الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

تأجيل إرسال وفدهم إلى لندن ، ليذهب من موقع القوة بعد نجاح الإضراب في تحقيق أهدافه. وفي اجتماع لهم في نابلس (٢٥ نيسان / أبريل ١٩٣٦ م) ، توصلوا إلى تشكيل لجنة عربية عليا ، من عشرة أعضاء ، يمثلون القوى والأحزاب كافة لقيادة النضال الوطني وإدارة الإضراب العام. وانتخب الحاج أمين الحسيني رئيسا لها ، وعوني عبد الهادي أمينا للسر ، وضمت في عضويتها جمال الحسيني وألفرد روك وراغب النشاشيبي ويعقوب فراج وحسين فخري الخالدي وعبد اللطيف صلاح ويعقوب الغصين وأحمد حلمي عبد الباقي (مستقل). وتعهد الزعماء بإيقاف النشاط الحزبي ، وقررت اللجنة العليا «الاستمرار في الإضراب العام إلى أن تبدل الحكومة سياستها المتبعة في فلسطين تبديلا أساسيا تظهر بوادره في وقف الهجرة اليهودية.» وفي حال عدم استجابة الحكومة للمطالب العربية حتى ١٥ أيار / مايو ١٩٣٦ م ، فستعلن عصيانا مدنيا ، وبدء عمليات مقاومة عنيفة ضد الحكومة والاستيطان الصهيوني.

وبينما عززت الوحدة الوطنية موقع القيادة السياسية ، فإنها صلبت القاعدة الجماهيرية أيضا. فاجتاحت البلاد موجة من الحماسة والتفاؤل بالنصر ، كما عمّها الإضراب العام والاستعداد للتضحية ، وتنامي الروح الكفاحية ، وتحدي أوامر السلطة وعقوباتها الجماعية القاسية. ومنذ صباح الاثنين بتاريخ ٢٠ نيسان / أبريل ١٩٣٦ م ، وبعد انتشار أخبار الصدامات الدموية في منطقة يافا ـ تل أبيب ، عمّ الإضراب جميع نواحي فلسطين بصورة تلقائية. واتخذ الإضراب طابع الشمول ، فطال جميع مرافق الحياة وأصابها بالشلل ، كما ترافق مع تظاهرات ضخمة وعنيفة ، شاركت فيها جميع قطاعات الشعب. وتشكلت لجان متعددة في كل مدينة لضمان حسن تنفيذ الإضراب ، وتوفير مستلزمات صمود الناس فيه. وكان أكثر المرافق الحكومية تضررا من الإضراب ميناء يافا ، الذي توقف العمل فيه طوال فترة الإضراب التي دامت ستة أشهر. لكن الحكومة لم تستجب للمطالب العربية ، فعمدت اللجنة العليا إلى التصعيد ، وفي اجتماعها بتاريخ ٨ أيار / مايو ١٩٣٦ م ، دعت السكان إلى الامتناع من دفع الضرائب فاستجاب هؤلاء للدعوة. وفي المقابل ، فرضت الحكومة قانون الطوارىء ، بما ينطوي عليه من أحكام تعسفية بالإعدام والسجن الطويل والعقوبات الجماعية ونسف البيوت وإتلاف الممتلكات والمزروعات .. إلخ. وفي هذه الأثناء ، كانت مجموعات مسلحة قد بدأت تمارس نشاطها بعمليات إغارة على المستعمرات اليهودية ومرافق الحكومة وغيرها.

وكانت العمليات الأولى لتلك المجموعات المسلحة موجهة ضد المستعمرات ،

٤٦١

التي تولت قوات الأمن الحكومية الدفاع عنها ، وبالتالي تصدت للاشتباك مع العصابات الفلسطينية. وسريعا تحوّل الثوار إلى مهاجمة قوافل السيارات على الطرق ، فعمدت قوات الأمن لمواكبتها ، فاحتدمت الاشتباكات بين تلك القوات والثوار. كما بدأت عمليات في المدن ، استهدفت المتاجر والمرافق والأشخاص ، فاستنفرت قوات السلطة في المدن ، وأصبحت في اشتباك دائم مع الخلايا المقاتلة. ومن القدس انتشرت هذه العمليات إلى طبرية ويافا وصفد وحيفا وغيرها. وبلغت الاشتباكات ذروتها في شهر آب / أغسطس ١٩٣٦ م ، الذي قتل فيه ٣٠ يهوديا ، من مجموع ٨٠ قتلوا طوال فترة الإضراب ، كما جرح خلالها ٣٩٦. ووقع ١٩٩٦ هجوما على الأشخاص ، و ٨٩٥ على الممتلكات ، وأتلفت ٠٠٠ ، ٢٠٠ شجرة ، وأحرق ٠٠٠ ، ١٧ دونم من المحاصيل ، ووقع ٣٨٠ هجوما على الحافلات والقطارات ، و ٧٩٥ على الشرطة والجيش ورجال الحكومة ، كما ألقيت خلال هذه الفترة ١٣٦٩ متفجرة. (١)

وبقرار الحكومة سحق الثورة بالقوة ، أصبحت المعركة عمليا معها ، ورفضت التراجع والاستجابة للمطالب العربية ، بل على العكس ، أوغل المندوب السامي في تعنته ، فمنح الوكالة اليهودية ٤٥٠٠ تصريح هجرة إضافيا بتاريخ ١٨ أيار / مايو ١٩٣٦ م. وفي اليوم التالي ، افتتح ميناء تل أبيب ، بديلا من ميناء يافا المعطل بفعل الإضراب العام. فتعالت الدعوات التحريضية إلى الانتقال إلى حمل السلاح ضد الحكم البريطاني ، وردّت السلطة باعتقال عدد من المحرضين : أكرم زعيتر وسليم عبد الرحمن وفخري النشاشيبي وحسن صدقي الدجاني ، ونفتهم إلى أماكن متفرقة ، فحملوا الثورة معهم ، واستعرت أكثر فأكثر. وكانت يافا القديمة معقلا للثوار ، لا تجرؤ قوات الحكومة على دخوله ، ومصدر تهديد لأكبر مدينة يهودية ـ تل أبيب ، فاتخذت الحكومة قرارا بتهديمها ، تحت ذريعة «تجميل المدينة». فنسفت فيها ٢٢٠ منزلا ، الأمر الذي أدّى إلى تشريد نحو ٤٥٠ عائلة وزاد في نقمة الجماهير العربية على الانتداب ، فهبت ضد السلطة ومرافقها وموظفيها في كل مكان.

بعد يافا ، ركزت السلطة نشاطها على نابلس والقدس ، حيث كانت الخلايا الثورية نشيطة ، وحشدت لذلك قوات كبيرة ـ ثلاثة ألوية مشاة (تموز / يوليو ١٩٣٦ م).

__________________

(٤٤) مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، وجامعة الكويت ، «الثورة العربية الكبرى في فلسطين ، ١٩٣٦ ـ ١٩٣٩» (الرواية الإسرائيلية الرسمية) ، ترجمه عن العبرية أحمد خليفة. راجع الترجمة سمير جبور (بيروت ، ١٩٨٩) ، ص ٢٦.

٤٦٢

وحل الجنود محل الشرطة ، التي امتنع ضباطها وأفرادها العرب من تنفيذ الأوامر ، وخصوصا بعد تهديم يافا القديمة ، إذ راح الكثيرون منهم يتعاونون مع الثوار. وبعد تعزيز القوات العسكرية في المدن ، تحول الثوار إلى الريف ، إذ انضموا إلى العصابات الكثيرة التي كانت تعمل هناك. ولم تكن العصابات موحدة ، فمنها تنظيم القسام ، مثل الشيخ فرحان السعدي الذي عمل في منطقة جنين ، وقبض عليه في قرية نورس ، وحوكم عسكريا وأعدم عن عمر يناهز ٧٥ عاما (١٩٣٧ م). وكانت مجموعة أخرى تتشكل بقيادة المناضل الثوري السوري ، سعيد العاص ونائبه عبد القادر الحسيني ، وعشرات العصابات المحلية ، التي تشكلت حول قيادات محلية ريفية ، أو بتوجيه من اللجان القومية ، التي عملت على تشكيل مجموعة مسلحة في كل قرية ومدينة.

