الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

بالمظهر الشخصي ، وهذا ما يوحي بقيام علاقات اجتماعية راقية المستوى.

ومن الواضح أننا في الباليوليت الأعلى نقف أمام إنسان قطع شوطا بعيدا في تنظيم حياته ، وفي صوغ علاقاته الاجتماعية ، والسيطرة على المحيط ، والتعامل مع البيئة. فحضارته ولا شك أعلى كثيرا من حضارة أسلافه ، ليس فقط فيما يتعلق بالأدوات والأواني والأغراض الأفضل صنعا ، بل في تنوعها وتعدد أوجه استعمالها أيضا. وفضلا عن شظايا الحجارة الصوانية الراقية التصنيع ، جرت الإفادة من القرون والعاج. وبين مخلفاته نجد الإبر العظمية والصنانير والرماح المسننة وقواذف الأسهم ، وكذلك القوس والنشاب ، والواضح أنه كان يرتدي الثياب التي صنعها من جلد الحيوانات ، كونه لم يعرف نسج القماش.

ويطلق الباحثون على إنسان الباليوليت الأعلى في أوروبا اسم كرومانيون (Cro ـ Magnon) ، على اسم مغارة في فرنسا ، تمثل الموقع النموذج لحضارته. وتظهر مخلفاته دلائل على حياة جماعية ، تنضوي فيها أعداد أكبر من البشر في تجمعات مشتركة. ومثل هذا الوضع الجديد استلزم تقسيما للعمل ، وبالتالي بروز الاختصاصات الحرفية والفنية والدينية ، وكذلك تراتبية اجتماعية تنتهي بالقائد الفرد. وهناك دلائل قوية على أن إنسان كرومانيون شغل فكريا بعالم القوى الخفية ، وأبدى اهتماما كبيرا بالأموات ، وبطرق دفنهم ، وتهيئتهم للعالم الآخر ، من تضميخ للجسد ، وضمّ للذراعين فوق الصدر ، وتزيين بالأعلاق والعقود ، وتزويد بالأسلحة وبغيرها من الأدوات التي تودع القبر مع الميت.

وفي فلسطين اكتشف الكثير من المواقع التي تعود إلى عصر الباليوليت الأعلى ، ومنها أتت المعلومات الأولى عن هذا العصر في الشرق الأدنى ، ثم تتابعت الاكتشافات في سورية ولبنان والأردن. ويقسم العلماء هذا العصر إلى مراحل حضارية : قديمة ، تسمى الأحمرية ، نسبة إلى ملجأ في عرق الأحمر ، في سفوح جبال القدس الشرقية ، وهو الموقع النموذج لهذه الحضارة في فلسطين ، والتي توازي الحضارة الأورينياسية في أوروبا ، وحديثة ، تسمى الكبّارية ، نسبة إلى مغارة كبّارة ، في الطرف الغربي لجبال الكرمل. ومنهم من يميّز مرحلة انتقالية بينهما ، يسميها العتليتية نسبة إلى موقع عتليت على الساحل ، جنوب حيفا.

والتنظيم التراتبي ، من الأسفل إلى الأعلى ، للحضارات المادية من الباليوليت الأعلى ، يقوم على حفريات أثرية ، جرى معظمها في فلسطين ، وبعضها في المحيط ، الأمر الذي ربما يتغير بحسب نتائج حفريات أخرى مستقبلية ، والموقع المهم للفترة الأولى هو الملجأ الصخري في عرق الأحمر. أمّا بالنسبة إلى الفترة الثانية والأخيرة

٢١

للباليوليت الأعلى فهي مغارة كبّارة ، التي يعتبرها البعض مرحلة انتقالية إلى العصر الحجري الوسيط (الميزوليت). ونسبة إلى هذا الموقع سمّيت الحضارة الكبّارية ، التي انتشرت في جميع أرجاء سورية الكبرى ، من النقب إلى الفرات ، ومن غور الأردن الجنوبي إلى جبال طوروس.

وعدا هذين الموقعين النموذجين ، فقد اكتشفت آثار هذا العصر في مغارة الواد (ادي فلاح) في جبال الكرمل ، وفي مغارة القفزة ، قرب الناصرة ، حيث وجدت هياكل عظمية تعود لإنسان هذا العصر. وكذلك في مغارة الأميرة في وادي العمود الذي يصب في بحيرة طبرية ، وفي مواقع متعددة في النقب والساحل ، ومنها عتليت. أمّا في سورية ، فقد وجدت في ملجأي يبرود وغيرهما. وفي لبنان ، كشف موقع كسار عقيل التتالي الأكمل للتراتبية الطبقية من هذا العصر حتى نهاية الأحمرية.

وتظهر مغارة الأميرة مرحلة انتقالية إلى الباليوليت الأعلى المبكر ، الذي تمثله الحضارة الأحمرية. أمّا في كبّارة فقد وصلت حضارة هذا العصر إلى ذروة انتشارها ، فجعلت من سورية الكبرى وحدة حضارية ، لعلها الأولى في الشرق الأدنى القديم. وتبرز الكبّارية تقدما ملحوظا في الحضارة المادية وتقنية إنتاجها. فهي تتميّز بصناعة الشفرات الصوانية الصغيرة والرقيقة ، التي انتشر استعمالها على نطاق واسع ، وكذلك بانتقال الإنسان من المغاور إلى منازل الصيد في العراء ، وصيد الأسماك على ضفاف الأنهار والبحيرات. ويتضح أن الإنسان في هذه المرحلة أضاف الحبوب إلى وجبات طعامه ، إذ وجد هاون من البازلت بالقرب من النقيب ، على الشاطىء الجنوبي ـ الشرقي لبحيرة طبرية ، وإلى جانبه مدقة لطحن الحبوب ، التي من المؤكد أنها جمعت من البرّ ، إذ لم تكن الزراعة معروفة للإنسان بعد.

ويولي الباحثون المختصون الحضارة الكبّارية في فلسطين أهمية خاصة ، لأنها ـ أساسا ـ محلية ، ولأنها انتشرت في سورية الكبرى كلها ، كحضارة موحدة متجانسة ، انطوت على تحوّلات مادية كبيرة ، وشكلت مرحلة انتقالية ، مهّدت لظهور الحضارة النطوفية في العصر الحجري الوسيط (الميزوليت) ، وبالتالي إلى استعادة الشرق الأدنى مركز الثقل الحضاري الإنساني ، بعد أن انتقل في الباليوليت الأعلى إلى أوروبا. وفي هذه الحالة أيضا ، ظلت التقلبات المناخية هي الأكثر رواجا في تفسير هذه الظاهرة ، وبناء على ذلك ، حدثت التبدلات في الأنماط الحضارية خلال العصور اللاحقة ، وفق استجابة المجموعات البشرية للتحديات التي طرحتها الأحوال المناخية.

وبينما تشبث إنسان أوروبا بنمط حياته واقتصاده القائم أصلا على الصيد ، فراح يرحل شمالا متعقبا قطعان الغزلان ، وغيرها من الحيوانات التي هاجرت إلى مناطق

٢٢

الغابات المتراجعة شمالا بفعل المناخ ، واجه إنسان الشرق الأدنى ظاهرة التصحر والجفاف بتوزيع جديد للسكان ، وتحوّل في نمط حياته ، وتنوع في غذائه ، نجم عن ذلك تطور في حضارته المادية. ويعتبر البعض هذه الفترة ، التي امتدت من ٠٠٠ ، ١٨ سنة ق. م. إلى ٠٠٠ ، ١٠ سنة ق. م. تقريبا ، فترة انتقالية من اقتصاد الصيد والجمع والالتقاط إلى اقتصاد الإنتاج. ومنهم من يضمها إلى الميزوليت.

ويستخلص الباحثون من دراسات متعددة ـ مناخية وجغرافية وجيولوجية ونباتية وحيوانية وإنسانية ـ أن مناطق صحراوية تكونت في الأردن وفلسطين في هذه الفترة ، الأمر الذي انعكس في توزّع جديد للسكان. وانحصر التوزع الجديد في مناطق تتوفر فيها مصادر الماء والغذاء ، إذ أقام السكان مستوطنات موقتة لجماعات صغيرة من الصيادين. وإزاء نضوب مصادر معيشته ، لجأ إنسان هذا العصر إلى تنويع غذائه ، وأضاف إليه بذور الأعشاب البرية الصغيرة ، والقمح والشعير وغيرها. فأصبحت الحبوب على أنواعها عنصرا مهما في غذائه ، وبالتالي في أدوات عمله التي أصبحت تضم أدوات الطحن ومناجل الحصاد وصنانير صيد الأسماك وغيرها.

