الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

لقد كانت الولايات الشرقية مهد الحضارات القديمة ، وتراثها ازداد غنى عبر العصور وكذلك كان اقتصادها أكثر ازدهارا بفروعه جميعها ـ الزراعة والصناعة والتجارة. وعلى الرغم من فترات الهبوط التي شهدتها ، أمنيا وإداريا ، فإن المؤسسات التي نشأت فيها وتطورت ، ظلت قادرة على إدارة الحياة المدنية. وحتى روحيا ، كانت هذه الولايات مجال تفاعل تيارات فكرية ودينية ، وبالتالي كانت حياة الناس فيها أوسع أفقا وأرقى مستوى. والقسطنطينية التي أصبحت العاصمة والمركز ، جسدت بين أسوارها المنيعة ، التعبير الأرقى لهذه المجالات جميعا ـ الإدارة المركزية المنظمة والموقع الاستراتيجي المنيع والقوة العسكرية والاقتصادية والتقدم الحضاري والثقافي. وعلى الصعيد الثقافي جمعت القسطنطينية تراث أكاديمية أثينا ومدرسة حقوق بيروت ومكتبة الإسكندرية الشهيرة.

والحضارة التي أينعت في بيزنطة كانت في الأساس شرق أوسطية. واحتلت بلاد الشام ومصر موقعا متميزا فيها ، إضافة إلى آسيا الصغرى وبلاد اليونان. وسادت فيها اللغة اليونانية ، إضافة إلى اللاتينية والأرامية والقبطية ، كما غلبت عليها الثقافة اليونانية. وجاءت المسيحية لتستوعب هذه العناصر ، وتطرح نفسها ديانة للدولة المتعددة الشعوب والأجناس واللغات ، متجاوزة الحدود الجغرافية ، والفوارق القومية والثقافية والحضارية. وعلى أراضي الإمبراطورية عاش خليط من الشعوب ، لكل منها ثقافته الخاصة ، لكن الجميع ، وخصوصا الطبقات العليا من المجتمع ، تعلموا اليونانية ـ اللغة الرسمية للدولة ـ وثقافتها وآدابها. وهذا الخليط من السكان ضم اليونان والسوريين والمصريين والفرس والفينيقيين والعرب والأرمن واليهود والسلاف والجرمان والمغول.

وطوال تاريخ الإمبراطورية البيزنطية ، قامت العاصمة ـ القسطنطينية ـ بدور حاسم في تقرير مصيرها ، كما شكّلت ركنا أساسيا في ازدهارها المادي والروحي. فالمدينة بموقعها الاستراتيجي ، كانت تتمتع بميزات اقتصادية ضخمة ، لأنها تقع على ملتقى طرق التجارة. ونظرا إلى ضخامتها وأسواقها وموانئها ومسافنها ، فقد كانت مركزا اقتصاديا وصناعيا كبيرا جدا. ولأنها العاصمة كان من الطبيعي أن تصبح بؤرة جذب ثقافي قوية. وكل ذلك إضافة إلى أنها مركز الإدارة الحكومية والدينية ، أعطاها هذا الدور الحاسم. والمدينة ، بتحصيناتها الطبيعية والاصطناعية ، الفريدة في نوعها في العالم القديم ، أثبتت طوال قرون كثيرة أنها عصية على الاجتياح. وقد أعطى ذلك سكانها الطمأنينة إلى خلودها ، والاقتناع بقدرتها على النهوض ، على الرغم من كل النكسات ، فقد اعتقد أهلها أنها «محروسة من لدن الله» ، وأنها أقيمت بناء على «إرادة

١٤١

الله لتحقيق الهدف الأسمى المقدس.»

والأكيد أن القسطنطينية تطورت بمسار طويل ، استمر قرونا ، لتصبح «عاصمة عالمية» ، بآلتها الإدارية والعسكرية والمالية وبقانونها الروماني وحضارتها اليونانية وبتجارتها المسيطر عليها تماما ونشاطها الفكري الثقافي. لكن قسطنطين الكبير هو صاحب الفضل الأول في وضع حجر الأساس لهذه الظاهرة الفريدة. فهو الذي اختار الموقع ، بناء على تقدير حصيف للواقع الذي وصلت إليه الإمبراطورية الرومانية ، بأطرافها المترامية. لقد راهن على الشطر الشرقي منها ، وكسب. كما رأى أن المستقبل للمسيحية في مواجهة الوثنية الرومانية ، وذلك بقراءة ثاقبة للتطورات على هذا الصعيد بين قطاعات السكان ، وكان مصيبا. وباعترافه الرسمي بها بعد اعتناقه لها شخصيا ، تقدمت المسيحية ، بفعل ذاتي نشط ودؤوب ، لتصبح عمليا الديانة السائدة في الإمبراطورية ، وتجعل من بيزنطة إمبراطورية مسيحية «أورثوذكسية».

وشكّل الاعتراف بالمسيحية قطعا مع الماضي في الإمبراطورية الرومانية ، على الأقل في جزئها الشرقي. والمسيحية التي عانت من الاضطهاد لفترة طويلة ، انتقلت إلى الموقع المتميز ، الأمر الذي لم يكن ممكنا إلّا بتضافر العوامل المتعددة التي أدّت إليه ، في ظروف الزمان والمكان. لقد دخلت الإمبراطورية في مرحلة جديدة ، سمتها العامة التناقض مع الماضي ، حتى الذاتي. فالماضي ، على الأقل من الناحية الدينية ، لم يعد يسد الحاجات القومية ، إذ برزت حاجات ورغبات جديدة ، كانت المسيحية فقط قادرة على تلبيتها في حينها. والإمبراطور ، الذي أصبح حامي «العقيدة الأورثوذكسية» ، طلب من رعاياه الولاء ، سياسيا ودينيا ، بينما المسيحية هي أساس الوحدة ، التي تتخطى الحدود الجغرافية والخلافات القومية والعرقية. أمّا قسطنطين ، فقد طرح نفسه الشخص الذي اختارته العناية الإلهية ليجمع الشعوب كلها تحت حكم المسيح ، في إطار كنيسته الأورثوذكسية.

ولد قسطنطين في مدينة نايسوس (نيش) في مقدونيا. وهو ابن قائد عسكري ، وأمه هيلينا (القديسة) ، كانت مسيحية ، وقامت بالحج إلى فلسطين ، وبحسب الرواية عثرت على «صليب المسيح» الحقيقي. وكان قسطنطين في جيش والده ، في بريطانيا ، عندما مات ، فنصبه جنود أبيه قائدا لهم. إلّا إنه كان عليه أن يخوض معارك مع منافسيه ليثبت موقعه. وفي هذه المعارك ، كما تورد الروايات ، قاتل تحت راية الصليب ، بناء على رؤيا ظهرت له في نومه ، فاعتنق المسيحية (٣١٢ م) بعد النصر. والحدثان المهمان في حكم قسطنطين ، وخصوصا بالنسبة إلى التاريخ اللاحق ، هما : بناء القسطنطينية وجعلها عاصمة الإمبراطورية الرومانية بدلا من روما ؛ وتبني المسيحية

١٤٢

وجعلها ديانة رسمية. وبغض النظر عن الجانب الإيماني في موقف قسطنطين من المسيحية ، فإنه بالتأكيد رأى فيها عامل توحيد لشعوب الإمبراطورية. لقد أراد تصليب وحدة الإمبراطورية عبر وحدة الكنيسة.

