الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

الناصر في الكرك. لكن إسماعيل عاد وثار على أيوب ، متحالفا هذه المرة مع الخوارزمية ، الذين أنزلهم أيوب بلاد الشام ، فاحتلوا أرض الفرنجة المتروكة. فقاتلهم أيوب وهزمهم ، وهرب من أفلت من الخوارزمية والتحق بالمغول ، ثمّ تحوّل أيوب إلى قتال الفرنجة ، فأخذ طبرية وجبل الطور وقلعة شقيف. وبعدها حاصر عسقلان ، ففتحها ودمر أسوارها. وبذلك انحسرت مملكة عكا (سان جان داكر) إلى حدود يافا مرة أخرى. ثم دخل القدس ، فأعاد بناء أسوارها. وانتقل إلى دمشق في ربيع سنة ١٢٤٩ م ، وتوافد عليه الأمراء لتقديم الولاء. وبدا أن الدولة الأيوبية تنهض ثانية. وعندها وافاه فريدريك الثاني بأنباء الحملة الصليبية السابعة ، حملة لويس التاسع ، ملك فرنسا ، (١٢٤٨ ـ ١٢٥٤ م).

وكان لويس التاسع يعد لحملة منذ سنة ١٢٤٧ م لنذر أخذه على نفسه. وخرج سنة ١٢٤٨ م ، وأمضى فصل الشتاء في قبرص ، وفي ربيع سنة ١٢٤٩ م ، توجه إلى مصر. وكانت حملته تحمل طابعا فرنسيا صرفا ، لم تشارك فيها أية قوة أوروبية أخرى ، كما أن الكنيسة كانت بعيدة عنها ، نظرا إلى ضعفها بصورة عامة إزاء الملوك في هذه المرحلة. وكان أيوب قد بلغه الخبر في دمشق ، وقد ألمّ به المرض ، فسارع إلى القاهرة. وإذ كان اتصال أيوب بفريدريك ، من دون جدوى ، فإن لويس أجرى اتصالا مع المغول ، لم يتمخض عن نتائج تذكر. وعلاوة على ذلك ، كانت التنظيمات الصليبية المتعددة ـ فرسان الهيكل والإسبتارية والتيوتون ـ تتصارع بين بعضها البعض. وكذلك مدن إيطاليا ـ فينيسيا وبيزا وجنوة ـ تندلع بينها حرب تجارية ، وصلت حد الاشتباك المسلح ، وخصوصا بين بيزا وجنوة. وكانت المدينة الأقوى ـ فينيسيا ـ لا تنظر بعين الرضى إلى حملة لويس على مصر ، نظرا إلى علاقاتها التجارية القوية معها. في المقابل كان بلاط أيوب يشهد ذروة التآمر بين حاشيته وأعوانه وأمراء جيشه ، إذ أدت زوجته شجرة الدر دورا مركزيا.

وكان احتلال دمياط سهلا على لويس ، فدخلها من دون خسائر كبيرة في ٥ حزيران / يونيو ١٢٤٩ م ، واتخذها مقرا له. في المقابل ، خرج أيوب إلى المنصورة وعسكر فيها. فسار إليه لويس بعد انحسار مياه النيل. وما لبث أيوب أن مات ، وقتل قائد جيشه ، فخر الدين (ابن شيخ الشيوخ) في المعركة ، وتولى مكانه المملوك بيبرس (البندقداري). وراحت كفة القتال تميل لمصلحة المماليك ، فطلب لويس الصلح ، ومبادلة القدس بدمياط. ورفض طورانشاه ، ابن أيوب العرض. وانسحب لويس إلى دمياط ، فكمن له المماليك وأوقعوا به ، وأخذوه مع جيشه أسيرا في ٥ نيسان / أبريل ١٢٥٠ م. ثم قتل المماليك طورانشاه ، ونصّبوا أبرزهم ، أيبك سلطانا ، وزوّجوه شجرة

٢٢١

الدر ، أرملة أيوب وأم ولده الطفل ، خليل الذي أرادت أن تحفظ حقه في ملك أبيه ، بينما هي وصية عليه. ثم قتلها المماليك ، لأنها قتلت أيبك. وعندما أطلق المماليك سراح لويس التاسع ، لقاء فدية كبيرة ، ظل هذا يسعى عبثا للهدف الذي انطلق من أجله. وشكّلت سنة ١٢٥٠ م منعطفا حاسما ، سواء بالنسبة إلى الأيوبيين ، إذ به انتهى ملكهم عمليا ، أو بالنسبة إلى مملكة أورشليم اللاتينية في عكا (سان جان داكر) ، حيث بدأ العد التنازلي لنهايتها أيضا.

وكان طبيعيا ألّا يرضى بنو أيوب بما فعله مماليك الصالح (نجم الدين أيوب) في مصر ، وأن يقاتلوا للاحتفاظ بملكهم. وكان كلما أسرعوا إلى تحقيق ذلك ، قربوا نهايتهم ، وهكذا جرى. ومرة أخرى ، عاد لويس التاسع (الطليق) يستغل التناقضات بين مصر ودمشق ، ولكن من دون جدوى. ولاح في الأفق بصيص أمل للصليبيين من الشرق ـ المغول. ولكن هذا الأمل سرعان ما خاب. فبعد موت الخان الأكبر ، منكوخان ، قرر هولاكو الانسحاب والعودة إلى قره قرم. وكان هذا السفاح قد دخل بغداد (١٢٥٨ م) ، وخربها ، وقتل الخليفة. ثم ما لبث أن توجه إلى بلاد الشام ، فاحتل الجزيرة وحلب ودمشق وغيرها ، وخربها ، وأرسل تهديداته إلى مصر. وبعد عودته إلى بلاده ، ترك جزءا من الجيش مع كتبغا ، بينما الأغلبية عادت معه. واستطاع المماليك ، بقيادة قطز ، إلحاق الهزيمة بالمغول ، أولا في غزة ، ثم في عين جالود ، في وسط مرج ابن عامر. ولم يستطع الصليبيون ، بسبب خلافاتهم الداخلية ، والصراع بين المنظمات العسكرية والمدن الإيطالية التجارية ، الإفادة من الغزو المغولي. ودخلت البلاد عصرا جديدا هو العصر المملوكي (١٢٦٠ م).

السكان والعمران

لقد جمعت فلسطين في القرنين ـ الثاني والثالث عشر ـ الضدين (الأيوبيين والفرنجة) في وحدة صراعية ، وكل حركة من أحد هذين الطرفين استوجبت حركة مضادة من الآخر. وإلقاء نظرة سريعة إلى تاريخ فلسطين في هذه الفترة ، تظهر أن البلد كان ساحة نزال بين الجانبين. والعصر الأيوبي تزامن مع وجود مملكة أورشليم اللاتينية ، في ذروة اتساعها بداية ، ثم بحجمها المقلص. وما عدا فترات قصيرة من المهادنة ، كان الصراع ، بهذه الدرجة من الحدة أو تلك ، هو السمة البارزة للعلاقة بين الأيوبيين ، أو بعضهم ، والفرنجة. وعندما كان هذا الصراع يهدأ ، لا يلبث أن ينفجر النزاع بين أقطاب العائلة الأيوبية. فهذه العائلة الكبيرة ، بعد موت مؤسسها ، صلاح الدين ، اعتبرت الأراضي التي كان يحكمها ، وهي واسعة جدا ، إرثا إقطاعيا جماعيا لها.

٢٢٢

وإذ لم يسد الوئام بين أطراف البيت الأيوبي ، وكثيرا ما تخاصموا واقتتلوا ، وحتى تحالف بعضهم مع الفرنجة ضد بعض ، فقد ظلت «رابطة الدم» بينهم هي الأقوى على العموم. ولذلك نجدهم يتخاصمون ويتقاتلون ، ثم لا يلبثون أن يتصالحوا وفق ترتيب جديد ، من إعادة تقسيم التركة. وعلى العموم ، ظلت فلسطين في قلب صراعات بني أيوب ـ خارجيا وداخليا.

