الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

وبعد قضائه على المماليك ، وتثبيت أقدامه في مصر ، وبناء قوته الذاتية ، توجه محمد علي إلى محاربة الوهابيين في الجزيرة العربية ، بطلب من السلطان. واستطاع في حملة دامت سبعة أعوام (١٨١١ ـ ١٨١٨ م) أن يهزمهم ويدمر عاصمتهم الدرعية ، ولكن بتكلفة عالية ، بالمال والرجال. وإذ لم يكن في موقع الصدام مع الباب العالي على بلاد الشام لتعويض خسائره ، فقد توجه نحو السودان (١٨١٩ م) ، حيث ذهب النوبة وتجارة العبيد ومنتوجات إفريقيا. وفي فترة ١٨٢٤ ـ ١٨٢٨ م ، شارك محمد علي في إخماد ثورة اليونان إلى جانب السلطان ، وأرسل المدربين لبناء الجيش العثماني الجديد بعد القضاء على الإنكشارية. إلّا إنه في سنة ١٨٢٧ م ، فقد أسطوله في معركة نفارينو على يد الأساطيل المشتركة لروسيا وبريطانيا وفرنسا. وبعدها لم يشارك في حرب السلطان مع روسيا (١٨٢٨ ـ ١٨٢٩ م) بل على العكس ، قرر الانفصال عن السلطنة ، وعزم على انتهاز فرصة ضعفها لاحتلال بلاد الشام.

وفي ٢٩ تشرين الأول / أكتوبر ١٨٣١ م ، سيّر محمد علي جيشه إلى فلسطين ، بقيادة ابنه وذراعه الأيمن ، إبراهيم باشا الذي اكتسب شهرة عسكرية في حرب اليونان. وفي شتاء تلك السنة ، احتل غزة ويافا والقدس وحيفا والجليل ، من دون مقاومة. وقدم له الزعماء المحليون ولاءهم بإشارة من أمير جبل لبنان ، بشير الشهابي حليف محمد علي. وأبقى إبراهيم باشا الشيخ حسين عبد الهادي حاكما على منطقة نابلس ، وعين أبناء الشيخ قاسم الأحمد حكاما على القدس ونابلس ويافا. وبعد حصار ستة أشهر ، سقطت عكا في يده في ٢٨ أيار / مايو ١٨٣٢ م. ومنها توجه إلى دمشق ، فدخلها في ١٤ حزيران / يونيو ١٨٣٢ م. وفي المعركة عند بحيرة قطينة (بالقرب من حمص) ، هزم الجيش العثماني في ٨ تموز / يوليو ١٨٣٢ م ، فاستسلمت حماة وحلب وأنطاكيا. وبعد موقعة بيلان في ٣٠ تموز / يوليو ١٨٣٢ م ، توغل في آسيا الصغرى ، وهزم العثمانيين مجددا عند مدينة قونيا في ٢١ كانون الأول / ديسمبر ١٨٣٢ م ، وأسر «الصدر الأعظم» (رئيس الوزراء).

لقد حقق جيش محمد علي الحديث انتصارا ساحقا على الجيش العثماني ، الذي كان لا يزال في طور البناء ، ويلاقي السلطان صعوبات جمة في تشكيله وتزويده ، بعد أن ألغى نظام الإنكشارية. واستفاد إبراهيم من حالة التذمر التي سادت بلاد الشام ، جراء تردي الأوضاع الاقتصادية ، واستفحال الاحتكارات الأجنبية ، وإغراق السوق المحلية بالبضائع المستوردة ، التي أدّت إلى كساد الصناعات المحلية وانهيار الحرف اليدوية ، وكذلك من ردة فعل الناس على زيادة الضرائب لتمويل نفقات الجيش الجديد ، وعلى التجنيد الإلزامي الذي فرض لتوفير الطاقة البشرية لذلك

٢٦١

الجيش. وإزاء هذا النصر الباهر ، تحركت الدول الأوروبية ، وتوسطت للصلح في معاهدة كوتاهية في أيار / مايو ١٨٣٣ م ، التي بموجبها اعترف السلطان محمود الثاني بحكم محمد علي الوراثي في مصر ، وفي بلاد الشام وأضنة. وأعاد إبراهيم تنظيم البلاد ، فقسمها إلى مديريات كالتالي : حلب وطرابلس وأضنة ومعها طرسوس وصيدا ومعها عكا والقدس ونابلس ويافا وغزة. ونصّب على كل منها مديرا بإمرة شريف باشا ، صهر محمد علي ، وبإشرافه هو كونه قائد الجيش ، وولي العهد.

وغداة الاحتلال ، وعد إبراهيم باشا سكان بلاد الشام بالأمن والعدل ، وسعى للوفاء بوعده. فعمد إلى تنظيم البلاد وتطويرها. ونقل إليها التنظيمات الإدارية والاقتصادية التي أدخلها والده إلى مصر. لم يصادر الأراضي ، ولكنه احتكر تسويق القطن والحرير ، وركز في أيدي السلطة الإنتاج الزراعي والحرفي ، وكذلك السيطرة على التجارة. وفي البداية تمخضت إجراءاته عن تشجيع الاقتصاد وضبط الأمن واستقرار الضرائب ، الأمر الذي أدّى إلى ازدهار لم تشهده البلاد منذ زمن. وترك إبراهيم باشا السلطة في جبل لبنان بأيدي الأمراء الشهابيين ، وتعامل معهم بخصوصية ، إذ تطلع إلى استخراج الفحم والحديد من جبل لبنان ، كما أراد استغلال غابات الأرز لإعادة بناء الأسطول المصري ، الذي دمر بالكامل تقريبا في معركة نفارينو. لكن «شهر العسل» بين إبراهيم وسكان بلاد الشام لم يطل ، وسرعان ما تواترت الثورات ضده ، وخصوصا في المنطقة الوسطى من فلسطين ، كما تألّبت دول أوروبا عليه.

فمشروع محمد علي في مصر ، كما في بلاد الشام والجزيرة العربية ، وكذلك العراق الذي خطط لضمه ، كان يتناقض قطبيا مع مشاريع دول أوروبا الاستعمارية ، وخصوصا بريطانيا. وعندما راح محمد علي يوطد علاقاته مع فرنسا ، ويستعين بخبرائها على تطوير الأراضي الواقعة تحت حكمه ، وتحديث الإدارة والجيش في دولته ، زاد قلق بريطانيا منه ، وناصبته العداء. فبريطانيا رأت في قيام دولة قوية في مصر ، ترث السلطنة العثمانية المتهاوية ، وتسيطر على شرق البحر الأبيض المتوسط ، والبحر الأحمر والجزيرة العربية ، وتتطلع إلى الهيمنة على الخليج العربي ، تهديدا لمصالحها ، وخصوصا لمواقعها الاستراتيجية على شريان المواصلات الحيوي بالنسبة إليها ـ الطريق إلى الهند والشرق الأقصى. ولما رفض محمد علي القبول بالمعاهدة التجارية المبرمة بين بريطانيا والسلطنة العثمانية (١٨٣٨ م) ، والتي منحت بريطانيا الحق في بيع بضائعها المصنعة بأغلى الأثمان في أراضي السلطنة ، بينما تشتري هي المواد الخام منها بأبخس الأسعار ، عمدت بريطانيا إلى استغلال الفرص ، وإثارة

٢٦٢

القلاقل ضد حكم محمد علي في بلاد الشام ، وخصوصا في فلسطين ، وإلى تحريض السلطان على محاربته في بلاد الشام وطرده منها.

وفي الواقع ، فإن بريطانيا شجعت الزعماء المحليين في بلاد الشام ـ الساحل السوري والحوران ونابلس والخليل ـ على التمرد ضد حكم إبراهيم باشا. وقد استغلت زيادة الضرائب والتجنيد الإلزامي وأعمال السخرة ونزع السلاح من أيدي الناس ، كوسائل للتحريض على الحكم المصري. ومنذ سنة ١٨٣٤ م ، بدأت الاضطرابات كردة فعل على الترتيبات الجديدة ، حيث فرضت «ضريبة الرأس» (الفردة) على الذكور جميعهم من سن ١٤ فما فوق. وكذلك ، وأسوة بما فعل محمد علي في مصر ـ تجنيد أبناء البلد في الجيش بدلا من المماليك ـ عمل إبراهيم باشا إلى إصدار الأمر بالتجنيد الإلزامي ، بنسبة ١٠% من عدد دافعي ضريبة «الفردة» ، وشرع بتطبيقه. كما استثار إبراهيم الزعماء المحليين بمنعهم من جباية الأتاوات ـ الضريبة التي كان يفرضها أبو غوش على المسافرين بين يافا والقدس ، مثلا. وعلاوة على ذلك أمر بجمع السلاح من أيدي السكان لحرمانهم من القدرة على مقاومة إجراءات السلطة بالقوة ، الأمر الذي تسبب بردة فعل عنيفة.

