الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

وفي سنة ٨٥٣ ق. م. ، وبحسب لوحة السيرة الذاتية لملك أشور ، شلمنصّر الثالث ، اصطدمت جيوشه المتقدمة غربا بتحالف قوى بلاد الشام ، المؤلف من ١٢ ملكا ، في قرقر (بالقرب من حماة) ، وبقيادة بن هداد ، ملك دمشق. ويدّعي ملك أشور أنه كسب المعركة ، لكن الواضح أنها لم تكن حاسمة ، وانسحب شلمنصّر من دون أن يستغل النصر الذي يدّعيه. وفي اللوحة ، يرد اسم آحاب في التحالف ، وهو يقود جيشا من ٠٠٠ ، ١٠ رجل و ٢٠٠٠ مركبة. ولأول مرة يظهر في هذه اللوحة اسم جنديبو العربي ، على رأس كتيبة فيها ٠٠٠ ، ١٠ جمل. وبزوال الخطر الأشوري بعد انسحاب شلمنصّر ، عاد الوضع في بلاد الشام إلى سابق عهده من الصراع ، بينما مصير جميع القوى المنخرطة فيه يتوقف على التطورات في أشور.

وبعد معركة قرقر بفترة قصيرة ، عادت الحرب واندلعت بين دمشق وإسرائيل ، بينما الأخيرة في تحالف مع يهودا. وهزم بن هداد آحاب في المعركة ، إذ جرح ومات متأثرا بجروحه ، الأمر الذي فتح الباب لانقلاب قام به يهو ، أوصله إلى الحكم. وتدهورت أوضاع إسرائيل وحليفتها الصغرى يهودا ، بينما وسّع الأراميون نفوذهم في شرقي الأردن. وبرزت مملكة مؤاب ، حليفة الأراميين ، بقيادة ميشع الذي ترك لوحة كبيرة تقص أخبار أعماله في تحرير بلاده من نفوذ آحاب وورثته. وكل محاولات إسرائيل ، ويهودا اللاحقة لاستعادة نفوذهما شرقي النهر باءت بالفشل ، كما فشلت محاولات تحالف الأدوميين والمؤابيين والعمونيين وغيرهم للتوسع غربي النهر. كما أن الفلسطيين ، على ما يبدو ، عادوا إلى إثبات وجودهم في هذه الفترة على حساب يهودا وإسرائيل.

وركب يهو (٨٤٢ ـ ٨١٤ ق. م.) موجة النقمة الشعبية التي قادها النبي إلياهو (مار الياس ـ الخضر) ، على التأثيرات الفينيقية في بلاط الملك والمقربين منه ، بفعل إيزابيل ، وتعامل مع مؤيديها بمنتهى القسوة ، فقضى عليهم جميعا. وبذلك ضرب العلاقة مع صيدا ويهودا في آن معا ، إذ كانت عتاليا ، ابنة إيزابيل في يهودا ، تؤدّي دور أمها في إسرائيل. وكان من آثار ذلك تردي الأوضاع الاقتصادية في مملكة يهو ، إضافة إلى عزلتها السياسية. وانتهز حزئيل ، ملك أرام دمشق ، الذي وصل إلى الحكم بانقلاب أيضا ضد بن هداد ، الفرصة ، وفتح المعركة مع يهو ، ودخل أرضه ، ووصل إلى مشارف عاصمته. وفي حالة ضعفه ، توجه يهو إلى طلب المساعدة من شلمنصر الثالث ، ملك أشور ، وإعلان التبعية له. إلّا إن شلمنصّر فشل في احتلال دمشق ، وعاد إلى أشور ، تاركا لحزئيل حرية العمل ضد يهو.

ولما فشل شلمنصّر في إخضاع دمشق ، سنة ٨٤١ ق. م. ، عاد حزئيل وهاجم

١٠١

إسرائيل ، وتقدم في أراضيها إلى حدود يهودا ، فسارع ملكها يوأش إلى دفع الجزية إلى حزئيل ، وذلك لثنيه عن دخول مملكته. وأخذت الأموال من خزينة الهيكل ، الأمر الذي أثار الكهنة عليه ، بعد أن كانوا أوصلوه إلى الملك عقب مقتل عتاليا. واغتيل الملك ، وبدأ عصر من عدم الاستقرار ، تبعه آخر من الانحطاط. وفي هذه الأثناء نجت إسرائيل ويهودا من الوقوع في أيدي ملوك دمشق ، بفضل التدخل الأشوري لمصلحتهما. ففي سنة ٨٠٦ ق. م. ، قام الملك أداد نيراري الثالث (٨١٠ ـ ٧٨٣ ق. م.) بحملة على بلاد الشام ، اصطدم فيها بداية بجيوش الأراميين ، فهزمها وأضعف دمشق كثيرا. وقد رأى فيه ملكا يهودا وإسرائيل مخلصا ، وعادت المملكتان إلى الانتعاش الموقت ، وحتى إلى الصراع بينهما.

وبصعود تغلات بلّيسر (٧٤٥ ـ ٧٢٧ ق. م.) إلى عرش أشور ، بدأت مرحلة جديدة من تنظيم الإمبراطورية ، يقوم على أساس تقسيمها إلى ولايات أشورية ، وبذلك تنتفي الحاجة إلى الحملات السنوية لإخضاع شعوبها. أمّا الشعوب المتمردة فقد عمد إلى إجلائها الجماعي عن بلادها. وانتهز تغلات بلّيسر فرصة طلب المساعدة من ملك يهودا ، أحاز ، في مواجهة تحالف ملك دمشق ، رازين ، وملك إسرائيل ، بيكح ، ضده لامتناعه من الانضمام إليهما في مقاومة الأشوريين. فقام تغلات بلّيسر بحملتين على بلاد الشام (٧٣٣ و ٧٣٢ ق. م.) أخضع فيهما هذه البلاد وقسمها إلى ولايات وأقام عليها حكاما في دور ومجدّو وجلعاد وقرنايم وحورون ودمشق. وترك يهودا مملكة تابعة ، وكذلك إسرائيل. وبعد موت تغلات بلّيسر ، ثارت إسرائيل على حكم أشور ، فحاصر عاصمتها شلمنصّر الرابع ، وسقطت في يد خلفه سرجون الثاني ، سنة ٧٢١ ق. م. ، وأصبحت مملكة إسرائيل السابقة ولاية السامرة الأشورية.

وبينما خربت إسرائيل ، وأجلي جزء كبير من سكانها ، وحل محلهم قوم آخرون ، بقيت يهودا مملكة مقزمة لمدة ١٣٤ عاما. وعندما حاولت استغلال التناقض بين مصر وأشور قام سنحاريب بحملد تأديبية سنة ٧٠١ ق. م. ، واحتل يافا ويازور وبيت دجون وعسقلان ، وهزم الجيش المصري الذي وصل لتقديم المساعدة. واستكمل سرجون حملته باحتلال عقرون ولاخيش ، وفرض الحصار على أورشليم ، لكنها لم تسقط في يده. وبقيت يهودا مملكة صغيرة ، تابعة لأشور ، أسوة ببقية الولايات في بلاد الشام ، إلى أن سقطت في يد نبوخذ نصّر سنة ٥٨٧ ق. م.

وفي النصف الأول من القرن السابع قبل الميلاد ، بلغت أشور ذروة قوتها ، واحتل أسرحدّون مصر ، وأخضعها لحكمه سنة ٦٧١ ق. م. أمّا في النصف الثاني من ذلك القرن ، فقد راحت قوتها تتراجع. بينما بدأ اهتمام المصريين بغرب آسيا يتزايد.

١٠٢

وأخيرا قضى البابليون الجدد (الكلدانيون) على مملكة أشور ، وخربوا عاصمتها نينوى سنة ٦١٢ ق. م. وانتهزت يهودا الفرصة ، وسعت للتوسع جنوبا وشمالا. وكذلك فعل الفرعون نيخو من السلالة ٢٦. واصطدم ملك يهودا ، يوشيا ، بالفرعون في مرج ابن عامر ، وقتل سنة ٦٠٩ ق. م. وتقدم نيخو لملاقاة البابليين ، لكن من دون نجاح يذكر. وعندما تمرد صدقيا (تسدقيا) ، ملك يهودا ، على بابل ، سارع نبوخذ نصّر إلى الانقضاض على أورشليم ، فخرّبها ، وهدم الهيكل ، وسبى سكانها ، منهيا بذلك ما تبقى من مملكة داود وسليمان.

