الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

ج ـ شروعها بتنفيذ المآرب الصهيونية بإدخالها المهاجرين الصهيونيين واستعمالها العبرانية لغة رسمية وسكوتها على وجود راية صهيونية.

د ـ تأليفها مجلسا استشاريا عينته تعيينا لتوهم أن في فلسطين مجلسا تشريعيا يمثل الأهالي.

ه ـ وجود زعماء صهيونيين في أعلى مراكزها مع أن فلسطين هذه هي البلاد المقدسة للعالمين النصراني والإسلامي ولا يجوز وصول أمرها إلى أيد غير إسلامية ونصرانية. (١)

ومع أن المؤتمر الثالث أكد على استنكار وعد بلفور ، وشجب سياسة الانتداب في فتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية المكثفة ، فإن مطلبه الرئيسي كان إقامة حكومة تمثيلية ، وطنية ومستقلة ، مسؤولة أمام مجلس نيابي ، يكون أعضاؤه منتخبين من قبل الشعب المتكلم باللغة العربية ، القاطن في فلسطين حتى أول الحرب. وفي هذا المؤتمر ، سواء لناحية الشكل أو المضمون ، يتضح أثر سقوط الحكم العربي في دمشق على الحركة الوطنية الفلسطينية ، وهو إذ حشد ممثلين عن الجمعيات والنوادي والشخصيات والمثقفين ، وكان معبرا عن قطاعات الشعب الفلسطيني بصورة عامة ، فإنه اتخذ طابعا قطريا صرفا. وإزاء إجراءات حكومة الانتداب ، وخصوصا تشكيل المجلس الاستشاري الذي بادر إليه المندوب السامي الأول ، هربرت سامويل ، فقد شغلت الحركة الوطنية الفلسطينية بقضايا قطرية ، ومن موقع ردة الفعل على المستجدات المتسارعة. وبذلك ، حققت الصهيونية ، ومنذ البداية ، أحد أهم أهداف مشروعها ـ تفتيت حركة التحرر العربية ، وتحديد مساراتها السياسية.

وفي أجواء من الاحتقان الشعبي ، تحول موكب الاحتفال بموسم النبي موسى في القدس ، والذي تواكب مع عيد الفصح لدى المسيحيين واليهود (٤ نيسان / أبريل ١٩٢٠ م) ، إلى تظاهرة وطنية للإعراب عن السخط والاحتجاج ضد الصهيونية والإدارة البريطانية. وخطب في الحشد الكبير موسى كاظم الحسيني ، رئيس البلدية ، وكذلك الحاج أمين الحسيني وعارف العارف ، محرضين على السياسة البريطانية الرامية إلى تهويد فلسطين. وتوترت الأوضاع بعد تحرش العصابات الصهيونية التي نظمها زئيف جابوتنسكي بالمتظاهرين ، واندلع الاشتباك بعد أن أطلق أفراد تلك العصابات النار عليهم. وتدخلت القوات البريطانية لقمع الاشتباكات ، فاصطدمت بمقاومة عنيفة ، استمرت في شكل متفرق عدة أيام ، وأسفرت عن مقتل ٥ يهود و ٤ عرب وجرح ٢١١ يهوديا و ٢٣ عربيا و ٧ جنود بريطانيين. وتشكلت لجنة تحقيق (لجنة بالين) ،

__________________

(١٢) المصدر نفسه ، ص ٢١٧.

٣٨١

فأكدت في تقريرها أن الاضطرابات كانت نتيجة حالة التوتر التي تسود الجماهير العربية ، جرّاء سياسة تهويد فلسطين التي تتبعها سلطات الاحتلال البريطاني.

وبعد انسحاب القوات البريطانية من سورية الشمالية ، وقبل انتشار القوات الفرنسية في جميع أنحائها (١٩١٩ م) ، قامت مجموعات عربية مسلحة بمهاجمة المستعمرات اليهودية في منطقتي طبرية والجليل الأعلى. وقد تصاعدت هذه الهجمات على المستعمرات الأربع التي أقيمت في الطرف الشمالي من سهل الحولة (إصبع الجليل) ، وهي : المطلة وكفار غلعادي وتل ـ حاي وحمّارة (المحمّرة). وتولى قيادة الدفاع عنها جوزف ترومبلدور. ولكن هذا الدفاع لم يصمد أمام الهجمات العربية المتوالية ، فراحت المستعمرات تسقط ، الواحدة تلو الأخرى. وبداية أخليت حمارة (١ كانون الثاني / يناير ١٩٢٠ م) ، وأحرقت. ثمّ تبعتها المطلة (منتصف كانون الثاني / يناير ١٩٢٠) ، فعاد إليها أصحابها السابقون من السكان المحليين. ووقعت معركة تل ـ حاي الحاسمة في آذار / مارس ١٩٢٠ م ، إذ قتل ترومبلدور ، وهرب بقية المدافعين عن كفار غلعادي (٣ آذار / مارس ١٩٢٠). وقد لجأ هؤلاء إلى الطيبة (جنوب لبنان) ، حيث جمعهم كامل بك الأسعد ، ونقلهم إلى صيدا ، ومنها إلى حيفا. وبذلك ، ولفترة وجيزة جرت تصفية الاستيطان الصهيوني في شمالي سهل الحولة ، لأنه وقع خارج منطقة الحماية البريطانية الفعلية.

لكن هذه المقاومة العربية لم تزحزح بريطانيا عن موقفها من وعد بلفور. وعندما حذرت الإدارة العسكرية في فلسطين من مغبة الإيغال في دعم المشروع الصهيوني ، لما قد يجرّه ذلك من عنف دموي ، عمدت حكومة لندن إلى استبدالها بأخرى مدنية ، برئاسة هربرت سامويل ، كمندوب سام ، وهو المعروف بصهيونيته ، حتى عندما كان عضوا في الحكومة سنة ١٩١٦ م. وفي كتاب التعيين جعلت تلك الحكومة تجسيد وعد بلفور عنصرا أساسيا في مهمات الإدارة الجديدة. وصدرت أحكام بحق موسى كاظم الحسيني ، فنحّي عن رئاسة البلدية ، وحل محله راغب النشاشيبي ، الذي فتح بذلك ثغرة في الصف الفلسطيني. وكذلك حكم بالسجن على كل من الحاج أمين الحسيني وعارف العارف ، ففرّا إلى شرق الأردن ، إذ كان مشايخ القبائل يدعمون النضال الفلسطيني. وحكم بالسجن كذلك على زئيف جابوتنسكي. وعلى الرغم من أصوات الاعتراض البريطانية أيضا ، وحتى اليهودية ، في بريطانيا والولايات المتحدة ، ضد تعيين سامويل مندوبا ساميا ، فقد أصرّت حكومة لندن على ذلك. وكان هذا التعيين بداية مرحلة جديدة في الصراع العربي ـ الصهيوني تحت الانتداب البريطاني.

٣٨٢

خامسا : الانتداب يرعى الاستيطان

كان تعيين هربرت سامويل مندوبا ساميا على فلسطين ، بمثابة رسالة صريحة من حكومة لندن إلى الأطراف المعنية جميعها ، تؤكد التزامها بوعد بلفور ، وإصرارها على تنفيذه. وإزاء المقاومة العربية لهذه السياسة ، من جهة ، وتردد الإدارة العسكرية في تجسيدها ، اقتناعا بعدم جدواها ، من جهة أخرى ، عمدت الحكومة البريطانية إلى تجاهل حقوق الفلسطينيين. فبادرت إلى اتخاذ إجراءات من شأنها تعزيز الاستيطان الصهيوني ، وتغييب سكان البلد الأصليين ، عبر الانتداب الذي لم يكن قد أقرّ بعد في عصبة الأمم. وفي مذكرة بعث بها بلفور إلى اللورد كيرزون (وزير الخارجية) في ١١ آب / أغسطس ١٩١٩ م ، في أثناء مناقشة التعهدات البريطانية المتضاربة خلال الحرب ، وبروز اعتراضات قوية عليها داخل الحكومة والبرلمان ، قال : «إن التناقض بين نصوص العهد وسياسة الحلفاء صارخ بدرجة أكبر في حالة (أمة فلسطين المستقلة) ، عنه في حالة (أمة سورية المستقلة) ، فنحن لا ننوي في حالة فلسطين حتى أن نقوم بشكليات استقصاء رغبات سكان البلد الحاليين ، وإن كانت اللجنة الأميركية تقوم بشكليات الاستفسار عن هذه الرغبات.» (١)

ومضى بلفور يقول في مذكرته : «إن الدول الكبرى الأربع ملتزمة بالصهيونية. والصهيونية ، سواء أكانت صائبة أو خاطئة ، حسنة أم سيئة ، تضرب بجذورها في عادات قديمة قدم الدهر ، وفي الحاجات الحالية ، وفي الآمال المقبلة ، وهي أكبر أهمية بكثير من رغبات وتحاملات السبعمئة ألف عربي الذين يقطنون الآن تلك الأرض القديمة ... وأيّا كان مستقبل فلسطين ، فهي ليست الآن (أمة مستقلة) ، وليست في سبيلها لأن تصبح كذلك. ومهما كان ينبغي مراعاة رأي الذين يعيشون هناك ، فإن الدول الكبرى لا تنوي ، على حد فهمي للأمر ، أن تستشيرهم لدى قيامها باختيار الدولة المنتدبة. وخلاصة القول إن الدول الكبرى لم تصدر فيما يتعلق بفلسطين أي بيان وقائعي ليس خاطئا باعترافها ، ولا بيان سياسي إلّا وهي تعتزم دائما على الأقل بالمعنى الحرفي ، أن تنتهكه.» (٢)

وفي الواقع ، فإن الدول الكبرى لم تحترم العهود التي قطعتها على نفسها في أثناء الحرب ، ما عدا التزامها تجاه الصهيونية ، الذي جرى تعزيزه وإعطاؤه الأولوية.