واندلعت الثورة أولا في منطقة القدس في أيار / مايو ١٨٣٤ م ، ومنها امتدت إلى نابلس والخليل ، ولاحقا إلى صفد. وحاصر الثوار الحامية المصرية في القدس داخل القلعة ، أمّا في الخليل فقتلوا أفرادها. وكان ذلك في إثر مغادرة إبراهيم باشا منطقة القدس إلى يافا ، فعاد ومعه قوات عسكرية معزّزة ، واشتبك مع الثوار في عدد من المعارك التكتيكية ، وهزمهم ، فخرجوا إلى الجبال وأداروا معه حرب عصابات ، هددته بقطع طرق مواصلاته ومحاصرته. وبوساطة رؤساء الأديرة ، تصالح إبراهيم باشا مع الثوار ، بعد أن ألغى القرارات التي أدّت إلى التمرد عليه. وغادر إبراهيم باشا القدس متوجها إلى يافا ، وفي الطريق هاجمه الشيخ مصطفى أبو غوش ، وألحق بجيشه الخسائر. وفي هذه الأثناء ، وصل إلى يافا ، جيش مصري كبير ، على رأسه محمد علي بنفسه. فعاد به إبراهيم إلى منطقة القدس ونابلس ، وهزم الثوار ، وأحرق عددا من القرى ، وطارد زعماء الثورة وقتلهم. ومن فلسطين توجه إبراهيم إلى سورية لإخماد ثورات مثيلة في الحوران وجبل الدروز (العرب) وجبال العلويين (النصيرية) في الشمال الغربي.

وعملت بريطانيا على إشعال الحرب مرة ثانية بين السلطنة ومحمد علي. وكان السلطان محمود الثاني ، بمساعدة خبراء غربيين ، منهم هلموت فون مولتكه ، الذي اشتهر لاحقا في الحرب الألمانية ـ الفرنسية (١٨٧٠ م) ، قد أعاد بناء الجيش العثماني

٢٦٣

وتنظيمه. فاشتبك الجيشان ، في إثر خلاف مفتعل على الحدود ، في معركة نصيبين (١٨٣٩ م) ، وهزم الجيش العثماني ، وتوغل إبراهيم باشا في آسيا الصغرى ، إذ أصبح الطريق أمامه مفتوحا إلى إستنبول. وزيادة على ذلك ، قام أحمد باشا ، قائد الأسطول الذي أرسل لقصف الإسكندرية بتسليم نفسه وسفنه إلى محمد علي. وبدت السلطنة على وشك الانهيار ، فتحركت بريطانيا ، وعقدت مؤتمر لندن (١٨٤٠ م) بمشاركة روسيا والنمسا وبروسيا ، وبغياب فرنسا التي أيدت محمد علي في البداية ثم انكفأت. ووجه المؤتمرون إنذارا إلى محمد علي بضرورة الانسحاب من بلاد الشام والعودة إلى حدود مصر ، مع التهديد باستعمال القوة لإجباره على ذلك إن رفض.

وفي الواقع ، رفض محمد علي الرضوخ للتهديد. وفي هذه الأثناء نفضت حكومة فرنسا يدها من الموضوع ، وسحبت أسطولها من البحر الأبيض المتوسط ، وبقي محمد علي وحده في مواجهة تحالف مؤتمر لندن والسلطنة العثمانية. وفي أيلول / سبتمبر ١٨٤٠ م هاجمت أساطيل بريطانيا والنمسا مدن الساحل السوري ، وأنزلت فيها قوات ، احتلت بيروت وصور وصيدا ، وأجلي الأمير بشير الشهابي إلى مالطا. ثم احتلت هذه الأساطيل يافا ، وحاصرت عكا واحتلتها في تشرين الثاني / نوفمبر ١٨٤٠ م ، ومنها توجهت إلى الإسكندرية ، فقصفتها وحاصرتها. في المقابل ، كان الجيش العثماني يتقدم في إثر جيش إبراهيم باشا المنسحب ، في أوضاع صعبة ، بسبب مهاجمة الزعماء المحليين لمؤخرته ، وإنزال الخسائر الكبيرة به. واحتل العثمانيون الجليل وصفد والناصرة وطبرية ، وأخيرا القدس. واضطر محمد علي إلى الرضوخ ، فانتهى الحكم المصري في بلاد الشام ، التي دخلت حقبة جديدة.

تنظيمات إبراهيم باشا

كانت فترة الحكم المصري قصيرة (تسعة أعوام) ، إذ لم يفلح محمد علي في ترسيخ الإصلاحات التي سعى لنقلها من مصر إلى بلاد الشام. فبعد اعتراف السلطان العثماني به واليا (باشا) مستقلا في مصر ، وصاحب حق في توريث حكمه لسلالته من بعده ، عمل محمد علي بنشاط كبير على تحديث دولته وعصرنتها. أمّا ابنه إبراهيم فقد طوّر الفكرة إلى جعل هذه الدولة عربية ، تضم الأراضي جميعها التي ينطق سكانها باللغة العربية. وفي الواقع ، فإن محمد علي ، وابنه إبراهيم تحديدا ، رفعا شأن اللغة العربية في جهاز الدولة. وإبراهيم بالذات رأى فيها عنصر توحيد للمناطق التي أراد فصلها عن السلطنة العثمانية ، وإقامة الدولة العربية فيها. لكن بريطانيا ، التي أقلقتها حملة نابليون وأزعجتها نوايا محمد علي ، تصدرت دول أوروبا في العمل على

٢٦٤

التصدي لمشروعه ، وقطع الطريق على تجسيده ، كونها لم تكن ترغب في قيام دولة شرق ـ أوسطية فتية على أنقاض السلطنة العثمانية المتهاوية.

لقد أظهر الجيش المصري قدرات عسكرية كبيرة في مواجهة الجيش العثماني ، وكذلك في التصدي للثورات المحلية ، واستطاع أن يفرض الأمن والنظام ، ويكبح تجاوزات الزعماء المحليين ومشايخ القبائل. فمنع الزعيم أبو غوش من جباية الضريبة على الطريق بين يافا والقدس ، وألزم السكان دفع الضرائب المستحقة والالتحاق بالجيش عبر التجنيد الإلزامي ، وتسليم أسلحتهم ، كما نجح إلى حد معين في تفعيل جهاز الدولة ومنع الرشوة في المحاكم. ورفع إبراهيم التمييز عن الأقليات الدينية ، وحاول تطوير المرافق وإقامة عدد من المشاريع الصناعية ، كاستخراج الفحم والحديد من جبال لبنان. ولبناء الأسطول المصري قطع إبراهيم باشا الأشجار في مساحات واسعة من بلاد الشام ، وخصوصا ، في غابات جبل لبنان. لقد وضع بدايات لم تتح له فرصة تطويرها ، لكنها تركت آثارها في المرحلة اللاحقة في ميادين متعددة.

وعلى نقيض سابقيه من الباشوات ، سمح إبراهيم للبعثات التبشيرية المسيحية بممارسة نشاطها بحرية كبيرة ، ومنحها الإذن بإقامة مؤسسات تعليمية وثقافية. وفي سنة ١٨٣٨ م سمح لبريطانيا بفتح قنصلية دائمة في القدس ، الأمر الذي شكل سابقة في العرف القائم ، إذ كانت القنصليات تقام في المدن الساحلية ، وتعنى بالشؤون التجارية. وفي الواقع ، ومنذ زمن طويل ، كانت القنصليات قد تراجعت في عددها وأهميتها مع تراجع الأهمية التجارية لمدن الساحل السوري ، وراح رجال محليون يتولون المهمة. أمّا في أيام إبراهيم باشا ، وخصوصا بعد انسحابه من البلاد ، فقد راحت القنصليات تؤدي في الأساس دورا سياسيا. ولم تمض فترة قصيرة حتى فتحت دول أوروبية متعددة قنصليات لها في القدس ، بما فيها الولايات المتحدة. وراح قناصل هذه الدول يتدخلون في كل شاردة وواردة من شؤون الحكم في البلاد.