١٠٣

المراجع

باللغة العربية

ـ شعث ، شوقي (محرر). «دراسات في تاريخ وآثار فلسطين (وقائع الندوة العالمية الأولى للآثار الفلسطينية)». ٣ مجلدات. حلب ، ١٩٨٧.

ـ محيسن ، سلطان. «آثار الوطن العربي القديم (الآثار الشرقية)». دمشق ، ١٩٨٨ ـ ١٩٨٩.

ـ «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم العام. ٤ مجلدات. دمشق ، ١٩٨٤.

ـ ـ ، القسم الثاني (الدراسات الخاصة). ٦ مجلدات. بيروت ، ١٩٩٠.

باللغات الأجنبية

١٠٤

الفصل الثالث

عصور التاريخ القديم

أولا : العصر الفارسي

كان سقوط أشور في نهاية القرن السابع قبل الميلاد ، حدثا مهما ومنعطفا حادا في تاريخ الشرق الأدنى القديم ، إذ كان حصيلة تضافر جهود شعوب متفرقة. وبناء عليه ، عندما فتح باب التنافس بين هذه الشعوب ، لم يكن أي واحد منها مؤهلا لملء الفراغ الذي حدث. فمصر التي كانت مرشحة للقيام بهذا الدور ، على قاعدة «لعبة الأمم» السابقة في المنطقة ، لم تكن في وضع ذاتي يؤهلها لذلك. وفراعنة السلالة ٢٦ ، على الرغم من أنهم أعادوا إلى مصر الاستقرار والازدهار داخليا ، لم يكن في قدرتهم انتهاج السياسة اللازمة لفرض سلطتهم على الأراضي التي كانت تحكمها أشور. ولذا ، تقسمت هذه الأراضي بين عدد من القوى المتنافسة ، واندلع الصراع بينها.

وعلى شواطىء آسيا الصغرى الغربية ، برزت مملكة ليديا بعد انهيار الإمبراطورية الحثية ، ولكن بعد سقوط أشور انتهزت الفرصة لتوسيع سلطانها على أناضوليا كلها. وبسبب موقعها الاستراتيجي بين الشرق الأدنى وبلاد اليونان ، كان لصعود ليديا السريع أثر مهم في تاريخ المنطقة لاحقا. ومعلوم أن اليونان أدّوا دورا مهما في هذا التاريخ ، وخصوصا بعد حملة الإسكندر المقدوني الشهيرة ، في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد. وفي ليديا كان اليونان عنصرا رئيسيا من السكان. وقد راودت ملكها كرويسوس (٥٦٠ ـ ٥٤٦ ق. م.) طموحات توسعية كبيرة ، لكنها انهارت أمام الزحف الفارسي غربا. ففي معركة على نهر هاليس (كيزيلرماك) سقط كرويسوس صريعا ، وأصبحت آسيا الصغرى ولاية حدود فارسية ، على تماس مع بلاد اليونان ، وبالتالي في صراع مستمر معها.

وإلى الشرق من جبال زاغروس ، كان الميديون عنصر تمرد مستمر على حكم أشور ، وبالتالي عاملا مهما في سقوطها. فعندما وهنت قبضة أشور الحديدية ، بفعل الصراعات الداخلية ، أدّى الميديون دورا رئيسيا في تدميرها. ولما سقطت نينوى وانتهت أشور ، استولى الميديون على جزء كبير من الأراضي الشمالية للإمبراطورية ،

١٠٥

ووسعوا سلطانهم على إيران كلها. وبذلك أقاموا دولة مترامية الأطراف ، لكنها سيئة التنظيم والإدارة. وخلال فترة قصيرة ، برزت قبيلة مغمورة ـ فارس ـ بقيادة أميرها كورش ، الذي عمل في خدمة الميديين ثم انتزع السلطة منهم (٥٥٠ ـ ٥٢٩ ق. م.) ، وواصل التوسع غربا. وعندما تغلب على ليديا ، وأعلن نفسه وارثا لملكها ، وجعلها ولاية فارسية حدودية ، فقد وضع مقدمات الصراع مع اليونان ، ذلك الصراع الذي كان من شأنه أن ينهي بعد ٢٠٠ عام إمبراطورية فارس (الأخيمينية).

لكن المستفيد الأول ، ولو موقتا ، من سقوط أشور ، كان الكلدانيون. وهم شعب سامي ، أقام في جنوب العراق تحت حكم أشور. ولما ضعفت هذه اعتبروا أنفسهم ورثة الحضارات القديمة في بلاد الرافدين ، بديلا طبيعيا من أشور. وإزاء الصراعات الداخلية فيها ، قاد الكلدانيون الثورة عليها ، وأسقطوا السلالة الحاكمة فيها ، ونقلوا العاصمة إلى بابل القديمة ، كتعبير عن ارتباطهم بماضي العراق. وسارع نبوخذ نصّر الثاني (٦٠٥ ـ ٥٦٢ ق. م.) وكرّس سلطته على بلاد الشام ، مشكلا بذلك إمبراطورية موحدة سياسيا وحضاريا وعرقيا. وعلى العكس من ملوك أشور ، الذين اكتفوا من ملوك يهودا بالجزية ، فإن نبوخذ نصّر قضى عليها ، وخرّب عاصمتها ، وهدم هيكلها ، وسبى أعدادا كبيرة من الطبقة الحاكمة فيها إلى بابل ، قاطعا الطريق على أية أحلام قد تراود سكانها بإعادة بناء مملكة داود.

ومع أن إمبراطورية نبوخذ نصّر لم تعمّر طويلا ، فإنها كانت فترة انبعاث حضاري لامعة في تاريخ العراق. والملك العظيم لم ير نفسه فاتحا كبيرا فحسب ، بل مجددا دينيا وحضاريا أيضا. ويبرز ذلك من خلال إعادة بناء بابل كعاصمة له ، بما ضمته من أسوار ضخمة وقصور ومعابد جميلة وحدائق أسطورية معلّقة ونحوت ورسوم فاتنة ، جعلتها إحدى أكثر مدن العالم القديم فخامة. لكن هذه الإمبراطورية وهنت بعد موته ، ودبّ فيها الصراع الداخلي ، وخصوصا بين خلفائه الضعفاء وطبقة الكهنة التي لم تنظر بعين الرضى إلى سياستهم الاجتماعية ـ الدينية. وانتهز كورش حالة التململ الداخلي ، وبمساعدة الجالية اليهودية في بابل ، احتل المدينة من دون صعوبة تذكر ، سنة ٥٣٩ ق. م. معلنا نفسه وارثا لملكها ، كما فعل في ليديا من قبلها.

وبعد توحيد فارس وميديا ، والتغلب على ليديا وبابل ، وميراث أراضيهما ، أصبحت الإمبراطورية الفارسية الوارثة الحقيقية لأشور ، وعمّرت في الفترة (٥٥٠ ـ ٣٣٠ ق. م.) ، وبفعل ملوكها الأوائل ـ كورش (٥٥٠ ـ ٥٢٩ ق. م.) وقمبيز (٥٢٩ ـ ٥٢٢ ق. م.) وداريوس (٥٢١ ـ ٤٨٦ ق. م.) ـ امتدت الإمبراطورية من بحر إيجة في الغرب إلى حدود الهند في الشرق ، ومن جنوب مصر إلى البحر الأسود وجبال القفقاز

١٠٦

والبرز في الشمال. فبعد إخضاع ليديا وبابل ، توجه كورش شرقا إلى الهند. وابنه قمبيز احتل مصر ، سنة ٥٢٥ ق. م. وداريوس حاول دخول أوروبا ، لكنه صدّ على أيدي تحالف اليونان بقيادة أثينا. وبعد معركة سلاميس (٤٨٠ ق. م.) ، ولمدة ١٥٠ عاما ، ظل الفرس في موقع الدفاع إزاء اليونان ، إلى أن قضى الإسكندر على إمبراطوريتهم وورثها ، سنة ٣٣٠ ق. م.

