الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

تقديم

التاريخ ليس الحقيقة ، على الأقل ليس كلها ، لكن العمل به يكتسب شرعيته العلمية من تحري الحقيقة. وعندما يكف المؤرخ عن السعي لها يفقد تلك الشرعية ؛ أمّا عندما يجافي الحقيقة في عمله ، فإنه ينتج شيئا آخر تماما. وإذ لا أدّعي الحياد في موضوع هذا الكتاب ، فقد وجدت في البحث عن الحقيقة التاريخية وتدوينها ما يلبي انحيازي ، فلم يعد من مبرر لتلافيها.

والكتابة في تاريخ فلسطين أمر محفوف بمخاطر الانزلاق نحو إخضاع الحقيقة التاريخية للهوى السياسي ، وخصوصا لما لهذا البلد من قضية تتباين الأهواء بشأنها ، الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على أعمال الباحثين في تاريخها عبر العصور. ولقد واجهت هذه المشكلة في جمع مادة الكتاب وتصنيفها وصوغها ، وبذلت الجهد في اعتماد الموضوعية منهجا في التعامل مع القضايا الشائكة التي يطرحها تاريخ هذا البلد ، الفريد في موقعه الجغرافي والتراثي والسياسي. وبناء على ذلك ، توخيت الدقة في جمع مادته ، ومن المصادر التي اعتقدتها أكثر وثوقا ، وبالتالي معالجتها بأسلوب المؤرخ لا المنافح السياسي.

ولقد رأيت أن أجمع بين دفتي هذا المجلد الصغير نسبيا قصة كاملة من تاريخ فلسطين الغني ، ومنذ أقدم العصور المعروفة ، فكان لا بدّ من التركيز على الجانب السياسي من تلك القصة الطويلة. ومع ذلك ، ولاعتبارات حجم الكتاب ، ونظرا إلى غزارة المادة الواجب تغطيتها ، لم يكن لديّ مفر من التكثيف الشديد في أسلوب الصوغ. وقد نجم عن ذلك العدول عن الإشارة إلى المراجع في متن النص ، تحاشيا لإغراق الكتاب بالحواشي ، وتمّ الاكتفاء بإيراد بعض أهم المراجع في ذيل كل فصل. ويخرج الفصل الأخير عن هذه القاعدة ، نظرا إلى طبيعته الخاصة ، كونه يتناول الصراع بشأن فلسطين في العصر الحديث.

وإذ تضمن الكتاب فصلا مختصرا في عصور ما قبل التاريخ ، اعتبرته توطئة لما يليه ، وتعريفا بحضارة البلد منذ القدم ، فقد رأيت أن أتوقف به عند حرب ١٩٤٨ ، وأختمه باتفاقات الهدنة التي انتهت إليها تلك الحرب ، على اعتبار أن ما بعد ذلك يدخل في السياسة المفتوحة على احتمالات تحاشيت الخوض فيها والتكهن بمآلها.

١

وكان طبيعيا أن أعتمد على عدد كبير من المراجع والدراسات في وضع هذا الكتاب. وأرجو أن أكون وفقت في اختيار المصادر الموثوق بها ، واصطفاء المعلومات والتواريخ الدقيقة ، وبالتالي تمكنت من تقديمها للقارىء بمنهج علمي وأسلوب محكم.

وأخيرا ، وليس آخرا ، لا يفوتني أن أشكر مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت على تبني مشروع إعداد الكتاب ، وتولي نشره.

الياس شوفاني

١٩٩٦

٢

مقدمة

إذا صحت مقولة أن الخارج من الجغرافيا يغادر التاريخ أيضا ، فالأكيد أن القابع في قلبها لا بدّ من أن يحسّ بنبضه. ولئن انطبق ذلك على عدد من البلدان المعمورة ، فإن فلسطين تتصدر القائمة. فقد كانت تعتبر حتى نهاية القرن الخامس عشر ، «صرّة» العالم الآهل (الأيكومين) ، وشكلت مركزيتها أحد أسس علمي الجغرافيا والكارتوغرافيا إلى حينه ، حتى أثبتت الاكتشافات الحديثة غير ذلك. لكن المسألة ظلت عالقة بالأذهان ، ولو بصورة مجازية. ففلسطين تقع في الطرف الجنوبي الغربي من الهلال الخصيب ، وبذلك تشكّل الرقعة المحاذية للجسر البري الذي يصل آسيا بإفريقيا ، وبالتالي الأقرب من بلاد الشام لوادي النيل. وهي ليست جسرا بين قارتين كبيرتين فحسب ، بل بين محيطين أيضا : الأطلسي والهندي. فساحلها جزء من الشاطىء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط الذي هو امتداد للمحيط الأطلسي ، وطرفها الجنوبي يقع على خليج العقبة الذي هو امتداد للمحيط الهندي ، عبر البحر الأحمر ، وبموقعها هذا شكلت فلسطين ملتقى لطرق برية وبحرية ، منذ أقدم العصور المعروفة ، وأدت دورا مهما في التجارة الدولية والتبادل الحضاري بين الأمم. كما أنها نقطة تقاطع طرق جوية في العصر الحديث. وكان طبيعيا أن يتأثر تاريخها بهذا الموقع الاستراتيجي ، وأن تؤثر هي من هذا الموقع في تاريخ المنطقة والعالم.

ويخترق فلسطين من الشمال إلى الجنوب الانهدام السوري ـ الإفريقي في غور الأردن ، الأمر الذي جعلها معبرا لأجناس بشرية وحيوانية ونباتية منذ العصور الموغلة في القدم. وفيما هي جزء من الهلال الخصيب ، الذي يشكّل شبه دائرة من الأراضي الزراعية يمتد من الشاطىء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، مرورا بشمال سورية ، وصولا إلى بلاد ما بين النهرين ، فإنها تقع بين البحر في الغرب والصحراء في الشرق ؛ وهذا ما جعلها تتأثر بهما مناخيا وسكانيا أيضا. وكان أثر الصحراء فيها على الصعيد الديموغرافي أكبر ، إذ ظلت موجات متتالية من هجرة القبائل تندفع من قلب الصحراء العربية إلى جميع أنحاء الهلال الخصيب ، ومنه فلسطين. لكن البحر أدّى دورا في هذا المجال أيضا ، إذ إن فلسطين نزلتها شعوب البحر ، كما شهدت حركات استيطانية في عصور متعددة ، جاءت من منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. غير

٣

أن العامل الأكثر أثرا في تاريخها القديم هو وقوعها بين مركزي الحضارات التاريخية الأولى : وادي دجلة والفرات من جهة ، ووادي النيل من جهة أخرى. أمّا في العصور اللاحقة ، فقد كان لموقعها الاستراتيجي ومكانتها الدينية والطرق التي تتقاطع فيها وفي جوارها ، أثر كبير في صوغ تاريخها.