وعلى الرغم من قصر فترة الحكم المصري في فلسطين (١٨٣١ ـ ١٨٤٠ م) ، فقد فتحت مرحلة جديدة في تاريخها ، إذ وضعت حدا لحالة الفوضى التي سادت البلاد خلال فترة طويلة ، كما أسست لعدد من الإصلاحات في الفترة اللاحقة ـ فترة «التنظيمات» في السلطنة العثمانية. فعلى رأس الحكم وقف إبراهيم باشا ، الطامح لإقامة دولة عربية حديثة ، وتحت إمرته جيش قوي ، كان العمود الفقري للحكم ، وأداته لتنفيذ الإصلاحات. وإلى جانب إبراهيم باشا ، تولى شريف باشا ، صهر محمد علي ، الجانب الإداري في الحكم ، وله ممثلين (متسلمين) في الأقضية جميعها هم حكامها الإداريون ، بصفة موظفين مدنيين ، جندوا على العموم من أوساط السكان

٢٦٥

العرب المحليين. ومن خلال المركزية الصارمة ، المستندة إلى دعم الجيش الحديث والكبير ، استطاع الجهاز الإداري إدخال إصلاحات كبيرة في نظام الحكم ، ولكن ليس من دون عقبات. فالقوى المحلية ، التي هيمنت على مناطقها في الفترة السابقة ، وجدت نفسها تفقد سلطتها ، فقاومت عملية الإصلاح الإداري ، غير أن يد إبراهيم القوية أجبرتها على الرضوخ. وإذ لم ينجح تماما في كبح القبائل البدوية عن تجاوزاتها ، فإنه قلص كثيرا من قدرتها على تحدي السلطة المركزية ، وحدّ من اعتداءاتها على قرى الفلاحين وقوافل الحج وطرق التجارة.

والإصلاحات الإدارية التي أدخلها إبراهيم باشا في نظام الحكم ، ضربت المرتكزات التي استند إليها الزعماء المحليون في فرض هيمنتهم على مناطقهم. فقد حلّ موظفو الدولة ، التابعون للحاكم الإداري في دمشق ، محل أبناء العائلات الكبيرة والقوية في ممارسة السلطة بالمناطق. وجاء التجنيد الإلزامي وسحب السلاح من أيدي الناس ، ليزيد من إضعاف هؤلاء الزعماء ، وحرمانهم من القدرة على مقاومة إجراءات السلطة المركزية. فتقلص إلى حد كبير تأثير العائلات الإقطاعية في إدارة شؤون البلاد ، وبالتالي انحسرت حدة الصراع بينها بشأن الزعامة ، وما نجم عنها من اقتتال على الامتيازات الاقتصادية. وعبر العلمنة ، وحصر صلاحية المحاكم الشرعية في الأحوال الشخصية فقط ، تراجع موقع العلماء في المجتمع ، وفقدت العائلات الإقطاعية ركيزة أخرى من ركائز قوتها. ولا غرو ، إزاء هذه الإجراءات التي عمد إليها إبراهيم باشا ، ونفذها بحزم ، أن ينتهز زعماء تلك العائلات كل فرصة تلوح للتمرد عليها ، في محاولة لإعادة الوضع إلى سابق عهده. فاستغل هؤلاء كل حالة تململ في أوساط قطاعات السكان ـ فلاحين وتجار وحرفيين ـ وحتى الحركات الوطنية ، للانضمام إليها في تحركاتها ضد السلطة.

ويلفت النظر أن إصلاحات إبراهيم باشا ، التي كان من شأنها أن تحسن أوضاع عامة الناس ، وبالتالي تتمتع بتأييدهم ، قد أثارت ردات فعلهم السلبية عليها. فبعد فترة قصيرة من الركون إلى الحكم المصري ، كبديل أفضل من الأوضاع السيئة التي كانت قائمة قبله ، أخذت العلاقة بين هذا الحكم والناس تتردى ، على الصعد والمستويات كافة. فالإصلاحات الإدارية التي أدخلها إبراهيم باشا ، ضمنت الأمن العام ، ودرجة أعلى من المساواة أمام القانون ، ونظام ضرائب أكثر استقرارا وعدالة في مقابل الوضع السابق. ومع ذلك ، انتشر التذمر والتململ بين قطاعات واسعة من الشعب ، ولم يتوقفا عند الدوائر المتضررة من مركزية السلطة. ويعود ذلك في الأساس إلى ضريبة الرأس (الفردة) ، التي فرضها الحكم المصري على الذكور من سن ١٤ فما فوق ،

٢٦٦

وإلى التجنيد الإلزامي الذي طال عشر الملزمين بضريبة الفردة ، وأعمال السخرة في مشاريع الحكومة ، وسحب الأسلحة من أيدي الناس ، واحتكار الحكومة للمنتوجات الزراعية الأساسية والحرفية. وأحد الأسباب المهمة لردة فعل السكان ضد الحكم المصري ، كان منح الأقليات الدينية المساواة أمام القانون ، تحت تأثير الدول الأوروبية ونشاط قناصلها وتدخلهم في إدارة شؤون البلاد.

ونتيجة ذلك ، فالحكم المصري في بلاد الشام ، الذي قوبل بالترحاب في البداية ، لم يلبت أن استجرّ عداء قطاعات واسعة من السكان. وبعد فرض الانسحاب عليه ، اجتاحت البلاد موجة من ردات الفعل ضد الإجراءات التي اتخذها ، وحاول الزعماء المحليون استعادة سلطتهم الضائعة عندما عادت البلاد إلى حكم العثمانيين. ومع ذلك ، فهذه الفترة القصيرة من الإصلاحات التي لم تترسخ ، مهدت الطريق أمام التنظيمات التي عمدت السلطة العثمانية إلى إدخالها في نظام الحكم. وكذلك ، فقد حصلت الدول الأوروبية خلال الحكم المصري على امتيازات كثيرة ، تكرست بعد عودة الحكم العثماني بمساعدة الدول صاحبة تلك الامتيازات. ونتيجة الحكم العثماني المتجدد ، الذي اتخذ قرارا بإصلاح نظام الحكم وإدارة الدولة ، عبر التنظيمات التي صدرت تحت ضغط الدول الأوروبية ، لم تفلح الزعامات المحلية ـ العشائرية ـ في بلاد الشام باستعادة المواقع التي فقدتها ، وأخلت مكانها لشريحة جديدة من الزعامة السياسية.

خامسا : فترة التنظيمات العثمانية

أعطى بنو عثمان في بداية بناء إمبراطوريتهم ، أصحاب تراث «الغازي» ، الجزء الأوروبي منها (روميلي) الأولوية على بقية الولايات ، وعندما احتلوا بلاد الشام في القرن السادس عشر ، لم يولوها أهمية كبيرة. وكان همهم الأساسي فيها هو الحفاظ على السيادة وجمع الضرائب وتأمين قافلة الحج السنوية وضبط الوضع القائم. ففي بلاد الشام ، كما في مصر ، أبقوا الوضع كما كان في أيام المماليك ، وعينوا بعض من تعاون معهم من أمراء المماليك ولاة في الأراضي التي احتلوها. وفي الواقع ، ترك العثمانيون لهؤلاء الولاة مسؤولية القضايا الاجتماعية والاقتصادية ، وسمحوا لهم بالاحتفاظ بجيوش محلية خاصة ، في إطار نظام إقطاعي ، يتعهد بموجبه كل وال بتجنيد قوات عسكرية (سباهي) ، بحسب حجم الإقطاع الذي منح له. واستغلت السلطة المركزية التناقضات بين الباشوات لضمان ولائهم ، وعمدت إلى ضرب أحدهم بالآخر ، لإبقائهم تحت السيطرة بصورة عامة. وفي حال فشلها ، كانت السلطة

٢٦٧

المركزية تقبل بالواقع مرحليا ، حتى تحين الفرصة للانقضاض على الخارجين عليها.

وقد ظل هؤلاء الباشوات خاضعين للسيادة العثمانية ، ما دامت هيبة السلطنة تفرض ذلك. وعندما بدأت تلك الهيبة تتراجع ، راح الباشوات يعززون مواقعهم ، ويفرضون استقلالهم الذاتي في ولاياتهم. وتفاقمت هذه الظاهرة في القرن الثامن عشر ، حيث برز آل العظم في سورية ، وظاهر العمر ، ومن بعده الجزار ، ثم سليمان وعبد الله ، في فلسطين (ولاية صيدا) ، وكذلك كان حال الأمراء المعنيين ، ومن بعدهم الشهابيون في لبنان. وقد استطاع هؤلاء أن يفرضوا سيطرتهم على مناطقهم ، ويحافظوا على درجة من الاستقرار فيها ، وحتى تنمية مواردها وتحقيق ازدهارها الاقتصادي. أمّا في الريف ، وعلى أطراف الصحراء ، فقد برزت قبائل بدوية قوية ، وكذلك عائلات إقطاعية كثيرة ، بسطت هيمنتها على السكان في غياب السلطة المركزية. وبعض القبائل البدوية فرض حمايته على القرى والطرق ، وجبى الأتاوات لقاء ذلك ، وحتى من السلطة نفسها ، وخصوصا لقاء حماية أو تأمين مرور قافلة الحج. وقد تميّزت منطقة الجبال الوسطى في فلسطين بشيوع هذه الظاهرة التي اصطدم بها إبراهيم باشا ، واستطاع إضعافها بعد عدد من المعارك الضارية.