وعلى اعتبار أن الحضارة الكبّارية تتبع الباليوليت الأعلى والأخير ، فهي تبشر بإنجازات كبيرة لاحقة ، أبرزها بناء البيوت الأولى التي سكنها الصيادون والملتقطون في المواسم ، إذ إنهم بنوها على شكل حفر دائرية صغيرة ، على السفوح والمنحدرات والمصاطب ، جدرها وأرضها من الطين والحجر ، وسقفها من الجلد والأغصان. وفي النقيب ، على الشاطىء الجنوبي ـ الشرقي لبحرية طبرية ، اكتشف أقدم بناء معروف في بلاد الشام حتى الآن ، يعود بناؤه إلى ما قبل نحو ٠٠٠ ، ١٤ سنة ق. م. وعلى الرغم من التطور الحضاري المادي ، فإنه لا يمكن اعتبار هذا العصر جديدا تماما ، وخصوصا أن الاقتصاد البشري فيه ظل قائما على الصيد والجمع والالتقاط ، وإن بكثافة أعلى.

ومهما يكن الأمر ، فإن نهاية الباليوليت ، والانتقال إلى الميزوليت ، يعنيان أمورا متباينة تماما بالنسبة إلى كل من أوروبا والشرق الأدنى. فبينما آذن غروب الحضارة المجدلانية ، ذات التراث المادي والروحي الغني في الباليوليت الأعلى ، بدخول أوروبا في فترة مظلمة استمرت خلال الميزوليت ، فإنه بشّر في المقابل ببزوغ نهضة جديدة في الشرق الأدنى ، بدأ نبضها في الحضارة الكبّارية ، وبلغ ذروته في الحضارة النطوفية. وتبرز مؤشرات هذا التحوّل في الإنجازات المادية ، التي عقبتها تطورات اجتماعية وروحية. ويعتبر البعض هذه الفترة في الشرق الأدنى منعطفا للحضارة الإنسانية.

٢٣

ثانيا : العصر الحجري الوسيط

(الميزوليت)

العصر الحجري الوسيط هو مرحلة انتقالية بين نمطين أساسيين من التنظيم الاقتصادي : الأول جمع الغذاء ، والثاني إنتاجه. وبعض الباحثين لا يعتبره عصرا قائما بذاته ، فمنهم من يلحقه ، كمقدمة للثورة الحضارية ، بالعصر الحجري الحديث (النيوليت) ، ومنهم من يقسمه إلى مرحلتين ، فيلحق الأولى بالباليوليت الأعلى لتشكّل نهايته ، والثانية بالنيوليت مشكّلة بدايته ، التي تراكمت فيها الخبرات الإنسانية ممهّدة لما يسمى الثورة الحضارية في النيوليت. وفي فلسطين قامت في هذا العصر حضارة زراعية بدائية ، هي النطوفية ، نسبة إلى وادي النطوف ، في جبال القدس الجنوبية ـ الغربية.

ومرة أخرى ، عاد الباحثون إلى الأسباب الكامنة وراء تبدل الأدوار الحضارية بين أوروبا والشرق الأدنى ، وبرز مجددا التفسير المناخي. فقد تراجع الجليد في نصف الكرة الأرضية الشمالي نحو المناطق القطبية ، وتراجعت مع الجليد الغابات ، وتبعتها الحيوانات المفضلة للصيد ، التي تعقبها الصيادون وخصوصا غزال الرنة ؛ وهكذا اختفت في أوروبا الجنوبية والغربية الحضارة المجدلانية الغنية. أمّا في نصف الكرة الجنوبي ، فمال الجو إلى الدفء ، وظهر غطاء نباتي جديد ، وبالتالي عالم حيواني جديد ، استغل فيه إنسان الشرق الأدنى القديم الأوضاع المناخية المواتية على أحسن وجه ، وطوّر حضارته المادية والروحية.

وهجر هذا الإنسان المغاور والكهوف ، وانتقل إلى السهول والوديان ، حيث نمت أنواع من الحبوب بريّة ، كالقمح والشعير ، وعاشت حيوانات تفضل المناخ الدافىء ، كالغنم والماعز والبقر. وبتفاعل جدلي تقدمي بين إنسان الميزوليت وبيئته ، نظم هذا الإنسان عملية استغلال البيئة بصورة واعية ومتقدمة من سلفه ، فطوّر أساليب عمله انطلاقا من قاعدة أن «الحاجة أمّ الاختراع». واستقر هذا الإنسان بانتقاله إلى مواقع وجود هذه النباتات والحيوانات ، حيث أقام مساكنه البدائية فيها ، وبرمج حياته على أساس الإفادة الدائمة منها ، وأنشأ قرى الصيادين الأولى التي انتشرت في طول المنطقة وعرضها.

وفي مواقع استقراره ، ومع تزايد أعداده ، راح هذا الإنسان يعنى ببناء مساكنه ، ورفع مستوى حياته الاقتصادي والاجتماعي ، عبر تأمين أسباب عيشه في محيطه ، الأمر الذي استلزم تنظيما اجتماعيا ، وتخصصا في العمل داخل الجماعات. وهكذا وفر الشرق الأدنى لهذا الإنسان الموطن الطبيعي المثالي ، من حيث اعتدال المناخ ،

٢٤

والكفاية من مصادر المياه ، والأحوال الطبيعية الملائمة لنمو النباتات الحبية ، كالقمح والشعير والعدس والكرسنة وغيرها ، وكذلك الغطاء النباتي لرعي بعض أصناف الحيوانات اللبونة مثل البقر والماعز والغنم والغزلان وغيرها ، وبقي عليه أن يعمل ذهنه في استغلال محيطه بجهده وأدواته ، ويبدو أنه نجح في ذلك.

ونحو ٠٠٠ ، ١٠ سنة ق. م. انتشرت على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، وما يليه من مناطق في الشرق الأدنى القديم ، وصولا إلى العراق ، حضارة جديدة هي الحضارة النطوفية ، نسبة إلى وادي النطوف ، غربي القدس ، إذ اكتشف في مغارة شقبة الموقع النموذج لهذه الحضارة. ويعتقد حتى الآن أنها انطلقت من فلسطين ، ومن المنطقة الساحلية وجبال القدس بصورة خاصة ، وشملت غور الأردن وشرقه ، وكذلك لبنان وسورية والعراق ، حيث اكتشفت الرقائق الصوانية التي صنعت منها مناجل الحصاد وأحجار الرحى والجواريش والمدقات لطحن الحبوب وسحق مواد التخضيب ، كما وجدت المطامير لتخزين الحبوب.

وبرع النطوفي بأساليب تكيفه وفق محيطه ، إذ إنه فضلا عن المسكن والملبس وتنظيم حياته المجتمعية الجماعية من حيث تقسيم العمل والتخصص ، طوّر تقنيات إنتاج أدوات عمله فأصبحت ذات جدوى عالية. وتتميز أغلبية الأدوات الصوانية النطوفية بحجمها الصغير وبأشكالها الهندسية المتعددة. وبما أنها تصنّع من الشظايا على هيئة شفرات صغيرة ، ذات حد واحد مستقيم ، يقابله جانب هلالي الشكل من الخلف ، أو ذات حدّين متوازيين ، وتركّب في أنصبة من الخشب أو العظم أو القرن ، وتسوّى بحيث تؤدي عملها بنجاعة كبيرة ، فقد أصبحت تفي بمتطلبات الحياة المتزايدة لهذا الإنسان في تحوّله من نمط اجتماعي ـ اقتصادي إلى آخر.

وتعتبر الفترة النطوفية الخطوة الأولى على طريق المجتمعات الزراعية في بلاد الشام ، كونها أنتجت حضارة محلية أصيلة ، ذات طابع خاص ، انتشر تأثيرها في المنطقة ، فغطى سورية ولبنان وصولا إلى وادي النيل ، في موقع بالقرب من مدينة حلوان. ومع الانتقال إلى حياة الاستقرار ، انقضى عصر الثقافات ذات الانتشار العالمي الواسع الناجم عن التنقل الدائم ، والاحتكاك المستمر والتفاعل ، سلبا أو إيجابا. وبناء على ذلك ، راحت تقوم حضارات محلية في أصلها وفرعها ، كانت كلما تقدمت اتخذت طابعا أكثر استقلالية وتمحورا حول الذات ، أدّى إلى تطور متواصل ومتدرج. وقد تضافرت لإنجاز هذه النقلة الحضارية النوعية في الشرق الأدنى ، ونعني بذلك إنتاج الغذاء عبر الزراعة وتدجين الحيوانات ، فضلا عن الصيد والالتقاط ، عوامل بيئية وإنسانية معا. فالبيئة وفرت للإنسان ، وبصورة طبيعية ، الحبوب والنباتات

٢٥

والحيوانات القابلة للتدجين ، الأمر الذي دعا إلى الاعتقاد أن المنطقة كانت الموطن الأصلي لهذه الأجناس. وهناك الكثير من الدراسات يثبت أن الأصول البرية لهذه النباتات والحيوانات انتشرت بصورة طبيعية في المنطقة التي تضم القفقاز واليونان وهضبة الأناضول وأواسط آسيا وشمال غرب إيران وشمال العراق وبلاد الشام ووادي النيل الشمالي.