لقد كرس كورش جل اهتمامه للاحتلال ، ولم يلتفت كثيرا لتنظيم الإمبراطورية وإدارتها. وبموته اندلعت سلسلة من الثورات ، قمعها ابنه قمبيز ، وغزا مصر. وفي غيابه ، نشبت ثورات في المشرق ، فعاد ليخمدها ، لكنه مات في الطريق. وعقبت ذلك فترة من الاضطرابات لم تهدأ حتى تسلم داريوس السلطة. وهو يعتبر بحق باني الإمبراطورية ، ومؤسس السلالة الأخيمينية. فبعد أن كرس نفسه حاكما مطلقا بإراد إلهية ، كونه ممثلا للإله الفارسي الأعظم ، أهورامازدا ، عمد إلى تنظيم الإمبراطورية ، فقسمها إلى ٢٠ ولاية (سترابا) ، وأدخل تجديدات في الإدارة. ووحد الضرائب والمقاييس والأوزان والنقد ، كما نظم أمور الجيش والبلاط. وكما يليق ب «ملك الملوك» (شاهنشاه) ، كما لقب نفسه ، بنى داريوش بلاطا فخما في كل من إقبطانا وسوسة وبيرسيبولس ، حيث الآثار الفخمة فيها تشهد على عظمته.

مات داريوس والحرب مع اليونان مشتعلة. فبدخوله إلى بلادهم اضطرهم إلى التوحد تحت راية أثينا. وبسعيه للسيطرة على تجارة بحر إيجة استثار شعوب جزره. ولكن خلفاءه لم يستطيعوا حسم الصراع لمصلحتهم. بل على العكس ، بدأوا يتراجعون ، وفي سنة ٤٧٩ ق. م. ، وبعد معركة سلاميس البحرية ، طرد الفرس من بلاد اليونان كلها. وراح هؤلاء يزيدون في ضغطهم على حدود الإمبراطورية الغربية في آسيا الصغرى. وخلال ١٥٠ عاما ، بقي الصراع محتدما ، إلى أن حسمه الإسكندر الكبير ، وورث هو بدوره أراضي إمبراطورية كورش. وبذلك دخلت المنطقة عصرا جديدا هو العصر الهلّيني.

لقد رهن داريوس كبرياء إمبراطوريته بالتغلب على اليونان وإخضاعهم لسلطانه. ولعله رأى الخطر الكامن هناك مبكرا ، فسعى لتداركه قبل فوات الأوان. ومن أجل ذلك بنى آلة عسكرية ضخمة ، ونظمها جيدا ، وأعطى قادتها ورجالها امتيازات كبيرة ، وربطها بشخصه ، فأصبحت بولائها المطلق له ركيزة قوته الأساسية. وجنبا إلى جنب مع تنظيم أمور الدولة الإدارية ، تابع داريوس سياسة كورش المعتدلة إزاء الشعوب المغلوبة والخاضعة ، بإعطائها حرية ممارسة عباداتها وطقوسها الدينية ، وتطوير تراثها الحضاري الخاص. ولعل ذلك يعود إلى التراث الزرادشتي ، المعروف بسماحته

١٠٧

الدينية. ولكن من المؤكد أنه كانت لذلك أسباب عملية أخرى. فلكي يستطيع التفرغ لمحاربة اليونان ، كان لا بدّ من أن يحافظ على الاستقرار في الولايات الخاضعة له ، والإفادة من مواردها المادية ، وحتى من طاقتها البشرية.

لكن الفشل في إخضاع اليونان ، واستمرار الحرب تراوح مكانها بعد موته ، تركا آثارا سلبية على إمبراطورية داريوس ، التي وضعت هذا الهدف في على سلم أولوياتها. فتركيز السلطة في البلاط جعله مركزا للتآمر ، وبالتالي التنافس الشديد على التقرب من ملك الملوك (الشاهنشاه). واستمرار الحرب استنزف الموارد وزاد في الأعباء ، من الأموال والرجال ، ليس على الفرس فحسب ، بل على الشعوب الخاضعة لحكمهم أيضا. واستشرى الفساد في الدولة ، وسادت فيها الانتهازية ، في البلاد كما في الولايات. وإزاء هذه الحالة من التراجع ، لم تنفع ملوك الفرس السياسة المعتدلة تجاه ديانات الشعوب المتذمرة من أعباء الضرائب. وعندما ثارت تلك الشعوب عمد الفرس إلى قمعها ، فدخلت الإمبراطورية في حركة لولبية هابطة ، انتهت بسقوطها. في تنظيمه الإداري للإمبراطورية ، قسمها داريوس إلى ٢٠ ولاية (سترابا) ، وعلى كل منها وال (ستراب). وفلسطين كانت جزءا من الولاية الخامسة ، التي عرفت باسمها الأرامي «عبر نهرا» ، أي «ما وراء النهر» ، والمقصود نهر الفرات. وهي تضم ، بحسب هيرودوتس ، بلاد الشام كلها ـ سورية وفينيقيا وقبرص ويهود. ويذكر هيرودوتس أن «العرب معفون من الضرائب» ، أي أن البدو الرحل في الصحراء ـ جنوب أدوم وسيناء ـ كانوا خارج سلطة الوالي ، الذي مقره في دمشق وعلاقتهم بالإمبراطورية هشة. والسهل الساحلي الفلسطيني كان مقاطعة فينيقية ، تابعة لمدينتي صور وصيدا إداريا ، ما عدا عكا وأكزيب (الزيب) وغزة ، فقد كانت مدنا مستقلة. وقد أعطى الملك الفارسي الساحل الفلسطيني للمدن الفينيقية الرئيسية ، لتكون موردا للمواد الزراعية اللازمة لها كمراكز تجارية ، وموانىء مهمة. وقد أولى داريوس المدن الفينيقية معاملة خاصة لمساعدتها إياه عبر أساطيلها في نشاطه الحربي. وكان للفينيقيين (التجار) مصلحة مشتركة مع الفرس في ضرب المدن اليونانية ، التي كانت المنافس التجاري الرئيسي لها في البحر الأبيض المتوسط. فعلى العكس من الأشوريين الذين لم يهتموا بالبحر الأبيض المتوسط وطرقه وتجارته ، وبالتالي بمدنه وقواه السياسية ، فلم يتعرضوا لها ، وضع الفرس هذه المهمة على رأس جدول أعمالهم ، وتعاون الفينيقيون معهم.

وكان الداخل الفلسطيني مقسما إلى وحدات أصغر (مقاطعات). ومن المصادر اليونانية ـ هيرودوتس وغيره ـ يستفاد أنه في نهاية العصر الفارسي ، كانت فلسطين

١٠٨

(غربي الأردن) ، مقسمة إلى مقاطعات كالتالي : ١) الجليل وعاصمته حاصور ؛ ٢) سماريا وعاصمتها مدينة سماريا ؛ ٣) يهود وعاصمتها أورشليم ؛ ٤) أدوميا وعاصمتها لاخيش ؛ ٥) فينيقيا ، وهي مقسمة بين صور وصيدا ؛ كما فيها مدن تتمتع بحكم ذاتي ، أكزيب (الزيب) وعكا وغزة. أمّا إلى الشرق من نهر الأردن ، فيرد ذكر العمونيين والجلعاد وعشتروت قرنايم (الباشان) والحوران. وأمّا جنوب الأردن ، وكذلك جنوب فلسطين ، فقد كانا خارجين كما يبدو عن السلطة الفارسية ، على الرغم من إدعاء الملك وراثتهما من الكلدانيين ، الذين أقاموا فيهما حكما قويا. وكان على رأس كل مقاطعة حاكم (باشا) ، مسؤول أمام الوالي (ستراب).