__________________

(١٣) الأمم المتحدة ، «منشأ القضية الفلسطينية وتطورها ، ١٩١٧ ـ ١٩٨٨» (نيويورك ، ١٩٩٠) ، ص ٣٣ ـ ٣٤.

(١٤) المصدر نفسه.

٣٨٣

ففي معاهدة فرساي (٢٨ حزيران / يونيو ١٩١٩ م) ، بين الحلفاء المنتصرين وألمانيا المهزومة ، تقرر إنشاء عصبة الأمم ، ودخل القرار حيز التنفيذ في ١٠ كانون الثاني / يناير ١٩٢٠. وفي ميثاق عصبة الأمم المادة ٢٢ ، أقرّ «نظام الانتداب» ، كشكل جديد من الاستعمار ، وفي مؤتمر سان ريمو (٢٤ نيسان / أبريل ١٩٢٠ م) ، جرى الاتفاق بين فرنسا وبريطانيا على تحديد انتدابيهما على بلاد الشام والعراق بصورة عامة. فأخذت فرنسا سورية ولبنان ، وبريطانيا فلسطين وشرق الأردن والعراق. وحددت هذه الانتدابات على أنها من الفئة (أ) ، التي تضم الأقاليم التي اعترف موقتا باستقلالها في عهد عصبة الأمم. وقد قامت فرنسا وبريطانيا بصوغ صكوك الانتداب على الأقطار العربية المذكورة ، على أن توافق عليها عصبة الأمم بعد ذلك. وأدرجت فلسطين مع الأردن في صك انتداب واحد ، لكنهما عوملا بوصفهما إقليمين منفصلين.

وفي معاهدة سيفر (١٠ آب / أغسطس ١٩٢٠) ، التي أكره العثمانيون على توقيعها ، لكن مصطفى كمال رفضها ، أدخل الحلفاء مطلبين صهيونيين : ١) أن يعهد بإدارة فلسطين ، عملا بأحكام المادة ٢٢ من ميثاق عصبة الأمم إلى دولة منتدبة ؛ ٢) أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ وعد بلفور ، الذي أصدرته الحكومة البريطانية (٢ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩١٧ م) ، وأقرته دول الحلفاء الأخرى بعد ذلك. وعاد الحلفاء إلى تأكيد ذلك في معاهدة لوزان (٢٨ أيلول / سبتمبر ١٩٢٣ م) ، عندما توصلوا إلى اتفاق مع الحكومة الثورية في تركيا ، بقيادة مصطفى كمال «أتاتورك». وبعد ذلك ، أصبح الانتداب ساري المفعول رسميا ، مع أنه مضى أكثر من ثلاثة أعوام على تنفيذه عمليا. وعلى الرغم من الاعتراضات على شرعية الانتداب في عصبة الأمم ، إلّا إن هذه الهيئة التي هيمنت عليها الدول الكبرى ، أقرت صك الانتداب (٢٤ تموز / يوليو ١٩٢٢ م).

وعندما أقرت عصبة الأمم الانتداب البريطاني على فلسطين ، فقد انتهكت بذلك ميثاقها الذي وضعته بنفسها. ذلك أن صك الانتداب الذي تضمن وعد بلفور ، يتناقض والمبدأ الذي اعتمدته العصبة في المادة ٢٢ من ميثاقها. فهذا الصك ينتهك حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال. وهو ينطلق أساسا من هدف مغاير لما أعلن من أن الانتداب يرمي إلى تحقيق رفاهية الشعب الواقع تحته ، إذ أعلن الصك صراحة أن مهمة الانتداب في فلسطين هي تهيئة أوضاعها لإقامة «وطن قومي يهودي» فيها. وفي الواقع ، فإن الأمين العام لعصبة الأمم ، استنكر عمل المجلس الأعلى للحلفاء ، في مذكرة قدمها لمجلس العصبة في ٣٠ تموز / يوليو ١٩٢٠ م ،

٣٨٤

وقال : «إن توزيع الدول الكبرى للانتدابات ليس قانونيا ، ولا يمكن الاعتراف به.» وأيّد مندوب بلجيكا (هيماش) ذلك معلنا أن المجلس الأعلى للحلفاء خالف ميثاق عصبة الأمم وأحكام القانون عندما وزع الانتدابات بين بعض أعضائه. وأكد رجل القانون الدولي ، فوشيل ، «أن اختيار الدول المتحالفة الكبرى بريطانيا العظمى للانتداب على فلسطين قد جرى خلافا لأحكام ونص المادة ٢٢ من ميثاق العصبة. فهو إذن باطل من الوجهة القانونية ولا يقام له وزن.» (١)

وصك الانتداب الذي صاغته حكومة بريطانيا ، يتضمن في ديباجته وعد بلفور. وقد واجهت صيغته معارضة قوية داخل الحكومة ، فكان من أشد المعترضين عليه وزير الخارجية اللورد كيرزون. وتعليقا على مهمة الانتداب في تهيئة فلسطين ، سياسيا وإداريا واقتصاديا ، لإنشاء «وطن قومي يهودي» ، قال كيرزون : «إن الصهاينة يعملون على إقامة دولة يهودية يكون العرب فيها حطابين وسقائين وكذلك الكثيرون من المتعاطفين البريطانيين مع الصهاينة.» وأكد وزير الخارجية البريطاني : «إن أحدا لم يستشرني أبدا فيما يتعلق بصك الانتداب هذا في مرحلة سابقة ، ولا أدري من أي مفاوضات ينبع أو على أي تعهدات يستند .. إنني أعتقد أن المفهوم بأكمله خاطىء.» وأضاف كيرزون بلهجة ساخرة : «هنا بلد به ٠٠٠ ، ٥٨٠ عربي و ٠٠٠ ، ٣٠ يهودي ... وانطلاقا من مبادىء تقرير المصير النبيلة وانتهاء بنداء رائع موجه إلى عصبة الأمم ، نشرع الآن في وضع وثيقة تمثل ... دستورا معلنا لدولة يهودية. ولا يسمح حتى للعرب المساكين إلّا بأن ينظروا من ثقب المفتاح بوصفهم طائفة غير يهودية.» (٢) ولدى مناقشة صك الانتداب في مجلس اللوردات ، كانت الأغلبية ضد تضمينه وعد بلفور. وردّا على مداخلة اللورد بلفور ، التي دافع فيها عن سياسته الموالية للصهيونية والداعمة لمطالبها ، قال اللورد سيدنهام : «إن الضرر الناجم عن إلقاء شعب أجنبي على عربي ـ والعرب في كل مكان بالمنطقة الخلفية ـ قد لا يعالج أبدا ... فما فعلناه بتنازلاتنا لا للشعب اليهودي وإنما لقطاع متطرف صهيوني ، هو أننا بدأنا قرحا نازفا في المشرق ، ولا أحد يدري إلى أي مدى سيمتد هذا القرح.» (٣) وقد صوت مجلس اللوردات بإلغاء وعد بلفور من صك الانتداب ، لكن مجلس العموم ثبته في ديباجة ذلك الصك ، فقبلته الحكومة ، وأصبح الأساس لسياستها الرسمية. وبناء

__________________

(١٥) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم العام ، المجلد الأول (دمشق ، ١٩٨٤) ، ص ٣١٠ ـ ٣١١.

(١٦) الأمم المتحدة ، مصدر سبق ذكره ، ص ٣٥ ـ ٣٦.

(١٧) المصدر نفسه ، ص ٣٨.