وأولى قسطنطين فلسطين عناية خاصة ، أكان ذلك لأسباب سياسية ـ اقتصادية متعلقة بموقعها ، أو لأسباب ذاتية دينية ، كونه اعتنق المسيحية ، أو بتأثير أمه ، هيلينا التي أمضت وقتا طويلا فيها. وفي أيامه ، وجزئيا بإشراف والدته ، بنيت عدة كنائس كبيرة في فلسطين ، في مواقع لها علاقة بحياة المسيح. ومنها «كنيسة القيامة» و «كنيسة الصعود» في أورشليم ، وكذلك «كنيسة المهد» في بيت لحم و «كنيسة البشارة» في الناصرة وغيرها. وبفضل الحركة العمرانية الكبيرة ، وهجرة عدد من أغنياء المسيحيين إليها ، وكذلك انتعاش حركة الحجاج إليها ، شهدت البلاد ازدهارا اقتصاديا. فتوسع الاستيطان فيها ، كما أعيد بناء عدد من المدن ، وانتشرت القرى الزراعية ، حتى في المناطق الواقعة على أطراف الصحراء. لقد طغت المسيحية على اليهودية في فلسطين ، ووسمتها بسمتها الجديدة الخاصة.

وباعتناقه المسيحية ، وإعلانها ديانة رسمية. معترفا بها ، أحدث قسطنطين نقلة نوعية في شؤون الإمبراطورية. لكن التجسيد العملي لهذه السياسة تمّ في أيام خلفائه. فابنه ووارثه ، كونستانتين الثاني (٣٣٧ ـ ٣٦١ م) ، طالب رعاياه باعتناق ديانة الإمبراطور ، وأصدر عددا من المراسيم بهذا الخصوص. وجاء ثيودوسيوس الأول (٣٧٩ ـ ٣٩٥ م) ، ومن بعده ابنه أركاديوس (٣٩٥ ـ ٤٠٨ م) ، ليضعا هذا التوجه موضع التطبيق العملي. ففي ٢٧ / ٢ / ٣٨٠ م صدر «مرسوم ثيسالونيكا» الذي كرّس الكنيسة الكاثوليكية ديانة للإمبراطورية. وهذا المرسوم وطّد موقع المسيحية في الإمبراطورية ، من جهة ، وفتح باب الخلافات العقائدية داخل الكنيسة ، من جهة أخرى. ومراسيم ثيودوسيوس ، الذي يرتبط اسمه بانتصار المسيحية ، لم تترك مجالا للاعتدال مع الديانات السابقة ـ الوثنية واليهودية ـ وحتى مع التيارات المسيحية الأخرى. لقد كان ثيودوسيوس جادا في توحيد الإمبراطورية ، على أساس وحدة الدين والكنيسة. ولتنفيذ هذه السياسة ، استكملت الكنيسة تنظيمها الإداري ، إذ أصبحت مؤسساتها وفروعها موازية في تقسيماتها الإدارية لتقسيمات الدولة ، بينما في قمة الهرم ، الديني والمدني ، الإمبراطور نفسه.

إن الترتيبات اللاحقة لإعلان المسيحية ديانة الإمبراطورية ، أدّت إلى وضع صار فيه رأس الدولة هو رئيس الكنيسة أيضا. وكان طبيعيا أنه في مقابل سعي الإمبراطور لتوحيد الناس خلفه ، سياسيا ودينيا ، صار عليه أن يدفع الثمن السياسي عندما يضطره

١٤٣

موقعه الديني إلى التدخل في الخلافات العقائدية بين التيارات المتعددة. والواقع أن هذه التيارات ، التي اتخذت سمة لاهوتية ، لم تكن معزولة قط عن الانتماءات القومية للشعوب داخل الإمبراطورية. وقد تشكلت فعلا كنائس ذات طابع قومي ، وخصوصا في الولايات الشرقية ـ مصر وسورية والعراق والجزيرة .. إلخ. وكان للمركزية المطلقة في إدارة الدولة انعكاسات سلبية ، سياسية ودينية ، في مراحل هبوط مستوى الإدارة ، وتفشي الفساد في صفوفها. إذ أخذت الخلافات طابعا مزدوجا ـ دينيا وقوميا ، في آن معا.

والخلافات العقائدية واللاهوتية بشأن طبيعة المسيح (وحدة طبيعته البشرية والإلهية ، أو انفصالهما) ، أدّت خلال القرنين ـ الرابع والخامس ـ إلى انقسامات حادّة داخل الكنيسة. وفي المجمع المسكوني الرابع (مجمع خلكيدون) ، الذي انعقد بقرار من الإمبراطور (٤٥١ م) ، كان الانقسام واضحا بين الشرق والغرب. وعندما أقرّ هذا المجمع ثنائية طبيعة المسيح ، وتبنّت الدولة هذا القرار على أنه المذهب الرسمي للكنيسة الأورثوذكسية وبالتالي للدولة ، فقد أخرجت الطوائف الأخرى من إطارها. وعندما عمدت إلى فرض الموقف الرسمي قسرا ، انفجرت اضطرابات في الولايات الشرقية ـ سورية ومصر ـ حيث كانت أغلبية السكان تتمسك بالعقيدة القائلة بالطبيعة الواحدة للمسيح (المونوفيزيتية). وقمعت تلك الاضطرابات بعنف شديد ، نجم عنه الكثير من إراقة الدماء على أيدي السلطة.

لكن قمع هذه الثورات لم يحل المشكلة بين بيزنطة والولايات الشرقية ، إذ وراء الخلافات العقائدية ، كانت تكمن تناقضات قومية وسياسية ، وخصوصا في سورية ومصر. وأخذت هذه التناقضات تحتدم عبر الصراع ونتيجة القمع ، وبالتالي يتسع نطاقها وتبرز بكل وضوح. وسكان هذه الولايات ، وخصوصا سورية ، أصبحوا بفعل موقعهم يقتنعون بأفضلية الانفصال عن الإمبراطورية البيزنطية ، والانضمام إلى الفارسية. والأمر الذي شجعهم على ذلك هو الحفاوة التي استقبل بها «النساطرة» في شمال العراق وبلاد الرها ، عندما هربوا من أراضي بيزنطة إلى فارس ، إذ سمح لهم بإقامة مراكز دينية ، مارسوا فيها تعاليمهم بحرية كاملة ، ولم تتدخل الدولة في نشاطهم التبشيري ، على طول «طريق الحرير» إلى الصين. وفعلا ، فإن هذا الصراع السياسي ـ الديني سهّل على الفرس احتلال بلاد الشام ، ومن بعدهم على العرب فتحها ، في النصف الأول من القرن السابع الميلادي.

وتعتبر فترة حكم جوستنيان (٥٢٧ ـ ٥٦٥ م) فترة ازدهار للحكم البيزنطي القوي في بلاد الشام. فالنشاط العسكري الذي مارسه على جبهات متعددة ، وبنجاح ملحوظ

١٤٤

جعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة بيزنطية مرة أخرى. وكان جوستنيان يرى نفسه وارثا للإمبراطورية الرومانية ، وتصرف على هذا الأساس ، تحت شعار «دولة واحدة ، قانون واحد ، كنيسة واحدة». ولهذا الغرض جمع في يده السلطة السياسية والدينية والإدارية ، وتعامل مع النزعات الانفصالية والطوائف الدينية غير الأورثوذكسية بحزم وصرامة. وكان محبّا للبناء والإعمار ، إذ بنى كنائس فخمة متعددة ، وأقام مشاريع كثيرة ، وأولى إدارة الدولة اهتماما كبيرا. لكنه بنشاطه العسكري أفقر خزينة الدولة ، وبانصرافه للعمل العسكري في الغرب ، فتح الباب أمام ملك فارس ، كسرى أنو شروان لمهاجمته من الشرق ، الأمر الذي اضطره إلى البحث عن السلام مع كسرى بشروط قاسية ومذلة ، ولقاء جزية سنوية ضخمة (٥٣٢ م).

