الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

إلياس شوفاني

الموجز في تاريخ فلسطين السياسي

المؤلف:

إلياس شوفاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٩

الثاني / نوفمبر ١٩٣٨ م) ، يعلن تخليها عن مشروع التقسيم. وبرّرت الحكومة هذا الانعطاف بالموقف بما يلي : «بعد إنعام النظر والتدقيق في تقرير لجنة التقسيم ، أظهر هذا التحقيق الإضافي أن الصعاب السياسية والإدارية والمالية التي ينطوي عليها الاقتراح ... عظيمة لدرجة يكون معها هذا الحل للمعضلة غير عملي ، ولذا فإن حكومة جلالته ستواصل القيام بمسؤولياتها في حكم فلسطين بأجمعها.» (١) ولتحقيق التفاهم بين أطراف الصراع في فلسطين ، الذي عادت لتعتبره الأساس الأكثر ثباتا للحل ، قررت الحكومة دعوة وفود من فلسطين والدول العربية والوكالة اليهودية إلى التداول بالمسألة الفلسطينية. وحذرت من أنها ستتخذ قرارها الخاص وتنفذه ، إذا لم تسفر مباحثات لندن عن أي اتفاق.

وفي الواقع ، فإن هذا الانعطاف في السياسة البريطانية ، جاء نتيجة تضافر عوامل متعددة ، وضغوط مورست عليها في مرحلة كان يلوح في الأفق شبح حرب عالمية. فالثورة في فلسطين لا تزال مستمرة ، وحتى في حال قمعها بالقوة ، فلا ضمانة أن البلاد ستخلد إلى الهدوء ، أخذا في الاعتبار تجربة عشرين عاما من الانتداب. ومن الأهمية بمكان ، ما حركته الثورة من ردات فعل في الأقطار العربية والإسلامية التي كانت بريطانيا في أشد الحاجة إلى إرضائها إذا نشبت حرب عالمية جديدة. ولكن في المقابل ، كانت الحركة الصهيونية وما تستطيع حشده من دعم للضغط على حكومة لندن ، سواء في الداخل أو الخارج ، وخصوصا في أميركا. وهذا فضلا عن الحملة الإعلامية التي تقوم بها على الصعيد العالمي ، مستفيدة من السياسة النازية ضد اليهود. وإزاء مجمل هذه العوامل ، وما تصطدم به الحلول المتداولة من عقبات ، كان الحل الأفضل أمام الحكومة البريطانية تأجيل المسألة ، وإبقاء الوضع على حاله ، وتحاشي الإقدام على حلول جذرية ، والاكتفاء بمعالجة الأوضاع الناشئة ، وترك القضية تنضج على نار هادئة.

لقد حركت الثورة الفلسطينية القوى الوطنية في البلاد العربية ، وسببت إحراجا للحكومات بحيث لم يعد سكوتها على القمع الذي تمارسه بريطانيا على الشعب الفلسطيني مقبولا. وعقد في القاهرة المؤتمر البرلماني العربي والإسلامي من ٧ إلى ١١ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٣٨ م بدعوة من اللجنة البرلمانية المصرية لدعم فلسطين ، برئاسة محمد علي علوبة. وحضره مندوبون من فلسطين وشرق الأردن وسورية ولبنان والعراق ومصر والمغرب واليمن والهند والصين ويوغسلافيا وأميركا. وتبعه انعقاد

__________________

(٥٠) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم الثاني ، المجلد الثاني ، مصدر سبق ذكره ، ص ١٠٥٢.

٤٨١

المؤتمر النسائي العربي الأول في القاهرة أيضا. وندد المؤتمران بالسياسة البريطانية ، وهددا باتخاذ مواقف عدائية منها ، إذا لم تستجب للمطالب الفلسطينية. كما قرر المؤتمر البرلماني إيفاد ممثلين عنه إلى لندن للدعوة إلى القضية الفلسطينية. وفي المقابل ، حركت الصهيونية أعوانها في أوروبا والولايات المتحدة للضغط على بريطانيا من أجل فتح أبواب فلسطين لهجرة يهودية واسعة تحل مشكلة هؤلاء في أوروبا الوسطى. وبعد لقاء تشمبرلين مع هتلر ، كثفت إدارة روزفلت انتقادها للسياسة البريطانية ، وضغطها عليها «لاستعمال فلسطين وسيلة لحل المشكلة اليهودية» ، كما طرح روزفلت في رسالة إلى تشمبرلين.

وإزاء الضغوط من الجهات المتعددة ، تخلت الحكومة البريطانية عن مشروع التقسيم ، وتوجهت نحو عقد مؤتمر في لندن ، يضم ممثلين عرب ويهود ، تحاول من خلاله التوصل إلى تفاهم بين الأطراف بشأن مستقبل فلسطين. وفي خطاب له أمام مجلس العموم ، حاول وزير المستعمرات ، مالكوم مكدونالد ، التمهيد للمؤتمر ، إذ أكد أنه لا يمكن أن تحل فلسطين وحدها المسألة اليهودية في أوروبا ، وحتى لو قمعت الثورة فإن الحلول العسكرية وحدها لن تكفي ، وقال : «أنا لو كنت عربيا لتولاني الذعر من تدفق الهجرة.» وأضاف مكدونالد ، «إذا نحن لم نزل مخاوف العرب من أن يصبحوا تحت سيطرة اليهود ، فإننا نضطر إلى أن نجابه عداء جميع العرب ... ونضع قسما كبيرا من الجيوش البريطانية في فلسطين دائما.» (١)

وتسارعت الأحداث ، فأفرجت الحكومة البريطانية عن المعتقلين في جزر سيشل (٢٧ كانون الأول / ديسمبر ١٩٣٨ م) ، ودعت إلى مؤتمر لندن (٧ شباط / فبراير ١٩٣٩). وحضرت وفود من مصر والمملكة العربية السعودية والعراق واليمن وشرق الأردن ، فضلا عن وفد فلسطين ، الذي غاب عنه الحاج أمين ، بسبب رفض الحكومة البريطانية إشراكه في المفاوضات. وتشكل الوفد برئاسة جمال الحسيني ، وعضوية حسين فخري الخالدي وألفرد روك وموسى العلمي وعوني عبد الهادي وأمين التميمي ويعقوب الغصين وراغب النشاشيبي ويعقوب فراج. وتولى أعمال السكرتارية جورج أنطونيوس وفؤاد سابا. أمّا الوفد الصهيوني فضم أكثر من أربعين مندوبا ، برئاسة حاييم وايزمن ، وعضوية دافيد بن ـ غوريون ويتسحاق بن ـ تسفي ، وممثلين عن يهود بريطانيا وأميركا وفرنسا وبلجيكا وبولندا وجنوب إفريقيا. واستمرت أعمال المؤتمر حتى ٢٧ آذار / مارس ١٩٣٩ م ، لم تجتمع خلالها الوفود

__________________

(٥١) «فلسطين : تاريخها وقضيتها» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٧٩.

٤٨٢

العربية مع الوفد الصهيوني ، بل أدارت الحكومة البريطانية المفاوضات مع كل جانب على حدة.

وفي المفاوضات عاد الطرفان ـ العربي والصهيوني ـ إلى مطالبهما المتناقضة. وإزاء التباين في مواقف الجانبين ، وعدم التقدم في المفاوضات ، عقدت الحكومة البريطانية في ٢٣ شباط / فبراير ١٩٣٩ م لقاء غير رسمي بين الممثلين العرب واليهود ، أعلن فيه وزير المستعمرات ضرورة القيام بخطوتين : ١) إعلان انتهاء الانتداب وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة ، مرتبطة بحلف مع بريطانيا ؛ ٢) السعي لتطبيق هذا الإعلان فور حلول السلام في البلد. ويتطلب إنشاء الدولة فترة انتقالية ، يكون للحكومة البريطانية خلالها ضلع في شؤون الدولة كلها. ولم يقبل الطرفان بهذه الخطة ، إلّا إن الموقف الصهيوني كان أشدّ اعتراضا عليها. وبينما أبدى الوفد العربي مرونة في التعامل مع الطرح البريطاني ، فإن المنظمة الصهيونية رأت فيه تنكرا بريطانيا لوعد بلفور وصك الانتداب ، وتخليا عن المشروع الصهيوني الذي تدعمه الولايات المتحدة. وعليه ، أصدرت الحكومة البريطانية «الكتاب الأبيض لعام ١٩٣٩». (١)