أمّا بالنسبة إلى العوامل الإنسانية ، فتدل آثار الحضارة المادية للمجموعات البشرية التي عاشت في الشرق الأدنى القديم ، على أنها حققت إنجازات كبيرة في العصور السابقة ، جعلتها مهيّأة لأن تكون رائدة الحضارة في العصر الحجري الوسيط. ومن هنا ، فالنقلة النوعية التي تحققت عبر الحضارة النطوفية ، والتي امتدت لتغطي منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ، وشمال إفريقيا ، وصولا إلى تونس ـ حضارة قفصة ـ هي نتيجة سنة التطور الطبيعي ، ووليدة الحاجات الحياتية المتزايدة التي اقتضتها مستلزمات الحياة لجماعات بشرية مستقرة تتكاثر بوتيرة متسارعة ، من جهة ، وتلبية النزعة الدائمة لتحسين الأوضاع المعيشية لأفراد تلك الجماعات ، من جهة أخرى.

إن فرادة النطوفيين تكمن ـ أساسا ـ في خطواتهم السريعة نحو إنتاج غذائهم ، ثم في الانتقال إلى حالة من الاستقرار ، وتأسيس مستوطنات دائمة في مرحلة مبكرة من الحضارة الإنسانية. وقد أصبح من المؤكد الآن أن الجماعات البشرية النطوفية تميّزت منذ البداية بحركة نزوح من المغاور والكهوف إلى المواقع المكشوفة في أرجاء الشرق الأدنى القديم كلها. وحدث ذلك بالتدريج ، إذ بدأوا بناء منازل بسيطة ، يسهل بناؤها كما يسهل هدمها ، على المصاطب القريبة من الكهوف ، وكانت على العموم مستديرة الشكل ، أسفلها محفور في الأرض على عمق نصف متر تقريبا ، وجدرها وسقفها ، من جذوع الأشجار المغطاة بالأغصان والجلود.

لقد تمّ الكشف عن قرى نطوفية كثيرة ، وفي مواقع متعددة ، تحمل سمات عامة مشتركة ، من ناحية شكل البناء ، أو التعبيرات الفنية ، أو طقوس الدفن ، أو تقنيات صناعة الأدوات الميكروليتية الهلالية ، أو الأدوات الزراعية البازلتية. وتتركز هذه المواقع بشكل كثيف في فلسطين في السهل الساحلي الأوسط ، وفي جبال القدس وسفوحها الغربية. وفي غور الأردن موقعان متباعدان ، غاية في الأهمية : الأول في أريحا ، والثاني إلى الجنوب الغربي من بحيرة الحولة ، في جوار عين الملاحة ، الذي يعدّ الموقع النموذج لهذه الحضارة بعد التنقيبات التي أجريت فيه.

وموقع عين الملاحة القريب من نبع غزير يحمل الاسم نفسه ، هو قرية نطوفية

٢٦

تبلغ مساحتها ٢٠٠٠ م (٢) ، اكتشفت في الخمسينات من هذا القرن ، ونقب منها جزء صغير ، كشف عن ثلاث سويّات أثرية من هذا العصر. ويتضح أن سكان القرية أتقنوا بناء البيوت المستديرة ، بقطر يراوح بين ٥ ـ ٨ أمتار ، أسسها بضعة مداميك من الحجارة مغروسة في الأرض وجدرها من الطين ، وسقوفها من الخشب ، وأرضيتها مرصوفة بالحجارة ، وفي وسطها موقد ، وبداخلها مخازن للحبوب ذات جدر من الطين القاسي جدّا.

وفي الجزء الذي جرى تنقيبه من عين الملاحة عثر على أكثر من ٠٠٠ ، ٥٠ قطعة أثرية ، تعطي بمجموعها صورة شاملة لحياة مجتمع بلغ حدّا متقدما من الحضارة المادية والروحية ، ويقدر تعداد أفراده ب ٣٠٠ شخص. وأغلبية هذه اللّقى هي من النصال المتنوعة الدقيقة الصنع ، وأدوات أخرى ميكروليتية مركّبة ، هندسية الأشكال ، ركّبت في أنصبة لتكون مناجل للحصاد وغيرها. كما تضم أدوات عظمية ومخارز وإبر وصنانير لصيد السمك وأنصبة عظمية زينت بإشارات ورموز وصور لرؤوس غزلان وغيرها من الحيوانات.

ويسترعي الانتباه وجود قطع فنية منها لوحتان حجريتان تحملان نحتا لملامح إنسان مختزلة ، وعدد كبير من أدوات الزينة والخرز والأصداف ، وجدت مدفونة مع الهياكل العظمية ، في معظم الأحيان تحت مصطبة البيت ، إضافة إلى التعبيرات الفنية في أدوات العمل ، وخصوصا الأنصبة العظمية التي ركّبت عليها الشفرات الميكروليتية الرقيقة ، ذات الأشكال الهندسية المتعددة ـ كالمثلث والمربع والمنحرف والهلال ... إلخ. والواضح أن هذه الرقائق كان يصعب استعمالها من دون مقبض ، فكانت تشد إلى النصاب بواسطة ألياف الأشجار ، أو خيوط من الجلد أو خيوط من أطناب الحيوانات.

ومن المواقع النطوفية الأكثر أهمية في فلسطين ، حيث اكتشف العدد الأكبر منها بالنسبة إلى غيرها ، أريحا ومغارة الواد (وادي فلاح). ففي الطبقة السفلى من تل السلطان (أريحا القديمة) ، وجدت آثار تنتمي إلى الحضارة النطوفية ـ مناجل وصنانير عظمية ـ كما عثر على بقايا معبد من هذا العصر ، يعود بناؤه إلى الألف الثامن قبل الميلاد. أمّا عند مدخل مغارة الواد ، القريبة من السهل الساحلي في جبال الكرمل ، فقد اكتشفت قرية مكوّنة من منازل مستديرة ، بنيت من الحجارة والطين والدعائم الخشبية ، وفيها أدوات حجرية تعود إلى هذه الفترة.

وعند مدخل مغارة الواد اكتشفت حفر على سطح صخري منبسط يحيط به جدار حجري ، واستخلص الباحثون أن هذا البناء الكبير نسبيا استعمل كمعبد في العصر

٢٧

النطوفي ، فقد وجد في جواره ١٤ قبرا من هذا العصر. كما وجد مقبض منجل عظمي ، عليه صورة رأس غزال ، عثر على مثيل له في مغارة كبّارة القريبة. أمّا في مغارة الواد فعثر على لوحة حجرية نحت عليها رأس إنسان مبسّط ، فضلا عن أدوات زينة وخرز وأطواق وأعلاق وحلق مصنوع من الصدف وغيرها.

ولم تتوفر حتى الآن من الشرق الأدنى أية آثار تشير إلى تعبيرات فنية عن قيم دينية قبل العصر النطوفي. غير إنه منذ بداية الحضارة النطوفية ، في الألف العاشر قبل الميلاد بدأت تتجلى عبر المكتشفات الأثرية ملامح فنون النطوفيين ، المعبرة عن معتقداتهم وما يختلج في صدورهم من اهتمامات ، أو ما يتفاعل في نفوسهم من مسائل الحياة ، أصلها ومآلها ، ومن أمور البيئة المحيطة ، وما توفره أو تحجبه ، وما يريح الصانع أو يزعجه. ومن الرسوم والمنحوتات والدمى التي وصلت إلينا ، يبرز الفن النطوفي تصويرا وتشخيصا مبسطا ، تناول الحيوان بصورة عامة ، والغزال بصورة خاصة ، ونادرا ما جسّد البشر.