لكن السلام مع الفرس ، الذي اشتراه جوستنيان بأتاوة كبيرة لم يكن ليستمر. ففي سنة ٥٧٢ م ، فتح الصراع مرة أخرى ، واستمر طويلا حتى حسم سنة ٦٢٩ م ، على أيدي هيراكليوس (٦١٠ ـ ٦٤١ م). وكان هيراكليوس (هرقل) ، الإمبراطور النشيط والقدير ، قد تولى السلطة في بيزنطة بعد فترة من الفوضى والهزائم على أيدي الفرس ، في أيام سلفه فوكاس. وبادر الفرس مرة أخرى (٦١١ م) إلى غزو سورية واحتلال عاصمتها أنطاكيا المدينة الرئيسية في الولايات الشرقية ، ثم تابعوا زحفهم إلى دمشق ، فاحتلوها (٦١٣ م) ، ومنها إلى فلسطين (٦١٤ م) ، فاحتلوها بمساعدة اليهود الذين انضموا إلى الجيش الفارسي. وانتقم الفرس ، ومعهم اليهود من المدينة المسيحية إيليا كابيتولينا ، فهدموا كنائسها وأديرتها ومعالمها المسيحية ، ونهبوها ، وذبحوا الكثيرين من سكانها ، وحملوا معهم «الصليب المقدس» ، والبطريرك زاكاريوس إلى بلادهم.

وهذا الاجتياح الفارسي لم يتوقف عند بلاد الشام ، بل تعداها إلى مصر وآسيا الصغرى. وسقطت الإسكندرية (٦١٨ م) ، في حين تقدم الجيش الفارسي إلى «كابادوكيا» ، وعسكر في مقابل القسطنطينية. وبعد تردد ، قرر هيراكليوس البدء بالحرب ضد الفرس. وكانت حملته في ربيع سنة ٦٢٢ م بمثابة حملة صليبية لاستعادة إيليا كابيتولينا و «الصليب المقدس». وتضامنت الكنيسة مع الإمبراطور بكل ثقلها ، المادي والمعنوي. وإضافة إلى النشاط التحريضي ، وشحذ الهمم للانضمام إلى الحملة ، قدمت الكنيسة مدخراتها وكنوزها لدعم الجيش والإمبراطور ، الذي وجد خزينة الدولة فارغة عندما تسلم الحكم من فوكاس. وفي سلسلة من الحملات الناجحة في آسيا الصغرى وغيرها ، وخصوصا في أرمينيا ـ المستودع البشري لجيشه ـ استطاع هيراكليوس أن يحطم القوة العسكرية الفارسية. وأخيرا ، عقد الطرفان صلحا

١٤٥

بينهما (٦٢٩ م) ، واستعاد هيراكليوس الولايات الشرقية ، بما فيها إيليا كابيتولينا ، وكذلك «الصليب المقدس» الذي أعيد إليها بموكب فخم.

إن السهولة التي احتل بها الفرس الولايات الشرقية للإمبراطورية البيزنطية ، لا يمكن تفسيرها من دون الأخذ في الاعتبار الصراعات الدينية داخل الكنيسة المسيحية ، وما رافقها من قمع وإراقة دماء. فهذه الولايات كانت في شقاق مع بيزنطة ، لأسباب سياسية وقومية ، عبرت عنه في تشبثها بالعقيدة المونوفيزيتية ، المناهضة للكنيسة الرسمية. وزاد في ميل سكان هذه الولايات إلى الفرس ، المعاملة الحسنة التي كان يتمتع بها النسطوريون تحت حكمهم. أمّا في فلسطين ، فعلى الرغم من أن البطريرك كان مواليا للمركز ، فقد كانت أغلبية الناس في المعارضة. ومع ذلك ، انتقم الفرس من مسيحيي البلاد وكنائسهم ، وخصوصا في أورشليم ، وسمحوا لليهود باستباحة معابد المسيحيين ومنازلهم. وانتهز هؤلاء الفرصة ظنّا منهم أن الحكم الفارسي سيعيد إليهم السلطة في البلاد ، كما فعل كورش في حينه. لكن هذه الأحلام تبددت بالنصر الذي أحرزه هيراكليوس على الفرس.

والنصر الباهر الذي حققه هيراكليوس وضعه في مصاف الأباطرة العظام ، وهناك من شبهه بالإسكندر المقدوني. لكن «الفتح العربي» الذي جاء سريعا في إثره غطى عليه. ومع ذلك ، فإن هذه الحرب مع الفرس ، وما آلت إليه من نتائج ، مهدت الطريق أمام الفتح العربي ، وبالتالي إزالة الدولة الساسانية من الوجود ، في حين صمدت بيزنطة ثمانية قرون أخرى. وبعد توقيع الصلح مع الفرس ، عرج هيراكليوس على إيليا كابيتولينا في طريق عودته إلى بيزنطة ، ودخلها باحتفال كبير ، وأعاد «الصليب المقدس» إلى موضعه ، وأمر بترميم الكنائس التي خربت ، ومنع اليهود من دخول «المدينة المقدسة» ، وحاكم المسؤولين عن ارتكاب المجازر ضد المسيحيين ، ولاحقا أصدر مرسوما يحظر عليهم ممارسة شعائرهم الدينية.

العمران

لقد حققت الولايات الشرقية من الإمبراطورية الرومانية نهضة عمرانية وفنية وفكرية ، في العصر البيزنطي ، وخصوصا بعد بروز الديانة المسيحية. فإضافة إلى هندسة المدن ، التي أقيم الكثير منها ، بنيت كنائس فخمة وأديرة وأبنية عامة ، تجلى فيها الفن البيزنطي الرائع. وفي صوغ هذا الفن المتميّز تضافرت ثلاثة عناصر أساسية ، هي : المسيحية والهلّينية والتراث الشرقي. وكانت مدينة أنطاكيا ، عاصمة الولاية السورية ، هي الرائدة على هذا الصعيد. كما قامت في بلاد الشام مراكز أدبية وثقافية ،

١٤٦

تجاوز أثرها حدود الولاية بكثير. وإذ كانت الإسكندرية هي الرائدة في هذا المجال ، فقد اشتهرت بيروت بمدرسة الحقوق ، وقيساريا وغزة بمدارس البلاغة والشعر. ومن قيساريا جاء «أبو تاريخ الكنيسة» (يوسيبيوس القيصري) ، الذي يعتبر المصدر الرئيسي عن حياة قسطنطين وبداية المسيحية.

وشهد العصر البيزنطي تغيّرا ملحوظا بالتركيب السكاني في فلسطين. ففي مقابل تقلص أعداد اليهود فيها ، ازدادت نسبة العرب ، إذ إضافة إلى العناصر التي كانت تعيش فيها ، وعلى أطرافها ، منذ القدم ـ أنباط وأدوميين وأيطوريين ، وغيرهم ـ دخلت قبائل جديدة من الغسانيين وحلفائهم ، وعاشت إلى جانب السكان الأصليين الذين تمركزوا في المدن أصلا ـ سوريين (أراميين) ويونان ورومان وأرمن ويهود وغيرهم. وكان الغسانيون قد انتشروا خلال القرنين ـ الخامس والسادس الميلاديين ـ في سورية وشرق الأردن وفلسطين ، وتحالفوا مع البيزنطيين وأقاموا دولة حدودية قوية ، حلت محل خط الحدود الدفاعي الروماني (ليمس). وقد تنصر الغسانيون ، وكانوا يتبعون العقيدة المونوفيزيتية. وبسبب موقعهم ودورهم ، كان بنو غسان بؤرة جذب لقبائل متعددة ، دخلت في تحالف معهم ، واستقرت في المنطقة.