وبعد النصر في حطين ، استرد صلاح الدين فلسطين معظمها ، ورحل عنها الفرنجة ، وتجمعوا في الساحل. وعمد صلاح الدين إلى إعمار المناطق التي وقعت في يده ، فأحياها. وفضلا عن الفلاحين الذين عادوا ليزرعوا الأرض في الريف ، جاء العمال والحرفيون والتجار والأئمة والأساتذة. وبدلا من الإقطاع الفرنجي نصّب صلاح الدين بعض قادة جنده أولياء للأمور ، ونزل معهم عسكرهم وعيالهم. وجاءت قبائل عربية موالية له واستقرت في الريف ، وتحولت إلى الزراعة. وبرز ذلك في منطقة القدس ، التي أولاها صلاح الدين اهتمامه. وكان يعلم أن الفرنجة لم يتخلوا عن فكرة استعادتها. وفي أثناء وجودهم فيها ، أقاموا علاقات مع القبائل في محيطها. فاستبدلهم صلاح الدين بقبائل أخرى ، وأسكنها القدس ومحيطها. ومن هذه القبائل التي قاتلت معه ونزلت القدس ـ بنو الحارث وبنو مرّة وبنو سعد وبنو زيد والجرامنة.

وشهدت فلسطين في أيام الأيوبيين التابعين ازدهارا عاما ، في الزراعة كما في التجارة والصناعة. فالمعاهدات التي عقدت بين الطرفين أتاحت قيام علاقات تجارية واسعة النطاق. ومع أن جزءا من تجارة فلسطين أيام الفرنجة قد تحوّل إلى مصر ، فإن نشاط موانىء الساحل السوري لم يتوقف. وكانت أساطيل المدن التجارية الأوروبية تتنقل بحرية بين الساحلين ـ السوري والمصري ـ من جهة ، والسواحل الأوروبية ، من جهة أخرى. وحتى في زمن الحرب لم تتوقف تلك الحركة لاهتمام الجانبين بهذه التجارة المربحة بين الشرق الأقصى والغرب ، والتي أدّى البحر الأبيض المتوسط دورا مركزيا فيها ، وكانت الموانىء على ساحله الشرقي مراكز أساسية للتبادل فيها. وكذلك ، فقد اهتم الأيوبيون ، أو بعضهم على الأقل (العادل والكامل مثلا) بالعمارة وبناء الطرق والجسور وقنوات المياه وغيرها ، الأمر الذي شجع على تطوير الزراعة والصناعة والتجارة والعمالة. كما أولى الأيوبيون الأمن على الطريق عنايتهم الخاصة ، وكبحوا قبائل البدو عن تهديدها ، كما وطنوا عددا كبيرا منها ، فاشتغل أفرادها بالزراعة والتجارة.

وأولى الأيوبيون عناية خاصة لإعادة الطابع الإسلامي إلى القدس ، بعد التغييرات التي طرأت عليها أيام الفرنجة. فصلاح الدين بداية ، وحالما دخلها ،

٢٢٣

أزال كل المعالم التي أدخلها الصليبيون إلى منطقة الحرم. ثم أعاد بناء محراب المسجد الأقصى ، كما أحضر المنبر الخشبي المرصع بالعاج ، والمصنوع بدقة فنية رائعة ، والذي كان أمر بصنعه نور الدين زنكي ، فنصبه في المسجد الأقصى. ثمّ جدد بناء الصخرة المشرفة وزين داخلها. وأسس الخانقاه الصلاحية للصوفية والمدرسة الصلاحية لفقهاء الشافعية والزاوية الخثنية ، كما أنشأ البيمارستان الصلاحي ، وغيرها. وجلب العادل ماء نبع العروب إلى القدس ، وبنى الأفضل الجامع العمري. وقد أكثر من جاء بعدهم من العمارة في القدس. كما بنى الأيوبيون الكثير من القلاع داخل البلاد ، ورمموا الحصون ، وأسوار المدن التي دمرت في الحرب.

سابعا : العصر المملوكي

لقد عرفت الخلافة «نظام المماليك» العسكري منذ أيام العباسيين ، وتميّز بينهم المعتصم (٨٣٣ ـ ٨٤٢ م) ، الذي أكثر من اقتناء المماليك الأتراك. وعبر العصور ، وفي العواصم المتعددة ، تشكّلت كتائب عسكرية من قوميات متنوعة ، أصبحت عماد الجيش فيها. ومن صفوف هذا الجيش ، برز قادة أسسوا سلالات حاكمة فعلا ، وتابعة للخليفة العباسي اسما. ولكن بعد زوال ملك الأيوبيين ، اتخذ هذا النظام وضعا متميزا ، له قواعده وأصوله ، ونظامه وتراتبيته ، وفقا لأحدث ما توصل إليه الفن الحربي في ذلك العصر. والملك الصالح نجم الدين أيوب ، وبعد تجربته السلبية مع الخوارزمية ، اقتنى أعدادا كبيرة من المماليك الأتراك «الكبتشاك» ليتصدى لخصومه الأيوبيين ، من جهة ، ولأعدائه الصليبيين والمغول ، من جهة أخرى. فكانت نهاية ملك بني أيوب على أيديهم ، وأسسوا ملكا في مصر وبلاد الشام ، دام أكثر من قرنين ونصف.

وفي العصر الأيوبي ، وسواء لقتال الفرنجة ، أو للصراعات الداخلية ، تطور الجيش ، كمّا ونوعا. فحجمه أصبح كبيرا ، ومادته البشرية الأساسية كانت من الرقيق الأبيض التركي. وكذلك تطورت الفنون العسكرية وأدوات القتال ، الأمر الذي استلزم الكثير من التدريب ، وبذلك شاع احتراف العمل العسكري. والمماليك نموذج متقدم لهذا الاحتراف في عصرهم. وفي حالته المتقدمة ، كان الإعداد لهذا الاحتراف يبدأ بالطفولة ، ويتدرج إلى الفروسية والالتحاق بالجيش. وداخل الجيش سادت تراتبية دقيقة ، يجري الترقي فيها وفقا لقوانين صارمة. والجيش المملوكي ، لم يعتمد على الكم بقدر ما ركز على النوع. وإذ كان الأساس في تربية المماليك تهيئتهم للقتال ، فسرعان ما تطلع بعض البارزين فيهم إلى السلطة ، فظلت الحلقة المركزية من القادة

٢٢٤

بؤرة للتآمر من أجل الوصول إلى الموقع الأول.

لقد تمكن المماليك من إنقاذ مصر في اللحظة الحرجة. فالحملة الصليبية السابعة أفلحت في احتلال دمياط والتقدم نحو القاهرة ، بينما الصالح أيوب على فراش الموت ، والصراعات بين الأيوبيين محتدمة ، والتناحر بين قادة القطاعات المملوكية مستشرية. وفي ساعة الشدة ، مات أيوب. وإزاء الخطر الداهم ، حزم المماليك أمرهم ، واستشرسوا في قتال الفرنجة ، فهزموهم. وبرز في هذا القتال بيبرس (البندقداري) ، المؤسس الحقيقي لدولة المماليك. ومنذ أيام أيوب كان المماليك قد تغلغلوا في مواقع السلطة ، وأصبح الأمر في أيديهم. وبعد موته ، فقدوا الشرعية للحكم ، فنصّبوا طورانشاه ابنه سلطانا اسميا. وعندما عمد هذا إلى كبحهم وفرض هيبته عليهم ، قتلوه ، ونصّبوا شجرة الدر سلطانة ، لمدة ثمانين يوما. وبعدها انتقلت السلطنة إلى المملوك عز الدين أيبك (أتابك العساكر) ، الذي تزوجها ، واستحوذ على السلطنة منها (١٢٥٠ ـ ١٢٥٧ م). وتآمرت شجرة الدر عليه وقتلته ، فرد المماليك على فعلتها بقتلها.