وكمؤشر إلى تحديها لبريطانيا ، قامت المنظمة العسكرية القومية (إيتسل) بسلسلة من أعمال الاغتيال ، فقتلت بعض المارة العرب في تل أبيب ، وألقت متفجرة في السوق العربية بالقدس القديمة ، راح ضحيتها ٣ من العرب ، كما فجرت لغما كبيرا في سوق حيفا ، أدّى إلى مقتل ٢٦ عربيا. واجتمع مؤتمر المندوبين اليهودي ، وحذر من نية حكومة بريطانيا المتجهة إلى «تصفية سياسة الوطن القومي ، وتسليم الاستيطان إلى حكم عربي.» ودعا المؤتمر المستوطنين إلى عدم الخضوع لهذه السياسة ، وإلى تعبئة كل القوى للمعركة ، وتنظيم عمليات هجرة غير شرعية إلى أن «يتم إحباط المؤامرة». وأعلنت المنظمة الصهيونية الحرب على المشروع البريطاني الجديد ، وبدأت نشاطا محموما ضده ، قاده بصورة بارزة دافيد بن ـ غوريون ، وراحت المنظمة تبتعد بوتيرة حثيثة عن بريطانيا ، وتقترب من الولايات المتحدة أكثر فأكثر ، إلى أن نقلت مركزها خلال الحرب العالمية الثانية إلى أميركا. أمّا في فلسطين ، فقد بدأت فترة من التمرد الصهيوني على الانتداب البريطاني.

في المقابل تباينت الآراء في تقويم موقف اللجنة العربية العليا برفض الاستجابة للسياسة البريطانية الجديدة ، بين التأييد والإدانة. وامتد الأمر إلى تقويم نتائج الثورة بصورة عامة ، بين من يصمها بالفشل ، ومن يصفها بالنجاح. والمسألة بطبيعة الحال

__________________

(٥٢) الكيالي ، مصدر سبق ذكره ، ص ٤٠٤.

٤٨٣

تتوقف على المعايير التي يعتمدها أصحاب هذه التقويمات. ومهما يكن الأمر ، تجدر الإشارة إلى ما يلي : ١) صحيح أن الثورة لم تحقق أهدافها المعلنة ، لكنها في الوقت نفسه حالت دون تحقيق المشروع الصهيوني لأغراضه المطلوبة في حينه. لم ينل العرب استقلالهم جرّاء الثورة ، لكن الثورة منعت قيام الدولة اليهودية ، كما كانت المنظمة الصهيونية تطالب ؛ ٢) لم تنشب الثورة الفلسطينية نتيجة تبلور أوضاع الشعب الفلسطيني تحت الانتداب ، لكن هذا الأخير رفع حدة التناقض مع الشعب الفلسطيني إلى الدرجة التي جعلته يهب في ثورة تلقائية ، سادتها العفوية بطبيعة الحال ؛ ٣) على أية حال ، وبغض النظر عن الثغرات التي اعتورت إدارة الصراع ، فلا بدّ من الأخذ في الاعتبار موازين القوى على الجانبين ، وكذلك اصطفاف القوى المنخرطة في الصراع وتحالفاتها. فالثورة ، التي انطلقت من موقع الدفاع ، لم تتمتع في أية مرحلة بالدعم الذي تمتعت به المنظمة الصهيونية ، ناهيك عن أن الصدام كان فعلا مع بريطانيا أصلا.

ثامنا : حرب فلسطين الأولى

مع نشوب الحرب العالمية الثانية ، بأبعادها الكونية ، تراجعت أهمية القضية الفلسطينية ، بأبعادها الإقليمية. وفي اصطفاف القوى في أثناء الحرب ، كان الوطن العربي في معسكر الحلفاء بصورة عامة. وبعد الثورة الفلسطينية ومؤتمر لندن والكتاب الأبيض (١٩٣٩ م) ، أصبح الصراع بشأن فلسطين قضية عربية مرة أخرى. وفي الحرب ، احتلت المنطقة العربية موقعا مهما في استراتيجية الحلفاء ، ليس بسبب مشاركة العرب العسكرية في الحرب ، كما كان الحال في الحرب العالمية الأولى ، وإنما بسبب موقعها الاستراتيجي ، وحيوية مواردها الطبيعية ، وخصوصا النفط. وإزاء التطورات بالمواجهة العسكرية ، عادت بريطانيا لتمارس مناوراتها المعهودة من الحرب الأولى ، بهدف كسب العرب إلى جانبها. وكانت أداتها هذه المرة الكتاب الأبيض الذي راحت تسوقه كخطوة على طريق الاستقلال ، ولكن بعد انتهاء الحرب. وعلى العموم ، لم يشكّل العرب عبئا على المجهود الحربي البريطاني ، بل على العكس ، كانوا ذخرا له. فالتداخلات العربية بعد مؤتمر لندن ، وأعمال القمع التي مارستها السلطات العسكرية البريطانية في فلسطين لإنهاء الثورة ، والإرهاق الذي أصاب الثورة والسكان ، أدّت جميعها إلى استكانة العرب في فلسطين في أثناء الحرب.

وكان واضحا أن تراجع حكومة بريطانيا عشية اندلاع الحرب الثانية ، مع أن

٤٨٤

الثورة الفلسطينية كانت تضمحل بوتيرة متسارعة ، جاء تحت تأثير التضامن العربي مع الشعب الفلسطيني. وبينما كانت بريطانيا تعد لدخول الحرب مع ألمانيا ، فقد طلبت من الدول العربية التدخل لإنهاء الثورة ، استنادا إلى وعودها بإيفاء الشعب الفلسطيني حقه في وطنه. لقد قدرت بريطانيا أهمية وقوف العرب إلى جانب الحلفاء في الحرب ، وسعت لاسترضائهم ، بعد أن جعلت القاهرة مركزا لقيادة قواتها في الشرق الأوسط ، وقد نجحت في سعيها. وكان طبيعيا أن تثور المنظمة الصهيونية على هذه السياسة. وغداة إعلان حكومة لندن بيانها الجديد ، قامت تظاهرات يهودية في فلسطين ، أعلن في إثرها بن ـ غوريون ، الذي كان يشغل منصب رئيس الوكالة اليهودية ، ما يلي : «إن التظاهرات اليهودية التي وقعت أمس تشير إلى بداية المقاومة اليهودية للسياسة الكارثية التي تقترحها حكومة جلالته. واليهود لن يذعنوا لها بالإرهاب ، حتى لو أريق دمهم. وفي إخضاعنا لها ، فإن المسؤولية عما يمكن أن يجري في هذا البلد جرّاء فرض تلك السياسة بالقوة ، تقع كاملا على عاتق الحكومة.» (١)

وعلى أرضية التحالف العربي مع بريطانيا في الحرب ، وبعد أن فترت الثورة ، وعمدت السلطات العسكرية في فلسطين إلى العمل بالأحكام العرفية وقوانين الطوارىء والقمع السياسي ، استكان عرب فلسطين إلى الأمل الذي عقدوه على تنفيذ حكومة بريطانيا وعودها الواردة في الكتاب الأبيض لعام ١٩٣٩. في المقابل ، فالمنظمة الصهيونية ، التي انتهزت نشوب الحرب العالمية الأولى لاستصدار وعد بلفور ، رأت في الحرب الثانية فرصة مواتية لتأسيس الكيان الصهيوني والإعلان عن قيامه. وهذا الهدف هو الذي حكم تصرف المنظمة ونشاطها خلال الحرب ، وبناء عليه ، نقلت مركز نشاطها إلى الولايات المتحدة ، وبالتالي ربطت مصير مشروعها الاستيطاني بدور أميركا في الحرب ، وموقعها الدولي بعد انتهائها ، واستراتيجية واشنطن إزاء المنطقة بعد الحرب ، وفي ضوء نتائجها. أمّا إزاء بريطانيا ، فقد انتهجت الوكالة اليهودية خطا سياسيا ، عبّر عنه دافيد بن ـ غوريون بالشعار : «مساعدة البريطانيين ضد هتلر وكأنه لا يوجد كتاب أبيض ومقاومة الكتاب الأبيض وكأن لا حرب هناك.» لكن المنظمة الصهيونية ، ولاعتبارات موازين القوى الدولية ، وما توقعته من نتائج الحرب ، ألقت عصا الترحال في الولايات المتحدة ، معتبرة إياها «البلد الأم» الجديد للمشروع الصهيوني.

__________________

(٥٣) John Hadawi ,op.cit.,Vol.I ,p.٦٢٣.