وضمن الترتيبات الإدارية ـ الدفاعية التي أدخلها الإمبراطور ديوقلتيان (٢٨٤ ـ ٣٠٥ م) ، تمت إقامة خط حصون دفاعي على حدود الصحراء في جنوب فلسطين وشرق الأردن. وكانت مهمة القوات العسكرية في هذا الخط ، الذي عرف باسم (ليمس) ، ضبط حركة القبائل العربية الرحالة في هذه المناطق. كما عمد ديوقلتيان إلى تقسيم الولايات إلى وحدات أصغر حجما ـ ألوية. وقسمت فلسطين (يوديا سابقا) في عهده إلى لواءين ، وبعده إلى ثلاثة. ونحو سنة ٤٠٠ م ، كانت فلسطين مكونة من ثلاثة ألوية ، هي : ١) «فلسطين الأولى» ، وتضم الأجزاء الوسطى من البلد ـ الجبل والساحل ـ ومركزها الإداري قيساريا ، والمركز الروحي في إيليا كابيتولينا ؛ ٢) «فلسطين الثانية» ، وتضم الجليل ، وبعض أجزاء شرق الأردن الشمالي (الجلعاد) ، ومركزها بيسان ؛ ٣) «فلسطين الثالثة» ، وتضم جنوب فلسطين وشرق الأردن (مناطق الأدوميين والأنباط سابقا) ومركزها البتراء.

ولضبط الإدارة ، مدنيا وكنسيا ، قسمت الألوية إلى أقضية ، في مركز كل منها مدينة. ويتضح من المصادر المتوفرة أن عدد المدن ازداد في فلسطين منذ القرن الثالث الميلادي ، إذ أصبحت البلاد كلها مقسمة إلى وحدات مدينية تتمتع بحكم ذاتي. وجنبا إلى جنب مع الإدارة الحكومية كانت تقوم إدارة كنسية ، وبتراتبية متوازية مع أهمية المدينة كمركز ، لتطابق الإدارتين منذ أيام قسطنطين وخلفائه. وبطريركية

١٤٧

إيليا كابيتولينا تميّزت بموقعها ، فكانت أعلى من قيساريا ، مع أن الأخيرة ظلت أعلى إداريا ، إذ كانت هي العاصمة الفعلية ، ومقر الحاكم البيزنطي. وليس ذلك إلّا للأهمية التي صارت تولى لإيليا كابيتولينا بعد بروز الديانة المسيحية ، لأنها أهم مراكز التراث المسيحي. وبسبب هذا الموقع المتميز ، صارت فلسطين تسمى بالتدريج «الأرض المقدسة». وبتغييرات طفيفة ، ظل هذا الترتيب قائما لفترة طويلة ، ولم يتغير بصورة جذرية إلّا عند الاحتلال الفارسي (الساساني) ، في بداية القرن السابع الميلادي.

وعلى الرغم من الاضطرابات المتكررة ، وما تجرّه من خراب ، فقد بنيت مدن كثيرة في فلسطين خلال هذه الفترة. وإضافة إلى المدن التي أنشأها هيرودوس : قيساريا وسبسطية وأنتيباترس (رأس العين) وفصائيل (شمال أريحا) وغيرها ، عمد الأباطرة الرومان إلى إقامة عدد منها. ففي أيام الإمبراطور فسبسيان (٦٩ ـ ٧٩ م) ، بدء العمل ببناء مدينة عمواس (نيكوبولس) ، حيث عسكر هناك قبل التقدم لاحتلال أورشليم. وعندما استكمل بناؤها ، منحت لقب بولس ، أيام ألكسندر سفيروس (٢٢٢ ـ ٢٣٥ م). وكذلك نشط في أيامه العمل في بناء نابلس (نيابولس) ، التي نمت لتصبح من كبريات مدن فلسطين ، حيث كانت تقام الاحتفالات الكبرى والألعاب الرياضية. وفي بداية حكم الولاة الرومان في فلسطين ، جرى توسيع أراضي المدن ، وكذلك تطوير الإدارة الذاتية فيها ، إذ أصبح البلد كله تقريبا عبارة عن «اتحاد مدن». ومنذ أيام فسبسيان منحت مدن كثيرة جديدة حكما ذاتيا ومنها : يبنى وأسدود وأنتيباترس وأرسوف وجبع ويافا وطبرية (التي بناها أنتيباس ، ابن هيرودوس وجعلها عاصمته نحو سنة ٢٦ م) وصفورية (التي كانت عاصمة أنتيباس قبل الانتقال إلى طبرية ، فمنحت لقب بولس أيضا). وبعد ذلك أقيمت اللد (ديوسبولس) وبيت جبرين (إليوتيروبولس) في القرن الثاني الميلادي.

وبعد القضاء على تمرد باركوخبا (١٣٢ ـ ١٣٥ م) ، بدأ الإمبراطور هدريان (١١٧ ـ ١٣٨ م) ، الذي كان مولعا بالشرق ، ومحبا للعمارة والبناء ، بإقامة إيليا كابيتولينا ، بعد أن ظلت معسكرا للجيش الروماني منذ أيام تيطس ، وخراب الهيكل الثاني. وأرادها الإمبراطور أن تكون مستعمرة رومانية ، تضم كل المؤسسات المعروفة في المدن الهلنستية ـ هيكل روماني وجمناسيوم وغيرهما من المؤسسات العمرانية والثقافية الجميلة. وأخرج هدريان اليهود من إيليا كابيتولينا ، وحظر عليهم الدخول إليها والإقامة فيها. فانتقل المركز اليهودي إلى يبنى ، حيث راح يتبلور سنهدرين جديد ، وأصبحت المدينة مركزا للدراسات التوراتية ، وفيها تمّ جمع عناصر الشريعة اليهودية ، وتصنيفها في كتاب «المشنا». وكان تراجان (٩٨ ـ ١١٧ م) احتل البتراء

١٤٨

(١٠٦ م) ، وقضى على دولة الأنباط. وضمّ أراضيهم إلى الولاية الرومانية ـ سورية. ولكن المدينة احتفظت بأهميتها التجارية ، وازدهرت في هذا المجال ، وخصوصا بعد أن بنى تراجان «الطريق الجديد» (فيانوفا) ، الذي يصل العقبة (أيلة) بمدينة بصرى الشام. ثم جعل أراضي الأنباط وشرق الأردن الولاية العربية التي عاصمتها بصرى ، ويعسكر فيها الفيلق الثالث الروماني.

وبصورة عامة ، يمكن تصنيف بناء المدن وتطورها في فلسطين في أثناء العصر الروماني ، سواء الجديدة منها ، أو التي أعيد ترميمها وتوسيعها على أنقاض مدن قديمة ، ثم حصلت على الحكم الذاتي ، وانتشرت لتغطي مع ريفها جميع أنحاء البلد ، بحسب الترتيب الزمني التالي :

١) فترة الاحتلال الروماني (أيام بومبي وغابينيوس) : عكا (بطوليمايس) ودورا (الطنطورة) وعسقلان وغزة البحرية (ميوماس) ورفح (رفيا) وبيسان (سكيتوبولس) وأرسوف (أبولونيا) ويافا (يوبي).

٢) عصر هيرودوس (٣٧ ـ ٤ ق. م.) : قيساريا (قيصرية) وسبسطية (السامرة) واللجون (ليجيو) ، وأنتيباترس (رأس العين) وجبع.

٣) أيام أنتيباس ـ ابن هيرودوس : طبرية (على اسم الإمبراطور طيباريوس ١٤ ـ ٣٧ م).

٤) أيام فسبسيان إلى تراجان (٦٩ ـ ١١٧ م) : نابلس (نيابولس) وصفورية (ديوسيزارية).

٥) أيام هدريان (١١٧ ـ ١٣٨ م) : إيليا كابيتولينا (القدس).

٦) أيام سبتيموس سفيروس (١٩٣ ـ ٢١١ م) : اللد (ديوسبولس) وبيت جبرين (إليوتيروبولس).