وفي خضم الفوضى بالقاهرة بعد موت الصالح أيوب ، وتولي المماليك السلطة ، واندلاع الصراع بينهم وبين أيوبيي الشام ، حاول لويس التاسع استغلال الفرصة لمصلحته ، بعد أن أطلق سراحه لقاء فدية ، واستقر في عكا ، تشبثا منه بتحقيق حلمه الذي حفزه إلى القيام بحملته على مصر. وعندما سعى الملك الناصر يوسف ، صاحب حلب ، وحفيد صلاح الدين ، للتحالف مع لويس ضد المماليك ، وجدها فرصة ، لكنه عدل عنها بعد أن هدده أيبك بقتل الأسرى الفرنجة لديه ، وعددهم ٠٠٠ ، ١٢. وتقدم الناصر يوسف بمفرده إلى مصر ، فهزمه أيبك واضطره إلى التراجع. فانقلب لويس إلى جانب المماليك ، وعقد معهم معاهدة ضد الناصر يوسف. لكن تدخل الخليفة العباسي بين الأيوبيين والمماليك حال دون القتال بينهما ، وفوّت على لويس الفرصة. واعترف الأيوبيون بحكم المماليك في مصر ، واكتفوا بما لديهم في بلاد الشام (١٢٥٣ م). وإزاء هذه التطورات من جهة ، وخيبة أمله من التحالف مع المغول ، من جهة أخرى ، قرر لويس مغادرة عكا والعودة إلى بلاده (١٢٥٤ م).

لكن الإمارات الأيوبية في بلاد الشام لم تعمّر طويلا. ففي هذه الأثناء كان المغول ، بقيادة هولاكو ، يتقدمون من الشرق في اتجاه بغداد. فحاصروها ودخلوها (١٢٥٨ م) ، وخربوها وقضوا على الخلافة العباسية فيها. وكان دخولهم إليها ضربة قوية للحضارة العربية بصورة عامة ، إذ ارتكبوا الفظائع ، ودمروا المؤسسات وأحرقوا المكتبات ... إلخ. وبعد بغداد ، تقدم المغول إلى بلاد الشام ، فاحتلوا حلب ،

٢٢٥

وألحقوها ببغداد (١٢٦٠ م). ومنها ساروا إلى دمشق التي لقيت المصير نفسه. وهرب الناصر يوسف إلى غزة ، وهناك تخلى عنه معظم جيشه ، فعاد واستسلم للمغول ، الذين وعدوه بإعادة ملكه إليه. وبينما هذا السفاح ، هولاكو يعد للزحف على مصر ، وقد أرسل يهدد السلطان قطز الذي تولى الحكم في القاهرة (١٢٥٩ ـ ١٢٦٠ م) ، إذ به يقرر الانسحاب شرقا في اتجاه عاصمة المغول ـ قره قرم ـ ومعه أغلبية جيشه. إلّا إنه ترك خلفه أحد قادته ، كتبغا نوين ، ومعه جزء من الجيش ، والأمر باستئناف غزو مصر. وإزاء هذا الخطر ، عمل قطز على لمّ شمل قوات المسلمين ، فانضم إليه بيبرس ، عائدا من بلاد الشام ، وكذلك فلول عساكر الناصر يوسف الأيوبية.

وتقدم قطز على رأس جيشه لملاقاة المغول ، وفي مقدمته بيبرس. فاصطدم هذا الأخير بطلائع المغول عند غزة ، وقاتلهم وهزمهم. وتابع المماليك المسيرة بعد أن تجمعت قواتهم في عين جالود (وسط مرج ابن عامر). وهناك التقى الجيشان في معركة شرسة في ٦ أيلول / سبتمبر ١٢٦٠ م ، انتصر فيها المماليك ، وأنزلوا بالمغول هزيمة لم يعرفوها من قبل. ودحر المغول ، ووقع قائدهم كتبغا أسيرا وقتل. أمّا فلول جيشهم فقد فرت ، بينما المماليك تطاردها. وهذه المعركة الحاسمة غيّرت وجه التاريخ في غرب آسيا. فبينما كبحت تقدم المغول ، نقلت مركز الثقل السياسي في الشرق الإسلامي إلى القاهرة ، وعلى رأس الحكم فيها المماليك. وهؤلاء ، بعد أن زجّهم الغزو المغولي في شؤون بلاد الشام ، واكتشفوا أهميتها الاستراتيجية لمصر ، عقدوا العزم على تصفية الوجود الفرنجي فيها. وكان السلطان الكبير ، بيبرس هو الذي وضع أسس هذا المشروع ، وقاده بنفسه ، بعد أن اغتال قطز ، وتولى الحكم ، بلقب الملك الظاهر (١٢٦٠ ـ ١٢٧٧ م).

وإضافة إلى القوة العسكرية التي استحوذ عليها عبر القتال ، والتي حسمت الأمر لمصلحته في الصراع بشأن السلطة بين المماليك ، توخّى بيبرس أن يضفي على حكمه شرعية رسمية وشعبية. فاستدعى أحد العباسيين الناجين من مجازر المغول ، المستنصر بالله وبايعه خليفة في القاهرة ، تحت مراقبته. أمّا الشرعية الشعبية ، فقد جاءته عبر قتال الفرنجة. وعلى هذا الصعيد ، اكتسب بيبرس شهرة لا تقل عن شهرة صلاح الدين ، وفي القصص الشعبي كانت سمعة بيبرس أكبر. ولكي يتفرغ لقتال الفرنجة ، كان عليه أن يضمن الجناح الشرقي ـ المغول ـ وأن يؤمن قاعدة نشاطه ، بتصفية جيوب الأيوبيين. وكان المغول قد قضوا على الإمارات الأيوبية القوية في سورية. فهادن بيبرس الفرنجة من دون أن يطمئنهم. واتجه نحو إمارة الكرك ، بعد أن تأكد من انكفاء المغول عن غزو غربي آسيا. فأخذ الشوبك (١٢٦١ م) ، وبعدها الكرك

٢٢٦

الحصينة (١٢٦٣ م). وعندما استتب له الأمر ، وفرغ من ترتيب أمور ملكه الداخلية ، تفرغ بيبرس لمقارعة الفرنجة. ومثله مثل صلاح الدين ، قضى بيبرس وهو يقاتل بقايا الفرنجة في الشرق.

بعد الكرك ، توجه بيبرس إلى عكا ، وحاول أخذها ، فلم ينجح (١٢٦٤ م). وفي السنة التالية (١٢٦٥ م) ، تحرك من مصر ، فأخذ قيساريا وحيفا وأرسوف والقاقون. وفي سنة ١٢٦٦ م أخذ قلعة صفد الحصينة من أيدي الفرسان الهيكليين. وفي سنة ١٢٦٧ م عاد وحاصر عكا ولم يفلح في دخولها ، واقتنع بضرورة وضع خطة ذات أثر بعيد ، تعزل عكا وتقطع أوصالها قبل أخذها. وفي سنة ١٢٦٨ م توجه شمالا ، فأخذ قلعة الشقيف وهونين وتبنين ، وأخيرا أسقط أنطاكيا ـ الإمارة الصليبية الثانية. وكانت يافا قد استسلمت له ، فأمر بتدمير حصون الساحل وأسوار مدنه ، وفي المقابل ، ترميم قلاع الداخل ، وذلك للحؤول دون عودة الفرنجة إلى الساحل والتحصن فيه ، بينما يتمركز جيش المماليك في قلاع الداخل. فرمم قلعة القاقون ، لموقعها الاستراتيجي ، ومن ثم أعاد بناء قلعة صفد. وجعلها مركزا للنيابة ، يتبع لها معظم فلسطين. وآخر فتوح بيبرس في فلسطين كان قلعة القرين (مونتفورت) الحصينة ، وكانت مقر الفرسان التيوتون ، وموقعا مهما في شبكة الدفاع عن عكا (١٢٧١ م).