٤٨٥

وإزاء التحوّل في السياسة البريطانية عن المشروع الصهيوني ، عمدت الوكالة اليهودية إلى الانتقال من مرحلة تجسيد وعد بلفور وتهيئة الأوضاع لإقامة «الوطن القومي اليهودي» ، إلى المطالبة بإعلان الدولة اليهودية ، حتى وإن كانت الأوضاع لم تتهيّأ بعد. ورأت الحركة الصهيونية الفرصة تلوح في الأفق من خلال الحرب العالمية الثانية ، معتمدة هذه المرة على الولايات المتحدة. وكانت هذه الأخيرة قد تخلصت من سنوات الركود ، وتقدمت خطوة كبيرة في «سياسة الباب المفتوح» ، على قاعدة «الصفقة الجديدة ، التي عرفت باسم «مبدأ روزفلت». وأرسل روزفلت مندوبا له إلى الشرق الأوسط ، الجنرال باتريك هيرلي الذي عاد إليه بتقرير يقول إن المنظمة الصهيونية تريد دولة مستقلة في فلسطين ، وتهجير سكانها إلى العراق ، وضمان موقع مسيطر على اقتصاد الشرق الأوسط ومشاريع التنمية فيه. وكان سلوك واشنطن في أثناء الحرب وبعدها يشير بوضوح إلى أنها أيدت هذه المطالب الصهيونية ، فعملت على تجسيدها بكل نشاط.

وفي الحرب ، وعندما تفاقم خطر النازية على يهود أوروبا الوسطى ، بعد أن حدّدتها السياسة الألمانية «منطقة خالية من اليهود» ، وطرحت مسألة تهجيرهم واستيعابهم في أوروبا الغربية واستراليا والأميركتين ، بما ينسجم مع رغبة هذه الدول ، تراجعت الولايات المتحدة عن دعم المشروع بناء على طلب المنظمة الصهيونية ، التي أصرت على أن تكون وجهة هجرتهم إلى فلسطين ، لتثبيت أركان الاستيطان فيها وتهيئة الأوضاع لإعلان الدولة اليهودية. ولكن بريطانيا ، وهي تخوض حربا عالمية ، قدرت النتائج السلبية الناجمة عن تلبية مطالب الصهيونية ، فعمدت إلى الخديعة مرة أخرى ، ولكن بالاشتراك مع الولايات المتحدة هذه المرة ، بديلا من فرنسا في الحرب الأولى. وعندما تفهمت إدارة روزفلت المناورة البريطانية انهالت عليها الاحتجاجات الصهيونية ، بعد البيان الأنكلو ـ أميركي ، الذي رمى إلى تطمين العرب وضمان عدم انحيازهم إلى جانب ألمانيا في الحرب. وتحرك بعض أذرعة المنظمة الصهيونية للتعامل مع الاستخبارات الألمانية من أجل تهجير اليهود إلى فلسطين ، الأمر الذي تولاه أدولف أيخمان في مراحله الأولى (١٩٤١ م). وفي الواقع ، فإن المنظمة الصهيونية ، وخصوصا بعض أجنحتها اليمينية المتطرفة ، أحبطت توطين يهود أوروبا الوسطى في الغرب ، كما ساهمت في إنزال الكوارث ببعض الجاليات اليهودية الأوروبية وحملت حكومات الغرب المسؤولية الأخلاقية عنها.

وكما فعلت في الحرب العالمية الأولى ، كان همّ بريطانيا في الثانية أن تجر الولايات المتحدة إليها ، ورأت في المنظمة الصهيونية أداة لبلوغ مبتغاها. ومرة

٤٨٦

أخرى ، كان شرط المنظمة لتكرار دورها الحصول على تعهد بإقامة الدولة اليهودية بعد الحرب. وأبدت بريطانيا استعدادها لذلك ، وبالتالي التخلي عن الكتاب الأبيض (١٩٣٩ م) ، بعد تولي تشرشل رئاسة الحكومة خلفا لتشمبرلين (١٩٤٠ م). وطرح تشرشل سحب ذلك الكتاب ، لكنه اصطدم بمعارضة حكومته الائتلافية ، وتراجع لاعتبارات تكتيكية ، كما امتنع من الإفصاح عن نواياه لأسباب تتعلق بما قد يسببه ذلك من ردات فعل عربية. ولذلك عاد تشرشل إلى الخديعة المزدوجة التي مارسها لويد جورج في الحرب الأولى ، وتعهد لوايزمن أنه «بعد الحرب ، ستقوم في فلسطين دولة تضم ثلاثة إلى أربعة ملايين يهودي.»

وحمل وايزمن هذا التعهد ، وغادر إلى الولايات المتحدة لتأليب المنظمة الصهيونية وأنصارها بالدعوة إلى دخول أميركا الحرب إلى جانب الحلفاء. وكان على جدول أعماله تشكيل فيلق يهودي للمشاركة في الحرب ، وليكون القوة العسكرية التي تستند إليها المنظمة لدى إعلان الدولة اليهودية. ومع تصاعد العمليات العسكرية ، أصبحت بريطانيا أكثر فأكثر اعتمادا على الولايات المتحدة للتزود بالأغذية والأعتدة ، الأمر الذي دفع ألمانيا إلى تنشيط أسطولها من الغواصات في المحيط الأطلسي ، التي ألحقت بالبحرية البريطانية وسفنها التجارية خسائر فادحة. وباستمرار هذه الحالة ، أصبح صمود بريطانيا أمام ألمانيا متعلقا بالتدخل الأميركي في الحرب ، وأصبحت الإدارة الأميركية تتحرق لإعلان الحرب على ألمانيا ، وتنتظر الذريعة. وقد جاءت هذه في ٧ كانون الأول / ديسمبر ١٩٤١ م ، عندما هاجمت القوات البحرية والجوية اليابانية ميناء بيرل هاربر الأميركي في المحيط الهادىء ، فدخلت الولايات المتحدة الحرب ، الأمر الذي غير موازين القوى فيها جذريا.

ولما تأكدت المنظمة الصهيونية من دخول أميركا الحرب ، عمدت إلى نقل مركز نشاطها إليها ، انطلاقا من الأهمية التي تعلقها على الحرب في تحقيق أهدافها ، ومن تقديرها للموقع الذي ستحتله أميركا في العالم بعد الحرب ، ومن معرفتها للنفوذ الذي تتمتع به المنظمة هناك. وفي أيار / مايو ١٩٤٢ م ، عقدت المنظمة مؤتمرا موسعا في مدينة نيويورك حضرته وفود متعددة ، أهمها من الولايات المتحدة وبريطانيا وفلسطين. وانتهى المؤتمر إلى تبني برنامج بلتمور ، على اسم الفندق الذي عقد فيه المؤتمر. ودعا البرنامج إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين فورا ، وإلى رفض الكتاب الأبيض (١٩٣٩ م) ، الذي يهدد الهجرة اليهودية إليها ، وإلى تشكيل قوة عسكرية بقيادة الوكالة اليهودية ، التي تتولى بنفسها شؤون الهجرة إلى فلسطين ، وبناء المستعمرات فيها. وتوالت المنظمات الصهيونية على تبني البرنامج الذي جاء متطابقا مع الأهداف

٤٨٧

المعلنة للتيارات المتطرفة ، وبالتالي توحدت الحركة الصهيونية على برنامج بلتمور ، الذي أصبح أساس العمل الصهيوني في أثناء الحرب وبعدها.

وأيّدت الإدارة الأميركية المنظمة الصهيونية على أساس برنامج بلتمور. ولأسباب داخلية ، ولاعتبارات انتخابية ، جاهرت بهذا التأييد ، متجاهلة حساسية الوضع بالنسبة إلى علاقات بريطانيا مع العرب. وسارع مكتب الرئيس روزفلت إلى إصدار بيان يؤيد برنامج بلتمور على الرغم من أنه يتنافى مع البيان الأنكلو ـ أميركي ، الذي صدر في آب / أغسطس ١٩٤١ م ، مؤكدا مبادىء ولسون بحق تقرير المصير للشعوب المقهورة. وترافق نقل مركز النشاط الصهيوني إلى الولايات المتحدة ، وتبني برنامح بلتمور ، مع حملة إعلامية واسعة لمصلحة إقامة الدولة اليهودية ، مستغلة الممارسات النازية إزاء يهود أوروبا الوسطى ، ومستندة إلى النفوذ الصهيوني في وسائل الإعلام وبيوت المال في أميركا. وقد وفرت هذه الحملة الغطاء للسياسة الأميركية ، التي تذرعت بدعم الكونغرس للصهيونية لأسباب انتخابية. وبرز على هذا الصعيد عضو مجلس الشيوخ من ولاية نيويورك ، روبرت واغنر.