وفي إطار سياسة الاعتدال والتسامح الديني التي سلكها كورش إزاء كل الشعوب غير الفارسية في إمبراطوريته الواسعة ، والتي ضمت شعوبا كثيرة ، ومنها من كانت له حضارة قديمة احترمها الفرس ، أصدر الشاهنشاه مرسوما يسمح ليهود بابل بالعودة إلى «أورشليم في يهود». ومرة أخرى اعتبرت الرواية التوراتية أن «يد الله» كانت وراء الحدث ، فشبهته بالخروج من مصر ، واكتسب فيها طابعا عجائبيا. وفي هذا السياق ، اعتبر كورش مخلصا ، بعثه الله لينقذ بني إسرائيل بعد أن ثاب عليهم ، ويعيدهم إلى «الأرض المقدسة» التي كان أبعدهم عنها عقابا لهم على مخالفة إرادته. وبناء عليه ، كان كورش بمثابة «المسيح المنتظر». وفي صيغتها القائمة في التوراة ، لا يمكن اعتبار الرواية تاريخية ، وإنما صيغة طوباوية ، ذات رسالة دينية ، لحدث تاريخي من صنع الإنسان في سياق الزمان والمكان.

وحتى من الرواية التوراتية بشأن «عودة صهيون» ، يتضح أن الذين انتهزوا الفرصة ، وأفادوا من المرسوم الملكي ، لا يتجاوزون نصف يهود بابل عددا. أمّا النصف الثاني ، فقد آثر لأسباب متعددة البقاء فيها. وفي الواقع ، فإن المرسوم لم يتحدث عن عودة «اليهود» (نسبة إلى يهودا) كلهم إلى فلسطين كلها (أي أرض ـ إسرائيل كما تسميها التوراة) ، وإنما إلى أورشليم فقط ، (أي العودة إلى «صهيون»). ويطال الإذن بالعودة فقط أولئك الذين أجلاهم نبوخذ نصّر وذريتهم ، من دون سواهم. وقد عين كورش حاكما فارسيا على المدينة ، ولم يخوّل أيّا من العائدين اليهود إليها ، بمن فيهم حفيد آخر ملوكها من ذرية داود ، سلطة سياسية ، بل اقتصر الأمر على حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية.

ولم تحقق الموجة الأولى من العائدين إنجازات تذكر ، بل على العكس ، إذ تسهب الرواية التوراتية في وصف الأوضاع السيئة التي وصلوا إليها ، وصراعهم مع الجوار الذين لم يستقبلوهم بالرضى ، وخصوصا سكان السامرة. وعندما راحت

١٠٩

أوضاع الإمبراطورية تتردى ، وقامت ثورات في مصر ضد الحكم الفارسي ، أولى ملوك فارس أهمية كبيرة لجنوب فلسطين ، كخط دفاع ، بما في ذلك مقاطعة يهود. وأوفد أرتحشستا (٤٠٤ ـ ٣٥٩ ق. م.) إلى أورشليم ، موظفين يهوديين من بلاطه ، هما : عزرا الكاتب ، الذي جمع التوراة بعد وصوله من مصادر متفرقة ، ونحميا ، وزير الشراب في بلاط الملك ، الذي تولى القيادة العسكرية. والواضح أن هذه المبادرة من قبل الشاهنشاه كانت ترمي إلى تأمين الحدود مع مصر. ولكن الإنجازات كانت ضئيلة ، في ضوء تراجع الإمبراطورية وهامشية فلسطين في الاعتبارات الفارسية ، حيث لم يستوطن الفرس ، ولم يبنوا مدنا خاصة بهم ، كما لم يهتموا كثيرا بتطوير البلد وتعميره. ومهما يكن الأمر ، فإنه لم تمض فترة طويلة بعد «عودة صهيون» حتى قام الإسكندر المقدوني بحملته الشهيرة إلى الشرق ، واحتل فلسطين سنة ٣٣٢ ق. م. ، وأنهى الحكم الفارسي فيها ، كما في غيرها. ولكن ذلك لم يكن إلّا موقتا ، إذ عادت فارس إلى النهوض مرة أخرى ، وظلت لقرون طويلة المنافس السياسي والحضاري للعالم اليوناني ـ الروماني.

وعلى العموم ، تبقى معلوماتنا عن فلسطين في هذا العصر قليلة ومبعثرة. والواضح أن الفرس لم يولوا هذه المقاطعة ، بل الولاية كلها (عبر نهرا) ، أهمية كبيرة ، وكان همهم فيها الحفاظ على النظام والولاء للملك. وعدا ذلك ، لم يتدخلوا في شؤون الناس السياسية والدينية. ولكنهم سعوا للإفادة من الإمكانات والموارد. فبنوا أسطولا بحريا بمساعدة الفينيقيين ، لأغراض الصراع مع اليونان ، ولذلك أقاموا علاقات متميّزة مع المدن الساحلية ، وخصوصا مع صور وصيدا. كما بنوا شبكة من الطرق البرية لتمكين الجيوش الفارسية من الوصول إلى مصر والسيطرة عليها. والحفريات الأثرية في مواقع متعددة كشفت مخلفات من هذا العصر ، وهي تشير إلى تراجع الحياة الاقتصادية والنشاط العمراني ، فافتقرت المدن إلى التخطيط والتنظيم المعهودين من العصور السابقة. كما أن المباني العامة والتحصينات قليلة للغاية.

ويغلب على المواقع الفلسطينية في هذه المرحلة طابع المجتمعات الزراعية. وقد ظهرت المخلفات المعمارية من العصر الفارسي في عدد من المواقع ، عثر عليها في أثناء عمليات التنقيب التي استهدفت الكشف عن مخلفات عصور أخرى ، وبالتالي لم يولها المنقبون اهتماما خاصا. وإذ لم يشيّد الفرس كثيرا في فلسطين ، فإنهم لم يدمروا أيضا ، لأنهم احتلوا البلاد من دون مقاومة تقريبا ، بعد سقوط بابل في أيديهم. ومن بين المواقع التي عثر فيها على مخلفات تعود إلى العصر الفارسي : تل الدوير (لاخيش) وتل جمّة (النقب الغربي) ومجدّو وتل أبو حوّام (قرب حيفا) وتل

١١٠

القصيلة (شمال يافا) ويافا وأسدود وعسقلان وتل الصافي وتل الفارعة الجنوبي (شاروحين) وتل بلاطة (شيكم) وأورشليم وأريحا وعين جدي وجيزر (أبو شوشة) وبئر السبع وعراد وسبسطية (السامرة) وغيرها.

وتشير اللّقى الأثرية إلى علاقات تجارية واسعة مع بلاد اليونان ، التي استورد منها الفخار المتميز بصناعته وألوانه (الأحمر والأسود) ، وبزخارفه النباتية والحيوانية والآدمية. وأغلبية الأدوات الكمالية التي عثر عليها كانت مستوردة من بلاد متعددة. وتكثر بينها الدمى الفخارية التي تظهر جنبا إلى جنب مع التماثيل الحجرية ، وتمثل في الأغلب أشكالا آدمية ـ ذكورا وإناثا. وبدأت في هذه الفترة تظهر أقدم النقود المعروفة في فلسطين ، كتلك التي اكتشفت في القدس ونابلس ، من القرن السادس قبل الميلاد. وفي مجدّو وعتليت وسبسطية والخليل ، من القرن الخامس قبل الميلاد. وهذه النقود مستوردة من اليونان ، ومن أثينا بصورة خاصة. وتعود أقدم النقود الشامية إلى القرن الرابع قبل الميلاد ، والتي ضربت بأمر من ملوك فارس في جبيل وصيدا وصور وأرواد ، وكلها مدن تجارية فينيقية. وقد عثر على هذه النقود في مواقع فلسطينية ـ حاصور ومجدّو ولاخيش وغيرها.

ثانيا : العصر الهلّيني

لم تكن حملة الإسكندر المقدوني (٣٣٣ ق. م.) فاتحة عهد جديد في العلاقة بين الشرق الأدنى القديم وبلاد اليونان ، وبالتالي ، محطة افتراق مع الماضي وبداية مرحلة في العلاقات ، تنطلق من نقطة الصفر. فمثل هذه العلاقة ، وبالأشكال المتعددة المعروفة قديما ـ حضارية واقتصادية وعسكرية وحتى دبلوماسية ـ كانت قائمة منذ آلاف السنين. وعلى العكس من ذلك ، هناك من يعتقد أن تلك الحملة جاءت تتويجا لمسار طويل من التفاعل ، سلبا وإيجابا ، وكانت النتيجة المنطقية للتداخل بين اليونان والشرق القديم. وهذا المسار راح يتعمق في أواخر الإمبراطورية الفارسية حيث تفاقمت الصراعات الداخلية ، ومعها تزايدت أعداد الجنود المرتزقة اليونان في الجيش الفارسي. وتفيد المصادر أن القتال الأشد شراسة الذي خاضه جنود الإسكندر كان مع الكتائب اليونانية ، وقادتها المتمرسين ، في الجيش الفارسي.