٣٨٥

عليه ، تبنّته في عصبة الأمم ، وأقر فيها على الرغم من تناقضه مع ميثاقها ، وأصبح ساري المفعول رسميا بعد معاهدة لوزان ، إذ جرى الصلح مع تركيا ، مع أنه كان قد طبق فعليا على الأرض منذ تموز / يوليو ١٩٢٠ م.

لقد استند الانتداب ، وبالتالي إدارته في فلسطين برئاسة المندوب السامي إلى الاحتلال العسكري وموازين القوى الدولية ، وليس إلى الشرعية القانونية ، أو المعايير الأخلاقية أو الأعراف السياسية. ولم يكن في وسع الحركة الوطنية الفلسطينية أن تمنعه ، لكنها لم تستسلم لإرادته أيضا. وبالتناسب مع الحماسة لتهويد فلسطين ، الذي بادرت إليه إدارة سامويل ، كانت ردة فعل الحركة الوطنية الفلسطينية ، أخذا في الاعتبار قدرتها الذاتية على التصدي للانتداب وإجراءاته. ولما كانت مهمة الانتداب المركزية هي تهويد فلسطين ، فقد عمدت إدارة سامويل إلى سنّ التشريعات وإصدار المراسيم التي تمهد الطريق لذلك. وتهويد فلسطين يعني نقل ملكية الأرض فيها من أيدي سكانها الأصليين إلى المستوطنين ، وتغيير الواقع الديموغرافي بفتح أبوابها للهجرة اليهودية المكثفة ، وتمكين المستوطنين من السيطرة على اقتصاد البلد ، عبر مؤسسات الحكم والإدارة. وقد بادرت إدارة سامويل إلى ذلك ، حتى وإن كانت المنظمة الصهيونية لا تزال غير مؤهلة لتولي هكذا مسؤولية. وفي غياب الآهلية الصهيونية لتهويد فلسطين باليهود ، بقي لها الخيار الأفضل الثاني ، وهو تغييب سكانها العرب عنها ، وبالوسائل المتعددة.

وبالاستناد إلى تخويله سنّ القوانين وإصدار التشريعات ، عمد المندوب السامي ، مباشرة بعد تسلمه مهماته ، إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات الهادفة إلى تعزيز الاستيطان الصهيوني في البلد. فقد أصدر «قانون الهجرة» (١٩٢١ م) ، الذي يسمح بدخول ٥٠٠ ، ١٦ مهاجر يهودي إلى فلسطين سنويا. ثم جرى تعديل هذا القانون في السنوات ١٩٢١ و ١٩٢٥ و ١٩٣٣ م لزيادة عدد المهاجرين المسموح لهم بدخول البلد. وكان التعديل الأخير سنة ١٩٣٣ م ويسمح بدخول أكبر عدد ممكن من يهود أوروبا ، بعد وصول الحزب النازي ، بزعامة أدولف هتلر ، إلى الحكم في ألمانيا. وكذلك ، أصدر سامويل قانون نقل ملكية الأراضي (١٩٢٠ م) ، بغية تسهيل استملاك الأرض من قبل المؤسسات الاستيطانية الصهيونية. كما أصدر القوانين التي تضيق الخناق على الفلاحين العرب ، مثل «قانون أراضي المحلول» ، الذي يمنع الفلاحين من توسيع أراضيهم الزراعية ، كما كانت العادة في أيام الأتراك. وكذلك «قانون الأرض الموات» ، الذي يحظر على الفلاحين ضم «الموات» إلى ملكيتهم ، كما كان الحال أيام العثمانيين. وواضح أن جملة هذه القوانين تخدم الأهداف الصهيونية

٣٨٦

في تهويد فلسطين ، وتغييب سكانها العرب الأصليين.

ولتسهيل سيطرة الاستيطان الصهيوني على نواحي الحياة في فلسطين ، اعترفت إدارة الانتداب بالمؤسسات الصهيونية التي أقيمت لذلك الهدف. ومن بين هذه المؤسسات : الوكالة اليهودية ، التي مهمتها تهويد السكان عبر الهجرة والاستيطان ؛ والصندوق القومي اليهودي (هكيرن هكييمت) لتهويد الأرض عبر الاستملاك بشتى الوسائل ؛ ونقابة العمال اليهود (الهستدروت) لتهويد العمل والاقتصاد. وعلاوة على ذلك منحت إدارة الانتداب امتيازات على أراض واسعة وموارد طبيعية لشركات استيطانية صهيونية ، لتقام عليها مشاريع الري والكهرباء واستخراج المعادن والأملاح وصناعة الأسمنت وغيرها. وبفضل الامتياز الذي أعطي لمشروع روتنبرغ ، ولمدة سبعين عاما ، تمّ احتكار توليد الكهرباء في فلسطين كلها تقريبا. وقد حصل صاحب المشروع (روتنبرغ) على الامتياز من إدارة سامويل (أيلول / سبتمبر ١٩٢١ م). وبسبب خلافات بين الشركاء ، تأخر الامتياز الذي منح لشركة بوتاس البحر الميت حتى سنة ١٩٢٧ م ، وكان لمدة ٧٥ عاما. في المقابل لم يمنح امتياز واحد للعرب الفلسطينيين ، بل على العكس ، جرى التضييق على أصحاب بعض المشاريع الصغيرة لإكراههم على بيعها ، كما حدث مع شركة كهرباء القدس ومشروع ري الحولة (عين الملاحة) والحمة (المياه الكبريتية).

وفي الواقع ، فإن حكومة الانتداب ، التي رأت مهمتها المركزية تجسيد وعد بلفور ، كان لا بدّ من أن تتخذ الإجراءات اللازمة لذلك ، وتغطيها بتشريعات تضفي عليها السمة القانونية. فقد صفّت البنك الزراعي الذي أقيم تحت الحكم العثماني لمساعدة الفلاحين ، وفرضت على هؤلاء ضرائب باهظة أغرقتهم بالديون. وسنّت قوانين تخدم تجنيس المهاجرين اليهود ، بعد أن فتحت أمامهم أبواب البلاد على مصراعيها. كما أجرت مسحا للأراضي ، وفرزت أملاك الدولة ، ليسهل بيعها أو نقل ملكيتها. ومنحت المؤسسات المالية الصهيونية ، العامة والخاصة ، امتيازات اقتصادية. وسمحت للمؤسسات الاستيطانية التصرف بحرية لتهويد الأرض والسكان والاقتصاد والعمل. ولكن الأهم هو السلوك ، بناء على صك الانتداب ، إزاء الهيئات الصهيونية على أنها سلطة موازية لحكومة الانتداب ، تشارك في صنع القرار بالنسبة إلى جميع نواحي الحياة بالبلد. بل أكثر من ذلك وبسبب علاقتها مع حكومة لندن ، صارت الهيئات الصهيونية بمثابة رقابة على حكومة الانتداب ، وبالتالي موجهة لأعمالها.

لقد كان من شأن الأوضاع التي تشكلت في فلسطين تحت الانتداب أن تولد صراعا مثلث الجوانب ، يزداد حدة ، أو يتراجع ، وفقا لاحتدام التناقض الناجم عن

٣٨٧

حركة الأطراف. وهذه الحركة كانت بطبيعة الحال محكومة بالأهداف التي يرمي إليها كل طرف منخرط في الصراع ، من جهة ، وباعتبارات الواقع المتشكل من الجمع بين تلك الأطراف في وحدة صراعية متحركة ، من جهة أخرى. وسيرورة هذا الصراع محكومة بقدرة كل واحد من أطرافه على تجسيد أهدافه في الواقع المتطور. فحكومة الانتداب ، وإذ كان تجسيد وعد بلفور أحد أهم مرتكزات حركتها السياسية ، فقد كانت لها اعتبارات خاصة ، إقليمية ودولية ، وضعت بعض الضوابط على اندفاعها في دعم المشروع الصهيوني من دون النظر إلى حساب الكلفة والمردود. والحركة الصهيونية ، وإن راحت تبلور أهدافها ، وتصوغ مؤسساتها ، وتسارع إلى إيجاد واقع يمهد السبيل أمامها ، فقد اصطدمت بعقبات ذاتية وموضوعية ، حالت دون تمكينها من تحقيق أغراضها بالسرعة المرغوبة. والحركة الوطنية الفلسطينية ، التي كانت في موقع الدفاع ، لم تستطع توليد فعل كاف لصدّ الهجمة الصهيونية ـ الإمبريالية عليها ، لكنها ردّت بأشكال متعددة من النضال ، قطعت على الطرفين الآخرين طريق الوصول إلى أهدافهما بالسرعة التي خططا لها ، وبالشكل الذي بادرا إلى تنفيذه.