إلا إنه على الرغم من تفاقم أزمة يهود أوروبا الوسطى ، فإن إدارة روزفلت ، وبتنسيق وثيق مع المنظمة الصهيونية ، ظلت ترفض منحهم تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة ، كما كانوا يرغبون. وعلى العكس ، راحت تلك الإدارة تضغط على حكومة بريطانيا لفتح أبواب فلسطين أمامهم ، بل وترتيب وسائل نقلهم وحمايتهم. وكانت بريطانيا تتحاشى ذلك لاعتبارات ردات الفعل العربية ، وخصوصا أن «حملة رومل» على شمال إفريقيا وصلت إلى حدود مصر ، وأصبحت تشكل خطرا على الوجود البريطاني في الشرق الأوسط ، كما تهدد مصادر النفط الحيوية للآلة العسكرية البريطانية. وفي رد لوزير خارجية بريطانيا ، أنتوني إيدن ، على رسالة لنظيره الأميركي كورديل هل (آذار / مارس ١٩٤٣ م) ، طلب فيها إيجاد حل سريع لمشكلة ٠٠٠ ، ٦٠ ـ ٠٠٠ ، ٧٠ يهودي بلغاري ، قال : «إن مسألة اليهود في أوروبا صعبة للغاية ، وإذا وافقنا على الحل المطروح ليهود بلغاريا ، فسرعان ما سنواجه قضايا أخرى شبيهة ، وسيستغل هتلر هذا التوجه من طرفنا ، كما أننا بحاجة إلى السفن التي تنقل هؤلاء ، وهي غير متوفرة لدينا.» (١) وأصرّت الإدارة الأميركية على رفض نقلهم ، ولو موقتا ، إلى الولايات المتحدة ، في السفن التي تعود إليها فارغة بعد إنزال حمولتها من الأغذية والأعتدة في أوروبا. والواضح أن الحركة الصهيونية ، ومعها الإدارة الأميركية ،

__________________

(٥٤) Ibid.,pp.٠٥٣ ـ ١٥٣.

٤٨٨

لم تكن معنية بإنقاذ يهود أوروبا ، بقدر ما كان يهمها إنقاذ المشروع الصهيوني وتوظيف مأساة يهود أوروبا في هذا السبيل.

وكان طبيعيا بعد مؤتمر بلتمور ، وما نجم عنه من نقل مركز ثقل النشاط الصهيوني إلى الولايات المتحدة ، بما يعنيه ذلك من توطيد للعلاقة بين المشروع الصهيوني والاحتكارات وبيوت المال الأميركية ، وما لهذه من تأثير في واشنطن وصنع القرار فيها ، ازدياد شقة الخلاف بين المنظمة الصهيونية والحكومة البريطانية. فقد وقعت هذه الأخيرة بين مطرقة النشاط الصهيوني ، وخصوصا عبر الإدارة الأميركية ، وسندان الشعور العربي العام المعادي للأهداف الصهيونية ، الذي راح يتغذى من افتضاح النوايا الأميركية ، مذكّرا بعملية الخداع التي مارسها الحلفاء على العرب في الحرب الأولى. وتحت وطأة الضغط الصهيوني ، من جهة ، وتنامي المعارضة العربية ، من جهة أخرى ، جرى الاتفاق بين تشرشل وروزفلت على تأجيل نشر وعود الأخير للملك ابن سعود ، وعلى ضرورة إعادة النظر في القضايا المتعلقة بفلسطين شهريا. وكان روزفلت (أيار / مايو ١٩٤٣ م) تعهد للملك السعودي بأن يعطى العرب واليهود الفرصة للتعبير عن وجهات نظرهم ، قبل اتخاذ قرارات طويلة الأمد بشأن فلسطين. وبناء على طلب وزارة الحربية الأميركية جرى التكتم على هذا الاتفاق بهدف عدم إلحاق الضرر بالمجهود الحربي للحلفاء.

وكان لا بدّ للنشاط الصهيوني المكثف على الساحة الأميركية سنة ١٩٤٣ ، من أن يترجم عمليا إلى مكاسب سياسية على الصعيد الرسمي. وفي مطلع سنة ١٩٤٤ م ، تقدم الكونغرس الأميركي بمشروع قرار يدعم برنامج بلتمور ، عبر مجموعة من الشيوخ والنواب ، سمت نفسها لجنة فلسطين الأميركية ، وضمت ٦٧ من أعضاء مجلس الشيوخ المئة ، و ١٤٣ من مجلس النواب ، الأمر الذي يشير إلى حجم التأييد للمشروع الصهيوني في المؤسسة الأميركية التشريعية ، والذي لا يمكن للإدارة الأميركية تجاهله. وتمخض النشاط الصهيوني عن التمهيد لقرار أميركي رسمي يعارض القيود التي تفرضها حكومة لندن على الهجرة اليهودية إلى فلسطين. لكن تدخل البنتاغون بشخص الجنرال جورج مارشال ، مدعما بموقف وزيري الخارجية والحرب ، أوقف إصدار القرار بحجة أنه يلحق الأذى «بالمجمع العسكري التدريبي والتمويني ، الضخم ، الذي أقيم في الدول العربية كجزء من الخطة الحربية.» ومع ذلك ، أوحى الرئيس روزفلت إلى بعض زعماء المنظمة الصهيونية أنهم يستطيعون التحدث باسمه عن موافقته على برنامج بلتمور ، والإفصاح أن الإدارة الأميركية لم توافق قط على الكتاب الأبيض (١٩٣٩ م) ، الذي يحدد الهجرة اليهودية إلى

٤٨٩

فلسطين. (١)

وقد واكب الضغط الصهيوني على حكومة لندن ، عبر واشنطن ، نشاط إرهابي في فلسطين ، وامتد إلى القاهرة ، إذ اغتيل اللورد موين ، المندوب السامي هناك. وكان موين يرفض المطالب الصهيونية ، ويؤيد تشكيل الجامعة العربية ، وينفي حق اليهود التاريخي في فلسطين ، وبالتالي يعارض وعد بلفور ، والأهم ، أنه رفض التعاون مع أيخمان في مقايضة يهود أوروبا الوسطى بالبضائع المطلوبة لألمانيا في الغرب. وفي إثر اغتيال موين ، أصدر تشرشل تحذيرا حاد اللهجة للمنظمة الصهيونية ولقيادة الاستيطان في فلسطين ، أسفر عن تراجع بعض المنظمات الصهيونية عن نشاطها ضد سلطات الانتداب في فلسطين ، لكنه لم يثن الإرغون ، بقيادة إلياهو لانكين ومناحم بيغن ، عن الاستمرار في العمليات الإرهابية.

لكن روزفلت لم يعش ليستكمل خديعته ، فتركها لخلفه ترومان لإنجازها ، فقد توفي بعد أسبوع واحد من تأكيده عهده لابن سعود في رسالة تتعلق بمستقبل فلسطين ، جاء فيها : «يسعدني أن أجدّد لجلالتكم التطمينات التي أعطيت لكم حول موقف حكومتي ، وكذلك موقفي الخاص ، بصفتي الرئيس التنفيذي ، بشأن قضية فلسطين ، وأعلمكم أن سياسة حكومتي في هذا الصدد لم تتغير.» (٢) وفي الواقع ، فإن فترة رئاسة روزفلت الطويلة شهدت تصاعدا كبيرا للنشاط الصهيوني على الساحة الأميركية ، كتعبير واضح عن احتضان الولايات المتحدة للمشروع الصهيوني ، جملة وتفصيلا ، وبروزها كالبلد الأم له ، في مرحلة دخولها القويّ إلى ساحة الشرق الأوسط ، واستعدادها لانتزاع الموقع الإمبريالي الأول فيها ، وبالتالي توجيه صوغ المشروع الصهيوني بما يخدم مصالحها في المنطقة. وإذ تضافرت للعمل الصهيوني على الساحة الأميركية عوامل متعددة للنجاح ، فإن العامل الأساسي لصوغ العلاقة بين المشروع الصهيوني والإمبريالية الأميركية ، يبقى استعداد الحركة الصهيونية العالمية ، وإثباتها ذلك عمليا ، لوضع مشروعها في خدمة المصالح الأميركية ، وجعله مركزا إقليميا مضادا لحركة التحرر العربية ، التي بطبيعة أهدافها ، والشعارات التي رفعتها ، تتناقض مع تلك المصالح ، كما عبرت عنها سياسة «الصفقة الجديدة» للرئيس روزفلت.

في مقابل النقلة النوعية للمشروع الصهيوني ، التي جرى التعبير عنها بربطه بعجلة القوة الصاعدة عالميا ، بما في ذلك بالشرق الأوسط ـ الولايات المتحدة ـ وما

__________________

(٥٥) Ibid.,pp.٨٥٣ ـ ٩٥٣.