ويتضح أن النطوفيين أولوا موتاهم عناية خاصة ، ولا يكاد يخلو موقع جرى التنقيب فيه من مدافن للموتى ، جماعية أو فردية ، وهي حفر ضحلة متقاربة ، توضع الجثث فيها مثنيّة وأطرافها مربوطة بألياف الأشجار. وكانت لهم طقوس في الدفن أظهرت رفضهم فكرة أن الموت هو نهاية الحياة ، فزودوا الميت بحاجاته المفترضة ودفنوها معه ، من طعام وسلاح وأدوات زينة. وكانوا يخضبون هذه الجثث ، كأنما يعدّونها لحياة أخرى. وتجدر الإشارة إلى أنه تم العثور في موقع عين الملاحة على كلب دفن مع صاحبه في قبر واحد. وقد يكون قد تمّ تدجينه في ذلك الحين.

وكشفت التنقيبات الحديثة انتشار الحضارة النطوفية ، وإن ببعض التمايزات المحلية ، من بحر قزوين (مغارة بلط) ، إلى تونس (قفصة) ، مرورا بمصر (حلوان). أمّا في الهلال الخصيب فقد اكتشفت تلك الحضارة في موقعي زارزي وشانيدار في شمال العراق ، وفي عدد كبير من المواقع في سورية : يبرود والكوم (البادية السورية) والحمر (قرب دير الزور) والطيبة (قرب درعا) وجيرود (قرب دمشق) وفي الموقعين المهمين : المريبط وأبو هريرة ، في حوض الفرات. ووجدت أيضا في مغارة جعيتا وغيرها في لبنان ، ومواقع البيضا والعسافات وعين راحوب في الأردن ، فضلا عن عشرات المواقع في فلسطين.

وعلى الرغم من التساؤلات التي يطرحها بعض الباحثين بشأن وجود حضارات متمايزة اجتماعيا واقتصاديا وتقنيا ، وبالتالي من التحفظ على تعميم الوحدة الحضارية في هذا العصر على الشرق الأدنى ، فإن منظورا شموليا يؤكد وجود حضارة موحدة

٢٨

إلى درجة كبيرة ، أطلق عليها الاسم الصّدفي ـ النطوفية ، امتدت من النيل إلى الفرات. وتظهر تلك الحضارة فوارق محلية ، بنسب متفاوتة ، أو تفاوتا في مستويات التقدم والرقي ، وهو طبيعة الأشياء نتيجة حياة الاستقرار ، التي لا بدّ من أن تنطوي على درجة من الخصوصية ، من دون أن يغيّر ذلك كثيرا في الأساس ، إذ تلتقي الجماعات البشرية في السمات العامة لنمط حياتها وحضارتها المادية في هذه المنطقة ، خلال هذا العصر.

ثالثا : العصر الحجري الحديث

(النيوليت)

يمثل هذا العصر المرحلة الأخيرة من عصور ما قبل التاريخ الحجرية ، أي ما قبل الكتابة ، ولهذا انطوى على ممهدات الانتقال إلى العصور التاريخية ، بكل ما يعنيه ذلك من أهمية لحضارة الإنسان على الأرض. ويعتبره البعض أهم العصور على الإطلاق ، قبل التاريخ وبعده. وليس ذلك إلّا لأنه شهد ثورة اقتصادية واجتماعية كبيرة ، تصعب المبالغة في تقدير أهميتها ، فهي ـ إن جاز التعبير ـ ثورة الإنسان على الطبيعة ، وتحقيق انتصارات مهمة عليها ، في حين أن معظم الثورات اللاحقة كانت ـ إلى حد كبير ـ ثورة الإنسان على الإنسان لتحقيق هيمنة الجزء على الكلّ.

لقد ارتفع في هذا العصر القصير نسبيا ، مستوى التقدم الإنساني الحضاري والمادي والروحي إلى ذرى جديدة. فالإنجازات التي حققها إنسان هذا العصر ، مستندا طبعا إلى تراث أسلافه ، وفرت له المزيد من السيطرة على بيئته. وتحت وطأة مستلزمات المعيشة المتزايدة باطّراد ، وذلك نتيجة نضوب الموارد بالتدريج ، من جهة ، وتزايد العدد السكاني ، مع التطلع إلى توفير أوضاع أفضل لنمط حياة الناس ، من جهة أخرى ، انطلقت ، بفعل النشاط الذهني للإنسان ، سلسلة من التطورات ، اتخذت شكل طفرات ، هي التي اصطلح على تسميتها ثورة النيوليت. وهذه الثورة هي التي وضعت الأساس المادي والفكري المباشر للانعطاف الجذري والأهم في تاريخ البشرية ، والذي يتلخص بالانتقال من الاعتماد الطفيلي على الطبيعة ، إلى الإنتاج المستغل لخيراتها ، عبر الجهد والعمل.

والإنجازات الحضارية التي حققها إنسان النيوليت ، وخصوصا في الشرق الأدنى ، جعلته أقلّ عرضة للهلاك بسبب تقلبات المناخ ، أو شحّ موارد الغذاء. ويعود ذلك ـ أساسا ـ إلى ابتكار الزراعة بفرعيها النباتي والحيواني ، فقد قامت هذه الزراعة ـ عدا الأحوال المناخية والجهود البشرية ـ على العناصر الستة : القمح والشعير والماعز

٢٩

والغنم والخنازير والبقر. وبصورة ما ، اهتدى هذا الإنسان إلى زراعة القمح والشعير ، بعد أن كان يجمعهما من البرّ خلال سنوات طويلة ، إذ إن موطنهما الأصلي هو الهلال الخصيب. أمّا تدجين الحيوانات وتربيتها فقد تطورا عن عملية الصيد ، لأن الأجناس التي تم تدجينها أولا هي ذات استعداد فطري لذلك. والأكيد أنها عاشت على شكل قطعان في المناطق التي أنتجت القمح والشعير البرّيين.

وانتقال إنسان النيوليت من نمط الاقتصاد الاستهلاكي ، القائم على صيد الحيوانات والتقاط الحبوب والثمار البرية ، إلى النمط الإنتاجي عبر زراعة بعض أصناف تلك الحبوب ، وتدجين أنواع معينة من الحيوانات ، من دون أن يهجر الصيد تماما ، شكّل منعطفا حادّا في حياته. فقد جعله ، أولا ، وقبل كل شيء ، سيّد لقمة عيشه ، وبالتالي قادرا على زيادة الإنتاج ، وربما توفير بعض الفائض ، الذي قد يتمّ تبادله ، أي الاتّجار به. ولكن الأهم ، أنه بهذا الإنتاج ، ودورته الموسمية ، كان لا بدّ من أن يصبح أكثر استقرارا ، وربما تكاثرا ، الأمر الذي يستلزم أن تصبح التجمعات السكانية أكثر تنظيما ، مع ما يتطلب ذلك من تطوير المؤسسات لإدارة الحياة الجماعية ، ماديا وروحيا.

فتدجين أنواع معينة من النبات والحيوان ، وبالتالي ابتكار الزراعة ، كان خطوة عملاقة حققها الإنسان على طريق حضارته الكونية. وقد تسارعت وتيرات تطورها ، منذ البداية ، وربما بفعل عدة عوامل ، بصورة مذهلة ، وحدثت فيها تحوّلات دراماتيكية ، أسست لظهور الدول والحضارات التاريخية ، بغناها وتعقيدها. ونجمت عن هذه التطورات تحوّلات ثورية في عادات الإنسان الحياتية ، فتوقف عن التجوال لأسباب ذاتية وموضوعية ، واستقر بصورة دائمة راهنا بذلك مصيره بفعله في بيئته ، وتفاعله مع محيطه. ونتيجة هذا الاستقرار تحولت قرى الصيادين السابقة إلى قرى مزارعين ، وإن في مواقع مختلفة نسبيا ، وكان هذا التغيير جذريا إلى درجة أنه سمّي ثورة.

لقد فرض الاستقرار والتفرغ لإنتاج مقومات المعيشة ، على إنسان النيوليت إعمال ذهنه في إيجاد الحلول للمشكلات الناجمة عن هذا التحول في نمط الحياة ، إذ كان عليه أن يوفر مستلزماته وأدواته ، وأن يصوغ قيمه وعلاقاته. فبنى البيوت الملائمة ، وصنع الأدوات الموافقة لعملية الإنتاج الجديدة ، كالمحاريث والمناجل والجواريش وتشكيلة واسعة من الأواني المنزلية ، وخصوصا بعد الاهتداء إلى صناعة الفخار ، وكذلك اللباس ، عبر الغزل والنسيج ، وأدوات الزينة على أنواعها. وهذا ما كشفت عنه التنقيبات في المواقع الأثرية من مخلفات حضارة إنسان النيوليت

٣٠

المادية. أمّا بالنسبة إلى العلاقات الاجتماعية ، وكذلك التعبيرات الفكرية والروحية ، فالمقولات المتداولة هي على العموم فرضيات ينقصها الدليل المادي المقنع.