٧) أيام ألكسندر سفيروس (٢٢٢ ـ ٢٣٥ م) : عمواس (نيكوبولس).

وقد عرف الرومان ببناء الطرق الجيدة والجسور القوية ، التي ربطت الولايات بالعاصمة روما ، إذ شاعت مقولة «كل الطرق تؤدي إلى روما.» وأفادت فلسطين ، بسبب موقعها الاستراتيجي من الاهتمام الروماني ببناء الطرق وصيانتها وحمايتها. والطريق الرئيسي في فلسطين منذ أقدم العصور المعروفة ، هو طريق البحر الساحلي (Via Maris) ، الذي كانت تتفرع منه شبكة تصل إلى المدن الداخلية ، من أهمها طريق وادي عارة ، الذي يؤدي إلى مرج ابن عامر (مجدو) ، ومنها إلى بيسان وشرقا إلى

١٤٩

دمشق ، حيث يبدأ طريق الملك ، الذي يتجه جنوبا عبر الهضبة في شرقي الأردن ، إلى الجزيرة العربية. والطريق الروماني الأقدم في فلسطين هو الذي يمر على طول الساحل السوري ، من أنطاكيا إلى عكا وجنوبا إلى قيساريا ـ اللد ـ أسدود ـ عسقلان ـ غزة ـ رفح ، ويستمر في شمال سيناء إلى مصر. والجزء الأكبر منه (أنطاكيا ـ عكا) استكمل في أيام نيرون (٥٤ ـ ٦٨ م). أمّا الأجزاء الجنوبية فقد تمّ إنشاؤها لاحقا. ومن الطرق الداخلية المهمة تلك التي تتفرع من طريق التوابل ـ الجزيرة العربية ـ العقبة ـ البتراء ـ غزة ، وهي تمر بمدينة الخلصة (ألوسا) ، ويتفرع منها طريق آخر يتجه نحو الخليل (حبرون) إلى أورشليم.

وفي أوائل القرن الثاني ، بنى تراجان (٩٨ ـ ١١٧ م) أطول طريق روماني في بلاد الشام وذلك بعد احتلال البتراء (١٠٦ م) ، وضم الولاية العربية إلى الإمبراطورية مباشرة. وهذا الطريق ، الذي سمي «طريق تراجان الجديد» (Via Nova Trajana) ، امتد من العقبة إلى بصرى مرورا بالقويرة وأذرح والكرك وعمان وأم الجمال. وقد بني لاحقا فرع من هذا الطريق يصل إلى البتراء. وكانت واحة الأزرق محطة مهمة على هذا الطريق ، حيث يبدأ وادي السرحان ، مرورا بدومة الجندل (الجوف) ، إلى قلب الجزيرة العربية. واكتسب هذا الطريق أهمية خاصة بعد إنهاء الاستقلال السياسي للبتراء ، وكذلك بعد تراجع أهمية المدن العشر (ديكابولس) عسكريا ، وبالتالي دفاعيا عن أحد حدود الإمبراطورية. فعمد تراجان إلى نشر الفيلق الثالث على حدود الصحراء ، وتمركز في بصرى ، كما انتشرت وحدات منه في مواقع أخرى ، وصولا إلى العقبة. والهدف الرئيسي من هذا العمل هو سيطرة الدولة على تجارة الجزيرة العربية ، بكل ما تدره من مردود اقتصادي مباشرة على خزينة الدولة ، وبالتالي إخضاع القبائل العربية في المنطقة لهذا الإجراء.

وكان هدريان (١١٧ ـ ١٣٨ م) من أكثر الأباطرة اهتماما ببناء الطرق في فلسطين وغيرها. ومن أهمها في فلسطين : ١) طريق عكا ـ اللجون ـ سبسطية ـ نابلس ـ إيليا كابيتولينا ؛ ٢) حسبان (حشبون في شرق الأردن) ـ أريحا ـ إيليا كابيتولينا ـ بيت جبرين ـ الساحل ؛ ٣) بيسان ـ اللجون ؛ ٤) عكا ـ صفورية ـ طبرية ؛ ٥) إيليا كابيتولينا ـ الخليل ـ بيت جبرين. وبعد هدريان بنى خلفاؤه طريقا بين صور ودمشق ، مرورا بمدينة بانياس (قيصرية فيلبي) ، وأخرى بين بصرى وطبرية ، وثالثة بين طبرية وأريحا. ومن أهم الطرق التي بنيت في ذلك العصر ، تلك التي وصلت ميناء العقبة ، أو البتراء ، بمدينة غزة ، الميناء المهم في جنوب فلسطين ، ومنفذ البضائع الآتية من الجزيرة العربية ، وخصوصا العطور والتوابل. وكان هذا الطريق يمر بخمس مدن

١٥٠

تجارية في النقب ، كان الأنباط يستعملونها ، وهي : عبدة وسبيطة ونيتسانا وكرنب وألوسا (الخلصة). وقد كشف في هذه المدن عن آثار تدل على ازدهارها في العصر الروماني ـ البيزنطي : بوابات ضخمة وأسواق ومعابد وكنائس ومسارح وسدود مياه وقنوات .. إلخ.

وقد ظلت الزراعة عماد الاقتصاد في البلد ، ولكن صناعات متعددة ازدهرت بالمدن ، وكذلك التجارة ببضائع متنوعة. وتميّزت غزة كميناء ، إذ كانت منفذ التجارة مع الجزيرة العربية عبر النقب ، الذي حرصت السلطات على أمن القوافل التي تنقل البضائع ، عبر طرقه. ولم تقتصر تجارة فلسطين وموانئها على المنتوجات الزراعية : كزيت الزيتون والنبيذ والبلسم (من منطقة عين جدي) والحبوب (من مرج ابن عامر) والخيول ، ولا على ما تحمله القوافل من الجزيرة العربية والشرق الأقصى ـ التوابل والعطور ـ بل اشتغلت أيضا بمنتوجات وبضائع متنوعة ، منها : الأخشاب والنحاس من آسيا الصغرى والحرير والأيقونات من القسطنطينية والزجاج من سورية والجلود والفراء من أوروبا. ولذلك ازدهرت الموانىء ـ غزة ويافا وقيساريا وعكا وغيرها. وفي أراضي الإمبراطورية المترامية الأطراف ، حيث تمتع السكان بحرية التنقل وبالأمن في فترات الاستقرار ، تشكلت سوق تجارية ضخمة ، قامت القسطنطينية ذاتها بدور مركزي فيها ، لأنها مدينة صناعية وتجارية ، فضلا عن أنها عاصمة الإدارة المدنية والكنسية ، ومركز الثقافة والفكر.

وكانت ولاية سورية ، ومن ضمنها فلسطين ، ولاية غنية ، تمتعت بازدهار اقتصادي لفترات طويلة من الاستقرار ، ولذلك شهدت نهضة عمرانية وفنية وفكرية. ففضلا عن بناء المدن والموانىء والحصون والطرق ، أقيم عدد كبير من الهياكل ، ولاحقا الكنائس المسيحية منذ القرن الرابع الميلادي. وفيها يتجلى فن العمارة الراقي ، الذي مزج بين العناصر الشرقية واليونانية والرومانية ، فجاء متميزا برونقه وجماله وزخرفه. وتبرز فيه الفسيفساء بجمال صورها ـ أوراق الأشجار والزهور وعناقيد العنب والثمار والحيوانات والطيور البرية والأليفة. كما تجذب الأنظار الأعمدة اليونانية والطراز «الباسيليكي» ، في بناء الكنائس الكثيرة ، والأديرة للرهبانيات التي انتشرت في جميع أنحاء البلد ، وحتى في الصحراء. ومن أهمها في فلسطين «دير مار سابا» (بالقرب من القدس) و «دير جبل الطور» (بالقرب من الناصرة) ، وكذلك في مدن الناصرة وبيت لحم وجبل الزيتون في القدس. أمّا الكنائس ، فأقدمها كنيستا «المهد» و «القيامة» ، من أيام قسطنطين ، وكذلك كنيسة «البشارة» في الناصرة ، وكنيسة غزة ، التي بنيت سنة ٤٠٢ م على يد الإمبراطورة الورعة يودوكية. ووجدت آثار كنائس

١٥١

جميلة في مدن النقب ـ عبدة وسبيطة وكرنب.