(٥٦) Ibid.,p.٠٧٣.

٤٩٠

نجم عن ذلك من تطوير ذاتي لذلك المشروع ، حدث تراجع في العمل الوطني الفلسطيني ، ذاتيا وموضوعيا. لقد أصبح هذا العمل جزءا من الوضع العربي العام ، الذي انحاز إلى القوة الهابطة جرّاء الحرب ، عالميا وإقليميا ـ بريطانيا. فما عدا «ثورة رشيد عالي الكيلاني» (١٩٤٠ ـ ١٩٤١ م) في العراق ، التي انحازت إلى دول المحور ، وانضم إليها بعض القادة الفلسطينيين ، كانت الحكومات العربية تقف إلى جانب الحلفاء ، عبر الارتباط ببريطانيا ، بغض النظر عن مزاج شعوبها. لكن بريطانيا ، التي سعت ولو شكليا لاسترضاء العرب ، وجدت نفسها واقعة تحت ضغط أميركي ـ صهيوني ، بينما هي في حالة حرب صعبة مع ألمانيا ، لم تكن لها فيها اليد العليا في البداية ، إذ كان الاتحاد السوفياتي لا يزال حليفا لألمانيا ، وأميركا لم تدخل الحرب رسميا. وكان طبيعيا أن يعكس المأزق البريطاني نفسه على الوضع العربي ، الذي وجد نفسه أمام خيار أهون الشرّين ، أخذا في الاعتبار الواقع الذي يعيشه ، بينما فتح أمام المنظمة الصهيونية خيار أولى الحسنين ، فلم تتردد في انتهاز الفرصة.

لقد استغلت المنظمة الصهيونية مأزق العلاقات بين الحلفاء في أثناء الحرب لدفع مشروعها نحو غاياته ، وفي المقابل ، استغلت بريطانيا المأزق الذاتي العربي لتمرير مناوراتها الرامية إلى إخضاع العرب لإملاءات استراتيجيتها العسكرية في الحرب. وكما فعلت حكومة لويد جورج في الحرب العالمية الأولى ، فعلت حكومة تشرشل في الثانية ، بتمرير الخديعة على العرب. لكن تشرشل ، الذي لم يأل جهدا في خدمة الصهيونية ، لم يفلح في احتوائها ، وبالتالي الحؤول دون انتقالها إلى الحاضنة الأميركية ، فخسر صداقة العرب ، ولم يكسب رضى الصهيونية. وإذ خرجت بريطانيا من الحرب الثانية في المعسكر المنتصر ، لكن موقعها فيه ضعف كثيرا عما كان عليه في الحرب الأولى. ففي الأولى كانت بريطانيا قوة مهيمنة ، واستطاعت بعدها أن تكبح جماح أميركا ، وتستخف بها ، كما حدث في أثناء تشكيل عصبة الأمم ، أمّا في الثانية فقد انقلبت الآية تماما. وبغض النظر عن النوايا البريطانية إزاء العرب ، فإنها بعد الحرب الثانية لم تكن في موقع يتيح لها فرض إرادتها. لقد فقدت موقعها ، عالميا وإقليميا ، لمصلحة الولايات المتحدة. واستغلت الصهيونية هذا الانقلاب ، وهجرت بريطانيا وتعلقت بأهداب أميركا ، بينما كان على العرب ، حلفاء بريطانيا ، أن يعيدوا ترتيب أوراقهم ، بما ينسجم مع الوضع الجديد ، الذي كان للصهيونية فيه موقع متقدم عليهم.

٤٩١

أ) المشروع الصهيوني

في الحاضنة الأميركية

لقد أصدرت الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض (١٩٣٩ م) بغض النظر عن رأي العرب واليهود فيه ، على حد قولها. ولكن بعد إقراره في مجلسي العموم واللوردات ، وأصبح ملزما لها سياسيا ، تخلت تلك الحكومة عن متابعة تنفيذ بنوده بجدية ، في ضوء اندلاع الحرب العالمية الثانية. وتحديا للسياسة البريطانية ، التي حاولت وضع بعض القيود على الهجرة اليهودية ، عمدت المنظمة الصهيونية إلى تنشيط الهجرة غير الشرعية ، على الرغم من أنها لم تستنفد التصاريح المحددة لها قانونيا. فتصدت السلطات البريطانية للبواخر التي تنقل المهاجرين ، واحتجزتها بهدف ترحيل من على ظهرها إلى أماكن خارج فلسطين. فقام الموساد بإغراق سفينة قبالة شاطىء حيفا بمن عليها ، احتجاجا على السياسة البريطانية ، وإثارة للرأي العام العالمي ضدها. وأغرقت كذلك سفينة أخرى في البحر الأسود ، بعد أن أعادتها السلطات التركية من ميناء إستنبول. وقد واكبت هذه الإجراءات البريطانية حملة من الأعمال الإرهابية ضد مراكز الحكومة في فلسطين ، قامت بها عصابة شتيرن ، التي قتل رئيسها في مطلع سنة ١٩٤٢ م.

وكان تشرشل ، بعد توليه رئاسة الحكومة (أيار / مايو ١٩٤٠ م) ، اقترح إلغاء الكتاب الأبيض ، فرفضت حكومته الائتلافية ذلك ، ولم يتراجع هو عن اقتراحه. ومع ذلك ، وافقت تلك الحكومة على تشكيل لواء يهودي بصورة نهائية ، ووصل عدد أفراده إلى ٠٠٠ ، ١٦ في سنة ١٩٤١ م. لكن ذلك لم يرض التطلعات الصهيونية ، فاتخذت قرارا ببناء «الجيش اليهودي» في مؤتمر بلتمور ، الذي تمتعت قراراته بتأييد الإدارة الأميركية. وقد جاء في القرار : «يجب الاعتراف بحق اليهود في أداء قسطهم الكامل للمجهود الحربي وفي الدفاع عن بلادهم بواسطة قوة عسكرية يهودية تقاتل تحت رايتها الخاصة وبأمر القيادة العليا للأمم المتحدة وذلك من خلال الكفاح ضد قوى العدوان والطغيان التي أصبحت الآن تهدد الوطن القومي اليهودي ، والتي كان اليهود في طليعة ضحاياها.» (١)

وفي النصف الثاني من سنة ١٩٤٢ م ، وبينما القوات الألمانية العاملة في شمال إفريقيا تتقدم نحو الحدود المصرية وتهدد الشرق الأوسط بمجمله ، قررت القيادة

__________________

(٥٧) «القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني» ، مصدر سبق ذكره ، ص ٩٢.

٤٩٢

البريطانية تدريب وحدات من الهاغاناه وتسليحها للقيام بأعمال التخريب وراء الخطوط الألمانية ، إذا جرى احتلال فلسطين ، وإدارة شبكة إرسال للمحافظة على الاتصال مع قوات الحلفاء في أثناء الاحتلال المفترض. وقررت الوكالة اليهودية وضع جهاز استخباراتها في البلاد العربية في خدمة الجيش البريطاني ، وتزويده ببعض مجموعات الاستطلاع في أثناء الحملة على سورية ولبنان ، ضد القوات الفرنسية الموالية لحكومة «فيشي» ، التي استسلمت لألمانيا وتعاونت معها. وفي تلك الفترة ، ضاعفت المنظمة الصهيونية جهودها لتجنيد المتطوعين للخدمة في الجيش المزمع إنشاؤه ، وقامت بحملة واسعة لهذا الغرض في فلسطين وبريطانيا والولايات المتحدة وبلدان أوروبية أخرى ، مطالبة بتشكيل جيش يهودي ينخرط فيه اللاجئون من الدول الأوروبية. وعلى الرغم من معارضة حكومة الانتداب ، وكذلك المندوب السامي في القاهرة ، تخطى تشرشل ذلك ، واتخذ قرارا بتشكيل ذلك الجيش في آب / أغسطس ١٩٤٤ م ، أي والحرب توشك على نهايتها. وبذلك تشكلت الألوية العسكرية اليهودية التي أدّت الدور المركزي في احتلال فلسطين سنة ١٩٤٨. وقد تمّ ذلك بالاتفاق بين تشرشل وروزفلت ، إعدادا للإعلان عن قيام الكيان الصهيوني في الوقت الملائم ، وتأهيله لحسم المعركة مع الشعب الفلسطيني عسكريا.