وإذ لم يستطع أحد من هذه الأطراف حسم التناقض لمصلحته ، وبالصيغة التي أراد ، فقد استمر الصراع ، بين مدّ وجزر ، متخذا مستوى من الحدة ، يتناسب ، بهذه الدرجة أو تلك ، مع مستوى احتدام التناقض المتولد في عملية الصراع الجارية ، والناتج عن تجليات مفاعيلها. وبينما كانت حكومة الانتداب منحازة استراتيجيا إلى المشروع الصهيوني ، فإنها على الصعيد التكتيكي لم تتطابق تماما مع نشاط المنظمة الصهيونية العاملة على تجسيده كما ترغب ، وبالتالي توظيف حكومة الانتداب في هذا السبيل. وبصورة عامة ، حاولت تلك الحكومة استيعاب الحركة الوطنية الفلسطينية وترويضها بأشكال متعددة. لكن القيادة الصهيونية أرادت قمع المقاومة الفلسطينية ، بكل الوسائل. وإذ لم يمتلك الاستيطان الصهيوني القدرة ، أو الأدوات ، لتطويع الحركة الوطنية الفلسطينية ، فقد طالبت قيادته حكومة الانتداب القيام بذلك ، من دون أن تقيم وزنا للاعتبارات البريطانية أحيانا. وسواء لأسباب ذاتية ، أو نتيجة قراءة معينة لموازين القوى ، فقد سلمت الحركة الوطنية الفلسطينية بالانتداب ، لكنها اعترضت على سياسة حكومته. وإذ خفضت من حدة مطالبتها بالاستقلال ، فقد ركزت جهدها على التصدي للمشروع الصهيوني ، ونجحت في حالات معينة ، مستفيدة من التعارضات التكتيكية بين سياستي حكومة الانتداب والحركة الصهيونية.

ففي إطار سياستها المرتكزة على وعد بلفور ، وضعت بريطانيا فلسطين تحت انتدابها ، ليكون في قدرتها تجسيد ذلك الوعد. ثمّ صارعت لوضع حدود «فلسطين

٣٨٨

الانتداب» بحيث تلبي المطالب الصهيونية إلى حد كبير. ثم استبدلت الإدارة العسكرية ، خارج الأعراف الدولية ، بأخرى مدنية أكثر استجابة لإملاءات المشروع الصهيوني. وعينت على رأسها أحد مهندسي ذلك المشروع في بريطانيا ، ودعمته بعدد من الموظفين الموالين للصهيونية ليتسلموا المواقع المفصلية في إدارته. ثمّ حولت المسؤولية عن فلسطين من وزارة الخارجية ، حيث تصاعد النقد لوعد بلفور وسياسته ، إلى وزارة المستعمرات ، التي كان على رأسها أحد الأقطاب الداعمين للصهيونية ، ونستون تشرشل (كانون الثاني / يناير ١٩٢٠ م). ثمّ فصلت فلسطين عن شرقي الأردن (آذار / مارس ١٩٢١ م). ومنذ البداية ، حتى في ظل الحكم العسكري ، اعترفت بريطانيا بالمنظمة الصهيونية شريكا في الحكم في فلسطين ، عبر لجنة المندوبين ، كما خصّت الاستيطان الصهيوني بمعاملة متميّزة في ظل الانتداب ، تتيح له التطور السريع ليشكّل الركيزة التي يقوم عليها «الوطن القومي اليهودي» ، واتخذت من الإجراءات الإدارية والتشريعية ما يمهد السبيل أمام ذلك.

ومنذ أن تولى منصبه كمندوب سام ، شرع سامويل في تنفيذ المهمة التي جاء من أجلها ، وضع البلاد في «حالة سياسية واقتصادية وإدارية» ، تؤدي إلى قيام «الوطن القومي اليهودي» ، كما ينص عليه صك الانتداب ، الذي جهد سامويل نفسه في صوغه وتمريره في المؤسسات الحاكمة في بريطانيا. وإضافة إلى الهيئات الصهيونية العاملة على تهويد فلسطين ، عبر أشكال متعددة من المؤسسات الاستيطانية ، أقام سامويل إدارة حكومية ، كان جلّ كبار المسؤولين فيها من الملتزمين بالصهيونية ومشروعها ، سواء كانوا يهودا أو بريطانيين. ولإضفاء طابع من الشرعية على السلطة التنفيذية التي يترأسها ، عين سامويل «مجلسا استشاريا» مؤلفا من ٢١ عضوا ، ١٠ منهم موظفون يتولون المناصب الإدارية العليا ، و ١٠ آخرون تمّ اختيارهم على أساس طائفي : ٤ مسلمون و ٣ مسيحيون و ٣ يهود ، ويرئس المندوب السامي هذا المجلس أيضا. وعقد المجلس أول جلساته في ٦ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٢٠ م. وفي شباط / فبراير ١٩٢٢ م ، وبالتشاور مع لجنة المندوبين ، أصدر سامويل «القانون الأساسي» ، الذي استبدل ب «دستور فلسطين» (١٠ آب / أغسطس ١٩٢٢ م) ، بعد إقرار صك الانتداب في عصبة الأمم. والمندوب السامي كان مسؤولا أمام وزير المستعمرات في لندن ، وهو الحاكم الأعلى ، وكذلك المشرّع الأول في فلسطين.

وقد تضافرت جهود سامويل وإدارته مع نشاط المؤسسات والهيئات الصهيونية ، في فلسطين وخارجها ، لدفع الأمور نحو المزيد من التوتير ، وبالتالي انفجار العنف في البلد. ولم تفلح مناورات سامويل في استيعاب الحركة الوطنية الفلسطينية ،

٣٨٩

وخصوصا أن التطمينات اللفظية ، والإيماءات الشكلية ، التي كانت تقدمها إدارة سامويل إلى الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية ، كانت تنفيها الإجراءات والتشريعات التي تتخذها هي ، من جهة ، والنشاطات السياسية والاستيطانية التي تقوم بها الحركة الصهيونية ، بتنسيق مع حكومتي الانتداب ولندن ، من جهة أخرى. فهذه الحركة رأت في الحرب العالمية الأولى فرصتها لتحقيق غاياتها في إقامة دولة يهودية ، تكون «باليهود ومنهم وإليهم» ، وبالتنسيق مع بريطانيا ، وبالاستناد إلى دعم الولايات المتحدة ، فراحت بعد الحرب تغذ الخطى نحو ذلك الهدف. وإلى جانب النشاط الكبير على الصعيد الدولي ، داخل مؤتمر السلام وخارجه ، فقد سارعت إلى لملمة أوضاعها التنظيمية ، وتشكيل المؤسسات والهيئات التي من خلالها يمكن تهيئة الوضع الصهيوني الذاتي لأداء المهمات المطلوبة منه. وإذ تبلورت الحركة الصهيونية ، شكلا ومضمونا ، في أعوام الانتداب الأولى ، إلّا إنه كان عليها أن تنتظر حربا عالمية ثانية لتصل إلى إقامة دولتها اليهودية ـ إسرائيل.

تشكيل المؤسسات الاستيطانية

منذ مؤتمر فيينا (١٩١٣ م) لم تعقد المنظمة الصهيونية العالمية مؤتمرها الدوري بسبب الحرب. وفي هذه الأعوام ، فرضت قيادة الأمر الواقع نفسها على العمل الصهيوني ، فبرز حاييم وايزمن في بريطانيا ، ولويس براندايس في الولايات المتحدة ، وناحوم سوكولوف في فرنسا. وإزاء المهمات الجديدة في مرحلة ما بعد الحرب ، من جهة ، والطعن في شرعية قيادة العمل الصهيوني ، وبروز أصوات يهودية وبريطانية تعارض وعد بلفور والانتداب ، بينما المشروع الصهيوني مطروح في مؤتمر السلام ، من جهة أخرى ، رأت تلك القيادة ضرورة إضفاء الشرعية على موقعها وعملها. وبعد مؤتمر سان ريمو ، أصدرت دعوة إلى عقد مؤتمر استثنائي موسع ، واختارت لندن مكانا له ، تقديرا لحكومة بريطانيا على دعمها للمشروع الصهيوني ، وجهودها في تأمين الانتداب على فلسطين. كما أرادت المنظمة الصهيونية أن يكون انعقاد المؤتمر مناسبة لحملة إعلامية في أوساط الرأي العام البريطاني ، تقوي موقف المؤيدين للصهيونية ضد معارضيها ، في المؤسسة البريطانية الحاكمة وخارجها.