لكن فلسطين ، ومن موقعها الجغرافي أيضا ، لم تكن محط أنظار هجرات قبائل وشعوب للاستقرار بها ، ولا نقطة تبادل تجاري وحضاري فحسب ، بل كانت أيضا ممرّا للجيوش في حملاتها المتبادلة وساحة للمعارك بين العمالقة. لذلك ، وطوال تاريخها ، كانت فلسطين عرضة لضغوط سياسية من جميع الاتجاهات ، وكجزء عضوي من بلاد الشام ، ظلت عنصرا مهما في الصراعات أو التحالفات الداخلية فيها. وبينما كانت قبائل الصحراء تتوغل فيها ، وخصوصا عندما تكون السلطة المركزية فيها ضعيفة ، للإفادة من أراضيها والاستقرار والتحوّل إلى الزراعة ، كانت سواحلها عرضة لغزوات من البحر بهدف السيطرة على الداخل السوري ، الذي كانت له أهمية تجارية دولية طوال العصور. وبعد نشوء الإمبراطوريات الكبيرة في العراق ومصر أصبحت فلسطين ، ولفترات طويلة ، ممرا لجيوشها في صراعاتها بشأن السيادة والسيطرة على هذا الجسر الواصل / الفاصل بينها. وعلاقة فلسطين بهذين القطبين قديمة قدم التاريخ ؛ وبالنسبة إلى مصر فقد كانت قائمة منذ ما قبل التاريخ. فالطريق الذي يعبر سيناء مزروع بالمحطات والآبار لخدمة القوافل التجارية ، التي كانت سبيلا للتبادل الحضاري أيضا ، وخصوصا مع الجزء الجنوبي منها.

ومنذ أيام المملكة القديمة في مصر (الألف الثالث قبل الميلاد) ، رأى الفراعنة في فلسطين ، على الأقل في جنوبها ، سدّا يحمي بلادهم من جهة حدودها الضعيفة في الشمال الشرقي ، وعلى الخصوص إزاء تسلل القبائل الرحالة عبرها ، والتوغل في سيناء إلى وادي النيل ، فحاولوا تعزيز نفوذهم فيها ، وإن عبر حكام محليين. وقد تغير هذا المنظور جذريا بعد غزو الهكسوس لمصر ، ومن ثمّ طردهم منها ، أيام السلالة الثامنة عشرة ، التي كان أبرز فراعنتها تحتمس الثالث (١٤٦٨ ـ ١٤٣٦ ق. م.) ، الذي دمر قوة الهكسوس والكنعانيين في معركة مجدو ، واحتل المنطقة حتى نهر الفرات. وفي المقابل ، رأى فيها ملوك أشور وبابل وفارس خشبة القفز إلى مصر واحتلالها ، الأمر الذي تكرر مرات كثيرة. أمّا قوى البحر الأبيض المتوسط ـ اليونان والرومان ـ فقد أرادت السيطرة على فلسطين لتكريس هيمنتها على ذلك البحر من جهة ، وللتوغل في شرقه من أجل وضع اليد على ثروات البلاد الواقعة هناك من جهة أخرى. وفي المقابل ، رأت قوى الشرق ـ وخصوصا العرب ـ في فلسطين أقصر الطرق للوصول

٤

إلى البحر وثرواته التجارية. ونتيجة هذه الأطماع المتضاربة ، وقعت فلسطين تحت حكم هذه القوة أو تلك ، ولفترات طويلة ، مباشرة أو مداورة ، عبر حكام محليين.

إلّا إنه عندما توفرت الظروف الموضوعية ـ غياب قوة خارجية مهيمنة ـ وتواكبت ذاتيا مع قيام حكومة قادرة على فرض الأمن الداخلي ، وبالتالي الاستقرار وصيانة الحدود في وجه الغزاة الصغار ، قامت في فلسطين ممالك استطاعت أن توظف ميزات البلد لمصلحتها. فقامت بدور الوسيط في التجارة الدولية ، كما أصبحت عنصرا فاعلا في السياسة الإقليمية ، سواء بالتحالف مع ممالك أخرى في بلاد الشام ، أو بالتناحر معها في صراع بشأن الموارد والسيطرة على الثروات ومصادرها. ويبرز ذلك في الكثير من الحالات : الهكسوس والعموريين والكنعانيين والإسرائيليين والفينيقيين ، وحتى الدولة الأموية والدولة الصليبية ، وصولا إلى إسرائيل الراهنة. فمن موقعها المتوسط بين شبكتي الطرق ـ البرية والبحرية ـ كان لفلسطين نصيب من التجارة الدولية ، كما في أيام سليمان ، وبعده في فترة ازدهار مملكة الأنباط ، وحتى في أيام مملكة أورشليم اللاتينية (الصليبية). وفي ظل الخلافة الإسلامية ، أصبحت فلسطين جزءا وسطا من دولة عظمى مترامية الأطراف ، وعنصرا مكملا لمحيطها ، متجاوزة كونها حلقة في شبكة بديلة للالتفاف على الطرق التي تمر بقلب الصحراء العربية ، في اتجاه البحر الأحمر.

وبإلقاء نظرة سريعة إلى تعاقب القوى التي حكمت فلسطين ، تبرز التقلبات في تاريخها السياسي ، خلال السنوات الأربعة الآلاف الماضية. فبعد فترة طويلة من النفوذ المصري ، ضعف هذا الحكم فيها خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، وبدأت مرحلة ـ دامت نحو خمسة قرون ـ غابت فيها عن البلد الهيمنة الخارجية ، أسوة ببقية بلاد الشام. وفي هذا الفراغ من القوى الكبرى الإقليمية ، قامت ممالك محلية في كل بلاد الشام ، بما فيها فلسطين : الفلسطيون والفينيقيون والكنعانيون والإسرائيليون والأراميون والعمونيون والمؤابيون والأدوميون وسواهم. وفي فلسطين قامت مملكة داود وسليمان في بداية الألف الأول قبل الميلاد ، لكنها ما لبثت أن انقسمت إلى مملكتي يهودا وإسرائيل (نحو ٩٣٠ ق. م.) إلّا إنه في القرن الثامن قبل الميلاد ، عادت مملكة أشور إلى التوسع الكبير فاحتلت فلسطين ، ودخلت مصر في أيام أسرحدّون (٦٨١ ـ ٦٦٩ ق. م.). وعلى أنقاض أشور قامت بابل ، فاحتل ملكها نبوخذنصّر فلسطين كلها (٥٨٧ ق. م.). لكن الوارث الحقيقي لأشور كان مملكة فارس ، التي غزا ملكها الثاني ، قمبيز (٥٢٥ ق. م.) ، مصر ، وأصبحت فلسطين جزءا من الولاية الفارسية الخامسة ـ عبر نهرا ـ التي عاصمتها دمشق.

٥

وبغزو الإسكندر المقدوني الشرق ، دخلت بلاد الشام في منعطف تاريخي ، وفي دائرة تأثير حضاري جديد ـ اليونانية (الهلينية) ـ وشهدت تحوّلا سكانيا وحضاريا. لقد احتلها اليونان (٣٣٣ ق. م.) ، وهم يحملون لواء الهلينة (نشر الحضارة اليونانية) ، وفي مشروعهم توحيد العالم على أساس قيمها ونمط الحياة الذي أنتجته. واقتتل خلفاء الإسكندر على ميراثه ، وأهملوا إلى حد كبير رسالته ، فشهدت فلسطين صراعا بين البطالسة والسلوقيين بشأنها. وبعد فترة من الفوضى ، ازدهرت البلاد اقتصاديا ، وخبرت استيطانا يونانيا كثيفا ، وحركة عمرانية واسعة ، تمثلت في بناء مدن كثيرة على النمط الهليني (بولس). وورثت روما ملك اليونان وتراثهم ، وتفوقت عليهم في إدارة الدولة. فاحتلت فلسطين (٦٣ ق. م.) ، ونعمت البلاد بفترة من الاستقرار السياسي ، والانتعاش الاقتصادي ، في إطار الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف. وعندما انقسمت هذه الإمبراطورية (٣٩٥ م) ، وقعت فلسطين في الشطر الشرقي منها ـ بيزنطة ـ الذي تبنّى المسيحية ديانة رسمية ، الأمر الذي أعطى فلسطين أهمية خاصة ، وانعكس عليها إيجابا ، بفضل علاقتها بالتراث المسيحي. وعدا فترة قصيرة (٦١١ ـ ٦٢٨ م) ، عندما احتلها الفرس ثانية ، ظلت فلسطين جزءا من الإمبراطورية البيزنطية حتى الفتح العربي (٦٣٦ م).