وما عدا ثورة رشيد عالي الكيلاني ، لم يحدث ما يقلق بريطانيا في البلاد العربية في أثناء الحرب. فلقد همدت الثورة الفلسطينية ، والتفت الناس إلى أوضاعهم الاقتصادية ، بعد الخسائر التي لحقت بهم في أعوام الثورة ، بينما ظلت القيادة السياسية في الخارج ، والأحكام العسكرية تكبح كل نشاط سياسي في الداخل ، فساد وضع من الترقب بانتظار نهاية الحرب ونتائجها. وانتقل الحاج أمين وأعوانه المقربون من لبنان إلى العراق ، ووقفوا إلى جانب ثورة الكيلاني ، رغبة في استغلال وضع بريطانيا الصعب لانتزاع ضمانات لإنقاذ فلسطين من الصهيونية. لكن بريطانيا أرادت ضمان ولاء العرب من دون شروط ، وحشدهم تحت كنفها عبر استغلال التناقضات بين حكامهم. وأحبط تشرشل المساعي للتوصل إلى تفاهم مع القيادة الفلسطينية ورشيد عالي الكيلاني ، اقتناعا منه بإمكان سحب الحاميات البريطانية من فلسطين ، إذا ما جرى تأهيل قوات يهودية هناك للدفاع عنها في حال غزو ألماني محتمل. وبناء عليه ، تقرر سحق ثورة الكيلاني بالقوة ، وقامت بذلك وحدات بريطانية ، تساندها قوات حدود شرق الأردن ، بقيادة غلوب باشا (سير جون باغوت غلوب) ، وعناصر من المنظمات الصهيونية ، بينهم أحد قادة الإرغون (دافيد رزيئيل) ، الذي قتل في الهجوم على مطار الحبانية.

٤٩٣

ولاستيعاب حالة التململ العربية ، عمدت بريطانيا إلى طرح فكرة الجامعة العربية. والتقطت الحكومة المصرية الفكرة ، وأجرت اتصالات ومشاورات ، انتهت إلى وضع بروتوكول الإسكندرية ، الذي وقعته حكومات مصر والعراق والسعودية ولبنان وشرق الأردن في ٧ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٤ م. ثم وضع ميثاق جامعة الدول العربية ، الذي وقع في ١٢ آذار / مارس ١٩٤٥ م. ولم تكن فلسطين عضوا في الجامعة العربية ، لكنها لم تغب عنها كقضية ، إذ ورد في بروتوكول الإسكندرية : «ترى اللجنة أن فلسطين ركن مهم من أركان البلاد العربية ، وأن حقوق العرب لا يمكن أن تمسّ من غير إضرار بالسلم والاستقرار بالعالم العربي ، كما ترى اللجنة أن التعهدات التي ارتبطت فيها الدولة البريطانية ، والتي تقضي بوقف الهجرة اليهودية والمحافظة على الأراضي العربية ، والوصول إلى استقلال فلسطين ، هي من حقوق العرب الثابتة ، والتي تكون المبادرة إلى تنفيذها خطوة نحو الهدف المطلوب في استتباب السلم وتحقيق الاستقرار.»

وفي ميثاق جامعة الدول العربية ، عولجت قضية فلسطين في ملحق خاص ، جاء فيه : «ترى الدول الموقعة على ميثاق الجامعة العربية أنه نظرا إلى ظروف فلسطين الخاصة ، وإلى أن يتمتع هذا القطر بممارسة استقلاله فعلا ، يتولى مجلس الجامعة أمر اختيار مندوب عربي من فلسطين للاشتراك في أعماله.» ويتضح من هذا الملحق التهرب من مواجهة الواقع المتشكل في فلسطين ، إذ تحاشى اتخاذ موقف صريح من المشروع الصهيوني ، واكتفى بالنيابة عن الشعب الفلسطيني في توكيل مجلس الجامعة بتعيين مندوب عن ذلك الشعب لدى الجامعة ، فاختير موسى العلمي ، بموافقة الأحزاب الفلسطينية. لقد وضع ميثاق الجامعة العربية قضية فلسطين في إطارها القومي الصحيح ، بجعلها قضية عربية ، ولكن في ملحق خاص ، كمؤشر إلى تدني أهميتها في سلم أولويات الدول التي تقاطعت مصالحها على تشكيل تلك الجامعة في حينه. وقد ظلت قضية فلسطين على جدول أعمال الجامعة العربية منذ تأسيسها ، ولكن من دون إجماع على معالجتها بصورة تتوازى مع إلحاحيتها. وأصبحت الجامعة هي الناطق باسم القضية الفلسطينية ، من دون امتلاك أداة ذاتية لتنفيذ القرارات بشأنها ، وترك الأمر للدول العربية ، التي كانت مشغولة بقضاياها الخاصة بعد الحرب.

وفي ٨ أيار / مايو ١٩٤٥ م ، وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها باستسلام ألمانيا من دون شروط ، ولم يكن مرّ على هاري ترومان أكثر من شهر في البيت الأبيض ، كرئيس للولايات المتحدة. وفي ٢٢ أيار / مايو ١٩٤٥ م ، تقدمت الوكالة اليهودية بطلب إلى الحكومة البريطانية للموافقة على برنامج بلتمور ، وإصدار بيان

٤٩٤

يتضمن ما يلي : ١) الإعلان الفوري عن تأسيس دولة يهودية في فلسطين «كاملة وغير منقوصة» ؛ ٢) إيلاء مسألة الهجرة اليهودية إلى فلسطين للوكالة اليهودية ؛ ٣) الحصول على قرض دولي لتمويل هجرة المليون الأول من المهاجرين اليهود ؛ ٤) دفع تعويضات ألمانية إلى «الشعب اليهودي» ، من أجل إعمار فلسطين ، ومصادرة جميع الأملاك الألمانية فيها لمصلحة الاستيطان الصهيوني ؛ ٥) توفير المرافق الدولية المجانية لخروج اليهود الراغبين في الهجرة الى فلسطين ، وعبورهم في البلدان المعنية في الطريق إليها. وردت الحكومة البريطانية على الطلب أن المسألة يجب أن تبحث في مؤتمر السلام بمشاركة الدول العظمى ، الأمر الذي اعتبرته المنظمة الصهيونية دعوة إلى المشاركة في المؤتمر ، أسوة بما حدث بعد الحرب الأولى. (١)

ولأن الحرب قد انتهت ، ولم يعد الرفض العربي للمشروع الصهيوني يتمتع بالأهمية نفسها ، فقد أصبح بإمكان حكومتي بريطانيا والولايات المتحدة الإفصاح أكثر فأكثر عن انحيازهما إليه. وبينما كانت حكومة تشرشل قد نفضت أيديها من الكتاب الأبيض (١٩٣٩ م) تماما ، كان في البيت الأبيض الأميركي أحد أهم الركائز الصهيونية على الإطلاق ، هاري ترومان. وفي الواقع ، فإن ترومان أدّى دورا مركزيا خلال سنوات رئاسته في إقامة الكيان الصهيوني ، وتأمين الاعتراف الدولي بشرعية اغتصابه لفلسطين ، وطرد سكانها منها. ففي عهد ترومان جرى الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني ، وتعهدت الولايات المتحدة تأمين الغطاء السياسي له والاعتراف الدولي به. وكذلك أرسيت قواعد «العلاقة المميزة» بين ذلك الكيان والولايات المتحدة ، التي أصبحت تشكل حجر الزاوية في أمنه على المستوى الاستراتيجي الأعلى ، أي المتعلق بمبرر قيامه واستمرار وجوده. وقد تمّ ذلك على حساب علاقة المشروع الصهيوني مع بريطانيا ، التي احتضنته في مراحل التأسيس ، أمّا بعد الحرب العالمية الثانية ، فقد وجدت نفسها في ظروف ذاتية وموضوعية ، اضطرتها إلى التخلي عن ذلك الدور لمصلحة الولايات المتحدة.

لقد عرف ترومان بارتباطه الوثيق بالأوساط الصهيونية على الساحة الأميركية منذ بداية حياته السياسية. وفي مجلس الشيوخ كان حليفا لعضويه ، واغنر وتافت ، اللذين تصدرا مجموعة الضغط الصهيوني في الكونغرس ، وهما يمثلان ولاية نيويورك ، حيث التأثير الصهيوني القوي. وفي أثناء توليه منصب نائب الرئيس ، كان داعية متحمسا لدعم المطالب الصهيونية ، داخل الإدارة الأميركية وخارجها. وفي فترة رئاسته ،

__________________

(٥٨) John Hadawi ,op.cit.,Vol.II ,pp.١ ـ ٢.