وبعد سقوط قلعة القرين ، عقد بيبرس هدنة لمدة عشر سنوات ، بداية مع صور ، ولاحقا مع عكا ذاتها. ويبدو أنه اقتنع بأن عكا ، في الأوضاع الحالية ، يستعصي عليه أخذها ، ما دامت أبوابها مفتوحة لأساطيل الفرنجة ، من قبرص وأوروبا ، وهو لا يملك أسطولا لإحكام الحصار عليها. وتوفي بيبرس في دمشق (١٢٧٧ م) ، وهو في ذروة نشاطه ، ولعله سقي السم ، ودفن بالقرب من قبر صلاح الدين ، حيث أقيمت لاحقا المكتبة الظاهرية. واكتسب بيبرس شهرة واسعة ، وتحولت أخباره إلى ملاحم شعبية ، يتداولها القصاص والحكواتية في الندوات الخاصة والعامة. وكان قبل موته أوصى بالسلطنة إلى ابنه الملك السعيد بركة ، الذي ما لبث أن تخلى عنها لأخيه الطفل سلامش. فخلعه قلاوون (الألفي) ، وتولى السلطنة بلقب الملك المنصور سيف الدين قلاوون (١٢٨٠ ـ ١٢٩٠ م) ، والذي أسس السلالة الأطول حكما في دولة المماليك. وفي أيام قلاوون ، كان الحدث الأبرز في بلاد الشام هو إسقاط إمارة طرابلس. فبعد توليه السلطة ، توجه قلاوون إلى فلسطين ، وفيها استقبل وفدا من عكا ، جاء ليفاوض على تمديد الهدنة المعقودة مع بيبرس لعشرة أعوام أخر. فتم ذلك بين الطرفين ، وعقد بعدها بفترة قصيرة هدنة مماثلة مع إمارة طرابلس. وأهم بنود الهدنة

٢٢٧

التي عقدت مع مملكة عكا (١٢٨٣ م) كانت ما يلي : ١) مدة الهدنة عشرة أعوام وعشرة أشهر وعشرة أيام ؛ ٢) منح التجار من رعايا السلطان الأمن وحرية العمل التجاري في عكا والبلاد الساحلية ؛ ٣) توقف الفرنجة عن الاعتداء على أراضي دولة السلطان ؛ ٤) لا يجدد الفرنجة في عكا وعتليت وصيدا حصنا ولا سورا ؛ ٥) تبادل الرعايا الفارين ضمن شروط محددة ؛ ٦) حرية الملاحة وتقديم العون إلى السفن الجانحة ، والمحافظة على محتويات السفن لتسليمها إلى أصحابها أو من يلوذ بهم ؛ ٧) يتولى فرنجة عكا إنذار السلطان وإعلامه بأي تحرك أوروبي مضاد له ، وكذلك بالنسبة إلى تحركات المغول ؛ ٨) يضمن السلطان حماية عكا وعتليت من أعمال القرصنة ؛ ٩) السماح للحجاج الأوروبيين بالوصول إلى الأماكن المقدسة ، وضمان أمنهم وسلامتهم وحرية تعبدهم.

ويبدو أن أوضاع قلاوون الداخلية ، وتكريس نفسه سلطانا بعد بيبرس ، وما نجم عن ذلك من خلافات ومنازعات ، من جهة ، وازدياد النشاط المغولي مجدّدا ، وما قد تتمخض عنه الاتصالات بين المغول والفرنجة من تحالف ، من جهة أخرى ، دفعت قلاوون إلى إبرام الاتفاق مع عكا وطرابلس. وقد حانت له الفرصة للتخلي عن الاتفاق مع طرابلس ، عندما أقدم حاكمها على نهب بضائع مجموعة من التجار المسلمين وأسر بعضهم. فانتهز قلاوون الحادث ، وكانت جيوشه على استعداد ، بعد أن تغلب على التمرد الخطير الذي قام به سنقر (الأشقر) في دمشق ، وتحرك نحو طرابلس ، وفرض عليها الحصار. وبعد قتال عنيف ، دخلها عنوة (١٢٨٩ م). وبذلك قضى قلاوون على الإمارة الصليبية الثالثة ، ولم يبق منها إلّا عكا (سان جان داكر) ـ مدينة معزولة ، تنتظر نضوج الأوضاع لاقتحامها وتصفية الوجود الفرنجي في الشرق. وبعد سقوط طرابلس ، وصلت مجموعات إيطالية إلى عكا ، حيث اشتدت الصراعات داخلها بين الكومونات والتنظيمات المتعددة. وفي خضم الفوضى ، جرى الاعتداء على التجار المسلمين في المدينة ، فوجد قلاوون بذلك الفرصة الملائمة للتخلي عن المعاهدة مع عكا ، ومهاجمتها. وتهيّأ السلطان للخروج على رأس جيشه ، لكن المرض اشتد به ومات سنة ١٢٩٠ م. وكان ابنه وولي عهده ، علي قد سبقه. وقد تردد قلاوون في تعيين الأشرف خليل وليّا للعهد ، لأنه لم يتمتع بشعبية بين المماليك ، ولكن الأشرف خليل استطاع السيطرة على الوضع وتثبيت أقدامه في السلطة. ولامتصاص النقمة في أوساط المماليك ، ولاكتساب الشرعية الشعبية ، سارع الأشرف إلى الزحف على عكا ، وحاصرها ، واشتد القتال ، ودخلها أخيرا ، بعد أن جمع كل ما لديه من قوات وعتاد في ١٨ أيار / مايو ١٢٩١ م. وبعدها استولى

٢٢٨

المماليك على صيدا وبيروت وصور وعتليت وطرطوس ، وبذلك أنهوا آخر قلاع الفرنجة في الشرق ، وتفردوا بحكم فلسطين (١٢٩٢ م).

الإدارة المملوكية

بعد النصر في عين جالود ، تقدم قطز إلى دمشق. فأخذها وجعلها نيابة ، مغيّرا بذلك التنظيم الإداري الذي كان قائما زمن الأيوبيين. والنائب ـ القائم على أمور الإقليم ـ هو ممثل السلطان فيه. والنيابة تضم عددا من الأقضية ، على كل منها وال. وإلى نيابة دمشق ضم قطز الأراضي كلها التي أخذها في بلاد الشام ، بما فيها القدس. وبعد أن فتح بيبرس صفد ، جعلها نيابة قائمة بذاتها ، تتبع لها أجزاء من شمال فلسطين وجنوب لبنان. وقد أوليت صفد أهمية ، نظرا إلى موقعها الاستراتيجي ، ولأنها ظلت لفترة طويلة مرتكز العمل المملوكي في مواجهة ما تبقى للفرنجة من مواقع على الساحل ، وخصوصا عكا. ولذلك جرى ترميم قلعة صفد الكبيرة وتوسيعها. وفي أيام الناصر محمد بن قلاوون ، الذي اعتلى الحكم ثلاث مرات متفرقة ، أصبحت غزة نيابة مستقلة (١٣١١ م). ثم جعل السلطان الظاهر برقوق القدس نيابة ثالثة في فلسطين سنة ١٣٩٣ م. وبينما انتقل مركز الثقل السياسي والعسكري والإداري إلى صفد ، ظلت القدس المركز الديني والثقافي.