إن ارتقاء إنسان النيوليت بنمط حياته ، المادي والاجتماعي ، إلى مستوى الحالة الجديدة من الاستقرار ، وما ينجم عنها من مسكن ومأكل وملبس ، وصنع أدوات العمل الملائمة لنمط إنتاجه الجديد ، وابتكار المهارات والتقنيات التي ساعدته على تخطي العقبات إزاء التحديات الجديدة ، جعله موضع اهتمام الباحثين في حقل ما قبل التاريخ. ومرّة أخرى ، تضاربت آراؤهم في تقويم هذا العصر ، ومراحل التحولات فيه ، والأهم ، في تشخيص الأسباب التي أدّت إليه. وإذا كان الإلمام بأحداث هذه الفترة القديمة من التعقيد بمكان ، فإن تشخيص الأسباب الكامنة وراءها أكثر صعوبة وامتناعا.

إن أيّا من العوامل التي تعتمد لتشخيص أسباب النقلة الحضارية الواسعة لعصر النيوليت ، لا يكفي وحده لتفسير الظاهرة ، مكانا وزمانا. كما إن عامل المصادفة لا يمكن ، بل لا يجوز أصلا ، أن يعطى الأولوية بهذا الصدد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عاملي المناخ والبيئة ، بمعزل عن العامل البشري. فتضافر هذه العوامل مجتمعة ، مع إيلاء الإنسان الأولوية ، كعامل فعال في تطوير الحضارة ، يمكنه ـ وحده ـ تقديم تفسير شامل ، وبخطوط عريضة تستوعب الخاص في إطار العام ، وليس العكس ، كما يفعل بعض الباحثين ، وأحيانا لأسباب ليست علمية مجرّدة ، أو منزّهة.

وجميع الدلائل المتوفرة حاليا تشير إلى أن الهلال الخصيب ، وفلسطين تحديدا ، كان مهد الزراعة الأولى. ونشوء الزراعة في هذا الجزء من العالم ، لم يحدث بمعزل عن الأوضاع البيئية والمناخية التي سادت في حينه ، وخصوصا بعد انحسار الجليد في الشمال ، وبداية العصر الدافىء والماطر في المنطقة أولا ، ومن ثمّ الحار والجاف نسبيا. فقد أدّى ذلك إلى حصر توافر الماء في الأودية التي تجرّه من المناطق الجبلية البعيدة ، وبالتالي ، إلى اقتصار القرى الزراعية على الاعتماد على تلك الأودية ، أو على العيش بالقرب من العيون والينابيع. وشجعت الأوضاع التوجه نحو زراعة بعض أنواع الحبوب الموجودة في المنطقة ، والتي كانت معروفة سابقا. وكذلك الحال بالنسبة إلى تدجين بعض أنواع الحيوانات اللبونة والوديعة.

أمّا الشرق الأدنى القديم ، والذي يشكل وحدة جغرافية متكاملة ، كانت مهد الحضارة التاريخية الأولى في المجرى الأسفل لبلاد الرافدين لاحقا ، فقد تضافرت في مرتفعاته وأوديته ومروجه الأوضاع الملائمة في عصر النيوليت للانتقال إلى الزراعة. فالمناخ والبيئة والثروتان : النباتية والحيوانية ، وفرت للمنطقة في المرحلة المذكورة ،

٣١

الأوضاع الملائمة لإنسان النيوليت لحل المشكلات الحياتية التي واكبت انتقاله من الترحال إلى الاستقرار ؛ والأكيد أنه أفاد من الإنجازات الحضارية المادية التي ورثها عن أسلافه ، وتحديدا النطوفيين ، الذين هجروا المغاور ، وأقاموا القرى في العراء ، حيث تبلورت ، إلى جانب الصيد ، بدايات عملية الزراعة وتدجين الحيوانات.

ويرى الكثيرون من الباحثين أن هذا الانعطاف الزراعي كان وليد الحاجة ، وجاء حلّا لأزمة اقتصادية ، نجمت عن تحوّل المناخ نحو المزيد من الجفاف ، جعل إنسان النيوليت يواجه هذه الأزمة بالبحث عن حلّ لها ، بدلا من الاستسلام لها بالرحيل. وقد نجح في توجهه هذا بفضل تضافر عوامل بيئية ، من جهة ، ومستوى حضاري مادي ودرجة من الوعي والتنظيم الاجتماعيين ، من جهة أخرى. والأكيد أن تزامن هذه التحوّلات المناخية مع ابتكارات حضارية مهمة ، لا يمكن أن يكون مصادفة ، ولا بدّ من وجود علاقة جدلية بينهما. فمن دون التناغم البيئي مع المستوى الحضاري ، وبالتالي قدرة الإنسان الفكرية على صوغ علاقة جدلية تقدمية بينهما ، لما حدثت هذه الثورة النيوليتية ؛ وهي بالتأكيد لم تحدث بصورة انقلابية حادة.

فضلا عن التفاعل بين إنسان النيوليت وبيئته ، لا بدّ من إيلاء أهمية خاصة إلى التفاعل بين الجماعات البشرية التي استقرت ، أي العلاقات الخارجية ، وإلى التناغم الاجتماعي داخل تلك الجماعات ، أي العلاقات الداخلية. فالجماعات المستقرة حددت بالضرورة مجالا حيويا لها ، وبالتالي صاغت نمطا من العلاقات مع الجوار ، سلما أو حربا. وفي الوقت نفسه ، راحت مع الاستقرار تصوغ علاقات داخلية ، أخذت بالضرورة منحى جديدا من التعاون والتنظيم وتحديد الحدود بين العام والخاص والاحتراف والتخصص ... إلخ. فالاستقرار ، ولضرورات ذاتية ، وقيود خارجية تفرضها كثافة انتشار القرى وتخومها الحيوية ، فرض على هذا الإنسان أن يبحث عن حلول للمشكلات التي تواجهه نتيجة التقلبات المناخية في الرقعة التي يسيطر عليها ، وليس بالردّ العفوي كما كان يفعل في السابق ، أي بالرحيل إلى مواقع أخرى ، سعيا لمصادر الغذاء. وبهذا يكون الاستقرار وضع قيودا داخلية وخارجية على حياة التنقل ، وأسّس لتشكل المجتمعات الحضرية.

وعندما فقد هذا الإنسان حرية التجوال بحسب فصول السنة ، بين المنخفضات والمرتفعات ، وأصبح مرتبطا بالجماعة التي يعيش بين ظهرانيها ، وبالرقعة التي راح يراكم فيها ثروته المادية ، ويقيم فيها بيته ، وينمي قطيعه ، ويزرع قطعة أرضه ، فإنه دخل مرحلة جديدة في حياته. وقد واجه إنسان النيوليت المشكلات الاجتماعية للحياة الجماعية في القرية الزراعية ، فكان لا بدّ من تشكيل سلطة ، من فرد أو أكثر ،

٣٢

تضبط العلاقة بين أفراد الجماعة ، وكذلك العلاقة بين الأفراد ورقعة الأرض التي يسيطرون عليها ، وأيضا العلاقة بالجماعات المجاورة ، أي حكومة بدائية. والأكيد أنه مع توفر الفائض من الإنتاج المادي ، فتح الباب على التجارة ، أكان ذلك داخل الجماعة أم بين الجماعات المتجاورة ، القريبة منه أولا ، ثم البعيدة ، والتي اتخذت بالضرورة صيغة التبادل البضاعي.

ومن مجمل ما يتوفر لدينا من معلومات عن هذا العصر يتضح أنه كان إبداعيا في نواح عدة. فحياة الاستقرار والزراعة أصبحت أكثر رقيّا ، وتطلبت أنواعا جديدة من الأدوات المصنوعة بتقنيات أعلى ؛ كما أن حياة الجماعة استلزمت المزيد من التخصص والتنظيم ، سواء على مستوى الفرد أو المجموع. أمّا فائض الإنتاج فقد حفز التجارة ، وبالتالي التواصل بين الجماعات ، وما ينجم عنه من تبادل الخبرات وانتشار المبتكرات. كل ذلك تواكب بالضرورة مع صوغ المؤسسات وتطويرها لتلبي حاجات الجماعة الداخلية والخارجية. ومع المؤسسات جاءت مجموعة القيم ـ الأيديولوجيا ـ والمعتقدات بشأن الكون المحيط والديانة والحقوق والواجبات ، وبالتالي القانون والحكومة والدولة.