وفي ظل الدولة الأموية ، التي اتخذت من بلاد الشام قاعدة لها ، وحكمت الأقاليم الواقعة بين إسبانيا في الغرب ، والهند وتركستان في الشرق ، نعمت فلسطين بالازدهار ، كما شهدت استقرار الكثير من القبائل العربية الجديدة بها ، الأمر الذي غيّر طابعها الديموغرافي بصورة جذرية. إلا إنها ، أسوة بغيرها من بلاد الشام ، تراجعت في العصر العباسي ، بل تدهورت الأوضاع فيها إلى الفوضى وعدم الاستقرار. ثم عادت لتحتل بؤرة اهتمام المشرق الإسلامي في أيام مملكة أورشليم اللاتينية ، فحظيت خلال تلك الفترة بقدر وافر من الإعمار ، استمر خلال الحكمين الأيوبي والمملوكي. ثم تحولت مرة أخرى إلى سنجق (مقاطعة) هامشي في العصر العثماني ، الذي امتد أربعة قرون تخللتها فترة من الحكم الذاتي أيام ظاهر العمر الزيداني ، الذي قضى عليه أحمد باشا الجزار في القرن الثامن عشر.

وسلّطت حملة نابليون الأضواء على فلسطين ، بعد فترة طويلة من التغييب تعود إلى ما بعد الحملات الصليبية تقريبا ، واشتدت بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح ، وبالتالي انتقال التجارة بين الشرق الأقصى وأوروبا الغربية إليها. وكان من أهداف حملة نابليون ضرب هذا الطريق ، الذي يعطي بريطانيا الأفضلية على فرنسا ، وإعادة الاعتبار إلى طرق البحر الأبيض المتوسط ، وبالتالي إلى مصر والشرق الأدنى ،

٦

الأمر الذي فيه مصلحة فرنسا كدولة متوسطية.

وجاءت حملة محمد علي لتضع فلسطين في قلب المسألة الشرقية ، أي في بؤرة التنافس الأوروبي بشأن النفوذ في أراضي السلطنة العثمانية ، تمهيدا لاقتسامها. وبعد حفر قناة السويس ، زادت أهمية فلسطين الاستراتيجية كخط دفاع عن ذلك الممر المائي ، الذي أصبح الأهم في العالم. وفي سياق انحلال السلطنة العثمانية من جهة ، وتنامي الإمبريالية الأوروبية من جهة أخرى ، ترافق بروز الحركة القومية العربية مع نشوء الفكرة الصهيونية ، وما نجم عنها من مشروع استيطاني يرمي إلى تشكيل مركز إقليمي مضاد لحركة شعوب المنطقة. وفي الحرب العالمية الأولى ، صدر وعد بلفور ، وبعد الحرب العالمية الثانية قام الكيان الصهيوني (إسرائيل) ؛ وبذلك تشكّلت القضية الفلسطينية التي لا تزال تعتبر القضية المركزية للأمة العربية. وقد غطت هذه القضية تاريخ فلسطين ، بل تاريخ الوطن العربي ، الحديث.

ومن المرجح أن الاسم فلسطين مشتق من اللفظ فلستيا ـ بلاد الفلسطيين ؛ وهم من شعوب البحر التي نزلتها في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد. والاسم يشير إلى الجزء الجنوبي من ساحلها ، حيث أقام هؤلاء ممالكهم ، ثم جرى تعميمه على البلد كله لاحقا. ولا يرد في المصادر المتوفرة من الشرق الأدنى القديم ذكر لاسمها قبل الألف الثاني قبل الميلاد. ولعل وثائق إبلا (تل مرديخ) تكشف معلومات جديدة في هذا الموضوع. وفي النصوص الأكادية منذ نهاية الألف الثالث قبل الميلاد ، يشار إلى بلاد الشام عامة باسم أمورو (عمورو) ، الذي يفسر على أنه يعني الأرض الغربية ـ غرب الفرات. كما تطلق هذه المصادر اسم بحر أمورو على البحر الأبيض المتوسط ، وهو الاسم الذي أطلق على سكان هذه البلاد ، فأصبحوا يعرفون به أيضا ـ «العموريون».

ومنذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد ، يرد اسم أرض ـ كنعان للدلالة على فلسطين ، كلها أو بعضها ، وذلك في وثائق ماري (تل الحريري) والالاخ (تل عطشانة) من سورية ، ووثائق نوزي من العراق. والصيغة الواردة فيها هي كناخي أو كناخنا ، التي تقارب الصيغة المعروفة من تل العمارنة في مصر. أمّا المصادر الأشورية (القرن الثامن قبل الميلاد) ، فتورد الاسم فلستيا ، أو فلستو ، للدلالة على الجزء الجنوبي من الساحل الفلسطيني ، كما ترد صيغة مشابهة في التوراة : إيرتس بلشتيم (أرض الفلسطيين). والاسم فلسطين (بالستاين) ، باللهجة الأرامية ، أول ما يرد عند المؤرخ اليوناني هيرودوتس (٤٨٤ ـ ٤٢٠ ق. م.) ، بصيغة «سورية الفلسطينية» ، للدلالة على الجزء الجنوبي من سورية. وقد عممه رسميا الإمبراطور هدريان (١١٧ ـ

٧

١٣٨ م) ، وتكرّس الاسم في العصر البيزنطي ، وفي التراث المسيحي ، فأصبح الاسم الكنسي الرسمي مضافا إليه صفة الأرض المقدسة ، التي أصبحت أحيانا تستعمل اسما للبلد. ولاحقا اعتمده العرب بعد الفتح ، فدعوا جزءا منها جند فلسطين ، الذي هو أحد «كور» بلاد الشام. وقد عرفت أجزاء متعددة من البلاد بأسماء مختلفة عبر العصور ، كما دعاها اليهود إيرتس يسرائيل (أرض ـ إسرائيل) ، وهو الاسم الذي شاع استعماله بينهم بعد خراب الهيكل الثاني (٧٠ م).

وكما عرفت فلسطين أسماء متعددة ، هكذا أيضا عاصمتها القدس ، المدينة المقدسة للديانات التوحيدية الثلاث ـ اليهودية والمسيحية والإسلامية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عدد كبير من مدنها القديمة ، إذ أطلقت عليها أسماء متعددة عبر العصور. والاسم الأقدم المعروف للقدس هو أوروشالم ، نسبة إلى إله السلم الكنعاني. وهو يرد بهذه الصيغة ، أو القريبة منها ، في الوثائق المصرية منذ بداية الألف الثاني قبل الميلاد ، في رسائل تل العمارنة. وفي التوراة ، يرد الاسم بالصيغة العبرية يروشالايم ، كما يشار إليها بأسماء صفة متعددة. ومن أسماء القدس يبوس ، نسبة إلى اليبوسيين (الكنعانيين) الذين أسسوها وبنوا فيها حصنا. واستولى عليها منهم الملك داود ، فصارت تعرف باسمه مدينة داود ، بعد أن عمّرها ووسعها ، وجعلها عاصمة ملكه. وأطلق عليها هدريان اسم إيليا كابيتولينا (١٣٥ م) ، عندما أعاد بناءها كمدينة رومانية بعد خرابها. إلّا إن قسطنطين الكبير (٣٠٦ ـ ٣٣٧ م) ، أعاد إليها اسم أورشليم بعد اعتناقه المسيحية. ومنذ الفتح العربي ، استبدل اسم إيليا ببيت المقدس ، والقدس ، حتى يومنا هذا.