وكانت نيابة صفد تضم عددا من الولايات ، منها : أرنون (الشقيف) وتبنين وصور وعكا وعتليت والناصرة وطبرية والشاغور (الجليل الأسفل) وجنين ، وأحيانا بيسان. أمّا نيابة غزة ، فقد كانت تضم عموما : ولاية الداروم (دير البلح) وولاية البر (النقب) وبيت جبرين والرملة واللد والقاقون. ونيابة القدس تتبعها ولايتا الخليل ونابلس ، وأحيانا الرملة. وفي قمة هرم النيابة نائب السلطنة ، وهو ممثل السلطان ، ويكون في العادة بمرتبة «مقدّم ألف». ويليه ، ولكن بصورة منفصلة عنه ، نائب القلعة ، ومهمته شؤون القلعة ، عدة وعتادا ورجالا وإدارة ، ويعيّنه السلطان. وعلى كل مدينة وال ، هو بالأساس صاحب الشرطة فيها ، ومسؤوليته الحفاظ على الأمن. وفي كل نيابة ناظر لبيت المال ، وعدد من الموظفين الكبار في الشؤون المدنية ـ حجاب وكتّاب (دوادار) ... إلخ. وفي الشؤون الدينية ـ نظارة الحرم والخطابة والوقف والقضاء ومشيخة المدارس ... إلخ.

وعلى العكس من الأيوبيين الذين قسموا الولايات بين أفراد العائلة ، عيّن سلاطين المماليك كبار قادة الجيش نوابا في النيابات ، وأقطعوهم ، بحسب مراتبهم ، أرضا تكون لهم «خبزا» ـ أي مصدر دخل. وهذا «الإقطاع العسكري» يتباين عن

٢٢٩

سابقه ، إذ لا يجوز توارثه ، على الأقل بصورة نظرية. ولا غرو في ذلك ، فالمماليك شكّلوا من أنفسهم طبقة عسكرية حاكمة ، لم تكتسب فيها الوراثة شرعية تتمتع بإجماع. ولذلك كثرت في الدولة الانقلابات ، وخصوصا في القمة. ولضمان أرضهم ومداخيلهم ، عمد الكثيرون من المماليك إلى «وقف» أملاكهم ، سواء على المؤسسات العامة ـ المساجد والمزارات والمدارس والمشافي وغيرها ـ أو على أبنائهم (الوقف الذري) من بعدهم. وقد انتشرت هذه الظاهرة في العصر المملوكي ، في جميع أنحاء الدولة ، بصورة لم يسبق لها مثيل. وكذلك ، أقطع المماليك مشايخ القبائل والعشائر أرضا ، ظلت ملكا مشاعا للقبائل. والإقطاع ، في أشكاله جميعها ، لم يلغ الملكية الخاصة ، وانحصر بأملاك الدولة ، التي كانت على العموم الأوسع والأجود.

وإذ ظلت الزراعة عماد الاقتصاد في الدولة المملوكية ، فإن التجارة ـ الداخلية والخارجية ـ ازدهرت في أيامهم الأولى كثيرا ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصناعة. وعلى العموم ، نشط التبادل التجاري بين الأقاليم ، وكذلك مع الخارج. ونظرا إلى ما كانت تدره من أرباح ، عبر الضرائب والمكوس ، على البضائع والأسواق والجسور والمحطات الحدودية ، فقد أولى المماليك التجارة عناية كبيرة. فاجتهدوا في الحفاظ على الأمن ، أكان ذلك على الطرق ، أو في الأسواق والموانىء ، وبنوا الجسور ووسعوا الطرق ، وأقاموا الخانات والفنادق والأسواق. وتطورت الخدمات التجارية ، أكان ذلك من ناحية النظام المالي ، أو إقامة المؤسسات المصرفية والوكالات التجارية. ولم تنقطع في العصر المملوكي التجارة مع المدن الأوروبية ، وخصوصا الإيطالية ، التي عقدت اتفاقات مع الدولة ، وظلت أساطيلها تجوب البحر ، وتؤم الموانىء ، التي أقام تجار أوروبا فيها «قيسريات» وخانات ووكالات تجارية خاصة بهم. كما أن سيل الحجاج إلى الأماكن المقدسة لم ينقطع.

ويلفت النظر اهتمام سلاطين المماليك وأمرائهم ببناء الأماكن الدينية والمعاهد التعليمية والمؤسسات الاجتماعية. ويتضح من المصادر أن هؤلاء نظروا إلى رجال الدين والفقهاء والمشايخ ورجال العلم نظرة إجلال. ولعل كونهم طبقة عسكرية حاكمة ، تملك الكثير من المال والقليل من المعرفة في هذه الحقول ، جعلها تعوّض عن هذا النقص في البذل السخي لإقامة هذه المنشآت. ولقد أكثر المماليك من هذه المباني ، وأغدقوا عليها الأوقاف ، وبذلوا الأموال الوفيرة على تجميل عمارتها ، وتزيين داخلها وظاهرها. وانتشر ذلك في جميع أنحاء ملكهم ، ونالت القدس قسطا وافرا منها. فازدهرت فيها الدراسات القرآنية والفقهية واللغوية والرياضية والطبية.

٢٣٠

وبعد دخول التتر إلى بغداد ، رحل الكثيرون من رجال العلم في بغداد إلى القدس ، وأقاموا فيها ، فاستوعبتهم المؤسسات ، وتبعهم طلاب العلم. وإضافة إلى هذه المؤسسات ، اعتنى المماليك بتزيين المدينة ـ مداخلها ومساجدها وقبابها وعماراتها وسبل الماء فيها وأسواقها ... إلخ.

ومعظم أروقة الحرم القدسي الشريف بنيت في أيام المماليك. كذلك ، وإضافة إلى المدرستين المعروفتين ـ الصلاحية والمعظمية (اللتين بناهما صلاح الدين والمعظم الأيوبيان) ، أقام المماليك عددا كبيرا من المدارس ، منها : الدوادارية والوجيهية والسلامية والكريمية والتنكزية والأمينية والملكية والفارسية والخاثونية والباسطية والحسنية والعثمانية والجوهرية والأشرفية والجاولية. ومن الزوايا الصوفية ، بنى المماليك الخانقاه الفخرية وزاوية المغاربة والزاوية البسطامية والرباط المنصوري ورباط علاء الدين البصير. ويذكر أن المماليك اهتموا بالمشايخ الصوفية ، وعرف منهم الشيخان ـ المجنون والياس ـ منذ أيام بيبرس ، وبرز بعدهما كثيرون. وخان السلطان وسبيل قايتباي ، من المعالم الجميلة. وفي القدس عدد من الحمامات ، يعود بناؤه إلى أيام المماليك ، وكذلك البيمارستانات والأسواق والفنادق ... إلخ.

لقد وصل المماليك إلى السلطة كطبقة عسكرية ، وبصعوبة اكتسبوا شرعية الحكم من خلال التصدي للفرنجة ، من جهة ، وللمغول ، من جهة أخرى ، وحققوا نجاحات كبيرة على الصعيدين. وعندما انحسر الغزو المغولي ، وتراجع الخطر الفرنجي ، ظل المماليك في السلطة ، وأوغلوا في تنظيمهم العسكري ، ولكن من دون مشروع قتالي يبرر ذلك. وإذ استطاعوا بصورة عامة أن يقمعوا كل تحرك شعبي ضدهم ، فإنه في غياب المعايير العسكرية ، وبالتالي الأحقية في الوصول إلى الموقع الأول ، دبّ الخلاف في صفوفهم ، واستشرت الصراعات بين الطامعين بالسلطة من قادتهم. فبعد السلاطين الكبار الأوائل ، الذين تميّزوا بقدراتهم العسكرية والتنظيمية ـ قطز وبيبرس وقلاوون والأشرف خليل بن قلاوون والناصر محمد بن قلاوون ـ توالت سلسلة طويلة من سلالة قلاوون على السلطنة ، لم يتميّز أفرادها بكفاءات ملحوظة ، وبدأت دولتهم في الهبوط.