واستهدفت العصابات العاملة في الريف حركة النقل العامة ، والمواصلات السلكية ، فسدّت الطرق بالحواجز الحجرية ، ونسفت الجسور وخطوط السكك الحديدية ، وكذلك خط أنابيب النفط الواصل بين العراق وحيفا. فتحرك الجيش لمواكبة القوافل ، وخصوصا سيارات شركة بوتاس البحر الميت ، وأمعنت السلطة في مطاردة الثوار ، فوقعت بين الجانبين معارك عنيفة ، حقق فيها الثوار انتصارات مهمة. وكانت معركة نور شمس (قرب طولكرم) ، حيث هاجم الثوار (٢١ حزيران / يونيو ١٩٣٦ م) قافلة متوجهة إلى حيفا ، تواكبها حراسة عسكرية ، واستمر الاشتباك سبع ساعات متواصلة ، من أهم المعارك التي ألهبت حماسة الجماهير. وأصبحت هذه الهجمات ظاهرة مألوفة في «مثلث الرعب» ، كما سماه الجنود البريطانيون ، وهو المنطقة الواقعة بين نابلس وجنين وطولكرم. كما وقعت معارك كبيرة في مرج ابن عامر (عين حارود) ووادي عزّون (قرب طولكرم) وباب الواد (قرب القدس) ، سقط فيها العشرات من الثوار العرب والجنود البريطانيين. وأثبتت العصابات المسلحة قدرتها على القتال ، وإرباك أعداد كبيرة من الجيش البريطاني ، وأنها عصية على السحق العسكري كما اعتقد قادة الجيش البريطاني في البداية.

وانتشر الثوار في كل مكان ، وكانت أعمال القمع والعقوبات الجماعية التي تمارسها السلطة تعزز روح المقاومة ، وتدفع بأعداد كبيرة من سكان الريف إلى الالتحاق بالعصابات. وقد سيطر الثوار في آب / أغسطس ١٩٣٦ م على المناطق الجبلية الوسطى في البلاد والجليل ، كما تفيد تقارير حكومة الانتداب. في المقابل ، لجأت الحكومة إلى التدابير العسكرية لقمع الثورة ، ففرضت منع التجول لساعات طويلة كل يوم ، كما شكّلت محاكم عرفية في ظل قوانين الطوارىء ، وفرضت الغرامات المادية الثقيلة والعقوبات الجماعية ، واعتقلت الكثيرين ، وقامت بأعمال

٤٦٣

التفتيش الاستفزازية بما يواكبها من تخريب للممتلكات ونسف للبيوت .. إلخ. ومع ذلك لم تستطع القوة العسكرية أن تخضع الثورة الشعبية.

وفي ٢٥ آب / أغسطس ١٩٣٦ م ، وصل القائد المناضل فوزي القاوقجي إلى فلسطين ، قادما من العراق ، على رأس مجموعة من المتطوعين من عصبة الدفاع عن فلسطين ، التي تشكّلت في بغداد. وكان قد سبقه سليم عبد الرحمن ، الذي فرّ من المعتقل إلى العراق ، وساهم في تشكيل العصبة هناك. وانضم إلى القاوقجي متطوعون سوريون ، بقيادة الشيخ محمد الأشمر ، وهو من قادة الثورة السورية (١٩٢٦ م). كما انضمت إليه مجموعة أخرى من جبل العرب ، بقيادة حمد صعب. وكان سعيد العاص (حماة) قد وصل قبلهم إلى القدس ، وأسس مع عبد القادر الحسيني جيش الجهاد المقدس. وقد جاء القاوقجي بناء على دعوة من اللجنة العربية العليا لقيادة الثورة ، واعترف به القادة المحليون ، وأعلن في ٢٨ آب / أغسطس ١٩٣٦ م عن بدء نشاطه العسكري. وكان بين مساعديه عزّ الدين الشوا ، قائمقام جنين سابقا وطاهر الخطيب الذي كان مسؤول الخدمات الطبية في قضاء جنين ، والصحافي السوري منير الريس.

وخلال فترة قصيرة من تولي القاوقجي قيادة الثورة ، دخلت المواجهة مع قوات السلطة مرحلة جديدة. وفي ٣ أيلول / سبتمبر ١٩٣٦ م وقعت معركة بلعا (شرق طولكرم) ، إذ نصب كمين لقافلة متجهة إلى حيفا ، واستمرت طوال النهار ، استخدم الجيش البريطاني فيها الدبابات والطائرات ، واعتبرت نصرا للثوار. وبعدها بفترة (٩ أيلول / سبتمبر ١٩٣٦ م) وقعت معركتان في يوم واحد ـ معركة ترشيحا (قضاء عكا) والجاعونة (قضاء صفد) ، حيث كانت الخسائر كبيرة على الجانبين. وإزاء هذه النقلة النوعية في أعمال الثورة ، التي أضرّت بهيبة الجيش البريطاني ، قررت حكومة لندن إخماد الثورة بالقوة. فأرسلت تعزيزات عسكرية إلى فلسطين ، بقيادة الجنرال جون غرير ديل ، فوصلها في ١٣ أيلول / سبتمبر ١٩٣٦ م. واعترض الثوار الدفعة الأولى من التعزيزات في طريقها من ميناء حيفا إلى القدس ، في جبع (٢٤ أيلول / سبتمبر ١٩٣٦ م) ، ووقعت معركة استمرت يوما كاملا ، شارك فيها مقاتلون من جميع القرى المجاورة ، ولم يستطع الجيش تطويق الثوار. لكن القتال لم يتوقف ، وتجمع الثوار في بيت إمرين ، وقررت القيادة العسكرية البريطانية محاصرتهم ، وتمكنت من إحكام الطوق عليهم (٢٩ أيلول / سبتمبر ١٩٣٦ م) ، غير أن النجدات التي وصلت من القرى أنقذت الموقف ، بخسائر كبيرة ، وفرضت على الجيش الانسحاب في اتجاه نابلس. وفي ٤ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٦ م ، تحركت قوات بريطانية كبيرة إلى منطقة

٤٦٤

بيت لحم ، لتطويق الثوار في جبال الخضر وحوسان ، بقيادة سعيد العاص وعبد القادر الحسيني. ووقعت المعركة صباح ٦ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٦ م ، وكانت الخسائر كبيرة ، إذ سقط العاص شهيدا ، والحسيني جريحا وأسيرا. إلّا إنه على الرغم من التفوق الذي أحرزه الجيش ، بفضل العدد والعدة ، فقد استمر الثوار في نشاطهم ، الأمر الذي دعا الحكومة البريطانية إلى سلوك طريق المناورة السياسية كرديف للعمل العسكري. وفي الواقع ، فإنه منذ بداية الإضراب ، جرت محاولات بريطانية ، اشترك فيها وزير المستعمرات المعروف بميوله الصهيونية القوية ، أورمسبي ـ غور ، والمندوب السامي واكهوب ، لثني القيادة الفلسطينية عن الاستمرار فيه ، وذلك بمواكبة حملات القمع الشرسة التي قامت بها القوات العسكرية المعزّزة.

وكان أورمسبي ـ غور قد ألقى بيانا في مجلس العموم البريطاني (١٩ حزيران / يونيو ١٩٣٦ م) ، أعلن فيه عزم الحكومة البريطانية إيفاد لجنة ملكية خاصة رفيعة المستوى ، برئاسة اللورد إيرل بيل ، إلى فلسطين ، للتحقيق في أسباب الاضطراب ، مؤكدا عدم التعرض لصك الانتداب ، واشترط أن تكون الخطوة الأولى «توطيد النظام والقانون». واتصل الأمير عبد الله بن الحسين باللجنة العربية العليا ، وطلب إيقاف أعمال العنف ، لتسهيل عمل اللجنة الملكية ، والتمهيد لمفاوضات مع حكومة بريطانيا. واشترطت اللجنة العليا تعهدا بنيل مطالبها للبدء في المفاوضات ، فلم تسفر وساطة عبد الله عن نتائج في تلك المرحلة. كما شارك في الوساطة الملك عبد العزيز بن سعود والإمام يحيى من اليمن والملك غازي بن فيصل من العراق. وأوفد هذا الأخير وزير خارجيته ، نوري السعيد إلى فلسطين ، فالتقى أعضاء اللجنة العربية العليا ، الذين قبلوا وساطته بصفته يمثل ملوك العرب وأمراءهم.

وفي ٣١ آب / أغسطس ١٩٣٦ م أصدرت اللجنة العربية العليا بيانا تقبل به وقف الإضراب والبدء بمفاوضات مع الحكومة البريطانية بشروط : وقف الهجرة ووقف العمل بقوانين الطوارىء وإلغاء الغرامات وإطلاق سراح المعتقلين. لكن مساعي نوري السعيد ، التي حققت أهدافها لدى اللجنة العربية العليا ، اصطدمت بالرفض الصهيوني لوقف الهجرة ولو موقتا. وانطلاقا من معرفة موازين القوى الراجحة لجانبها في المؤسسة البريطانية الحاكمة ، وبالاستناد إلى دعم أميركي قوي ، خاضت المنظمة الصهيونية معركة سياسية ضد التوصل إلى تفاهم مع اللجنة العربية العليا ، على أساس الشروط التي اتفق عليها مع نوري السعيد. واستفادت الوكالة اليهودية في صراعها من موقف وزارة الحرب البريطانية ، التي برزت في تلك الفترة كحليف سياسي للصهيونية ، إذ أصرّت على إخماد الثورة بالقوة. وتذرعت في دعم موقفها

٤٦٥

بضرورة ردّ الاعتبار لهيبة الجيش البريطاني ، في مرحلة تشتد فيها الحرب الباردة بين إنكلترا وكل من إيطاليا وألمانيا. كما قدمت القيادة العسكرية البريطانية تبريرات لتعزيز قواتها في فلسطين بضرورة حماية قناة السويس ، وخصوصا في إثر الاتفاقية البريطانية ـ المصرية (١٩٣٦ م) ، والقيود التي فرضتها على حجم الحامية الإنكليزية هناك.