وانعقد مؤتمر لندن في مطلع تموز / يوليو ١٩٢٠ م ، وكان من أهم المؤتمرات الصهيونية على الإطلاق. وحضرته وفود كثيرة ، بينها وفد كبير من الولايات المتحدة ، على رأسه لويس براندايس ، يرافقه صهره ، فيلكس فرانكفورتر ، والحاخام وايز وغيرهما. وترأس براندايس جلسة الافتتاح ، وألقى خطابا أجمل فيه منجزات النشاط

٣٩٠

الصهيوني حتى نهاية الحرب الأولى ، وقال : «لقد تم إنجاز العمل العظيم الذي بدأه هيرتسل في سان ريمو ، وتكللت الجهود الرامية إلى الحصول على اعتراف بالوطن اليهودي في فلسطين ... بالنجاح.» (١) وتلاه ناحوم سوكولوف ، الذي أعلن وسط حماسة الحاضرين ، «أن صفحة السياسة قد انطوت عمليا وبدأت صفحة جديدة الآن هي صفحة تحقيق أمانينا. فالصفحة الأولى لم نكتبها نحن بل أولئك الذين كان بيدهم زمام الأمر لفتح أبواب البلد أمّا الصفحة التالية فلن يكتبها أحد سوانا.» (٢) وكان هذا المؤتمر معلما بارزا في العمل الصهيوني ، سواء لناحية تبلور فكرة المشروع ، أو المضمون السياسي له ، أو الصيغ التنظيمية التي يتجسد من خلالها ، في فلسطين والخارج.

وطرحت في المؤتمر فكرة تنصيب براندايس رئيسا للمنظمة الصهيونية العالمية ، لكنه اعتذر ، مشددا أنه يستطيع خدمة المشروع الصهيوني من موقعه في المؤسسة الأميركية أكثر. ولذلك استبدلت الفكرة بانتخابه رئيسا فخريا ، وقبل المنصب ، إلّا إنه عاد وتراجع بعد يومين من المداولات الساخنة بين قادة العمل الصهيوني. وأكد براندايس علنا أنه لا يستطيع بعد أن يتحمل مسؤولية في المنظمة الصهيونية العالمية ، بسبب الأساليب الملتوية التي يعتمدها وايزمن. والواضح أن خلافا اندلع بين الاثنين بشأن طبيعة الاستيطان الصهيوني في فلسطين ، والصيغة التي يجب أن يأخذها ، وشكل ارتباطه باليهود في العالم ، وتحديدا دور رأس المال اليهودي الأميركي ، الذي لم يعتنق أصحابه الصهيونية عقيدة ، لاعتبارات موقعهم في المؤسسة الاقتصادية الأميركية. وقد تمحور الخلاف بين براندايس ومؤيديه ، من جهة ، وبين وايزمن وأنصاره ، من جهة أخرى ، بشأن طبيعة الصندوق التأسيسي (كيرن هيسود) ، الذي تقررت إقامته في هذا المؤتمر ، ليكون الذراع المالية للمنظمة الصهيونية العالمية.

وكان الخلاف بين براندايس ووايزمن يعبر عن وجهتي نظر متباينتين بشأن طبيعة العلاقة بين الاستيطان الصهيوني في فلسطين ويهود العالم ، من جهة ، وبينه وبين المراكز الإمبريالية ، من جهة أخرى. ومن هنا ، دار جدل بشأن طبيعة الصندوق التأسيسي ، ومقدار تركيز نشاطاته في فلسطين ، والعلاقة التي يجب أن تقوم بين الصندوق والمنظمة الصهيونية. وأصرّت مجموعة وايزمن على الطابع «القومي» للصندوق ، وبالتالي وضعه تحت سلطة المنظمة الصهيونية العالمية. في المقابل ،

__________________

(١٨) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٧٦ ـ ٧٧.

(١٩) المصدر نفسه ، ص ٧٧.

٣٩١

رأت جماعة براندايس أن يقوم الصندوق بتمويل مشاريع الاستيطان بصورة محددة ، وعلى أساس علاقة رأسمالية ، ويخضع لسلطة المنظمة الصهيونية الأميركية ، الممول الرئيسي للصندوق. وقد نجح وايزمن في تثبيت رأيه ، على الرغم من أن معظم الأموال الواردة إليه جاءت من الولايات المتحدة. واعتزل براندايس مهماته في المنظمة الصهيونية ، وانتخب وايزمن رئيسا لها ، وناحوم سوكولوف رئيسا للجنتها التنفيذية. وبذلك هيمنت سياسة وايزمن على عمل المنظمة الصهيونية العالمية.

ولدى عودته إلى الولايات المتحدة بعد المؤتمر ، كتب براندايس مذكرة إلى المنظمة الصهيونية الأميركية ، جاء فيها ما يلي : «لقد وصلنا إلى مفترق طرق ... فلم نعد حركة دعاوية إلّا بالدعاية المنبثقة من فهم الواقع وإنجاز مشاريع ملموسة. وإضافة إلى ذلك ، فعلينا ألّا نغفل حقيقة أن مخططاتنا يجب أن تكون بالصورة التي تستدعي التعاون الكامل من اليهود كلهم ، أولئك الذين لا يريدون بناء المنظمة الصهيونية ، ولكنهم يريدون المشاركة معها في إعمار فلسطين ... إن المسؤولية في فلسطين بالمستقبل القريب يجب أن تترك للدكتور وايزمن ويهود بريطانيا بصورة رئيسية ، ولا يجوز لأي اعتبار أن يسمح بأخذ تلك المسؤولية عن عاتقهم.» (١) وفعلا ، فإنه بعد مؤتمر لندن ، الذي لم يكن مؤتمرا عاديا ، تولت المنظمة الصهيونية البريطانية قيادة العمل الصهيوني اليومي ، بما في ذلك الإشراف على الاستيطان وإدارة مؤسساته في فلسطين ، تحت الانتداب البريطاني. وتراجع في الظاهر دور المنظمة الصهيونية في الولايات المتحدة ، الأمر الذي عبر عن تراجع دور الاحتكارات الأميركية في الشرق الأوسط لمصلحة الاحتكارات الأوروبية.

في هذه المرحلة ، تبلورت ملامح المرتكزات الاستراتيجية للمشروع الصهيوني بشقيه ـ الإمبريالي واليهودي. فقد تبنت بريطانيا هذا المشروع لأغراضها الاستعمارية ، وأصبحت البلد الأم بالنسبة إليه. وبعد تكريس وعد بلفور في ميثاق عصبة الأمم ، وصك الانتداب ومعاهدة لوزان ، ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني ، واتباعها لوزارة المستعمرات ، قامت بريطانيا بكل ما هو مطلوب منها في تلك المرحلة. وقد أقرّ بذلك ناحوم سوكولوف في مؤتمر لندن ، حين أكد أن الإنجازات التي تحققت للصهيونية كانت بفعل القوة التي تملك زمام الأمور. وتصدرت بريطانيا تبني المشروع الصهيوني ، وتراجعت الولايات المتحدة مرحليا ، لكنها لم تستسلم للأمر الواقع. ويعبر نجاح وايزمن في تولي رئاسة المنظمة الصهيونية العالمية ، وليس براندايس ، عن

__________________

(٢٠) John Hadawi ,op.cit.,Vol.I ,p.٣٦١.

٣٩٢

هذه الحقيقة. وبناء عليه ، تقرر أن يكون مركز المنظمة في لندن ، وله فروع في فلسطين والولايات المتحدة ودول أخرى. وإذ توفرت للحركة الصهيونية الظروف الموضوعية المواتية جدا على الصعيد الدولي ، فإنها ذاتيا لم تكن مهيّأة لنقل مشروعها من الإطار النظري إلى الصعيد العملي. وقد شكلت هذه الثغرة خطرا على المشروع الصهيوني ، تحركت المنظمة لتلافيه بسد هذه الثغرة ـ يهوديا وتنظيميا.