ففي أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون ، الذي اعتلى العرش ثلاث مرات ، إذ خلعه الأمراء مرتين ، وحكم فترة أطول من أي مملوك آخر (١٢٩٣ ـ ١٢٩٤ و ١٢٩٨ ـ ١٣٠٨ و ١٣٠٩ ـ ١٣٤٠ م) ، ألحق المغول (الإيلخانيون) هزيمة بالجيش المملوكي في ٢٣ كانون الأول / ديسمبر ١٢٩٩ م ، إلى الشرق من حمص. وكان ذلك

٢٣١

أيام غازان خان محمود ، الذي في أيامه اعتنق المغول الإسلام. وكانت تلك الغزوة الأخيرة الخطيرة التي قام بها المغول ضد المماليك. وبعدها راحت مسألة تحالفهم مع الفرنجة تتراجع ، وإن لم تنقطع تماما. وفي المقابل ، راحت العلاقات بين المماليك وبيزنطة تتوثق ، بعد أن كان قلاوون قد أقامها ، في إثر انتصاره على المغول (١٢٨٠ م). وفي تلك الغزوة ، ضرب المغول شمال سورية ، ودخلوا دمشق ، ثم رحلوا عنها. وبعد ثلاث سنوات (١٣٠٢ م) ، هزم المغول للمرة الأخيرة في مرج الصّفر بالقرب من دمشق. ولم يجرؤ بعدها أحد من ورثة غازان على مهاجمة دولة المماليك.

والناصر محمد ، السلطان الأعرج ، قصير القامة ، عرف بحبه للحياة السعيدة والتبذير. وفي أيامه ، وصل حكم المماليك إلى الذروة في أعمال الفن والعمارة. فأسرف في إقامة الأبنية المتعددة : قصور ومساجد ومدارس ورباطات وقنوات ماء ، وغيرها. وقد أدّى ذلك إلى إفراغ خزينة الدولة ، فعمد الناصر إلى زيادة الضرائب وإعادة توزيع الأراضي وتشجيع التجارة ، للحصول على الأموال. لكن هذه الإجراءات كانت ذات أثر موقت فقط. وبعد موته ، انفجرت الاضطرابات الداخلية ، بين المماليك والناس ، من جهة ، وبين هؤلاء أنفسهم ، من جهة أخرى. وزاد الأمور سوءا القحط الذي أصاب البلاد ، ثم تبعه الطاعون. وهذا الوباء الذي أصاب أوروبا وخربها (١٣٤٨ ـ ١٣٤٩ م). لم يوفر الشرق. وفي مصر استمر نحو سبعة أعوام ، حصد خلالها أرواح مئات الآلاف ، بل الملايين ، كما يؤكد مؤرخو العصر. وما عدا فترات قصيرة بعد الناصر ، حيث صادف قيام سلطان نشط ، كانت المرحلة اللاحقة لموته في تدهور مستمر ، وظلت دولة المماليك تنتظر قيام دولة قوية تنهي وجودها المقيت.

وانتقال الحكم من المماليك البحرية ـ الأتراك ـ إلى المماليك البرجية ـ الشراكس (١٣٨٢ م) ـ على يد السلطان الظاهر سيف الدين برقوق ، لم يعدل الأوضاع ، بل زادها سوءا. واعتراض البرجية على وراثة السلطنة لم يوصل إليها الأفضل دائما ، وإنما في الأغلب الأقدر على حبك المؤامرات والاغتيال وشراء الأتباع ، وشتى صور التحايل. وفي عهدهم تواترت الانقلابات ، وعمت الفوضى ، فاضطرب الأمن وساءت أحوال الناس. ومن ضمن ثلاثة وعشرين سلطانا برجيا ، حكموا لمدة ١٣٤ عاما ، حكم تسعة منهم ١٢٤ عاما وهم : برقوق وفرج والمؤيد شيخ وبارسباي وجقمق وإينال وخوشقدم وقايتباي وقانصوه الغوري. وبذلك يكون معدل حكم الآخرين أقلّ من عام واحد. وفي سعيهم لقطع الطريق على وراثة السلطنة

٢٣٢

والاستئثار بالحكم ، طور المماليك البرجية «الخشداشية» (رفقة التربية في الطباق) ، والتي تدهورت لاحقا لتجعل من أعضائها عصابة ، تدعم هذا الأمير أو ذاك ، وتتناحر على السلطة والجاه والمال.

وتميّزت فترة حكم المماليك البرجية بالفساد ، ومن قمة هرم السلطة إلى قاعدتها. وعرف الكثيرون من السلاطين بالجهل والعسف ، فكان منهم من لم يحسن الكلام بالعربية ، ومن لا يفقه من علوم الدين شيئا. وأمّا نشاطهم العمراني ، وكذلك صراعاتهم وشراء الذمم ، فقد اضطرتهم إلى البحث عن مصادر المال بالوسائل كلها. فزادوا الضرائب واحتكروا الأسواق (الطرح) وصادروا المحاصيل وظلموا الناس واستبدوا بهم ، ففرت أعداد منهم إلى الريف والجبال. وكما نالت فلسطين قسطها من محاسن الحكم الملوكي ، كذلك طالها نصيبها من مساوئهم. ومنذ بداية القرن الخامس عشر ، راحت أحوالها تسوء بصورة عامة. ولكنها شهدت فترة من الهدوء والانتعاش النسبي في أثناء سلطنة بارسباي (١٤٢٢ ـ ١٤٣٨ م) ، وخلفه جقمق (١٤٣٨ ـ ١٤٥٣ م). وفي النصف الثاني من القرن الخامس عشر ، تردى الوضع كثيرا في بلاد الشام ، وزاد ظلم المماليك في الناس بذريعة الحرب مع «العثمانيين». وكان الناس ينتظرون خلاصهم من ظلم المماليك على أيدي الأتراك من بني عثمان.

بعد التراجع الكبير الذي أصابها في أثناء الاحتلال الفرنجي ، عادت الكثافة السكانية العربية في فلسطين وتعززت في العصر الأيوبي ، لكنها بلغت حدودا أكبر أيام المماليك الأولى. ففلسطين ، أسوة ببلاد الشام كلها ومصر ، استقبلت أعدادا كبيرة من المهاجرين ، العرب وسواهم ، ومن الطبقات والفئات الاجتماعية المتعددة ، الذين اضطرهم الغزو المغولي البربري إلى البحث عن ملجأ آمن من التنكيل ، فشكّلت الأراضي الواقعة تحت حكم المماليك بؤرة جذب إلى هؤلاء. كما أن إعادة بناء مدن الداخل الفلسطيني ، وتوزيع أراضي الفرنجة على مالكين جدد ، والازدهار الذي نعمت به البلاد ، وخصوصا القدس وصفد ، جلبت إلى البلاد أعدادا كبيرة من السكان. غير أنه منذ منتصف القرن الرابع عشر ، عادت هذه الكثافة السكانية إلى التراجع ، وذلك لتضافر عوامل سلبية ، ذاتية وموضوعية. فتدهور أوضاع الحكم المملوكي عامة ، ترافق مع سلسلة من الكوارث الطبيعية ـ الوباء والقحط ـ ليكبح النمو السكاني ، وليفرض عليه انحسارا كبيرا ، تقلص بسببه عدد السكان في البلد كثيرا.

والطاعون الذي ضرب العالم كله في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي ، أصاب الشرق واقتصّ ضريبة عالية جدّا بالأرواح. وتذكر المصادر العربية تفشي هذا المرض في القرن الخامس عشر مرات عدة في السنوات ١٤٣٨ و ١٤٦٩ و ١٤٧٦

٢٣٣

و ١٤٩٢ م. وتتحدث تلك المصادر عن اجتياح الجراد للمنطقة (١٤٨٤ م) ، وعن هزتين أرضيتين مدمرتين (١٤٥٨ و ١٤٩٧ م). كما تورد المصادر ذكر سنوات القحط والجفاف الشديدين. وكل هذا ، إضافة إلى الحروب الداخلية بين المماليك أنفسهم ، والخارجية مع التتر ، تيمورلنك سنة ١٤٠٠ م ومع العثمانيين في آسيا الصغرى ، ترك البلد بحالة متردية جدا عشية سقوطها في أيدي الأتراك العثمانيين في بداية القرن السادس عشر. لقد شهدت فلسطين ازدهارا عربيا أيام الأيوبيين والمماليك ، وهم يتصدون للوجود الفرنجي. وعندما تمت تصفية هذا الوجود ، راح البلد يتراجع. وبتحوله من ساحة حشد ضد عدو خارجي ، إلى ساحة صراع داخلي ، أصاب البلد الكثير من الخراب وتدهور الأوضاع عامة. لقد كانت الفترة الأخيرة من الحكم المملوكي من أسوأ فترات التاريخ المعروفة في فلسطين.