وتضافرت هذه العوامل جميعا لتدفع حكومة لندن في اتجاه إظهار قبضة بريطانيا القوية ، وخصوصا بعد التلميحات التي أطلقها بن ـ غوريون في لقاء مع أورمسبي ـ غور ، أن استرضاء العرب سيدفع الحركة الصهيونية إلى تغيير تحالفاتها ، والمساعدة على إقصاء بريطانيا من المنطقة. واعتمدت حكومة لندن سياسة القضاء على الثورة أولا ، ومن ثمّ يأتي العمل السياسي على أرضية جديدة ومتباينة. واتخذ مجلس الوزراء (٢ أيلول / سبتمبر ١٩٣٦ م) قرارا بهذا المعنى ، ينطوي على إنهاء مهمة نوري السعيد بالوساطة ، وإرسال تعزيزات إلى فلسطين ، وتعيين الجنرال ديل قائدا لها ، ونقل السلطة من يد المندوب السامي إلى قائد الجيش إذا لزم الأمر. وأبلغت وزارة المستعمرات بإيقاف تدخل الدول العربية في شؤون فلسطين ، على أن تبقى أبوابها مفتوحة للهجرة اليهودية ، وذلك حتى ينتهي الإضراب ، وتتوقف الاضطرابات ، فيصبح بالإمكان مناقشة المسألة. وبعد هذا القرار ، بدأت حملة عسكرية محمومة في فلسطين ، بقيادة الجنرال ديل ، لكن الثورة صمدت ، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي لحقت بها. ومع ذلك ، فقد دخلت المواجهة مرحلة جديدة وصعبة ، وأصبحت تستلزم قرارات حاسمة.

وإلى جانب الترهيب بالسحق العسكري ، الذي تجمعت أدواته في فلسطين ، بقرار حازم من حكومة لندن ، مهدت له بالتلويح بإعلان الحكم العسكري ، عمدت إلى سياسة الترغيب عبر تفعيل الوساطة العربية مجددا. وتحت ضغط الواقع الذي تشكل ـ الصعوبات الاقتصادية نتيجة الإضراب الطويل والمخاطر العسكرية الماثلة للعيان ، من جهة ، والوساطة العربية ، من جهة أخرى ـ رضخت اللجنة العربية العليا إلى مطالب الحكومة البريطانية بإيقاف الإضراب وتجميد الثورة ، من دون أن تقدم هذه الأخيرة أية تنازلات ملموسة. وبررت اللجنة العليا قرارها بأنه موقت ، يوفر فترة من الراحة والاستعداد ، ويمكن التراجع عنه إذا جاءت قرارات لجنة بيل على غير ما ترغب. وبرزت معارضة لهذا القرار ، لكن السياسة البريطانية حققت نجاحا في تليين موقف اللجنة العربية العليا ، على أرضية الواقع الصعب الذي تشكّل.

وبمعرفة المندوب السامي وتشجيعه ، توجه بعض أعضاء اللجنة العربية العليا إلى الرياض وعمان في أواخر أيلول / سبتمبر ١٩٣٦ م. وفي ١٠ تشرين الأول / أكتوبر

٤٦٦

١٩٣٦ م ، صدر بيان مشترك عن الملك ابن سعود والملك غازي بن فيصل ، والأمير عبد الله بن الحسين ، موجه إلى رئيس اللجنة العربية العليا ، وعبره «إلى أبنائنا عرب فلسطين» ، هذا نصه : «لقد تألمنا كثيرا للحالة السائدة في فلسطين ، فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبد الله ، ندعوكم للإخلاد إلى السكينة حقنا للدماء ، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل ، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم.» وفي اليوم التالي ، أصدرت اللجنة العربية العليا بيانا ، هذا نصه : «قررت اللجنة العربية بالإجماع ، وبعد استشارة مندوبي اللجان القومية ، والحصول على موافقتهم باتفاق الآراء أن تلبي نداء أصحاب الجلالة ملوك العرب وسمو الأمير بالبيان المنشور أعلاه ، وأن تدعو الأمة العربية الكريمة في فلسطين للإخلاد إلى السكينة ، وإنهاء الإضراب والاضطراب ابتداء من صباح الاثنين المبارك الواقع في ٢٦ رجب ١٣٥٥ ه‍ / ١٢ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٦ م ، وأن يبكر أفراد الأمة الكريمة في صباح ذلك اليوم إلى معابدهم لإقامة الصلاة على أرواح الشهداء ، ورفع الشكر لله تعالى على ما ألهمهم من صبر وجلد ، ثم يخرجون من المعابد لفتح مخازنهم وحوانيتهم ومزاولة أعمالهم المعتادة ، والله ولي التوفيق.»

واستجاب الفلسطينيون لنداء اللجنة العربية العليا ، بالرضا والأمل المشوب بالحذر. وبذلك انتهى أطول إضراب شهدته فلسطين (١٧٦ يوما). وكذلك ، أعلنت قيادة الثورة وقف العمليات العسكرية ، وابتدأت هدنة ، بحسب الاتفاق بين اللجنة والحكومة. وعاد المقاتلون المحليون إلى بيوتهم ، محتفظين بسلاحهم ، بينما ظل المتطوعون العرب مع قيادتهم في منطقة نابلس. ولم يرق الأمر للقيادة العسكرية البريطانية ، التي لم تكن راضية عن الاتفاق ، وراحت تستعد لاستئناف القتال مع المتطوعين العرب. فهبت اللجان القومية ، ومعها المسلحون من أبناء البلد ، معلنين العودة إلى الثورة ، فسارعت الحكومة إلى وقف العمليات العسكرية ، على أن يغادر القاوقجي ورجاله ، فعبر نهر الأردن شرقا في ٢٥ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٦ م.

ج) مشروع التقسيم الأول

بعد وقف الإضراب ، وتجميد العمليات العسكرية ، ودخول الهدنة حيز التنفيذ ، وصلت اللجنة الملكية للتحقيق (لجنة بيل) في ١١ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٣٦ م. وقاطعت اللجنة العربية استقبالها ، ورفضت التعامل معها ، بسبب ما ورد في خطاب أورمسبي ـ غور في مجلس العموم (٥ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٣٦ م) ، الذي بدا أنه استباق لنتائج عمل اللجنة ، وتأكيد على التزام حكومة لندن بالمشروع الصهيوني ،

٤٦٧

ورفض لوقف الهجرة اليهودية. واتبع وزير المستعمرات خطابه بمنح الوكالة اليهودية ١٨٠٠ تصريح هجرة لنصف السنة التالية. وإذ قاطعت اللجنة العربية أعمال لجنة بيل ، على الرغم من التباين في وجهات النظر داخلها ، إذ رأى البعض (النشاشيبي) ضرورة التعاطي الإيجابي مع اللجنة الملكية ، فإن هذه الأخيرة باشرت عملها (١٦ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٣٦ م) بالاستماع إلى شهادات موظفي الحكومة أولا ، ومن ثمّ قيادة الوكالة اليهودية.

وكان قرار مقاطعة لجنة بيل سببا في الشقاق داخل اللجنة العربية العليا. وعبّر أنصار راغب النشاشيبي صراحة عن معارضتهم القرار ، كما أعلن الأمير عبد الله أنه ينوي المثول أمام لجنة بيل ، وكذلك فعل حسن صدقي الدجاني ، وبذلك ضعف الموقف العربي ، وفتح الباب أمام الوساطة العربية ، وسافر وفد لمقابلة ملكي السعودية والعراق ، وعاد يحمل كتابا منهما ، جاء فيه : «... وبالنظر لما لنا من الثقة بحسن نية الحكومة البريطانية في إنصاف العرب ، فقد رأينا أن المصلحة تقضي بالاتصال باللجنة الملكية.» وعقدت اللجنة العربية (٦ كانون الثاني / يناير ١٩٣٧ م) اجتماعا ، قررت فيه التجاوب مع كتاب الملكين ، فاجتمعت باللجنة الملكية خلال الأيام الخمسة الأخيرة من إقامتها في البلد.