ولعل الإجماع الذي تمتع به المشروع الصهيوني في المراكز الإمبريالية بعد الحرب العالمية الأولى ، لا يوازيه إلّا استنكاف اليهود عنه ، ورفضهم الانجرار وراء دعاته ، الأمر الذي راح يثير الشكوك حول جدوى المشروع وصدقية القائمين عليه ، حتى داخل الحكومة البريطانية. وبعد مضي عشرة أعوام على وعد بلفور ، اعترف وايزمن (١٩٢٧ م) أن هذا الوعد «كان مبنيا على الهواء.» ومضى يقول إنه كان يرتعد خشية أن تسأله الحكومة البريطانية عن مقدار تأييد اليهود للحركة الصهيونية. فهي كانت تعلم «أن اليهود ضدنا ... وكنا وحدنا نقف على جزيرة صغيرة ، مجموعة قليلة من اليهود ذوي ماض أجنبي.» وفي مذكرة سرية ، رفعها إلى حكومته ، يقول سير إدوين مونتاغو ، الوزير اليهودي الوحيد في الوزارة البريطانية التي أصدرت وعد بلفور ، وهو أيضا الوزير الوحيد الذي عارضه ، أن اليهود من أصل أجنبي ، قد أدّوا دورا ملحوظا في الحركة الصهيونية في إنكلترا. ومن هؤلاء عدّد مونتاغو الدكتور غاستنر (من رومانيا) والدكتور هيرتز (من النمسا) والدكتور وايزمن (من روسيا). (١)

إن الفارق الكبير بين تأييد الدول الكبرى للمشروع الصهيوني وحماسة الجماعات اليهودية له ، إن دل على شيء فعلى الطبيعة الإمبريالية لهذا المشروع ، وعلى عدم التكافؤ فيه بين شقيه ، الإمبريالي واليهودي ، وأن الأول هو الغالب عليه. وكان وايزمن ونظراؤه يرون أن حل هذه المسألة يجب أن يأتي «من أعلى» ، من ناحية الدول الإمبريالية ، وعبر دورها في تسخير اليهود لخدمة مصالحها ، عن طريق وساطة المنظمة الصهيونية. وكانت الاستراتيجية التي وضعها نشطاء العمل الصهيوني تآمرية في أساسها على الجماعات اليهودية لتهجيرها إلى فلسطين. وهذا ما فعلته الحركة الصهيونية لاحقا. ويذكر وايزمن أنه عندما أعرب له أحد المسؤولين البريطانيين عن دهشته للموقف المناهض للصهيونية ، الذي يتخذه قادة يهود بريطانيا ، أكد له وايزمن أن لديه خطة لشن الهجوم عليهم «من أعلى». وتكهن وايزمن أنه بمجرد الاعتراف بفلسطين «وطنا قوميا يهوديا» ، فإن هؤلاء سيوافقون على الحل الصهيوني ،

__________________

(٢١) المسيري ، مصدر سبق ذكره ، ص ٤٠ ـ ٤١.

٣٩٣

وسينخرطون هم أنفسهم في صفوف الحركة الصهيونية في الوقت الملائم. لكن تكهنات وايزمن لم تتحقق كما كان يتوقع ، وتبني بريطانيا للمشروع الصهيوني لم يحرك بين يهودها موجة من الهجرة إلى فلسطين.

إلّا إنه بعد وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني ، وإقرار ذلك في عصبة الأمم ، وبالتالي تصاعد وتيرة النشاط الصهيوني في فلسطين ، تغلبت المنظمة الصهيونية العالمية على المعارضة اليهودية لها ، وأصبحت تنطق باسم اليهود أينما كانوا ، بغض النظر عن رأيهم في الموضوع. وراحت هذه المنظمة تقدم نفسها على الصعيد الدولي ممثلة ليهود العالم ، وجرى الاعتراف بها على هذا الأساس على نطاق دولي واسع ومؤثر. وبرزت المنظمة الصهيونية البريطانية بزعامة وايزمن ، متحالفة مع التيار الصهيوني العملي ، الذي راح يتولى قيادة الاستيطان الفعلي في فلسطين. وبنى وايزمن استراتيجية عمله على محور لندن ـ واشنطن ، إذ استغل موقعه على رأس المنظمة الصهيونية في لندن ، لتوسيع نطاق تأثيره وشبكة علاقاته على الساحة الأميركية ، مجيّرا هذه العلاقات لتطوير موقعه وتقويته في لندن ، وتوظيف ذلك كله في خدمة توطيد أركان الاستيطان في فلسطين. ومع ذلك ، فإن النجاح السياسي الذي حققه وايزمن ، وحتى على الساحة الأميركية ، متجاوزا براندايس ، ظلت تنقصه الترجمة العملية على الأرض ، بما يعطي الصدقية للمشروع الصهيوني ، ويبرّر الدعم الإمبريالي له.

وفي إطار «الهجوم من أعلى» ، تقدمت المنظمة الصهيونية ، بعد تأمين الشق الإمبريالي من مشروعها ، إلى بناء الشق اليهودي ـ الاستيطاني. فعمدت إلى تشكيل الهيئات والمؤسسات الضرورية لتهويد فلسطين ، وتحويلها إلى «وطن قومي يهودي» ، وذلك على الصعد الثلاثة ـ السلطة والشعب والأرض. ولأن الحركة الصهيونية كانت مفبركة ومصطنعة ، فقد انطلقت من تشكيل السلطة ، خلافا لتبلور الكيانات السياسية في عصر القوميات. وقد بدأ ذلك في المؤتمر الصهيوني الأول (بازل ١٨٩٧ م) ، إلّا إن الأوضاع بعد الحرب أصبحت تتطلب تطويرا للهيئات الصهيونية السلطوية. وكان من أولويات هذه السلطة تكوين قاعدة شعبية لها ، إذ إنها لم تنشأ في أوساط التجمعات اليهودية ، بل هبطت عليها من أعلى. وكذلك ، كان على تلك السلطة أن تغتصب رقعة الأرض التي تنوي إقامة كيانها السياسي عليها ، إذ إنها تبلورت في كواليس المراكز الإمبريالية ، وليس في فلسطين. وهذه الخصائص الأساسية للحركة الصهيونية ، هي التي تسم مشروعها الاستيطاني بالإمبريالية والعنصرية ، وخصوصا أنه يقوم على تغييب أهل البلد الأصليين وإجلائهم عن وطنهم ، وقطع صلتهم التاريخية به.

٣٩٤

لقد ضمن صك الانتداب الاعتراف بالمنظمة الصهيونية كوكالة يهودية ملائمة للتعاون مع حكومة الانتداب في إعداد فلسطين لتصبح «وطنا قوميا يهوديا». وبناء عليه ، كان لا بدّ من تطوير المؤسسات الصهيونية التي كانت قائمة قبل الحرب ، لتتلاءم مع الأهداف المتوخاة من الوضع الذي تشكل بعد الحرب. لكن الوكالة اليهودية المعروفة بهذا الاسم (هسوخنوت هيهوديت) ، لم تتشكل إلّا سنة ١٩٢٩ م ، لأسباب تتعلق بالخلاف داخل الحركة الصهيونية ، بشأن العلاقة مع اليهود غير الصهيونيين ، وبالتالي مشاركتهم في هذه الهيئة العامة. ومنذ الاحتلال البريطاني (١٩١٨ م) ، كانت هناك «لجنة موقتة» (فاعد زماني) ، تتولى تنسيق شؤون المستوطنين اليهود مع الإدارة العسكرية. ومع انعقاد مؤتمر السلام ، بدأ المستوطنون يعدون لانتخاب «مؤتمر ممثلين» (أسيفات هنفحاريم) ، وتمّ ذلك في نيسان / أبريل ١٩٢٠ م. وانبثقت من هذا المجلس «لجنة وطنية» (فاعد لئومي) ، أصبحت تمثل المستوطنين في فلسطين إزاء حكومة الانتداب. وعلاوة على ذلك ، تشكلت سلطات محلية ، استحوذت على صلاحيات واسعة في شؤون التعليم والخدمات واستيعاب المهاجرين وتنظيم المستعمرات ، وحتى المسؤولية عن الأمن فيها والدفاع عنها ، وبالتالي تشكيل منظمات مسلحة ، تطورت لاحقا لتشكل «الهاغاناه» (منظمة الدفاع) ، وغيرها من العصابات الصهيونية الإرهابية.

والوكالة اليهودية هي الذراع التنفيذية للحركة الصهيونية ، واسمها الكامل «المنظمة الصهيونية العالمية / الوكالة اليهودية». ومعلوم أن المنظمة الصهيونية ، التي كانت تعمل على صعيد عالمي ، عمدت إلى تشكيل هيئات لها في دول متعددة ، وأطلقت عليها تسميات متمايزة في الظاهر للتمويه على نشاطاتها ، وللتحايل على القوانين السارية في تلك الدول. ولكن رئيس المنظمة الصهيونية هو رئيس الوكالة اليهودية ، والمؤتمر الصهيوني العالمي هو الذي يجمع بين كل هذه الهيئات. وقد اعترف صك الانتداب بالمنظمة الصهيونية على أنها الوكالة اليهودية المشار إليها في متنه ، والتي منحت صلاحية التعاون مع حكومة الانتداب بهدف إنشاء «الوطن القومي اليهودي». وبناء عليه ، فقد مارست المنظمة الصهيونية العالمية مباشرة دور الوكالة اليهودية المشار إليها في صك الانتداب ، بكل ما يتعلق بشؤون المستوطنين اليهود في فلسطين وسلطات الانتداب. واستمر الوضع كذلك في فترة ١٩٢٢ ـ ١٩٢٩ م ، وخلالها تطورت الوكالة اليهودية في فلسطين لتصبح «حكومة داخل الحكومة» ، بكل معنى الكلمة.