وعلى العكس من الفرس تماما ، غزا الإسكندر الشرق وهو يحمل لواء الحضارة الهلّينية (اليونانية) ، بمفاهيمها العلمانية في الأساس. وقد تبلورت هذه المفاهيم عبر مئات السنين في أثينا ، المدينة التجارية المنفتحة على عالم البحر الأبيض المتوسط ، والتي ركزت في تراثها الفكري على الإنسان ، ومنهج تفكيره وسلوكه. والإسكندر ولد

١١١

في مقدونيا ، الأكثر تخلفا وانغلاقا في اليونان ، لكنه تتلمذ على أيدي الفيلسوف الكبير ، أرسطو ، فشب مولعا بالحضارة اليونانية وتقاليدها وأعرافها. وكان مقتنعا بأن النمط الإغريقي (اليوناني) هو قمة التفوق البشري ، ورأى رسالته العالمية في نشر هذا النمط الفكري ـ الاجتماعي ، من خلال إمبراطورية كونية ـ أي الهلينة.

وكان الإسكندر في العشرين من العمر عندما اغتيل والده ، فيليب ، سنة ٣٣٦ ق. م. وكان فيليب قد خطط مستقبل ابنه ووارثه قبل موته ، كما كان قد قطع شوطا كبيرا في الإعداد للمعركة الحاسمة مع العدو القديم ـ فارس. وبعد فترة قصيرة من توضيب أوضاعه الداخلية ، وضمان أمن حدوده الشمالية ، بادر الإسكندر إلى حملته الأسطورية على الشرق القديم. وكانت فارس إمبراطورية مترامية الأطراف ، غنية الموارد ، وتمتلك جيشا كبيرا ، كما في حيازتها أسطول بحري عظيم ، بني وأدير بالتعاون مع الفينيقيين. وتضافرت للإسكندر عوامل ذاتية وموضوعية ، جعلت منه أسطورة في التاريخ. فهناك الميّزات والمواهب الشخصية ، والجيش المنظم ذو الروح القتالية العالية ، ووضوح الهدف والثقة بالنفس ، في مقابل حالة معاكسة تماما في الجانب الآخر. وخلال أربع سنوات (٣٣٤ ـ ٣٣٠ ق. م.) ، قضى الإسكندر على إمبراطورية الفرس ، وصنع الأسطورة.

فبعد معركة غرانيكوس (٣٣٤ ق. م.) ، سيطر الإسكندر على مدن آسيا الصغرى الساحلية. وفي النصر الذي حققه في معركة إيسوس (٣٣٣ ق. م.) فتحت أمامه بلاد الشام ، فأوكل احتلال دمشق إلى قائد جيشه ، بارمينون. وباحتلاله الساحل الفينيقي ، فصل الأسطول الفارسي عن قواعده ، فعطله. وقاومت صور ، فحاصرها وأخضعها ودمرها. وكذلك فعلت الحامية الفارسية في غزة ، فكان مصيرها مصير صور. وفي سنة ٣٣١ ق. م. ، سحق الجيش الفارسي ، بقيادة داريوس الثالث ، في أربيل (شمال العراق) ، وراح يطارد فلول الشاهنشاه. وبينما هو يضيق الخناق على داريوس ، اغتال هذا الأخير أتباعه ، وورث الإسكندر ملكه وأرضه ، ثمّ أوغل شرقا إلى نهر السند ، حيث بدأ جنوده يتذمرون ، فعاد عن طريق جنوب فارس إلى العراق ، حيث سقط مريضا ومات (٣٢٣ ق. م.).

ومنذ بداية حملته ، أعطى الإسكندر المدن اليونانية في آسيا الصغرى حكما ذاتيا. وفي مسار الحملة تصرف وكأنه على رأس دولة مقدونية ـ يونانية متنقلة ، بكل طقوسها وتقاليدها. وأقام الكثير من المدن اليونانية ، بسكانها ومؤسساتها ، كما جعل بعضها حاميات حدودية ، وخصوصا في الجزء الشرقي من الأراضي التي فتحها. وتبرز بين هذه المدن الإسكندرية بازدهارها وعظمتها. لكن الإسكندر بعد مقتل

١١٢

داريوس ، وإعلانه نفسه وارثا للعرش الفارسي ، توجه لربط الفرس واليونان في حضارة عالمية واحدة. وقد عبر عن ذلك بزواجه من أميرة فارسية ، وبترتيبه زفافا جماعيا ل ٠٠٠ ، ١٠ من جنوده لزوجات فارسيات ، في مدينة سوسة ، بعد رجوعه من الهند.

لكن الإسكندر مات قبل أن يرى أحلامه الكبيرة تتحقق ، أو تنهار ، أمام ناظرية. ففي الثالثة والثلاثين من عمره ، وبعد أقلّ من ١٢ عاما على غزوه فارس ، خرّ صريع المرض ، وليس بسيوف الأعداء ، إذ على هذا الصعيد لم يكن لديه ما يخشاه. وبموته ذهبت مشاريعه الضخمة وخططه الفخمة أدراج الرياح. والقادة الذين تخاصموا على التركة من بعده ، لم يكونوا في موقع يؤهلهم لاستكمال تلك المشاريع ، وإنما للصراع والاقتتال بشأن اقتسام المغانم. وفي غياب الروح الحية التي نفحت المقدونيين واليونان بالتطلعات الكبيرة ، انقلب القادة أسرى جشع جنودهم للمال والعطايا ، فراحوا يسترضونهم بالهبات والامتيازات ، لكسب ولائهم في الصراعات الدموية التي استشرت بينهم بشأن الميراث.

وفي الصراع بين أدعياء ميراث الإسكندر ، وقعت فلسطين في البؤرة ، فكانت مسرحا للمعارك والحملات والأخرى المضادة ، الأمر الذي ألحق بها وبسكانها ضررا كبيرا. وعندما هدأت الأمور نسبيا ، نحو سنة ٢٨٠ ق. م. ، كانت إمبراطورية الإسكندر مقسمة بين ثلاث دول كبرى : ١) السلوقيون في غرب آسيا ؛ ٢) البطالسة (البطالمة) في مصر ؛ ٣) الأنطونيون في مقدونيا وبلاد اليونان الأوروبية. وإذ تخندق كل طرف في عاصمته ، وثبّت ملكه فيها ، إلّا إن أحدا منهم لم يقرّ للآخر بالأراضي التي وقعت في يده. ولذلك استمر الصراع بشأن الحدود طويلا. وفلسطين كمنطقة حدودية انتقلت مرات متعددة من يد إلى أخرى ، كما انتهزت قوى صغيرة محلية فرصة صراع العمالقة لتحسين أوضاعها ، فجلبت على نفسها العقاب ، عاجلا أم آجلا.

وبعد مدّ وجزر ، استقرت فلسطين أخيرا (٣٠١ ق. م.) في يد بطليموس الأول ، ملك مصر. لكن حليفه سابقا ، سلوقس ، لم يسلم له بذلك ، وظل يصارع لانتزاعها كجزء من سورية ، التي كانت تحت حكمه. غير أن البطالسة ، الذين لم يؤدّوا دورا كبيرا في الصراع ضد أنطيغونوس ، وتحمّل وزره الأساسي سلوقس ، استطاعوا الحفاظ على فلسطين حتى سنة ١٩٨ ق. م. وكان انتقالها إلى أيدي السلوقيين في إثر معركة على منابع الأردن (بانياس) ، هزم فيها أنطيوخوس الثالث (٢٢٣ ـ ١٨٧ ق. م.) جيش البطالسة. وظلت فلسطين عموما في منطقة نفوذ السلوقيين إلى حين الاحتلال الروماني سنة ٦٣ ق. م. ومع ذلك ، استمرت ترتيباتهم الإدارية فترة طويلة في أثناء حكم الرومان.