ولم تكتشف في فلسطين حتى الآن وثائق مكتوبة من عصور التاريخ الأولى ، أسوة بالعراق ومصر ، وحتى سورية. لكن يستبعد ألّا تكون الكتابة معروفة فيها خلال تلك الفترة ، لما كانت تربطها بتلك الأقطار من علاقات حضارية وسياسية وتجارية. والاكتشافات الأخيرة في إبلا (تل مرديخ) قد غيّرت الصورة التي كانت قائمة حتى وقت قريب ، من أن الكتابة ، التي عرفت في مصر والعراق منذ الألف الرابع قبل الميلاد ، لم تدخل بلاد الشام إلّا بعد فترة طويلة. فقد أبرزت المكتشفات في أرشيف إبلا أن الكتابة عرفت في سورية قبل ذلك بألف عام ، الأمر الذي يضعها في مصاف المركزين الحضاريين الآخرين في الشرق الأدنى القديم. وإلى أن يتم اكتشاف مثل هذه الوثائق في فلسطين ، سيبقى البحث في تاريخها القديم يعتمد كثيرا على ما تزوده مصادر الأقطار المجاورة ، فضلا عن الدراسات الأثرية ، التي وفرت حتى الآن معلومات مهمة جدا عن فلسطين في تلك العصور. وهي على العموم تؤكد أهميتها في محيطها ، حضاريا وسياسيا واقتصاديا ، كجزء عضوي وحيوي من بلاد الشام ،

٨

المتفاعلة بدورها ، وفي المجالات جميعها ، مع العراق شرقا ، ومصر غربا ، وأناضوليا شمالا ، بينما حدودها مفتوحة جنوبا على الجزيرة العربية.

ومن أقدم المصادر التاريخية المتوفرة عن فلسطين كتاب هيرودوتس «الحوليات» من القرن الخامس قبل الميلاد ، و «برديات زينون» من القرن الثالث قبل الميلاد ، التي تعتبر من الوثائق المهمة عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين في تلك الفترة. وهناك تواريخ بوليبيوس (٢٠٨ ـ ١٢٦ ق. م.) ، وديودوروس الصقلي (٨٠ ـ ٢٠ ق. م.) ، وبليني (٢٣ ـ ٧٩ م) ، وكذلك كتاب الجغرافي سترابو (٢١ ـ ٦٣ م). ومن العصر البيزنطي ، كتب أسقف قيساريا ـ يوسيبيوس (٢٦٣ ـ ٣٣٩ م تقريبا) ـ عن حياة الإمبراطور قسطنطين ، وتاريخ الكنيسة ، وكتاب الجغرافيا. كما تتوفر معلومات مهمة عن فلسطين في كتب المؤرخين والجغرافيين والرحالة العرب : البلاذري والإصطخري وابن حوقل وابن الفقيه والمقدسي ، وغيرهم كثيرون. كما وصفها رحالة غربيون ، قصدوها بدوافع دينية منذ العصور الوسطى ، ومنهم : السويسري فابري الذي زارها في فترة ١٤٨٠ ـ ١٤٨٣ م ، والألماني وولف في سنة ١٥٧٥ م ، والهولندي ريلاند في سنة ١٧٠٩ م ، والألماني سيتزن في سنة ١٨٠٠ م ، والسويسري بوركهارت في فترة ١٨٠١ ـ ١٨١٢ م. وقام روبنسون ، وزميله سميث ، بتسجيل أسماء المواقع الفلسطينية ، بعد زيارتين قصيرتين في سنة ١٨٣٨ م وسنة ١٨٥٢ م.

ونظرا إلى أهمية فلسطين الدينية ، فقد أولاها علماء الآثار واللاهوت والتاريخ والجغرافيا اهتماما كبيرا ، بالنسبة إلى غيرها من الأقطار العربية المحيطة. كما أنها جذبت ، عبر العصور ، الحجاج والرحالة الذين دوّنوا في كتبهم ومذكراتهم ما شاهدوه فيها. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر ، وفي سياق التنافس الأوروبي بشأن النفوذ في الشرق الأوسط ، شكلت فلسطين بؤرة اهتمام لجمعيات الاستكشاف الأثرية والتوراتية والجغرافية وغيرها. وفي القرن العشرين ، راحت الدراسات المتعلقة بآثار فلسطين تتخذ طابعا منهجيا وعلميا. وإذ أثرى ذلك معرفتنا بالبلد من نواح مختلفة ، إلّا إنه أوجد في الوقت نفسه الكثير من الإرباكات أيضا ، نجمت عن الأهواء الدينية والسياسية التي حكمت أعمال بعض الباحثين. وفضلا عن الدوافع الدينية ، التي جرى التعبير عنها في الدراسات التوراتية ، وعلم الآثار التوراتي ، وذلك بمحاولة إخضاع تاريخ فلسطين وآثارها للنص التوراتي ، فقد أدّت الصهيونية دورا كبيرا في تشويه هذا التاريخ ، قديما وحديثا ، بما يخدم أغراضها. وهذا يلقي عبأ كبيرا على الباحثين العرب لتلافيه ، وخصوصا نتيجة ندرة الدراسات العربية الرصينة في هذا الموضوع الذي يهم الوطن العربي كافة.

٩
١٠

الفصل الأول

عصور ما قبل التاريخ

(العصور الحجريّة)

مقدمة

تثبت اللّقى التي صودف أن عثر عليها مبعثرة في مواقع معينة ، وكذلك نتائج المسوحات الأثرية السطحية لمناطق محددة ، ومن بعدها الحفريات المبرمجة في عدد من المواقع والمغاور ، أن فلسطين كانت ، منذ أقدم العصور المعروفة لوجود الإنسان العاقل (Homo Sapiens) على الأرض ، مهدا لحضارات مادية مهمة في عصور ما قبل التاريخ. وقد اتسمت هذه الحضارات أحيانا بطابع خاص ، فتميّزت بأنماط فريدة من التطور المادي والإنتاج الاجتماعي ، غير أنها ظلت على العموم جزءا لا ينفصل عن محيطها ـ الهلال الخصيب.

تضافرت عدة عوامل طبيعية ـ الموقع والبيئة والطوبوغرافيا والمناخ ـ لتوفر الأوضاع الملائمة لازدهار تلك الحضارات المادية البدائية ، التي اعتمد الإنسان فيها على الصيد ، كصيد الحيوانات أو الأسماك ، وعلى جمع الغذاء من النباتات التي تنمو وتثمر في المحيط ، وفق الأوضاع المناخية الملائمة. وبذلك تمكنت جماعات بشرية بدائية من إنتاج قيم مادية وحضارية ظلت على العموم ، وخلال فترات زمنية طويلة ، رهنا بقدرة تلك الجماعات على التكيف وفق متغيرات المحيط ، والتي بدورها ظل مصيرها مرتبطا ـ إلى حد كبير ـ بعوامل البيئة المسيطرة. فموقع فلسطين ـ على الجسر البري الذي يصل إفريقيا بآسيا ، ثم بأوروبا ـ جعل منها ممرا لانتقال الإنسان ، كما الحيوان والنبات ، وانتشاره من إفريقيا ، التي يقول العلماء المختصون إنها كانت موطن المخلوقات البشرية الأولى. والتشكيلة الواسعة من الملامح الطبيعية والجغرافية ساهمت في بروز أنماط من التجمعات البشرية ، قادرة على تطوير حضارة مادية ، نتيجة الأوضاع المناخية التي سادت عصر البليستوسين الجيولوجي ، الذي يعتبره العلماء عصر ظهور الإنسان وانتشاره على الأرض ، قبل أكثر من ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١ عام.