وفي العصر البيزنطي ، وبعد سيادة الديانة المسيحية ، وصلت الحياة الفكرية والروحية الذروة في فلسطين. فأنشئت فيها المدارس الدينية ، التي كان لأساتذتها وخريجيها دور كبير في تطوير الفكر المسيحي. وقد استندت هذه النهضة إلى تراث هليني ، تبلور في المدارس الست : أثينا والقسطنطينية وأنطاكيا وبيروت وغزة والإسكندرية. وكانت أثينا تعنى بالأدب الكلاسيكي والفلسفة ، لكن الإمبراطور جوستنيان (٥٢٧ ـ ٥٦٥ م) أغلقها بسبب تشبث أساتذتها بالوثنية. وتخصصت مدرسة بيروت بالقانون ، فقصدها طلاب الحقوق من جميع أنحاء الإمبراطورية. وكانت مدرسة الإسكندرية تعنى بالعلوم الطبيعية والرياضيات. وتعتبر مدرسة غزة بنت الإسكندرية علميا ، وقد أصبحت مركزا فكريا ذا شهرة واسعة. واهتمت مدرسة قيساريا بالبلاغة والأدب وتدريب موظفي الحكومة. وكان فيها معهد ديني مسيحي قوي ، ومنه تخرج يوسيبيوس القيصري (٢٦٤ ـ ٣٤٠ م) ، مؤرخ الكنيسة والإمبراطور قسطنطين. ومن الأسماء الفلسطينية اللامعة ستاتيوس ، الشاعر النابلسي ، توفي سنة ٩٦ م وبروكوبيوس ، المؤرخ القيسري ، توفي سنة ٥٦٥ م.

١٥٢

المراجع

باللغة العربية

ـ «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم العام. ٤ مجلدات. دمشق ، ١٩٨٤.

ـ ـ ، القسم الثاني (الدراسات الخاصة). ٦ مجلدات ، بيروت ، ١٩٩٠.

باللغات الأجنبية

١٥٣
١٥٤

الفصل الرابع

العصور الوسطى

أولا : الفتح العربي

تبعا لبعض المفاهيم المتداولة للدلالة على المصطلحات والتسميات في العصر الحديث ، يمكن القول إن علاقة العرب بفلسطين قديمة قدم التاريخ. فقد ورد ذكرهم في نقوش بابلية من أيام نارام سين الأكادي ، الذي يذكر أنه غزا فلسطين ، وحارب قبائل عربية في جنوبها ، نحو سنة ٢٢٥٠ ق. م. لكن إطلاق الكنية «عرب» على جماعات بدوية من قبل أهل الحضر شيء ، ووعي هذه الجماعات لذاتها كجزء من «أمة» شيء آخر. وإسقاطات الحاضر على الماضي لا تساعد على التوضيح بقدر ما تدخل الأمور في متاهات لا طائل فيها. والأكيد أن الوعي العربي للذات تشكّل عبر قرون طويلة ، تحت حكم الإمبراطوريات الكبرى التي قامت في الشرق الأدنى القديم. ولكن هذا الوعي الذاتي بالانتماء تبلور مع ظهور الإسلام وانتشاره ، إذ تميّز العرب ، كحملة لواء الإسلام والدعوة إليه ، عن غيرهم من الشعوب التي دخلت فيه عبر الفتوحات.

وكان الفتح العربي ، بمعنى من المعاني ، تتويجا لمسار طويل من الهجرات العربية التي انطلقت من الجزيرة ، جنوبها أو شمالها ، واستقرت في بلاد الشام. لكنها لم تكن تحمل رسالة دينية. وحتى لو استثنينا الهجرات القديمة جدا ، والتي صارت تعرف باسم «الهجرات السامية» ـ الشرقية أو الغربية ، وكذلك العبرانيين (الأدوميين والمؤابيين والعمونيين ، والإسرائيليين وغيرهم) ، فالوثائق التاريخية تشير إلى أن الممالك العربية الثلاث القوية ـ البتراء وتدمر والجابية (عاصمة بني غسان في الجولان) ـ كانت لها علاقة قوية بفلسطين. وكذلك فالوثائق المصرية والعراقية ، كما التوراة ، تشير إلى قيام وحدات سياسية عربية ، كانت على علاقة بفلسطين ، بصورة أو بأخرى ، منذ الألف الأول قبل الميلاد. هذا إضافة طبعا إلى العدد الكبير من القبائل العربية التي حطت عصا ترحالها في فلسطين وجوارها خلال العصور.

ففي البتراء قامت وازدهرت مملكة الأنباط ، التي وصلت ذروة قوتها العسكرية والاقتصادية ، في القرن الأول الميلادي. وكانت حليفة للرومان ، وقامت بدور دفاعي

١٥٥

مهم على حدود الإمبراطورية ، سواء تجاه الفرثيين ، أو القبائل العربية المتنقلة. وقد سيطر الأنباط على جنوب فلسطين ، وخصوصا على طريق التجارة المؤدي إلى غزة عبر النقب ، في أراضي الأدوميين ، إذ إن البتراء كانت حلقة مركزية في التجارة الدولية بين البحرين ـ المتوسط والعربي ـ وكذلك بين الجزيرة العربية وبلاد الشام. وامتد سلطانها في ذروة قوتها ليضم شرقي الأردن كله إلى تخوم دمشق ، كما وصل جنوبا إلى شمال الجزيرة العربية. وفي مراحل معينة وسعت البتراء نفوذها في فلسطين ، وصولا إلى محاصرة أورشليم عشية حملة بومبي الروماني عليها. وطمعا في السيطرة على تجارتها ، حاربها البطالسة والرومان ، إلى أن قضى عليها تراجان (١٠٦ م) ، وضمّها إلى أراضي الإمبراطورية ، باسم «الولاية العربية».

وبعد هبوط البتراء برزت تدمر (بالميرا) كمركز للتجارة الدولية بين الشرق والغرب ، وازدهرت نتيجة التطورات الجديدة ، التي أدّت إلى تحوّل في طرق التجارة ، وخصوصا بعد احتلال الفرثيين لبلاد ما بين النهرين. واستفادت من ذلك تدمر ، الواقعة وسط الصحراء السورية ، على واحة تتوفر فيها المياه ـ العذبة والكبريتية. وتدمر مدينة قديمة ، يرد ذكرها من أيام تغلات بلّيسر الأول نحو سنة ١١٠٠ ق. م. وقد حاول أنطونيوس نحو سنة ٤٢ ق. م. احتلالها والاستيلاء على ثرواتها ، لكنه فشل. غير أنها ، ولأسباب موضوعية ، دخلت في منطقة النفوذ الروماني في عصر الإمبراطورية ، ووصلت ذروة ازدهارها في الفترة (١٣٠ ـ ٢٧٠ م) ، إذ أصبحت فعلا وارثة البتراء. وكمملكة حدودية ، حاولت تدمر توسيع نفوذها ، مستفيدة من الصراع بين الرومان والفرس. وإذ نجحت لفترة ، ضمن تضافر أوضاع مواتية ، فإنها في نهاية الأمر ذهبت ضحية الانخراط في لعبة القوى الكبرى ، إذ لم تتوفر لها الشروط ، الذاتية والموضوعية ، للقيام بدور كهذا.