وعرض رئيس اللجنة العربية العليا ، الحاج أمين الحسيني ، أمام لجنة بيل ، أسباب الاضطرابات التي يمكن تلخيصها بالتالي : ١) حرمان العرب في فلسطين من التمتع بحقوقهم الطبيعية والسياسية ؛ ٢) إصرار الحكومة البريطانية على اتباع سياسة ترمي إلى إنشاء وطن قومي يهودي في هذه البلاد العربية. وحدد المطالب العربية بما يلي : ١) العدول عن تجربة الوطن القومي اليهودي الفاشلة ، التي نشأت عن وعد بلفور ، وإعادة النظر في جميع النتائج التي نجمت عنها ، والتي ألحقت الأضرار والأخطار بكيان العرب وحقوقهم ؛ ٢) إيقاف الهجرة اليهودية إيقافا تاما وفوريا ؛ ٣) منع انتقال الأراضي العربية إلى اليهود منعا باتا وفوريا ؛ ٤) حل قضية فلسطين على الأسس التي حلت بها قضايا العراق وسورية ولبنان ، بإنهاء عهد الانتداب ، وعقد معاهدة بين بريطانيا وفلسطين ، تقوم بموجبها حكومة مستقلة وطنية ، ذات حكم دستوري ، تتمثل فيه جميع العناصر الوطنية ، ويضمن للجميع العدل والتقدم والرفاه. كما أدلى آخرون بشهاداتهم ، ومنهم عوني عبد الهادي ، الذي قبل بالمستوطنين لاعتبارات إنسانية.

وبرز بين موظفي حكومة الانتداب في ولائه للمشروع الصهيوني ضابط التطوير ، لويس أندروز ، الذي نفى أن يكون للاستيطان أثر سلبي على الفلاحين

٤٦٨

العرب. أمّا شهادات أركان العمل الصهيوني ، فقد تميّزت بنبرة التهديد ، الاستعداد للقتال من أجل تكريس «الوطن القومي اليهودي» ، والتلميح إلى إمكان أن تغير الصهيونية تحالفاتها الدولية (إشارة إلى نقل مركز ثقلها إلى الولايات المتحدة). واستغل وايزمن ضائقة اليهود في ألمانيا النازية لتبرير مواقف المنظمة الصهيونية ، كما أكد على ما سمّاه «الرباط التاريخي» بين اليهود وفلسطين. وشكك وايزمن في سلامة الموقف البريطاني إذا كان يسعى لاسترضاء العرب على حساب الصهيونية ، مهدّدا بأن اليهود سيقاتلون للحفاظ على مكتسباتهم. وأدلى كل من دافيد بن ـ غوريون وموشيه شاريت (شرتوك) وزئيف جابوتنسكي بشهاداتهم أمام لجنة بيل. وتميّز بن ـ غوريون ، الذي أصبح من أبرز قيادات العمل الصهيوني ، بصلفه وعنف خطابه ، وقال : «إن الوطن القومي هدف بحد ذاته ، ونحن نجيء إلى البلد لأن هذا من حقنا ، سواء أكان ذلك مفيدا لغيرنا أم غير مفيد.» كما أثارت شهادة شاريت جدلا بشأن الهجرة غير الشرعية. وطالب جابوتنسكي بضم شرقي الأردن إلى «الوطن القومي اليهودي» ، والسماح للمستوطنين بتشكيل «جيش يهودي» في فلسطين. (١)

وغادرت لجنة بيل فلسطين في ١٣ كانون الثاني / يناير ١٩٣٧ م ، بعد أن أمضت شهرين في البلاد ، استمعت خلالهما إلى ٧١ شاهدا ، منهم ١٤ عربيا ، و ٢٠ إنكليزيا ، و ٣٧ يهوديا. وكانت قد تسربت خلال هذه الفترة من مصادر يهودية ، معلومات حول توجه لجنة بيل إلى التوصية بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب ، ومن ثمّ ضم القسم العربي إلى شرق الأردن ، بإمارة عبد الله بن الحسين. وكان كلما ازدادت هذه الشائعات رواجا ، زاد الحاج أمين في معارضته للسياسة البريطانية ، واستعداده لاستئناف الثورة. في المقابل ، أعلن حزب الدفاع (٣ تموز / يوليو ١٩٣٧ م) انسحابه من اللجنة العربية العليا ، واستقال من عضويتها راغب النشاشيبي ويعقوب فراج. فاحتدم الصراع داخل الصف الفلسطيني ، كما وقعت عدة عمليات مسلحة ضد السلطة والمستعمرات اليهودية ، وكذلك ضد المتعاونين مع حكومة الانتداب ، والمؤيدين للتقسيم ، والمناهضين لزعامة الحاج أمين. وفي صيف سنة ١٩٣٧ م ، كان واضحا أن البلاد تسير نحو استئناف الثورة ، إذ عاد الثوار إلى الظهور بسلاحهم ، وتزايدت الصدامات بينهم وبين الجيش والشرطة.

وفي ٧ تموز / يوليو ١٩٣٧ م ، أصدرت لجنة بيل تقريرها ، الذي تضمن توصية بتقسيم فلسطين ، كانت مفاجئة للقيادة الصهيونية ، ليس من حيث الفكرة ، التي كانت

__________________

(٤٥) المصدر نفسه ، ص ٩٧ ـ ٩٩.

٤٦٩

لها إطلالة عليها ، وإنما من حيث التفصيلات ، التي لم تعجبها. وقد توصلت اللجنة إلى هذه التوصية على أرضية الاقتناع بعدم إمكان التعايش بين العرب والمستوطنين في فلسطين ، وبالتالي استعصاء تجسيد سياسة الانتداب ، فرأت في التقسيم الحل الذي تزيد مزاياه على عيوبه. وادّعت اللجنة أن التقسيم الذي لا يعطي أيّ طرف كل ما يرغب فيه ، فإنه يعطيه أشدّ ما يصبو إليه ـ الحرية والأمن. وفي الواقع ، فإن التقسيم ، بحسب توصية لجنة بيل ، يطالب العرب بالتنازل عن شيء يملكونه لمصلحة قيام كيان سياسي يهودي لا يرغبون فيه ، بينما يطالب اليهود بالتخلي عن شيء لا يملكونه ، لكنهم يرغبون في الحصول عليه ، بينما تحتفظ بريطانيا بمصالحها في فلسطين.

وكانت الخطوط العريضة لمشروع لجنة بيل للتقسيم كالتالي : ١) إنشاء دولة يهودية تضم القسم الشمالي والغربي من فلسطين ، وتمتد على الساحل من حدود لبنان إلى جنوبي يافا ، وتشمل عكا وحيفا وصفد وطبرية والناصرة وتل أبيب ، وترتبط بمعاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا ؛ ٢) تقع الأماكن المقدسة في منطقة القدس وبيت لحم ، وممر يصلها بمدينة يافا ، يضم اللد والرملة ، تحت الانتداب البريطاني الدائم ، المكلف أيضا حماية الأماكن المقدسة في الناصرة وطبرية. كما تبقى العقبة على البحر الأحمر في يد بريطانيا ؛ ٣) تضم الأراضي الفلسطينية الأخرى ، ومنها مدينة يافا ، إلى شرق الأردن ، وترتبط بمعاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا ؛ ٤) يجري «تبادل» للسكان بين الدولتين ـ العربية واليهودية ، فينقل العرب من الأراضي المخصصة للدولة اليهودية ، وعددهم نحو ٠٠٠ ، ٣٢٥ ، بشكل تدريجي إلى الدولة العربية ، ويتم ذلك قسرا إذا لزم الأمر ، وتهيّأ لهم أراض في منطقة بئر السبع ، بعد تحقيق مشاريع الري ؛ ٥) تدفع الدولة اليهودية مساعدة مالية للدولة العربية ، وتمنح بريطانيا مليوني جنيه للدولة العربية ؛ ٦) تعقد معاهدة جمركية بين الدولتين لتوحيد الضرائب فيهما. (١)

وفي الواقع ، فإن لجنة بيل ، التي استخلصت أن الانتداب بأهدافه القائمة غير قابل للتنفيذ ، قدمت بدورها مشروعا للتقسيم أقل قابلية للتنفيذ. فلا العرب ، ولا اليهود ، كانوا راضين عنه ، كما أكدت هي بنفسها ، لكنها لم تلحظ على عاتق من تقع مسؤولية التطبيق العملي للمشروع. وإذ ألمحت إلى استعمال القوة ، فإنها لم تحدد الجهة التي ستتولى استخدامها. وعلى الأقل في الجانب العربي ،

__________________

(٤٦) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم الثاني ، المجلد الثاني ، مصدر سبق ذكره ، ص ١٠٤٤ ـ ١٠٤٥.