ومنذ عصر البليستوسين الأدنى ، الذي يبدو أنه ساد فلسطين فيه مناخ أكثر رطوبة

١١

وحرارة ، تتكشف أمامنا حضارة إنسانية حجرية استمرت بلا انقطاع طوال العصور الحجرية الطويلة ، المعروفة بما قبل التاريخ. ويستدل على الأوضاع المناخية التي واكبت ظهور الجماعات البشرية في فلسطين منذ بداية البليستوسين وحتى نهاية العصور الحجرية من بقايا عظام الحيوانات الاستوائية التي أظهرتها حفريات أجريت في مواقع سكن إنسان ذلك العصر ، كما من مخلفاته الأخرى المتنوعة ، بكل ما تخلل تلك الفترة الطويلة من تقلبات مناخية. والأكيد أنه نجم عن تلك التقلبات المناخية تبدلات جوهرية في نمط حياة الإنسان ، أكانت لناحية تكيفه وفق قوى الطبيعة ، أم لناحية صراعه معها ، وبالتالي ، ما تسبب به ذلك من أزمات حياتية ، وضعته أمام خيارات صعبة من الإقامة أو الرحيل. ولعلها اضطرته إلى تطوير تقنيات حضارته المادية بما تستدعيه الحاجة إلى التغلب على الإشكالات التي تولّدها الطبيعة القاسية. وفي الواقع ، فإنه عبر اقتفاء أثر تلك التقنيات ومخلفاتها بوسائل علمية حديثة ومتنوعة ، توصل العلماء إلى تقسيم تلك العصور الطويلة إلى مراحل زمنية تقريبية. ومن خلال المسوحات والحفريات الأثرية ، وعبر ما توصل إليه العلماء المختصون من تقنيات وأساليب لدراسة مخلفات الإنسان القديم ، تبرز عصور ما قبل التاريخ المديدة تشكيلات حضارية ومادية وروحية ، تطورت وارتقت بمرور الزمن. وباستعمال تلك التقنيات والأساليب العلمية الحديثة ، أمكن تقسيم تلك العصور إلى مراحل. وجرى تحديدها بفترات زمنية تقريبية ، هي في العرف الشائع كما يلي :

١ ـ العصر الحجري القديم : (الباليوليت)(Paleolithic Age) :

وهو يمتد منذ أكثر من ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١ سنة ق. م. إلى ما قبل ٠٠٠ ، ١٠ سنة ق. م. ويقسم في العادة إلى ثلاث مراحل فرعية :

أ ـ الباليوليت الأدنى من ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١ سنة ق. م. إلى ٠٠٠ ، ٧٠ سنة ق. م.

ب ـ الباليوليت الأوسط من ٠٠٠ ، ٧٠ سنة ق. م. إلى ٠٠٠ ، ٣٥ سنة ق. م.

ج ـ الباليوليت الأعلى من ٠٠٠ ، ٣٥ سنة ق. م. إلى ٠٠٠ ، ١٠ سنة ق. م.

٢ ـ العصر الحجري الوسيط : (الميزوليت)(Mesolithic Age) :

وهو يمتد من ٠٠٠ ، ١٠ سنة ق. م. إلى ٧٥٠٠ سنة ق. م. (وهناك من يقسمه إلى أدنى وأعلى).

٣ ـ العصر الحجري الحديث : (النيوليت)(Neolithic Age) :

وهو يمتد من ٧٥٠٠ سنة ق. م. إلى ٤٥٠٠ سنة ق. م. (وهناك من يقسمه إلى

١٢

ما قبل الفخار وما بعده).

٤ ـ العصر الحجري ـ النحاسي : (الكالكوليت)(Chalcolithic Age) :

وهو يمتد من ٤٥٠٠ سنة ق. م. إلى ٣١٠٠ سنة ق. م. (وهناك من يجد فيه مراحل متعددة).

ولا بدّ من التشديد على أن هذا التقسيم التراتبي ليس إلّا مصطلحا لتوالي طبقات تراكمية لآثار الإنسان في عصور ما قبل التاريخ ، من الأسفل إلى الأعلى ، وهو لا يزال مسألة قابلة للاختلاف بين العلماء في هذا الحقل ، إلّا إنه يعطي تصوّرا عاما لمسار تطور الحضارة المادية لإنسان العصور الحجرية.

أولا : العصر الحجري القديم

(الباليوليت)

أ) الباليوليت الأدنى

اكتشفت مخلفات الإنسان القديم الذي عاش في هذا العصر في فلسطين أول مرة سنة ١٩٣٤ م في موقع بالقرب من مدينة بيت لحم ، وذلك في أثناء حفر بئر على عمق ١٥ مترا. ويبدو أن المكان استعمل لذبح الحيوانات المصيدة ، إذ عثر في الموقع على عظام متحجرة (مستحاثات) لحيوانات استوائية ، كالفهد ووحيد القرن والظبي والزرافة والفيل ، تعود إلى عصر البليستوسين الجيولوجي الأدنى. وكان عدد من هذه العظام قد كسر بشكل طولي لاستخراج النخاع منه ، كما يبدو ، الأمر الذي يدل على أن الفاعل هو إنسان. وبناء على ذلك تمّ الافتراض أن الإنسان قد عمّر فلسطين في هذا العصر ، واستمر في تطوير حضارته المادية والروحية فيها خلال العصور اللاحقة ، متأثرا ـ بطبيعة الحال ـ بمحيطه ، ومؤثرا فيه.

أمّا مواقع إقامة الإنسان الأكثر قدما في فلسطين ، فقد عثر عليها في غور الأردن ، إذ اكتشف في موقع العبيدية إلى الجنوب الغربي من بحيرة طبرية ، وعلى عمق ٢٠٥ أمتار تحت مستوى سطح البحر ، أقدم ما عرفه علم الآثار حتى الآن من المخلفات البشرية في العالم ، ما عدا صخور إفريقيا الوسطى. وقد وجدت هذه المخلفات المتحجرة مطوية في طبقات جيولوجية ، تشكلت بعد استقرار الإنسان هناك في عصر البليستوسين الأدنى. وتشير هذه التشكيلات الجيولوجية إلى أن الموقع كان يقوم على شاطىء بحيرة ، اختفت بفعل عوامل الطبيعة في الانهدام السوري ـ

١٣

الإفريقي ، الذي يشكل غور الأردن جزءا منه.

ويعتقد العلماء أن الإنسان الذي عمّر المواقع الأولى المعروفة في فلسطين ومحيطها هو من الجنس المعروف باسم الإنسان منتصب القامة (Homo Erectus) وهو أرقى من سلفه الإنسان الصانع (Homo Habilis) ، الذي لم تكتشف آثاره خارج إفريقيا حتى الآن بصورة مؤكدة. ويعيد الباحثون ظهور الإنسان منتصب القامة على الأرض إلى ما قبل ٠٠٠ ، ٥٠٠ ، ١ عام. وهو جنس متوسط القامة ، ذو دماغ متطور ، امتلك معرفة تصنيع مختلف الأدوات ، الحجرية والخشبية والعظمية ، ليجعل منها سلاحا ، أو ليستخدمها في قضاء حاجاته الحياتية الأخرى. وكان يصنّعها عن سابق تصوّر وتصميم ، بحيث يتلاءم شكلها مع الهدف المتوخى منها قدر الإمكان.