وكان إهمال السلطة العثمانية لولايات بلاد الشام ، والحروب المتكررة بين الباشوات فيها ، وكذلك الصراعات الدامية بين العائلات المتنفذة ، إضافة إلى أعمال النهب والتخريب التي مارستها القبائل البدوية القوية ، قد أفقرت البلاد ، وقلصت عدد سكانها. وفي فلسطين ، كان للصراعات بين الزعماء المحليين ، وخصوصا في منطقة الجبال الوسطى ، آثار سلبية كبيرة على حالة الأمن والاستقرار والأوضاع الاجتماعية عامة. وفترة الحكم المصري القصيرة ، بما جلبته من استقرار ، وما أدخلته من إصلاحات ، لم تستطع كبح هذا المسار التدميري. والثورات التي قام بها هؤلاء الزعماء المحليون ضد إبراهيم باشا ، وهزيمتهم في معارك عنيفة ، جلبت المزيد من الخراب والإفقار على السكان. في المقابل ، أعاد الحكم المصري بلاد الشام إلى بؤرة الاهتمام الأوروبي في إطار المسألة الشرقية. وبعد حفر قناة السويس (١٨٦٩ م) ، زاد التنافس بشأنها ، وبالتالي بشأن فلسطين لقربها منها ، وذلك بين الدول الأوروبية الرأسمالية. وقد قادت بريطانيا عملية تصعيد التنافس ، بعد أن اشترت أسهم مصر في قناة السويس (١٨٧٥ م) ، ومن ثمّ احتلت ذلك البلد (١٨٨٢ م) فأصبحت فلسطين ذات أهمية استراتيجية بالنسبة إليها. وليس مصادفة أن تتواكب بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين مع احتلال بريطانيا لمصر.

بعد فترة قصيرة من موت السلطان المصلح محمود الثاني (١٨٣٩ م) ، وتولي

٢٦٨

ابنه عبد المجيد مكانه ، صدر «فرمان التنظيمات» الشهير باسم «خط شريف جولخانه». وكان ذلك بعد هزيمة الجيش العثماني على يد إبراهيم باشا ، وتدخل الدول الأوروبية لفرض الانسحاب على الجيش المصري. وكان هذا الفرمان يهدف إلى انتشال السلطنة من أوضاعها المتردية والحفاظ على تماسكها ، من جهة ، واكتساب عطف الدول الأوروبية ، عبر نشر المساواة بين شعوب السلطنة ، من جهة أخرى. وقد تضمن الفرمان إصلاحات في ثلاث نواح أساسية : ١) إدارة الدولة وتحديث جهاز الحكومة ؛ ٢) تحسين أحوال رعايا السلطان ؛ ٣) تسوية أوضاع المواطنين غير المسلمين في أراضي السلطنة. وإذ أعلن الفرمان عزم الحكومة على صيانة أمن المواطنين ، وحماية أرواحهم وممتلكاتهم وكرامتهم ، وتوخي العدالة في فرض الضرائب والتجنيد ، فقد تطرق إلى الإجراءات الإدارية الجديدة وتطوير جهاز الدولة. لكن التركيز كان على مساواة المواطنين جميعهم أمام القانون ، الأمر الذي يعني التخلي عن الشريعة الإسلامية كأساس للتشريع وللقضاء. وتوالى بعد هذا الفرمان صدور قوانين متعددة : الجنائي والتجاري وملكية الأرض ... إلخ.

لكن هذه الإصلاحات قوبلت بمعارضة شديدة من قبل الأوساط التقليدية والمحافظة في السلطنة ، وخصوصا في العاصمة. وكان تطبيق هذه الإصلاحات ينطوي على صراعات في إستنبول ، ولذلك تعرقل تنفيذها. ومرة أخرى كانت الأولوية للولايات الأوروبية وآسيا الصغرى ، فتأخرت في بلاد الشام. وزاد في تعقيد الأمور توالي الأزمات الاقتصادية والمالية التي انتابت السلطنة ، وبالتالي تزايد تدخل دول أوروبا في شؤونها الداخلية ، الأمر الذي زاد في حدة ردات فعل الأوساط المحافظة ضد التنظيمات ، ذات الطابع الغربي. وفي الواقع ، جرّت تلك التنظيمات أعمال عنف ضد الأقليات الدينية (دمشق ولبنان ١٨٦٠ م) ، كما حفزت محاولات على اغتيال السلطان عبد المجيد نفسه. واضطرب حبل الأمن في العاصمة ، عبر مؤامرات شارك فيها ضباط كبار في الجيش بالتحالف مع العلماء. وما كادت السلطنة تخرج من موجة الاضطراب حتى مات السلطان عبد المجيد (١٨٦١ م) ، وتولى مكانه أخوه عبد العزيز ، الذي عرف بعناده ومزاجه المتقلب وعدائه للإصلاحات. فتوقفت التنظيمات ، وتردت الأوضاع في السلطنة عامة ، وخصوصا نتيجة ردات فعل دول أوروبا الدائبة على إبطالها.

فبعد الانسحاب المصري ، عادت بلاد الشام إلى الحكم العثماني بفضل تدخل الدول الأوروبية ، وفي مقدمتها بريطانيا. وبقدر تأثيرها في فرض الانسحاب على محمد علي ، وإلزامه بالانسحاب إلى مصر ، وبالتالي إعادة الوضع في بلاد الشام إلى

٢٦٩

سابق عهده ، أي إلى ما قبل الحملة المصرية عليها ، زادت الدول الأوروبية نفوذها ، ليس في هذه البلاد فحسب ، بل في أراضي السلطنة العثمانية بصورة عامة. وبينما لم تترسخ إجراءات إبراهيم باشا ، لم تفلح السلطة العثمانية في إحكام قبضتها على نواحي البلاد جميعها. وعادت منطقة الجبال الوسطى إلى النزاعات العشائرية ، وإلى الصراعات القبلية ، بين القيسية واليمينة ، وإلى تصفية الحسابات القديمة ، الأمر الذي أدّى إلى اضطراب حالة الأمن. وعاد الشيخ أبو غوش ، الذي تزعم العصبية اليمنية إلى فرض سلطته على طريق يافا ـ القدس ، وجباية الضرائب من المسافرين عليها. واضطر العثمانيون إلى الاعتراف ببعض زعماء العشائر حكاما في مناطقهم ، الأمر الذي استثار آخرين ، وبالتالي إلى نشوب الصراعات بينهم بصورة متواترة. وقد استغلت السلطة هذه الصراعات لإضعاف الجميع ، تعويضا عن تقصيرها في فرض هيبتها عليهم وإحكام قبضتها على مناطقهم.

ولدى استعادته بلاد الشام ، لم يعد الباب العالي إلى نظام حكم الباشوات السابق فيها ، وإنما نزع عنها الصفة شبه المستقلة التي كانت لها في الماضي ، وألحقها بالمركز مباشرة. ومنذ البداية أقيمت الإدارة الجديدة على أساس المركزية الشديدة والتتريك ، فاستبدل الموظفون المحليون بآخرين أتراك ، وفي جميع المناصب ذات الأهمية. واعتمد الباب العالي أسلوب نقل الموظفين سنة بعد أخرى ، ومن مهمة إلى غيرها. وسحب من الموظفين الحق في إصدار عقوبة الإعدام ، وأخضعهم للرقابة والمحاسبة على سوء استعمال السلطة. وإذ استقرت الأوضاع نسبيا في الساحل والشمال ، فقد ظلت منطقة الجبال الوسطى مضطربة ، وعمد العثمانيون (١٨٥٤ م) إلى جعل القدس ولاية مستقلة ، تابعة لإستنبول مباشرة ، في محاولة للسيطرة على الوضع الأمني فيها ، من جهة ، ولمراقبة نشاط القنصليات الأجنبية ، من جهة أخرى. وألحق بهذه الولاية سنجقا نابلس وغزة. واستطاع الوالي مصطفى ثريا أن يوطد الأمن ، ويحول دون اندلاع الاقتتال الطائفي في القدس ومحيطها ، أسوة بما جرى في لبنان ودمشق (١٨٦٠ م).