لم تكن تدمر معروفة بنشاطها العسكري ، ولكنها اشتهرت بتجارتها ، وذلك بفضل موقعها. ولما تولى الملك فيها أذينة (النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي) ، كانت تدمر تمتلك قوة عسكرية ، من خلال تحالفاتها مع القبائل العربية الواقعة في منطقة نفوذها بعد أن دخلت حلبة الصراع بين روما وفارس كدولة حدودية. واستطاع أذينة سنة ٢٦٠ م أن يهزم شابور الأول ، الشاه الإيراني الذي احتل سورية ، وأسر الإمبراطور الروماني فاليريان. وبذلك فرض نفسه قوة لا يمكن تجاهلها في الشرق ، فعينته روما نائبا للإمبراطور في الشرق ، لكنها سرعان ما عملت على التخلص منه غيلة سنة ٢٦٦ م. فخلفته زوجته الزباء (زنوبيا) الشهيرة ، وتحدت روما وحققت انتصارات باهرة ، لكنها في نهاية الأمر هزمت على يد الإمبراطور

١٥٦

فاليريان نفسه سنة ٢٧٢ م ، ووقعت أسيرة في يده ، ودخل تدمر ، وخربها بعد أن نهبها ، وتشهد خرائبها القائمة حتى يومنا هذا على عظمتها.

وبصورة ما ، ورثت مملكة آل جفنة (الغسانيين) موقع تدمر ، السياسي والتجاري ، وأقامت دولة حدودية قوية ، ولكن من دون عاصمة فخمة كتدمر. وإذ تميّز التدمريون بنشاطهم التجاري أولا ، ومن ثمّ العسكري ، فقد كان الغسانيون على العكس ، إذ كرسوا نشاطهم للصراع العسكري أولا ، واستفادوا من التحوّلات التي طرأت على طرق التجارة الدولية ، فصارت تمر عبر مناطقهم. وبينما توجه التدمريون ، كشعب تجاري ، إلى بناء مدينة فخمة في قلب الصحراء ، تضم مؤسسات تخدم الوظيفة المركزية لها ، فإن الغسانيين ظلوا أقرب إلى البداوة ، وبقيت عاصمتهم عبارة عن معسكر متنقل على أطراف البادية ، إلّا في فترات قصيرة حيث استقرت في الجابية (الجولان) وجلّق (دمشق). ومن نواح متعددة ، شكّل ملك الغساسنة في بلاد الشام ، وخصومهم الألداء ، المناذرة (اللخميين) ، في الحيرة على أطراف العراق ، مرحلة متقدمة في التمهيد للفتح العربي بعد ظهور الإسلام.

وبنو غسان قبيلة عربية يمنية ، هاجرت من موطنها في نهاية القرن الثالث الميلادي ، ونزلت البلقاء والحوران. وهم يلقبون آل جفنة ، نسبة إلى جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء ، مؤسس السلالة في بلاد الشام ، وهناك من ينسب إلى هذه السلالة أكثر من ثلاثين ملكا. وقد تنصّر الغسانيون ، واتبعوا العقيدة المونوفيزيتية ، وطرح ملوكهم أنفسهم حماة الكنيسة البرادعية (نسبة إلى يعقوب البرادعي ـ المبشر النشط بهذه العقيدة في منطقة نفوذ الغسانيين) ، الأمر الذي أدّى إلى صدامات عنيفة بينهم وبين البيزنطيين الذين تبنّوا الكنيسة الأورثوذكسية الرسمية في الإمبراطورية. وفي العقود الأخيرة من القرن الخامس الميلادي ، توثقت علاقات الغسانيين ، كحكام دولة حدودية ، مع البيزنطيين. أمّا فترة ازدهار هذه المملكة فكانت في القرن السادس الميلادي (أيام جوستنيان) ، وذلك في زمن الحارث الثاني (الأعرج) ، الذي حكم في الفترة (٥٢٩ ـ ٥٦٩ م) ، ومن بعده في زمن ابنه المنذر وحفيده النعمان. وانتهى ملك آل جفنة بالفتوح العربية ، في النصف الأول من القرن السابع الميلادي.

إن أثر الغساسنة في بلاد الشام يتجاوز المأثور عنهم في التراث العربي بشأن صراعهم الدموي الطويل ، كدولة حدودية متحالفة مع بيزنطة ، مع أبناء عمومتهم اللخميين في الحيرة ، حلفاء الفرس. فآثارهم المنتشرة في سورية والأردن وفلسطين تشهد على فترة من الازدهار الحضاري المادي الكبير. وكذلك ، فالأدب العربي ينضح بمآثرهم وحبهم للشعر وإكرامهم للشعراء. وخلال حكمهم الطويل (نحو أربعة

١٥٧

قرون) ، نزلت مناطق نفوذهم قبائل عربية كثيرة ، استوطنت بلاد الشام ، وشكّلت لاحقا مرتكزا مهما للفتوحات العربية بعد ظهور الإسلام. كما أدّى الغساسنة دورا في نشر المسيحية بين العرب. والأكيد ، أنهم في هذه المرحلة من الصراعات القومية داخل الإمبراطورية البيزنطية ، والتي اتخذت صيغة الخلافات العقائدية الدينية ، قد ساهموا كثيرا في بلورة الوعي الذاتي العربي ، وبذلك مهدوا الطريق أمام تكريس هذا الوعي بعد الإسلام.

باقتراب القرن السادس الميلادي من نهايته وبداية السابع ، أخذت الأوضاع الذاتية والموضوعية لدخول العرب مسرح التاريخ كقطب رئيسي تتشكل بوتيرة متسارعة ، وذلك بعد أن ظلوا لفترة طويلة هامشيي الأثر في الأحداث الجارية. وبدخولهم هذا ، أسسوا لقيام حضارة عالمية ومادية وروحية ، كان الإسلام مرتكزها وحافزها. ففي الصراع بين الشرق الفارسي ، والغرب الهليني (الروماني ـ البيزنطي) ، أدّى العرب دورا مهما ، وكذلك في النزاعات داخل هاتين الإمبراطوريتين ، الأمر الذي ساعد على تبلور شخصيتهم المتميّزة. ومع ذلك ، ظلوا تابعين لهذه القوة العظمى أو تلك ، ولم يكن زمام أمرهم بأيديهم. وخلال الربع الأخير من القرن السادس ، والأول من القرن السابع ، أنهكت الإمبراطوريتان بعضهما بعضا ، وفتحتا الباب على مصراعيه أمام الفتوحات العربية التي انطلقت من الحجاز ـ مهد الإسلام ـ واجتاحت خلال فترة قصيرة نسبيا ، أراضي الإمبراطورية الفارسية كلها ، وكذلك الجزء الأكبر من أراضي الإمبراطورية البيزنطية.

لقد استنزفت الحرب الطويلة والمستمرة طاقة الإمبراطوريتين ـ الفارسية والبيزنطية ـ عسكريا وماديا ومعنويا. وعندما توصلتا إلى ضرورة وقف القتال بينهما ، نظرا إلى عبثية استمراره من دون القدرة على حسمه ، واتفقتا على الشروط للتعايش ، كان جيشاهما في حالة متدنية من جهة التنظيم والطاقة البشرية والروح القتالية. وفي مسيرة الحرب الطاحنة ، ونتيجة الخسائر الكبيرة في الأرواح والعتاد والأموال ، اضطر الطرفان إلى تجنيد المرتزقة بأعداد كبيرة ، واللجوء إلى رفع الضرائب على السكان والتجارة الدولية ، وذلك لتوفير المال اللازم لتحمل أعباء الحرب المكلفة. وهكذا ، وعندما حانت ساعة المواجهة مع الجيوش العربية ، التي زحفت تحت قيادات مجربة ، ذات قدرات تنظيمية فائقة ، كما تمتعت بروح معنوية عالية ، تحفزها أهداف ذاتية وجماعية مجزية ، ماديا وروحيا ، لم تستطع جيوش الإمبراطوريتين الصمود ، وانهارت بسرعة غير متوقعة.