١١٣

خلال حكم البطالسة (القرن الثالث قبل الميلاد) ، كانت فلسطين جزءا من الولاية المعروفة رسميا باسم «سورية وفينيقيا». وكانت حدود هذه الولاية عرضة للتغيير ، بحسب ميزان القوى بين السلوقيين والبطالسة. وعلى العموم ، فقد ضمت دمشق ونصف الساحل الفينيقي وشرقي الأردن. وإلى حد كبير ، حافظ البطالسة على التقسيم الإداري الذي كان قائما في فلسطين أيام الفرس ، مع استبدال لفظ «سترابا» ب «هبّارخيا» للدلالة على الولاية. كما أدخلوا بعض التعديلات الإدارية ، فنقلوا عاصمة أدوميا من لاخيش (تل الدوير) إلى ماريسا (تل صندحنّة) ، وعاصمة الجليل من حاصور إلى قلعة جبل طابور (إيتابيريون). وأعطوا مدن الساحل حكما ذاتيا مستقلا عن الفينيقيين. كما أقاموا إقطاعات يونانية ، مثل قادش (كاداسا) ، وهي قدس في الجليل الأعلى ، وكذلك بيت عنات (البعنة) في الجليل الأسفل ، وغيرهما.

وعلى العكس من الفرس ، ونظرا إلى طبيعة بلادهم قليلة الموارد ، قام اليونان بالاستيطان في الأراضي التي احتلوها على نطاق واسع ، ونالت فلسطين قسطها منه. وقد أدّى ذلك بطبيعة الحال إلى تغيير في التركيب السكاني ، وبالتالي في التنظيم الإداري للمدن التي اتخذت طابعا يونانيا. فقد أقيمت مدن جديدة ، كما أعيد بناء مدن قديمة بنمط سياسي ـ اجتماعي يوناني. وفصلت هذه المدن التي استوطنها اليونان عن محيطها ، بإعطائها حكما ذاتيا متميزا. إلّا إن مسار الهلينة باليونان ، سرعان ما طال السكان المحليين فتبنوا العادات والتقاليد ، وخصوصا في المدن المختلطة مثل : غزة وعسقلان وعكا. وتميّزت ماريسا بتبني الهلينة في أدوميا. فضلا عن إقامة مستوطنات يونانية صرفة ، مثل : سكيتوبولس (بيسان) وبطوليمايس (عكا). أمّا السامرة (سماريا) ، فقد استوطنها جنود مقدونيون متقاعدون.

ولما انتزع السلوقيون فلسطين من أيدي البطالسة (بداية القرن الثاني قبل الميلاد) ، أدخلوا بعض التعديلات الإدارية على هذه «الهبارخيا» (الولاية) ، فقسموها إلى مقاطعات أكبر ، وهي : ١) باراليا ، وتضم كل السهل الساحلي ؛ ٢) ساماريا ، وتضم الجليل ، يوديا ، يوبا (يافا) وأراضي طوبيا العموني (شرقي الأردن) ؛ ٣) أدوميا ، التي ضمت يمنيا (يبنى) وأزوتس (أسدود). وفي أيام السلوقيين أقيم عدد من المدن اليونانية ، كما تحوّل عدد آخر من المدن القديمة إلى مستوطنات يونانية. وكان السلوقيون أشد اهتماما بالهلينة من البطالسة. وذلك لأنهم ادعوا خلافة الإسكندر ووراثة رسالته في نشر الحضارة اليونانية ، سواء بالاستيطان ، أم بنشر مبادئها بين السكان المحليين.

لقد خاض البطالسة والسلوقيون خمسة حروب من أجل السيطرة على فلسطين

١١٤

وجنوب بلاد الشام ، عرفت باسم الحروب السورية ، خلال القرن الثالث قبل الميلاد. وليس ذلك إلّا للأهمية التي أولوها لهذه الولاية ، استراتيجيا واقتصاديا. فالبطالسة رأوا فيها خط الدفاع الأول عن مملكتهم في مصر ، فأداروها مباشرة من عاصمتهم ـ الإسكندرية ـ وعبر المندوبين. وكذلك ، فالبطالسة الذين اعتمدوا كثيرا على التجارة الدولية في تمويل دولتهم ومشاريعهم ، أرادوا السيطرة على موانىء الشاطىء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، وكذلك على طرق التجارة البرية التي تمر بها. هذا إضافة إلى الموارد الطبيعية والزراعية والصناعية ، التي كانت تنقص مصر : الأخشاب وزيت الزيتون والنبيذ والقار والبلسم وغيرها.

في المقابل ، كان السلوقيون يريدون جنوب بلاد الشام للأسباب ذاتها ـ استراتيجيا واقتصاديا. وعلاوة على ذلك ، فقد رأوها جزءا لا يتجزّأ من الأراضي التي وقعت في أيديهم في غرب آسيا ، وبناء عليه ، فهي من حقهم. والأطماع المادية السلوقية رفدت بتبريرات معنوية ، إذ رأى هؤلاء في أنفسهم ورثة حلم الإسكندر في نشر الهلينة ، على عكس البطالسة. وكان اليونان قد عرفوا هذه البلاد وعرفتهم منذ زمن طويل ، فكانت منفتحة على حضارتهم وتجارتهم. فشواطىء البحر الأبيض المتوسط الشرقية شهدت استيطانا يونانيا ، بصورة أو بأخرى ، منذ قرون. ولذلك ظل السلوقيون يصارعون حتى انتزعوا فلسطين من البطالسة ، ولما فعلوا ذلك لم ينعموا بها طويلا ، إذ ما لبثوا أن اشتبكوا مع روما ، فهزموا ودفعوا جزية لم يعرفها التاريخ القديم. وفي الوقت نفسه شبت في وجههم ثورة الحشمونيين.

ويستفاد من وثيقة زينون ، المكتوبة على ورق البردي ، والتي اكتشفت في مصر سنة ١٩١٥ م ، أن بطليموس الثاني (فيلادلفيوس) ، الذي حكم بين (٢٨٢ ـ ٢٤٦ ق. م.) ، أدار تجارة واسعة في سورية وفلسطين. وزنون كان عاملا لدى أبولونيوس ، وزير مالية الملك ، وقد سجل نشاطاته في تلك الوثيقة. ويذكر زنون أن وكلاء الوزير كانوا يجوبون المدن ويشترون البضائع ويهتمون بأمور التجارة. ومن بين الأمور التي اشتغلوا بها كانت تجارة العبيد الرائجة ، فضلا عن المنتوجات الزراعية : القمح السوري الممتاز والنبيذ وزيت الزيتون. كما احتكروا تجارة العطور بين مصر والجزيرة العربية ، ومن أجل ذلك عين وزير المالية موظفا خاصا ، أقام في مدينة غزة.

ومن هذه الوثيقة وغيرها ، يستفاد أن السمة البارزة للعصر الهليني في الشرق هي التطور الاقتصادي. فقد شهد غرب آسيا ازدهارا اقتصاديا ، طال نواحي الإنتاج المعروفة كافة ـ الزراعة والصناعة والتجارة. وكانت الدولة ـ الملك والمقربون منه ـ مالكة الأرض الرئيسية ، وصاحبة رأس المال الأكبر ، كما تولت المبادرات الصناعية

١١٥

والتجارية. فخلفاء الإسكندر بادروا منذ البداية إلى مصادرة الإقطاعات الكبيرة من أصحابها ، وضمها إلى أملاك الملك ، الذي احتفظ لنفسه بمساحات واسعة منها ، وأقطع المقربين إليه أجزاء منها. وهذه الأراضي تم تأجيرها للفلاحين لقاء أجر سنوي ، نقدا أو عينا. وحظر عليهم تركها قبل انتهاء الموسم ، كما منعوا من تسويق محاصيلهم قبل أن تتاح الفرصة لعمال الملك لطرح حصته في السوق. وبسبب فقرهم ، تحوّل قطاع واسع من الفلاحين إلى عبيد ، فارتبطوا بالأرض ، وكذلك أبناؤهم مدى الحياة.