٤٧٠

إذ ينطوي المشروع على مصادرة ملايين الدونمات المزروعة ، وإجلاء مئات الآلاف من السكان ، لم يكن هناك من يقبل به ، أو يقدر على فرضه بالقوة. واللجوء إلى استخدام القوة لتطبيقه ، لا ينهي الاضطرابات بقدر ما يزيدها استعارا. ومهما يكن ، فقد تسبب المشروع بإحداث انقسامات داخل كل من الحركة الوطنية الفلسطينية والمنظمة الصهيونية. وبينما قادة هذه الأخيرة تظاهروا بالقبول الشكلي ، فقد ناوروا لإلقاء وزر الرفض على الجانب العربي ، وهكذا جرى. ورفض الفلسطينيون التقسيم ، ما عدا قلة معزولة ، يتزعمها راغب النشاشيبي ، راحت توطد علاقاتها مع الأمير عبد الله ، الأمر الذي استثار الحاج أمين وأنصاره ، وزاد في معارضتهم لبريطانيا وسياستها لأنها لا تريد تقسيم فلسطين فحسب ، بل تهدف إلى ضم القسم العربي إلى شرق الأردن ، وتنصيب عبد الله حاكما وراثيا عليهما.

ومع صدور تقرير لجنة بيل ، أعلنت الحكومة البريطانية موافقتها عليه ، من منطلق أنه الحل الأفضل المتاح نتيجة الواقع ، وأنها ستوفد قريبا لجنة لرسم الحدود بين الوحدات السياسية ، كما تعهدت بتنفيذ المشروع. وأعلنت اللجنة العربية العليا رفضها القاطع للتقسيم ، وناشدت الحكام العرب والمسلمين التضامن مع الشعب الفلسطيني ، وأبلغت عصبة الأمم بموقفها هذا. وطالبت بإلغاء الانتداب ، لتحل محله دولة فلسطينية مستقلة ، ترتبط مع بريطانيا بمعاهدة تضمن مصالحها المعقولة ، كما تضمن مصالح الأقلية اليهودية. وكان وقع المشروع هائلا على الفلسطينيين ، وخصوصا في المناطق المخصصة للدولة اليهودية ، فرفضوه بصورة تلقائية ، وأعلنوا استعدادهم لمقاومته.

في المقابل ، استقبلت الأوساط الصهيونية المشروع بمشاعر مختلطة. فبين الإغراء بإقامة دولة يهودية ، ولو على جزء من الذي تعتبره «الوطن القومي اليهودي» ، وبين الخشية من أن يكون ذلك هو نهاية المطاف بالنسبة إلى المشروع الصهيوني ، انقسمت الآراء داخل الوكالة اليهودية ، وفي التجمعات اليهودية عامة ، ودار نقاش حاد بشأن هذا الاقتراح الجذري بين الاتجاهات المتعددة. ويلفت النظر أن هربرت سامويل رفضه لاعتقاده أنه غير قابل للتطبيق ، ولا يمكن نقل ٠٠٠ ، ٢٨٥ عربي من الأراضي المخصصة للدولة اليهودية ، والتي لا تضم أكثر من ٠٠٠ ، ٢٢٥ يهودي. كما أكد استحالة الدفاع عن الحدود التي يقترحها المشروع. ولقي المشروع قبولا واسعا بين يهود الولايات المتحدة ، كونه يطرح إقامة دولة يهودية مستقلة ، وتتبناه بصورة رسمية الحكومة البريطانية.

وفي أطر الوكالة اليهودية ، كما في الاستيطان ، كانت الآراء منقسمة. فالأغلبية ،

٤٧١

بقيادة وايزمن ظاهرا ، وبن ـ غوريون فعلا ، كانت مع استغلال الفرصة المتاحة لإقامة دولة يهودية ، ولو على جزء من فلسطين ، باعتبارها إنجازا سياسيا ، تفوق مزاياه عيوبه. وبرّر هذان موقفهما بكون البديل أسوأ ، وجادلا أنه مع تطور الحركة الوطنية العربية ، لم يعد العمل الصهيوني ممكنا من دون دولة يهودية ذات سيادة. لكنهما أكدا أن هذا القبول ليس شريعة للأجيال ، بمعنى قبوله المرحلي فقط. وادّعيا أن الوضع السياسي لملايين اليهود في «المنفى» ، يتطلب إقامة دولة يهودية فورا. أمّا المعارضون ، مناحم أوسشكين وبيرل كاتسنلسون ويتسحاق طبنكين ، فقد رأوا في هكذا دولة في حدود مقلصة ، أن المشروع الصهيوني قد تقزم ليصبح «غيتو» يهوديا جديدا ، ونفوا أهمية قيام دولة يهودية في الحدود المقترحة ، وبالشروط المطروحة.

ومن داخل المنظمة ، عارضت حركة هشومير هتسعير مشروع التقسيم ، وطالبت بفتح فلسطين كلها أمام الاستيطان ، من منطلق أن العرب سيقبلون به في إطار «دولة ثنائية القومية». واتفقت مع هذا الطرح حركة بريت شالوم ، وأوساط قريبة منهما في الخارج. ولم يتحمس نشطاء الوكالة اليهودية الموسعة في الولايات المتحدة للمشروع ، كونه ليس بديلا أفضل من الانتداب. ومن خارج المنظمة ، عارضه التنقيحيون ، ورأوا فيه مزيدا من التقليص للوطن القومي ، بعد سلخ الأردن عنه. وأخيرا ، جرى العمل على إزالة هذه الخلافات في المؤتمر العشرين (١٩٣٧ م) ، باتخاذ قرار مبهم بشأنه ، يتيح للقيادة الصهيونية المناورة بما تمليه التطورات. وشجب المؤتمر تقرير لجنة بيل القائل إن سياسة الانتداب غير قابلة للتطبيق ، وحمّل مسؤولية تعثرها للحكومة البريطانية. ورفض مشروع التقسيم كما طرح ، على أساس أنه يقلّص حقوق اليهود في الفترة الانتقالية. ومع ذلك ، كلف المؤتمر الوكالة اليهودية باستكمال التفاوض مع الحكومة البريطانية ، بهدف توسيع حدود الدولة اليهودية المقترحة. وتظاهرت القيادة الصهيونية بقبول المشروع مبدئيا ، والاعتراض على تفصيلاته ، لتحميل العرب مسؤولية إفشاله ، وهكذا حدث.

د) استئناف الثورة

لم تجد الحركة الوطنية الفلسطينية في مشروع التقسيم ما يلبي مطالبها المعلنة ـ وقف الهجرة ومنع بيع الأراضي ، وإقامة حكومة تمثيلية. بل على العكس ، ينطوي المشروع على تقسيم البلد ، وإقامة دولة يهودية على شاطىء البحر ، مفتوحة أمام الهجرة الواسعة ، وتوجه واضح إلى إلحاق الجزء العربي منها بشرق الأردن ، وتنصيب الأمير عبد الله حاكما عليهما. وكانت ردة الفعل برفضه تلقائية ، ما عدا حزب الدفاع ،

٤٧٢

الذي لم يجرؤ على إعلان موقفه ، تحاشيا لمواجهة النقمة الشعبية الواسعة. وكان الاتجاه العام نحو استئناف الثورة ، من دون الإضراب ، لما تسبب به هذا من مصاعب اقتصادية وحياتية على الناس ، وخصوصا في المدن. لكن الانقسام أصاب الحركة ، واستغلته السلطة لضرب حالة النهوض التي ولدها مشروع التقسيم. واحتدم في هذه المرحلة الصراع بين الحاج أمين والأمير عبد الله ، تدعم الأول أغلبية الشعب الفلسطيني الساحقة والثاني أقلية من الوجهاء التقليديين وحكومة بريطانيا.

وكانت المجموعات المسلحة تتأهب لاستئناف الثورة ، حتى قبل إعلان لجنة بيل تقريرها ، وراحت تنتشر في جبال الجليل والسامرة والقدس والخليل. وبعد بيان حكومة لندن ، كثفت اللجنة العربية العليا نشاطها ، فأرسلت الوفود إلى الحكومات العربية ، تحثها على إعلان رفضها لمشروع التقسيم وإخطار بريطانيا بعواقب السياسة التي تتبعها ، وخصوصا أنها كانت تسعى لإقناع الحكام العرب بمشروع التقسيم. أمّا النشاط الأخطر فكان العودة إلى تشكيل اللجان الشعبية لاستئناف الثورة ، التي أصبحت الدعوة إليها ، والتحريض عليها ، يجريان في العلن. وكان الحاج أمين الحسيني يقود هذه الحملة ، فعمدت السلطات إلى اعتقاله في ١٧ تموز / يوليو ١٩٣٧ م ، لكنه اعتصم بالحرم القدسي الشريف ، فجرّد من جميع مناصبه وصلاحياته. وتولت الحكومة مباشرة إدارة المحاكم الشرعية وأموال الأوقاف الإسلامية لتجميد نشاط المفتي وحرمانه من الإمكانات المادية لتمويله. وبدأت العمليات العسكرية في مناطق متعددة ، خلافا لتعليمات أعوان المفتي الذين طالبوا الثوار بالتريث والإعداد من أجل «القيام بهجوم عام في يوم محدد قادم.»