وعلى العكس من سلوكهما السابق في دعم حليفيهما الحدوديين ـ الغساسنة

١٥٨

على الجانب البيزنطي ، واللخميين على الفارسي ـ عمد الطرفان ، وتحت وطأة الحرب الدائرة بينهما عشية انطلاق الفتوحات العربية ، إلى تهميش دور هذين الحليفين ، ووقف الدعم عنهما ، وأيضا إغراء مقاتليهما من القبائل بالانضمام إلى جيشي الإمبراطوريتين. وقد ترك هذا السلوك حدود الإمبراطوريتين مفتوحة أمام الجيوش العربية ، ومغرية للاختراق ، وذلك بالتعاون مع القبائل العربية التي انقلبت على حليفيها السابقين ، وانحازت إلى الجانب العربي. أمّا الترتيبات الأمنية الحدودية ، التي رعاها الفرس والروم خلال قرون طويلة ، وبصور متعددة ، فقد انهارت أمام حركة الفتوح العربية ، ومن دون مقاومة تذكر. وهيراكليوس ، الذي أطاح بترتيبات جوستنيان مع الغساسنة ، دفع ثمنا غاليا ، غطى على النصر الذي أحرزه في حملاته اللامعة ضد الفرس.

وكان من نتائج الحرب المدمرة بين الإمبراطوريتين ، وما فرضته عليهما من أعباء ، وما استلزمته من تجنيد للإمكانات وحشد للطاقات ، وبالتالي ما ألحقته جراء ذلك من أضرار بالسكان المحليين ، أن راح هؤلاء يضمرون العداء للسلطة ، ويتمنون الخلاص منها. وقد رأوا في العرب الفاتحين فرصة لإزاحة الظلم عن كاهلهم ، وخصوصا بعد أن اكتشفوا الفارق بين تعامل العرب معهم ، بالنسبة إلى سلوك السلطة سابقا ، وعلى الجانبين. وحتى المسيحيين العرب ، ونظرا إلى اعتناقهم العقيدة المونوفيزيتية المناهضة للأورثوذكسية الرسمية البيزنطية ، وتحملهم جراء ذلك الكثير من الاضطهاد على يد السلطة ، رأوا في الفتح العربي ، حتى وهو يحمل لواء الدعوة إلى الإسلام ، طريقا إلى الخلاص من القمع الديني ، الذي كان يغلف تناقضات قومية بين الشعوب المحكومة والسلطة المركزية.

والنتيجة المهمة للحرب بين الفرس والروم ، والخارجة بطبيعة الحال عن إرادة الطرفين المتحاربين ، لكنها ناجمة عن سلوكهما ، هي انتقال التجارة الدولية إلى خطوط أخرى ، تتحاشى المرور في مناطق الصراع ، تفاديا للأخطار والضرائب والمكوس ، في زمن الحرب واختلال الأمن. فازدهرت نتيجة ذلك مراكز جديدة تقع على الطرق البديلة في شبه الجزيرة العربية ، ولعل أهمها مكة المكرمة ، التي تقع على مفترق طرق تؤدي إلى الجهات جميعها. فأضافت مكة بذلك إلى أهميتها الدينية ، التجارة والمال والعلاقات الدولية ، وبالتالي الموقع المتميّز في نظر القبائل في الجزيرة العربية. ومعروف أن مكة كانت ، ومنذ أقدم العصور ، «قبلة الحج» ، به يؤم الناس «بيت الله الحرام» (الكعبة) ، فأصبحت بعد ازدهارها الاقتصادي ، واتساع علاقاتها التجارية والدبلوماسية ، مركزا سياسيا مرموقا أيضا.

١٥٩

وفي مكة ، التي جمعت المتناقضات وهي تشهد تحوّلات حادة في مجتمعها وعلاقاتها ، ولد النبي محمد (ص) ، في بطن من قريش (بني هاشم) ، وفي عائلة كانت تتولى «سدانة الكعبة» ، وذلك «عام الفيل» (٥٧٠ م) بحسب الرواية. وقد نشأ وترعرع وهو يشهد هذه التحولات وما يواكبها من متغيرات في السلوك والعلاقات والقيم. فالمدينة التي كانت مركزا دينيا قديما ، صارت فضلا عن «الحرم» ، تضم سوقا تجارية ومالية ضخمة. وأهلها ، الذين ظلت الروح القبلية تسود مجتمعهم ، أصبحت لهم شبكة علاقات واسعة ، في الجزيرة وخارجها ، تتناسب وحجم تجارتهم الدولية الكبير. ومكة التي صارت تستحوذ على هذه التجارة الدولية ، كانت بالضرورة على اطلاع بما يجري بين القوتين العظميين في تلك الفترة التاريخية. وبالتأكيد ، فإن هذه الصورة لم تكن غائبة عن ذهن «رسول الله» (ص) ، وهو يباشر دعوته إلى الإسلام. ومكة هذه ، التي حجب تشبث أهلها بنمط حياتهم الآفاق الرحبة التي يفتحها الإسلام أمامهم ، أكان على الصعيد الروحي أو المادي ، رفضت دعوة الرسول (ص) إلى اعتناق الدين الجديد. ولمّا ثابر محمد (ص) على دعوته من دون هوادة ، رأى فيها أهل مكة ، بل فيه شخصيا ، خطرا يتهدد مرتكزات علاقاتهم وقيمهم ـ المادية والروحية. وبقدر ما ازداد احتدام التناقض معه ، رفع أولو الأمر في مكة حدة صراعهم ضده ، فاضطروه إلى مغادرة مسقط رأسه ، والهجرة إلى يثرب (المدينة المنورة). وفي المدينة وجد الرسول (ص) مرتكزا مرحليا لنشاطه الديني والسياسي ، يدير منه صراعه مع مكة لحملها على قبول الدعوة إلى الإسلام ، إذ ظل ذلك بالنسبة إليه هدفا مركزيا يوليه الأولوية. ومع أنه أعلن بيت المقدس (القدس) «القبلة الأولى» ، يتوجه إليها المسلمون في صلاتهم ، فإن مكة لم تغب قط عن باله ، وذلك لمركزيتها في الدين الجديد ـ الإسلام ـ الذي يدعو إليه ، كما في التشكيل السياسي الذي يعمل من أجله.

لأسباب دينية ـ إعلان بيت المقدس أولى القبلتين ـ وسياسية ـ نشر الدعوة الإسلامية بين عرب الشام والعراق ـ وكذلك لضرورات الصراع مع أهل مكة ، كان اهتمام الرسول (ص) ببلاد الشام لا يفوقه إلّا الهدف المباشر ـ فتح مكة (البيت الحرام) ، واستمالة قريش (اللقاح) إلى جانبه. ولتحقيق أهدافه في مكة ، اتبع محمد (ص) سياسة الترغيب والترهيب. فبينما عمد في «مغازيه» الأولى إلى تهديد عصب حياتها الاقتصادية ـ التجارة ـ لم يتوقف عن السعي ، سياسيا ودبلوماسيا ، لجذب أعيان قريش إلى الإسلام. وما أن حقق توازنا نسبيا للقوى مع مكة ، جرى التعبير عنه في صلح الحديبية سنة ٦ ه‍ ، حتى وجه اهتمامه شمالا في اتجاه بلاد الشام ، وأولا وقبل كل شيء ، إلى الواحات الواقعة على طريق التجارة المؤدية إليها. وهكذا جرى فتح

١٦٠