٢٣٤

المراجع

باللغة العربية

ـ توفيق ، عمر كمال. «مقدمات العدوان الصليبي على الشرق العربي». الإسكندرية ، ١٩٦٧.

ـ دجاني ـ شكيل ، هادية وبرهان الدجاني (تحرير). «الصراع الإسلامي ـ الفرنجي على فلسطين في القرون الوسطى». بيروت ، ١٩٩٤.

ـ العدوي ، إبراهيم أحمد. «الأمويون والبيزنطيون». الطبعة الثانية. القاهرة ، ١٩٦٣.

ـ عراف ، شكري. «جندا فلسطين والأردن في الأدب الجغرافي الإسلامي». القدس ، ١٩٩٢.

ـ غوانمة ، يوسف. «تاريخ نيابة بيت المقدس في العصر المملوكي». عمان ، ١٩٨٢.

ـ ماجد ، عبد المنعم. «التاريخ السياسي للدولة العربية». الطبعة الثالثة. القاهرة ، ١٩٦٥.

ـ «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم العام. ٤ مجلدات. دمشق ، ١٩٨٤.

ـ ـ ، القسم الثاني (الدراسات الخاصة). ٦ مجلدات. بيروت ، ١٩٩٠.

باللغات الأجنبية

٢٣٥
٢٣٦

الفصل الخامس

العصر العثماني

أولا : الاحتلال العثماني

منذ تأسيس سلطنة روم السلجوقية في القرن الحادي عشر الميلادي ، ظلت جماعات وقبائل تركية ترد إلى آسيا الصغرى ، تتوغل في أراضيها وتستقر حيث تستطيع ، وتعمل على العموم في خدمة السلطان. وكانت المناطق الحدودية تشكّل بالنسبة إلى هذه القبائل والجماعات بؤرة جذب ، إذ كانت تمارس منها «الجهاد» ضد البيزنطيين ، وتوسع أراضيها وتبني قواها ، فاكتسب مقاتلوها لقب «غازي». وقد تكثف هذا السيل التركي خلال القرن الثالث عشر ، تحت ضغط الزحف المغولي ، الأمر الذي دفع قبائل تركية إلى التحرك غربا ، هربا من التنكيل المغولي البربري. ومن هذه الجماعات كان الأتراك العثمانيون ، على اسم مؤسس السلالة عثمان بن أرطغرل ، الملقب غازي عثمان (١٢٩٩ ـ ١٣٢٦ م) ، والذي أقام في بداية القرن الرابع عشر الميلادي دولة حدودية ، شغلها «الغزو» في أقصى الشمال الغربي من آسيا الصغرى ، على حدود أراضي الإمبراطورية البيزنطية. في تلك الزاوية من آسيا الصغرى ، ومن مركزه في أسكيشهر (دوريليوم) ، شنّ عثمان هجماته على القلاع البيزنطية الحدودية ، وحقق نصرا على حكامها في معركة قويون حصار (١٣٠١ م). وعندما سقطت ينيشهر (ميلانجيا) في يده وجعلها مقر نشاطه ، فقد قطع طريق الاتصال البري بين المدينتين الكبيرتين : نيقيا (إزنك) وبروسا (بورصة). وفي سنة ١٣٢٦ م ، استطاع أورخان ، ابن عثمان ووارثه (١٣٢٦ ـ ١٣٥٩ م) ، احتلال بروسا ، فنقل مركزه إليها بعد موت والده. وفي سنة ١٣٣١ م احتل نيقيا ، ومن بعدها نيكوميديا (إزمت) في سنة ١٣٣٧ م ، وبذلك أصبح شاطىء البوسفور الشرقي كله تحت سيطرته. وببروزه هذا ، استطاع أورخان أن يضم إليه عددا من الولايات التركية المجاورة ، رأى حكامها في مصلحتهم التعاون معه ، لما يحققه لهم ذلك من طموحات تساورهم. ويعتبر أورخان مؤسس الدولة العثمانية الحقيقي. وعند موته (١٣٥٩ م) ، خلّف أورخان وراءه دولة واسعة ، تملك جيشا قويا ومنظما ، ولها إدارة متقدمة عن غيرها من الولايات التركية الأخرى ، والأهم أن لديها مشروعا توسعيا طموحا.

٢٣٧

كما خلف أورخان وراءه سلسلة من السلاطين الأكفاء والنشطاء. فانتقل ابنه مراد الأول (١٣٥٩ ـ ١٣٨٩ م) بالحكم العثماني من مرحلة الدولة إلى الإمبراطورية. ووسع مراد ، وبوسائل متعددة : الحرب والسياسة والدبلوماسية ، أراضي دولته في الشرق ـ آسيا الصغرى ـ كما في الغرب ـ البلقان. ففي أوروبا توغل لالا شاهين ، قائد قوات مراد ، وطوق القسطنطينية وقطع صلتها البرية بأوروبا. وفي الشرق ، وسع أراضيه ونفوذه ، بالحرب والتحالف والزواج الدبلوماسي. فاحتل أنقرة (أنكورا) ، واشترى أنطاليا من بني حميد ، وبذلك أطلّ على البحر الأبيض المتوسط. وعقد تحالفات مع إمارتي الجرميان والقرمان التركيتين عبر الزواج. ثم التفت إلى أموره الداخلية ، فأعاد تقسيم الأراضي التي احتلها إلى إقطاعات كبيرة (زعامة) ، أعطاها لكبار القادة العسكريين ، وأخرى صغيرة (تيمار) ، كانت من نصيب الضباط الصغار. وطور الإدارة ، وأدخل نظاما جديدا في الجيش (يني تشري) ، جند بموجبه خمس أسرى الحرب في قواته العسكرية ، وهو النظام الذي صار يعرف لاحقا باسم الإنكشارية ، وهو نظام متطور عن المملوكية ، وقتل مراد غيلة في صربيا ، بعد أن هزم قيصرها في معركة كوسوفا (١٣٨٩ م).

وبعد مقتل مراد الأول ، تولى ابنه النشيط بايزيد السلطة (١٣٨٩ ـ ١٤٠١ م). فعمد بداية إلى قتل أخيه يعقوب ، ليحصر الوراثة في بيته ، وينهي التقليد التركي القديم ، الذي يفتحها لجميع أفراد الأسرة ، فأصبح سلوكه نهجا لدى بني عثمان من بعده. وكان بايزيد يفترق عن أسلافه في سلوكه ، سواء إزاء الداخل أو الخارج. ففي الداخل ، كرّس مركزية السلطة الفردية ، واتخذ رسميا لقب السلطان. وفي الخارج ، شنّ حروبا من دون هوادة ، في الشرق كما في الغرب. فقضى على الإمارات التركية في آسيا الصغرى ، وصار على تماس مع إيران ، التي كانت تحت حكم تيمورلنك. وفي الغرب حقق انتصارات ساحقة على البلغار والصرب والمجر والجرمان ، واكتسب بسبب سرعة حركته العسكرية كنية «يلدرم» (البرق). وفرض الحصار على القسطنطينية نفسها مرتين ، ولكنه عجز عن إسقاطها. وفي أوج عظمته ، اصطدم بايزيد مع الجزار تيمورلنك (١٤٠٢ م) ، بالقرب من أنقرة ، فهزم ووقع أسيرا في يد تيمورلنك ، ومات ، ربما منتحرا (١٤٠٣ م). وبدا وكأن حكم العثمانيين قد انهار ، على الأقل في آسيا الصغرى.