وإذ شكّل مجتمع النيوليت نقلة نوعية في حياة الإنسان ، لكنه حتما لم يكن نهاية المطاف ، إنما على العكس ، كان أقرب إلى خط البداية في تشكّل الحضارات القديمة. وكما في كل البدايات ، لم تكن العملية سهلة. فنمط الحياة الجديد تطلب مزيدا من النشاط والعمل ، كما استلزم درجة أعلى من التخطيط والبرمجة ، وبالتالي المعرفة. فالخروج إلى الصيد في الموسم شيء ، والعناية بالقطيع المدجّن : من رعي وسقي ومراقبة وحراسة وعناية ... إلخ ، شيء آخر. كما إن التوجه إلى مواقع نمو النباتات البريّة في الموسم لحصادها وجمع محاصيلها ، هو غير زرع بذورها وتولي العناية بها حتى تؤتي ثمارها. وبالنتيجة ، سواء كان ذلك عن وعي مسبق ، أو من خلال الاستيعاب بالتجربة والخطأ أو بالتخطيط أو بالمصادفة ، فقد فرضت الحياة الجديدة الكثير من البرمجة لضبط إيقاعها ، الأمر الذي استوجب تراكما معرفيا متزايدا. ومع ارتقاء المجتمعات تنوعت النشاطات ، فكان لا بدّ من تقسيم العمل : زراعة وصناعة وتجارة ، حتى وإن لم ترسم بينها حدود بيّنة. ومع التخصص ارتفع مستوى التقنيات ، ومع تنوع النشاطات في إطار وحدة الجماعة ، كان لا بدّ من تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات ، ومن وضع الأسس للأعراف والقوانين ، وبالتالي صوغ الأيديولوجيا والمعتقدات. كل ذلك استوجب من إنسان النيوليت استغلال طاقاته الذهنية ليكون بقدرته الاستجابة للتحديات ، الأمر الذي تمخض عن تراكم معرفي.

٣٣

وكان كلما ازداد هذا التراكم ، طرح أسئلة جديدة ، وكلما اتسع ، ضاق إطار الأشخاص الملمّين به ، وصولا إلى نشوء فئة من العقلاء ، تحولت مع الزمن إلى طبقة الكهنة أو العرافين.

ومهما كانت سعادة إنسان النيوليت مرتبطة بحقله وقطيعه ، إلّا إن دورة فصول السنة احتلت أهمية أكبر في همومه الفكرية ، وحفزت لديه الإرادة على معرفة أسرار هذا التناوب الفصلي. ولهذا كان طبيعيا ، وعبر الملاحظة ، أن يربط بين هذا التناوب وتقلبات الطقس ، وبين مواسم الزراعة والحصاد ، وولادة الحيوانات في القطيع ، والمطر والرياح والحر والبرد ، وأثر ذلك كله في وفرة المحصول أو شحّه. وصاغ هذا الإنسان جملة من المعتقدات حول هذه الظواهر ، شكّلت ديانته ، فعمد إلى بعض الطقوس التي اعتبرها سبيلا إلى المصالحة مع هذه القوى المدمرة في سورة غضبها ، فصارت بمثابة عبادات يؤديها في مناسبات معينة ، ويرى فيها استرضاء لهذه القوى الخفية ، التي تستطيع أن تجلب له النعمة ، أو تصب عليه النقمة.

لكن اهتمام المزارع الأول بأمور الطبيعة كالشمس والقمر والريح والمطر ... إلخ ، لم يصرفه عن النظر إلى ذاته ، والبحث عن أصلها ومآلها ، وبالتالي موقع الأم في عملية الحياة ، وصولا إلى بروز الإلهة الأم ، أو الأم الكاهنة. وهكذا أصبح الخصب هو العنصر الأهم بالنسبة إلى ذاته وإلى قاعدة إنتاجه. لذا قامت إلى جانب العبادات الموجهة لقوى الطبيعة ، طقوس الخصب وتقديس الأرواح ، وعبادة الأموات والأسلاف. وبمواكبة تطور الحضارة المادية ، تبلورت قيم روحية ، أخلاقية وفكرية ، عبرت عنها الأسطورة ، وكرست طقوسها العبادات ، وأحاطت بها جميعا هالة من القدسية.

ومهما تكن دوافع اعتراض بعض الباحثين على الأمر ، علمية أو مغرضة ، فإن الفكرة السائدة حتى الآن ، وإلى أن يثبت عكسها ، هي أن الزراعة الأولى نشأت في بلاد الشام القديمة ، وفي سورية وفلسطين على وجه التحديد ، ومنهما انتقلت إلى بقية المناطق في العالم. ويبقى ، حتى بين الذين يقرّون هذه الحقيقة ، تباين حول الأسباب الكامنة وراء هذه النقلة النوعية ، التي يعتبرها البعض ، بعد ابتكار النار ، وقبل الثورة الصناعية الحديثة ، أهم خطوة حضارية حققها الإنسان. وقد واكبت هذه النقلة تحوّلات كبيرة في الأوضاع الاجتماعية لإنسان النيوليت ، طالت المسكن والمأكل والملبس وأدوات العمل وأغراض الزينة والأواني المنزلية والديانة والتعبيرات الفنية ، ومجمل العلاقات المجتمعية ـ الداخلية والخارجية.

وفي بلاد الشام مواقع كثيرة من عصر النيوليت ، موزعة في مناطق متعددة ـ

٣٤

ساحلية وجبلية وصحراوية ونهرية وغيرها. لكن الموقع الذي أولي الأهمية المطلقة لفرادته هو أريحا ، في جوار البحر الميت. ففي تل السلطان ، موقع أريحا القديمة ، القريب من عين السلطان ، توجد آثار المدينة الوحيدة المعروفة حتى الآن في العالم ، والتي يعود تاريخها إلى ما قبل ٩٠٠٠ عام. وهذه المدينة المسوّرة ، سبقت ب ٤٠٠٠ عام أيّ استيطان مديني معروف حتى الآن. ولذلك فهي تشكل أحجية أثرية ، تثير الكثير من التساؤلات التي لم يتفق الباحثون على الإجابة عنها ، أو على تقديم تفسير متماسك ومنطقي لازدهار مدينة كهذه في ذلك الزمان والمكان.

فأريحا ، التي ينخفض موقعها (تل السلطان) نحو ٢٧٥ م تحت سطح البحر ، وحيث معدل هطول الأمطار لا يزيد عن ١٠٠ ملم سنويا ، والتي تدين بقيامها وبقائها للنبع المجاور ، عين السلطان ، هي ظاهرة فريدة ، ليس في الشرق القديم فحسب ، بل في العالم أيضا. فقد عاصرتها مستوطنات وقرى زراعية كثيرة في جميع أنحاء الهلال الخصيب ومصر ، إلّا إنه لم تكتشف حتى الآن في هذه المنطقة ، آثار مدن محصنة قبل الجزء الأخير من الألف الرابع قبل الميلاد ، في حين يعيد الباحثون أسوار أريحا إلى الألف السابع قبل الميلاد. وهي بذلك ، ولكبر حجمها وعدد سكانها الذي يقدره البعض ب ٣٠٠٠ نسمة ، تطرح الكثير من الأسئلة بشأن نشوئها وازدهارها ومصادر ثروتها ، ونظامها الاقتصادي ـ الاجتماعي.

ولأسباب موضوعية ، أي فرادة الظاهرة ، كما لأخرى ذاتية ، أي أعمال التنقيب الواسعة والمنهجية التي أجريت فيها ، فإنّ أريحا تعدّ الموقع النموذج الأرقى لهذا العصر والذي يمكن من خلال المعلومات التي يوفرها تتبّع مراحل الانتقال من النطوفية (الميزوليت) ـ القرية المفتوحة ـ إلى المدينة المسوّرة (النيوليت) حتى العصور اللاحقة وبصورة متواصلة ومتكاملة. فقد ساهمت أوضاع أريحا البيئية الخاصة ، بتطورها إلى مدينة بوقت مبكر جدا ، بينما ظلت المستوطنات في مواقع أخرى ، صغيرة ، كما هو الحال في موقع وادي فلاح ، حيث تحتل قرية صغيرة مصطبة محدودة عند مدخل المغارة. ويعزو بعض الباحثين ازدهار أريحا إلى اشتغال أهلها بالتجارة ، وخصوصا بمستخرجات البحر الميت : الملح والقار والكبريت.