ولتدعيم الموقف الفلسطيني بمساندة عربية ، وكذلك لتطويق حركة الحكومة البريطانية في الأقطار العربية للحصول على تأييدها لمشروع التقسيم ، طلبت اللجنة العربية إذنا في عقد مؤتمر عربي عام في القدس ، فرفضت حكومة الانتداب ، بذريعة أنه يزيد في حدة التوتر في البلاد. فوجّهت لجنة الدفاع عن فلسطين في سورية الدعوة إلى عقد الاجتماع ، فعقد في بلودان (٨ أيلول / سبتمبر ١٩٣٧ م) ، بحضور الكثيرين من الشخصيات العربية. وترأسه ناجي السويدي (العراق) ، وكان الأمير شكيب أرسلان والمطران حريكة نائبين للرئيس ، وعزة دروزة سكرتيرا للمؤتمر. واتخذ المؤتمرون قرارات مؤيدة للحركة الوطنية الفلسطينية ، تدعو إلى وحدة فلسطين مع البلاد العربية ، وإنهاء الانتداب ، ورفض المشروع الصهيوني ، وإقامة حكومة تمثيلية فيها ، تعقد معاهدة مع بريطانيا على قاعدة السيادة والاستقلال ، وتضمن حقوق الأقليات فيها ، وتحمي الأماكن المقدسة.

٤٧٣

وبعد مؤتمر بلودان ، نشطت لجان الدفاع عن فلسطين ـ في سورية برئاسة نبيه العظمة ، والعراق برئاسة سعيد ثابت ، ولبنان برئاسة رياض الصلح ، وغيرها ـ فتغيرت الأجواء في فلسطين ، وتصاعدت الدعوة إلى استئناف الثورة ، وتشكلت اللجان لجمع الأموال ولتهريب السلاح وتجنيد المتطوعين. وإذ تكثفت العمليات العسكرية ، شددت حكومة الانتداب إجراءاتها التعسفية والقمعية ، واستبدلت الجنرال ديل بآخر ، ويفل (١٢ أيلول / سبتمبر ١٩٣٧ م) ، وجمدت مشروع التقسيم ، وأعلنت إيفاد لجنة جديدة للنظر في تفصيلاته. وفي ٢٦ أيلول / سبتمبر ١٩٣٧ م) اغتيل حاكم لواء الشمال ، لويس أندروز في الناصرة ، على يد الثوار ، الذين اعتبروا تعيينه ، وبالتالي عمله ، تهيئة للتقسيم ، خصوصا لما عرف عنه من حماسة للمشروع الصهيوني.

وتذرعت السلطة بمقتل أندروز لضرب التنظيم السياسي للثورة ، فأصدرت أمرا بحل اللجان القومية (١ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٧ م) ، كما حلت المجلس الإسلامي الأعلى ، ووضعت يدها على الأوقاف التابعة له. وشددت الرقابة على الصحف ، وأخيرا اعتقلت المئات من نشطاء الحركة الوطنية ، ونفت بعض قادتها ـ أحمد حلمي عبد الباقي والدكتور حسين الخالدي وفؤاد سابا ويعقوب الغصين ورشيد الحاج إبراهيم ـ إلى جزر سيشل ، في المحيط الهندي. كما أصدر المندوب السامي ، مكمايكل ، أمرا بمنع عودة آخرين ـ عزة دروزة وعوني عبد الهادي وألفرد روك وعبد اللطيف صلاح. واستطاع جمال الحسيني الفرار إلى دمشق. واختبأ المفتي بجوار الحرم ، ثم تسلل في ١٤ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٧ إلى لبنان ، حيث منحته السلطات الفرنسية حق اللجوء السياسي ، ولكن من دون ممارسة نشاط عملي. وبذلك أصبحت أغلبية قيادة العمل الوطني الفلسطيني من الصف الأول خارج البلاد. ومع ذلك ، نشبت الثورة مجدّدا.

وفي ليلة ١٤ ـ ١٥ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٧ م ، ليلة مغادرة المفتي ، التي حددت ساعة الصفر للهجوم العام ، صدرت الإشارة إلى العصابات لاستئناف نشاطها بكل قوة ، وكان عملها منسقا وموجها. وتحركت مجموعات كثيرة مسلحة في جميع أنحاء فلسطين ، وقامت بهجمات على دوريات الشرطة والجيش ، في منطقة القدس والخليل ، وهوجم قطار ينقل قوات بريطانية جنوب غرب القدس. وأخرج أحد قطارات الركاب عن الخط ، ودمرت خطوط السكك الحديدية في عدة أماكن ، وخربت شبكات الهاتف على نطاق واسع ، ونسف خط أنابيب بترول العراق قرب نهر الأردن ، واشتعلت النار بالنفط المتدفق. وجرت في ضواحي القدس عدة هجمات على سيارات الركاب اليهودية ، وتعرضت مستعمرات كثيرة إلى إطلاق النار. وفي اليوم

٤٧٤

التالي ، هاجم عدد كبير من الثوار مطار اللد ، فاحتلوه وأحرقوا منشآته. لقد انتهت الهدنة ، وانطلقت الجولة الثانية من الثورة التي كانت موجهة في الأساس ضد حكومة الانتداب والقوات البريطانية. وكان تجدد الثورة لطمة قوية لسياسة بريطانيا ومشروع التقسيم ، كما للقلة العربية التي راودتها فكرة القبول به ، وتكريسا لزعامة المفتي على الرغم من غيابه ، فقررت حكومة لندن (٨ كانون الأول / ديسمبر ١٩٣٧ م) مبدئيا أن تنفيذ مشروع التقسيم ليس عمليا.

واشتعلت الثورة في جميع أنحاء البلاد ، ولم تتوقف حتى نشبت الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ م). وفي البداية ، عمدت السلطة إلى أساليب القمع والتدابير التعسفية والمحاكم العسكرية ، التي خوّلت صلاحيات الحكم بالإعدام على كل من يحمل السلاح (قوانين الطوارىء). وكان الشيخ فرحان السعدي ، من رفاق القسام ، أول من طالته هذه المحاكم ، فأعدم بتاريخ ٢٨ كانون الأول / ديسمبر ١٩٣٧ م ، في سجن عكا ، عن عمر يناهز ٧٥ عاما ، وهو صائم في شهر رمضان. وزاد إعدامه في اشتعال الثورة ، لما كان يتمتع به من سمعة ثورية وصفات جليلة. لكن أحكام الطوارىء لم تثن عزيمة الثوار ، بل نفحت فيهم روح التحدي. وفي خريف سنة ١٩٣٧ م ، عاد عبد القادر الحسيني إلى القدس ، قادما من سورية برفقة مجموعة من الثوار ، واتخذ من جبال القدس والخليل مسرحا لعملياته. ثم قام بعدة هجمات على قوافل الجيش والمستعمرات اليهودية ، واضطر الحكومة إلى إيقاف سير القطارات على خط القدس ـ اللد. ومن أكبر المعارك التي خاضها معركة عرطوف. وبلغ مجموع العمليات العسكرية التي قام بها الثوار سنة ١٩٣٧ م في فلسطين ٥١١ عملية ، قتل فيها ٢٧٦ بين بريطاني ويهودي ، واستشهد الكثيرون من الثوار.

وشهدت سنة ١٩٣٨ م تعاظما ملحوظا للثورة ، وصل ذروته في صيف تلك السنة ، إذ سيطرت على مناطق واسعة في الريف ، كما على بعض المدن. وشكلت الثورة أجهزة موازية لأجهزة الحكومة في مناطق نفوذها ، راحت تمارس سلطتها على الناس. وبعد سيطرتها على الريف ، بدأت تشن الهجمات على دوائر الحكومة وقواتها في معظم مدن فلسطين ، واحتلت عددا منها لفترات متفاوتة ، الأمر الذي اضطر الحكومة إلى إخلاء بعضها ، والاكتفاء ببسط سلطتها على أجزاء محدودة من تلك المدن ، والاعتصام بعمارات البوليس التي عرفت باسم «عمارات تيغارت» على اسم الضابط الذي طرح فكرتها. واحتل الثوار مدينة الخليل في شباط / فبراير ١٩٣٨ م ، ومرة ثانية في أيار / مايو ١٩٣٨ م ، وجنين في آذار / مارس وبيسان في نيسان / أبريل وبئر السبع في أيلول / سبتمبر والقدس القديمة من ١٣ إلى ٢٠ أيلول / سبتمبر وطبرية

٤٧٥

في تشرين الأول / أكتوبر. وكانت نابلس تحت سيطرة الثوار ، يتجولون فيها بأسلحتهم ، كما وقعت معارك شوارع في حيفا ويافا وغيرهما.

