعت صدامات عنيفة بين العرب واليهود ، وخصوصا في الأحياء المختلطة على الحدود بين المدينتين. وأحرقت عشرات البيوت والحوانيت ، وقتل ١٦ يهوديا ، وجرح نحو ٥٠ ، كما قتلت قوات الأمن الحكومية ٤ من العرب ، وأصابت نحو ٥٠ بجروح. وبعد ثلاثة أيام من الصدامات ، سيطرت قوات الأمن على الوضع ، وفرضت منع التجول على المدينتين وجوارهما ، وأعلنت حالة الطوارىء في جميع أنحاء البلاد. وفي ١٩ نيسان / أبريل ١٩٣٦ م ، تشكلت في نابلس لجنة قومية ، من عبد اللطيف صلاح وفريد العنبتاوي وأحمد الشكعة وواصف كمال وحكمت المصري وأكرم زعيتر (سكرتير اللجنة). ودعت اللجنة إلى الإضراب العام في جميع مدن فلسطين ، وإلى تشكيل لجان قومية تتولى إدارة الحركة الوطنية في مناطقها وتأمين استمرار الإضراب. وسرعان ما تشكلت لجان قومية في مدن فلسطين الأخرى ، وعمّ الإضراب البلاد. وبدا أن اللجان همّشت دور الأحزاب. وخشية إفلات زمام الأمور ، اجتمع المندوب السامي بعدد من الزعماء (٢١ نيسان / أبريل ١٩٣٦ م) وطلب منهم استخدام نفوذهم «لمنع الفوضى وإعادة النظام» ، كما دعاهم إلى الإسراع في تشكيل وفدهم للسفر إلى لندن لمقابلة وزير المستعمرات في بداية أيار / مايو ، فطالبوه من جانبهم بإيقاف الهجرة اليهودية فورا ، تمهيدا لبدء المفاوضات. وإزاء هذا الإجماع الشعبي ، التقى زعماء الأحزاب ، وتخلوا عن صراعاتهم ، وأيّدوا الإضراب ، بل تبنوه ، وقرروا

٤٦٠