دلّت المخلفات الأثرية للإنسان منتصب القامة على أنه عاش على جانبي نهر الأردن ، وعند مجريي نهري الليطاني والعاصي في لبنان وسورية ، كما في مواقع أخرى بعيدة مثل الأزرق في الأردن ، وكذلك في موقع بردا بلكا في العراق. وفي سورية ، عثر على آثار هذا الإنسان في ست مرخو ، عند مصب النهر الكبير الشمالي ، واللطامنة في مجرى نهر العاصي عند حماة ، وفي القرماشي ويبرود والكوم. وفي لبنان ، وجدت آثاره في موقع جب جنّين ، في البقاع ، وبين صور وصيدا على الساحل. أمّا في فلسطين ، ففضلا عن موقع العبيدية ، وجدت آثاره في جسر بنات يعقوب ، وعلى مقربة من بحيرة الحولة ، وفي وادي قطفة في الجنوب ، كما في مغارة الطابون في جبال الكرمل ، وغيرها على الساحل.

ويعيد العلماء الطبقات الأثرية السفلى في موقع العبيدية إلى نحو مليون عام ، وهم يميزون بين مرحلتين في التراكمات التي غطتها المياه لاحقا : الأولى ، وهي تشبه الطبقة الثانية في أولدوفاي (Olduvai) ـ تنزانيا ، وأدواتها على العموم من البازلت ؛ والثانية ، تنتمي إلى حضارة أبيفيل (Abbeville Culture) في فرنسا ، وأدواتها من الشظايا الحجرية. وتوحي المخلفات البشرية والبقايا الحيوانية من موقع العبيدية ، وكذلك من امتداده شمالا وجنوبا ، بعلاقة حضارية بدائية مع إفريقيا ، تمحورت في غور الأردن ، وانتشرت على جانبيه ، شرقا وغربا ، فوصلت إلى شاطىء البحر غربا وإلى الأزرق في الأردن شرقا.

واستخلص بعض الباحثين ، استنادا إلى ما تمّ اكتشافه من مخلفات بشرية وبقايا حيوانية ـ يعيدها البعض إلى ما قبل مليون عام مضى ـ أن الجسر البري ، الذي يشكل الطرف الجنوبي الغربي للهلال الخصيب ، كان الممر الذي عبرت منه طلائع الإنسان الأولى من إفريقيا إلى آسيا وأوروبا ، ربما إلى جانب ممرات أخرى في الغرب

١٤

والشرق. وعدا كون هذه المكتشفات توحي بأصول إفريقية ، فإنها في سورية الكبرى تتشابه في الصفات وفي تقنيات التصنيع ، التي يقسمها البعض إلى ثلاث مراحل قديمة جدا هي : الكلاكتونية والأشولية والتياسية ، ومنهم من يجمعها في الأشولية.

وتبقى معرفتنا بحياة الإنسان في هذا العصر الحجري الموغل في القدم ضئيلة. وهي أقرب إلى الفرضيات منها إلى الحقائق الملموسة ، وتتلاءم ضآلتها طردا مع طول الفترة الزمنية التي يغطيها هذا العصر. والاعتقاد السائد هو أن هذا الإنسان البدائي عاش متنقلا ، يجمع قوته مما توفره الطبيعة ويصارع ، على ضعفه ، ليبقى في قيد الحياة ، ويستعين بتطور دماغه ليعوض من هشاشة بنيته الجسدية بالنسبة إلى عالم الأحياء المحيط به. ويعثر على آثاره منتشرة على سطح الأرض ، وفي جوفها ، كما في بعض الملاجىء والمغاور. لكنه بمرور الزمن أصبح أكثر قدرة على التحكم في مصيره في مواجهة عوامل الطبيعة ، فراح يصنع أدوات صيده ، ويعمل ذهنه في ابتداع السبل لضمان أمنه ووقاية جسده ، والدفاع عن نفسه وتوفير مقومات حياته ، في إطار الجماعات الصغيرة التي تشكلت بالتكاثر عبر الزمن.

وعلى الرغم من ضآلة المعلومات عن هذا العصر الطويل ، وانحصار المواقع المعروفة منه أصلا في الانهدام السوري ـ الإفريقي. (مجاري أنهار الأردن والليطاني والعاصي) وبنسبة أقل في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، فإنها تؤكد أهمية هذا العصر في تطور الجنس البشري. فالإنسان منتصب القامة (هومو إركتوس) كان أول الأجناس البشرية ذات الدماغ الكبير التي احتلت الشرق الأدنى القديم بالتدريج ، وعاش متنقلا في أودية الأنهار والمناطق الساحلية ، وكان أول من تكيف وفق المناخ المعتدل والمناخ البارد.

ولا يزال الموطن الأصلي لهذا الإنسان غير معروف على وجه التأكيد ، مع وجود مؤشرات إلى إفريقيا. وهناك مسائل كثيرة ، مثل بنيته الجسدية ، أو حضارته المادية ، لا تزال من دون حلول مرضية في هذه المرحلة من تطور البحث العلمي في هذا المجال. ولكن الأكيد أنه وقع في نهاية هذا العصر ، أي قبل نحو ٠٠٠ ، ١٠٠ عام ، تطور تقني مهم في جميع أنحاء الشرق الأدنى ، يبرز في التجهيز المادي لهذا الإنسان ، وفي تطوير أساليب صيده ، وتنظيم مواقع سكنه ، وفي ابتكار وسائل إشعال النار واستخدامها لمصلحته.

١٥

ب) الباليوليت الأوسط

في هذا العصر الحجري القديم الأوسط ، وقبل نحو ٠٠٠ ، ١٠٠ عام ، ظهر جنس جديد من البشر في العالم ، واكتشفت آثاره في عدة مناطق من الشرق الأدنى ، امتدت من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى العراق. ويتضح من مخلفات هذا الإنسان المادية ، ومن الهياكل العظيمة المتحجرة التي اكتشفت في المغاور ، حيث دفن موتاه ، أنه كان أكثر تطورا من سلفه منتصب القامة ، أكان في شكله الفيزيولوجي ، أم في إنجازاته الحضارية ـ المادية والروحية. وقد أثار اكتشافه قضايا علمية لا تزال موضوع نقاش بين العلماء ، حول علاقته بالإنسان العاقل (Homo Sapiens) ، وكيفية ، زمان ومكان تطوره إلى المرحلة الأرقى ـ فيزيولوجيا وحضاريا.

أثار عثور العالم الألماني يان فوهلروت (J.Fuhlrott) سنة ١٨٥٦ م ، على هياكل عظيمة متحجرة لهذا الإنسان ضجة كبيرة في أوساط العلماء ، وخصوصا أنه جاء متزامنا مع نشر داروين كتابه «أصل الأنواع». وكان ذلك في وادي نياندر (Neander) بالقرب من دوسلدورف في ألمانيا ، وعليه سمي إنسان النياندرتال Homo ـ) (Neanderthalensis. وتتابعت الاكتشافات ، وخمدت الضجة ، وبرز إنسان جديد ، ذو دماغ كبير نسبيا (١٠٠٠ ـ ١٢٠٠ سم ٣) ووجهه مسطح وأقل بروزا إلى الأمام وحواجبه أقل كثافة من سلفه وجمجمته أكثر استدارة وجبهته أقل تراجعا وميلانا نحو الخلف ، وله ذقن شبه واضح.