وبعد مغادرة المفتي إلى لبنان ، وغياب معظم قادة العمل الوطني ، في المنفى أو المعتقلات ، واجهت الثورة مشكلة حقيقية في وحدتها التنظيمية ومركزية قيادتها. إلّا إنها ، نتيجة موجة الحماسة الشعبية ، تغلبت على تلك المشكلة مرحليا ، باعتماد مبدأ المركزية السياسية ، أي وحدة الموقف السياسي الذي عبّر عنه المفتي ، واللامركزية التنظيمية ـ الميدانية ، إذ توزعت القيادة على هيئات متعددة. فالمفتي ، الذي أصبح القائد السياسي الأول للحركة الوطنية من دون منازع ، كان بحكم لجوئه في لبنان ، تحت نوع من الإقامة الجبرية ، التي فرضتها عليه سلطات الانتداب الفرنسي. لكنه ظل يتمتع بحرية الاجتماع بالأفراد في مقره. وبذلك أدار العمل السياسي عبر معاونين ، منهم : حسن أبو السعود ومنيف الحسيني وإسحاق درويش. وظل على اتصال دائم باللجنة في دمشق التي تولى رئاستها الفعلية عزة دروزة ، ومعه أكرم زعيتر ومعين الماضي. وعرفت هذه الهيئة بفرعيها ـ البيروتي والدمشقي ـ باسم اللجنة المركزية للجهاد الوطني في فلسطين. وتولت توجيه الثورة وإمدادها بالمال والسلاح ، وتجنيد المتطوعين ، والتنسيق بين تشكيلات الثورة المتعددة ، والاتصال بالقوى المساندة لها في الخارج.

أمّا القيادة الميدانية فقد برزت بصورة تلقائية من مجموعة القادة المحليين ، الذين فرضوا وجودهم في مناطقهم عبر نشاطهم في الثورة ، وكانوا كلهم من أبناء فلسطين ، وجلهم من الطبقات الشعبية الريفية. وبالتدريج ، قامت اللجنة المركزية للجهاد بتنظيم العلاقات بينهم ، وتقسيم مناطق نفوذهم. ومع تصاعد النضال ، تبلورت قيادة المناطق على أساس اللامركزية ، مع شكل من الارتباط مع القيادة في الخارج. وقسمت البلاد إلى مناطق ، لكل منها قيادتها ، كالتالي : ١) المنطقة الشمالية ، وتضم أقضية طبرية وصفد وعكا والناصرة ، وفيها عدد كبير من القادة المحليين ، برز بينهم خليل عيسى (أبو إبراهيم الكبير) ، وتوفيق إبراهيم (أبو إبراهيم الصغير) ؛ ٢) المنطقة الوسطى ، وفيها أربع قيادات رئيسية : (أ) جنين الغربية ، وفيها الشيخ عطية ويوسف أبو درّة ، (ب) جنين الشرقية ، وفيها محمد صالح العبد ، (ج) طولكرم ، ويقودها عبد الرحيم الحاج محمد (الذي عيّن لاحقا قائدا لعموم الثورة) ، (د) المنطقة الساحلية ، وفيها عارف عبد الرازق ؛ ٣) المنطقة الجنوبية ، وفيها ثلاث مناطق : (أ) اللد ، وفيها حسن سلامة ، (ب) الخليل ، وفيها عيسى البطاط ، ثم خلفه عبد الحليم الجولاني ، (ج) القدس ، وفيها عبد القادر الحسيني. ولم تتشكل

٤٧٦

قيادة لمنطقتي غزة وبئر السبع ، بل نشطت هناك مجموعات محلية متعددة.

ومع استئناف الثورة ، كانت البلاد تحت الأحكام العسكرية ، وقائد الجيش البريطاني في فلسطين ، الجنرال ويفل هو الحاكم الفعلي ، والإدارة المدنية مهمشة. واستقدم ويفل سير تشارلز تيغارت ، الخبير بحرب العصابات في الهند ، فأعاد تنظيم الشرطة السرية ، واقترح إقامة سياج من الأسلاك الشائكة على الحدود مع لبنان وسورية والأردن ، تتخلله استحكامات حصينة ، لعزل الثوار عن عمقهم الاستراتيجي العربي. وبعد استدعاء قوات إضافية ، بدأ الجيش عمليات واسعة النطاق (حرب صغيرة) ، في نهاية سنة ١٩٣٧ م ، وقابله الثوار بمعارك مواجهة ـ عرابة البطوف ووادي العمود وأم الفحم واليامون ـ ألحق فيها الجيش خسائر كبيرة بالثوار ، واستشهد عدد من قادتهم ـ الإصبح والشيخ عطية. فتحول الثوار إلى حرب العصابات ، الأمر الذي استعصى على الجيش التعامل معه بنجاح. ويصف الكابتن أورد وينغيت الوضع بقوله : «بحلول الليل يصبح زمام الأمور في يد رجال العصابات. إنهم أحرار في زيارة القرى ليلا من دون أية مخاطرة ، ويستطيعون التحرك بلا وجل خارج الطرق الرئيسية ، ويستخدمونها أيضا عندما يجدون الأمر مريحا لهم. وبصورة عامة ، لا تتحرك الشرطة والجيش في أثناء الليل ، وعندما يفعلان ذلك فإنهما يتنقلان كالعادة في سيارات على الطرقات الرئيسية. وعندما يقعان بكمين ، كما هو متوقع ، كانا يردان بإطلاق النار ، الذي لا فائدة منه في الليل. وبعد تبادل إطلاق النار ، كانت العصابة تتمكن من الإفلات من دون مطاردتها. وكانت المفاجأة تأتي دائما من طرف العصابات لا من طرف الجيش.» (١) وشاعت في البلاد في حينه مقولة «إن البريطانيين يسيطرون على الطرق ، والعصابات تسيطر على الجبال ... مشروع تقسيم جديد ، النهار فيه للحكومة والليل للعرب.» (٢)

ولم تنفع مع الثوار الإجراءات المضادة التي عمد إليها الجيش. فالمطاردة بالجبال ثبت أن كلفتها أكبر من مردودها ، وتوظيف الوحدات الليلية الخاصة من الهاغاناه ، التي أشرف الكابتن البريطاني أورد وينغيت ، المهووس بتأييد الصهيونية ، على تنظيمها وتدريبها ، لم تجد فتيلا ، وتسخير «حرس الحدود الأردنية» في تعقب الثوار لم يحقق نتائج تذكر ، واحتلال القرى (٢٥ منها في الجليل فقط) وتثبيت مفارز عسكرية فيها لمنع الثوار من دخولها ، لم يحقق نجاحا كبيرا. لقد انتشرت الثورة في

__________________

(٤٧) «الثورة العربية الكبرى في فلسطين ...» ، مصدر سبق ذكره ، ص ١٦١.

(٤٨) المصدر نفسه ، ص ١٦٢.

٤٧٧

جميع أرجاء البلاد ، وكانت اللامركزية في هذه المرحلة تؤدي دورا إيجابيا في الصراع المحتدم. وفي آب / أغسطس ١٩٣٨ م ، بلغت الثورة ذروتها ، بعد الأعداد الكبيرة التي التحقت بها من أبناء القرى ، وسيطرت على طرق البلد وريفه وأحياء من مدنه. وقد تواكب ذلك مع توتر الوضع السياسي في أوروبا ، في إثر «أزمة تشيكوسلوفاكيا» (أيلول / سبتمبر ١٩٣٨ م) ، ولم تعد بريطانيا قادرة على حشد مزيد من قواتها في فلسطين ، بل على العكس ، أخذت تسحب منها إلى مصر وبريطانيا وأوروبا. وكانت مشاركة الهاغاناه في القتال إلى جانب الجيش ، والأعمال الإرهابية العشوائية التي قامت بها المنظمة العسكرية القومية (إرغون تسفائي لئومي) في حيفا ويافا والقدس وغيرها ، حافزا على التفاف الجماهير الفلسطينية الواسعة حول الثورة.