ويتميّز موقع أريحا بآثاره العمرانية ، إذ كشف عن منازل مؤلفة من غرفتين وأكثر ، مبنية من اللبن المسطح المحدّب وجدرها مائلة إلى الداخل ، وهو ما يشير إلى أن سقوفها كانت مقببة. لكن أهم ما يثير الانتباه في الموقع في هذا العصر المبكر هو الأبنية الحجرية الواسعة ، والسور الذي يقوم عليه برج عال. وتشير الدلائل إلى أن هذه التحصينات الضخمة بمقاييس العصر ، صمّمت منذ البداية لأغراض دفاعية.

٣٥

ويحيط بالسور خندق محفور في الصخر ، عرضه ٢ ، ٣ م ، وعمقه ٧٥ ، ٢ م ، ويليه جدار من الحجر سماكته ٣ م ، بقيت منه أجزاء على ارتفاع ٥ أمتار. وفي السور برج حجري دائري الشكل ، قطره عند القاعدة ١٢ م ، وعند القمة ٩ م ، وارتفاعه ١٥ ، ٩ م. وداخل البرج درج يؤدي إلى أعلاه ، فيه ٢٢ درجة ، وطول السور ٧٠٠ م ويحيط بمستوطنة مساحتها تزيد عن ٤٠ دونما.

فضلا عن تلك التحصينات ، كشف عن مبان مركزية ، منها معبد وخزّان ماء ، بقيت جميعا بمثابة أحجية ، إذ سبقت الأهرامات نحو ٤٠٠٠ عام. وعدا ما يفترضه ذلك من معرفة لفن البناء ، ومن مستوى عال من التقنيات ، فإنه يثير الدهشة لما يتطلبه من طاقة بشرية ، وما يستلزمه من وجود سلطة مركزية ، قادرة على حشد هذا الجهد وتوفير حاجاته. ولذلك اعتبرت أريحا أقدم مدينة في التاريخ. وعلى الرغم من كل التنقيبات في المنطقة لم يعثر على مثيل لها حتى الآن ، وظلت أريحا ظاهرة فريدة ، تجاوزت عصرها من ناحية ضخامة أبنيتها ، وعدد سكانها ، ولم تتكرر إلّا بعد مرور آلاف السنوات. ولا شك في أن بناء مثل هذه المدينة استوجب وجود مجتمع متطور بعلاقاته ومؤسساته.

وقد عاصر السويّات الأولى من أريحا موقع وادي فلاح ، على الساحل بالقرب من حيفا. وجريا على عادة المنقبين ، أطلق على مكتشفات هذا الموقع الحضارة الساحلية. ويقول البعض إن الحضارة الساحلية ، أسوة بقريناتها من النيوليت : الخيامية ، نسبة إلى موقع الخيام غرب البحر الميت ، والريحاوية ، نسبة إلى أريحا ، والطاحونية ، نسبة إلى وادي الطاحون في جبال القدس ، هي مرحلة ، أو مراحل ، متطورة عن النطوفية ، ومتكيفة أكثر وفق الأحوال المناخية الجديدة. وهناك من يرى أن النطوفية ، التي كانت واسعة الانتشار ، قد أخلت مكانها لثلاثة أنماط من الاستيطان المنتقل إلى الزراعة : ساحلي ، في وادي فلاح ؛ جبلي ، في وادي الطاحون ؛ وغوري ، في أريحا. وقد أدّت العوامل المحلية دورا في تمايزها بعد نشوئها.

أمّا موقع المريبط ، على نهر الفرات في سورية ، فينتمي إلى هذا العصر ، وإليه ينسب بعض الباحثين الزراعة الأولى في العالم ، والتي يعود تاريخها بحسب الكربون المشع ، إلى سنة ٧٧٠٠ ق. م. وإلى الشمال منه ، اكتشفت آثار الزراعة المعاصرة له في تل الشيخ حسن. وكذلك في تل أسود في محيط دمشق ، الذي يمثل الموقع الأقدم للاستقرار في سورية الجنوبية. ويشير واقع البحث العلمي الحالي إلى أن المواقع السورية كانت السبّاقة إلى صناعة الفخار ، فقد وجدت بداياتها ، لكن على

٣٦

نطاق ضيق ، في موقع تل أسود. غير أن التعبير الأكثر دلالة على مستوى تطور هذه الصناعة المهمة ، والتي أصبحت الأساس لتمييز الحضارات اللاحقة ، جاء من منطقة العمق ، شمال سورية ، ومنها انتشر في أرجاء الشرق القديم.

ويبدو أن صناعة الفخار وصلت متأخرة إلى فلسطين ، وربما من سورية ، إذ تشير الدلائل المتوفرة إلى استخدامه في فترة مبكرة أكثر. وبناء على ذلك ، تعتبر سورية موطن الفخار الأول. وتقدم منطقة العمق صورة عن تتالي المراحل في تطور هذه الصناعة وانتشارها ، منذ بداية الألف السادس قبل الميلاد. وبينما تكشف هذه الصورة عن استمرارية حضارية في سورية ، فإنها تظهر فجوة في فلسطين تم تخطيها لاحقا. ويستخلص الباحثون من ذلك قيام هجرات من سورية إلى فلسطين في فترة ما بعد الفخار ، أعطت دفعا لمستوطنات قديمة ، مثل أريحا ، وإقامة أخرى جديدة ، مثل المنحتة ، بالقرب من بيسان ، وتل الأقحوانة ، في دلتا اليرموك ، التي أطلق عليها اسم الحضارة اليرموكية.

وتقابل حضارة العمق في سورية حضارة جبيل في لبنان ، التي تحتل موقعا متميزا على الساحل ، شمالي بيروت ، من عصر النيوليت الفخاري في بلاد الشام. وهاتان الحضارتان تعاصران مرحلة «حلف» الوسطى في العراق. ويظهر التأثير السوري على صناعة الفخار الأولى في فلسطين في عدد من المواقع ، وخصوصا في منطقة الحولة : عين الملاحة وعينان وتل القاضي وغيرها ، حيث وجدت الأواني الفخارية المشابهة لتلك التي اكتشفت في تل الرماد ، في الجزء الجنوبي من سورية. أمّا في الأردن ، فهناك الكثير من المواقع التي تعود إلى هذا العصر : البيضا (شمال البتراء) وعين غزال (بين عمان والزرقاء) وغيرهما.

ومع انتهاء مرحلة النيوليت ما قبل الفخار ، والتي عرفت باسم الحضارة الطاحونية ، والموقع النموذج لها هو أبو غوش ، بالقرب من القدس ، ظهرت في فلسطين ثلاث حضارات فخارية ، هي : اليرموكية والساحلية (وخصوصا في وادي رباح بالقرب من رأس العين) والمنحتة (غور بيسان). وفي هذه المرحلة حدثت تغيّرات متعددة ، أكثرها وضوحا كان في مجال الأواني الفخارية من حيث الإتقان والألوان والزخارف ، فضلا عن تنوع الأشكال. كما استبدلت البيوت المستديرة بأخرى مستطيلة ، مؤلفة من غرفتين أو ثلاث. وبينما كانت الطاحونية تنحصر في الجنوب والصحراء ، دخلت كما يبدو شعوب أخرى من الشمال والشرق ، حملت معها إلى فلسطين صناعة الفخار.

وأهمية الحضارة اليرموكية ، تل الأقحوانة ، أنها تمثل المرحلة المبكرة لصناعة

٣٧

الفخار في فلسطين وقد أطلق المنقب هذا الاسم عليها ، لأنها تقع في دلتا اليرموك ، عند مصبه في الأردن ، حيث الموقع محصن بصورة طبيعية ، ولذا استمر الاستيطان فيه لفترة طويلة ، والفخار الذي وجد فيه يقارب الفخار السوري. لكن أهم ما يميّز الآثار اليرموكية هو التماثيل المصنوعة من الطين لرؤوس نساء ، ودمى نسائية مبسطة ومختزلة ، وكذلك دمى لأنواع معينة من الحيوانات التي أولوها اهتماما خاصا. وقد وجد في الموقع أكثر من مئة دمية ، وتماثيل طينية وحجرية ورسوم فنية ، تتعلق في أغلبيتها بالخصوبة البشرية.

المخلفات الأثرية التي اصطلح على تسميتها الحضارة اليرموكية ، عثر عليها في مناطق واسعة من بلاد الشام ، تمتد من سهل العمق ، في شمال سورية ، إلى جبيل ، في لبنان ، فالساحل الفلسطيني ، وغور الأردن ، وكذلك في شرقي الأردن ، في موقع عين غزال ، بالقرب من الزرقاء ، وفي جنوبه أيضا. أمّا المرحلة التالية ، وهي الأخيرة من النيوليت ، فقد كشف عن مواقع كثيرة تعود إليها ، ومنها : مجدّو (تل المتسلم ، في مرج ابن عامر) وأريحا وبيسان وتل بلاطة وتل الفارعة (بالقرب من نابلس) ، وغيرها.