وفي إطار التنظيمات الإدارية التي أدخلتها السلطنة في هذه الفترة ، صدر قانون تشكيل الولايات (١٨٦٤ م) ، الذي وضع إطارا موحدا للإدارة في الولايات كلها. وبموجبه قسمت بلاد الشام إلى ولايتين : سورية وحلب. وكل ولاية قسمت إلى متصرفيات (سناجق) ؛ والمتصرفيات إلى قائمقاميات (أقضية) ؛ والأقضية إلى مديريات (نواح). وعيّن على كل وحدة إدارية موظف تركي ، يتبع الأعلى منه بحسب التسلسل والاختصاص : مدير ـ قائمقام ـ متصرف ـ والي. وأصبح الوالي يتبع وزارة الداخلية

٢٧٠

في إستنبول ، التي أنشئت سنة ١٨٦٠ م. واستعان الموظفون الأتراك ، في جميع المراتب الإدارية المسؤولة بمجلس يمثل طبقات الشعب كلها وفئاته وطوائفه. وإذ لم يضع هذا الترتيب حدّا نهائيا للفساد وسوء استعمال السلطة ، فإنه قلص إلى حد كبير الاستئثار الفردي بها ، ومنح فئات الشعب قسطا من إدارة شؤون مجتمعهم. وبينما بقيت سلطة الزعماء العشائريين قائمة ، إلّا إن تجاوزاتهم تقلصت ، وتراجعت الصراعات بينهم ، وبذلك قلّت أهميتهم ، وبالتالي تفككت التركيبات العشائرية.

وفي التنظيم الجديد ، تبعت متصرفية فلسطين ولاية سورية ، وظل يحكمها متصرف مقرّه القدس. وكان يتبعها تسعة أقضية ، هي : القدس والخليل وغزة واللد ونابلس والسامرة وبلاد الشقيف وبلاد حوران والغور الشرقي. ثمّ فصلت متصرفية القدس عن ولاية سورية (١٨٧٣ م) ، واتبعت مباشرة لإستنبول. وكان من أسباب ذلك كثرة مشكلات هذه المتصرفية ، التي تسبب في قسط كبير منها قناصل الدول الأوروبية الذين زاد عددهم ، واشتد التنافس بينهم ، وبالتالي تدخلهم في إدارة شؤون البلاد. ولأن الوالي لم يستطع التعامل مع هذه المشكلات لحساسيتها بالنسبة إلى الباب العالي ، فقد أحيلت إلى هذا الأخير مباشرة. وفي سنة (١٨٨٧ م) ، شكلت ولاية بيروت ، نظرا إلى أهميتها تجاريا وسياسيا. وتبع هذه الولاية سنجق عكا ، الذي ضمّ أقضية حيفا وطبرية وصفد والناصرة ، كما تبعها سنجق البلقاء ـ نابلس ، الذي ضم قضاءي جنين وطولكرم (بني صعب).

ويتضح من الإجراءات الإدارية التي اتخذها الباب العالي في بلاد الشام بعد الانسحاب المصري ، أنه كان يرمي إلى فرض حكم إستنبول المباشر على هذه البلاد التي ظلت منذ الاحتلال العثماني تتمتع بنوع من الحكم الذاتي المحلي ، في الإطار العام للسلطنة. وذلك ، ليس فقط في الريف وأطراف الصحراء ، حيث القبائل القوية والزعماء المحليون فرضوا هيمنتهم ، وإنما أيضا في المدن ، حيث عائلات غنية أقامت لنفسها جيوشا خاصة بها. لكن الإجراءات العثمانية المتخذة لتحقيق هدف المركزية ظلت تعتورها الثغرات ، وبالتالي تنقصها النجاعة في الأداء. وإذ تقصلت سلطة الولاة ، وتبعا لذلك قدرتهم على التفرد والتمرد على المركز ، فقد برز عجزهم في إدارة شؤون البلاد بعد الاستقرار السياسي. وبينما أخضع الموظفون الكبار إلى المراقبة والمحاسبة والنقل الدوري ، فإن الفساد الذي تفشى في الأجهزة والمراتب الدنيا ظل على ما كان عليه ، بل استشرى. وكذلك الحال بالنسبة إلى ضباط وأفراد الجيش المحلي ، غير النظامي. وعلى العموم ، فإن أوضاع البلاد الاقتصادية راحت

٢٧١

تتراجع ، ومع فتح أسواقها أمام البضائع الأجنبية ، انحسرت سوق الصناعات المحلية ، وأصابها الكساد. ومداخيل بلاد الشام من الضرائب لم تكن كافية لتسديد نفقات الجهاز الإداري المنتفخ ، الذي وظفه الباب العالي في إدارة شؤون البلاد.

لكن فرض السلطة المركزية في بلاد الشام كان يفترض اتخاذ الإجراءات اللازمة لزعزعة مرتكزات قوة الزعماء المحليين ـ الجيوش الخاصة والسلاح والتزام جباية الضرائب. وفي المقابل ، كان على الحكومة المركزية توفير أدوات السلطة الجديدة ـ موظفين وجيوش نظامية وقوانين تضبط الإدارة والعلاقة بين السلطة والناس. وفي هذا السياق ، كانت التنظيمات الجديدة التي عمد إليها الباب العالي تعاني ثغرات على الصعيد الذاتي ، وتواجه عقبات على الصعيد الموضوعي. فبعد الانسحاب المصري ، كانت ردة فعل الزعماء المحليين ، ومعهم قطاعات واسعة من السكان ، عنيفا على الإجراءات التي اتخذها إبراهيم باشا وسعى لتجسيدها بيد من حديد. وفي سعيها لزحزحة الحكم المصري من بلاد الشام ، عمدت السلطنة إلى تقوية النزعات الاستقلالية لدى الزعماء المحليين ، وقدمت لهم الوعود السخية لتحريضهم على الحكم المصري ، كما زودتهم بالسلاح والمال لمقاتلة جنوده وتدمير جيشه ، حتى وهو ينسحب. وبذلك ، كان الباب العالي يؤسس لإفشال التنظيمات التي حاول إدخالها لاحقا. هذا ، ولأسباب أخرى تتعلق بالحكومة في إستنبول ظلت الإصلاحات في بلاد الشام تسير ببطء شديد.

وإزاء الأوضاع الجديدة التي تشكلت في بلاد الشام بعد الانسحاب المصري ، إذ سارع الزعماء المحليون إلى استعادة مواقعهم السابقة ، برز عجز الحكومة العثمانية المركزية عن التصدي لهذه الظاهرة ، إذ افتقدت القوة العسكرية اللازمة لفرض إرادتها ، والجهاز الإداري المؤهل لتولي المسؤولية بدلا من الإدارة المصرية المتقدمة. وبعد فترة من المراوحة والتردد ، دامت نحو خمسة أعوام حزمت الحكومة العثمانية أمرها ، وعينت قائدا جديدا للجيش في بلاد الشام ، نامق باشا الذي هدد الزعماء المحليين باستعمال القوة ضدهم إذا لم يخضعوا له. وإذ استطاع نامق باشا أن يفرض هيبته عليهم ، ويدخل عددا من الإصلاحات في الإدارة والتجنيد وجباية الضرائب ، غير أن النجاح في هذا المضمار ظل محدودا. فسياسة الباب العالي المترددة ، وعدم استقرار الموظفين الكبار في مواقعهم لفترات طويلة ، إذ كانوا ينقلون سنويا ، والصراعات في إستنبول بشأن الإصلاحات ، عرقلت تجسيد التنظيمات التي نصّت عليها المراسيم السلطانية. وفي المقابل ، لم تفعل التهديدات باستعمال القوة فعلها في ردع الزعماء المحليين وكبح جماحهم. وكما توصل الطرفان ـ السلطة المركزية والزعماء ـ إلى

٢٧٢

حلول وسط في أغلب الأحيان ، كذلك توقفت عمليات الإصلاح عند خط الوسط أيضا.

وعلى الرغم من كل محاولات السلطة تنظيم جباية الضرائب مباشرة من السكان ، عبر موظفي الدولة ، فقد ظل الالتزام قائما في بلاد الشام ، وبقي أساسا لاستمرار زعماء محليين تولي مهمة الجباية ، وبالتالي الحفاظ على نفوذهم في مناطقهم. وبالنتيجة ، ظل هؤلاء الزعماء عقبة في طريق السياسة العثمانية الرامية إلى مركزة السلطة في أيدي جهاز الدولة الخاضع إلى إشرافها المباشر. وقد شكّل هؤلاء الزعماء شريحة اجتماعية وسيطة بين السلطة والسكان. وكذلك ، لم تحقق محاولات تنظيم التجنيد الإلزامي نجاحا كبيرا في بلاد الشام كلها. فالزعماء المحليون ، وكذلك السكان عامة ، قاوموا هذا الإجراء ، كل لأسبابه الخاصة. وعندما حاولت السلطة إجراء إحصاء للسكان ، كمقدمة لتنظيم عملية التجنيد ، قوبل الإجراء بمقاومة عنيفة. وإذ كانت يد السلطة هي العليا في المواجهة ، عمد المطلوبون للتجنيد إلى الفرار ، تحاشيا للوقوع في أيدي القوات العسكرية التي كانت تجوب المناطق ، وتسوق المجندين. وبعد محاولات عدة ، استطاعت السلطة المركزية فرض التجنيد في المدن ، ولكن ليس في الريف ، أو بين القبائل البدوية ، وخصوصا في المناطق الجبلية. ولذلك ، وبينما اهتز موقع الزعماء المحليين في المدن ، لوجود السلطة فيها ، ولتجريد زعمائها من عناصر قوتهم التقليدية ، فإن زعماء الريف لم يتأثروا كثيرا بإجراءات الحكومة ، وخصوصا في المناطق الجبلية ، أو بين القبائل البدوية.