واحتكرت الدولة الصناعة والتجارة إلى حد كبير. فما لم يكن في يدها مباشرة ، أو مداورة ، فرضت عليه ضرائب عالية ، وضبطت الأسواق وحركة البيع والأسعار. وإضافة إلى أن أراضي الإمبراطورية الشاسعة شكلت سوقا تجارية هائلة ، فقد اهتم الملوك اليونان بتحسين الطرق والموانىء ، وبنوا القنوات للنقل النهري ، كما بحثوا عن أسواق بعيدة ، واكتشفوا طرقا جديدة ، وبذلوا جهدا في تأمين الطرق وحراسة السواحل. وعلاوة على ذلك ، وحّدوا النقد الذهبي والفضي ، وأقاموا المصارف لتسهيل التعامل. وإلى ميناء الإسكندرية على سبيل المثال ، جاءت التوابل من الجزيرة العربية والهند والنحاس من قبرص والذهب من إثيوبيا والهند والتنك من بريطانيا والفيلة والعاج من نوبيا والفضة من شمال بحر إيجة وإسبانيا والسجاد من آسيا الصغرى ، وحتى الحرير من الصين. وكانت أرباح الدولة تصل إلى حدود ٣٠% من سعر البضائع.

ومن النتائج البارزة لهذا النمط الاجتماعي ـ الاقتصادي نمو المدن الكبرى المتعددة. ففضلا عن الاستيطان اليوناني الكثيف ، كانت هناك حركة سكانية من الريف إلى المدن التي أصبحت مراكز صناعية وتجارية ، إضافة إلى كونها مراكز إدارية. ومن عناصر الجذب إلى المدن كان نمط الحياة الإغريقي في المدن الهلينية (بولس) ، وما يوفره من أجواء ثقافية وحضارية. وبرزت أنطاكيا ، عاصمة السلوقيين ، التي تضاعف عدد سكانها أربع مرات خلال قرن واحد. وقبلها نمت سلوقية (على نهر دجلة) إلى مدينة كبرى من نقطة الصفر. ولكن المدينة الأكبر والأكثر شهرة كانت الإسكندرية ، التي يقدر بعضهم سكانها بنحو المليون نسمة. وقد شاع صيت مكتبتها التي يذكر أنها احتوت ٠٠٠ ، ٧٥٠ مجلد. وكما الحال في سورية والأردن ، كذلك في فلسطين ، إذ أقيمت مدن يونانية ، منها : عكا وجبع ودورا ويافا ويبنى وأسدود وعسقلان وغزة ورفح والسامرة وصفورية وبيسان وغيرها.

لكن الازدهار الهليني كان من نصيب القلة فقط ـ الأمراء والموظفين وملاكي

١١٦

الأراضي والتجار الكبار والكهنة. وكان كلما أوغل اليونان في هذا النمط من الإنتاج ، ازدادت الهوة بين طبقات المجتمع عمقا واتساعا. وكان لا بدّ من أن ينعكس ذلك صراعا اجتماعيا. وعلاوة على ذلك ، لم يكن هذا الازدهار موزّعا بصورة متكافئة جغرافيا. فالولايات في آسيا الغربية تقدمت على حساب بلاد اليونان الأصلية ، التي كانت في واقع الحال فقيرة بمواردها الطبيعية ، وزادها فقرا نزوح الأعداد الكبيرة من سكانها إلى المدن الهلينية في الشرق. وفي الشرق أيضا ، تصرف اليونان كطبقة حاكمة مستغلة ، بعد أن تخلوا عن الرسالة التي انتشروا تحت لوائها الذي حمله الإسكندر. وقد تضافرت هذه العوامل مع الصراعات الداخلية على السلطة ، لتؤدي إلى انهيار النظام السياسي الذي أقامه اليونان ، مع استمرار أثره الحضاري والثقافي في العصور اللاحقة.

أ) ثورة الحشمونيين

يروي التلمود أن الإسكندر في طريقه إلى مصر ، استقبل في أنتيباترس (رأس العين) ، وفدا من شيوخ اليهود في أورشليم ، وأعطاهم امتيازات على حساب السمرة. وكان هؤلاء بعد أن استسلموا للقائد الذي أرسله الإسكندر ، أندروماكوس ، اغتالوه ، فعاقبهم وأقام حامية مقدونية في السامرة. والظاهر أن بارمينون قائد جيش الإسكندر الرئيسي والذي أرسل لاحتلال سورية ، مرّ عبر دمشق ، وتابع مسيرته جنوبا بموازاة نهر الأردن شرقا. ومن أريحا أرسل كتيبة صغيرة لاحتلال أورشليم. وتفيد معلومات من مصادر يهودية ، أن يهودا كثيرين انضموا إلى جيش الإسكندر ، إذ رأوا فيه مرة أخرى ، مخلصا.

في العصر الهليني ، كانت مقاطعة يهود (يوديا) وحدة إدارية صغيرة ، كما كانت في آخر أيام الفرس ، ذات خاصية إثنية (إثنوس). وكان على رأسها الكاهن الأكبر ، الذي جمع بين سلطتين ـ دينية وزمنية. وإذ أشرف على إدارة شؤون طائفته دينيا وقضائيا ، فقد اعتبر رئيسا لها إزاء السلطات. وبذلك كان المرجعية الدينية والمدنية لليهود ، كما كان مسؤولا عن جباية الضرائب منهم لخزينة الملك. وعلاوة على ذلك ، كان عليه أن يدفع مبلغا سنويا للملك لقاء تعيينه في منصبه. وإلى جانب الكاهن الأكبر كان هناك مجلس من الأعيان (جيروشيا) ، يترأسه الكاهن الأكبر ، ويتولى الرقابة العليا على الهيكل وأمن المدينة وتزويدها بالماء.

ويستفاد من المصادر أن هذه المقاطعة نعمت بالاستقرار والازدهار في بداية حكم البطالسة ، ولم تتأثر كثيرا بالصراع الدائر بينهم وبين السلوقيين ، نظرا إلى بعدها

١١٧

عن ساحته. ولكن هناك معلومات عن توتر وقع بين الكاهن الأكبر ، حونيو ، وملك البطالسة ، بطليموس الثالث (٢٤٦ ـ ٢٢٢ ق. م.). ورفض حونيو دفع الضريبة المستحقة عليه للملك ، وكما يبدو بتحريض من السلوقيين ، الذين وعدوه بتقديم المساعدة له إذا عاقبه البطالسة. وتحرك هؤلاء لمحاصرة حونيو ، ونصّبوا أحد أفراد عائلة طوبيا العموني الموالية لهم رئيسا للجيروشيا ، بعد أن تعهد بزيادة دخل الملك من الضرائب. ولذلك عينه الملك جابيا عاما في ولاية سورية. وكانت عائلة طوبيا ، المعروفة من أيام عزرا ونحميا ، والتي أصولها في شرقي الأردن ، حاملة لواء الهلينية في مقاطعة يوديا (يهود).

وبروز يوسف بن طوبيا في أورشليم يدل على تشكّل طبقة من التجار الأثرياء ، على علاقة وثيقة ببلاط البطالسة في الإسكندرية. وبازدياد ثراء هذه الطبقة عبر العلاقة مع السلطة ، وتبنيها عادات وتقاليد وثقافة اليونان (الهلينة) ، تشكلت وحدة مصالح سياسية بينهما في مواجهة الطبقات الأخرى ، من الفلاحين والحرفيين والتجار الصغار ، الذين راحوا يرزحون تحت عبء متزايد من الضرائب. وكان الملك هو صاحب الأرض ، والفلاحون يعملون فيها «مرابعين» ، كما كان الملك يسيطر على التجارة الدولية ، ويحتكر شراء المنتوجات ـ الزراعية والصناعية ـ الأمر الذي زاد في حدة التوتر بين الطبقات الدنيا والأخرى المتعاونة مع السلطة. وكان البطالسة أول من أدخل نظام «المقاطعة» ـ أي تضمين جباية الضرائب للمقربين من بلاطهم ، لقاء مبلغ سنوي مقطوع.