وبعد عودته من هذه الحملة إلى عاصمته ـ سمرقند ـ مات تيمورلنك (١٤٠٥ م). وكان قد أعاد الحكام المغول والأتراك الذين أخضعهم بايزيد إلى كراسيهم. ومن أدريانوبل ، في روميلي (الجزء الأوروبي من السلطنة العثمانية) ، حيث

٢٣٨

تولى الحكم سليمان ، الابن الأكبر لبايزيد عاد العثمانيون إلى بناء إمبراطوريتهم وفرض وجودهم. وبعد فترة من الصراع بين الأخوة ، سليمان وموسى وعيسى ومحمد ، نجح هذا الأخير بالسيطرة على الوضع. وقد أمضى محمد سنيّ حكمه في الصراع بشأن استعادة السلطة على أراضي والده. فمن الفترة (١٤٠٣ ـ ١٤١٣ م) ، أدار صراعا مع إخوته ، وعندما استفرد بالحكم ، توجه إلى الإمارات المجاورة (١٤١٣ ـ ١٤٢١ م). وبعد موته تولى ابنه مراد الثاني السلطنة (١٤٢١ ـ ١٤٥١ م) ، فواصل حملاته في أوروبا لضرب تحركها ضد التوسع العثماني. ومرة أخرى في كوسوفا (١٤٤٨ م) ، أنزل مراد الثاني هزيمة ساحقة بتحالف حكام أوروبا الشرقية ، ومات مراد (١٤٥١ م) مخلفا وراءه أحد أكثر سلاطين بني عثمان نشاطا ، محمد الثاني (شلبي) الذي حكم من الفترة (١٤٥١ ـ ١٤٨١ م).

ومنذ أن تولى السلطة ، جعل محمد الثاني همّه احتلال القسطنطينية وإنهاء الإمبراطورية البيزنطية ، التي طال احتضارها. وبعد أن أتمّ استعداداته لهذا العمل الضخم ، ليس بسبب قوة المدينة ، ولكن بفضل حصانتها ، فرض على «المدينة الخالدة» الحصار ، برّا وبحرا ، في بداية نيسان / أبريل ١٤٥٣ م. وفي ٢٩ أيار / مايو ١٤٥٣ م ، دخل الجيش العثماني القسطنطينية ، وقتل إمبراطورها وهو يقاتل في شوارعها دفاعا عنها ، ولكن من دون جدوى. لقد سقطت المدينة ، وأباحها محمد الثاني ـ الذي منح نفسه لقب «فاتح» ـ للنهب مدة ثلاثة أيام ، كما العادة. وبانقضائها ، دخل محمد الفاتح المدينة ، وأقام صلاة الجمعة في كنيسة القديسة صوفيا ، ثم غادرها عائدا إلى أدريانوبل. وهناك ، أعدم الوزير خليل باشا ، الذي كان مقربا من والده ـ مراد ـ لأنه نصح بعدم مهاجمة القسطنطينية ، خوفا من ردة فعل أوروبا. ثم ما لبث أن حوّل المدينة إلى عاصمة سلطانه ، وأضفى على معالمها طابعا إسلاميا.

وبعد موت محمد الفاتح ، تولى ابنه ، بايزيد الثاني الحكم (١٤٨١ ـ ١٥١٢ م). وفي أيامه بدأت تبرز ملامح الصراع القادم بين العثمانيين ، من جهة ، والصفويين والمماليك ، من جهة أخرى. وحتى هذا التاريخ ، تركز اهتمام العثمانيين ونشاطهم في أراضي بيزنطة. أمّا وقد استتب لهم الأمر في القسطنطينية (إستنبول ـ إسلامبول) ، وامتد سلطانهم على آسيا الصغرى كلها وأوروبا الشرقية ، فراحوا يتوجهون شرقا ، حيث اصطدموا بالدولة الصفوية الصاعدة في إيران ، وبدولة المماليك الهابطة في مصر وبلاد الشام. وقد عاصر بايزيد الثاني السلطان قايتباي المملوكي ، وإسماعيل شاه الصفوي. وإذ توترت العلاقات بين هذه القوى الثلاث ، إلّا إن الصراع لم ينفجر

٢٣٩

بأبعاده كلها ، حتى اعتلى سليم الأول (يافوز ـ العابس) عرش السلطنة (١٥١٢ ـ ١٥٢٠ م) ، والذي يعتبره المؤرخون ، وبحق ، رجل الجبهة الشرقية ، والذي يتميّز عن والده بروحه القتالية العالية.

وخلال حكمه القصير ، ركز سليم الأول نشاطه في الشرق ، واستطاع في حملتين متتاليتين أن يضاعف مساحة أراضي السلطنة في آسيا وإفريقيا. فامتدت الإمبراطورية العثمانية في ثلاث قارات ، وأصبح البحر الأبيض المتوسط عمليا بحيرة عثمانية. ففي سنة ١٥١٤ م ، خرج سليم قاصدا شاه إسماعيل في عاصمته تبريز ، واستطاع جيش سليم «الإنكشاري» أن يهزم جيش إسماعيل «السباهي» (جيش الفرسان) ، بالاعتماد الكثيف على المدفعية والأسلحة النارية. لكن هزيمة إسماعيل لم تكن حاسمة. وعاد سليم وتظاهر بنية الخروج إلى قتال إسماعيل ثانية (١٥١٦ م) ، موجّها تهمة إلى السلطان المملوكي ، قانصوه الغوري ، بالتحالف مع إسماعيل الشيعي ، في حين هو سنّي ، مثله مثل العثمانيين. واستدرج سليم السلطان المملوكي العجوز إلى مرج دابق (شمال حلب) ، وأنزل بجيشه هزيمة ساحقة في آب / أغسطس ١٥١٦ م ، وذلك أيضا بفضل تفوق جيشه الإنكشاري ، عدة وتدريبا ، وبعد الغوري عن عاصمته ، وبالتالي طول خطوط إمداده وتموينه ، وكذلك عداء سكان بلاد الشام للمماليك.

على العكس من الصفويين ، لم يجد العثمانيون صعوبة كبيرة في القضاء على دولة المماليك. فالعسكرتارية المملوكية في هذه الفترة كانت قد فقدت روحها القتالية. وأصبحت منذ زمن أداة قمع داخلي للسكان ، وصراع في القمة بشأن السلطة. وهذه المؤسسة التي كانت لا تزال تمارس الحكم ، أضحت بلا مضمون حقيقي يتلاءم مع صورتها العسكرية. وبناء عليه ، تضافرت عدة عوامل ، ذاتية وموضوعية ، جعلت هزيمة المماليك على أيدي العثمانيين مسألة سهلة. فبغياب التحدي الخارجي بعد إنهاء الوجود الفرنجي في الشرق ، وانحسار المدّ المغولي ، تراجعت القدرات القتالية للمماليك ، أكان من ناحية العدد ، أو العدة ، وتكلست المؤسسة المملوكية على تقاليدها البالية ، من دون محاولة الإفادة من التطورات المستحدثة في العلم العسكري. وفضلا عن نضوب الموارد البشرية ، فقد تقلصت الموارد المالية ، وخصوصا بعد فقدان تجارة الهند لمصلحة أوروبا ، عندما اكتشف رأس الرجاء الصالح (١٤٩٨ م). وعلاوة على ذلك ، ظل المماليك يحبون حياة البذخ والتبذير ، ويظلمون الناس ، فأصبحوا فئة محصورة ومعزولة ، سهل على العثمانيين تدميرها.

٢٤٠