٤٩٥

وبموازاة النشاط الصهيوني داخل الإدارة الأميركية ، كان البيت الأبيض رأس الحربة لتجنيد الكونغرس في دعم الأهداف الصهيونية. وقد تمحورت تلك الأهداف في حينه حول فتح أبواب فلسطين لهجرة اليهود الواسعة ، وتأمين تبني الولايات المتحدة للمشروع الصهيوني فيها ، والحصول على اعتراف الدول الكبرى به ، عضوا في هيئة الأمم التي كانت قيد الإنشاء. وطوال سنوات رئاسته ، ظل ترومان يصارع من دون هوادة لتثبيت أركان ذلك المشروع ، كما في الولايات المتحدة ، كذلك على الصعيد الدولي ، وتقديم الدعم المادي له لتعزيز وجوده في فلسطين.

وكان مؤتمر بوتسدام (١٧ تموز / يوليو ـ ٣ آب / أغسطس ١٩٤٥ م) مناسبة جيدة للمنظمة الصهيونية لممارسة الضغط على حكومة بريطانيا ، عبر ترومان ، للاستجابة للطلبات التي تقدمت بها إليها. وفي أثناء انعقاد المؤتمر هزم تشرشل في الانتخابات ، فغادر بوتسدام ، وحل محله رئيس حكومة جديد ، أتلي ومعه وزير خارجية جديد ، بيفن بديلا من إيدن. وكان ترومان ، لدى سفره للقاء تشرشل وستالين ، تلقى عريضة موقعه من ٣٧ حاكم ولاية أميركية ، تدعوه إلى طرح مسألة تكثيف الاستيطان الصهيوني في فلسطين مع رؤساء الدول المشاركين في مؤتمر بوتسدام. غير أنه لم يتم الاتفاق بهذا الشأن بسبب موقف بيفن ، الذي أصبح عقبة في وجه المطالب الصهيونية ، بعد أن كان من أنصارها في السابق ، وكان ترومان يعول على تعاطف تشرشل مع الصهيونية ، وقد كتب له في أثناء المؤتمر مذكرة ، جاء فيها : «إن معرفتي بتعاطفك العميق مع الاستيطان الصهيوني في فلسطين ، تشجعني على الإعراب عن الأمل أن تجد حكومة بريطانيا من الممكن ، ومن دون تأخير ، رفع القيود التي يتضمنها الكتاب الأبيض بشأن هجرة اليهود إلى فلسطين.» (١)

لكن تشرشل أخلى مكانه لأتلي ، الذي أجاب على المذكرة بقوله : «إنكم لتفهمون بالتأكيد إني لا أستطيع أن أدلي بأي بيان عن السياسة حتى يتوفر لنا الوقت للنظر في الموضوع. وأردت فقط أن أحيطكم علما بأننا سنولي مذكرتكم العناية والاعتبار المبكر.» وجاء ردّ أتلي بينما المعارضة العربية للمطالب الصهيونية تتصاعد. وحتى تشرشل أدلى بتصريحات مفادها أنه يجب ألّا تتحمل بريطانيا وحدها المسؤولية عن النتائج الناجمة عن إنشاء «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين. وكذلك ردّ بيفن أن المطالب الصهيونية تستلزم تجنيد نصف مليون جندي لفرضها بالقوة. وكانت قضية فلسطين موضع بحث ووجهات نظر في لندن بعد انتهاء الحرب ، وذلك في سياق

__________________

(٥٩) Ibid.,p.٩.

٤٩٦

ترتيبات ما بعد الحرب ، وفي ضوء نتائجها ، وبالتالي السياسة الاستعمارية بمجملها ، الأمر الذي راحت أميركا تعد نفسها لاستغلاله لمصلحتها. ولدى عودته من بوتسدام ، أصدر ترومان بيانا للصحافة ، جاء فيه : «إن وجهة النظر الأميركية بشأن فلسطين هي أننا نريد إدخال أكبر عدد ممكن من اليهود إليها. وبعد ذلك ستعالج بالطرق الدبلوماسية مع الإنكليز والعرب. وليست لديّ الرغبة في إرسال نصف مليون جندي أميركي للمحافظة على السلام في فلسطين.» (١)

وأرسلت إدارة ترومان ، عندما بدأت قوات الحلفاء تأهيل الأسرى وتوطينهم في أوروبا ، لجنة للتحقيق في أوضاع اليهود هناك. فعادت إلى واشنطن وقدمت تقريرا يؤكد رغبة يهود ألمانيا القوية في مغادرتها إلى فلسطين فورا. وادعى التقرير أن هناك نحو ٠٠٠ ، ١٠٠ يهودي في معسكرات الاعتقال الألمانية ، يريدون التوجه إلى فلسطين. وكتب ترومان إلى قائد القوات الأميركية في أوروبا ، الجنرال أيزنهاور بإيلاء المهجرين اليهود عنايته الخاصة ، مؤكدا له أنه على اتصال مع حكومة بريطانيا لفتح أبواب فلسطين أمام هجرتهم واستيعابهم. وفي الواقع ، بدأت السلطات البريطانية ، منذ نهاية سنة ١٩٤٥ تسمح بهجرة اليهود إلى فلسطين ، متجاهلة الكتاب الأبيض ، تحت ضغط إدارة ترومان ، الذي تواصل بوتيرة متصاعدة.

وعلى الرغم من نصائح وزارة الخارجية الأميركية بالتروي ، فإن ترومان أوغل في تأييده للمطالب الصهيونية ، والإلحاح على حكومة لندن ، وصولا إلى حد التهديد الصريح. وجاء ذلك على لسان رئيس بلدية نيويورك ، الذي خاطب حشدا صهيونيا ، وموجها كلامه إلى السفير البريطاني ، اللورد هاليفاكس ، الذي راح يتبرم بالضغط الذي يتعرض له ، فقال : «إذا كانت بريطانيا تريد أرصدة مالية ، فالسبيل الأفضل إليها أن يبرّ المستدين بوعده.» (٢) وسرعان ما تحول التنديد إلى موجة تهديد لبريطانيا وسمعتها ومستقبلها الاقتصادي. وكانت بريطانيا قد خرجت لتوها من الحرب ، منهكة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وجاء الضغط الأميركي ليدفعها إلى البحث عن مخرج لها من المأزق الفلسطيني ، الذي أصبح يشكل إحراجا لها.

وبينما ضغوط واشنطن تشتد على حكومة لندن ، صعدت المنظمات الصهيونية عملياتها الإرهابية في فلسطين. وحاولت حكومة أتلي الصمود ، حرصا منها على حماية مصالحها في المنطقة ، لكنها كانت قد ضعفت كثيرا جرّاء الحرب. وكان التعبير

__________________

(٦٠) Ibid.

(٦١) Ibid.,p.٠١.

٤٩٧

الأول عن رضوخها إلى التحالف الأميركي ـ الصهيوني ، قبولها بتشكيل اللجنة الأنكلو ـ أميركية (١٩ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٤٥ م) لمعالجة المسائل المتعلقة بفلسطين ، الأمر الذي يعني دخول أميركا على هذا الخط شريكا متساويا مع بريطانيا ، كخطوة أولى. وبينما راحت الأخيرة تقترب أكثر فأكثر من العرب لاستغلال رفضهم المشروع الصهيوني ، أوغلت الأولى في تبنيها له ، وجعلت منه قضية رئيسية لها. والسلوك الأميركي بمجمله بعد الحرب يشير بكل وضوح إلى احتضان الولايات المتحدة للمشروع الصهيويني ، واعتماده قاعدة لنفوذها في المنطقة ، وركيزة لمخططاتها المستقبلية تجاه الشرق الأوسط ، متعللة بالضغط الصهيوني على الساحة الأميركية لتغطي أهدافها الإمبريالية ، وبالآثار التي تركتها الحرب على الجاليات اليهودية في أوروبا. وتؤكد الدلائل أن الإدارة الأميركية عملت على عرقلة الحلول التي طرحت لإعادة تأهيل اليهود في موطنهم ، وأصرّت على فتح أبواب فلسطين أمام هجرتهم ، تطابقا مع السياسة الصهيونية.