وبينما راح الشرخ الاقتصادي يتعمق بين هاتين الطبقتين ، راح الاغتراب الاجتماعي والثقافي والسياسي بينهما يتسع نطاقه ، وبالتالي يزداد التوتر حدة بينهما. فأبناء الطبقات العليا ، من علمانيين ورجال دين ، بمن فيهم الكاهن الأكبر أحيانا ، كانوا في طليعة حاملي لواء الهلينة. وكدلالة خارجية على ذلك اتخاذهم أسماء يونانية لأنفسهم ، الأمر الذي انتشر على نطاق واسع. والأكيد أنهم اختلطوا اجتماعيا بسكان المدن اليونانية ، واقتبسوا نمط حياتهم. وإذ كانت ثورة الحشمونيين بالأساس تمردا على ممارسات السلطة والظلم الواقع على العامة ، فقد اتخذت شعار العداء للهلينة وسيلة لحشد الطبقات المسحوقة حولهم. لكن الحشمونيين أنفسهم سرعان ما عادوا لتبني الممارسات التي قادوا الناس ضدها ، خلال فترة قصيرة من تثبيت أنفسهم في الحكم.

وبانخراطهم في خدمة السلطة ، واقترابهم من دوائرها وتياراتها السياسية ، راح أبناء الطبقات الثرية المتهلينة يستغلون التناقضات بين البطالسة والسلوقيين. وقد عبر

١١٨

أبناء طوبيا في سلوكهم المتقلب بين القطبين ، عن نزعة هذه الطبقة لاستغلال الصراع بين البطالسة والسلوقيين لزيادة ثرائها وسلطانها. وتميّز بهذا السلوك أحد أبناء يوسف بن طوبيا الجابي ، هوركانوس ، الذي ذهب وأقام في الإسكندرية ، واقترب من بلاط الملك ، وأخيرا حصل منه على مرسوم بتعيينه جابيا ، ورئيسا للجيروشيا ، بدلا من والده ، وعلى حساب إخوته الآخرين ، الأمر الذي دفع هؤلاء للانحياز إلى السلوقيين. وشهدت الفترة الأخيرة من حكم البطالسة في فلسطين تقلبات متواترة من هذا النمط.

وعندما اعتلى أنطيوخوس الرابع (أبيفانس) عرش السلوقيين (١٧٥ ـ ١٦٤ ق. م.) ، أدخل تعديلات كبيرة على الحكم. فقد عرف أبيفانس بحماسته الشديدة لنشر الحضارة اليونانية وتكريسها. فاستغل الخلافات في أورشليم لتحويلها إلى مدينة يونانية (بولس). وبعد حملته الثانية على مصر (١٦٨ ـ ١٦٧ ق. م.) ، التي اضطر إلى الانسحاب منها بأمر من روما ، عرّج على أورشليم في طريق عودته. وكانت هذه قد تمردت على سلطانه في إثر انتشار إشاعة عن موته. فاحتل المدينة بهجوم صاعق ، ونكل بالمتمردين ، ونهب كنوز الهيكل. ولاحقا ، أصدر مرسوما يقضي بمنع اليهود من ممارسة شعائرهم وطقوسهم وعباداتهم ، على اعتبار أورشليم مدينة يونانية فقط ، ومعاقبة المخالف بالموت.

وإضافة إلى تعيين كاهن أكبر ذي ميول هلّينية قوية ، منيلاوس ، ولضمان سيطرته على أورشليم ، فقد أقام فيها مستوطنة يونانية ـ الحكرا ـ وانضم إليها يهود من أصحاب النزعة الهلينية. وبنى في المدينة «جمناسيوم» ، سريعا ما تجاوز الهيكل كبؤرة اهتمام في الحياة الاجتماعية. ثمّ حوّل الهيكل ذاته إلى معبد للإله الأولمبي زيوس (١٦٧ ق. م.) ، وأصدر أمرا بمنع عطلة السبت ، وإبطال فريضة الختان ، وأعلن عقوبة الموت على كل يهودي يخالف هذه الأوامر. وعدا زيادة الضرائب ، واللجوء إلى الأساليب التعسفية في جمعها ، طالب اليهود بتقديم الأضاحي غير الحلال ـ الخنازير ـ قربانا لسلامة الملك.

وإزاء سياسة أبيفانس ، نشبت حركة تمرد في صفوف الفلاحين وأبناء الطبقات الفقيرة المعادية لليونان وأوليائهم من اليهود. وفي قرية موديعين ـ بالقرب من اللد ـ قام متتياهو الحشموني وقتل كاهنا يهوديا لبّى الدعوة بتقديم ضحية باسم الملك ، كما قتل مبعوث السلطة ، وكسر المذبح ، وأعلن التمرد. وتحوّلت حركته هذه إلى ثورة واسعة النطاق ، حشدت قوة مقاتلة من المتطوعين الريفيين ، فخرج بهم إلى الصحراء تحاشيا للصدام مع قوة الجيش اليوناني المتفوقة. وأدار من المغاور التي أقام فيها مع

١١٩

رجاله حرب عصابات ضد السلطة وأعوانها. واستطاع خلال فترة قصيرة أن يفرض سيطرته على الريف ويعزل أورشليم. فاستدعى بذلك تدخل السلطة المركزية في أنطاكيا.

وبعد موت متتياهو ، تولى أبناؤه الخمسة إدارة الصراع مع السلوقيين. وتميّز بينهم يهودا ، المعروف بلقب مكابي ، بقدراته العسكرية ، فتولى قيادة الجيش الذي راح يتخذ شكلا نظاميا. واستطاع يهودا المكابي ، بغارات سريعة وخاطفة ، أن يهزم القوات اليونانية المحلية. وأخيرا دخل أورشليم (١٦٤ ق. م.) ، وحاصر الحكرا ، واستعاد الهيكل ، وأقام احتفالا لمناسبة تطهيره من عبادة الأوثان ، مدشنا بذلك العيد اليهودي ـ «حنوكا». وعندها تحركت أنطاكيا ، فأرسلت جيشا كبيرا بقيادة ليسياس ، الوصي على ولي العهد الشاب ، أنطيوخوس الخامس ، حيث كان الملك أبيفانس يقاتل المتمردين في الأراضي الشرقية لملكه. وانتهت الحملة إلى تسوية ـ هدنة ، ألغى أبيفانس بموجبها المراسيم التي أصدرها. وبذلك اعترف السلوقيون بحرية العبادة لليهود ، ولكن ليس بالسيادة السياسية للحشمونيين.

وبعد موت أبيفانس ، اندلع الصراع في العاصمة السلوقية ، وانتهز ديمتريوس الأول الفرصة ، وهرب من روما حيث كان يقيم رهينة ، ووصل إلى سورية وانتزع الملك (١٦٢ ق. م.). وسارع معارضو الحشمونيين ، وعلى رأسهم الكاهن الأكبر ، ألكيموس إلى طلب مساعدته ضدهم ، فلبى ديمتريوس طلبهم ، وأرسل إليهم جيشا بقيادة نيكانور. لكن يهودا المكابي هزمه ، واستمر الصراع. وإزاء إصرار ديمتريوس على إخضاع اليهود لإرادته ، سعوا للتحالف مع روما ، فأرسلوا إليها وفدا ، استقبله «السينات» الروماني ، وتمّ الاتفاق. لكن ذلك لم يردع ديمتريوس ، الذي أرسل حملة أخرى كبيرة بقيادة بكخيدس. وبعد صدامات غير حاسمة ، استطاع بكخيدس أخيرا أن يهزم يهودا المكابي ويقتله في المعركة (١٦٠ ق. م.). وهرب أخواه الباقيان ، يوناتان وشمعون ، إلى شرقي الأردن.

وفي سنة ١٥٣ ق. م. ، نصّب أعداء ديمتريوس ، ألكسندر بالاس ، ملكا على عرش السلوقيين. وفي الصراع بشأن الملك ، تسابق المتنافسان على تقديم الوعود السخية إلى يوناتان الحشموني فعاد هذا إلى أورشليم ، بناء على تفويض من ديمتريوس ، فسارع بالاس إلى تعيينه كاهنا أكبر وحاكما لمقاطعة يوديا ، وخلع عليه عباءة أرجوانية ، رمزا للكهانة الكبرى ، وتاجا ذهبيا دلالة على الحكم. وبذلك أصبح يوناتان ، بعد سبع سنوات من اللجوء في شرقي الأردن ، كاهنا أكبر في الهيكل ، وحاكما في مقاطعة يوديا ، معترفا به من قبل السلوقيين ، ويتمتع بتأييد روما. ومن هذا

١٢٠