ويصف تقرير عسكري الوضع في البلاد في تلك الفترة (آب / أغسطس ١٩٣٨ م) كما يلي : «أحرقت محطات القطار بين القدس واللد جميعها ، وكذلك معظم المحطات الواقعة بين اللد والحدود المصرية. ووقعت غارات (raids) على بئر السبع ، والخليل ، وبيت لحم ، وأريحا ، ورام الله ، أحرقت خلالها مكاتب البريد والبلديات ومراكز الشرطة وما شابه ذلك. وهوجم ، بصورة خاصة ، مركز الشرطة في هذه المنطقة ، ووقعت كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة في يد الثوار. وكان يخدم في معظم مراكز الشرطة شرطة عرب مشكوك في ولائهم ، ولذا جرّدوا من أسلحتهم. ونظرا إلى عدم وجود شرطة بريطانيين للحلول محلهم ، فقد أغلقت مراكز الشرطة في المنطقة ، باستثناء مركزي غزة والخليل اللتين كانت تعسكر فيهما سرايا الجيش .... وباستثناء طرق المواصلات الرئيسية والأمكنة التي كان يعسكر فيها الجيش ، فقدت الحكومة عمليا السيطرة على مناطق واسعة في البلد.» (١)

إزاء هذه الأوضاع ، وإذ انتهت ، ولو مرحليا ، أزمة تشيكوسلوفاكيا (اتفاقية ميونخ) ، عادت الحكومة البريطانية لتفرض هيبتها على البلد. فاستدعت في ٥ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٨ م المندوب السامي ، سير هارولد مكمايكل ، الذي حل محل واكهوب (آذار / مارس ١٩٣٨ م) ، إلى لندن للتشاور في الإجراءات. وأفاد مكمايكل أن سياسة القبضة القوية لم تحقق الهدف منها ، وأنه لا يمكن إخماد الثورة من دون تنازلات سياسية كبيرة للعرب. فقررت الحكومة العمل في اتجاهين في آن معا : حرب شعواء على العصابات ، والشروع في تحقيق مصالحة سياسية مع الزعماء العرب. وبينما عادت الحكومة البريطانية إلى التكتيك السياسي الذي اتبعته في صيف سنة

__________________

(٤٩) المصدر نفسه ، ص ١٦٣.

٤٧٨

١٩٣٦ م ، فإنها عمدت إلى تعزيز قواتها العسكرية في فلسطين. فاستدعت تيغارت لتنظيم الحرب ضد الثورة ، وحشدت في البلد فرقتين ، اشتملتا على ١٨ كتيبة مشاة وكتيبتي فرسان وكتيبة مدرعات وكتيبة مدفعية ، وجميع الوحدات الملحقة بها. هذا فضلا عن الشرطة والوحدات الليلية الخاصة من الهاغاناه ، والتي تعززت ، وعمل فيها ضباط بريطانيون وعناصر يهودية. وبذلك ، بدأت مرحلة جديدة وحاسمة في الصراع ، يقودها الجنرال روبرت هايننغ ، الذي حل محل ويفل (٩ نيسان / أبريل ١٩٣٨ م).

وفي هذه المرحلة بالذات ، وبعد الطفرة الكبيرة في نشاط الثورة واتساع نطاقها ، بدأت تبرز سلبيات اللامركزية و «الانفلاش» التنظيمي ، بما يرافقه من تدني الانضباط ، في غياب قيادة سياسية موحدة على مسرح الأحداث. لقد صعدت الحكومة البريطانية حدة الصراع بهدف حسمه ، واستطاعت جرّ الثورة إلى التكتيكات التي أرادتها. واستغلت نقاط الضعف في الثورة ، وخصوصا من الناحية التنظيمية والمسلكية. وإذ كانت وحدة الموقف السياسي لا تزال هي السمة البارزة للثورة ، فإن الوحدة التنظيمية راحت تغيب ، ومعها الانضباط ، وخصوصا نتيجة تعذر الإمكان لتوفير مستلزمات الاستمرار في الثورة ، من دون تحميل الجماهير عبئا ثقيلا. وفي النتيجة ، تضافرت عوامل عدة ، موضوعية وذاتية ، وبالأخص تنظيمية وقيادية ، لتجعل الثورة عاجزة عن القيام بالعمل النضالي القادر على مواجهة متطلبات المرحلة الجديدة. وفي غياب الوحدة التنظيمية ، وتدني المسلكية الثورية ، وانعدام الديمقراطية ، سواء في اتخاذ القرار أو تنفيذه ، بدأ التراجع في الثورة. وفي هذه المرحلة بالذات وإزاء التعزيزات العسكرية الضخمة التي وصلت إلى البلاد ، وقبل تهيّؤ أوضاع الثورة ، شكلا ومضمونا ، عمدت إلى مهاجمة المدن ، بهدف السيطرة عليها ، الأمر الذي تمخض عن نتائج سلبية ـ داخليا وخارجيا.

وفي تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٨ م ، وفي أثناء وجود المندوب السامي في لندن ، اتخذ قرار تصفية الثورة الفلسطينية تحسبا لاندلاع الحرب مع ألمانيا ، ونقلت فرقة عسكرية أخرى إلى فلسطين على عجل. ووصف بعض البريطانيين الخطة أنها «احتلال فلسطين عسكريا من جديد ، وإعادة الحكم البريطاني إليها.» ولذلك وضعت البلاد كلها تحت الحكم العسكري ، بينما راحت الحكومة تنشط اتصالاتها لإجراء مفاوضات مع العرب ، الذين كانت تطمع في إبقائهم إلى جانبها في حال نشوب الحرب. وكان من معارك «الاحتلال الجديد» الأولى معركة بني نعيم ، إذ بالتعاون مع «فصائل السلام» ، التي شكلها حزب الدفاع لمساندة قوات السلطة ، أنزل الجيش ضربة قوية بالثوار في منطقة الخليل (٤ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٨) ، وأصيب عبد القادر الحسيني ، قائد

٤٧٩

المنطقة ، وفقد الثوار السيطرة عليها. وفي ١٨ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٨ م ، انتهز الجيش فرصة سيطرة الثوار على القدس القديمة لإظهار تصميمه على تنفيذ السياسة التي أعلنتها حكومة لندن. وخلال ثلاثة أيام من المعارك الشرسة سيطر الجيش على المدينة ، واعتقل الكثيرين من الثوار ، وقتل كثيرين ممن استبسلوا في الدفاع عن مواقعهم ، ومنهم الشيخ شكيب قطب ، الذي قاد الثورة في المدينة.

وبعد نجاحه بالقدس ، وسع الجيش نطاق عملياته ، فجعل البلد كله تحت الحكم العسكري ، وقسمه إلى أربع مناطق ، على رأس كل منها حاكم عسكري برتبة بريغادير. وفي نهاية تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٨ ، أعيد احتلال يافا ، وتوالت العملية في المدن والقرى الأخرى. وأحكم الجيش سيطرته على الطرق ، وراح يضيق الخناق على القرى ، التي أجرى فيها عمليات تمشيط ونسف بيوت وإتلاف ممتلكات وتخريب بساتين وكروم ، واعتقال مشتبهين. وتحولت الثورة إلى مواقع الدفاع عن النفس ، وراحت تنحسر بسرعة. وفي المقابل ، انتشرت «فصائل السلام» والقوى المضادة للثورة ترفع من عقيرتها ، وتثأر من رموز الحركة الوطنية ، فتزايدت أعمال الثأر العشائرية. وفي ٢٣ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٣٨ م ، أعلن وزير المستعمرات ، مالكوم مكدونالد «أن النظام بدأ يعود إلى البلد شيئا فشيئا وبجهود مضنية.» وكان شتاء سنة ١٩٣٨ ـ ١٩٣٩ م قاسيا على الثوار ، ومع ذلك استمرت عمليات المقاومة ، واستمر الجيش في المطاردة. وفي ٢٧ آذار / مارس ١٩٣٩ م ، قتل القائد عبد الرحيم الحاج محمد في معركة سانور ، بين نابلس وجنين ، وشيعته الجماهير الواسعة بالتظاهرات والإضرابات التي عمّت جميع أنحاء البلاد ، وكأنها كانت تشيع ثلاثة أعوام من الثورة.

وبموازاة العمل العسكري ، نشط التحرك السياسي. وكانت حكومة لندن (٤ كانون الثاني / يناير ١٩٣٨ م) أعلنت نيتها إرسال لجنة فنية إلى فلسطين ، «تكون مهمتها محصورة بالتأكد من الحقائق والنظر في تفاصيل إمكانات برنامج التقسيم.» ووصلت لجنة وودهيد ، على اسم رئيسها ، إلى البلاد والثورة مستعرة فيها (٢٧ نيسان / أبريل ١٩٣٨ م) ، وأمضت فيها ثلاثة أشهر ، وغادرتها والثورة في أوجها (٣ آب / أغسطس ١٩٣٨ م) ، من دون أن يلتقيها عربي واحد. وفي ٩ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٣٨ م ، أصدرت اللجنة تقريرها وتوصياتها. فرفضت مشروع لجنة بيل ، وتقدمت بمشروع أقل قابلية للتنفيذ ، وخصوصا أنه يقلص المساحة المخصصة للدولة اليهودية ، الأمر الذي يجعله غير مقبول للمنظمة الصهيونية.

وترافق نشر تقرير لجنة وودهيد مع صدور بيان حكومي بريطاني (٩ تشرين

٤٨٠