ففي المدن ، حيث تمركز الجهاز الإداري وتموضعت القوات العسكرية النظامية ، حققت التنظيمات نجاحا أكبر. وبعد أن حسم الصراع مع الزعامات المحلية لمصلحة السلطة المركزية ، أمكن وضع عدد من الأنظمة المرسومة في الفرمانات موضع التنفيذ. ولم يحدث ذلك من دون مقاومة أو عقبات. فالمدن في بلاد الشام كانت لفترات طويلة تتمتع بحكم محلي ، ولم تكن تخضع لسلطة الحكم التركي. وكثيرا ما حشد الزعماء المحليون قواهم ، على الرغم من خلافاتهم الداخلية ، لطرد هذا الحاكم ، أو تهميش دوره. وقد أنزل الحكم المصري ضربة قوية بهؤلاء الزعماء والأعيان ومرتكزات قوتهم ـ المادية والمعنوية. لكنهم عادوا وانتعشوا مع عودة الحكم العثماني ، وما قدمه لهم للتمرد على الحكم المصري. وقد تمت تسوية العلاقة بين هؤلاء الزعماء والحكم التركي ، وتوصل الطرفان إلى حلول وسط. فالتنظيمات قلصت صلاحيات الوالي وأعوانه من الموظفين الأتراك ، وبذلك فتحت الباب أمام الزعماء المحليين لإثبات وجودهم السلطوي. في المقابل ، فإن

٢٧٣

الوجود العسكري التركي النظامي في المدن كبح هؤلاء الزعماء عن اللجوء إلى الصدام مع ممثلي الحكومة المركزية ، واتخذت المواجهة بين الطرفين منحى آخر ، جرى التعبير عنه في «المجالس» ، التي أنشأتها السلطة في المدن ، إلى جانب الحاكم التركي.

وإذ لم تكن هذه المجالس جديدة على المدن السورية ، فإن العثمانيين في فترة التنظيمات منحوها سلطات واسعة نسبيا. ومثل هذه المجالس كانت قائمة في المدن السورية الرئيسية قبل الحكم المصري (١٨٣١ م). وكانت تسمى «دواوين» (جمع ديوان). وتضم إلى جانب الحاكم ، المتسلم والدفتردار وكبار ضباط الجيش ، وبعض العلماء البارزين (القاضي والمفتي) ونقيب الأشراف ، وبعض الأعيان. وفي إطار أوسع ، كانت المجالس تضم ممثلي التجار والحرفيين ومشايخ الطرق الصوفية. لكن صلاحياتها كانت على العموم محصورة في تقديم المشورة للحاكم. أمّا إبراهيم باشا ، فقد جعل هذه المجالس ذات صلاحيات أوسع ، كما حرص أن يكون تركيبها أكثر تمثيلا لقطاعات السكان المتعددة من دون استثناء ، فأصبحت بمثابة هيئات مساعدة للحاكم في تصريف الأمور. وكانت تتشكل من الحاكم (المصري) ، وموظفي الحكومة الكبار (المصريين أيضا) ، وبعض الأعيان المحليين وكبار التجار وممثلين عن قطاعات السكان ـ المسلمين وسواهم. وفضلا عن دورها في مناقشة الشؤون الإدارية والاقتصادية والمالية والتجارية الداخلية ، منحت المجالس صلاحيات قضائية في الأحوال الشخصية. أمّا القضايا التجارية والخلافات المالية ، فكانت من صلاحية محاكم خاصة ، تشكلت من تجار كبار ، ومن الطوائف الدينية جميعها.

وعندما عاد العثمانيون إلى حكم بلاد الشام ، أبقوا على المجالس فيها ، ولعلهم نقلوا عنها في الولايات الأخرى. وكانت الحكومة تعيّن أعضاء المجالس من موظفي الدولة الكبار ورؤساء الطوائف الدينية ، فضلا عن ممثلين منتخبين عن تلك الطوائف. وبناء عليه ، كانت المجالس العثمانية حكرا على طبقات المجتمع العليا ، وبالتالي أقلّ تمثيلا ديمقراطيا من المجالس التي أقامها إبراهيم باشا. وبحسب صفتها ، عالجت المجالس القضايا الإدارية والقضائية في الولاية أو السنجق أو الناحية. وتمتعت بصلاحيات واسعة ، إذ إن الأمور جميعها المتعلقة بالإدارة والمال كانت تمر عبر المجالس ، وتنفذ بعد موافقتها ، على الرغم من أنها استشارية في الأساس. وكانت للمجالس صلاحيات قضائية ، باستثناء الأحوال الشخصية ، التي كانت من صلاحية المحاكم الشرعية. وتدرجت صلاحيات المجالس بحسب التراتبية الإدارية ، من

٢٧٤

مجلس الناحية إلى السنجق إلى الولاية. ووفق هذه التراتبية أحيلت القضايا بحسب أهميتها من الأدنى إلى الأعلى. وباتساع مهمات المجالس ، تفرعت إلى هيئتين : الأولى إدارية ، والثانية قضائية ، ولكن في إطار المجلس الواحد.

وعلى العموم ، ظلت السلطة العثمانية ضعيفة في الريف ، وغائبة في المناطق النائية ـ الجبلية والصحراوية. وفي هذه المناطق ، قام بالمهمات الإدارية القليلة شيخ القرية ، الذي كان يتبع «ناظر الناحية» والذي بدوره يتبع «مدير القضاء». وكان زعماء الريف بصورة عامة أشخاصا محليين ، اضطرت السلطة إلى التعامل معهم لافتقارها إلى القوة العسكرية اللازمة لضبط الأوضاع في هذه المناطق المعزولة. وكثيرا ما تمرد الزعماء المحليون على السلطة ، وامتنعوا من دفع الضرائب المستحقة وتصدوا لقوات الحكومة بالسلاح عندما هاجمت مراكزهم. وقد حدث ذلك في الساحل السوري (جبل العلويين) ومنطقة بعلبك وجبل لبنان وجبل الدروز (العرب) والجبال الوسطى من فلسطين ـ نابلس والقدس والخليل. وفي هذه المناطق جميعا ، حاولت السلطة استغلال التناقضات بين العائلات المتنفذة ، أو بين فروع العائلة الواحدة ، للحفاظ على ولاء الحاكم للسلطة المركزية. ولكن عندما حاولت تلك السلطة إرسال جيش تركي لفرض هيبتها على الجبليين ، حشدوا قواهم ، وتصدوا لهذا الجيش. ولذلك سادت حالة من عدم الاستقرار في تلك المناطق ، على نقيض المدن ، حيث راحت تتشكل زعامة جديدة ، عبر المشاركة في تسيير أمور الحكم والتمرس بأساليبه.

وفي فلسطين ، تميّزت منطقة جبال نابلس بمقاومتها للحكم المركزي ، كما عرفت بالصراع الدائم بين زعمائها المحليين. ولهذه المنطقة تاريخ طويل في التمرد على السلطة. فحتى ظاهر العمر والجزار ونابليون وإبراهيم باشا ، لم يستطيعوا ضبط الأوضاع فيها. وبمساعدة الأمير بشير الشهابي ، استطاع عبد الله باشا احتلال قلعة سانور الحصينة (١٨٢٩ ـ ١٨٣٠ م) ، لكنه فشل في الاحتفاظ بها تحت سيطرته. ولقي إبراهيم باشا صعوبة كبيرة في إخضاعها ، وكانت أول من تمرد عليه (١٨٣٤ م) ، وهاجمت جيوشه المنسحبة إلى مصر (١٨٣٩ م). وبرز فيها عدد من العائلات الإقطاعية القيسية (طوقان وجرّار وريّان) ، وأخرى يمنية (النمر وقاسم وعبد الهادي) ، ظلت تتناحر على الدوام. ولكن هذه العائلات كانت على العموم تتوحد ضد تمركز قوات عسكرية نظامية في مناطقها ، وبالتالي فرض السلطة المركزية عليها. وإزاء عجز الحكومة عن إخضاع هذه العشائر بالقوة ، فقد عمدت إلى استغلال التناقض بينها ، وبالتالي تسعير التناحر بين التكتلات العشائرية ، التي كثيرا ما جرّت إليها بعض القبائل البدوية أيضا ، وذلك بشأن تولي الالتزام في المنطقة وما يدرّه ذلك من مكاسب

٢٧٥

اقتصادية ومعنوية ، تنافس بشأنها أساسا آل طوقان وآل عبد الهادي.