وأغلبية مخلفات هذا الإنسان في الشرق الأدنى وجدت في مغاور ، وقلة فقط في مواقع مكشوفة ، الأمر الذي استخلص منه العلماء أنه قد سكن المغاور وأقام فيها بصورة عامة ، وأدار حياته ، كما أدى شعائره الدينية ودفن موتاه. وفضلا عن الكمّ الكبير من بقايا هذا الإنسان التي وجدت في فلسطين بصورة خاصة ، فقد تمّ اكتشاف مثيلها في سورية : كهف الدوّارة وجرف العجلة ، ووادي عفرين ، وفي مغارة شانيدار (جنوب كردستان) في العراق ، ومغارة بيسيتون في غرب إيران ، ورأس الكلب وكسار عقيل في لبنان. والهياكل العظمية المتحجرة التي اكتشفت من هذا العصر في فلسطين تعتبر من اللّقى بالغة الأهمية في علم الآثار ، كونها تحمل صفات متطورة نحو الإنسان العاقل الحالي.

كما أثار اكتشاف النياندرتال في مغاور فلسطين جدلا عنيفا بين العلماء ، وحاروا في مسألة علاقته بقرينه الأوروبي ، وفي أصله ومصيره. ويعود ذلك إلى أن الهياكل العظمية التي اكتشفت في فلسطين تخصّ جنسا بشريا متقدما من الناحية الفيزيولوجية عن الإنسان الذي وجدت عظامه المتحجرة في أوروبا. فهو أقرب إلى الإنسان

١٦

العاقل ، ويحمل ميزات خاصة ، جعلتهم يصنفونه كجنس خاص ، وأطلقوا عليه اسم الإنسان القديم الفلسطيني ، وعرف علميا باسم Palaeo ـ anthropus Palaestiniensis. ومع أنه كان معاصرا لإنسان أوروبا النياندرتالي ، إلّا إنه كان متقدما عليه في حضارته المادية ، وفي تكنولوجيا إنتاجها.

ويستخلص من دراسة العدد الكبير من الهياكل العظمية التي وجدت في شمال فلسطين ، أن الإنسان القديم الفلسطيني (أو الجليلي) كان قصير القامة بالنسبة إلى الإنسان العاقل ويحمل على كتفيه العريضتين جمجمة كبيرة مستطيلة ، عظمها سميك ، وحدقتا العينين واسعتان تحف بهما نتوءات بارزة. أمّا الأنف فمسطح ، وعظام الحنك نافرة صلبة ، والأسنان كبيرة ، وفي الحنك الأسفل ذقن صغير واضح ، والصدر واسع والعضلات ضخمة ، وهو ما يعطيه قوة جسدية كبيرة. واليدان كبيرتان ، لكن عظام الأصابع محدودة الحركة. والفخذ عنده أقصر من الساق ، والظهر يميل إلى الانحناء نحو الأمام ، حيث يبقى الرأس مائلا في هذا الاتجاه.

وتتضارب الآراء في شأن مصير الإنسان القديم الفلسطيني. فهناك من يعتقد أنه تطور ليصبح الإنسان العاقل ، بدليل تطور حضارته المادية ، وتقنية صناعة أدواته الحجرية ، وهو ما يشير إلى تحول طبيعي ومتدرج في هذا الاتجاه. في المقابل ، هناك من يقول بانقراضه من دون خلف ، أو بتزاوجه مع جنس آخر هو الإنسان العاقل ، أو بانتقاله إلى أوروبا وامتزاجه هناك بالنياندرتال المحلي ، أو القضاء عليه ، واحتلال مكانه. وبغياب الدليل على نظرية أفضل ، لا بدّ من القبول حاليا ، بأن النياندرتال الفلسطيني هو الذي تحوّل فيزيولوجيا ، وتطور حضاريا نحو الإنسان العاقل ، الجد المباشر للإنسان الحالي ، وصانع الحضارة بمعناها الشامل.

والإنسان القديم الفلسطيني هو صانع الحضارة الموستيرية في الشرق الأدنى ، وهي الحضارة نفسها التي صنعها النياندرتال في أوروبا ، إلّا إنها تتميّز في فلسطين بتقنية متقدمة ، الأمر الذي يدل على أن نمط حياة الإنسان القديم الفلسطيني كان متقدما على نمط حياة معاصره في أوروبا. وقد وجدت حضارته المادية ، من مقابض ومكاشط متنوعة ، إضافة إلى أدوات عظمية قليلة ، ونصال طويلة ذات ميزات متطورة ومشتركة مع أدوات الإنسان العاقل ، في المغاور وفي جوارها إلى جانب هياكله العظمية ، حيث كان يدفن موتاه. وهو على العموم من سكان المغاور ، وصياد ماهر ، انتقل بنمط حياته من مرحلة الجمع والقطف والاغتذاء بالحيوانات الصغيرة ، وربما الميتة ، إلى مرحلة الصيد الفعلي ؛ وهذا ما يتطلب وجود جماعات بشرية مزوّدة بأسلحة حادة ، وقادرة على اقتناص الحيوانات الضخمة التي كانت منتشرة في الشرق الأدنى.

١٧

ومع أن مواقع الحضارة المادية المكتشفة من هذا العصر (الموستيرية) منتشرة في أنحاء الشرق الأدنى ، إلّا إن الهياكل العظيمة التي تمّ العثور عليها لا تزال حتى الآن محصورة في مغاور جبال الجليل. وكان أولها في مغارة الزطية في وادي العمود ، الذي يصب في بحيرة طبرية ، ثم في مغارة الأميرة في مجرى وادي العمود الأوسط ، ثم اكتشفت هياكل متعددة في مغارتي السخول والطابون في جبال الكرمل ، وهما متقاربتان جدا ، الأمر الذي دعا إلى الاعتقاد أن إحداهما كانت مدفنا لسكان الأخرى في مرحلة ما. وكذلك وجدت هياكل في مغارة القفزة بالقرب من الناصرة. وقد بلغ مجموع هذه الهياكل العشرات ، ومنها ما يحمل ملامح مشتركة للإنسانين ـ النياندرتال والعاقل.

إن الموقع النموذج لآثار إنسان فلسطين القديم هو مغارة الطابون ، في جبال الكرمل الجنوبية ـ الغربية ، وفي جوارها المباشر : مغارة السخول. وقد نقّبت هذه المغارة منذ الثلاثينات من هذا القرن ، وأعيد تنقيبها في السبعينات ، وبسبب الحفريات المنهجية ، أعطت هذه المغارة تراتبية للسويات الأثرية المتواصلة ، منذ الباليوليت الأدنى ، تعلوها ثلاث سويات من الباليوليت الأوسط. وبناء عليه ، فقد ، كشفت اللّقى عن الحضارة اللفلوازية الممهّدة للحضارة الموستيرية ، وهي تمثل المرحلة الأولى والأقدم لحضارة النياندرتال المادية في هذه المنطقة ، ولذلك أطلق بعض العلماء عليها اسم الحضارة الطابونية.

ومهما يكن الأمر ، فالوضع الراهن لمعرفتنا عن إنسان ما قبل التاريخ يشير إلى أن الشرق الأدنى كان في عصر الباليوليت الأوسط مركز الثقل الحضاري والإنساني الأهم. وتدل البقايا الحيوانية في المواقع التي أجريت فيها الحفريات على غنى الثروتين ـ الحيوانية والنباتية. وفي نهاية هذا العصر ، أي قبل نحو ٠٠٠ ، ٣٥ عام ، حدث تغير مناخي جذري ، جعل المنطقة فقيرة في نباتها ، وبالتالي في حيوانها ؛ وهو ما يسميه البعض أزمة الحيوان. وراح الإنسان يقتفي أثر الحيوان نحو غابات أوروبا ، الأمر الذي نقل مركز الثقل الإنساني والحضاري إليها ، كما تكشف عن ذلك الآثار الغزيرة من هذا العصر في أوروبا ، مقارنة بشحّها في الشرق الأدنى في عصر الباليوليت الأعلى.