وفي مؤتمر لندن (١٩٢٠ م) ، انقسمت اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية إلى

٣٩٥

فرعين : أ) لجنة لندن ، وحقل اختصاصها العمل السياسي ؛ ب) لجنة فلسطين ، لمتابعة النشاط الاستيطاني. وتحت الانتداب ، راحت أهمية لجنة فلسطين تتعاظم بسبب المهمات الملقاة على عاتقها ، إذ سرعان ما أصبحت تمثل المستوطنين سياسيا ، سواء إزاء حكومة الانتداب ، أو المنظمة الصهيونية العالمية ، أو الخارج بصورة عامة. واللجنة التنفيذية ، بفرعيها ، هي الوكالة اليهودية التي اعترف بها صك الانتداب كهيئة استشارية لحكومة الانتداب. ومع أن سلطات الانتداب لم تنظر إلى الوكالة اليهودية كشريك في الحكم ، إلّا إن هذه الوكالة سرعان ما فرضت نفسها ممثلا للمستوطنين إزاء تلك السلطات ، وناطقا باسمهم لدى حكومة بريطانيا وعصبة الأمم وغيرها من الهيئات الدولية ، كما راحت تقيم علاقات ثنائية مع بعض الدول ، وخصوصا مع الولايات المتحدة الأميركية. وبذلك تحولت الوكالة اليهودية ، في ظل الانتداب البريطاني ، إلى هيئة عالمية كبيرة ، هي التي أدّى نشاطها إلى قيام الكيان الصهيوني في فلسطين سنة ١٩٤٨ م ، وعندها تحول مجلسها التنفيذي إلى «حكومة إسرائيل الموقتة» ، وجهازها الإداري إلى جهاز «دولة إسرائيل» ، التي أعلن رئيس الوكالة اليهودية ، دافيد بن ـ غوريون ، قيامها (١٩٤٨ م).

وكانت الوكالة اليهودية عبر مكاتبها المنتشرة في جميع أنحاء العالم تقوم بجباية الأموال وتجنيد الدعم السياسي والاقتصادي لرفد النشاط الصهيوني في فلسطين. وفي مؤتمر لندن ، دعا براندايس إلى إشراك اليهود غير الصهيونيين في الوكالة ، فبرزت معارضة قوية للدعوة ، وتأجل البت فيها. إلّا إن حاييم وايزمن ، رئيس المنظمة ، نشط بين أصحاب رؤوس الأموال اليهود ، وخصوصا على الساحة الأميركية ، ومهد الطريق أمام توسيع الوكالة ، وإشراك غير الصهيونيين فيها (١٩٢٩ م) ، فأصبحت تدعى «الوكالة اليهودية الموسعة لفلسطين». ونتيجة ذلك انشقّ الجناح الصهيوني التنقيحي ، بزعامة زئيف جابوتنسكي ، عن المنظمة الصهيونية العالمية ، وشكّل «المنظمة الصهيونية الجديدة». وفي البداية ، ضمت الوكالة الموسعة عددا من اليهود غير الصهيونيين ، إلّا إنه بحلول سنة ١٩٤٧ م ، أصبح جميع أعضائها صهيونيين ، وأصبحت الوكالة والمنظمة شيئا واحدا ، رغم التسميات المتعددة. كما تقرر أن يكون رئيس المنظمة هو رئيس الوكالة ، والمؤتمر الصهيوني هو مجلسها ، واللجنة التنفيذية للوكالة هي اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية. ولدى قيام الكيان الصهيوني (١٩٤٨ م) أصبح رئيس المنظمة ، حاييم وايزمن ، الرئيس الأول لإسرائيل ، ورئيس اللجنة التنفيذية ، دافيد بن ـ غوريون ، رئيس حكومة إسرائيل الأول ، وسكرتير المكتب السياسي للمنظمة ، موشيه شاريت (شرتوك) أصبح وزير خارجية إسرائيل الأول ، وهكذا في المناصب الأخرى.

٣٩٦

لدى تشكيل الوكالة اليهودية في المؤتمر الصهيوني السادس عشر الذي عقد في زوريخ في ١٤ آب / أغسطس ١٩٢٩ م ، حدد الدستور مهماتها كالتالي : ١) تشجيع الهجرة اليهودية وتعزيزها ؛ ٢) تلبية الحاجات الدينية اليهودية ؛ ٣) تطوير اللغة العبرية وتنمية الثقافة اليهودية ؛ ٤) امتلاك الأراضي لتوسيع رقعة الاستيطان اليهودي ؛ ٥) رفع مستوى الاستيطان الزراعي. وإضافة إلى ذلك ، اهتمت الوكالة بتشكيل عصابات مسلحة ، بذريعة الدفاع عن المستوطنين وممتلكاتهم. ويتضح من ذلك أن المهمة المركزية للوكالة اليهودية هي تهويد فلسطين ، عبر تهجير اليهود إليها وتوطينهم فيها. ولهذا الغرض عمدت إلى بناء المؤسسات التي تقوم بذلك عمليا. وفي دستور الوكالة يرد صراحة أن الأرض التي يتم وضع اليد عليها ، تصبح خاصة «الشعب اليهودي» ، وملكيتها تسجل باسم الصندوق القومي اليهودي ، بهدف جعلها ملكا غير قابل للتصرف لذلك الشعب. وفي الدستور أيضا ، أن الوكالة اليهودية ستنشّط الاستيطان الزراعي القائم على العمل العبري. وفي كل الأعمال التي تقوم بها الوكالة ، يعتبر توظيف اليهود مسألة مبدئية. ومن أهم أدوات الوكالة على هذا الصعيد كان الصندوق القومي اليهودي (هكيرن هكييمت) لتهويد الأرض ، ونقابة العمال اليهود (الهستدروت) لتهويد الاقتصاد والعمل.

ومنذ أن تأسست سنة ١٩٢٠ م ، وإلى أن تحولت إلى «دولة إسرائيل» (١٩٤٨ م) ظلت الوكالة اليهودية في فلسطين تطور مؤسساتها وتوسع نشاطها ، لتغطي بأجهزتها جميع المهمات المطلوبة منها ، وتصبح حكومة كاملة فعلا. ومع نهاية الانتداب ، أعلنت السيادة على الأراضي التي وقعت في أيديها ، سواء تلك التي سلمتها لها حكومة الانتداب ، أو التي احتلتها الهاغاناه بالقوة. وفي فلسطين ، كانت للوكالة الدوائر التالية : المالية والسياسية والأمانة العامة والاقتصادية والهجرة والاستيطان والعمل والدائرة الفنية والإسكان والبحر وصيد الأسماك والتجارة والصناعة والحرفيين والتجار الصغار والأنباء والصحافة والإحصاء والأرشيف والتموين والنقل والمواصلات. ولها أقسام متخصصة ، مثل استيعاب المهاجرين والبحث عن الأقارب وهجرة الشباب وتوطين الطبقة الوسطى والمحطة الزراعية للتجارب ومعهد البحوث الاقتصادية وتوطين اليهود الألمان وتوطين الجنود المسرحين ، وغيرها. هذا طبعا إلى جانب المؤسسات الكبيرة التي أقرّ إنشاؤها في المؤتمرات الصهيونية ، والتي كانت الوكالة اليهودية الموسعة تشرف على أعمالها. وفي مؤتمر لندن تقرر أيضا إنشاء الصندوق التأسيسي لفلسطين (كيرن هيسود) ، ليكون الذراع المالية للمنظمة الصهيونية في مشروعها الاستيطاني بعد صدور وعد

٣٩٧

بلفور ، ودخول العمل الصهيوني مرحلة جديدة. وقد تضمن قرار إنشاء الصندوق ضرورة فرض «الضريبة الذاتية الصهيونية» ، التي تلزم كل يهودي ، بغض النظر عن موقفه من الصهيونية ، أن يدفع «عشر» ما يملكه أو يكسبه إلى صندوق الأمة ، الذي يقوم بتوظيف التبرعات والمساهمات المالية المتعددة ، واستثمارها في مشروعات إنتاجية ، لا تستهدف الربح في المقام الأول. وقد جاء في بيان الصندوق التأسيسي الموجه إلى يهود العالم ، ما يلي :

إن الانتداب على فلسطين ، وهو تعهد وتحد للشعب اليهودي في آن واحد ،

أوشك أن يصبح جزءا من قانون الأمم (يعني ميثاق عصبة الأمم). وها قد حانت لحظة تركيز الجهد اليهودي على بناء صرح الوطن القومي اليهودي ...

إن غرض كيرن هيسود هو توطين اليهود في فلسطين وفقا لخطة رائعة التنظيم ،

وبأعداد تتزايد باستمرار ، وتمكين عمليات الهجرة من البدء دون تأخير ..