وعلى خط هذا الصراع العشائري ، دخل قناصل الدول الأوروبية التي فتحت لها قنصليات في القدس أيام الحكم المصري. فانحاز القنصل البريطاني إلى آل طوقان الذين مالوا على العموم إلى العثمانيين ، ضد المصريين ، فكانوا على رأس المناوئين لحكم إبراهيم باشا ، ورحبوا بعودة العثمانيين إلى حكم البلاد. في المقابل انحاز القنصل الفرنسي إلى آل عبد الهادي الذين كانوا يميلون إلى الحكم المصري ، ولم يكونوا سعداء بعودة الحكم العثماني. وفي مناوراتها بين الطرفين ، كانت الحكومة العثمانية تفضل آل طوقان ، لولائهم لها ، ولصداقتهم مع الإنكليز. ولكنها إزاء مقاومة آل عبد الهادي العنيفة ، وأخذا في الاعتبار قوتهم المالية والشعبية ، فقد عهدت الحكومة إليهم زعامة المنطقة أحيانا. وفقط بعد انتهاء «حرب القرم» (١٨٥٤ ـ ١٨٥٥ م) ، استطاعت السلطة العثمانية أن تتحكم في زمام الأمور في جبل نابلس ، وذلك من خلال عمل عسكري واسع النطاق ، جاء في إثر اضطرابات عنيفة في تلك المنطقة ، كانت موجهة ضد العثمانيين والدول الأوروبية. وقد تحركت السلطة العثمانية تحت ضغط قناصل الدول الأجنبية ، وعينت حاكما تركيا على المنطقة ، ضياء بك ، ورفدته بقوة عسكرية كبيرة. وإلى جانب الحاكم ، أقيم مجلس يضم أعيان المنطقة ، ومن خلاله تابع هؤلاء صراعاتهم.

وإلى الشمال الغربي من القدس ، في قرية العنب ، تمركزت عائلة أبو غوش (اليمنية) ، وسيطرت لفترة طويلة على الطريق المهمة بين يافا والقدس ، عند مداخل عاصمة السنجق ، وفرضت على المسافرين الضرائب ، وعلى التجار الأتاوات. وكانت تغير على القوافل التي لم تدفع ما يطلب منها وتنهبها ، كما دخلت في صراعات محلية مع العشائر المجاورة. وقد استسلمت عائلة أبو غوش لإبراهيم باشا من دون قتال. وعندما عادت المنطقة إلى حكم العثمانيين ، أعيد مصطفى أبو غوش ملتزما عليها ، ومسؤولا عن الأمن على الطريق إلى القدس. ولكنه تمرد على السلطة ، وراح يعمل لحسابه الخاص ، وفتح صراعا مع آل سمحان (القيسيين) ، الذين نافسوه بتحريض من العثمانيين. وفي سنة ١٨٤٦ م جرّد محمد قبرصلي باشا ، حاكم القدس العثماني ، حملة ضدهم وأخضعهم ، وقتل عددا من رؤسائهم ، وعندما استدعي قبرصلي (١٨٤٧ م) إلى إستنبول ، عادت عائلة أبو غوش للهيمنة على منطقتها ، وبالتالي التمرد على السلطة ، وممارسة أعمال النهب والاحتراب بين القيسية واليمنية. ونظرا إلى أهمية القدس ، والطريق المؤدي إليها من يافا ، وبعد تدخل قناصل الدول الأوروبية ، رفعت الحكومة العثمانية سنجق القدس إلى مرتبة «إيالة» ، وعينت عليها

٢٧٦

حاكما قديرا ، يعقوب باشا الذي استطاع إخضاع المنطقة للحكومة المركزية في القدس.

وكان سكان جبل الخليل أيضا بؤرة تمرد على السلطة المركزية ، وساحة احتراب بين العشائر المحلية. وقد برز فيها عبد الرحمن عمرو ، في قرية دورا. وعلى عكس مصطفى أبو غوش ، قاوم عبد الرحمن عمرو إبراهيم باشا ، وكان من أول المتمردين على حكمه (١٨٣٤ م). وقبل الانسحاب المصري من بلاد الشام ، وبتحريض من الإنكليز ودعمهم ، عاد عبد الرحمن وأعلن الثورة على الحكم المصري ، وقتل حاكم الخليل المصري وحاشيته. ولدى عودة العثمانيين ، عيّن «محصّلا» (جابي ضرائب) في المنطقة ، لكنه سرعان ما تمرد عليهم ، وأعلن استقلاله عنهم ، ورفض دفع الضرائب المستحقة عليه. فوجه قبرصلي ، حاكم القدس ، جيشا تركيا ضده ، وحاصره في الخليل ، وقبض عليه ، مع أخيه ومنافسه في الزعامة محمد عمرو وأبعده عن المنطقة ، لكنه عاد إليها بعد استدعاء قبرصلي إلى إستنبول ، وأعلن العصيان مرة أخرى. وقد تكرر ذلك عده مرات ، وحتى عندما حوصر في إذنا (قضاء الخليل) ، واستسلم من معه ، فإنه هرب ، وعاد مرة أخرى ، وعيّن (١٨٥٨ م) «ناظرا» لقضاء الخليل ، وأخيرا قبض عليه (١٨٥٩ م) وسجن ، ووضعت منطقته تحت الحكم العسكري العثماني.

ومن المشكلات الكبيرة التي واجهت الحكم العثماني في بلاد الشام ، كانت القبائل البدوية وسلوكها المعادي للحكم المركزي ، أو لحياة الاستقرار والزراعة ، وسطوها على طرق التجارة ، واقتتالها الدائم بين بعضها البعض. وهذه المسألة بالنسبة إلى فلسطين قديمة قدم التاريخ ، إذ هي تحاذي ثلاث صحارى كبيرة ، ظلت طوال التاريخ مجال ترحال قبائل بدوية ـ سيناء والجزيرة العربية والبادية السورية. ومن هذه الصحارى جميعا ، ظلت موجات القبائل البدوية تضغط على حدود الأرض المعمورة فيها ، وتحاول التغلغل داخلها ، أو فرض السيادة على سكانها ، أو غزوها ونهبها ، واستباحة حقولها كمراعي لقطعانها من الجمال والمواشي ، وبالنتيجة تخريبها. ومنذ الاحتلال العثماني لبلاد الشام (١٥١٧ م) ، لم تستطع السلطة فرض هيبتها على القبائل البدوية ، سواء لأن بلاد الشام لم تتمتع بأهمية كبيرة في نظر العثمانيين ، أو لأنها لم تملك القوة العسكرية الكافية في بلاد الشام لمحاربة تلك القبائل القوية وإخضاعها. وعلى العكس ، عمدت السلطة العثمانية ، التي أولت أهمية خاصة لقافلة الحج السنوية ، إلى دفع الرشاوى لمشايخ القبائل الضاربة على تلك الطريق ، لحماية القافلة ، أو على الأقل لعدم الاعتداء عليها.

٢٧٧

وقد شهدت بلاد الشام موجة كبيرة من الهجرة البدوية إليها ، جاءت من الجزيرة العربية ، وكانت أبرز قبائلها عنزة ، القادمة من نجد ، والتي انتشرت في البادية السورية. وفي شرقي الأردن ، تقدمت قبيلة بني صخر الكبيرة شمالا ، ودفعت قبيلة العدوان إلى جبال البلقاء. وهاتان القبيلتان قامتا بغزوات متكررة على فلسطين ـ غربي نهر الأردن. وقبيلة أصغر ـ التعامرة ـ كانت تتجول بين بيت لحم والبحر الميت. وفي النقب ومنطقة غزة وبئر السبع ، انتشرت عدة قبائل ـ التياهة والترابين والعزازمة وغيرها. وإضافة إلى هذه القبائل الكبيرة استقر في فلسطين عدد من القبائل الأخرى ، تأرجح بين الرعي والزراعة ، وعمل أحيانا كقوة شرطة حدود لدى الحكومة في مواجهة تجاوزات القبائل البدوية الأخرى ، ومنها الهنادي في شمال فلسطين. وإذ استطاع إبراهيم باشا فرض هيبته على القبائل لفترة قصيرة ، فإنها بعد انسحابه انتهزت الفرصة لاقتناص جزء من التركة ، الأمر الذي تسبب بمشكلات كبيرة للحكومة العثمانية في بلاد الشام عامة.