رابعا : العصر الحجري – النحاسي

(الكالكوليت)

يمثل هذا العصر الانتقال من العصور الحجرية إلى المعدنية (البرونز) ، والذي حدث بالتدريج خلال الألف الرابع قبل الميلاد. وكما يدل اسمه ، فإن تصنيع النحاس ، واستعماله في أدوات عمل الإنسان وزينته ، أصبحا رائجين ، إلى جانب استمرار شيوع الأدوات الصوانية والفخارية والعظمية. ويكتسب هذا العصر ، على قصر فترته الزمنية نسبيا ، أهمية خاصة ، نظرا إلى الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية التي حققها إنسان النيوليت في مراحله الأخيرة ، قبل الانتقال إلى عصر المدن ، وذلك في فلسطين ، كما في الشرق الأدنى القديم كله ، إذ نشهد تسارع المسار الحضاري ، ماديا وروحيا ، وفي مناطق واسعة من الهلال الخصيب ومصر.

فالازدهار الاقتصادي القائم على الزراعة والرعاية ، مع شيء من التجارة ، أعطى دفعا لتطور مفاهيم دينية واجتماعية ، جرى التعبير عنها بالعبادات ، وخصوصا في طقوس دفن الموتى ، وفي بناء المؤسسات التي من خلالها جرى تنظيم الحياة في المجتمعات المستقرة ، وإقامة المشاريع العامة ، وصولا إلى بناء المدن ، أو تطور القرى الدائمة إلى مدن ، في العصر اللاحق (البرونز). وتثير الأنصاب الحجرية

٣٨

الضخمة بأنواعها المتعددة ، الاهتمام بصورة خاصة ، فهي إمّا أن تكون حجرا واحدا ضخما (ميجاليت) بالقرب من مقبرة ، وإمّا أن تتألف من عدد منها ، على شكل بناء ، جدره حجارة تنتصب عموديا ، ويغطيها حجر مسطح كبير ، تعرف باسم دولمين. وقد انتشرت في شرقي الأردن أكثر من غربيه.

وتقع أغلبية المواقع المعروف أنها أقيمت في هذا العصر في جوار الأودية والأنهار أو الينابيع ومصادر المياه الأخرى ، الأمر الذي يشير إلى أنها اعتمدت أساسا على زراعة الريّ ، وقد بنيت في السهول الخصبة ، أو في مناطق أخرى يسهل على السكان استغلالها وجلب المياه إليها. وفي هذا العصر ، كما في سابقه ـ النيوليت الأخير ـ كانت الحضارة المادية والروحية في فلسطين موحدة على العموم ، ومنسجمة مع مواقع أخرى في المنطقة بعناصرها الأساسية. إلّا إن خصوصية البيئة في كل موقع أعطته بعض الملامح الخاصة ، الأمر الذي جعل تلك الحضارة متشابهة ، ولكن ليس متجانسة أو متطابقة في تقاليدها وعاداتها ، كما تبرز عبر آثارها.

وتتضح من الحفريات والمسوحات الأثرية زيادة عدد المستوطنات وتنامي حجمها وسكانها ، على الرغم من استمرار اعتمادها أصلا على الزراعة. والكثير من هذه المستوطنات استمر في البقاء ، وتطور إلى ما بعد الكالكوليت ، وتحوّل إلى مدن. ويبرز ذلك في شمال البلاد أكثر من جنوبها ، ولعل ذلك بفعل تأثيرات سورية في هذا الجزء ، إذ ساعدت في تحوّل المستوطنات فيه إلى مجتمعات حضرية مدينية ، في حين أن الكثير منها في الجنوب هجر. وبينما يبرز في الشمال التفاعل مع سورية ولبنان ، فإن الجنوب أقام علاقات تجارية وثقافية مع سيناء ومصر.

والموقع النموذج لحضارة الكالكوليت هو تليلات الغسول ، إلى الشمال الشرقي من البحر الميت ؛ وبناء على ذلك ، سميت هذه الحضارة غسولية ، وهي تعود إلى المراحل الأولى من هذا العصر ، حيث أقيمت على عدد من التلال الصغيرة. وكشفت التنقيبات فيها عن بيوت مستطيلة الشكل ، تضم أكثر من غرفة ، جدرها من الحجارة واللبن ، وسقوفها من القصب والطين ، وأرضيتها مرصوفة أو مقصورة. وأغلبية البيوت لها فناء مسوّر تمارس فيه الحياة اليومية ، حيث وجدت المواقد ومطامير تخزين الحبوب وموقع جرة الماء والجاروشة. وفي داخل البيوت وخارجها وجد الكثير من الأدوات الصوانية ، والأواني الفخارية ، وكذلك الأدوات النحاسية التي أعطت هذا العصر اسمه ـ الحجري ـ النحاسي (كالكوليت).

ووجد على جدر بعض البيوت لوحات جدارية ، مزخرفة بألوان متعددة ، منقوش على بعضها أشكال هندسية ، وعلى البعض الآخر صور تعبر موضوعاتها ، كما يبدو ،

٣٩

عن أمور دينية ، وإحدى الصور التي تصف عصفورا طويل الذنب ، لها قيمة فنية كبيرة ، في حين تمثل واحدة أخرى نجما ، بينما تقدم الثالثة مشهدا دينيا لمعبود جالس ، وأمامه أشخاص واقفون ، يؤدون الطاعة والولاء. كما وجدت في تليلات الغسول نواويس فخارية ، دفن فيها الموتى داخل المنطقة السكنية ، أو تحت مصاطب البيوت ، وكانت كما يبدو ، على صورة بيت سكني. وكشفت الحفريات الأخيرة عن غرفة كبيرة مستطيلة الشكل ، يعتقد أنها كانت معبدا.

وفي غور الأردن ، وعلى جانبيه ، مواقع كثيرة تضاهي تليلات الغسول حجما ، وهي تعود في أغلبيتها إلى هذا العصر ، وما قبله ـ النيوليت الأخير ـ الذي مهد له. وقد بنيت على العموم قريبا من مصادر المياه ، كالسيول والينابيع والأودية ، الممتدة بين بحيرة طبرية شمالا والبحر الميت جنوبا. أمّا في وادي عربة ، فقد أقيمت المواقع بالقرب من مناجم النحاس ، واشتغل باستخراجه ، كما هو الحال في خربتي أفدان وأفنان وغيرهما. ويتضح من ذلك أن أغلبية مستوطنات الشمال ، المتأثرة بالحضارات السورية ، اشتغلت بالزراعة ، كما تشير إلى ذلك أيضا الأدوات الصوانية التي وجدت بأعداد كبيرة في هذه المواقع.

ويمثل تل الفارعة ، بالقرب من نابلس ، الموقع النموذج للاستيطان الكالكوليتي في سلسلة الجبال الوسطى ، إذ كشفت التنقيبات عن استمرارية من عصر النيوليت ، وحتى عصر البرونز ـ عصر بناء المدن. وكذلك الحال بالنسبة إلى مجدّو (تل المتسلم) في مرج ابن عامر وبيسان وغيرهما. وليس واضحا كيف انتهت حضارات الكالكوليت في شمال فلسطين ، ولكن تظهر في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد ، وعشية عصر البرونز المبكر ، تأثيرات شمالية ، أدّت في النهاية إلى قيام حضارات مادية جديدة. وإذ لم تمت الحضارة القديمة بين ليلة وضحاها ، فالأكيد أنها امتزجت بحضارات جديدة ، وشكلت معها عصر البرونز المبكر ـ عصر بناء المدن.

أمّا في الجنوب فتحتل منطقة بئر السبع أهمية خاصة ، نظرا إلى طبيعة المستوطنات وأساس اقتصادها ، إذ إنها ليست في العادة قريبة من مصادر المياه ، وبناء عليه ، يعتقد الباحثون أن السكان زرعوا القمح والشعير في موسم الشتاء ، واشتغلوا بالرعي في مناطق البادية ، فضلا عن استخراج النحاس من وادي عربة ، كما يبدو. وقد وجدت في مواقع بئر السبع : خربة البيطار وبئر الصفدي وتل أبو مطر ، دلائل واضحة على تصنيع النحاس من أدوات وأفران. كما عثر في موقع بئر الصفدي على عدد كبير من الدمى والتماثيل المصنوعة من العاج ، وهي تعتبر من أقدم العاجيات المصنعة في الشرق الأدنى القديم ، إضافة إلى الحلى النحاسية ، وكلها معدّة

٤٠