إذ لم تعد أبواب فلسطين مغلقة من الداخل ، والمفتاح بيد الشعب اليهودي. (١)

وقد سجل الصندوق التأسيسي سنة ١٩٢١ م كشركة بريطانية في لندن ، وفي سنة ١٩٢٦ م نقل مقرّه إلى القدس. وتعاون بصورة وثيقة مع الصندوق القومي اليهودي ، وأصبح بعد قيام الوكالة اليهودية الموسعة (١٩٢٩ م) الإدارة المالية الرئيسية لها ، والمصدر الأكبر لتمويلها. وفي قرار إنشائه ، خصّص ٢٠% من واردات الصندوق التأسيسي إلى الصندوق القومي اليهودي ، كما تقرر صرف ثلث ما تبقى من أمواله على أعمال الهجرة والتعليم والخدمات الاجتماعية ، بينما يخصص الثلثان المتبقيان لإنشاء المؤسسات العامة والمشاريع الاقتصادية. والواضح أن هذا الصندوق جاء ليدعم الصهيونية العملية ، التي انتهجت سياسة التغلغل الاقتصادي والاستيلاء على فلسطين ، عبر بسط السيطرة اليهودية على مقدراتها ومرافقها الاقتصادية. وفي الواقع ، فقد قام بتمويل جميع نشاطات الوكالة اليهودية في فلسطين ، في حقول الاستيطان والهجرة والاستيعاب والتعليم والأمن وشراء الأسلحة والهجرة غير الشرعية.

وفضلا عن الأموال التي حوّلها إلى الصندوق القومي اليهودي ، أي ٢٠% من

__________________

(٢٢) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٧٨.

٣٩٨

إيراداته ، والتي ذهبت لشراء الأراضي واستصلاحها ، فقد قام الصندوق التأسيسي بتمويل الكثير من النشاطات والهيئات والشركات الصهيونية. ومنها على سبيل المثال لا الحصر : مكاتب الوكالة اليهودية في لندن ومنظمة هداسا الطبية وشركة كهرباء فلسطين وشركة البوتاس الفلسطينية ومشاريع مياه ، أهمها شركة المياه القطرية (مكوروت) ، ومشاريع ملاحة ، مثل ميناء تل أبيب وشركة تسيم للنقل البحري ، وشركة ال عال للنقل الجوي. وأنشأ الصندوق «بنك الرهونات العام» (١٩٢٢ م) ، كفرع لمصرف أنكلو ـ فلسطين ، لتوفير القروض للمستوطنين لبناء المساكن في المدن. وقد رفدت مؤسسات صهيونية تمويلية أخرى أعمال هذا الصندوق ، ومنها : المجلس الاقتصادي والمالي ، الذي عمل في فترة ١٩٢١ ـ ١٩٢٧ م ، ثم توقف ، ومؤسسة فلسطين الاقتصادية ، التي أسسها القاضي براندايس لتعمل على أسس تجارية في حقل تنمية الصناعات الرئيسية في فلسطين ، والمؤسسة الصناعية والمالية لفلسطين ، التي أنشأها رأسماليون يهود أميركيون (١٩٣٤ م) ، لتعمل على تطوير القطاع المصرفي الصناعي ـ اليهودي ، وغير ذلك من المشاريع الصناعية.

وكان المؤتمر الصهيوني الثالث (١٨٩٩ م) اتخذ قرار إنشاء صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار ، وتمّ تسجيله في لندن على أنه المصرف الصهيوني للاستعمار ، بصفة شركة مساهمة محدودة. ويشير التعميم الذي أصدرته لجنة العمل الصهيوني آنذاك ، أن الغرض من إنشاء المصرف أن يكون الجسر المالي الذي يقرب الحركة الصهيونية من الوصول إلى أهدافها. ورأى فيه هيرتسل وسيلة للتفاوض مع السلطان العثماني لنيل البراءة الدولية على فلسطين. وإذ لم تتحقق أهداف هيرتسل منه ، فإن هذا المصرف تحوّل إلى البنك المركزي للمنظمة الصهيونية ، ولإسرائيل لاحقا ، باسم بنك لئومي ليسرائيل. وحددت الفقرة الأولى من قانونه الأساسي مهماته كالتالي : أ) إيجاد مؤسسات صناعية وشركات للتأمين والملاحة في الشرق بالاعتماد على اليد العاملة اليهودية ؛ ب) تدعيم المستعمرات اليهودية عن طريق تسليف القروض المالية أو الرهونات والكفالات ، أو تغيير المستعمرين بعد شراء الأرض وفرزها إلى قطع ؛ ج) مساندة المشاريع التجارية المتعددة في كل من فلسطين وسورية ؛ د) بناء الخطوط الحديدية وغيرها من المنشاءات (في الشرق) ؛ ه) إنشاء البنوك والفروع المصرفية للغايات الوارد ذكرها من دون التقيد بمكان معين.

وللتغطية على نشاط صندوق الائتمان في فلسطين ، قبل الحصول على البراءة الدولية ، وهو ما كان يعارضه هيرتسل ، فقد أنشىء له فرع في يافا (١٩٠٣ م) ، باسم البنك الأنكلو ـ فلسطيني. وما لبث أن أصبح أكبر مصرف في البلد ، وأنشأ له عدة

٣٩٩

فروع في مدن : القدس والخليل وحيفا وصفد وطبرية. وتلفت النظر مبادرة المصرف إلى فتح فرع له في بيروت. وكانت الاعتبارات تنطلق من كون بيروت مركز الولاية العثمانية التي يتبع لها جزء كبير من فلسطين ، ومن محاولة لإبعاد الشبهات عن علاقة البنك بفلسطين تحديدا ، وكذلك لإجراء الصفقات مع بعض الملاكين اللبنانيين الغائبين عن الأراضي التي تخصهم في فلسطين. وخلال نصف قرن ، أدّى هذا المصرف دورا كبيرا في تنفيذ العمليات المالية للمنظمة الصهيونية في فلسطين ، وفي إدارة تمويل مشاريعها الاستيطانية ، إلى أن تحول (١٩٥١ م) إلى بنك إسرائيل المركزي ـ بنك لئومي ليسرائيل ـ وهو المؤسسة الأم لبنك العمال (بنك هبوعاليم).

كما كان المؤتمر الصهيوني الخامس (١٩٠١ م) قد اتخذ قرار إنشاء الصندوق القومي اليهودي ، علما أن فكرة تأسيسه تعود إلى بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين (١٨٨٤ م). وقد نصّ قرار تأسيسه على أن تستخدم الأموال التي يحصل عليها من التبرعات اليهودية لشراء الأراضي واستصلاحها والاستيطان عليها. وبعد تأسيسه أدخلت تعديلات على دستوره وأهدافه ونمط عمله ، يمكن تلخيصها كالتالي : ١) الصندوق القومي اليهودي يجمع الأموال من كل اليهود لشراء «أرض يهودية» تعود ملكيتها إلى «الشعب اليهودي» ؛ ٢) يتم شراء الأراضي في فلسطين والبلدان المجاورة فقط ؛ ٣) تشترى الأرض الزراعية والحدائق والغابات وجميع أنواع الأراضي الأخرى ؛ ٤) المساحات التي يتم امتلاكها تصبح غير قابلة للتصرف ، ولا يجوز بيعها حتى للأفراد اليهود ؛ ٥) هذه المساحات يمكن للصندوق تطويرها وتأجيرها فقط لليهود ، ولفترة لا تزيد عن ٤٩ عاما ، ولا يجوز تأجيرها لغيرهم. وقد حقق الصندوق أول صفقة له سنة ١٩٠٥ م بشراء ثلاث قطع من الأرض ، تبلغ مساحتها ٥٦٠٠ دونم ، وأقام القرية التعاونية الأولى (كيبوتس دغانيا) ، على الأرض التي اشتراها بالقرب من بحيرة طبرية (١٩٠٩ م).

وفي سنة ١٩٠٧ م ، جرى تسجيل الصندوق كشركة بريطانية في لندن ، تعمل لامتلاك الأرض بالشراء والاستئجار أو التبادل ، وذلك من أجل توطين اليهود فيها. وحتى سنة ١٩١٩ م ، كانت إنجازات الصندوق متواضعة ، إذ بلغت ٣٦٦ ، ١٦ دونما فقط. وفي سنة ١٩٢٢ م ، وبناء على قرار مؤتمر لندن ، نقل مقرّ الصندوق إلى القدس ، إذ توسعت نشاطاته بعد تأسيس الوكالة اليهودية ، والدعم الذي تلقاه من الصندوق التأسيسي. وفي المؤتمر جرت مناقشة موسعة لسياسة الصندوق العقارية ، وأعلن «أن المبادىء الموجهة للسياسة الصهيونية بالنسبة إلى الأرض ، هي نقل تلك المناطق التي يقام عليها الاستيطان الصهيوني إلى ملكية الشعب اليهودي العامة.»

٤٠٠