وبعد الانسحاب المصري ، استغلت القبائل الفراغ الذي تركه ذلك الانسحاب السريع ، من جهة ، وعجز الحكومة العثمانية الجديدة عن فرض سيطرتها على الريف وأطراف الصحراء ، من جهة أخرى ، وتقدمت لملء الفراغ ، بطريقتها الخاصة. وكانت القرى الزراعية في الريف الضحية الأولى لحركة القبائل تلك. فوقعت مناطق واسعة تحت رحمة مشايخ القبائل ، الذين فرضوا على سكانها «الخوّات» ، لقاء الحماية الاسمية ، التي لم تتوفر فعلا في الأغلب. وشاع بين الفلاحين قول «حاميها حراميها». ولم تنج المدن من تجاوزات القبائل المحيطة بها ، والتي لم تتورع عن محاصرتها وفرض الأتاوات عليها. وحتى مدن كبيرة مثل حلب وحمص وحماة ، لم تفلت من أيدي تلك القبائل ، أو تسلم من تدخل المشايخ في شؤونها الداخلية. وفي فلسطين ، تعرضت مدن مثل بيت لحم وأريحا وغزة ، لممارسات شبيهة ، كما دخلت القبائل على خط الصراعات بين الزعماء المحليين ، فعززت بذلك وجودها في محيط القرى والمدن ، وكذلك مواقعها في توازن القوى. ومن الأهداف الرئيسية لمشايخ القبائل كانت طرق التجارة ، سواء لفرض الخوّات ، أو للنهب والسلب. وإزاء هذه الحالة من الفوضى التي جرّها سلوك القبائل المغالي في عدم الانضباط ، وقفت السلطة العثمانية عاجزة تماما.

وعلى العكس من الحكم المصري في بلاد الشام ، الذي كانت لديه سياسة واضحة وحازمة لفرض السيطرة والأمن على البلاد كافة ، لم يكن للحكومة العثمانية مثل هذه السياسة. وأسلوب الترغيب والترهيب الذي اتبعته هذه الحكومة مع القبائل

٢٧٨

البدوية ، بدفع الرشاوى لها ، من جهة ، وتهديدها بالقوة ، من جهة أخرى ، لم يجد نفعا بسبب ميوعته في الاتجاهين ، ولعله شجع بعض القبائل القوية على الابتزاز. فالأعمال العسكرية التي قامت بها ، لم تكن قط حاسمة ، ولم تتوفر لها القوة اللازمة لإخضاع القبائل الشرسة. وكذلك فشلت الحكومة في تحقيق أغراضها عبر تحريض القبائل بعضها على بعض ، إذ سرعان ما انقلب المنتصر على الحكومة وعاد إلى الممارسة الاعتيادية. وقد استعملت الحكومة بعض القبائل كشرطة حدودية ، مثل قبيلة الهنادي ، التي جاءت من مصر ، واشتهر زعيمها عقيل في هذه الفترة في شمال فلسطين. وفي النتيجة ، فشلت الأساليب جميعها التي لجأت إليها الحكومة العثمانية في ضبط سلوك القبائل البدوية ، بما في ذلك محاولة توطينهم واستقرارهم. وظلت هذه القبائل عامل اضطراب أمني ومصدر إزعاج للحكومة.

امتيازات وقناصل

نظرا إلى الدور الكبير الذي أدّته الدول الأوروبية ، وخصوصا بريطانيا ، في فرض الانسحاب من بلاد الشام على محمد علي ، وإعادتها إلى الحكم العثماني ، فقد زاد تبعا لذلك تدخلها في شؤون السلطنة عامة ، وفي بلاد الشام خاصة. والأمر الذي ساعدها على ذلك كان الضعف العام الذي اعترى السلطنة ، وعلى جميع الصعد. وفي الواقع ، فإن الباب العالي أصدر فرمانات التنظيمات تحت ضغط دول أوروبا. وبينما كانت المصالح الاقتصادية والاستراتيجية تملي على دول أوروبا سياستها في الشرق ، فإنها وجدت في الأقليات الدينية وحقوقها المدنية الذريعة للتدخل في شؤون الحكم العثماني ، في العاصمة كما في الولايات. وإزاء ضعف السلطنة ، راحت تلك الدول توسع من امتيازاتها التجارية التي حصلت عليها سابقا ، ومنها ما أعطي في أوج قوة السلطنة (أيام سليمان القانوني ١٥٣٥ م). ومع عودة الحكم العثماني إلى بلاد الشام والعقبات ، الذاتية والموضوعية ، التي واجهها ، زاد قناصل الدول الأوروبية ، الذين كثر عددهم واتسع نفوذهم في البلاد أيام الحكم المصري ، في تدخلهم في شؤون البلد ، إذ طال نواحي النشاط الحكومي جميعها ـ الإدارة والاقتصاد والمحاكم وشؤون الرعايا. وبرز بينهم القنصل البريطاني وودز ، الذي تصرف كحاكم فعلي للبلاد ، تحت غطاء تنفيذ التنظيمات.

وكان اتفاق دول أوروبا على صيانة وحدة السلطنة الرسمية نابعا من تباينها بشأن اقتسام مناطق النفوذ في أراضيها. ولذلك ، فتلك الدول لم تكن معنية بترسيخ الحكم العثماني في الولايات ، وتثبيت مرتكزاته ، بل على العكس ، كثيرا ما عمدت إلى

٢٧٩

تحريض فئات اجتماعية وطوائف دينية وقومية على الحكومة المركزية ، وإثارة القلاقل ضدها في مناطق متعددة. وكان المثال الأبرز في لبنان ، إذ عملت فرنسا على تقوية نفوذها هناك عبر العلاقات السياسية والثقافية مع الموارنة ، فردت بريطانيا بإقامة علاقات مع الدروز ، الأمر الذي انتهى إلى القتال الطائفي في جبل لبنان. وفي فلسطين ، دخلت بريطانيا وفرنسا ، عبر قنصليهما في القدس ، على خط الصراع بين الزعماء المحليين في جبال نابلس ، عبد الهادي وطوقان ، وكذلك في جبال القدس ، أبو غوش واللحام. وتبنى قناصل الدول الأجنبية قضايا الأقليات المسيحية بصورة حركت ردة فعل من المسلمين ضدهم. وكذلك بسط هؤلاء القناصل حمايتهم على الجماعات اليهودية في القدس وغيرها ، وكفلوا الإقامة في البلاد للمهاجرين اليهود الأوائل إليها.

ونتيجة تفاقم التنافس بين دول أوروبا الرأسمالية ، وخصوصا بين فرنسا وبريطانيا ، وتواتر الأزمات التي انتابت السلطنة العثمانية ، فأقعدتها عن ضبط الأوضاع في الولايات ، انتشر عملاء تلك الدول في بلاد الشام ، يثيرون القلاقل ، ويدعمون المتمردين بالمال والسلاح. وكان حكام الولايات الأتراك يعون هذا النشاط التخريبي ، لكنهم لم يستطيعوا مواجهته ، لأسباب تتعلق بتأثير قناصل الدول في عواصم الولايات ، كما في إستنبول نفسها. وقد ازداد هذا النشاط بعد حرب القرم. وعلى صعيد العمل بين الطوائف المسيحية ، احتدم التنافس بين فرنسا ، التي تتبنى الموارنة والكاثوليك ، وروسيا ، التي كانت تحمي الأورثوذكس ، باعتراف السلطان منذ معاهدة كوتشوك كاينرجي (١٧٧٤ م). ولموازنة هذا الامتياز الذي تمتعت به فرنسا وروسيا ، عمدت بريطانيا وبروسيا إلى تبني طوائف بروتستانتية صغيرة ، حصلت على الاعتراف بها «ملة» (١٨٥٠ م). كما تذرعت بريطانيا وبروسيا وروسيا والنمسا وفرنسا ، بحماية مهاجرين يهود ، يحملون جنسية تلك الدول ممن وصل إلى فلسطين وعزم على الاستقرار بها.

وبعد خروج المصريين من فلسطين ، ازدادت فيها البعثات التبشيرية بسرعة كبيرة ، وتركزت أساسا في القدس. وفي نهاية القرن التاسع عشر ، كانت نسبة المبشرين إلى السكان في القدس أكبر من نسبتهم في أية مدينة أخرى بالعالم. وإذ عملت هذه البعثات بالتبشير أصلا ، فإن بعضها أقام مؤسسات تعليمية أو طبية أو خيرية. وفي حقل الخدمات الإنسانية ، حققت هذه البعثات نجاحا أكبر بكثير من نجاحها في المجال الديني ، إذ إن عدد الذين غيروا ديانتهم بفعل هذه البعثات كان قليلا جدا ، وانحصر في الطوائف المسيحية الشرقية فقط. لكن هذه المؤسسات ،

٢٨٠