ج) الباليوليت الأعلى

قبل نحو ٠٠٠ ، ٣٥ عام ، ظهر على المسرح العالمي إنسان جديد ، سرعان ما انتشر في أكثر بقاع الأرض ، وبظهوره دخلت البشرية عصرا جديدا ، يطلق عليه العلماء

١٨

اسم الباليوليت الأعلى ، الذي استمر إلى نحو ٠٠٠ ، ١٠ سنة ق. م. ، وبه انتهى العصر الحجري القديم. ويسمي المختصون هذا الجنس البشري الإنسان العاقل Homo) (Sapiens ، تأكيدا لصلته المباشرة والقريبة بالإنسان الحالي. وفي هذا العصر ، حقق الإنسان إنجازات تقنية جديدة ، قدمت فائدة كبيرة لنمط حياته ، وأثّرت في تقدمه الاقتصادي ، وأغنت حضارته المادية والروحية.

وينظر المختصون باستغراب إلى ظاهرة أن هذا الإنسان لم يزدهر في منطقة ظهوره ، أي الشرق الأدنى ، وتحديدا فلسطين ، بل هاجر شمالا ، إلى أوروبا ، وهناك أبدع حضارة مادية غنية ، وروحية رفيعة المستوى. وبحسب المعلومات الأثرية المتوافرة ، وهي لا تزال حتى الآن فرضية إلى حد كبير ، تبدلت الأدوار الحضارية في هذا العصر. فبعد أن كانت آسيا وإفريقيا تشكلان مركز النشاط الإنساني الرئيسي في الباليوليت الأوسط ، أصبحت أوروبا هي المركز في الباليوليت الأعلى ، حيث حدثت الإنجازات الكبيرة للإنسان الجديد ، وفي الميادين كلها تقريبا ، بينما ظل الشرق الأدنى هامشيا في هذا المجال.

ولا يتفق العلماء على الأسباب الكامنة وراء هذا التبدل في الأدوار الحضارية لإنسان ما قبل التاريخ ، كما يختلفون بشأن مصير الإنسان القديم الفلسطيني ، بين الانقراض ، أو الاختلاط بأجناس أخرى ، أو الارتقاء نحو الإنسان العاقل. ومن أكثر النظريات رواجا تلك التي تقول بانقلاب مناخي في الشرق الأدنى ، تحوّل فيه من الحار ـ الرطب إلى الحار ـ الجاف ، بما استتبعه من فقر نباتي ، وبالتالي هجرة الحيوان ، وفي إثره الإنسان الصياد ، إلى مناطق الغابات الغنية في أوروبا. وبناء عليه ، فقد أطلقت صاحبة هذه النظرية ـ دوروثي بيت (Dorothy Bate) ـ على الظاهرة اسم أزمة الحيوان.

ويتابع الآخذون بنظرية أزمة الحيوان استخلاصهم فيقولون إنه على الرغم من الازدهار الكبير الذي حققه الإنسان الفلسطيني في الباليوليت الأوسط ، والذي ورثت إنجازاته الجماعات اللاحقة ، فقد برزت في نهايته أزمة اقتصادية ، منهم من يسميها الأزمة الاقتصادية الأولى في تاريخ الإنسان القديم ، وامتدت زمنا طويلا ، حتى العصر الحجري الحديث. وهم يعزون هذه الأزمة إلى التقلبات المناخية ، التي حركت سلسلة من الأزمات الحياتية الدورية ، حلتها الجماعات البشرية في معظم الأحيان بالرحيل ، بينما ظلت مجموعات صغيرة ، طورت حضارتها بما تفرضه أحوال الطبيعة الجديدة ، وما نجم عن ذلك من تكيف في أنماط حياتها وتقنيات صناعة أدواتها. فموجة الحر التي اجتاحت المنطقة تسببت ، أولا وقبل كل شيء ، بفقر الغطاء

١٩

النباتي فيها. وبناء عليه ، هجرتها قطعان الحيوانات إلى مناطق نباتية غنية ، وسار الإنسان الصياد في إثرها ، وكما يبدو على شكل قبائل. أمّا من تبقى من تلك القبائل في المنطقة ، فقد وجب عليه الاقتناع بالقليل ، والاعتياد على الأوضاع الجديدة : صيد الحيوانات الصغيرة نسبيا والأسماك ، الأمر الذي أدّى بطبيعة الحال إلى تطوير أدوات الصيد. فهذا التراجع الاقتصادي العام ، ترافق مع ظهور الأدوات الصوانية الصغيرة (Microliths) ، ذات الأشكال الهندسية المتعددة ، التي ركّبت على أنصبة من مواد عضوية كالخشب والعظام والقرون.

ويعتقد العلماء أن الإنسان الذي صنع حضارة الباليوليت الأعلى الراقية ، امتلك صفات جسدية متطورة : دماغا كبيرا لا يقل حجما وأهلية عن دماغ الإنسان الحالي ، وملامح أكثر نعومة ، وهيكلا عظميا شبيها جدا بالذي ينتصب عليه الإنسان الحديث. والواضح أنه كان صاحب يدين ماهرتين ورشيقتين ، بصورة لم يسبق لها مثيل ، الأمر الذي مكّنه من صنع أدوات أكثر تشذيبا من تلك التي صنعها النياندرتال. ويبرز ذلك في صناعة الشفرات الطويلة والجميلة ، التي كانت نتاج تقنيات جديدة ، وعلى درجة عالية من الرقي. وهذه التقنيات تظهر ذكاء ومهارة وخيالا لدى إنسان الباليوليت الأعلى لم تسجّل من قبل ، فوفرت له المزيد من الغذاء.

تميّز هذا الإنسان من سلفه ببناء المساكن ، وإذ لم يهجر المغاور هجرا كاملا ، فإنه تعدّاها إلى إقامة البيوت المستديرة في جوارها. وهذه البيوت ـ كما يظهر ـ عبارة عن أكواخ وخيام ، تقام على مصاطب محفورة ، أو محاطة بالحجارة أو بأكوام التراب. والسقف فيها من جلود الحيوانات ، تقوم على دعائم مائلة ، يشبّهها البعض بخيام الهنود الحمر في أميركا. كما أن هذا الإنسان هو أول من عرف الإضاءة المنزلية مستخدما لذلك سراجا حجريا ، يغذيه بدهن الحيوان. ويقدر الباحثون أن تنوع الأواني المنزلية ، وكذلك تطور أدوات العمل والصيد ، ورقي أغراض الزينة ، تفترض نوعا من التخصص في العمل. وبالتالي قيام المشاغل الحرفية الأولى.

ولعل الإنجازات الأكثر أهمية لإنسان الباليوليت الأعلى في أوروبا ، الذي تفوق على معاصره في الشرق الأدنى ، كما تدل المكتشفات حتى الآن ، تبرز من خلال ميزاته الفكرية والروحية التي لا سابق لها. وهي تتجلى على الخصوص في ميوله الفنية ، التي عبّر عنها بالرسوم الملونة على جدر المغاور العميقة ، والتي تبهر الأنظار بجمالها ودقة تعبيرها ، الأمر الذي يوحي بأهميتها الدينية. والواضح أنه امتلك حسا فنيا ملحوظا في صناعة أدوات الزينة من عقود وأعلاق وأساور ، إذ أتقن نظم الأصداف الملونة ، كما مهر بالحفر على العاج ، واستعمال الأصباغ للأموات والأحياء ، والاعتناء

٢٠