لقد اصطدمت الحملة الصهيونية ، المدعومة أميركيا ، بموقف حكومة العمال البريطانية ، الذي تصدره وزير الخارجية ، إرنست بيفن ، والذي راحت وزارته تؤدي الدور الرئيسي في قضية فلسطين بدلا من وزارة المستعمرات. وفي هذه الأثناء اتضح التواطؤ الأميركي ـ الصهيوني لإنهاء الانتداب البريطاني ، وتسليم فلسطين للاستيطان ، لجعله ركيزة الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. فما أن باشرت حكومة أتلي مهماتها ، حتى تقدمت الوكالة اليهودية منها بطلب لإصدار ٠٠٠ ، ١٠٠ تصريح هجرة إلى فلسطين ، مع الإعلان الفوري أنها ستصبح دولة يهودية. وردّت وزارة المستعمرات بضرورة استنفاد التصاريح الممنوحة أولا ، وعددها ٢٠٠٠ ، ومن ثمّ ستسعى للحصول على موافقة العرب على معدل ١٥٠٠ تصريح شهريا. لكن الوكالة اليهودية رفضت هذا الرد واعتبرته غير مقبول ، وكذلك كان موقف الإدارة الأميركية.

وإزاء تردد الحكومة العمالية في لندن بالاستجابة للمطالب الصهيونية ـ الأميركية ، ازداد الضغط عليها ، سواء في بريطانيا نفسها ، إذ ارتفعت أصوات تنادي بالتخلي عن الانتداب ، والتخلص من المسؤولية عن نتائجه ، أو في الولايات المتحدة بصور متعددة : سياسية واقتصادية وإعلامية. ومرة أخرى ترافقت هذه الحملة بموجة من تصعيد الأعمال الإرهابية الصهيونية ، وتنشيط الهجرة غير الشرعية. وفي ضوء ذلك ، لجأت الحكومة البريطانية إلى طرح فكرة تشكيل اللجنة الأنكلو ـ أميركية لتقصي الحقائق في فلسطين ، وتقديم التوصيات لحل الإشكالات المتعلقة بهجرة يهود أوروبا إلى فلسطين. لقد ارتأت حكومة أتلي إشراك الولايات

٤٩٨

المتحدة في تحمّل مسؤولية القرارات والإجراءات المتخذة بهذا الشأن.

وجاء الإعلان عن تشكيل اللجنة الأنكلو ـ أميركية في بيان قدمه بيفن في مجلس العموم (١٣ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٤٥ م) ، وعرض فيه سياسة حكومته في فلسطين. ويتضح من خطوة الحكومة هذه ، وغيرها من التصريحات والإجراءات ، أنها أرادت التوصل إلى تفاهم مع الإدارة الأميركية والوكالة اليهودية ، لإيجاد سبل للخروج من المأزق. وبعد بيانه في مجلس العموم ، صرح بيفن في مؤتمر صحافي إلى مراسلين أميركيين أن سياسة حكومته تنطوي على ما يلي : ١) تصبح فلسطين دولة تحت وصاية الأمم المتحدة ، وفي الوقت المناسب تكون لها حكومة ذاتية فلسطينية لا حكومة يهودية ؛ ٢) سوف تحافظ بريطانيا على الحصة الشهرية للهجرة بمعدل ١٥٠٠ ، بعد استنفاد الحصة المحددة في الكتاب الأبيض ؛ ٣) يجري التشاور مع العرب الآن بصدد الهجرة اليهودية ؛ ٤) التمييز بين الدولة اليهودية ، التي لن تتعهد حكومته بإنشائها ، و «الوطن القومي اليهودي» ، الذي يجب تنفيذه ؛ ٥) ضرورة أن يمتنع اليهود من المبالغة في التأكيد على وضعهم العنصري. وناشد بيفن يهود العالم ، خارج المنظمة الصهيونية ، أن يساعدوا في إيجاد حل لمشكلة فلسطين. وأنذر بأن المسألة لا يمكن معالجتها إلّا بالمداولة والتوفيق ، وأن اللجوء إلى القوة سوف يقابل بالحزم. وكان بيفن قد ردّ على كلام لوايزمن فيه تحدّ للحكومة البريطانية بقوله : «ما الذي تعنونه برفض شهادات الهجرة التي نصّ عليها الكتاب الأبيض؟ أتحاولون إرغامي على قبول رأيكم؟ إن أردتم قتالا فليكن.» (١)

وباشرت اللجنة الأنكلو ـ أميركية عملها في واشنطن بتاريخ ٤ كانون الثاني / يناير ١٩٤٦ م ، فاستمعت إلى شهادات من أنصار الصهيونية والقضية العربية. ثمّ انتقلت إلى لندن ، حيث كانت هيئة الأمم تعقد اجتماعاتها ، واستمعت إلى شهادات ممثلي الدول العربية والوكالة اليهودية وبعض الشخصيات المؤيدة لهذا الطرف أو ذاك. وفي ٢٨ شباط / فبراير ١٩٤٦ م ، وصلت إلى القاهرة حيث استمعت إلى الأمين العام للجامعة العربية وغيره من أعضائها. وفي الطريق من لندن إلى القاهرة ، توزع أعضاء اللجنة على الدول الأوروبية للنظر في أحوال اليهود في ألمانيا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وإيطاليا واليونان. ومن القاهرة انتقلت إلى فلسطين ، حيث أمضت الفترة من ٦ إلى ٢٨ آذار / مارس ١٩٤٦ م تستمع إلى شهادات العرب واليهود. ومن فلسطين توزعت على العواصم العربية ـ دمشق وبيروت وبغداد والرياض وعمان. وفي جميع

__________________

(٦٢) «الموسوعة الفلسطينية» ، القسم الثاني ، المجلد الثاني ، مصدر سبق ذكره ، ص ١٠٦٩.

٤٩٩

محطاتها ، سمعت من الجانب العربي رفض المشروع الصهيوني ، وعدم شرعيته ، والتذمر من انحياز الغرب إليه ضد العرب. وفي المقابل ، سمعت من الجانب الصهيوني المطالبة بإقامة «إسرائيل» فورا ، أخذا في الاعتبار التعهد الدولي تجاه الصهيونية ، والالتزام الأخلاقي العالمي تجاه مصير اليهود في أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية.

وقد جاء في توصيات اللجنة الأنكلو ـ أميركية (٢٠ نيسان / أبريل ١٩٤٦ م) ما يلي : ١) السماح حالا ل ٠٠٠ ، ١٠٠ يهودي بالهجرة إلى فلسطين ؛ ٢) أن لا تكون فلسطين دولة عربية أو يهودية ؛ ٣) يقام الحكم الذاتي فيها بضمانات دولية ، ولا تكون الكلمة العليا للأكثرية العددية ؛ ٤) تبقى تحت الانتداب البريطاني إلى أن يتسنى وضعها تحت وصاية الأمم المتحدة ؛ ٥) تلغى جميع القيود المفروضة على انتقال الأراضي. وأشارت اللجنة في تقريرها إلى رغبة العرب في الاستقلال والانضمام إلى الجامعة العربية. كما اعترفت بأن الوكالة اليهودية هي حكومة داخل حكومة الانتداب ، وبأنها تمتلك قوة عسكرية يقدر عددها ب ٠٠٠ ، ٦٠ رجل. وبذلك نسفت اللجنة الكتاب الأبيض (١٩٣٩ م). (١)

والتقطت إدارة ترومان البند المتعلق بهجرة ٠٠٠ ، ١٠٠ يهودي إلى فلسطين ، وأعلنت تأييدها القوي له ، متجاهلة البنود والتوصيات الأخرى. وقد دعا ذلك رئيس حكومة بريطانيا إلى تذكير الرئيس الأميركي ، في أثناء مناقشة الموضوع في مجلس العموم ، أنه ينبغي أخذ التقرير ككل متكامل ، وإلّا استوجب الأمر فرضه بالقوة ، وعندها لا بدّ من توضيح مقدار استعداد الإدارة الأميركية لتحمل مسؤولية ذلك عسكريا واقتصاديا. وردّت المنظمات الصهيونية في أميركا على أقوال أتلي بالتأكيد : «إننا نرغب في طمأنة الشعب الأميركي أنه لا حاجة قط ، ولو لجندي أميركي واحد ، للمحافظة على الأمن في فلسطين ، وأن طلب السيد أتلي إرسال جنود أميركيين ، مثله مثل إصراره على نزع سلاح القوات العبرية ، ليس إلّا ذريعة للمماطلة ... إن الإمبريالي المجرب قد نقل خطوط المناورة بعيدا جدا عن ساحة المعركة الحقيقية.» (٢) في المقابل ، أدان الكثيرون من موظفي حكومة الانتداب تقرير اللجنة الأنكلو ـ أميركية ، واعتبروه صفقة تنازل بريطانية لمصلحة الولايات المتحدة والصهيونية.

لقد تبين للجنة الأنكلو ـ أميركية تعذر التقريب بين مواقف العرب واليهود

__________________

(٦٣) المصدر نفسه ، ص ١٠٧١.

(٦٤) John Hadawi ,op.cit.,Vol.II ,p.٥٦.

٥٠٠